المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 365 - بتاريخ: 01 - 07 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٦٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 365

- بتاريخ: 01 - 07 - 1940

ص: -1

‌العلم أو الأدب؟!

للأستاذ عباس محمود العقاد

جاءني من الأديب (عبد القادر دوير) خطاب يسألني فيه أسئلة متعددة عن رأيي في خسارة العالم بفقد أديسون وماركوني، وخسارته بفقد شكسبير وبرناردشو

وعن رأيي فيما هو الأسبق: (العلم أو الأدب؟!) وهل خلق الإنسان بطبيعته عالماً يتجه فكره إلى تهيئة أسباب معيشته، أو خلق بطبيعته أديباً يميل إلى الشعر والفنون؟

ثم يسألني: (ما رأيكم في كلمة الأستاذ أحمد الصاوي المنشورة في الأهرام يوم 17 يونيو التي يناشد الشباب المصري فيها أن يهجر الأدب والشعر وينصرف إلى العلم والاختراع ليكون رجلاً عملياً عاملاً. وختمها بقوله: (اسكتي إذن يا آلهة الشعر لقد ذهب أوانك وتلاشى سلطانك، واخرجي أيتها الأرض شباباً واقعياً قوياً يفل الحديد بالحديد والنار بالنار لا بالقصائد والأشعار)

وقد قال الأديب: (أرجو - إذا تكرمتم بالرد - أن ينشر بحثكم على صفحات مجلة (الرسالة) الحبيبة إلى قلوبنا كل الحب)

وقد رجعت إلى أعداد (الأهرام) منذ السابع عشر من شهر يونيو، فقرأت فيها حوار الأستاذين الصاوي والحكيم عن الشعر والسلاح، وتتبعت ذلك الحوار إلى أن بلغت به:(مربط حمار الحكيم) و (فيران السفينة)؛ وانتهيت منه وأنا أقول: (الحق على أستاذة الإنشاء منذ نيف وأربعين سنة في الديار المصرية. . . فلولا موضوعات المقابلة بين الصيف والشتاء، وبين الذهب والحديد، وبين العلم والمال، وبين العلم والأدب، لما وقع في الأذهان ذلك الخاطر الذي نعود إليه في مصر فترة بعد فترة لنقضي للعلوم على الفنون، أو للفنون على العلوم، أو لنوحي بهذه دون تلك في تثقيف الأمة وتعليم الشباب

فما معنى هذه المقابلة؟

هل النفس الإنسانية صهريج من المعدن يزيد فيه من العلم بمقدار ما ينقص من الأدب؟ هل العلم والأدب ضرتان تلقي إحداهما من الحظوة والزلفى بمقدار ما تلقي صاحبتها من الهجر والإعراض؟ هل الجمع بين العلم والأدب في الأمة الواحدة مستعصٍ أو مستحيل؟

فإن لم يكن شيء من ذلك كما يحسبه الحسابون، فما معنى هذه المقابلات، وماذا نجني من

ص: 1

الإزراء بالعلوم محاباة للآداب والفنون، أو من الإزراء بالآداب والفنون محاباة للعلوم

ماذا نجني من هذا وذاك ونحن فقراء في هذا وذاك؟

وماذا أصبنا من الفن والأدب حتى يقال إننا قد شغلنا به عن العلم والاختراع؟ بل ماذا عندنا مما اخترعه الآخرون حتى نبحث في اختراع الجديد، ونزعم أننا لولا الفن والأدب لاخترعنا نحن أيضاً مع المخترعين؟

أما إذا أغضينا عن أنفسنا ونظرنا إلى أحوال غيرنا، بل إلى الأحوال التي دعت إلى كتابة ما كتب في تفضيل السلاح على الشعر، أو تفضيل القوة إلى الذوق، فماذا نحن واجدون؟

نجد أمة غلبت بالدبابات والطيارات وهي لم تخترع الدبابات والطيارات، ونجد أمة لها مهندسون غلبت أمة لها كذلك مهندسون لعلهم أفضل من أولئك المهندسين؟

فالمسألة ليست اختراع الدبابة والطيارة، ولا هي مسألة الهندسة والصناعة، ولكنها مسألة (الباعث النفسي) الذي يكمن وراء علم العلماء واختراع المخترعين وهندسة والمهندسين

وهذا (الباعث النفسي) هو الحقد الذي تأجج في صدور الألمان فجعلهم يطلبون من الدبابة ما لم يطلبه منها أصحابها الأولون

فإن كان رأي الأستاذ (أحمد الصاوي) أن يملأ النفوس بالحقد لأنه صنع من الدبابة ما لم يصنعه منها الاطمئنان والرضى فله رأيه الذي يرتضيه بمعزل عن الشعر والفن، أو بمعزل عن المفاضلة بين المهندسين والشعراء

أما إن كان يريد بما كتب شيئاً غير هذا فليس في المقدمات ما يبنى عليه نتيجة غير تلك النتيجة. وليس في انتصار مقاتل على مقاتل من جديد يمسح ما كتبته الإنسانية إلى الآن، ويخط في مكانة سطوراً أخرى لم يكتبها التاريخ

قال الأستاذ أحمد الصاوي: (. . . المهندس هو الذي جلس أمام لوحه الخشبي ورسم على الورق أقصى ما يخطر بالبال من خيال الأهوال: تصور الموت نفسه أمامه وتحداه بالحديد والنار، فرسم الطيارة ورسم الدبابة ورسم الغواصة، ثم عاد فرسم لكل آلة من هذه عناصر دمار جديدة. فلم يكتف بنوع واحد من الطيارات والدبابات)

(. . . هذه هي رسالة المهندس والكيميائي يعملان جنباً إلى جنب. هذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل. فإلى الشباب المصري الذي يريد الأدب ويتعلق بالقصص ويحب الشعر

ص: 2

نقول: استيقظ. لقد دقت ساعة الحقائق، فانصرف إلى العلم بكل قواك. . .)

فهل الهندسة هي التي صنعت هذا الصنيع؟

لو كانت الهندسة هي التي صنعته لكان أولى المهندسين به هم أصحاب الاختراع من الإنجليز والفرنسيين، هم الذين اخترعوا الدبابة وشغلوا بتحسين الطيارة في الوقت الذي أقبل فيه الألمان، على المناطيد من أيام زبلين وخلفاء زبلين

فعند الإنجليز والفرنسيين مهندسون كالمهندسين الذين عند الألمان، بل هم المهندسون السابقون المتفوقون في هذا الميدان

ولكن (البواعث النفسية) هي التي جلست وراء المهندس فأوحت إلى الهندسة في أمة حاقدة ما لم توحه إلى الهندسة في أمة مطمئنة راضية

والبواعث النفسية هي كل شيء

هي الحياة. وكل ما عدا ذلك فهو أدوات وآلات.

والآن وقد ظهرت الدبابات الفخام هل يستطيع قائل أن يقول:

إن قلة الهندسة عند الفرنسيين والإنجليز هي التي أقلت نصيبهم من تلك الدبابات الفخام؟ أو هي التي تمنعهم أن يخترعوا مثلها، أو يخترعوا لها آفة تقضي عليها وتفلها على نحو ما يقولون: إن الحديد يفله الحديد؟

كلا!

ليست قلة الهندسة هي العلة. . . فالهندسة هنا كثير

وإنما العلة (فرصة الوقت) إذا اتسعت أو ضاقت للمخترعين. ولن تكون الهندسة هي الباعث على اغتنام الفرصة المنشودة، وإنما هي البواعث النفسية التي أسلفنا الإشارة إليها، وهي في الحرب والسلم أمضى سلاح

وهل يعلم الأستاذ الصاوي كم من الملايين الثلاثة أو الملايين الأربعة الذين زحفوا على فرنسا من الشباب الألمان يدرسون العلم ويقرءون الهندسة؟ وكم منهم يقرءون القصص والروايات؟

كلهم قراء روايات وقصص كما ظهر من إحصاء الكتب التي كانت ترسل إليهم في الميادين، فإذا طلبوا مع الروايات والقصص كتباً أخرى فذلك هو كتاب هتلر الذي

ص: 3

يفرضونه هناك على جميع الشبان، وليس هو بهندسة ولا بعلم واختراع، ولكنه شيء أقرب إلى الأحاجي والأساطير!

فالهندسة ليست مصدر القوة الألمانية

والأدب لم يكن مصدر ضعفهم يوم انهزموا في الحرب الماضية

لا شأن للهندسة والأدب هنا وهناك، بل الشأن كل الشأن للبواعث النفسية، ثم تكون هندسة القوم أو يكون أدب القوم على حسب تلك البواعث من الحركة أو السكون ومن الخير أو الشر ومن الصلاح أو الفساد

ويح الإنسان. . . كم تروعه الضجة وكم تخلبه قعقعة السلاح!

وماذا لو طبقنا رأي الأستاذ الصاوي على العلم نفسه ولا نقول على الفن والأدب والقصة والرواية؟

يوم أن هزمت فرنسا في حرب السبعين كان اسم بسمارك ومولتكه يدوي في كل زاوية من زوايا الأرض، ويجري على كل لسان في المغرب والمشرق

وكان في زاوية من زوايا فرنسا رجل يدعى لويس باستور يكشف جراثيم الأوبئة وأسرار التعقيم، ويعرض نفسه كل لحظة لهلاك لم يتعرض له بسمارك في العمر الطويل

فما رأي الأستاذ أحمد الصاوي في رجل غاضب مثله متحمس مثله ناصح لبنى الإنسان مثله يدخل على الشيخ باستور فيقول:

قم أيها الشيخ الفارغ ولم قواريرك وأنابيبك؟! الوقت وقت نار وحديد وليس وقت ماء وزجاج!

وأين مع ذلك حرب السبعين كلها بما انطلق فيها من المدافع وانصهر فيها من الحديد إلى جانب تلك الأنبوبة التي لم يسمع بها ساكن الحجرة المجاورة في بيت باستور؟

لكنها الضجة التي تروع الإنسان. ويح الإنسان، ثم ويح الإنسان!

ولو سألنا له جزاءه الحق لسألنا له طوفاناً من الطغيان يغرقه إلى آخر الزمان، ويشبعه ما استطاع الشبع من الحدائد والنيران

ولكنه مخلوق غافل، تشفع له نية مصلح أو نفحة فنان.

وقد نعلم رأي الصاويين جميعاً فيما يقولون الآن، إذ نسيت الحرب القائمة، وبقيت صرخة

ص: 4

من صرخات النفس الإنسانية، لعلها تنظم اليوم في قصيد أو تثبت في لوحة فنان أسوان

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

الصداقة الروحية - الطلبة والجاموس! - ابن الحمير! - معركة في غير ميدان - حمار الحكيم! - الرفيق قبل الطريق - عشنا وشفنا فقد اكتوينا بنار الحوادث في حربين.

الصداقة الروحية

كانت قسوة الشواغل قضت بأن أُحرَم أُنس الحديث مع قراء (الرسالة) نحو شهرين، وهي شواغل متصلة بخدمة اللغة العربية في آفاق لا يسايرُنا فيها القراء لأنها متصلة بحياة التعليم، وهي حياة لا يُنشر من أخبارها شيء إلا بعد أن يستوثق الباحث من أنه وصل فيها إلى آراء تستحق التسجيل بطريقة علنية، وذلك لا يتيسر إلا بالجهاد العنيف في الأعوام الطوال، كالذي تَيسَّر في الأبحاث التعليمية التي نشرتها في الجزء الثالث من كتاب (ليلى المريضة في العراق) وفي كتاب (البدائع) وكتاب (وحي بغداد)

وأنا بهذا الكلام أعتذر عما قيل من أنني جَنَحتُ إلى الراحة في الأسابيع الماضية، فما كان من ذلك شيء، وإنما حرصتُ على تأدية واجباتي الرسمية تأدية ترفع عن صدري كرب الغيظ من أن يكون في الزملاء مَن هو أحرص مني على تأدية الواجب، فقد قلت مرة على صفحات (الرسالة) إن في وزارة المعارف رجالاً يجري في خواطرهم أنهم ليسوا موظفين، وإنما يدبِّرون ملكهم الخاصّ، وأنا من هؤلاء مكروبٌ مَغيظ، ومع ذلك أتمنى أن يُكثر الله من أمثالهم في الدولة المصرية. والفُرص أمامي لأسبقهم في ميادين الكفاح الصادق حين أشاء

انتهى العام الدراسي بخير، ولم تبق إلا أعمال خفيفة لا تستنفذ الوقت، فما عسى أن أصنع؟

هل أذهب لقضاء الصيف في باريس؟

وكيف وقد انقطع بيني وبينها الطريق؟

هل أمضي لقضاء الصيف في الإسكندرية؟

وكيف وقد انفضت الملاعب حول الشواطئ، وضاعت الفرصة على مواعظ الشيخ أبي العيون؟ وما أسخفَ الحياةَ التي تستقيم استقامة مُطْلقة فلا يثور عليها واعظ، ولا يتطاول في تثريبها عاذل، ولا يَشقَى في تَعقُّبها رقيب!

ص: 6

هل أذهب لقضاء الصيف في سنتريس؟

وكيف وهي تضيق عني، وأخشى أن أكدر صفو أهلها بأحاديثي عن معضلات الحياة الدولية؟ وهل تتسع الحياة في الريف لرجل يريد أن يشهد أعنف قَلقلة من قلقلات التاريخ؟

لم يَبق إلا المقام في القاهرة فأقضي صدر النهار في الاستفادة من خِبرة من ألقاهم في وزارة المعارف، ثم أقضي بقايا الوقت في تحبير الكلمات التي ألقى بها القراء من يوم إلى يوم، أو من أسبوع إلى أسبوع، في الجرائد والمجلات

والحقُّ أننا من الفِكْر في كرب، فالحوادث التي نعانيها في هذه الأيام لا تكفي لتغذية مطامعنا الفكرية، فنحن نفزع إلى الأدب لنملأ به فراغ الأرواح والقلوب والأذواق، ومن هنا تفهمون كيف اتفق في أحيان كثيرة أن تقام الحفلات لذكريات الأدباء والمفكرين في ميادين القتال

لا سبيل إلى تخفيف مكاره هذه الأيام (البيض) إلا بالأنس إلى الصداقة الروحية، الصداقة التي يعقدها الأدب بين الكاتب والقارئ، وهي أثمن ذخائر الوجود

وفي ظلال هذا الأمل الجميل أقضي هَجِير هذا الصيف، فأحادث قرائي، وقد رفع بيني وبينهم التكليف، فقد ضقت ذرعاً بما في الدنيا من قيود، واشتقت إلى تنسم هواء الحرية بين صرير القلم وزئير الروح

الطلبة والجاموس!

كنت نشرت مقالاً في المقطم موضوعه (التصوف في الوطنية) سردت فيه بعض الأسباب التي أحب من أجلها وطني، ومن تلك الأسباب أن أرض مصر تصلح للزراعة أربع مرات في العام الواحد، فكتب إليّ حضرة (م. ع. ف) خطاباً يُنكر فيه أن تكون مصر كما وَصَفتُ، ويؤكِّد أن أهل مصر لا يعرفون غير سوء الحال، وأن في مصر آلافاً من الأعيان حُكِم عليهم بالسجن لعجزهم عن سداد المال (؟!) والظاهر في خطاب هذا السيد أنه يتعقب أعمال الحكومة، فقد ذكر أشياء تشهد بأنه يُساير خطوات الحكومة في جميع الميادين، ويتناولها بالثناء والملام على حسب الظروف!

وأقول بصراحة إن الأمة التي تنتظر من الحكومة كل شيء وتطالبها بكل شيء هي أمة في دَوْر الطفولة، والطفل يعتقد أن أباه على كل شيء قدير! وأقول أيضاً إنه ليس من المعقول

ص: 7

أن يكون في مصر آلاف من الأعيان حكم عليهم بالسجن للعجز عن سداد الضرائب. وإذا صح ذلك فهو شاهد على أن الأعيان في مصر لا يصلحون لتدبير ما يملكون من الأموال والأطيان

وهذا السيد له منزلة في الصعيد، ولم أصرح باسمه إلا خوفاً عليه من النقد الذي سأسوقه إليه بلا ترفق. فهو يرى من الإسراف أن يكون في الميزانية مال مرصود لجسر شبرا وجسر سمنود، وهو ينكر أن يكون للأوبرا وحمام السباحة في أسيوط نصيب من أموال الميزانية، وهو في النهاية يَعجب من أن تنفق الدولة ثلاثين ألفاً من الجنيهات لتحسين نسل الجاموس مع أن في طلبة الجامعة من عجز عن دفع المصروفات!

تحسين نسل الجاموس؟

يا سلام! يا سلام؟

كيف يليق بحكومة رشيدة أن تفكر في تحسين نسل الجاموس مع أنها تعرف أن بعض طلبة الجامعة عجزوا عن دفع المصروفات الدراسية؟!

ذلك منطق هذا السيد الذي يَشغل مكاناً مرموقاً في الصعيد!

وعُذر هذا السيد أنه قرأ في مجلة (آخر ساعة) كلمة جَرَت مجرى الدعابة، فظنَّ أن من العيب أن يهتم وزير الزراعة بتحسين نسل الجاموس، وهو جاموس!

هو حقيقة جاموس يرعَى البَرسيم ويأكل الفول ويشطح وينطح بلا فهم ولا تمييز، ولكن هذا الجاموس الأعجم هو من صميم الثروة المصرية، والاهتمام به لا يقلَّ خطراً عن الاهتمام بالقطن والقمح والعنب والتين والبطيخ

فكيف يجوز لرجل أن يعدَّ الاهتمام بتحسين نسل الجاموس عيباً من عيوب الحكومة، إلا أن يكون هذا الرجل من الصالحين للسجن بسبب العجز عن تسديد الضرائب؟

المَقتَل الخطير لأهل مصر هو الغرام بالنكتة، ومن هنا جاز أن ينتهزوا الفرصة فيعيبوا على حكومتهم أن تهتم بتحسين نسل الجاموس

ويقول هذا السيد إن اشتغالي بالأدب صرفني عن مواجهة الواقع. وأقول إنه لو اشتغل بالأدب كما اشتغلتُ لقرأ في كتاب البيان والتبيين كلاماً معناه أن أحد العرب قال: لو كان لي ألف بعير فيها بعيرٌ واحد أجرب لقمتُ عليه قيام من لا يملك غيره!

ص: 8

ومعنى ذلك أن الاهتمام بالبهائم والأنعام لا يغضَّ من أقدار الرجال، وإنما هو دليل على العناية بأصول الاقتصاد

أيها الغافلون من أهل هذه البلاد

راجعوا وزارة الصناعة والتجارة تخبركم عما نستهلك في كل عام من الواردات المصنوعة من الألبان، وعندئذ تعرفون أنه ليس من العيب أن نهتم بتحسين نسل الجاموس

اللهم ارزقني جاموسة أو جاموستين لأنسى مرارة الإفطار على الشاي الأسود في كل صباح

وأنت أيها الجاموس

هل تحفظ هذا الجميل فتذكر أني دافعت عنك في مجلة الرسالة الغراء؟

لقد ضاع الجميل عند الحيوان الناطق، فهل تحفظه أنت يا جاموس!

وكيف نطالبك بحفظ الجميل، وما حفظنا لك الجميل؟

كانت فِطرة العربيّ في الصحراء ألطف وأصدق، فقد نظم في ناقته أعظم القصائد، أما المصريّ فقد ظلم جاموسته أقبح الظلم ولم يذكرها بغير السخرية والاستهزاء

فهل تكون للبداوة تلك المحاسن وتكون للحضارة هذه العيوب؟

كان الفراعنة أعرفَ الناس بأصول المنافع فعدُّوا البقرة من المعبودات لأنهم رأوها من صُوَر الحنان ولأنهم عرفوا ما يصدُر عنها من الخيرات

والجاموسة أغزر نفعاً من البقرة، ومع ذلك صح لأدبائنا أن يَسخروا من الوزير الذي اهتم بصحتها الغالية!

ولكن لا بأس فنحن في زمن تَغلِب فيه السخرية من المنافع، وهو زمنٌ مقلوب الأوضاع، ولولا ذلك لرُسِمت الجاموسة بجانب الفلاح على ورق (البنكنوت)

لبن الحمير!

ومن جناية النكتة على أهل مصر نُفرتهم من شرب لبن الحمير، مع أنه بشهادة الطب أطيب أنواع الألبان، وهو في أمان من الجراثيم التي يتعرض لها لبن البقر والجاموس

ومن المؤكد أن هذه الكلمة ستفوز بطوائف، من النكت حين تظهر في مجلة الرسالة، كما ظفرت الكلمة التي نشرتُها عن فضائل الحمير في كتاب (ذكريات باريس)

ص: 9

والمهمُّ عندي أن يعرف المصريون خيرات بلادهم، وأن يذكروا أن الحمير كانت ولا تزال من أطايب الثروة المصرية، وإليها يرجع الفضل في خدمة الفلاّح الذي يذرفون من أجله دموع التماسيح!

وقد ورد التنويه بالحمار المصري في كتاب الأغاني، وهو أصبر من الحمار الحَسَاوي، المنسوب إلى الحَسَا من بلاد البحرين، وهذه فائدة قد يذكرها بعض من يحفظون الجميل

ولا مؤاخذة يا أرباب الذوق المصقول من أعداء الحيوان!

