الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 366
- بتاريخ: 08 - 07 - 1940
علي ماهر باشا
الآن وقد انفكَّ عن صاحب المقام الرفيع سلطان الحكمين: المدني والعسكري، وأصبحت الكلمة فيه للحق الخالص الذي لا يرغب ولا يرهب ولا يجامل، نحاول أن نرسم هنا ظلال الرأي الذي ارتأيناه فيه على قدر ما تسمح به حال الصحفي الأدبي الذي يواكب من جانب ويراقب من بُعْد، ولا يتصل بأولي الحكم اتصال دعاية، ولا يذوي الرأي اتصال مشايعة
لم أرى علي ماهر باشا فيما مضى من حياتي غير مرة واحدة منذ
شرين سنة في مطبعة الاعتماد حيث كان يطبع كتاباً في القانون وأنا
أطبع كتاباً في الأدب. وعلى الرغم من جلوسنا ساعة من النهار جنباً
لجنب ذلك المكان الخشن الضيق الذي كان يجمع يومئذ بين مكتب
الإدارة وصناديق الحروف، لم نتناول غير النظر الفارغ، لأنه على ما
يظهر من نفسه رزين متحفظ، وأنا على ما أعرف من نفسي حبي
منقبض
وتولى علي ماهر باشا الحكم فكان لكل أديب ولكل صحفي من رعايته عون على الجهاد والاجتهاد إلا (الرسالة)، فقد عاقبها وقسا عليها في العقاب حتى لم تنل في عهده من المعارف والداخلية إلا شيئاً يشبه الظلم إن لم يكنْه. فأنا حين أكتب عنه لم أجد في نفسيَ منه إلا ما يجده المصري الفلاح أو العامل من أثر الرجل الحكومي في عمله، ومن نتيجة العمل العمومي في حياته. وألذ الأشياء في ذوق الضمير أن نشهد شهادة الصدق في رجل لا تربطك به علاقة من العلائق الحريرية أو الحديدية
علي ماهر باشا رجل هيأته طبيعته وعقليته وعمله للمواقف الجلَّي في عهدنا المستقل الحر. تولى رياسة الحكومة في وزارة المائة يوم فكان مثلاً عالياً للحكم المناسب في النشاط الشامل والتوجيه البصير والإصلاح المبتكر والنزاهة الممكنة. وكان الغيب في هذه المدة قد تكشَّف عن طور من أطوار العرش والدستور لا يؤمَن فيه الضلال على غير الإرادة الحازمة الرشيدة، فكان من توفيق الله أن تقلد الأمر هذا الرجل العظيم في تلك الساعة العصيبة فساسه على نهج واضح مأمون من اللقانة والأمانة والقدرة
ثم عاد فتولى الحكم حين أخذت العالمَ كله هذه الرجفةُ النازية الكبرى، فسحقت الجيوش، وثلت العروش، وغيرت وجوه الأرض، ونقضت أحكام الناس، وقلبت أوضاع المجتمع، وأصاب مصرَ منها ما لم تره في عمرها الحفيل الطويل، فصرَّف الأمور في هذه العاصفة الراجفة بالذهن الثاقب المحتال، والرأي الجميع الموفَّق، واليد القادرة الحازمة، والسياسة المتيقِّظة المستبصرة، والخطة الصريحة الجريئة، حتى اطمأن الناس إلى مصاير الأزمة، وأمِنوا شر العاقبة
فأنت ترى أن اختيار القدر لهذا الرجل في هاتين المحنتين من غير سعيه ولا استشرافه لا بد أن يكون لسر من أسرار الطبيعة فيه تعلنه عند إعضال الأمر أو استفحاله