معركة في غير ميدان

دهش الناس للمعركة الحامية التي ثارت فوق صفحات (الأهرام) بين الصديقين أحمد الصاوي وتوفيق الحكيم حول الفكر والحرب، وقد وقعت في تلك المعركة ألفاظ غلاظ لا يصوِّبها صديق إلى صديق

وخلاصة رأي الصاوي أن زمن الشِّعر قد ولّى وفات ولم تبق إلا دولة الطيارات والدبابات

ويقول الحكيم إن الأمم القوية من الوجهة الحربية هي الأمم القوية من الوجهة الفكرية

والرأيان يلتقيان بكل رفق، فما الموجب للتراشق بالألفاظ الغلاظ؟

وقد فصل الأستاذ سعد اللبان في هذه القضية حين قال: أولئك قوم يتجادلون في البديهيات!

ولعل الأستاذ توفيق الحكيم يعترف اليوم أنى هديته إلى أصل الفكرة حين حاورته في جريدة الأهرام، فقد كان يتوهم أن الفكر منفصل عن الحرب كل الانفصال

لعله يذكر أني قلت وأنا أحاوره:

(إن الحرب الدموية ترجِّ الأذهان والعقول، ولكنها في الأصل من صنيع الأذهان والعقول. والعالم غير مُقْبل على الخراب - كما نقول حين نقرأ أخبار الحرب - وإنما هو مُقْبلٌ على يقظة روحية وعقلية واقتصادية سيعرف مَداها من يشهد تطوّر الوجود في المستقبل القريب، وهو مستقبل نشهد تباشيره منذ اليوم برغم ما نعاني من الضجر والاكتئاب كلما طالعنا أخبار التدمير والتخريب في الصُّبح والظُّهر والمساء

الإنسانية اليوم في حومة هائلة من يقظة الفكر والرأي، فليس القتال نزاعاً بين جنود وجنود، وإنما هو صراع بين آراء وآراء، كما كان في العصور الخوالي نزاعاً بين دِين ودِين، وما تغيرت المعاني وإن تغيرت الأشكال)

ص: 10

ذلك ما قلته في الحادي والعشرين من شهر مايو، وهو أصدق من آراء الصاوي والحكيم، على ودهما القديم ألف تحية وألف سلام!

كنت أظنهما صديقين، ثم عرفت - مع الأسف - أنهما من إخوان الزمان:

نعيبُ زماننا والعيبُ فينا

وما لزماننا عيبٌ سوانا

(حمار الحكيم)

وفي هجوم الصاوي على الحكيم وردت عبارات مقتبسة من كتاب (حمار الحكيم)، وهي عبارات يقول فيها المؤلف: إن الوقت عنده ليس من ذهب، وإنما هو من تراب. ويقول: إنه يخاف من العفاريت

وأقول: إن الصاوي لم يدرك ما في هذه الكلمات من السخرية، السخرية من المجتمع الذي نرى صوره في بعض البيئات، وهي سخرية رأينا صداها في مقال نشره سعادة الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بك في مجلة الصاوي

وقد آن لبني آدم من أهل هذه البلاد أن يفهموا أن المؤلف لا يُسأل هما يَرد في كلامه من العبارات التي يديرها حول نفسه ليتمكن من السخرية بالمجتمع، فقد آذتني جريدة لا أسميها في بلد لا أسميه، لأني قلت في كتاب (ليلى المريضة في العراق):

(أنا رجل لئيم، ويجب أن أستفيد من فساد المجتمع)

فقد قالت تلك الجريدة: كيف يجوز لحكومة رشيدة أن تعتمد على هذا الرجل في تثقيف الشبان، وهو يعترف بأنه لئيم يستفيد من فساد المجتمع؟

وإذا جاز لصديقنا الصاوي أن يؤول كلام صديقه الحكيم بلا فهم لغرضه الصحيح، فقد جاز لي أن أصفح عن ذنوب الجاهلين ممن فاتهم سر التأليف يوم قرءوا كتاب (ليلى المريضة في العراق)

الرفيق قبل الطريق

تلك حكمة عربية أوحتها ظروف الحياة البدوية، فقد كانت المسالك وعرة، ولم يكن للمسافر بدٌّ من رفيق يعينه على متاعب الطريق.

وطريقنا في هذا العهد هو الكتابة والتأليف، والرفيق هو رئيس التحرير، أو القارئ، أو

ص: 11

الرقيب في الأيام التي تُفرَض فيها الرقابة على الكتابة والتأليف

ولي في هذه النواحي تجارب، وأستطيع أن أقول إن أعظم من عرفت من رؤساء التحرير هم بعد القادر حمزة وخليل ثابت وأميل زيدان ومحمود أبو الفتح وأحمد حسن الزيات، فهؤلاء نشروا لي مقالات لم يكن يجوز أن تُنْشر لولا إيمانهم بقيمة الحرية الفكرية

ولم أكن أعرف الرقيب الذي كنت أصطدم به يوم كنت رئيس تحرير جريدة الأفكار في سنة 1921 فقد كان يفصل بيني وبينه فقيد الوطنية عبد اللطيف الصوفاني بك، طيَّب الله ثراه

أما الرقيب في هذه الأيام فهو الأستاذ محمود عزمي، وأستطيع أن أقول إني كنت أملك نشر ما أشاء بدون تهيب ولا تخوف، لأني كنت أملك الاحتكام إليه حين أريد

وفي الأستاذ محمود عزمي عيب فظيع هو الخضوع للحرية الفكرية، وهو عيب جميل، أكثر الله من أمثاله بين الرقباء!

بَقِي الرقيب الأعظم وهو القارئ

وأستطيع أن أقول إن رقابة القارئ لم تكن رفيقة في أكثر الأحايين، فقد كان يفهم عني غير ما أريد، وكان يراني بعين الحقد والمقت في بعض الأحيان

ومع ذلك بقيتْ صداقتي للقارئ كما كانت، فلم أتحوَّل ولم أتبدَّل، ولم أستبح الرياء لأظفر منه بالإعجاب، لأني أعتقد أن الكاتب الذي يتلمس المواقع من هوى القارئ ليس بكاتب، وإنما هو مأجور، والكاتب المأجور لا يصلح لشيء ولو استمدَّ بيانه من وحي السماء

الكاتب الحق هو الذي لا يخاف ولا يرجو رضاك

الكاتب الحق هو الطبيب الذي لا ينزعج من صُراخ المريض

الكاتب الحق هو الذي يفزع إلى القلم والقرطاس كما يفزع الجائع إلى الطعام والظامئ إلى الشراب

الكاتب الحق هو النهر الذي يحمله الطغيان على الهدير، أو الأسد الذي يحمله الغضب على الزئير

الكاتب الحق لا يعرف قراءه أبداً، وإنما يعرف أنه ينفِّس عن صدره بالتعبير، كما ينفِّس الوجود عن صدره بسعير الحروب

ص: 12

فمن كان يظن من القراء أننا اشتقنا إليه فهو مخطئ، فما بنا شوق إلى أحد، إلا أن تَصلُح الدنيا فترجع الأنوار إلى بُولميش في باريس، وشارع فؤاد في القاهرة، وشارع الرشيد في بغداد

أفي الحق أن الدنيا ردَّتني إلى هذا الحد من القسوة والعُنف؟

أفي الحق أني أمسيت لا أهتم بعواطف قرائي؟

هو ذلك، فمنذ أسابيع وأنا جاثمٌ بالدار التي بنيتها على حدود الصحراء

وعن الرمال التي يُلهبها القيظ، يتحرك القلم الذي يُلهبه الغيظ

فإن عشت وعشتم إلى عودة السلام فسيكون لي معكم حديث غير هذا الحديث. ألم تسمعوا أني كنت شاعر الصباحة والجمال؟ ألم تلوموني على عُنف الهيام بالعيون والقدود؟

ذوقوا بأس الحرب يا عُشاق الحرب، ذوقوا بأس البلاء يا عشاق البلاء، فلن أنسى أنكم سَخِرتم مني حين كنت أتغنى بالجمال في أيام السلام!

متى تعود أيامي وأيامكم؟ متى تعود؟ متى تعود؟

عشنا وشفنا

شهدت حربين في حياتي: الحرب الماضية والحرب الحاضرة

فمن كان يعجب من أني قضيت حياتي في حرب فليعرف أني أخذت الوقود لأدبي من سعير هاتين الحربين، ولا يملك الفرار من حوادث زمانه غير المزوَّد بالغفلة والجمود، وما كنت من الغافلين ولا الجامدين

في الحرب الماضية كنت طالباً بالجامعة المصرية، وكانت أملاكي بالقاهرة لا تزيد عن مكتبة صغيرة سارعتُ بنقلها إلى سنتريس ورجعتُ لأشاهد تلك القلقلة التاريخية

وفي هذه الحرب، الحرب التي يقال إنها قد تؤذي مصر بعض الإيذاء، صار لي في مصر الجديدة منافع هي المكتبة التي لا يمكن نقلها إلى سنتريس، فأنا معها إلى أن يقضي القَدَر بما يشاء

وأقسى ما أعانيه هو الفزع الذي يقاسيه جيراني حين تولول صَفَّارة الإنذار بغارة جوّية في أعقاب الليل، فهم ينزعجون ويتواصَون بالنزول إلى السراديب ليأمنوا شر الويل، فأنزعج لانزعاجهم لحظة ثم أُسلم جفوني إلى النوم العميق

ص: 13

الحياة ليست غالية جدَّا، يا جيراني، فلا تخافوا ولا تجزعوا فأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في أعماق السراديب!

وما قيمة الحياة وهي دُنيا بحق؟

ألم نشهد فيها غدر الصديق بالصديق، ونوم الحليف عن نصرة الحليف؟

لن أقبل النزول إلى السرداب ولو سقطت السماء فوق الأرض! ولو كان أبنائي في مثل عزيمتي لأبيت عليهم الرحيل إلى مرابع السلامة في سنتريس

وما الذي فاتنا من نعيم الحياة أو بؤس الحياة حتى نحرص عليه؟

أنا باقٍ في داري على حدود الصحراء إلى أن ينفد زاد الموت، والمستميت لا يموت.

زكي مبارك

ص: 14

‌ويلك آمن.

. .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

أيام من الدهر حائرة في أودية الزمن، وساعات تخلع المصائب وتلبسها بين الثانية والثانية، ورعب مظلم خيَّم على الأرض فلا تضيئه إلا شقائق النار وهي تفري الجو ذاهبة وآيبة، وحيرة سابحة فيها عقول البشر لا تدع قراراً لفكر ولا خيال، وسهام نافذة من البلايا تفتق نسج النفس الإنسانية فتقاً رغيباً يتعايا على الراقع والمصلح. . . فياله من بلاء مطبق على العالم إطباق اليوم الصائف يسد بحره منافذ الأنفاس

ما الحياة؟ ما الإنسان؟ ما العقل؟ ما الحضارة؟ إلى أين نسير؟ كيف نعمل؟ لماذا نعيش؟ فيم نتعب؟ تبَّا لكل هذه الضلالات الداجية التي لا يبرق فيها نجم واحد يقول للإنسان: اتبعني، سوف تهتدي!!

هذه هي الحضارة الأوربية الحديثة قد انتهت بالناس إلى خلق هذا الإشكال الدائم الذي لا يحل، وساقت الناس إلى مرّعى من الشك وبئ، كلما ازدادوه غذاء زادهم بلاء، فلا ينتهي من ينتهي إلا إلى هلكة تدع فكرة الحياة خرافة عظيمة قد اتخذت لها أسلوباً تتجلى فيه، فكان أبلغ أسلوب وأفظع أسلوب، هذا الإنسان الذي يحمل من رأسه قنبلة حشوها المادة المتفجرة التي تهلكه وتهلك ما يطيف به أو يقاربه، فلا هو ينتفع بنفسه، ولا ينتفع العالم به

لو سئل إنسان هذا القرن: ما أنت؟ لقال: أنا اللعنة الملعونة التي تشأم نفسها وتشأم من يعترض انصبابها وسيلها. أنا الناب الذي ينقع في الإنسانية سمه حتى تبرد حياتها في عضته. أنا الهالك المهلك، هذه حياتي، وهذا عقلي، وهذه حضارتي، ومن أجل هذا خلقت، وفي سبيله أعيش، وعلى قضائه أعمل. . .!!

ولو نشر اليوم فيلسوف من محبي الحكمة والعاملين عليها الذين أفنوا أعمارهم في طلب الخير والفضيلة والحق والجمال، وجعلوا عملهم هداية الإنسان إلى أسبابها وسلكوا له سبلها، ثم نظر إلى هذه الحقبة من عمر الإنسانية فما تراه قائلاً في صفة الإنسان وما فيه من العون على درَك هذه الحقائق، والتحلي بها في حياته؟ أم تراه يعرف الصورة وينكر المعنى؟

المدنية الأوربية الحديثة هي التي استطاعت أن تنفذ بالعقل في ضمير الحياة تستنبط منه

ص: 15

ناموس الحياة التي تدب على الأرض ومع ذلك فهي التي سلبت هذا العقل قدرته على الخضوع للروح لتمده بالنور المشرق الذي يستضئ به في رفع الإنسانية درجة بعد درجة إلى مراتب الملائكة - أي إلى مرتبة الروحانية الصافية التي تنهل أضواؤها على النفس والقلب والروح، فتروى من فيضها، وترث من ذلك نوراً ورحمة وسكينة، وتنبت غرسها الإلهي الذي يجنيه الإنسان هداية وعدلاً وسعادة، فتتضاعف به الحياة حتى يقوى الخير فيها ويضوي الشر

لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتم لعمل تمام ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح وطهارة الروح، وقدس الروح

أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشر والرذيلة، فخرجت من مكامنها جائعة قد سلبها الجوع كل إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنّ، وتنزي في الأرض وحشاً يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سام، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء. لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما فرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور

وما هي شريعة المعدة في هذه المدنية الاقتصادية التجارية؟ هي شريعة السوق التي لا تعرف قيمة الشيء إلا في ميزان من الطلب. فما طُلب فهو الجيد، وما عُمِّيَ على الطالب فهو الرديء الذي لا قيمة له، وكل شيء قائم في جوهره على النزاع الذي لا تسامح فيه، والأمر كله للغلبة: غلبة الأقوى، لا غلبة الأعدل، غلبة الحيلة لا غلبة الصدق، غلبة البراعة لا غلبة الحق

فهذه الشريعة هي شريعة إعزاز القويِّ، لأن القوة تسوِّغه أن يتسلط، وإذلال الضعيف، لأن الضعيف تهالك به أن يتحكم، وليس بين هذين معادلة ولا نصفة، وليس أحدهما من الآخر

ص: 16

إلا كالثعبان من العصفور إذا عرض له، فسلط عليه الرعب من عينيه، فينتفض في قبضة أشعتهما المفترسة المسمومة حتى يبرد دمه فلا يستطيع حركة، ولا ينتغش بدنه بذعاءٍ من الحياة. هي الشريعة التي تجعل إنسانها القوي مقبرة لإنسانها الضعيف، فالقوي أبداً آكل قد أرمَّت في نفسه تلك الجيف التي انتهشها وألقى بها في معدته، فتجيفت وتعفنت، وتصاعدت أرواحها المنتنة في حياته، فجعلته متسرِّعاً نفّاذاً كأنما يريد أن يهرب بنفسه من نفسه التي لا يطيق جوها، لأنه جو خانق، تطوف فيه أشباح الفرائس المسكينة التي بطشت بها أنيابه ومخالبه

هذه الحضارة القابرة التي تدنست روحها بالرمم التي ضعفت أن تقاوم القوة، لن تستطيع إلا أن تفسد العالم وتدنسه كما تدنست؛ فإنه محال أن تكون الشريعة مدَّنسة نجسة، وتأتي الناس بخير طاهر مبارك يغسل أدران الإنسانية التي تتجمع عليها يوماً بعد يوم، ولا أن تخرج نفس الإنسان فيها مع الفجر ندية مشرقة رفافة تستقبل بفضائلها أعمال نهارها

إن شريعة إعزاز القويّ وإعلاء الأقوى، وإذلال الضعيف وإسقاط الأضعف، هي الشريعة الحيوانية التي لم تعل إلا بإذلال الروح والعقل وإسقاطهما ونبذهما، هي شريعة البغي والعدوان على الروح بالروح الشيطانية، وعلى العقل بالعقل المتمرد، وكلما استحكم أمرها كانت الإنسانية ذاهبة إلى نبع نجس تنغمس فيه لتصدر عنه أقوى مما وردت - أي أنجس مما وردت

إن الكون لا يصلح إلا على معنى الأقوى والأضعف. هذا حقٌ لا يماري فيه إلا مكابرٌ أو مبطل أو أحمق. ولكن يبقى ذلك العمل الإنسانيّ الذي يثبت للإنسان معاني النبل المنحدرة في روحه من نبل النور الأزليّ الذي بعث الحياة بعثاً في نفسه وفي أعماله، وبهذا العمل وحده يعرف الإنسان معنى السعادة في السراء والضراء، وفيما أرضى وما أسخط، وتكون حاله في الحالين واحدة، وذلك بأن تتسع روحه بالواجب الاجتماعي الروحي الذي يتراحب بإنسانيته في الكون كله، فنقع اللذة منها موقع الألم. وينزل الألم في منزل اللذة، وتمسح النظرة السامية عن الوجود كل الغبار الأرضي الذي يغطي محاسن الحياة وتنير الكلمة ظلمة النفس: الحمد لله فيما سر وما ساء

والعمل الإنساني المستمد روحه من الجزاء الإلهي في الإنسان هو العدل والمساواة، وقد

ص: 17

جعلت الحضارة الحديثة معنى العدل والمساواة صدقة يتصدق بها أغنياء قوم على فقرائهم، وأقوياؤهم على ضعفائهم، لا على معنى الصدقة في إخلاصها لله ثم للإنسانية ولكن على معنى التخفف من تعب الغنى وتعب القوة

أما حقيقة العدل والمساواة، فهي عمل الإنسان الأقوى في رفع الإنسان الأضعف إلى مرتبته، فلا يزال هو يرتفع بقوته، ولا يزال الضعيف يسمو معه لأنه معقود الأواصر به. وإذا كان ذلك هو القاعدة فالاجتماع كله سام ذاهب إلى السمو، ولا يكون فيه معنى للطبقات إلا على معنى التدرج، ولا يكون التدرج إلا على تماسك وتواصل، وليس تماسك ولا تواصل إلا على حرص الأعلى على التعلق بالأدنى، وكذلك لا يرتفع شيء من المجتمع لأنه أعطى القدرة على الارتفاع، ولا يسقط الشيء الآخر منه لأنه لم يجد ما يتعلق إذ حرم هذه القدرة أو زويت عنه أسبابها

وقد جعل الإسلام من أول أمره غرضاً للمسلم لا يرضى منه غيره، ورد معنى الإسلام إليه، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاعدة وقال للناس: اعملوا: فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. والإيمان لا يعرف الغني والفقر، والقوة والضعف، والمراتب الحيوانية التي طبعتها الطبيعة على تنازع البقاء وغلبة الأقوى، بل هو معنى يوحد الناس حتى ليس لأحد فضل على أحد إلا بقدر منه، وحتى إن العبد المملوك العاجز ليرفعه إيمانه على من ملكه واستبد به واعتقد رقبته بماله، إذا لم يكن هذا المالك قد استحق بإيمانه مرتبة هذا العبد

وفي بعض الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء هداية إلى هذا الأصل، فقد روى عن المعرور بن سويد أنه قال: لقيت أبا ذَرِّ بالربذة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببتُ رجلاً، فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذرّ، أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!! إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم

ولا ينتهي عجب متعجب من بلاغته صلى الله عليه وسلم، وكيف ينزل كلامه تنزيلاً في معانيه، تدور بها دورة دائمة لا تنتهي على نظام ثابت لا يتبدل. فقدّم صلى الله عليه وسلم

ص: 18

الأخوَّة بين المؤمنين لأنها هي الأصل الذي لا يتم معنى الإيمان ولا معنى الإنسانية إلا به، وردّ على هذه الأخوة ما يوجبه المجتمع من مراتب الناس على الغنى والفقر، والقوة والضعف، ألا وهي الخدمة التي يقوم بها النظام الاجتماعي فقال:(إخوانكم خولكم) ولم يقل: (خَوَلكم إخوانكم)، هذا مع أن أصل الخطاب إلى أبي ذر يتوجه إلى مقصود بذاته، وهو خادمه أو غلامه الذي سبَّه، فكان أول ما يسبق إلى اللسان، وأقرب ما يسرع إليه الوهم، أن يتعين خادمه بالابتداء

ثم انظر كيف قال: (جعلهم الله تحت أيديكم)، (فمن كان أخوه تحت يده)؟ وكيف حرَّر الإنسان من رقبة العبودية القابضة على عنقه، فجعله تحت يده يستظل ويتحرك في هذا الظل، ولم يجعله في يده يتصرف فيه ويقبض عليه ويستذله، فإن شاء حطمتْه قبضتُه. ثم دَرَج على هذا الأسلوب البليغ حرفاً بعد حرف حتى قال:(فإن كلفتموهم فأعينوهم)، وذلك زكاة القوة التي بها ملك المالك، واستخدم المستخدم. فإذ كان المؤمن قد قوي على تكليف ضعيفه أن يعمل، فهو أقوى على أن يشاركه إذا عجز أو قعد به الضعف الذي أصاره إلى أن يرضى أن يخدم نفسه من كان أعلى يداً وأقوى قوة

فهذه هي شريعة الروح الطاهرة التي تتعطر من نواحيها برائحة جنة الخلد؛ فانظر ما بينها وبين شرائع المعدة التي جعلت أحشاءها مقابر للضعفاء تأكل منهم لتتسع بمعنى الجريمة الحيوانية، وتنقبض عن معنى الرحمة الإنسانية الإلهية

فهل يمكن أن يتطهر العالم فيما يستقبل من أيامه على أساس هذا الهدّى النوراني الذي جعل النظام الاجتماعي سموَّا بالإنسان كله على مراتبه كلها؟ هل يمكن أن يفهم العالم حقيقة هذا التطهير التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا قدِّستْ - أي طهِّرت - أمةٌ لا يؤخذُ لضعيفها من قويها)؟

ويلك آمن. . .! إن وعد الله حق

محمود محمد شاكر

ص: 19

‌4 - إلى أرض النبوة!