والواقع المأنوس أن علي ماهر باشا فذٌّ بين ساسة هذا البلد في وسيلته وغايته وحكمه؛ فهو لا يعتمد في ولايته على عصبية الأحزاب المتغالبة، ولم يجر في حكمه على نمطية الوزارات المتعاقبة، ولم يجعل همه أن يدغدغ جسمه في كرسي الوزارة المخملي الوثير؛ وإنما بلغ الزعامة بالكفاية المحض، وعالج الحكم بالتدبير المبتدَع، وسما بنفسه عن سفساف الأمور ومحاقر الأغراض، وألقى باله للكبيرة والصغيرة، وأخلص رأيه للحميم والخصيم، وتعهد الأداة الحكومية في أوضاعها المختلفة ومواضعها المتعددة فجلا عنها الصدأ وعالج فيها الاضطراب، حتى نشطت لعملها الدائب في اطراد واتساق ووحدة
ومن مزايا علي ماهر باشا أنه رجل قانون ومنطق. وصاحب القانون يغلب عليه العدل والمساواة وهما روح الحكم؛ وصاحب المنطق يغلب عليه الرأي والمشورة وهما أصل الدستور. لذلك تهيأت له الفرص النوادر للاستبداد فأبى أن يعمل إلا على هَدْى طبعه ووحي ضميره
لقد كان موقف صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا من سياسة الحليفة العظيمة موقفاً يتمناه كل زعيم عظيم بما بقي من عمره. ولولا أن حليفتنا الكريمة لا تزال تجري في سياستها الشرقية على موروث من سوء الظن لوجدت في ماهر باشا أصدق حليف وأوفى معاهد يعلمها من أخلاق قومه ما تجهل، وينيلها من عواطف شعبه ما تريد. ولكنها أتاحت بهذا الموقف الأخير لعلي ماهر باشا أن ينقش في ذاكرة الزمان الواعي أنبل ما صدر عن وطنيته وعبقريته من البراعة والشجاعة والإخلاص لوطنه وملكه
لقد رفع ماهر باشا مستوى الحكم وأعلى مثَله. ومن البعيد أن ينزل خَلفُه عنه أو يترخص فيه؛ ولكن الاضطلاع به والمحافظة عليه في هذه الزلزلة العامة من المشقات التي تُمتحن بها أقدار الرجال. ويقيننا أن الروح المصرية التي انتعشت في علي ماهر وإخوانه الذين اعتزلوا الحكم، ستشيع في ساستنا الذين خَلَفوهم عليه، فتميت في أذهانهم معاني الفردية والحزبية، وتدفعهم متكاتفين إلى إنقاذ الوطن عن طريق الجهاد والإيثار والتضحية
إن القدر المتصرف يخطط اليومَ الممالك على نظام جديد. والإيمان وحده هو الذي يملك على القدر اللطف في التغيير. فآمنوا يا رجال الساعة بقدرة الله وقوة الحق وقيمة الحرية وسلطة التاريخ وعظمة مصر، فإن الإيمان ولا ريب دِرع الأمان
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أوهام أدبية تخلقها الحوادث - أسرار الجزع على باريس - الأدب هو سفيرنا في الشرق - الهجرة إلى الريف - ابدأ بنفسك - الأحزاب السياسية والأدبية
أوهام أدبية تخلقها الحوادث
للحوادث العنيفة تأثيرٌ شديد في تلوين الحقائق والأباطيل، وفي خلق الآراء والأضاليل. . . والمرء حين تصدمه الحوادث، يتلفت ليرى كيف صار إلى ما صار إليه من بؤس وشقاء، وكيف استهدف للمعاطب وتعرَّض للأرزاء، وذلك هو الفرق بين اليقظ والغافل من الرجال. وحكاية (السمكات الثلاث) في كتاب (كليلة ودمنة) تؤيد هذا الرأي، إن كان يفتقر إلى تأييد
أقول هذا، وقد قرأت في هذه الأيام كلمات نفيسة لجماعة من أدبائنا في تعليل الهزيمة التي مُنيتْ بها فرنسا، وهم يكادون يُجمعون على أن تلك الهزيمة ترجع إلى ما درَج عليه الفرنسيون بعد انتصارهم في الحرب الماضية من إيثار الدَّعة والسلامة والإقبال على الخلاعة والمجون
والأدباء الذين قالوا هذه الكلمات لم يقولوها إلا لغرض شريف، وهو تحذير أمتهم من عواقب البطالة والفراغ، ومآثم الترف واللين. والأديب ينتهز الفُرص ليضرب لأمته الأمثال
ولكن تلك الكلمات النفيسة وقعتْ فيها أغلاط تستوجب التصحيح
فهل من الحق أن فرنسا كانت فسقتْ عن أوامر الأخلاق؟
هل من الحق أن باريس لم تكن إلا ملاعب صبابة ومدارج فُتُون؟ هل من الحق أن الأندية الفرنسية لم تكن تعرف غير قول السوء ولغو الحديث؟
تلك أوهام يقول بها من لم يعش في فرنسا زمناً يسمح بالتعرف إلى أخلاق أولئك الناس، ليدرك المستور من شمائلهم الصَّحاح. تلك أوهام يقول بها من يعرف فرنسا بالسماع لا بالعِيان
ولو كانت فرنسا كما وصفوا، لكان من المستحيل أن تملك السيطرة الأدبية والحربية في تلك الأزمان الطوال التي سبقت محنتها الدامية في هذه الأيام السود
إن الخُلُق الفرنسي نموذجٌ للخلُق الصحيح، فالرجل الفرنسي يلعب في حين، ويجدُّ في أحيان، وهو في لعبه وِجدْه مثالٌ للرجل الذي تنأى به رجولتُه عن اصطناع أخلاق الضعفاء الذين يرون سلامتهم في التستر والتصنع والرياء
والأدب الفرنسي هو في جوهره صورة صحيحة للأدب الإنساني، لأنه ينزع إلى الصدق في تصوير ما تخضع له الإنسانية من قوة وضعف، ويقين وارتياب، وهدىً وضلال
وإذا اندحرت فرنسا السياسية فلن تندحر فرنسا الأدبية
ولو صدقت فرنسا في السياسة كما صدقت في الأدب لكانت هزيمتها من المستحيلات. وقد قلت في مقال قدمته لمجلة الهلال إني أنتظر اليوم الذي تسمح فيه الظروف بأن أُعلل هزيمة فرنسا السياسية
فهل أجد اليوم منفذاً لكلمة وجيزة بعد أن استباح المسيو بيتان ما استباح في تعليل تلك الهزيمة النَّكراء؟
إن المسيو بيتان ردَّ أسباب الهزيمة إلى ما تخلَّق به الشعب الفرنسي بعد الانتصار في الحرب الماضية من إيثار المرَح على التضحية وتقديم الحقوق على الواجبات
فما الذي يمنع من تصحيح رأي المسيو بيتان؟
ما الذي يمنع من القول بأن ساسة فرنسا كانوا أضعف بصراً من ساسة الألمان؟
إن السياسي الألماني قدَّم لجنوده قضية تستوجب الاستقتال فهل قدَّم السياسي الفرنسي لجنوده قضية تستوجب الاستقتال؟