(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935

لفتح طريق الحج البري للسيارات)

للأستاذ علي الطنطاوي

إن من دأب العادة أنها تضعف الحس، وتذهب بالانتباه. فالغني الذي يلبس الحرير، وينام على السرير، ويركب السيارات، ويملك (العمارات) لا يجد لذلك كله من اللذة ما يجد الفقير المعدم، والبائس المحروم إن نال مثله، والشبعان لا يدرك اللذة التي يتوهمها الجائع، والصحيح لا يعرف لنعمة الصحة قدرها إلا إذا مرض، فلا لذة في الدنيا إلا في التنقل والتبدل، وألاّ تحمد على حال مهما حسنت في ذاتها. وهذا ما أراده الشاعر حين قال:

ولذيذ الحياة ما كان فوضى

ليس فيه مسيطر أو نظام

من أجل ذلك أحسسنا حين ذهبنا إلى غداء الأمير، ورأينا عادات لم نألفها، وطرائق في الطعام لم نعرفها، بلذة التبدل، والاستمتاع بالجدة، فما كاد يستقر بنا المجلس حتى أقبل العبيد فمدوا سماطاً على الأرض، ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها منهم اثنان، وقد ملئت رزاً وألقى فوقه خروف كامل بيديه ورجليه ورأسه، إي والله. . . كأنهم (والله أعلم) خافوا أن نشك فيه فنحسبه دباً أو فيلاً أو قطاً، فأبقوا على الرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف أصيل من أمة الضأن

وكان الخروف مفتوح العينين، ناعس الطرف، فأخذتني الشفقة عليه، وتوهمت أنه ينظر إلينا، وأنه. . . . . . ثم رأيت أن لا مجال للوهم ولا للخيال، وأن الوقت لا يتسع للأدب، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا بالرز واللحم، ويبقى لي الخيال والوهم، ومتى أفاد الخيال جائعاً، أو أجدى الأدب على إنسان؟

وكان أصحابنا يدورون بعيونهم يفتشون عن ملعقة أو سكين أو شوكة فما وجدوا شيئاً من ذلك؛ وأبصروا القوم يأخذ أحدهم قبضة من الرز، فيديرها في كفه، ويعصرها، حتى يقطر منها السمن، ويحركها كما يحرك اللاعب الكرة قبل قذفها، حتى إذا اطمأن إلى أنها صارت

ص: 20

كالقنبلة، قذف بها في حلقه، فما استقرت بإذن الله إلا في معدته، لا تقف في الفم، ولا تمسها الأسنان. . . وطفق أصحابنا ينظرون إليهم ويعجبون، ثم أقبلوا يأكلون كما يأكلون، ولبثت منتظراً أقول لنفسي وأنا أحاورها لأقنعها: من أين تأكلين إذا لم تجاري وتماشي، وتستعدي لقبول كل ما تأتي به الحال؟ وإني لفي تفكيري، إذ حانت مني التفاتة، فوجدت القصعة قد تكشفت، والخروف المسكين قد تناثر لحمه، وبدت عظامه. . . فمددت يدي آكل كما يأكلون، وقد علمت أن شر طعام خير من الجوع، والرز يتفلت من بين أصابعي، والسمن يملأ كفي، فإذا رفعتها إلى فمي، نقط من مرفقي، ولم يكف القوم ما كانوا قد وضعوا من السمن، بل عمدوا إلى كؤوس يحملونها، فملئوها وصبوا ذلك أمامنا، حتى نستطيع من كثرة الدهن أن نأكل، ولم يكن الرز ليستدير في يدي استدارته في أيديهم، بل كان يدخل بين أصابعي، حتى أضطر إلى إدخالها جميعاً في فمي، وغسل وجهي كله بالسمن. . .

وانقضى الطعام. ولا تسألني: أشبعت أم لم أشبع، كيلا يطول سؤالك كما طال في هذه الرحلة عطشي وجوعي

ثم جاءونا ونحن في مجالسنا بطست عليه مصفاة قد وضعوا فوقها قطعة صابون وإبريق يصبون منه على أيدينا، على نحو ما كان يصنع في دمشق قبل عشرين سنة، ولم تكن تلك طريقتهم في الغسل، وإنما يكون مثلها في مجالس الأمراء والمتحضرين من العرب. أما البدو، فيجزئهم الرمل. وقد بلغنا عن بعض البدو في جهات الشام، أنه إذا كانت وليمة أو غداء كالذي نصف، خرج الضيوف فمسحوا الدهن الذي في أيديهم بباب الخيمة. وعندهم أنه كلما ازداد عليها من الدهن ازداد كرم الرجل وفخاره. . .

ثم خرجنا نجول في البلد، وقد علمت أي شيء هذا البلد فاستقريناه كله في ساعة، ثم دخلنا المسجد، فرأيناه داني السقف قائماً على عمد دقاق من جذوع النخل، جدرانه من الطين، وأرضه مفروشة بالرمل، لا بساط ولا (سجادة) ولا حصير، فسألنا متعجبين، فعجبوا من عجبنا، وأنكروا سؤالنا، وكأنهم استخفونا واستجهلونا، لأن من المقرر عندهم (كما علمنا بعد)، أن هذه هي سنة السلف، وعليها مساجد نجد كله اليوم. وأنا رجل سافي وهابي، ولكنني لست من المتمسكين بحرفية النصوص، ولا ممن يأخذها بلا فكر. وأنا أفهم أن المسجد في الإسلام يستحب فيه الخلو من الزخارف التي تشغل عن الصلاة، وتطلب فيه

ص: 21

(البساطة)، ولكن البساطة مردها إلى العرف، وليس مدارها على الرمل والطين. والذي أفهمه أن فرش المسجد بالبسط النظاف، وتحوير جدرانه أو دهنها بلون واحد، واتخاذ مكان فيه للأحذية حتى لا توضع الجباه، ومدافئ للشتاء إذا كان البلد بارداً، ومراوح كهربائية في البلد الحار، وإقامة مكبر للصوت في مثل مسجد دمشق الذي يجتمع فيه اليوم لصلاة الجمعة أكثر من عشرين ألف مصلٍّ. كل هذا لا ينافي سنة (البساطة)، وإن لم يفعله السلف للجهل به أو لعدم الحاجة إليه. ومصيبتنا نحن المسلمين في هذه الأيام أننا لا نعرف التوسط ولا الاعتدال، فمنا من ينطلق وراء عقله وحده لا يتقيد بوحي ولا كتاب، ومنا من بدع العقل والكتاب والسنة ليفكر بعقول من مضى من فقهاء القرن التاسع والعاشر، أو يأخذ من الكتاب والسنة، ولكنه يفهم بالحروف والألفاظ ويدع ما وراءها من المجاز والإشارة والحكمة والمصلحة. . .

عدنا إلى الدار التي منحونا مفتاحها، نتحدث ونسكت، وننام ونفيق، ونقرأ حتى نمل، ونمل فنعود إلى القراءة حتى تصرَّم النهار ونحن نظنه من ثقله شهراً. وقد عرضت مرة في بعض مقالاتي إلى تحليل الحس بالحياة، فكان من رأيي أن الحياة أصعب شيء على الإنسان، وأنه لا يستطيع أن يحملها، فهو يقطعها أبداً بحديث أو مطالعة أو عمل، أو ما هو من ذلك بسبيل، فإذا خلت حياته من شيء يشغلها عادت هماَّ وحملاً ثقيلاً. وكذلك كانت حياتنا ذلك اليوم في (قريات الملح). وكنا قد سألنا الأمير دليلاً، وأقمنا ننتظره حتى جاء، وإذا هو سيد من سادات (الشرارات)، عُمَّار تلك الديرة، والمشيرة صاحبة النفوذ فيها اسمه (صْلَبي)؛ ولي في صفته كلام في أول قصة (أعرابي في حمام) ما زدت فيه على الحقيقة وإن كنت قد أقمت القصة على الخيال؛ فليرجع إليه من شاء ثَمَّة

وقد أبدلنا الله بدرهمنا ديناراً حين صرف عنا الحاج غراباً الجاهل الجامد، الحضريّ الثقيل؛ وجاءنا بهذا الأعرابي الفكه الظريف الذي أخذنا منه فوائد كثيرة ولمسنا في صحبته السلائق العربية لمساً: الذكاء والوفاء والإباء، والمنطق البليغ والذاكرة القوية والجواب الحاضر والصبر والإيثار. وأشهد لقد أحسن إلينا أمير (القريات) حين اختاره لنا، فلما حضر تجددت عزائمنا، فأعددنا ثقلنا، وذهبنا نودع الأمير ونستأنف السفر، وكان أهل البلد مجتمعين حول الدار التي نزلناها، وكأن مجيئنا من الحوادث الكبرى في تاريخ البلد.

ص: 22

فمشينا بينهم، ودخلنا الحصن، فوجدنا الأمير قد أعد لنا مجلساً في رحبته، يشرف على الفضاء، ودعانا إلى المبيت، وألحف علينا، وذهب يلتمس إلى إقناعنا الطرق، ونحن نعتذر ونتملص، لا أدري أكان ذلك حياء من الأمير أن نطيل المكث في ضيافته، أم كراهية البقاء في هذه البليدة الساكنة سكون المقبرة، الخالية من كل شيء يشغل أو يسلي، أم حماقة وطيشاً ولعل ذلك هو الأقرب. . . فلما يئس منا عرض علينا العشاء فأبينا واجتزأنا بالشاهي نشربه إذ لم يكن منه بد، وأخرجنا مما كان معنا حلوى من حلويات دمشق التي ملأت شهرتها الآفاق، وعجزت عن صنع مثلها أيدي الطهاة، فعرضنا منها على الأمير فطعمها فأعجبته وقال لنا، إن ما ذاق مثلها، وخير ذلك ألا يذوقها فيعوده مذاقها الترف والنعيم، ويسلبه روح الصحراء

وانتهى المجلس مع الغروب فقمنا إلى الصلاة، ثم استقبلنا البادية القاحلة حيث لا نجد حاشا تبوك والعلا، داراً مأهولة، ولا منزلاً معموراً، ولا نجد إلا الرمال والصخور والشمس الملتهبة، والفضاء الأرحب، حتى نصل بمشيئة الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

سرنا فما جاوزنا غير ساعة حتى أظلم الليل، وتوعرت الأرض، وتعذر المسير، فأمرنا الدليل بالنزول، فنزلنا وجعلنا من عادتنا بعد ذلك ألا نسير إلا نهاراً، وإن اضطرنا إلى مشي الليل اخترنا الإدلاج من آخره إلى المسرى من أوله. . .

وكان نزولنا في أرض رخوة ما ألقينا لها بدلاً، فلما نصبنا الخيمة وبسطنا البسط وقعدنا إذا بها تعصر ماء، وإذا هي سبخة من تلك السباخ التي يستخرج منها الملح، فتفرقنا وأبعدنا رجاء أن نصيب أرضاً خيراً منها فما وجدنا، فاسترجعتا وندمنا على ترك البلد، والسفر ليلاً، والإعراض عن دعوة الأمير، وأمضينا الليل على شر حال، منا من نام وسط الوحل، وما السبخة إلا وحل. فأصبح يشكو الرثية (الروماتزم) أو يحس الأذى في ظهره، ومنا من لبث الليل كله في السيارة لا يستطيع أن يتحرك أو يمد رجله، ولقينا من الشدة ما ذكرنا معه بالخير ليلة (أم الجمال)

رب ليل بكيت منه فلما

صرت في غيره بكيت عليه

تبدل عليَّ كل شيء مذ فارقت (القُريَّات)، فلقد كنت قبل أن أصل إليها أفكر فيها وأراها

ص: 23

غاية سفري، فصرت أمشي من بعدها لا أعرف لي غاية إلا تبوك، وأين نحن من تبوك حتى نفكر فيها؟ وكيف وبيننا وبينها أيام وليال؟ وكنت آسف على فراق دمشق فصرت لا أفكر فيها إلا لماما، وأحسست كأني منقطع حقاً عن العالم، فلا بشر إلا الرفقة التي أصحبها، وليس إلا الرمل والتلال والسراب مشهد نراه، وكان عملنا كله التدقيق في الأرض، والانتباه إلى الدليل، لنجتنب الخوض في رملة، أو المرور على شِعب، أو الالتقاء بصخرة. ولقد كنت أنظر تارة إلى هواننا إلى الصحراء، وأفاضل بين صغرنا وجلالها، وفنائنا وبقائها، فأحس الصغار، وأشعر بالعجز، ثم أنظر فلا أرى فيها إلا إيانا قد انفردنا بين شرقها والمغرب، وانبسطت تحت أرجلنا وامتدت إلى الأفق البعيد، ونحن نغزوها ونوغل فيها، ونحمل حرها وبردها، ولا نبالي شمسها ولا رملها، فتغمر نفسي القوة، وأرفع رأسي فخاراً، وأتيه زهواً. . .

وكنا نسير النهار كله، سيراً بطيئاً. وما أكثر ما نقف نخرج من سيارة غاصت في الرمل، أو نتحرى خير الطرق، أو ننظر في (الموصلة) لنتبع أبداً الجنوب، وكنا أبداً على استعداد للوثوب من السيارة. فإذا مالت الشمس وأصفرت، نزلنا فنصبنا خيمتنا وأكلنا وشربنا الشاي. . . وأنا أحلف أني على ولعي بجمال الطبيعة، وارتيادي الجبال والأودية، ووقوفي بالعيون والينابيع، ومقامي على الشواطئ وحيال الشلالات، ما رأيت منظراً أجل ولا أجمل ولا أحفل بالعظمة والمتعة كم أماسي الصحراء، حيث تضطجع على تلة من التلال، ثم تمد بصرك إلى الجهات الأربع فلا يحجزه حاجز، ولا يقف في سبيله شيء، فترى الشمس وهي تغيب في الأفق الغربي، وظلال الليل وهو (يشرق) من الأفق الآخر، والنجوم وهن يطلعن في السماء الصافية، وتحس بلطف الليل ورقة نسيمه، كما أحسست بجلال النهار وحدة شمسه، ثم تقوم مع الفجر قوياً نشيطاً، قد قبست من روح الصحراء روحاً جديداً، لتستقبل الحياة بعزم جديد!

علي الطنطاوي

ص: 24

‌خرفة

هذا الإنسان. . . أوجد الحضارات

(السمك والوحش والطير يأكل بعضها بعضا، لأنها حرمت

العدالة، أما الإنسان فقد منحه زيوس إياها وهي خير ما يمنح.

. .)

أما أنا فأقول لكم لم لا يأكل الناس بعضهم بعضاً

في زمان سلف، قديم كل القدم، وفي مكان لا أعرفه تماماً، كان يعيش أبو البشرية آدم وأمها حواء والابن البار هابيل، والابن العاق قابيل

وفي يوم من الأيام، بعد أن مل قابيل العمل وزهدته نفسه، واستصغرته، جلس على مرتفع من الأرض، ومرفقه إلى ركبته، وقد أسند رأسه إلى قبضته الضخمة. جلس قابيل مهموماً قبل أن تخلق الهموم، مفكراً قبل أن يخلق التفكير. لقد مل العمل ومل الحياة، وضاقت الدنيا على سعتها، فلم تعد تحقق شيئاً مما يريد قابيل. هاهو ذا يعمل كل يوم. يذهب في الصباح إلى الأرض يصلحها ويبذر الحب فيها، وإذا أعوزها الماء حمله إليها من أماكن بعيدة، ثم إذا هو رأى حيواناً يعبث بماشية يرعاها أخوه، سعى إليه وأرداه

كل شيء أمام قابيل سهل ميسور. إنه ما حاول يوماً عملاً واستعصى عليه. كل ما يراه خاضع ليده القوية. الأرض تتفتت في يسر وهو يضربها لتفلح. والحيوانات باتت تخاف رؤيته. والأمطار إذا شحت استطاع أن يحمل الماء من أماكن سحيقة دون أن يتعب. . . كل شيء سهل ميسور إذا تناوله قابيل. فأية حياة فارغة هذه؟

وفي تلك اللحظة مر هابيل يسير كعادته دائماً في سكون وبطء، لاهياً عن كل شيء بشيء لا يفهمه أخوه؛ إنه يأخذ الحياة كما وجدت، لا يطلب جديداً ولا يتعب نفسه في هذا الطلب، ولا يحس مللاً كما يحس قابيل

ثم هناك كبش هابيل، لقد قبل عندما قدمه قرباناً، فنزلت النار من السماء والتهمته، بينما لم يرفع زرع قابيل الذي قدم كما رفع كبش أخيه

وبعد! فلابد إذن أن يكون هابيل شيئاً عظيما، فقربانه قد قبل بينما لم يقبل قربان أخيه؛

ص: 25

وكلاهما ابن لآدم وحواء. وهو لا يفكر كما يفعل قابيل وإنما هو لاهٍ راضٍ. إنه إنسان آخر غير قابيل، إنه شيء غامض محاط بالسر. . .

وتنهد قابيل تنهدة المحنق وظل يتبع أخاه النظر يسعى إلى الكوخ بجسمه الطويل المعروق والماشية تسعى من أمامه

هذا الإنسان الغريب الغامض لم لا يسبر غوره ويقيس قوته إليه؟

. . . ورويداً رويداً نزل الظلام؛ ورويداً رويداً امتد الزمن به. فقام أخيراً وقد أزمع أمراً

لقد وجد ميداناً جديداً تبرز فيه قوته. ولقد كان الظلام حليفه هذه المرة، لأن قابيل لم يستطع أن يبلغ مأربه إلا في الظلام!

ومضى الليل إلا أقله، وبينما كان آدم وحواء نائمين، وقف قابيل خلف أخيه، ثم رفع يده وهوى بها، فسقط هابيل، دون أن يتهيأ لهذه المفاجأة، لأن أخاه استعان بها كما استعان بالظلام!!