قال السياسي الألماني لجنوده: أنتم جِياع ويجب أن تقاتلوا لتجدوا القوت
أما السياسي الفرنسي فقال لجنوده: هَلُمُّوا للدفاع عن الشعوب الصغيرة
وكذلك شبَّت الحرب بين جنديين أحدهما جائع موتور، والثاني شبعان ريَّان يتكلف الغيرة على مبدأ لا يفقه ما يعبِّر عنه من ألفاظ وحروف
فإلى متى تؤذون شعوبكم بلا موجب أيها الساسة (المحنَّكون)؟
لو أعلن ساسة فرنسا أنهم يدافعون عن بلادهم ومستعمراتهم لا ستبسل الجندي الفرنسي واستمات، لأنه عندئذ يعرف أنه يدافع عن الشرف والقوت؛ ولكنهم ساقوه إلى الميادين لاعتبارات مِثالية لا تثير النخوة في أشجع الجنود
وقد قال الفرنسيون ما قالوا في غدر ملك البلجيك، وفات ساستهم أن الوقوف على الحدود كان أنفع وأمنع، ولو فعلوا ذلك لكان من الجائز أن يتغير مصير الحرب، ولكان من المحقَّق أن يستبْقوا من الجيش قوةً يدفعون بها شرّ العدوّ المجتاح
ولكن من الذي يملك القدرة على توجيه آراء الساسة والزعماء؟
أما بعد فلهذا الحديث حواشٍ وذيول سنَعرِضُ لها بالتفصيل بعد حين
والمهمُّ هو تذكير بعض الأدباء بحق الأدب، فما نريد أن يخضع الأدب لأي اعتبار من الاعتبارات، وإن كان من واجبه أن يتعرض لجميع الشؤون
الأدب لا يزدهر إلا إذا تحرَّر من جميع القيود
الأدب هو الترجمان الصادق للغرائز الإنسانية، ولا يجوز أن نطالب الأديب بأن يكون عبداً لزمانه وأهل زمانه، وإنما يجب أن يُسيطر الأديب على الزمان وأهل الزمان ليؤدي رسالته في قوة وصراحة وإخلاص
الأديب أقوى من الناس ومن الزمان، وإنه لا يصوِّر غاية زمنية أو محلية، وإنما يتسامى إلى غايات تُشرِف على طوائف الإنسانية ومراحل التاريخ
ليس الأديب مِزماراً مأجوراً يترنم بما توحي أحوالكم من إطراب وأشجان، وإنما هو قيثارة سماوية يحقّ لها أن تصدح بغير ما تشتهون في أيام الفَرَح وما تبتغون في أيام البكاء، وإن كانت أُخُوَّنه لكم تفرض عليه أن يكون سناداً لآمالكم في جميع الأحايين
ألحان الأديب كأزهار الربيع
فإن كنتم سمعتم أن أزاهير التفاح في نورمنديا تلفَّتت إلى المعارك الدموية بين الفرنسيين والألمان فانتظروا أن يكفّ الأدباء عن التغريد فوق أفنان الوجود، لأن دنياكم عجزتْ عن تذوُّق المَرَح الذي يتموَّج في أعطاف الوجود
أيها الناس
أسمعوا، وعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا
الأديب يُسيطر على الحوادث، ويرفض الاستعباد للحوادث. والأديب أشجع منكم جميعاً لأنه لا يبالي متى يموت. وهل نسيتم أن الأديب هو الذي صنع بقلبه ولسانه وقلمه حوادث التاريخ؟
ستذكرون يوماً أن أعظم المعارك قامت أو كُسبِتْ بسبب لفتة ذوقية صَدَرتْ عن شاعر مُجيد أو كاتب بليغ أو خطيب صَدَّاح. وستعرفون يوماً أن ضمائر الأمم لم تخلقها غير أفكار الأدباء الموهوبين.
الأديب ليس جنديَّا يتلقَّى الأوامر، وإنما هو بَطَلٌ يُطاع. فليكُفَّ قومٌ عن التنديد بأهل الأدب، وليذكروا أنهم لم يكونوا إلا حاكين لأقوال أهل الأدب في الوطنية. ولولا أقلامنا لعجز أولئك اللائمون عن صياغة عبارات الملام
أسرار الجزع على باريس
وبهذه المناسبة أذكر أن في أهل مصر من شكت جفونهم قسوة الأرق حين سمعوا بسقوط باريس بين أيدي الألمان
فبأي حق جزع الجازعون على باريس وهي المدينة الوحيدة التي يموت فيها الرجل من الجوع حين يعوزه القوت؟
جزع المصريون على باريس وليس لهم فيها أعمام ولا أخوال، لأنهم سمعوا أنها كانت مثابة للحرية الفكرية والروحية والذوقية. جزعوا على مدينة سمعوا أن أهلها في أمان من أوزار النفاق. جزعوا على المدينة التي سمعوا أن الرجل قد يعيش فيها طول عمره بدون أن يتعرض للهوان ما دام معتصما بالأدب والحياء
وتلك معان لم يسمع عنها في غير باريس
وإلا ففي أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو في أمان من أهل اللغو والفضول؟
في أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو من أدبه في حصن حصين؟
باريس هي البلد الوحيد الذي لا يجازَى فيه الرجل بغير ما تجترح يداه
الرجل المهذَّب يعيش ويموتُ في باريس بدون أن تتعرَّض سمعته للزُّور والبهتان
فمن أين نشأت هذه المعاني؟
أليست من ثمرات الأدب الرفيع؟
باريس هي البلد الوحيد الذي يتجاور فيه حزب الله وحزب الشيطان بلا بغي ولا عدوان. باريس هي البلد الذي لا يتقدم فيه رجل بغير حق إلا في النادر القليل
في باريس يقوم الملعب بجانب الكنيسة، ثم يلتقي اللاعبون والمصلون وهم يتبادلون تحيات
المودة والاحترام
فإن كانت باريس ضيمت بجناية الأدب والذوق فهي ضحية كريمة للأدب والذوق
وهل يكون الانتصار في الغزو دلالة باقية على شرف المغيرين؟
إن كان ذلك فهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينتصر التتار على بغداد؟ وهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينتصر أعداء العرب على إطفاء نور الحضارة الإسلامية بالأندلس؟
وهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينجح نيرون في إحراق ذخائر الرومان؟
المعاني الروحية والأدبية هي الباقيات على وجه التاريخ. فمن كان يرى الفضل كل الفضل في أن ينتصر جيش على جيش بقوة النار والحديد فستريه الأيام عواقب ما رأى فكره المنخوب، والزمنُ كفيلٌ برفع الغِشاوة عن بعض القلوب
الأدب هو سفيرنا في الشرق
ويتحدث قومٌ عن صوت مصر في الشرق، وأقول إن الأدب هو سفيرنا في الشرق، ولكن أيّ أدب؟
هو الأدب الرفيع الذي يشرَّح جميع الأهواء الإنسانية بحيث يشعر كل امرئ في الشرق أن له نصيباً من العواطف التي يهتف بها أدباء وادي النيل
ولست بهذا القول أعادي أنصار الفكرية المصرية الذين يرون أن تكون مصر مثابة أفكارهم فيما ينظمون ويكتبون، فمن حق المصري أن يجعل مصر قِبلة هواه، ولكن من واجبه وهو أديب أن يذكر أنه أديب، والأديب أعظم وأرفع من أن يَقْصر أهواءه على الشؤون المحلية. الأديب المصريّ مسئول عن الطب لأدواء من وثقوا به من أهل الشرق. الأديب المصري مطالب بأن يكون صوته صدىً لجميع آمال الشرق، ولجميع آلام الشرق. الأديب المصريّ هو الآسي لجروح الشرق، وهو القيثارة التي تصدح بأفراح الشرق
وهذا هو واجب كفاية - كما يقول الفقهاء - فلست أطالب كل أديب بأن تكون نوازعه شرقية، وإنما أستنكر أن يعاب على رجل مثلي أن تكون له سياسة أدبية تتجه نحو الشرق، ولمصر في الشرق أهلٌ وأصدقاء
والواقع أني أتهم قومي بلا موجب، فأدباء مصر جميعاً يضمرون أصدق العواطف للشرق، ولكن يُعوزهم التعبير المقبول، فهم يُوهمون قراءهم أنهم لا يعرفون غير مصر، ولو نطقت
الضمائر لقالت إن عواطف أدباء مصر لم تكن إلا جوارح تحسُّ آلام الشرق
وهل يلام أدباؤنا على إعلان هواهم لمصر في أوقات الشدائد والخطوب؟ نحن نغار على مصر لغرضين: لأنها مصر، ولأنها مفتاح الشرق. فإن أمدَّنا الله بالقوة والعافية والتوفيق فسنجعل من مصر قاعدة حربية تدفع عدوان الغرب على الشرق
آه ثم آه!!