وهكذا استطاع قابيل أن يجرب قوته من جديد وقد نجح في ذلك

وبعد، أفتدرون لم لا يأكل الناس بعضهم بعضاً؟ ذلك لأنهم يجدون ما يأكلون

(م. وهبة)

ص: 26

‌الفروق السيكلوجية بين الأجناس

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

تمهيد

قصدت بهذا التمهيد أن أقدم عجالة عامة عن مشكلة الأجناس البشرية والمفاضلة بينها، وألا أتعرض للبحوث العلمية التي أجريت منذ أواخر القرن الماضي لمعرفة الفروق بين الأجناس. وقصدت أيضاً أن أجعل موضوع اليوم ذا صبغة تاريخية اجتماعية حتى أريح القارئ قليلاً من مطالعة الحقائق العلمية الجافة، ولكنني إن أعفيته هذا الأسبوع من عرض الحقائق العلمية التجريبية فلن أعفيه منها في الأسابيع القادمة

ومشكلة الفروق الجنسية مشكلة قديمة كقدم آدم. لا بل إنها تبدأ به، وبالخلاف بينه وبين إبليس اللعين، فإنه لم يتحرج من إعلان احتقاره للجنس البشري حين أبى أن يسجد لآدم كأمر ربه. فقال الله تعالى:(ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت أم كنت من العالين؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين) ومن هذا اليوم ظهر الخلاف بين الجنس الناري والجنس الطيني، وهو خلاف جر مصائب على إبليس ومن تبعه، وعلى آدم وذريته من بعده، ولا يزال مثل هذا الخلاف الجنسي مبعث المحن بين بني آدم أنفسهم

ثم هبط آدم إلى الأرض وتفرق أبناؤه شعوباً وقبائل، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، وبعدت صلتهم بأبيهم الأول، فتنافسوا وتحاسدوا، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء، وذهب كل شعب يُدِلُّ بعَدده وعُدده، وحضارته وثقافته، ويفخر على الشعب الآخر، ويعيره قلة العدد وتأخر الحضارة. وكان ما كان مما حفظه لنا التاريخ والكتب المقدسة وما لم يحفظ

أقام بنو إسرائيل في مصر القديمة، وفلحوا الأرض، ورفعوا البنيان، وكثر عددهم، وقوى ساعدهم، وأصبحوا ذوي نفوذ وسلطان. فخشيهم فرعون ومن معه، ونظروا لهم شزراً واحتقاراً (واستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بقسوة، واستعبدوهم واستخدموهم في الطين والّلِبن، وفي كل عمل في الحقل. وكان كل عمل عملوه بتأثير

ص: 27

الضغط والعنف. . .) ولم يكن مِرْنفتاح بألين جانباً مع الإسرائيليين من سلفه رمسيس الثاني، فأذاقهم الأمرين لا لسبب إلا لأنهم غير مصريين، ومن جنس أجنبي، حتى إذا بلغ بهم البؤس مبلغه جاءهم موسى بعصاه، فأنقذهم من جناية جنسهم عليهم، ولاقى مرنفتاح حتفه شر لقاء

ثم سار التاريخ سيرته في الشرق والغرب، فظهر الإغريق بحضارتهم وفلسفتهم وآدابهم، تلك الحضارة الإغريقية التي يعزى إليها - وإلى الرومانية أيضاً - فضل النهضة العلمية الأوربية

وحسب الإغريق أنهم شعب مقدس لا يصح أن يتزاوج مع غيره، ولا أن يختلط غيره به. وسموا غيرهم من الشعوب همجياً ووحشياً. ولم يذكروا أن حروفهم الأبجدية إنما كانت عارية فينيقية، وأن مبادئهم الفلسفية نشأت في مصر. فتعصبوا ضد غيرهم من الأجناس، ودعوهم برابرة. وكانت كلمة أو ما ظهرت ظهرت في لغتهم، فأطلقوها على الرومان جيرانهم، لأنهم كانوا من جنس غير جنسهم، ولأن لغتهم اختلفت عن لغتهم، ولأنهم كانوا دونهم في الحضارة والثقافة، ولم تلبث هذه الكلمة أن دخلت اللاتينية فاستعملها الرومان بدورهم، وأطلقوها على الشعوب الأوربية التي كانت تتاخمهم كالصقلب والكلت والجرمان. وهكذا اعتبر الرومان - الذين كانوا يسمون برابرة - كل من لم يدخل ضمن نفوذ الإمبراطورية الرومانية بربرياً لأنه غير متحضر، ولأنه من جنس دون الروماني

لم تكن الحال في بلاد العرب قبل الإسلام بأحسن منها عند الأمم الأخرى، فبالرغم من أن العربي يعتز بجنسه العربي كانت المنافسة بين عرب الجنوب وعرب الشمال تصل إلى العداء والقتال، بل كانت الحروب بين العدنانيين أنفسهم لا تطفأ لها نار. وكان التعصب للقبيلة - التي هي الجنس بمعنى ضيق - من أهم أسباب هذه الحروب. وكان الفرد من البطن يفخر على ابن عمه من البطن الآخر بنبل أسرته وكرم محتده. وظل أثر ذلك إلى الإسلام. وهاهو ذا جرير يهجو نميريا بقوله:

فغض الطرف إنك من نُمير

فلا كعباً بلغت ولا كلاباً

مع أن كلاباً ونميراً كلاهما ينتمي إلى أصل واحد هو عامر ابن صعصعة الهوازني

ما كان الإسلام دين تعصب أو جنسية. فقد كان الناس فيه سواسية كأسنان المشط. ولم يكن

ص: 28

بين المسلمين فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وقد حافظ الخلفاء الراشدون على هذه المبادئ السامية، فلم ينظروا إلى الشعوب المفتوحة نظرة الغالب القوي، ولم يحطوا من شأن الأجناس التي خضعت لهم. بل لقد كان أول الشروط التي قدمها عمر بن العاص إلى مقوقس مصر هو (إما دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وعليكم ما علينا). غير أن النعرة العصبية القديمة بُعثت في عهد الأمويين الذين اعتقدوا أن العرب هم أفضل الأجناس، وأن لغتهم أرقى اللغات. ونظروا إلى الموالي وأجناسهم نظرة احتقار وازدراء. وكانت هذه سياسة خاطئة أثارت حروباً جدلية شعواء، وكرهت الأجناس غير العربية - ولا سيما الفرس - في حكم الأمويين فأخذوا يتلمسون الفرص للثورة والخروج على الولاة، فانضموا إلى الخوارج والشيعة، وآزروا دعاة بني العباس، فكان لهم النصر

ولم تكن هذه المفاضلة الجنسية بين العرب والفرس فقط، بل كانت بين العرب أنفسهم عدنايين وقحطانيين في الشرق وفي الأندلس. وكانت اليقظة الشعوبية (في بلاد فارس) أيام حكم العباسين، هي التي سهلت وجود تلك الدويلات التي مهدت لزوال الخلافة

وقد أسرف الشعوبيون في الحط من شأن العرب، فرموهم بالتأخر، وأنه لم يكن لهم ملك يجمع سوادهم، ويضم قاصيهم، وينهى سفيههم. ولم تكن لهم قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركهم فيه العجم. ورماهم ابن خلدون بالتوحش وتخريب العامر، واستباحة أموال الناس نهباً ومغرماً

وفي أوربا استمرت الحروب الجنسية أثناء القرون الوسطى بين القوط والوندال، وبين الجرمان والغال، وبين السكسون والكلت، وبين الاسكتلنديين والإنجليز. وهذه الحروب وإن كان بعضها للغزو والغنيمة إلا أن الجنسية كانت تشعلها، لأن الجنسية أو العصبية كانت دائماً العامل المشترك بين أفراد الفريقين المتحاربين

وفي أوربا الحديثة شاعت نظرية الجنس الأبيض والأجناس الملونة واعتقد العامة - والمتعلمون أيضاً - أن الأجناس الملونة أحط من الجنس الأبيض في الذكاء والاستعداد الفطري للانتاج، والاستعداد لتلقي الحضارة. ولعل الذي ساعد على انتشار هذه النظرية الحقيقة الماثلة، وهي سيادة الجنس الأبيض الأجناس الملونة

وفي أمريكا - بلاد الديمقراطية - تجد الزنوج في ولايات الجنوب موضع احتقار

ص: 29

مواطنيهم البيض، وهذا بالرغم من تفوقهم في الزراعة والصناعة والرياضة

ثم ما هي تلك الحمى الجنسية الطائشة التي عبثت بعقول العلماء والساسة من النازيين فألقوا الكتب ووضعوا القوانين ليثبتوا أن الجنس الآري أو الجرماني هو أفضل الأجناس البشرية، وأن الشعوب السامية - وهي مهبط الوحي ومنبع العرفان - شعوب منحطة لا حضارة لها ولا فن؟

إن هذه الدعاوى المريضة بانحطاط بعض الأجناس وتفوق البعض الآخر، وما ترتب على ذلك من كرب وحرب، ومطاردة وعداء، وما كانت لتستند إلى دليل من العلم أو برهان من التجربة، اللهم إنها السياسة هي التي أحلت ذلك. والسياسة والعلم لا يتفقان. لأن العالم يحترم الحقائق لذاتها، فلا يحابي ولا يتأثر بغاية، فهو في أحكامه موضوعي بينما السياسي ذاتي يضحي بالحقائق العلمية في سبيل مبدئه وغايته. ولذلك لا يكون - ولن يكون - العالم سياسياً إلا إذا طلق العلم

وسنستأنف حكم السياسة السابق على الأجناس أمام قضاة العلم في المقالة القادمة إن شاء الله

(بخت الرضا - السودان)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 30

‌إرادة الطفل

لجان جاك روسو

ترجمة الأستاذ عبد الكريم الناصري

تكفلت في إحدى السنين بتربية طفل (شقي) تعود تنفيذ كل ما يضطرب في عقله الصغير من رغبات، وما يجول في قلبه البريء من أماني، كما تعود أن يحمل غيره على تنفيذها إن لم يستطع هو. وقد عرفت فيه تلك العادة منذ اليوم الأول لتكفلي تربيته، إذ أراد أن يجرب خلقي وذوقي ومجاملتي، فرأى أن ذلك لا يتم له إلا بمضايقتي وتكدير خاطري. وبينما أنا غارق في نومي في منتصف الليلة الأولى، إذا به يستيقظ من نومه ويجلس تحت سريره، ثم يلبس (الروب دي شامبر) ويدعوني، فنهضت وأشعلت الشمعة، وسألته عن أمره وماذا يريد، فلم يطلب شيئاً، ولم يبد سبباً لنهوضه؛ بل عاد إلى سريره واحتواه النوم بعد ربع ساعة، راضياً عن تجربته، مقتنعاً بحسن مجاملتي، مبتهجاً لقوته وسلطانه! وبعد يومين أعاد تلك التجربة بنفس النجاح، أما أنا فلم أبد أية إشارة إلى الضجر، أو علامة على نفاد الصبر، ولكني قلت له حين عانقني عند عودته إلى النوم:(اسمع يا صديقي الصغير. إن هذا حسن جداً منك، ولكن لا تكرره ثانية)

وقد أثارت هذه الكلمة فضوله وهيجت منه حب الاستطلاع وأراد أن يرى كيف أجرؤ على عصيان أوامره السامية. لذلك لم يفته في الليلة التالية أن ينهض في منتصفها ويدعوني. . سألته ماذا يريد. فأجاب إنه لا يستطيع أن ينام. فأبديت أسفي الشديد وسكت. ثم رجاني أن أشعل الشمعة، فاستوضحته السبب، وصمت. عندئذ هب يدور حول الغرفة راكضاً، صائحاً، مغنياً، ضاجاً صاخباً، قالباً المناضد والكراسي، كل ذلك لإزعاجي والانتقام مني. ومع ذلك، فقد نهضت بصمت وسكون، وأشعلت الشمعة، ثم تناولت صاحبي الظريف بيدي، وأدخلته حجرة له مجاورة لحجرتي وتركته هناك بدون ضوء، بعد أن أغلقت الباب عليه بالمفتاح؛ ورجعت إلى فراشي بدون أن أتفوه بكلمة واحدة. ولا حاجة إلى القول بأن الضجة لم تنقطع بسرعة، ولكني أصغيت - بعد هدوئها - فعلمت أنه يرتب فراشه ويستعد للنوم، فاطمئننت وهدأ روعي. ولما كان الصباح دخلت غرفته فرأيته مستلقياً على فراش صغير وغارقاً في نوم عميق

ص: 31

ولا تظن أن هذا الطاغية الصغير لم يكن يحسن من أنواع المشاغبة والمشاكسة إلا هذا النوع. كلا، ففي أية ساعة يحلو له الخروج فيها، يجب على المربي المسكين أن يكون مستعداً لاصطحابه - أو بالأحرى لمتابعته والجري وراءه - وكان يُعني عناية فائقة ويحتفل احتفالاً خاصاً باختيار الوقت الذي يكون فيه مربيه منهمكا في أعماله أشد الانهماك، كأنه يريد أن ينتقم منه على الراحة الذي اضطر في الليل إلى تركها له

. . . لذلك لم يفته في اليوم التالي أن يقطع على عملي ويطلب مني أن أصحبه، وأترك ما أنا فيه من عمل بمزيد السرعة. فرفضت، ولكن رفضي لم يزده إلا إلحاحاً وإصراراً. . .

وأخيراً قلت له: كلا! أفهم أني حين أنفذ إرادتك، فإنك تعلمني أن أنفذ إرادتي أيضاً. . . إني لا أريد الخروج! فأجابني على الفور: حسن! فإني خارج وحدي!

قلت: (كما تريد). . ورجعت إلى عملي متغافلاً عنه

. . . أخذ يلبس ملابسه مهموماً لأني لم أنهج سبيله وأسلك مسلكه. ولما انتهى من لبسها حياني تحية الخروج، فرددت التحية، وأراد أن ينذرني الإنذار الأخير، فأخبرني صارخاً بأنه ذاهب إلى آخر الدنيا. فأجبته بأني أتمنى له سفراً سعيداً وعوداً حميداً. . . عند ذاك ازدادت دهشته، وعظمت حيرته، واشتد ارتباكه، وطلب من خادمه أن يتبعه، ولكن الخادم - الذي كنت قد حذرته من مرافقته وتنفيذ أمره هذا - قال إنه لا يملك من الوقت ما يسمح له بمصاحبته، وإنه يراعي مصلحتي وينفذ أوامري قبل أن يعني بمصلحته وأوامره. . .

وكيف يعقل أن نترك طفلاً يخرج وحده وهو يعتقد أن الناس جميعاً مهتمون بأمره، حريصون على إرضائه، مستعدون لخدمته؛ ويظن أن السماء والأرض مكلفتان بصيانته وحمايته. لقد أخذ يشعر بضعفه ويحس بعجزه، ويفهم أنه وحيد وسط أناس لا يعرفونه، ولا يقدرونه، ولا يحفلون به. ويتمثل المخاطر التي سيلاقيها، والعقبات التي ستعترضه في طريقه. . . ومع ذلك فقط ظل يلح في الخروج

. . . نزل الدرج ببطء وذهول. ودخل الشارع، معزياً نفسه بأن ما قد يصيبه من سوء تقع مسئوليته عليّ. وبقيت أنا أراقبه وأتابع حركاته. وّما كاد يتقدم بضع خطوات حتى سمع أصواتاً تتحدث عنه وتصل إلى أذنيه عن يمين وعن شمال

- إلى أين يذهب هذا السيد الجميل وحده؟

ص: 32

- إنه تائه يا صديقي. أريد أن أرجو منه الدخول إلى بيتنا

- أنظر يا صاحبي إليه جيداً! ألا ترى أنه (شقي) طرد من بيت أبيه لشقاوته وعناده؟ دعه يذهب إلى حيث يشاء

- حسن! ليصحبه الله! إني خائف عليه من المصير!!. . . .

وما كاد سيدنا المتمرّد يسير ليلاً حتى التقى بطائشين في مثل سنة تقريباً، راحا يغيظانه وينهرانه ويضحكان منه. . . وهكذا، كلما تقدم وجد أصنافا من المربكات وضروباً من المعرقلات. . . لقد وضحت لديه قيمته عند الناس، وعلم أنه وحيدُ مهدوم الحماية محروم السند، ورأى سخرية الناس منه، واحتقارهم له، وأدرك مع الدهشة العظيمة أن عقدة كتفه الثمينة، وحاشية كمَّيْه الذهبية، لمن تنفعاه كثيراً أو قليلاً، ولم تحملا الناس على احترامه وتقديره، أو تضطرهم إلى مراعاة رتبته ومقامه!. . .

وكنت في أثناء ذلك قد أرسلت صديقاً لي لا يعرفه، ورجوته أن يتبعه على ألا يشعر به، فاقتفى أثره مدة، ثم استوقفه وراح يعظه، ويهوّل له خطورة عمله، ووقاحة فعلته، ووخامة عاقبته حتى لان وارتدع، وأحس بالخوف وشعر بالندم، ورجع إليّ مرتبكا مذهولاً خائر العزم مطأطئ الرأس تعلوه صفرةٌ وترهقه ذلة

ولكن يتمم أبوه الدرس، ويجعله قاسياً لا يُنسى، نزل في الدقيقة التي رجع فيها ابنه بحجة الخروج، والتقى به على الدرج؛ وأدرك الطفل أنه لا مناصَ من أن يقول من أين جاء، ولماذا لم أكن معه. . . لقد كان المسكين يود في تلك الدقيقة لو تغور به الأرض وتبتلعه، على أن يجيب على تلك الأسئلة المحرجة. . . ولكن أباه لم يطل في تعنيفه ولومه، بل قال له:(عندما تريد الخروج وحدك، أخبر مربيك. وإن عدت إلى فعلتك التي فعلت فإنك ظالمٌ نفسك - لأني سأعدّك لصاً حقيراً ولن أقبلك ولا أسمح لك بالدخول في بيتي!)

عبد الكريم الناصري

ص: 33

‌مسلمو رومانيا

للأستاذ يوسف ع. ولي شاه

مما يشرح صدر المسلم الناهض أنه إذا أطلق عنان تفكيره في مجال شئونه الاجتماعية يشعر بوجود أخ محبب إليه يجري في عروقه دم يحمل عقيدته؛ فإذا صح هذا الإطلاق يرى أمامه مسلمي العالم، ويبين هذا التخيل بوضوح كيفية انتشار الإسلام في كل بقاع الأرض

فمن نظر إلى خريطة القارة الأوربية مثلاً يلاحظ المسلمين في كل مكان فيها؛ ويرى من الإحصاء أن عددهم يزيد تدريجياً يسار الخط المستقيم الذي ينزل من فنلاندا مخترقاً أوربا الوسطى إلى قرية سنت نجير بأسبانيا

يسر المرء حينما يرى أن مسلمي أوربا قد شاركوا أهلها مدنيتهم وجروا معهم في حياتهم النافعة المتمدينة مع محافظتهم على أصول الإسلام وروح التعاليم الخاصة به. ولكنه يأسف من جهة أخرى، إلى حد كبير، حينما ترى قوماً يريدون أن يهدموا حقوقهم مكتسحين حرية الفرد والجماعة. هذه مسألة تختص بالإمبراطورية الروسية وسنتناول بحثها في دورها

ومن بين هؤلاء الذين رقوا إلى مستوى المدنية الأوربية مسلمو رومانيا الذي يقطنون في منطقة اسمها دوبروجه موضع النزاع طوال عصور التاريخ

لمحة جغرافية عنها

هذه المنطقة المزدهرة التي سكنها الأتراك المسلمون في رومانيا هي أحسن أرض وأوسع باب للحكومة الرومانية، فتحت مصراعيها للعالم الشرقي والغربي معاً، وهذه البقعة قلما يوجد لجمالها الطبيعي ضريب في جهة أخرى من أوربا، على حين أن الشرق لا يعلم عن جمالها كثيراً ولا قليلاً، وهي محاطة من ثلاث جهات بالماء، ومن الجهة الرابعة تتاخمها هضبة كوادري لاتر وغابتها، ومحاطة بمياه الدانوب التي تحمل تحيات البلاد التي تخترقها ابتداء منن منبعها الطبيعي في الغابة السوداء، ومغمورة بمياه الدانوب التي تكسوها هي والبحر معاً لباس الزينة الطبيعية، وتبدو كأنها نجمة نزلت ثم منطقت خصرها ترغب في استقبال كل غريب شحب لون وجهه

أما أهميتها لرومانيا فهي كأهمية جزيرة القريم للإمبراطورية الروسية، تجري بين عشبها

ص: 34

الطبيعي الأنهر الصغيرة التي تزيد البلاد جمالاً؛ وهي: طاش آولى، إسلاوا، تايتا، وتليتا. فيها البحيرات الخمس الكبيرة يجمعها مكان واحد مثل: رازيم، غولوويشا، إسمه يكا، سينوية، وكيثوك، وفيها أيضاً بحيرات أخرى: طامش آولى، مامايا، مانغاليا، تكير كول، وهذه الأخيرة بحيرة معدنية تستقبل كل عام عشرات الألوف من الأجانب المرضى يقصدونها للاستشفاء. . . يفصلها عن البحر ممر إيفرويا بلدة جديدة أنشئت على أحدث طراز بشاطئ البحر الأسود للاصطياف فيها

فيها أيضاً جزائر مثل جزائر شاربه له، بوكين، داله رسكا، إيفانه شت، ومه لينوو. أما أهم المدن التي تواجه الأمواج الهائجة للبحر الأسود فهي من الشمال: سولينا، سنت جورج، مامايا، كوستنجة، إيفوريا، طوزلا، منغاليا وبالجيق. ثم تنتهي حدود رومانيا جنوب بلدة ئه كره نه بحوالي ثلاث كيلات

الموارد الطبيعية للبلاد

يستخرج من أرضها الجير ومقره مرادخان وقانارا، والرخام والأحجار المتينة لتشييد الأبنية ومقرها مورفاتلار، طولجا، ماجين إغليتا وإيساقجة

الثروة الزراعية

هي منطقة سهلة معدة للزرع من أولها إلى آخرها، يساعدها المناخ، ككل مكان في أوربا الشرقية الجنوبية، على نمو جميع النباتات. وأكثر ما ينبت فيها من المزروعات القمح، الشعير، الشوفان، الذرة، الدخن، الخردل، الباقلاء، عباد الشمس، الدباء، البنجر، الجزر، الخيار، البطيخ، الشمام، البطاطس، وسائر أنواع الخضروات. ومن كثرة اعتناء السكان بهذه المنطقة قد حالت اليوم إلى حديقة بجانبها بلابل تطرب وتغني لجمالها. ليس هذا نتيجة العمل فقط، بل الفضل يرجع أيضاً إلى تربة هذه المنطقة لأنها ليست إلا امتداد التربة السوداء من سهول كه رسونه ي، جزيرة القريم وآسترخان في روسيا. هذه لتربة لها أكبر فضل في إنماء النباتات، لأنها تحتفظ بالمياه من فصل المطر إلى فصل الجفاف، وهذا الجفاف يعوض قلة المطر في هذا الفصل الأخير

أما الثروة النباتية فنجد الغابات ولا سيما في هضبة كواردي لاثر أي ده لي أرومان كما

ص: 35

يسميها الأتراك؛ ونجد الأشجار على اختلاف أنواعها والحشائش التي ترعاها الماشية في جميع أنحاء المنطقة

قيمة الثروة الاقتصادية: يستغل الشعب كل ثروتها، ويديرها ويتصرف فيها كما يشاء يستخرج من كل قسم في دوره مادة أخرى وتباع بثمن يساوي ثلاثة أضعاف ثمن أصله. وتجار البلاد يصدرون كل سنة ملايين من الأطنان إلى خارج القطر من ميناء كوستنجه، لأنه تخزن فيها كل ما يحمل إليها القطار من داخل البلاد والبواخر من الدانوب ومن الأنهر الأخرى

هذه المنطقة التي تلخص البلاد الرومانية في نفسها تبلغ مساحتها 23. 285 كيلومتراً مربعاً، وهي مقسمة إلى شطرين قديم وجديد

وكل شطر من القديم والجديد في دوره مقسم إلى قسمين، أي سنجافين

فدوبروجه القديمة مثلاً لها سنجافان: الأول طولجا، والثاني كوستنجه، وهما في الشمال. ودويروجه الجديدة أيضاً لها سنجافات ولكنهما في الجنوب، الأول كاليافرا، والثاني دوروستور. ومراكز هؤلاء السناجق كالآتي: طولجا مركزه مدينة طولجا، وكوستنجه مركزه مدينة كوستنجة، وكاليافرا مركزه مدينة بازارجعة، ودوروستور مركزه مدينة سلسترة. وهذه مدينة محصنة لها تاريخ مجيد مع الأتراك إذ اشتركوا فيها والجنود المصريون في الدفاع عن هجوم الروسيين عليها

(يتبع)

يوسف. ع. ولي شاه

ص: 36

‌الحرب في أسبوع

للأستاذ فوزي الشتوي

ماذا بقي لفرنسا

من كان يصدق أن فرنسا تقبل مثل هذه الشروط؟ ومن كان يصدق أن وزارة المارشال بتان العسكرية تعتبر مثل هذه الشروط التي فرضتها ألمانيا على فرنسا شروط صلح شريف؟ ولعله يتيسر لنا أن نقدر فداحة النكبة الفرنسية إذا فرضنا أسوأ الفروض، ثم قارنا بين ذلك الفرض السيئ وبين ما قبلته فرنسا الآن

وأكبر النكبات القومية إطلاقاً هي احتلال أرض الدولة، ونزع السلطة من يد حكومتها. وهذا ما فعلته ألمانيا مع فرنسا. ألم تحتل ثلثي أرضها وجميع شواطئها الغربية

فماذا بقي لفرنسا؟ أهي تلك الرقعة المحدودة المحاطة بجيوش الاحتلال من جميع جهاتها؟ أم هي السلطة التي منحت لوزرائها على أن يعملوا تحت المراقبة الألمانية النازية؟ أم هي المستعمرات التي فصلت عن أمها ولم يبق بينهما من رباط؟ أم هي القيود التي فرضت على الصناعة والتجارة والحرية في القول والعمل؟ ماذا بقي لفرنسا إلا موجة الحزن والأسى وندب الماضي المجيد والكرامة المهدرة؟

أنصار الهزيمة

لقد بكي الكتاب فرنسا ممثلة في باريس ما وسعهم البكاء، وشكوا إلى العالم ما أصاب عاصمة النور والحرية ما وسعتهم الشكوى، ولسنا أنصار هزيمة، ولا شكوى، ولا أنين؛ ولكننا نتعلق بحبال قوية من الأمل، لا بخيوط ضعيفة من الرجاء؛ فلم تضع الحرب أوزارها، ولم يمل العدو شروطه بعد، بل إن الأمر ما زال تحت حكم الجنيه الذهبي، والعزيمة الصادقة

وإذا كانت دعوة أنصار الهزيمة قد طغت على بتان وفيجان ودارلان، فألقوا بسلاحهم، فما زالت دعوة أنصار النصر تطغي إلى دي جول وبلانشار وتشرشل. فالأولون شيوخ من أبناء المدرسة القديمة التي حكم من عزمها الفشل القريب، والأخيرون من أبناء المدرسة الحديثة التي يقوي من عزمها ما تجد في متناول يدها من موارد هائلة تكفي لكسب النصر،

ص: 37

وما تجد في دمائها من قوة تحبب إليها الموت على حياة تخسر فيها شرف بلادها وكرامتها

وإذا كان الاحتلال مسلماً بأمره اليوم، ومفروضاً فيه أن يستمر إلى نهاية الحرب؛ فلسنا نجد مبرراً واحداً يتيح لوزارة بتان أن تتخلى عن القتال؛ اللهم إلا إذا كانت شهوة الحكم بضعة شهور، وهي شهوة لا تلبث أن تموت في نفوس أصحابها إذا انقضت ساعة الشهوة وأتت ساعة التفكير في المصير، ولا تلبث هذه الشهوة أيضاً أن تنقلب إلى ندم وتكفير، حيث لا ينفع ندم ولا تكفير

شهوة الحكم

ونستطيع أن ندرك أثر هذه الشهوة في نفس بتان إذا عدنا إلى ماضيه. فقد حصل على مجد كبير، وتمتع باحترام لم يتمتع به فرنسي آخر، فهو البطل الذي احتفظ بفردان في أيدي الفرنسيين طول حرب سنة 1914 فكانت أخطر نتوء في صفوف الجيوش الألمانية، وكانت بمثابة المركز الذي أفسد عليهم سيطرتهم على خطوط مواصلاتهم. فهو رجل عظيم حقاً، ولكن عظمته عسكرية فحسب، فلم يتقلد مناصب الحكم، ولم يكن رئيس وزارة مرة واحدة. أفلا يتوق مثل هذا الشخص إلى أن يربط عظمته العسكرية بعظمة سياسية، ولا سيما وهو في آخر أيامه؟ أولا يتوق مثل هذا الرجل أيضاً إلى تخليد اسمه باشتراكه في هذا الحادث الفريد في تاريخ فرنسا؟ وهو تخليد مؤلم ولكن له مبرراته وخصوصاً في نظر الشيوخ فقد أصيبت الجيوش الفرنسية بخسائر فادحة، وانقضى الأمل في الدفاع عن فرنسا

وهو عذر كاف يرضي الشيوخ. ولكننا واثقون أن بيتان سنة 1914 لو وضع في مكان بيتان سنة 1940 لما قبل هذه الشروط.

فالعزيمة التي ثبتت أربع سنوات وهي ترى بوادر الانحلال من حولها، والعزيمة التي قضت على مائة ألف ألماني في سنة 1914 ترفض رفضا باتا أن تخضع لانحلال يصيبها في ثلاثة أسابيع. ولكن هي الشيخوخة البالية، وحياة الرفاهية التي قضاها بتان في العشرين سنة الماضية بعيداً عن الحياة العسكرية جعلتاه ينظر إلى الموقف الحالي بمناظره الأسود

الرأي العام الأمريكي

ص: 38

فالإمبراطورية الفرنسية غنية وما زالت سليمة، والإمبراطورية البريطانية غنية وما زالت سليمة، وأمريكا غنية، وإذا لم تدخل الحرب اليوم فستدخلها غداً؛ فإعداد الشعب الأمريكي للحرب يحتاج إلى سنوات، والشعب الأمريكي الآن مستعد لقبول فكرة الحرب أكثر منه في سنة 1914، وهو لم يدخل الحرب الماضية عقب هزائم الحلفاء الأولى، بل استمر بعيداً عن ميدان القتال سنتين تقريباً، فهل انقضت هذه الفترة ليقطع بتان الأمل؟

والمعروف أن نقطة الضعف في المحور الديكتاتوري هي إيطاليا فإن قوتها العسكرية، ومعداتها الحربية، وصبر جنودها على متاعب القتال، وانكشاف سواحلها لا تقاس بمثلها عند الألمان، ولهذا كان من المقدر أن تصاب قواتها بخسائر فادحة تقضي على مقاومتها نهائياً وترغمها على التخلي عن ميدان القتال

ما خسرته الحرب

أدى تسليم فرنسا إلى تغيير كبير في الموقف، فلو استمرت في الحرب لنقلت قواتها البرية إلى ممتلكاتها في شمال أفريقيا، وهي تقدر بالملايين مما يسهل الاستيلاء على ليبيا وحصر إيطاليا في الشمال وألمانيا في أوربا، وتنفذ سياسة الحصر البحري والمناوشات الحربية البرية والجوية لكما سنحت الظروف إلى أن تنهار قوات المحور؛ وعلى العموم لم يؤد تسليمها إلى تغيير خطير. فقد أعلنت الممتلكات الفرنسية تصميمها على القتال، مخالفة بذلك قرار حكومتها، فإن الجندي الفرنسي يأبى التسليم بمثل هذه الشروط ولا سيما إذا كانت قواته سليمة كما هي الحال في تونس ومراكش وسوريا ولبنان

وخسرت إنجلترا بقبول فرنسا لشروط الصلح شيئاً واحداً، وهو القوات المحاربة الموجودة في فرنسا، ولكن المستعمرات لا تلبث أن تعد قوات غيرها، وقد أعلنت بريطانيا استعدادها لإمدادها بالعتاد الحربي اللازم، ومن مصلحة إنجلترا أن تضم إليها في القتال هذه البقاع من الأرض لتحتفظ بمركزها العسكري في البحر الأبيض المتوسط، فإن الشاطئ الأفريقي في غربه في يد الممتلكات الفرنسية، وضمان موالاته لبريطانيا له أهميته لثلاثة أسباب

أولاً - الاستناد إلى قواعده في تونس والجزائر

ثانيا ً - ضمان حياد طنجة، وهي البقعة المواجهة لجبل طارق وقد احتلتها أسبانيا في المدة

ص: 39

الأخيرة بالاتفاق مع فرنسا، وكانت من قبل بقعة محايدة

ثالثاً - تونس، ولها أهمية ممتازة لأن استيلاء إيطاليا عليها معناه شطر البحر الأبيض إلى قسمين، وبالتالي منع المواصلات بين شرق البحر وغربه، أو منع الصلة بين قنال السويس وجبل طارق

الأسطول البحري

ويلي المستعمرات الفرنسية في الأهمية الأسطول البحري الفرنسي، ولم ترد إلينا حتى الآن أخبار عما حل به؛ وإن كان الجنرال دي جول صرح بأنه تلقى وعداً من قادته بمواصلة القتال. والمعروف أن هذا الأسطول لم يكن وحيداً، بل كان موزعاً في عدة أماكن مع الأسطول البريطاني؛ فإذا حاولت قطعه الانسحاب وتنفيذ أوامر حكومة بوردو؛ فإن الأسطول البريطاني يتولى إغراقها حتى لا تكون تحت سيطرة الأعداء

وفي اعتقادنا أن ربابنته لا يقلون وطنية عن الألمان، فإذا كان الألمان قد فضلوا إغراق أسطولهم في حياة سكابافلوا في سنة 1914، عندما شعروا بأنه سيسلم إلى إنجلترا، فإن الفرنسيين لن يتركوه غنيمة سهلة لأعدائهم. ولا شك أنهم يفضلون القتال إلى جوار حلفائهم الإنجليز على إغراقه أو تسليمه؛ ولهذا فمن السهل أن ندرك أنه سينضم إلى الأسطول البريطاني في دفاعه عن قضية الديمقراطية، ولإعادة حرية فرنسا إليها، فإن نصر بريطانيا الآن هو الأمل الوحيد للفرنسيين الأحرار

والأسطول الفرنسي أسطول قوي حديث تمتاز وحداته بسرعتها، كما يمتاز رجاله بفهم دقيق لفنون القتال البحرية. به مدرعات خفيفة لا يوجد ما يماثلها في أساطيل الدول الأخرى، وبه غواصات ضخمة تستطيع تحمل السير في المحيطات؛ ويكفي أن نذكر أن حمولة الغواصة سيركون مثلاً 2880 طناً بينما الغواصات الأخرى قد لا تصل إلى نصف هذه الحمولة

ويتكون الأسطول الفرنسي من القطع الآتية:

سفن قتال. . . . . . . . . . . .

7

حاملات طائرات. . . . . . . . .

ص: 40

1

مدرعات ثقيلة. . . . . . . . .

7

مدرعات خفيفة. . . . . . . . .

43

مدمرات. . . . . . . . . . . .

69

غواصات. . . . . . . . . . . .

87

المجموع. . . . . . . . . . . .

214

وعد بالنقض

وأشرنا في مقالنا الماضي إلى المناورة البارعة التي أذاعتها الحكومة البريطانية حينما أعلنت استعدادها لاتحاد الجمهوريتين البريطانية والفرنسية، وقد أنتجت هذه المناورة، فلم يتيسر لمندوبي هتلر أن يعلنوا فرنسا بعزمهم على الاستيلاء على الأسطول الفرنسي، بل اكتفوا بإعلان تجريده من السلاح، كما أعلنوا أنهم سيتركون بعض قطعه للدفاع عن المستعمرات الفرنسية

وبديهي من تتبع الوعود والاتفاقات النازية أن هذا الكلام لا يتجاوز الورق الذي سطر عليه، ولكن الغرض الأساسي منه هو استدراج هذه الوحدات إلى مناطق السيطرة الدكتاتورية، فإذا أصبح في متناول يدهم تلغى قصاصة الورق ويشترك الأسطول في الأعمال الحربية الدكتاتورية، فإن ألمانيا وإيطاليا في أشد الحاجة إلى مثل هذا الأسطول لتعزيز قوتهم البحرية، وليس من المعقول أن تهددهم بريطانيا بأسطولها ويكون تحت سيطرتهم أسطول يتركونه تنفيذاً لاتفاق لا يوجد ما يرغمهم على تنفيذه، ولا سيما أن سوابق هتلر تدل على أنه إذا وعد اليوم وعداً ينقضه غداً ويمكننا أن نرى في شروط الهدنة نفسها بوادر هذا النقض فهي تقول في المادتين الثامنة والتاسعة: إن الأسطول

ص: 41

يستخدم في الرقابة الساحلية والتقاط الألغام.

ومعنى هذا عسكرياً أن الأسطول الفرنسي يستخدم في الأعمال الحربية لسببين:

1 -

إن شواطئ فرنسا كلها في أيدي الألمان، فهو في هذه الحالة يدافع عن قواعد ألمانية من حق بريطانيا ضربها ومن واجب الأسطول الدفاع عنها

2 -

تتجاوز الرقابة الساحلية الأعمال الإقليمية لأن أحد أركانها مراقبة حركات القوات المعادية وتدميرها كلما سنحت الظروف.

وهذا يفسر أن ألمانيا وضعت شروطاً مطاطة تبيح لها استخدام الأسطول على أوسع صورة ممكنة.

الأسطول الجوي

ننتقل بعد هذا إلى أداة قتال أخرى يسهل نقلها، وهي الأسطول الجوي الفرنسي. فمن الراجح أن كثيراً من أسرابه ستغادر قواعدها للانضمام إلى قوات بريطانيا، ولا نكون مغالين إذا قلنا إن بعضها قد غادر مطاراته فعلاً. فإن تمرد الضباط الفرنسيين على قرارات حكومة بوردو شمل جميع القوات والساسة وتناول المسيو رينو رئيس الوزراء السابق مما لا يدع مجالاً للشك أن كثيرين تبعوه مقتنعين بصحة رأيه

وفي شمال أفريقيا؟!

ويجد بنا ألا نختم هذا المقال قبل أن نقول رأينا عن الموقف العسكري في شمال أفريقيا، فهو موقف يستدعي التفكير. فالوعود الدكتاتورية لا يحدها اتفاق ولا قانون، وأحلام موسوليني بالإمبراطورية الرومانية حية زادتها الانتصارات الأخيرة قوة، فإذا كانت حركاته العسكرية في أفريقيا نائمة الآن، فلسببين:

أولهما: ضعف استعدادها في ليبيا بسبب اشتغالها في الحرب في أوربا، ووجود خمائر العرب المتمردين في ليبيا

ثانيهما: حر الصيف وطول الصحراء، وخلوها من الماء مع شدة الحاجة إليها لري عطش الجنود، وكثرة المقادير اللازمة لري هذا العطش في الصيف عنه في الشتاء

فإذا زال هذان السببان فلن نلبث أن نرى الحركات على أشدها في شمال أفريقيا مستندة

ص: 42

إلى قواعد إيطاليا في ليبيا. وهذان السببان لا يلبثان أن يزولا بزوال الصيف وقدوم الشتاء

فقد خلا الميدان الأوربي من القتال، فيسعى الأسطول الإيطالي لنقل القوات الألمانية والإيطالية إلى ليبيا بتلك الأعداد الكبيرة والمعدات الهائلة.

وطبعاً يحرص الأسطول البريطاني على عرقلة هذه الصلات، ومنع وصول القوات إلى ليبيا

فإذا تيسر لقوات الحلفاء الاستيلاء على ليبيا قبل قدوم الشتاء فإن الموقف العسكري في شمال أفريقيا يصبح مضموناً ولا يقلق الناس إلا إغارات الطائرات وهي كما قلنا لا توصل إلى نصر عسكري حاسم.

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 43

‌رسالة الشعر

أنشودة

للأستاذ خليل شيبوب

سَكَنتْ ما بين جفنيكِ السماءْ

وَكَسَتْ خدَّيكِ أنوار الشفقْ

فإذا وجهُك رفَّافُ الضياءْ

بُهِتَ القلبُ إليه وَخَفَقْ

راعَ قلبي الحزينْ

فرطُ هذا الحنينْ

آه لو تعلمينْ

حسنُكِ المُبْدَعُ من سحرٍ ونورْ

عطَّرَ الدنيا وحلاَّها ليا

فإذا غيرُ الهوى فيها غرورْ

وسوى حسِنكِ يبدو داجيا

هُوَ لحنُ السنا

أنشدته المنى

فسبي الأعينا

أنصِتي فالليلُ يهفو عاطراً

ويموجُ الصمتُ فيه والصدى

واسمعي رفرفةَ القلبِ به

طائراُ بالدمعِ غنَّى وشدا

خافقاً في الظلامْ

حائراً متهامْ

يكتوي بالغرامْ

كلُّ من يهوى سوى قلبي يرى

في الورى معبودةً يألفُها

فتعالَيْ إِنَّ لي أُمنيةً

أَتُرَى قلبُكِ لا يعرفها

أنتِ روحي والرجاءْ

أنتِ دائي والدَّواءْ

وشقائي والهناءْ

إيه يا مُنيةَ عمري حقِّقِي

مرَّةً في العمر لي حُلْمَ الحياه

آه من عينيكِ كم قطَّعتا

مهجتي، أوَّاهُ من عينيكِ آه

ص: 44

سأَموت. . . اسلَمِي

فاسمعِي وافَهمِي

وانظُري وارحمي

خليل شيبوب

ص: 45

‌بين عهدين

للأديب فؤاد بليبل

يا زَمانَ الهوَى وعهدَ الوِصالِ

مَنْ مُعِيدٌ تلكَ الليالي الْخَوالي

حينَ كانَ الفُؤَادُ حُرَّا طَليقاً

نَاعِمَ البالِ خاليَ الْبِلْبِالِ

طاَئِرهٌ وكْرُهُ على كلِّ غُصْنِ

وَهَوَاهُ مِل الرُّبى والتِّلال

غَيْرُ وَقْفٍ عَلَى غَرامِ وحِيدٍ

أوْ أليفٍ فرْدٍ وَحُبٍّ حَلَال

أوْ مِثالٍ مِنَ الجمالِ فَريدٍ

فَلَهُ في الجمالِ ألفُ مِثال

شاِعرٌ هامَ بالمحاسِنِ حتى

باتَ في الوَجْدِ مَضْرِبَ الأمثال

يَنْشَدَ الحُسْنَ حَيْثُ لاحَ لِعَيْنَي

هِ أفي البِيدِ أو أعالي بالْجِبال

يتصدَّى لهُ ولو صِنَ بالبِي

ضِ سناهُ وَحُفْ بالأهوال

يتصدَّى لهُ على كلِّ صَدْرٍ

كاعِب النهدِ غيْر سَهْلِ المنال

وعلى كلِّ مَبْسِم يَشتهيهِ

أوْ قَوامٍ مُرَنَّحٍ مَيَّال

سابحٌ في الفضاء يَمْرَحُ زَهْواً

بين حلٍٍّ على الهوى وارتحال

يتغنَّى على الأراكِ طَرُوباً

مَرِحَ النَّفْسِ مُطمَئِنَّ البال

هَمُّهُ في الْحَيَاةِ أن يَطْرَحَ اله

مَّ بعيداً لِعابدي الأموال

مُسْتَخِفَّا بالْعَيْشِ جدَّ قَنُوعٍ

فَهْوَ في عُسْرِهْ سَعيدُ الحال

يَشْتَكِي الفَقْرَ والكَفَافَ سِواهُ

وَهْوَ بالفقرِ والكَفَافِ يُغالي

تمْلِكُ الأُفْقَ والنُّجُومَ يَداهُ

فلِماَذا يَشْكُو مِنَ الإقلال؟

كلُّ ما في الوُجودِ يَدْعُوهُ لِلْصَفْ

وِ وَيَحْدُو على الهوى والوصال

فَجَمالُ الرَّبيعِ والزّهْوُ والدفْ

ءُ وسِحْرُ الأسْحَارِ والآصال

وخريرُ الغُدْرِانِ وَهْيَ شَوَادٍ

واعْتناقُ الأدْوَاحِ والأدْغال

كلُّ ما في الوُجُودِ مِلْكُ يَدَيْهِ

مِنْ جَمَالٍ وَرِقَّةٍ وَكَمَال

فَلِمَنْ هذه النُّجومُ الدَّراري؟

وَلِمَنْ تِلْكُمُ الشُّمُوسُ اللآلي؟

وَلِمَنْ هذه الوِهادُ الزّواهي؟

وَلِمَنْ تِلْكُمُ الجبالُ العَوَالي؟

وَلِمَنْ هذه السَّواقي السَّواقي

دافِقَاتٍ بالسَّائغ السَّلسال؟

ص: 46

وَلِمَنْ ذلك الفَضا المُتَرَامي=وَمُحَيَّا الضحَى وَوَجْهُ الهلال؟

وَلِمَنْ هذه النَّسَائمُ تَسْري

سَرَيانَ الْحَياةِ في الأوْصال؟

وَلِمَنْ هذه الطُّيورُ الشَّوادي؟

كلُّ هذا لهُ فَكَيْفَ يُبالي!