إني أخاف طغيان الحوادث على مصير اللغة العربية، وعلى العقيدة الإسلامية. وأنا مع ذلك غير يائس، لأن مصر باقية، ولأن الشرق لن يزول. والله هو المستعان، على مكاره هذا الزمان
الهجرة إلى الريف
الهجرة في أصلها اللغويّ تدلّ على معنى المَشقْة، فهي تشهد بأن المُهاجر ينتقل من حال الاستقرار إلى حال القلَق، فهل يكون الأمر كذلك في الانتقال من المدن إلى الأرياف؟
أعترف مع الأسف بأن الأمر صار كذلك، لأننا بالغنا في تجميل الحواضر المصرية مبالغة مُرهقة، بحيث صار المسكن الواحد يتكلف من الماء والنور ما يكفي لتموين أسرتين من أهل الريف. وقد زادت الأمور الكمالية زيادة لا تطاق، ثم أمست تلك الكماليات وهي من الضروريات. فنحن اليوم بفضل الحضارة في شقاء وعناء
وكنت لأول عهدي بحياة القاهرة أعيش عشية بسيطة، فلم أكن أشعر بفوارق كثيرة حين أنتقل لقضاء الصيف في الريف. ثم تحضَّرت رُويداً رويداً إل أن صرت لا أستطيع قضاء ليلة واحدة بمنزلنا القديم في سنتريس. ولولا الأموال التي خاطرت بتبديدها في بناء منزل جديد هناك لكان من العسير أن (أهاجر) من وقت إلى وقت لزيارة أهلي
الحق أن الحواضر المصرية شلْت قدرتنا على الأُنس بالريف. فالأنهار الجارية في الأرياف لا تغنينا عن صنابير الماء التي ننعم بها في الحجرات والغرفات. والقمر الذي يسطع بأنواره الفضية في سهول الريف لا ينسينا جاذبية النور الذي نتلقاه عن مصابيح الكهرباء. ومن هنا صح القول بأن الذهاب إلى الريف هِجرةً فيها ما فيها من القسوة والعنف. فهل تكون هذه (الهجرة) فرصةً للتداوي من أمراض المدينة؟
إن كنت سمعتم أن الترف يقتل الممالك والشعوب فقد آن الأوان لشرح تلك النظرية.
فالحضري الذي يعجز عن المبيت بديار الريف هو أعجز الناس عن تحمُّل العيش في ميادين القتال
ولو شئت لاقترحتُ أن يُمنَع النوم فوق الأسرَّة في المعسكرات حتى لا يعرف الجنود طعم اللين. فمن الصعب على من تعوّد النوم فوق الحشايا أن يفترش الأرض الصمّاء حين تقهره على ذلك ظروف الهيْجاء
يرحم الله أيامي حين كنت فلاحاً لا يؤذيه النوم فوق الأرض الجرداء!