هكذا كان في عهود صِبَاهُ

ذَا خِلالِ أَعْجِبْ بها من خلال

ذهبىٌّ الأحلامِ غيرُ جَزُوعٍ

رَابِطُ الْجَأشِ عبقريُّ الخَيَال

كلُّ يوْمٍ لهُ غَرَامٌ جَدِيدٌ

وَجُنُونٌ بِبَارِقٍ مِنْ جَمَال

وَفَضَاءٌ مِنَ الأمانِيِّ عَذْبٌ

يَتلَاقى فيه الهدَى بالضْلَالِ

وَعُهُودٌ مِنَ الْهَوَي خالداتٌ

وَلَيالٍ أَحْبِبْ بها من ليال

وَمَجَالٌ مِنَ الْمُجُونِ ظَرِيفٌ

أين منه بَهَاءُ كلَّ مَجَال

وَرَنِينُ الأوْتَارِ تَحْسبُهُ السَّح

ْرَ، وَسِرْبُ الْمَهَا وَوَحْيُ الدَّلال

وَنُزُولٌ في كلَّ يومٍ برَوْضٍ

عَطِرِ الزْهرِ سُنْدُسيّ الظِّلال

وَفُؤاد بما يكنُّ سعيدٌ

صادقُ الوَجْدِ باسِمُ الآمال

واصْطِحَابُ الكِعَابِ مِن كل خَوْدٍ

جَمَّةِ الُّلطفِ مِنْ ذَوَاتِ الْحِجَال

يتناقلْنَ شِعْرَهُ هَزِجَاتٍ

هَزَجَ الوُرْقِ في ظِلَالِ الدَّوّالي

وَكؤوسُ الطِّلَا تُدَارُ عَلَيْناَ

مُشْرِقَاتٍ بالْبَابِلِيِّ الزُّلَال

وَعُيُونٌ صَوَامِتٌ نَاطِقَاتٌ

وَقُدُودٌ مَيَّاسَةٌ في اعْتِدَال

وَنُهُودٌ وَلَا تَسَلْ عَنْ جَنَاها

مُثْقلاتٌ بالْحُسْنِ غيرُ ثِقاَل

ذَاكَ عَهْدٌ مِنَ الشبابِ تَوَلَّى

لَيْتَهُ لَم يكنْ رَهِينَ زَوَال

وَفَتىً صِيغَ من شُعَاعٍ ونُورٍ

فبَغَى، فاغتَدَى من الصَّلْصَال

وإذا بي قد اسْتَحَلْتُ إلى غَيْ

رِي وَجُرِّدْتُ مِنْ قَدِيمِ خِلَالي

أنكَرَتْني نفسي وَأَنكَرْتُ ما بي

مِنْ جَفَاء وَغِلْظَةٍ وَاخْتِيَال

لَم أَعُدْ ذَلِكَ الْقَنُوعَ عَلَى الْحُ

بِّ ولا ذلكَ الطَّرُبَ الخالي

وإذا بي وَقَدْ غدوت غَرِيباً

عَن شُعُوري وعن رَقيق خِصَالي

وإذا المالُ لا يُعِيدُ قُنُوعي

مِثْلَمَا كان أو يزيلُ مَلالي

وإذا الدَّهرُ لا يردُّ صفَائِي

وانقيادي لِصَرْفِهِ وَامْتِثاَلي

ص: 47

وإذا الْكَسْبُ لا يُخَفِّفُ مَا بي

وإذا الْيُسْرُ لا يُحَقِّقُ فالي

وإذا النهرُ لا يَبُلُّ غَلِيلي

لا ولا الكونُ كله لو غَدا لي

وإذا الْهَّمُّ يَحْتَوِيني وَيَأبَي

طَمَعي الجمُّ أَنْ يَفُكَّ عقالي

وإذا الرَّوْضُ قد تَعَرَّى مِنَ الْحُ

سْنِ فلا يرتدي سِوَى الأسْمَال

وإذا الفَجْرُ بَم يَعُدْ فيه ما كن

تُ أَرَاهُ مِنْ رَوْعَةٍ وَجَمَال

وإذا الأُفقُ ضَيِّقٌ مُكْفَهِرٌّ

وإذا البدْرُ شَاحِبٌ في هُزَال

وإذا الزهرُ والخمائِلُ وَالوُرْ

قُ تَنَكَّرْنَ لِلْفُوّادِ السَّالي

وإذا الكونُ خِسَّةٌ وَرِياءُ

وَمَيَادِينُ شَهْوَةٍ وَاحْتِيَال

وإذا لم يَعُدْ يُشّنِّفُ سَمْعي

مِنْ غِنَاء سِوى رنينِ (الرِّيال)

وإذا بي وقد رجعتُ إلى الطي

نِ وَأَصْبَحْتُ مِثلَ باقي الرجال

حَدَّثُوناَ عَنِ الزّواجِ حَدِيثاَ

حَسَنَ السَّبْكِ شَائقَ الأقْوال

فَأُخِذناَ بِبَارِقٍ من سَناهُ

وَسُحِرْنَا بِمَنْطِقٍ خَتِّال

وَبُهِرْناَ بِمَظْهَرٍ مِنْهُ عَذبٍ

وَمُنِينا بِمَخْبَرٍ قتَّال

فَوَقَعْناَ فيما خَشِينا وكنَّا

عَنْ مَراميهِ في غِنّى واعتزال

فاضطُرِرْنا إلى الخضُوع وَبُؤْناَ

مِنْهُ بالهمِّ والأسَى والنَّكال

قَدْ طَمِعْنَا في كلِّ شيءِ رَخيصٍ

فَفُجِعْناَ بكلِّ شيءِ غال

(دار الأهرام)

فؤاد بليبل

ص: 48

‌رسالة الفن

بواطن وظواهر

. . . وعندنا فنانات أيضاً

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

لا شك في أن المرأة إذا أخلصت للفن سادت فيه، ولكن المرأة تدخر فنها دائماً لنفسها، فهو سلاحها في الحياة لا تلقيه للناس لأنه لا سلاح لها غيره. ولكن الحياة ترغم بعض النساء على الفن، فمن رضى الله عنها عندئذ أخلصت لفنها وأطلقت نفسها فيه فسمت، وإلا فهي مذبذبة بين الفن وحياة الواقع، فهي ككل من يحترف حرفة يأكل منها الرزق حلالاً وإن كان يرجو النجاة منها. . .

وفي مصر - كما في كل بلد - كثيرات من محترفات الفن وإلى جانب هؤلاء قليلات من المخلصات

السيدة منيرة المهدية

حرفتها الغناء وفنها التمثيل. وأستطيع أن أقول بلا تحفظ إنها الممثلة الأولى في مصر. وليس عجيباً أن تكون كذلك، فقد قضت منيرة زمناً كانت فيه الغادة المصرية الأولى،

وكان سعيداً من يحظى منها بتحية، ومحسوداً من تناجيه بكلمة راضية. ولم يكن جمهور منيرة من التلاميذ ولا الصبيان، وإنما كان من كبار الناس الظاهرين في البلد، الناجحين في أعمالهم المفروضة أشخاصهم على الشعب. وكان على منيرة أن تسوس جمهورها ومن وراء جمهورها من أفراد الشعب، وكان عليها أن تكسب رضاءهم جميعاً، وعطفهم جميعاً، وإعجابهم وتحمسهم. ولم تكن منيرة لتستطيع هذا إلا بالتمثيل، فهو الذي كان يمكنها من أن تضحك للنكتة السخيفة إذا ألقاها باشا من الباشوات جبراً لخاطره وستراً لسخفه، والتمثيل هو الذي كان يمكنها من أن تلتوي تدللاً على مثر من الأثرياء إذا هجر صالتها أو مسرحها زمناً فلم يتردد ولم ينفق في البار ما يقوم بنفقات الفن. . . فإذا هو بعد التواءتها مقيم في البار، آناء الليل وأطراف النهار. . . يريد أن يسترضيها

منيرة ممثلة هائلة: وهي مغنية ممتازة إذا غنت، ولكنها لا تغني كلما غنت

ص: 49

سمعتها يوماً في رواية (الغندورة)، وكانت تنشد اللحن الأخير من الحان الرواية، وقد عرف الجمهور أن هذا اللحن هو اللحن الأخير فأخذ الناس يتسللون مغادرين المسرح، ووقف بعضهم يستمع اللحن متهيئاً للخروج بعد الفراغ منه ومتحرجاً من الخروج قبل الفراغ منه. . . وإذا بمنيرة (تنسجم) فجلس الذين كانوا واقفين، وعاد الذين كانوا يتسللون خارجين، وفاضت في الحضور جميعاً نشوة من الطرب نفثتها منيرة سحراً. . . وكنت أنا من أشد المنتشين بغنائها، وكنت أحملق فيها وأنا أسمعها فكنت أراها كأنما هي سكرى تترنح في ثبات رهيب. . . إي وحياة تلك الليلة كان ثباتها في سكرتها تلك رهيباً. . .

الآنسة أن كلثوم

فتاة حادة النفس كأنها فتى، هبطوا بها من الريف إلى القاهرة ليستغلوا مواهبها، فتيقظ عقلها، والتهب تفكيرها رغبة منها في المحافظة على كيانها، وفي تحقيق أحلامها، وكان من آثار هذا أن اختلق عقلها سوء الظن بالناس دفاعاً منها عن مجدها واسمها ونفسها، وصاحَبَ هذا شيء من الحرص الشديد على مالها، كما داخلها بعد ذلك شيء من الاعتداد بمكانتها

هي فنانة بالفطرة، تحب الجمال على نحو ما يحبه الرجال الفنانون، وهي تنحدر في ذلك إلى ما فوق نزعات المرأة حتى لترتج ارتياحاً وانبهاراً إذا رأت فتاة حسناء. وليست النساء هكذا، فالمرأة تغار من المرأة، ولكن أم كلثوم قد قتل شغفها بالحسن هذه الغيرة في نفسها. . .

مغنية شجاعة لا تتهيب من ألحان القصبجي على ما فيها من قفزات وتسلقات وانحدارات وتعقيدات جبارة

وهي مغنية طيعة، إذا ساقها فنان فياض مثل زكريا أحمد، أدت له بصوتها الممتاز الكامل كل ما يجول في خاطره من صوت بكل ما يضطرم في نفسه من إحساس وعاطفة

ولكنها مغنية مستخفة بكل شيء، إلا صوتها، فكم أذاعت على الناس أخيراً من ألحان ليس فيها إلا زعيق وصراخ، معتمدة في ذلك على أن الناس يسمعونها حتى إذا قالت (ريان يا فجل)!

حرام عليها أن تفعل هذا، ولكنها تفعله لأن بعض الملحنين غال، وبعضهم رخيص،

ص: 50

والرخيص يسد أحياناً مسد الغالي، وأين هم الناقدون والذين يفهمون؟

وهي أيضاً ممثلة خفيفة الروح، غنية المشاعر، مجتهدة الحس. . . وهي أيضاً ناقدة سريعة الفهم صادقة التعبير عما تفهمه. . . ولها استعداد جامح نحو الفلسفة والتعمق في التفكير، ولكن الظروف لم تهيئ لها من يعاونها في هذا الاتجاه. وهي تشعر بتعطشها إلى هذه الناحية، فتقرأ وتحفظ وتطلع. . . ولكن قراءتها وحفظها واطلاعها أشتات، وإن كثرت، فلا رابط بينها

على أي حال. إنها فنانة مشبعة

الآنسة سهير القلماوي

صورة نسوية جامعية للأستاذ محمد عبد الوهاب: هو له فن، وهي لها فن؛ ولكن لكل منهما نفساً تشبه نفس صاحبه، وروحاً تشبه روحه

الآنسة (مي)

لم أرها إلا مرة واحدة، سمعتها فيها تلقي محاضرة بالفرنسية عن الشرق والغرب، وأنا محصولي من الفرنسية تافه، ولكني مع هذا كنت أفهم ما كانت تقول الآنسة مي، ولم يكن هذا ليحدث إلا لأنها كانت تقول كلاماً خارجاً من أعماق نفسها، فهو إذا قيل لم يكن اللسان وحده هو الذي ينطق به، وإنما كانت تقوله مع لسانها عيناها وجوارحها جميعاً، وأعصابها وروحها جميعاً

ولا ريب أن لهذا الانجراف الروحي وراء الأفكار والخواطر أثراً في النفس والأعصاب. ولا ريب أن الآنسة مي تعاني آلاماً كثيرة يجرها عليها هذا الصفاء وهذا التدفق. . .

كان الله في عونها من أحلامها ووثباتها، وانحباس الفكر في نفسها، وانطلاق الفكر من نفسها. . .

أين هي الآن؟!

الآنسة جميلة العلايلي

كاتبة وشاعرة وقصاصة

حارة هي أيضاً، وصادقة، ولكنها عاصفة صغيرة. . . وهذا شأن الهواة جميعاً.

ص: 51

الآنسة ابنة الشاطئ

استطاعت أن تلفت الأنظار إليها بسرعة. فملأت الدنيا كتابة عن الريف والفلاحين وحياتهم. وهذا الموضوع لا شك في أنه أشد الموضوعات المصرية خطورة، وقد كان لابنة الشاطئ فيه جولات مجيدة

ولكني سمعت أنها (دحلابة) وأن لها برنامجاً رسمته لحياتها وهي تريد أن تحققه، وهي تستعين على تحقيقه بالكتابة. وهذا إذا صح آخذه عليها، لأن من عادة البرامج دائماً أن تكتف الفن وأن تقيده، وأن تطمسه أحياناً، وأن تدس إليه الأباطيل و (التزاويق) الفارغة. . .

اسمها (عائشة عبد الرحمن)

السيدة أمينة محمد

ليس في مصر راقصة مقتنعة بأن الرقص فن جميل إلا أمينة محمد. فكل الراقصات المصريات يحسبن الرقص احتيالاً على تعرية البدن وإظهار محاسنه وتناسقه وليونته، ولكن أمينة تتخذ من جسمها وسيلة تعبر بها عن معان يندر أن تكون بينها وبين الغريزة الجنسية صلة. وكما أنها تستعين على هذه المعاني بجسمها فهي تستعين عليها أيضاً بوجهها

وإن لها عينين تقول بهما كل ما يجول في نفسها، كما أن لها شفتين تؤكد بهما ما تقوله عيناها. ولو كان جمهورنا في مصر ينظر إلى الراقصة من أولها إلى آخرها ولا يقف نظراته على مواطن خاصة منها لانفردت أمينة محمد بالرقص في مصر. ولكن جمهورنا كما نعرف

ولست أدري لماذا لم يفكر نجيب الريحاني في أن يضم إلى فرقته هذه الفنانة التي تملأ مكان الراقصات الأوربيات اللواتي يعرضهن أحياناً، كما أني لا أدري كيف تهمل الفرقة القومية الرقص فلا تدخر فتاة مثل أمينة تمثل فيها هذا الفن

ولكني نسيت أن الفرقة القومية لها ناسها، وبعثاتها، وهي لا تعترف بأمينة ولا غيرها ممن كافحن في مصر وأوربا وأرغمن أهل الغرب على احترامهن وتقديرهن

السيدة فردوس محمد

ص: 52

أستاذة لها دراستها الخاصة في الحياة، ولها من وراء هذه الدراسة فنها الخاص وأسلوبها الخاص

لا أذكر أني رأيتها قبل (هوجة) الأفلام المصرية الأخيرة، ولا أذكر أني رأيتها في دور إلا وامتلأت اقتناعاً بها

مصرية صميمة في نظراتها، وفهمها وتعبيرها. لا أظنها تنكل عن دور مصري عصري، إن لم يكن تمثيلاً فتعليما. . . أي أنها تعلمه لغيرها إذا لم يكن الدور يليق بها

السيدة إحسان الجزايرلي

(أم أحمد)

ممثلة كوميدية يقول النقاد عنها إنها شعبية، ويقصدون من وراء قولهم هذا أنها ليست أرستقراطية. والواقع أن الأرستقراطية في الفن ليست شيئاً غير ثقل الدم والظل. وقد أنقذ الله (أم أحمد) من هذا، فهي تمثل كما تنطلق القنبلة، فتنفجر في النفوس ضحكات وقهقهة

وهي لا تريد من الناس شيئاً أكثر من ذلك. وقد تركت الأرستقراطية لغيرها.

السيد ماري منيب

معلمة إحسان الجزايرلي. أو هي (أم أحمد) القديمة

وهي تعمل اليوم عند الريحاني، وهو يعرف كيف يستغلها، وهي تعرف كيف ترضيه على ما فيه من قسوة في عمله وملاحظاته، كما أنها تعرف كيف ترضي جمهوره على ما تربى فيه من براعة الذوق

فنها غير محدود لأنها لا تقلد ولا تتقيد، وإنما هي تلون نفسها حسبما يتطلب دورها، وهذا أقصى ما يطلب من الممثل أو الممثلة

ميمي وزوزو شكيب

لم أكن أصدق أن هاتين السيدتين ستستطيعان أن تحتفظا بمكانتهما على المسرح أكثر من موسم واحد. ولكن الريحاني ثبتهما فكانتا من كراماته

هما في الأصل تغيظان وتكيدان. . . ولكنهما اليوم تضحكان. . . على أن الذي يتأملهما ويتأمل ضحكه منهما يرى أنهما لا تزالان. . .

ص: 53

الآنسة أمينة رزق

بطلة الأستاذ يوسف وهبي وتلميذته وذراعة اليمنى. فنانة لها (شخصية) تجبر على الاحترام. فيها براءة ظاهرة تمازجها إمارات الحكمة

لابد أن تكون أمينة رزق فيلسوفة إلى جانب ما هي ممثلة

السيدة علوية جميل

سيدة مصرية ناضجة، رزينة، عميقة هادئة، وأخلاقها هذه تظهر في تمثيلها، والأستاذ يوسف وهبي يعرف فيها هذه الأخلاق فهو يسند إليها ما يلائمها من الأدوار فتؤديها على خير ما يمكن أن تؤدى به. . .

يراد بها أحياناً أن تمرح، ولكنها إذا مرحت ظهر لمن يرى أنها تستثقل المرح. وقد يرجع ذلك لسبب لعله من خصائصها هي. . .

فتحية ومفيدة أحمد

أختان مغنيتان. فتحية الكبيرة ومفيدة الصغيرة. كلما رأيتهما أو سمعتهما حسبتهما أزهريتين، مع أني أعلم أنه لا صلة للأزهر بالنساء. وقد يكون ذلك لأن أباهما كان شيخاً وأنهما استقتا فنه وروحه وحركاته وإشاراته

وهما قريبتان جداً من كل روح مصرية. وهما تصدقان كثيراً في غنائهما لأنهما تحبان الغناء حقاً؛ وقد كانت كبراهما فتحية من ربيبات سيد درويش اللواتي كانت تهتز لهن روحه. . .

عزيز أحد فهمي

ص: 54

‌بعيداً عنا

في مجاهل الكون

للدكتور محمد محمود غالي

الموجات الكهربائية وباطن الأرض - الحواس أجهزة طبيعية - الكلب هول - الحمام الزاجل - في طريق تعرفنا صفات محتملة لغيرنا من الأحياء على الكواكب.