فقد وَقَذتني الحضارة وأضرعَتني حتى صارت جُنُوبي لا تطمئن إلا إلى حشايا تُنَجّد في العام الواحد مرتين أو مرات، وذلك داء عُضال
لا فائدة من النوم على ما فات. ثم أُوجِّه الكلام إلى أولئك المهاجرين فأقول:
أنتم تَفِدون على أقوام تحصنوا بالقناعة، فما يعرفون من ألوان الطعام غير لون أو لونين، فلا تفتنوهم برؤية الموائد المثقلة بأطايب الطعام والشراب، ولا تحملوهم على أن ينظروا إليكم نظر المحروم إلى المطعوم. فلذلك عواقب يخشاها من تهمهم سلامة القلوب في الريف
أنتم تفِدون على أقوام لا يملك الشخص منهم غير ثوب أو ثوبين، فلا تفتنوهم بكثرة الأثواب، ولا تشعروهم بأنكم أقدر منهم على الزينة، فلذلك آثام ستسوؤكم أوزارها بعد حين
وما الموجب لأن يتخطْر بعض الشبان (المهاجرين) فوق شطوط الجداول وقد لبسوا (البيجامات) وتركوا رؤوسهم العارية تداعب النسيم بالشعر المعطَّر المشكول؟
ألا يعرف هؤلاء الشبان أن أهل الريف لن يلقوهم بغير السخرية والازدراء؟
يجب أن تعيش في الريف بأخلاق أهل الريف، فتحلق رأسك وتكتفي في مطعمك وملبسك يما يتسق مع المأثور من شمائل أولئك الناس، فإن خالفت هذه الوصية فلست أهلاً لنعمة الله عليك، ولن تترك في الريف غير ذكريات لا يسرُّك أن تعاد
هل عندك من قوة الأخلاق ما تقدَّم به لأهل الريف زاداً جديداً من أدب النفس؟
هل تستطيع أن تروض أهل الريف على الاقتناع بأن لأهل المدن شمائل هي السبب في سبقهم إلى أطايب المنافع وكرائم الطيبات؟
هذا يومٌ من أيامك، أيها المهاجر إلى الريف، فكن قَبَساً من الهداية يدفع ما في الريف من ظلمات. وكن في سيرتك مثالاً يحتذيه مَن رحَّبوا بقُدومك أجمل ترحيب
إن الذين يهاجرون إلى الريف بالألوف سيعرِّضون الريف لرجَّة اجتماعية؛ فما عسى أن تكون تلك الرجَّة؟ أتكون خيراً؟ أتكون شرّاً؟
عندك - أيها المُهاجر - جواب هذا السؤال. لطف الله بك وهداك!
ابدأ بنفسك
كَثُر التواصي بالوطنية في هذه الأيام، وأصبحت الجرائد والمجلات ميداناً لأقلام أهل الحَميَّة من أبناء الوطن العزيز
وهذه فرصة لامتحان النفوس والعزائم والقلوب، فكل امرئ يعرف ما يملك من زاد الوطنية، وكل امرئ يعرف ما عنده من عناصر الأمانة والصدق والإخلاص
والمهم هو أن تبدأ بإعداد نفسك لدعوة الواجب، وأن تؤمن بأنك المسئول الأول، وأنك وحدك المعني بالنداء يوم يدعو الوطن أبناءه لتفديته بالأموال والأرواح
ويلي ذلك في الأهمية أن تشعر بمعنى الأخوَّة الوطنية، وأن تثق بأن جميع من تصادفهم في غُدُوَّك ورواحك هم أخوتك وأنصارك، وإن لم تعرفهم من قبل، وأن تعرف في قرارة نفسك أن منافعهم هي بعض منافعك، وأنك عن تفديتهم مسئول
التماسك الأخوي هو الحجر الأول في بناء الوطنية، ويوم يصح هذا التماسك لا يضيرنا أن تَفْسُد الدنيا يوماً فينفرط عقد الأمان
هل سمعت بالقوانين التي تشرع للطوارئ؟
إن كنت سمعت فاعلم أن الأمة الكريمة هي التي لا تفتقر إلى مثل تلك القوانين في غياهب الأزمات وظلمات الخطوب
نحن لا نحتاج إلى أدب النفس في أيام السلام، وإنما نحتاج إلى أدب النفس في أيام الحرب، فمن أنت بين أصحاب النفوس؟