لو أن أحداً من الناس قال لنا إنه يستطيع، وهو في طائرة، أن يعرف هل يُخفي باطن الأرض التي يعلوها بترولاً أو ماء، ويعرف عمق الطبقة الموجود فيها هذا البترول أو هذا الماء، ويعرف، فوق ما ذكرنا، أيكون الماء الموجود تحت طبقة الأرض التي يطير فوقها ملحاً أم صالحاً للشرب، دون أن ينزل من طائرته على سطح الأرض، ودون أن يلجاً إلى حفر آبار فيها، لقلنا في أنفسنا إن قوله هذا حديث خرافة

ذلك أننا معتادون دائماً أن نصدق ما هو في حدود حواسنا وأن نؤمن بما تستطيعه هذه الحواس، فتفكيرنا مرتبط بمقدرتها واستيعابنا للكون متعلق بعملها، وكثيراً ما ننسى أنه بدراسة طبيعية في الكون، وما ينتج عنها من ابتكار أجهزة دقيقة، نستطيع أن نجد وسيلة لامتداد حواسنا وسبيلاً لاتساع نطاق أعمالها، بحيث نصبح في ظروف عديدة قادرين مثلاً على أن نرى ما كنا عاجزين عن أن نراه، ونسمع ما كان يستحيل علينا سماعه.

ولا يدهش القارئ بعد ذلك من استطاعة الطائر أن يعرف ما هو دفين في باطن الأرض، ففي هذه المسألة بالذات وفيما يخص البترول أو الماء نجح العلماء في ظروف خاصة نجاحاً يبعث على الدهشة، وبوسائل علمية حديثة وأجهزة طبيعية دقيقة توصل العلماء إلى معرفة ما تخفيه الأرض من بترول أو ماء دون اللجوء إلى وسائل الحفر المعروفة، وليس المجال هنا لندخل في تفاصيل هذه المسألة التي يتوافر على دراستها بالتفصيل كل من أتيحت له فرصة دراسة علوم الطبيعة الأرضية فقد بات من المعروف أنه يمكن بدراسة خاصة، يقوم بها المهندس وهو على سطح الأرض أو بعيداً عن سطحها، أن يستنتج الشيء الكثير عن باطنها، بمعنى أن دراسة طبيعية فوق الأرض تؤدي إلى معرفة جيولوجية في جوفها، تكون في كثير من الأحيان عظيمة الأثر

إنما أحدث القارئ في هذا عندما ننتهي من استعراض الحلقات العلمية الكبرى التي توصل

ص: 55

إليها الإنسان في عصرنا الحديث مما له اتصال بتفكيره، عندئذ أحدثه في مسألة أتاح لنا الفلاح المصري معرفتها، وذلك بالإنفاق على بعثتنا في الخارج، وأتاحت لي الظروف بعد العودة القيام ببعض الأبحاث عنها، وذلك مع أحد المؤسسين للطريقة المعروفة باسم:(الطريقة الإلكتروديناميكية) الخاصة بالتنبؤ بما في باطن الأرض

وهذا الباحث الذي صادفته في مصر منذ أربعة أعوام، واشتركت معه في القيام بأبحاث علمية تدور حول هذا الموضوع هو (هنريش لوفي) ? من (فينا)، وهو الذي قام بتجارب علمية قيمة أجراها من منطاد (زبلن) المعروف حيث كان يقوم ببعض التجارب الكهربائية الخاصة بهذا الموضوع في أثناء رحلات هذا المنطاد المتعددة بين ألمانيا وأمريكا

إنما ذكرنا هذه الأبحاث التي قام بها (لوفي) منذ سنة 1910 والتي ساهمنا فيها بقسط يسير في السنين الأخيرة لغرض واحد، ذلك أننا نريد من القارئ أن ينظر إلى ما نملكه من الحواس النظرة العلمية الصحيحة التي نفهمها منها، وألا ينسى - كما يحدث لكثير منا - أننا وإن كنا في حاجة إلى هذه الحواس لمعرفة كنه العالم الذي نعيش فيه أو معرفة شيء عن العوالم البعيدة عنا، فإنها لا تكفي بذاتها للقيام بشتى هذه المعارف، وأن هناك من العلوم عامة والعلوم الطبيعية خاصة سبيلاً نستطيع به أن نُعَدِّل في مقدرة هذه الحواس، فتصبح بما نضيفه إليها من أجهزة طبيعية أكثر استطاعة على استطلاع حقائق الوجود، وأعظم شأناً في معرفة أسرار الكون

ثمة مسألتان نود لأن يتأملهما القارئ: الأولى أن الحواس في ذاتها أجهزة طبيعية يمكن بذكاء الإنسان أن تمتد كما ذكرنا فتصبح أقوى على المعرفة وأقدر على الاستنباط، والثانية أن الحواس ذاتها تختلف عند المخلوقات الحية التي نعرفها في قدرتها ومواهبها اختلافاً بيناً؛ ومنها ما هو ليس بحاجة لهذا التحايل الذي يعمد إليه الإنسان وهذا الامتداد الذي يجعل منه مخلوقاً أقوى من طبيعته، وعن المسألة الأولى ذكرنا أننا لسنا في حاجة إلى حفر بئر عميق لنعرف مقدار مستوى الماء أو البترول تحت سطح الأرض، وعن الثانية نذكر القارئ بمثالين طالما سمعهما وقد لا يكون أعارهما الالتفاتة التي نرجوها الآن

الأول: كلنا سمع بالكلب (هول) الذي استطاع البوليس المصري بعد تدريبه أن يجعله قادراً على أن يتعرف الجناة من آثارهم، وهو حيوان لا يخطئ عادة في القيام بهذه المهمة، مهما

ص: 56

كان الأثر ضعيفاً، ما لم تمر مدة كافية بين حدوث الأثر وبين إحضاره

وإني أقص على القارئ حادثة وقعت لي شخصياً مع الكلب (هول)؛ فقد أردت بتجربة بسيطة أن أتعَرَّف مدى قدرته على معرفة صاحب الأثر، فأخرجت (البيبة) التي أُدخن عادة بها، ولمست بها الحائط بعيداً عن الكلب وبحضور جمهور كبير من الناس، بحيث لم يشاهدني عند لمس الحائط بطرف هذه (البيبة)، بعد ذلك، ودون أن يراني، أعطيت (البيبة) إلى أحد الأشخاص العديدين الذين حضروا هذه التجربة، ولم يخفها في جيبه، بعد ذلك وجه (الصول) المكلف بتدريب الكلب هذا الحيوان نحو الأثر، وتركه يشم الموضع من الحائط الذي لمسته (البيبة)، ولم يمض بضع دقائق حتى سعى الكلب إليَّ يتعرّفني رغم الازدحام، ولم يَسْعَ إلى صاحبنا حامل (البيبة)، ذلك أن في هذه (البيبة) آثاري لا آثار من حملها أخيراً في جيبه، وذلك أن في (البيبة) شيئاً مني يشعر به الكلب، ولا تستطيع حواسنا الضعيفة أن يكون لها هذه القدرة من الشعور

الثاني: كلنا سمعنا بالحمام الزاجل، إننا نستطيع أن نأخذ واحداً من هذا الطير العجيب من قفص مقفل، لا يرى منه ما هو حوله، ونسافر به من مكمنه الأصلي إلى بلدة بعيدة عن البرج الذي تعَوَّده، ويصح أن تبتعد هذه البلدة بضع عشرات الكيلو مترات عن برجه الأصلي؛ ومع ذلك لو أننا تركنا ذلك الطائر حرَّا بعد ذلك السجن وذلك الابتعاد لعاد أدراجه إلى حيث موطنه الأصلي؛ ويمكن أن نستدل من الحساب على أنه يعود في وقت يتفق مع السرعة المعروفة عن طيرانه، وبعبارة أوضح يعود الطائر إلى مكانه الأول، دون إجراء بحث جدَّي عن هذا المكان، أو إضاعة وقت في سبيل العثور عليه غير الوقت اللازم للقيام بهذه الرحلة الطويلة

ترى ما هي تلك الصلة الموجودة بين الطائر وبين المكان الذي اعتاد أن يعيش فيه؟ ترى هل هذه المقدرة على العودة ترجع إلى تركيب خاص في حواسه، أو إلى أسباب طبيعية أو كهربائية تربطه بهذا المكان بالذات، ولا نزال نجهلها؟. كل هذا حدس وتخمين، وليس المجال هنا لندخل في تفصيلات هذه المسألة، وليس المجال لنردد للقارئ بعض الآراء التي استعرضها لنا مسيو (بيلان مخترع البيلانوجرام، أو جهاز نقل الصور باللاسلكي، عند زيارته معي لأحد أبراج هذا الحمام في ضَيْعَة قضينا فيها يوماً من أيام مارس سنة 1938

ص: 57

في ضواحي القاهرة

وإنما أريد أن أخرج من هذا بشيء واحد، ذلك أن للكلب هول وللحمام الزاجل ولغيرهما من المخلوقات التي نعرفها والتي لا نعرفها مقدرة تفوق مقدرتنا في تعرف بعض المسائل الخاصة بالكون الذي يحيط بنا أو الذي نحن جزء منه

ولعل القارئ يتفق معنا الآن على مسألتين يصح أن يذكرهما

الأولى: هي ضعف حواسنا، واستطاعتنا أحياناً اللجوء إلى امتداد عملها بما نضيفه إليها بذكائنا من أجهزة طبيعية تصبح متممة لهذه الحواس. والثاني اختلاف هذه الحواس في المقدرة اختلافاً كبيراً عند الكائنات الحية

نعود مع القارئ بعد هذه المرحلة التي ذكرناها إلى ذلك المخلوق الذي تكونت عنده حاسة النظر بحيث يرى الأشياء المجسمة بطولها وبعرضها ولا يستطيع أن يُميِّز مها ارتفاعها، وهو المخلوق الذي قلنا عنه في مقال سابق إنه يرى الأشياء في صور تختلف عن الصور التي نراها عليها، فهو يرى من عَل مركبة الترام مستطيلاً، ويرى الكمساري والسائق دائرتين إحداهما ثابتة والأخرى متحركة على حافة هذا المستطيل ويرى الراكبين دوائر متراصة ف صفوف متوازية

هنا نذكر للقارئ شيئا ذكرناه من قبل، ذلك أننا في حاجة إلى ذكر هذا المخلوق العجيب لكي نشرح موضوعاً يتراءى لذهننا ويجول بخاطرنا، موضوعاً كان استعراضنا لمظاهر الإشعاع سبباً لالتماعه في الذهن واقترابه في الفكر؛ وقد وجدنا ونحن نخاطب القارئ أننا في حاجة قبل المضي في هذا الموضوع إلى الرجوع رويداً إلى معرفتنا لحواسنا وفهمنا لقدرتها، وإلى ذكر ارتباط بينها وبين ما يستنبطه الإنسان كل يوم من أجهزة طبيعية دقيقة

وسيرى القارئ، أن بين الإنسان الحاد الذكاء والكلب هول العجيب، والحمام الزاجل، وهذا المخلوق الذي يرى من الكمساري دائرة تنتقل، وبين ما نريد أن نتخيله أو نفترض وجوده من مخلوقات على الكواكب السيارة (سواء أكانت هذه المخلوقات موجودة على الكواكب التي تدور حول شمسنا أم كانت حول غيرها من الشموس) نوعاً من الارتباط، نود أن نتبينه عندما نجيز لأنفسنا التحدث عن مخلوقات غير تلك التي عهدناها على الأرض

وما مقالنا السابق أو مقال اليوم إلا نوع من المداعبة العلمية السائغة، كانت النفوس في

ص: 58

حاجة هذه الأيام إليها، وذلك للترفيه بعض الشيء عن القارئ إزاء ما يحدث في العالم من تغييرات سريعة، وما هو واقع اليوم من تطورات ربما كانت أكبر ما عرفناه في التاريخ؛ تلك التطورات التي تجري اليوم في أوربا، والتي يحتمل أن يكون لها اثر على حياتنا في مصر

وإذا كنا قصدنا هذا النوع من الترفيه أو الراحة مع القارئ في مقالين متتابعين، وإذا كان هذا سيظل رائدنا في المقال القادم أيضاً، فإنما ذلك لكي ننشط إلى عمل، أكثر إلى الجد منه إلى المداعبة؛ عند ذلك نعود إلى حظيرة العلم الذي لا يعرف في البحث غير التقريب من حقيقة الكون

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 59

‌البريد الأدبي

حركة النشر في دمشق - عتب وبيان

حضرت مجلساً فيه جماعة من المؤلفين والناشرين، فكان من حديثهم أن دمشق ضائعة بين مصر ولبنان؛ فلا هي ترتضي مذهب لبنان في الأدب، ولا مصر تلقي لها بالاً وتحفل بها، وساقوا على ذلك أمثلة كتباً كثيرة أهديت إلى المجلات المصرية وإلى كبار نقاد مصر، فأهمل أكثرها فما كتب عنه حرف واحد، وكتب عن بعضها ما لا يكفي ولا يفي؛ فرأيت أن أذكر لقراء الرسالة بعض هذه الكتب ليطلع عليه من يهتم بحركة النشر في دمشق، ويعلم أصحابها أن العرف لا يذهب بين الله والناس، وليكون ذلك عتاباً لإخواننا نقدة الأدب في مصر وذكرى

فمنها (سيد قريش) للأستاذ معروف الأرناؤط؛ وهي من أجل ما اخرج أدباء القصة العربية في زماننا. ومنها روايته الأخرى (عمر بن الخطاب)، فإنهما على انتشارهما في الشام والعراق ودخولهما كل منزل ما كتب عنهما في مصر ولا تعرض لهما النقاد. ومنها (المتنبي) و (الجاحظ) للأستاذ شفيق جبري ومنها الكتاب القيّم (جولة أثرية في سورية الشمالية) للأستاذ وصفي زكريا، حتى أن منها كتاب (الإسلام والحضارة) للأستاذ الكبير كرد على، لم أقرأ لناقد من النقاد المعروفين شيئاً عنه ولا عن كتابه الآخر (أمراء البيان). ومنها (سيرة أحمد بن طولون) للبلوي، وهو كتاب جليل نشره الأستاذ كرد على وعلَّق عليه وقدَّم له، ومنها (أعلام النساء) لعمر رضا كحالة في (1668) صفحة، جمع فيه من تراجم النساء ما لم بجمعه كتاب قبله، ومنها كتب أساتذة الجامعة، ولا سيما أساتذة كلية الطب، الذين قاموا بأعظم عمل يمكن أن يقوم به أمثالهم لخدمة اللغة، فوضعوا المصطلحات العربية لكافة الأمراض وما يتصل بها، والأدوية وأعضاء الجسم، ومن كتبهم (فن الجراثيم) للطبيب اللغوي الأديب الدكتور حمدي الخياط في (1860) صفحة معها لوحات فنية كثيرة، و (صحة الأسرة) له في (400) صفحة، و (الصحة العامة والاجتماعية)، (1000) صفحة، وكتاب (فلسفة الطب) للدكتور حسني سبح عميد كلية الطب، وهو سبعة أجزاء صدر منها ثلاثة في (2704) صفحة، وله كتب أخرى، و (علم الأمراض الجراحية) للدكتور مرشد خاطر في نحو (4000) صفحة، ومنها كتب أساتذة الحقوق، فارس بك

ص: 60

الخوري، وله (علم المالية) و (شرح أصول المحاكمات الحقوقية)، وسعيد محاسن بك نقيب المحامين، وله الشرح القيم على مجلة الأحكام العدلية، وله (القانون المدني الإسلامي)، وشاكر بك الحنبلي، وله (الحقوق الأساسية) والمباحث القيمة في الحقوق الإدارية

ومن الكتب التي نشرت في دمشق (فتاوى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري) و (ديوان الكاظمي) و (أصول التفسير لابن تيمية) و (بحر العوام لابن الحنبلي) و (البخلاء للجاحظ) و (المنقذ من الضلال للغزالي) و (إصلاح ما تغلط فيه العامة للجواليقي) و (الإجابة للزركشي) و (المفاضلة لابن حزم) و (طوق الحمامة له أيضاً) و (روضة المحبين لابن القيم) وهما كتابان في الحب لإمامين من أعظم أئمة الدين و (فتاوى الإمام النووي) و (الرسالة المستطرفة للعلامة جعفر الكتاني) في تاريخ علم الحديث و (الصبح المنبي للبديعي) و (ذكرى الشاعرين) و (تهذيب تاريخ ابن عساكر) و (عبد الله بن المقفع للأستاذ الجندي) و (الجاحظ) و (ابن العميد) و (الصاحب) و (ابن المقفع) للأستاذ خليل مردم بك، و (امرؤ القيس) للأستاذ الجندي و (أبو بكر الصديق) و (عمر بن الخطاب) للطنطاوي، و (خالد بن الوليد) لكحالة، و (أسواق العرب) للأفغاني.

وأنا أظن أن هذا كله، وهذا بعض ما نشر في دمشق لم يحفل به، ولا ببعضه ناقد من كبار نقاد مصر، أفلا يحق لنا أن نعتب، وأن نذكر، وأن نرجو، وأن ننتظر؟

علي الطنطاوي

فتوى لجنة الإفتاء بالأزهر في فائدة الأربعاء

لا أنكر أن فتوى لجنة الإفتاء في هذه الفائدة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح الديني، والقضاء على ناحية من نواحي الفساد في البلاد، ولكني آخذ على اللجنة أنها اهتمت في هذه الفائدة بناحية الشكل، ولم تهتم بالأصل الذي تقوم عليه من جواز التوجه إلى أصحاب الأضرحة في قضاء الحاجات، بقطع النظر عما يلجأ إليه في ذلك من تحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة لا اصل له وفي أفتى العالم الكبير في هذه الفائدة بجواز التوجه على أصحاب الأضرحة في قضاء الحاجات، ولا شك أن فتوى لجنة الإفتاء جاءت رداً على فتواه، فلم يكن من اللائق مع هذا أن تهتم فتواها بما اهتمت به، ولا تعطينا حكما صريحاً

ص: 61

في ذلك الأصل الذي قامت عليه تلك الفائدة، فهل يليق أن يبقى عامة المسلمين على ما هم عليه الآن من الاعتقاد في تأثير أصحاب هذه الأضرحة في أمور دنيانا، وتجاهل الأسباب المشروعة التي سنها الله تعالى، وهل قامت هذه الأضرحة على أساس صحيح، وهل قيست ولاية أصحابها بمقياس الولاية في الشرع؟ ورأيي أنا أن كل هذا لا يصح أن يبقى بيننا، وأنه يجب أن نتخلص منه، ولنا فيما فعلته بعض الحكومات الإسلامية أحسن أسوة

(عالم)

1 -

حول آية إطعام الطعام

اطلعت على ما كتب في (الرسالة الغراء) في هذا البحث، فأرجو أن يتذكر الأستاذ محمود محمد سويلم أن (خصوص السبب لا ينافي العموم) فسيدنا علي رضي الله عنه داخل في هذا العموم دخولاً أولياً بالنظر إلى أنه سبب نزول الآية

وأول من ضرب على هذا الوتر بتوسع هو الحافظ بن تيمية في كتابه (المنهاج) وكون السورة مكية ليس بأمر مقطوع به

2 -

نيف

كنت أرى بعض الكتاب الناشئين يستعملون كلمة (نيف) قبل العدد، ثم رأيت الأستاذين العقاد وكرد علي يستعملانها كذلك فوجب التنبيه على صحة استعمالها:

قال في القاموس المحيط (والنيف ككيس: الزيادة، يقال عشرة ونيف)، وقال في المصباح المنير (ولا يقال نيف إلا بعد عقد نحو عشرة ونيف ومائة ونيف وألف ونيف)، وكذلك في كتب اللغة الأخرى

عفيفي علي موسى

ص: 62

‌القصص

من أثر الوعيد

مترجمة عن الإنكليزية

بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار

ركب الضابطان: (كامبل) و (هاريس) جواديهما واتجها إلى الغابة، وكان الفصل فصل الربيع، والجو دافئاً معطراً، وكان يلذ لهما إمتاع النظر في ألوان الطبيعة والسكون في الغابة البعيدة عن جلبة الحياة وضوضائها. ولما ابتعدا عن المدينة رأيا أبنيتها الضخمة كأنها قطع من الأحجار الملوَّنة، وبجانبها نهر الرين، وقد انعكست عليه أشعة الشمس، فبدا كأنه خط من النور

وأشعل كل من الصديقين لفافة، وألقى (كامبل) عود الثقاب وراقبه وهو يسقط على الأرض، فرآه قد وقع على كثيب من الحشائش الجافة المتروكة في الصيف الماضي

وسرعان ما اشتعلت هذه الحشائش، وكان الرجل طيب القلب، فلم يترك النار تلتهم الغابة، فنزل هو وصاحبه فأطفآها. ورأيا في هذه الأثناء وراء الكثيب المحترق طريقاً ضيقاً بين الأشجار، فقال كامبل:

- ألا ترى هذا الطريق؟ أتعرف إلى أين يؤدي؟ دعني أمر منه. . .

فأجابه:

- بل تعال نركب، لأن الجوادين يتصببان عرقاً، وقد يضربهما الوقوف الآن

ولكن (كامبل) أصر على الذهاب وقال: إنه سيعود سريعاً. ثم اختفى بين الأشجار التي وراء الكثيب، وامتطى هاريس جواده، وظل يدخن لفافته، منتظراً عودة (كامبل)

وكان كامبل كثير التطلع إلى شئون يحب أن يعرف كل شيء ويتدخل في كل أمر. وبعد دقائق شمع صوت صاحبه يناديه، وكان الصوت ضعيفاً، فنزل عن جواده وجرى نحوه بعد أن ربط الجوادين. ولم يزل يجري حتى رأى كهفاً متسعاً، وسمع صوت كامبل آتياً منه، فدخل الكهف محترساً وهو يشم رائحة غريبة، وقال كامبل:(هل تشم شيئاً؟ إنني أشم رائحة ميت؟ هل معك كبريت؟ إنني لما جئت تذكرت أن ما معي منه قد نفذ)

ص: 63

فقال هاريس: (ليس معي غير عيدان قليلة)، ثم أخرج علبة الثقاب وقال:(ليس فيها غير عودين فخذها)

أشعل كامبل أول عود فلم يحترق، وأشعل الثاني فرأيا على نوره الضئيل كتلة سوداء لم يتبناها، وتصاعدت من جهتها رائحة كريهة، ثم انطفأ العود وأظلم المكان، فلم يعد كل منهما يستطيع رؤية الآخر

فخرجا من الكهف متجهين إلى مربط الجوادين، ولم يكد هاريس يرفع رجله ليضعها في الركاب حتى صاح كامبل:(أنظر إلى حذائك!)

فنظر وقال: (هذا دم، ولست أعرف ما الذي كان في الكهف!)

وقال كامبل: هل تتذكر (إدي ماك جاري) الذي كان ضابطاً معنا واختفى في الشهر الماضي؟)

فقال هاريس: (نعم أذكره، وكان قبل اختفائه قد تخاصم مع أناس في مقهى، وقيل إنهم تضاربوا ثم اختفى، فهل تظن أنه بهذا الكهف؟)

قال كامبل: (لست أعرف)؛ ثم مشى الصديقان في صمت. وبعد مدة قال كامبل: (لا تقل شيئاً يا هاريس حتى نتبين الحقيقة، وسنتقابل غداً فأخبرك بنتيجة بحثي)

وكان كامبل يتردد على حانوت رجل خمار اسمه فرانز شافر، وقد اشتهر هذا الرجل بمعرفته كل مكان في المدينة وأكثر من فيها من الناس. وكان بينه وبين كامبل صداقة نشأت منذ جاء إلى هذه المدينة في أول الحرب. وكان هاريس يعرفه أيضاً ويتردد على حانوته

في هذه اللحظة ذهب هاريس إلى الحان وأخذ معه مقداراً من التبغ فأهداه إلى الخمار الألماني الذي أبرقت عيناه، وقام إلى زجاجة من أجود النبيذ فقدمها إلى الضابط وأخذ يصف شوقه إلى اليوم الذي تعود فيه ألمانيا إلى مكانتها الأولى بين الشعوب ويسود فيه الإخاء بينها جميعاً، وقال إن الحرب الأخيرة كانت حرباً بشعة أثارتها العداوة من الجانبين ولكنها انتهت بحمد الله فانتهت معها كل الحروب. ثم سأل الضابط: أليس من رأيه أن الحروب لن تعود؟

فهز هاريس رأسه. وكان في هذه اللحظة يفكر في الكهف ويغلب على ظنه أن كامبل

ص: 64

مخطئ فيما توهمه. لأن ماك جاري وإن كان ضيق الخلق سريع الغضب، فهو لا يترك نفسه لمن يقوده إلى كهف فيقتله فيه

واستمر الخمار يتدرج في حديثه السياسي إلى أحاديث مختلفة عن أشخاص يعرفهم هاريس، فتردد الأخير في إخباره بأمر الكهف. وبعد قليل قال:

(هل تعرف الطريق إلى جبل (برج الز) يا هرشافر؟)

فقال الخمار: (كيف لا أعرفه وأنا كثيراً ما أذهب منه وصهري مقيم في (نيدورف) عند نهايته)

ثم تنهد وشرع في وصفه ولكن هاريس قاطعه بقوله: (وهل تعرف الطريق الضيق القريب من نهاية الغابة؟)

فحملق الألماني في وجه الضابط وراعه منه رنة غريبة في صوته وتغير في لهجته، فقال الخمار:(لماذا يا سيدي الهر؟ لماذا يا سيدي الضاْبط؟)

ولكن هاريس استمر يسأله بلهجة المحققين: (وهل تعرف المكان الذي على بعد مائة متر على يمين هذا الطريق؟)

فلم يجبه الخمار ولكنه ظل واجماً فاتحاً فمه لاعقاً شفتيه بحالة عصبية، وكان هاريس في هذه اللحظة يتذكر ضابطاً عظيما استجوب أمامه أحد الحراس فشعر بالسرور لأن مهارته الآن في التحقيق لم تكن أقل من مهارة ذلك الضابط الكبير بدليل ما ظهر من التأثر على وجه الخمار

ولقد كان الإجرام بادياً على الخمار في هذه الساعة، وكانت عيناه تدوران كأنما تبحثان عن منفذ تتركان منه المحاجر وكانت خياشيمه تنتفخ والعرق يتندى من جبيته. ثم قال بعد ارتباك شديد:(لست أعرف هذا المكان)

فقال هاريس وهو يدق على المنضدة ليؤكد سؤاله: (ولماذا لم تقل ذلك من أول الأمر؟)

وكان الخمار يحارب نفسه ليحملها على كتمان العواطف، وتظاهر بالغضب على كرامته تظاهراً جعل شكله مضحكا وقال:(لا تؤاخذني يا هر إذا احتددت فإني لم أنم جيداً ليلة الأمس، وأنت قد غيرت معي لهجتك فاضطربت)

فقال هاريس بلهجة الساخر: (لم تنم جيداً ليلة الأمس؟)

ص: 65

قال الخمار: (نعم وقد فهمت. إنك تريد اتهامي بمعرفة شيء عن هذه المسألة، عن هذا الكهف. ولكنني أؤكد لك أنني لا أعلم وأنا مستعد للذهاب معك إلى الغابة في عصر الغد)

ثم هدأت أعصاب الخمار وعاد إلى خديه أحمرارهما، ونظر إليه الضابط مبتسما وقال:(لا تنكر يا شافر! لا تنكر! فأنت تعلم الحقيقة بغير شك، إن لم تكن شريكا فيها. وأنت تريد أن تذهب معي إلى الغابة. . . هذا حسن والله يا شافر! تريد أن تأخذني أنت وصهرك إلى الكهف فتقتلني كما قتلت (إدي ماك جاري)

ثم تغيرت لهجته من الهدوء إلى الحدة وقال: (سأمهلك إلى الغد لتعترف وإن تركت منزلك الليلة فسيراك رجالي، وإن لم تعترف غداً فإنك ستعتقل وتقدم للمحاكمة العسكرية، ومن يدري؟ لعله يحكم عليك بالإعدام)

فارتعش الخمار وتصور منظر المحاكمة والإعدام ورأى القبر مفتوحاً أمام عينيه، وتذكر زوجته وأولاده وما يصيبهم من البؤس بعد موته، وفتح فمه وظل يقول:(لست أعرف! لست أعرف!) وتركه هاريس على هذه الحالة وذهب وهو يعتقد أنه وفق إلى اكتشاف جريمة، وأن جبن الخمار كان دليلاً قوياً على أنه المجرم.

وفي الصباح التالي ذهب هاريس إلى كامبل فأخبره، وكان كامبل قد سمع خبراً لم يشأ أن يطلع صاحبه عليه حتى يلهو قليلاً ببساطته، فأظهر له الاهتمام وقال:(هلم مع حارس إلى الخمار).

وذهبا مع الحارس إلى الحانة فوجدا الخمار وزوجته وأولاده يبكون. وأعاد هاريس استجوابه، والخمار يتنصل وهو يتوعده بأقسى العقوبات إذا لم يعترف، ويعده بتخفيف العقوبة إذا اعترف

فلما لم يجد ذلك جلس هاريس أمام المنضدة وكتب بلاغاً وسلمه للحارس وأمره بأن يذهب به إلى رئيس البوليس

عند ذلك تبادل الخمار وزوجته نظرات ثم همس في أذنه فقال: (لا ترسل البلاغ وأنا أعترف لك)

فأخر هاريس إرسال البلاغ، وجلس بهيئة جدية، وصار يصغي إلى الاعتراف، واعترف الخمار بأنه هو وصهره قتلا (أدي ماك جاري) وتركاه في الكهف

ص: 66

عند ذلك ضحك كامبل ضحكة عالية وقال: (لقد قبض بالأمس على ماك جاري في باريس)

فدهش هاريس وقال: (إذن فما الذي رأيناه في الكهف؟)

فقال كامبل: (هو خنزير ميت)

ثم خرج من الحان.

عبد اللطيف النشار

ص: 67

‌الأب.

. .

مترجمة عن الفرنسية

بقلم الأستاذ محمد محمد حمدي

هو كاتب في وزارة المعارف ومنزله في إحدى ضواحي باريس، ولذلك كان يركب عربة (الأمنوبيس) في صباح كل يوم من منزله إلى الوزارة؛ وكان يجلس دائماً أمام فتاة يشعر نحوها بعاطفة الحب

وكانت الفتاة تذهب إلى المحل الذي هي عاملة فيه؛ وهي سوداء العينين بيضاء الجسم ناصعة البياض كأنها تمثال من العاج. وكان يراها تقْبِل كل يوم من منعطف في نفس الطريق، وكثيراً ما كانت تجري لتدرك العربة وهي سائرة وتتعلق بها قبل أن يقف الجوادان، ثم تجلس في المكان الخالي وهي تلهث من التعب وتدير لحظها فيما حولها

ومنذ رآها (فرنسوا تاسييه) أعجب بجمالها، وكانت الفتاة وفق أمانيه ورغائبه وصورة لخيال الحسن المنطبع على قلبه فأحبها من صميمه قبل أن يتعارفا

كان لا يستطيع أن يرد بصره عنها، وكانت تخجل من نظراته وتضطرب، وقد أدرك ذلك فحاول أن يغض من بصره ولكنه على غير إرادته كان يعود بين لحظة وأخرى فينظر إليها. وبعد أيام قليلة عرف كل منهما الآخر وإن لم يتكلما. وكان يترك مكانه ويقف خارج العربة إن أقبلت الفتاة والعربة مزدحمة. وكانت الفتاة إذ ذاك تحييه وهي مرخية أهدابها حياء من نظراته ولكنها مع ذلك لم تكن تغضب من هذه النظرات

وأخيراً تحادثا ونشأت بينهما مودة سريعة، وكان يقضي أمامها نصف ساعة في كل يوم. ولكن هذه الأنصاف من الساعات كانت فتنة العمر. وكان يفكر فيها بقية يومه ويرى طيفها ماثلاً أمام عينيه، لأن حبها كان مستحوذاً على خيال متسلطاً على قلبه باعثاً في نفسه تلك السعادة الجنونية التي يخال صاحبها أنه في عالم غير عالمنا الإنساني

وصارت تصافحه كل يوم فيحتفظ بالإحساس الذي تثيره هذه اللمسة الرقيقة من أصابعها الصغيرة فيظل ناعماً بإحساسه هذا إلى الصباح التالي وكان يقضي يومه وليلته في انتظار الساعة التي يركب فيها الأمنوبيس، وما كان شيء أبغض إليه من أيام الآحاد لأنه لا يستطيع فيها أن يراها. وكانت الفتاة تحبه بغير شك. وفي يوم سبت من أيام الربيع وعدته

ص: 68

بأن تتعشى معه في اليوم التالي بمطعم في ضاحية أخرى

التقيا في صباح الأحد عند المحطة ففاجأته بقولها: (أريد أن أكلمك قبل أن نذهب، لقد بقي عشرون دقيقة على سفر القطار وهي كافية لما أريد أن أقوله)

وكانت ترتعش وهي تقول ذلك، وتعلقت بذراعه وقد أصفر لونها ونظرت إلى الأرض واستمرت تقول:(أريد ألا تنخدع بي، ولن أذهب معك حتى تعدني وتقسم بأن تكون شريفاً معي)

ثم اصطبغ وجهها احمراراً ولم تزد، ولم يعرف بماذا يجيب لأنه كان مضطرباً رغم شعوره بالسعادة في هذا الحين، وربما كان يتمنى من صميم فؤاده أن يكون كما ترجو، ولقد كان يعرف أن حبه لها سيقل إن وجد منها خفة وطيشاً ولكنه كان أنانياً كسائر الرجال في الحب

ولما لم يقل شيئاً عادى الفتاة إلى الكلام بصوت مضطرب وعيناها مغروقتان بالدموع وقالت: (إذا لم تعدني باحترامي فسأعود إلى المنزل)

فضغط على ذراعها برفق وأجاب: (أعدك بأن أسير على ما تريدين)

فزال اضطرابها وقالت وهي تبتسم: (هل تقسم على ذلك؟)

فقال: (أقسمت)

قالت: (تعال إذن نشتر التذاكر)

ثم ركبا القطار ولم يتكلما إلا قليلاً لأن العربة كانت مزدحمة فلما وصلا إلى الضاحية مشت معه إلى شاطئ السين، وأطلت على مائه المنعكسة عليه أشعة الشمس، وقالت:(ما أراك تظنني إلا حمقاء). قال: (لماذا؟) فقالت: (لأنني جئت معك وحدي إلى هذا المكان)

قال: (كلا. كلا. بل هذا شيء طبيعي!)

فقالت: (إنه ليس طبيعياً بالنسبة لي، ولكنه من الممل أن تتشابه الأيام والأسابيع والشهور، فإنني أعيش مع أمي معيشة لا تجديد فيها ولا تغيير. وهي عابسة دائماً لكثرة ما تعنيه من السأم، وأنا أحاول التغلب على نفسي وأضحك لأقل مناسبة. ولكن لا فائدة من ذلك. وقد أخطأت إذ جئت وما كان تخلفي ليحزنك)

عندئذ قبلها فرانسوا قبلة حارة، فغضبت فجأة وصاحت:(ما هذا يا مسيو فرانسوا! أبعد أن أقسمت؟)

ص: 69

ثم مشيا إلى المطعم وهو بناء صغير منخفض عن الأرض، أمامه أربع شجرات. وبعد أن تعشيا في صمت وشربا القهوة عادت الفتاة إلى المرح، ومشت معه على شاطئ السين، وسألها عن اسمها فقالت:(لويس) فأعاد اسمها (لويس) ولم يقل شيئاً. وأخذت الفتاة تجمع الأقحوان النابت على الشاطئ، وظل يغني في طرب كالنشوان، وهما يمشيان تحت الكروم حتى ابتعدا نحو ميلين عن المدينة، ولاح لهما بساط سندسي من الخضرة، فأشار إليه، وقالت:(ما أبهجه!) ثم مشيا نحوه فجلسا على العشب، وكان يتضوع حولهما عبير الأزهار التي أكسبها شعاع الشمس ألواناً مختلفة

وأغمضت عينيها وهي لا تعلم شيئاً غير تلك القبلة ولا تفكر في شيء آخر، وهي شاردة اللب مهتاجة الشعور من الرأس إلى القدم. ولكن سرعان ما شعرت بالخطب وبكت من الحزن وهي تستر بيديها وجهها، وحاول أن يعزيها وهي تأبى إلا العودة في الحال وصار يستمهلها وهي تأبى، فلما نزلا من المحطة في باريس تركته بغير أن تحييه.

ولما رآها في الأمنوبيس في الصباح التالي خال أنها أشد نحولاً وقالت: أريد أن أكلمك، فتعال ننزل. ونزلا، فقالت له: يجب أن نفترق، فما أستطيع رؤيتك بعد الذي حدث

فقال: لماذا؟

أجابت: لأني لا أريد، وقد أصبحت خاطئة وما أحب أن أعود

ولكنه توسل إليها، وقد اشتدت به الرغبة في امتلاكها. فقالت: كلا. كلا. فلا أستطيع. . .

فألح ووعدها بالزواج، ولكنها رفضت وتركته، ومضى أسبوع لم يرها فيه، ولم يكن يعرف عنوانها، وفي اليوم التاسع دق باب غرفته، ففتحه ورآها تلقي بنفسها بين ذراعيه، ولم تعد تقاومه. ومضت ثلاثة أشهر، وهي تعيش معه معيشة الخليلة، وبدأ يسأم منها. فلما أخبرته أنها حامل، عزم على هجرتها وقطع صلاته معها، ولكنه لم يعرف الوسيلة إلى ذلك، حتى جاء في ليلة من الليالي، فترك ذلك المسكن، ولم يخبرها بمسكنه الجديد. ولقد كان وقع هذا شديداً على نفس الفتاة، ولكنها ذهبت إلى أمها باكية وركعت عند قدميها واعترفت بالأمر كله. وبعد أشهر وضعت طفلاً

مضت سنوات وأصبح فرانسوا كهلاً ولم يتغير شيء من نظام حياته بل ظل على المعيشة المملة بلا أمل ولا أمنية؛ وكان كل يوم يمشي من طريق واحد، فيجلس على مكتب واحد

ص: 70

ويؤدي عمله الواحد. وفي أول كل شهر يتقاضى مائة من الفرنكات يستعين بها على شيخوخته. وفي أيام الآحاد يذهب إلى (الشانزلزيه) ليراقب المتنزهين فيها

وفي يوم من هذه الأيام بهت لما رأى سيدة تتنزه ومعها صبيان، أحدهما يبلغ العاشرة والثانية تبلغ الرابعة. وكانت هذه السيدة هي صاحبته، فمشى نحو مائة متر ثم ارتمى خائر القوى على كرسي، ولم تكن السيدة قد لاحظته. وبعد قليل عاد لكي يراها مرة أخرى، وكانت قد جلست والصبي واقف بجانبها في سكون والطفلة تجري وتلعب

ونظر إليها فلم يشك في أنها هي وكانت نظراتها نظرات حزن وثيابها بسيطة وكان يراها عن بعد لأنه لا يجرؤ على الدنو منها ولكن نظره قد وقع على الصبي فارتعش وعرف أنه ابنه لأنه يشبه صورته وهو في ذلك العمر. ثم اختفى وراء شجرة حتى تقوم فيتبعها إلى منزلها

ولم ينم في تلك الليلة وكاد يجن من التفكير في ابنه وسأل أهل الحي عنها فقيل له إن أحد جيرانها قد أخذته الشفقة عليها بعد ذلك الحادث فتزوجها وربى ابنها، ثم ولدت له البنت

صار فراسنوا يتردد على الحديقة كل يوم من أيام الآحاد. وكان في كل مرة يكاد يجن شوقاً على عناق أبنه وتقبيله والعودة به، ومن ذلك العهد صار يتألم من الوحدة وأحس إحساساً مضاعفاً بالغيرة والندم والحاجة إلى النسل. ثم عزم على خطة لا يقدم عليها غير اليائس، فذهب إليها ووقف أمامها وقال وشفتاه ترتعشان:(ألا تعرفينني؟) فنظرت إليه وصاحت صيحة رعب وفزع، ثم أخذت ابنها وخرجت من أمامه، وعاد هو إلى المنزل باكياً، ومضت أشهر لا يراها، وكان ألمه يزداد يوماً فيوماً حتى تمنى الموت على أن يقبَّل ابنه قبل أن يموت، وكتب إليها فلم تجبه حتى بلغ ما كتبه عشرين خطاباً. ثم بدا له في حالة من اليأس أن يكتب إلى زوجها واستعد لأن يكون الجواب رصاصة من مسدس، وكان هكذا خطابه:(سيدي! لا شك أن اسمي يزعجك ولكنني في أشد البؤس والتعاسة، ولذلك أجرؤ على استئذانك في مقابلة قصيرة)

وفي اليوم التالي وصل إليه الرد وهو هكذا: (سأنتظرك غداً في الساعة الخامسة)

ذهب إليه وهو خافق القلب حتى اضطر إلى الوقوف في السلم عدة مرات. ثم فتح له الباب ودخل حجرة الاستقبال، فوجد الزوج جالساً في صدرها، وهو طويل القامة عريض

ص: 71

المنكبين، وقد بدا عليه أنه يتوقع خطباً، وأشار الزوج له بالجلوس فجلس وقال:(لعلك لا تعرفني ولم تسمع اسمي. . .)

فقاطعه الزوج قائلاً: (بل عرفت كل شيء من زوجتي) قال فرانسوا: (أنا يا سيدي لم آت إلا لأقول لك إنني أسفت وندمت وحزنت ولا أطلب غير أن أقبل ابني. . .)

فدق الزوج الجرس وأمر بإحضار الصبي (لويس) فدخل الغرفة صبي في العاشرة مندفعاً لرؤية الذي اعتقد أنه أبوه فوجد معه رجلاً أجنبياً فقبله الزوج ثم قال له: (اذهب فقبل هذه اليد)

فذهب الصبي ونظر إلى الضيف وكاد يغمى على فرانسوا. وقام الزوج فأطل من النافذة. وفي هذه الأثناء سقطت القبعة من يد الضيف فتناولها الصبي وأعادها إليه.

وعند ذلك أخذه بين ذراعيه وبدأ يقبله فوق خديه وعينيه وعلى جبينه وفمه وشعره؛ فانزعج الصبي من هذه القبلات ودفع وجه الرجل بكلتا يديه، فقام الرجل المسكين ووضع الصبي على الأرض وقال:(وداعاً!)

ثم خرج متسللاً من الغرفة كأنه لص.

محمد محمد حمدي

ص: 72