الوطن يعتمد بعد الله على نفسك العالية، فكن عند ظنه الجميل
الوطن يرجو أن تفي له في أيام الشدة كما وفى لك في أيام الرخاء
الوطن هو أنت، فمن أنت؟
إن في الدنيا ناساً يتخذون أيام الحرب وسيلةً لِوَرَم الجيوب، وأعيذك أن تكون من أولئك الناس
لمثل هذه الأيام تُدَّخر الأخلاق، فكن من أقطاب الأخلاق
أبدأ بنفسك فنزِّها عن مآثم الجشع والخيانة والبهتان، فإن فعلت فستظفر بثروة روحية تدفع عنك ظلمات الحوادث، وتمنحك القدرة على الاستهانة بالخطوب
العاقبة للصادقين
العاقبة للصادقين
العاقبة للصادقين
فكن في جميع أحوالك من أهل الصدق. وأحذر أن يكون أحد في الدنيا أصدق منك، فما يليق برجل كريم أن يكون من أهل الطبقة الثانية في الصدق
الأحزاب السياسية والأدبية
في أعقاب الأزمة الوزارية الأخيرة أدركت قيمة الحياة الحزبية إدراكاً أوضح من الإدراك الذي كنت أتمثلها به من قبل، فقد صح عندي بصورة صريحة أنها تعاون على إظهار أقدار الرجال
ومن المؤكد أن في كل أمة رجالاً يصلحون للحكم بأفضل مما يصلح بعض رجال الأحزاب، ولكن حرمانهم من الأنصار يحول بينهم وبين أداء واجبهم عن طريق المناصب الوزارية، وهي مناصب تمكِّن الرجل المخلص من أداء الواجب الوطني على الوجه المنشود
قد يتفق في بعض الأحيان أن يصل الرجل المستقل إلى تلك المناصب، ولكنه مع ذلك يظل مقلقلاً مزعزعاً بسبب عزلته عن الأسندة الحزبية، وهي دعائم تحول الضعفاء إلى أقوياء. والمرء كثير بأخيه، كما قال الرسول:
من حق الرجل أن يتحزب، بل من واجبه أن يتحزب، على شرط أن يكون صحيح النية في خدمة المبدأ الذي ينتمي إليه، وعلى شرط أن يكون التضامن الحزبي وسيلة لغرض سليم هو استعجال الفرصة للاضطلاع بحمل الأعباء الثقال في خدمة الوطن عن طريق الوزارة أو طريق البرلمان
ولا يعاب التحزب إلا بآفة واحدة هي ما يقع من السَّرف في اللجاجة والعنف، كالذي نراه من بغي بعض الأحزاب على بعض من حين إلى حين
ولكن من السهل على الرجل الحكيم أن يتجنب هذه الآفة فلا يَشتِم ولا يُشتَم، ويظلْ محترماً من الجميع، كأن يكون مِثل مصطفى عبد الرازق بين الدستوريين، ومثل زكي العرابي بين الوفديين، ولهذين الرجلين أمثال في سائر الأحزاب، وإليهم تتجه الأنظار في الظروف التي توجب أن يتقدم لحمل أعباء الحكم رجالٌ ليس في مسلكهم الحزبيّ ما يهيج الخصومة ويثير الخلاف
تلك هي الحال في الحياة السياسية، فكيف تكون الحال في الحياة الأدبية.
الواقع يشهد بأن النجاح في الأدب قام على إسناد من العصبيات الممثَّلة في الأندية والجمعيات، فعندنا في مصر أحزاب أدبية، وإن لم تصطبغ صراحة بالصيغة الحزبية، وبفضل ذلك التحزب المستور لمَعَتْ في عالَم الأدب أسماء كانت أهلاً للخمول لو واجَهت الحياة الأدبية بلا إسناد من الأصدقاء والحُلفاء
أقول هذا وقد فاتني التحزّب في السياسة والأدب، فأنا صديق الجميع، وعدو الجميع، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يعيش بلا أنصار ولا أصفياء
سمعت أن في مصر حزباً يسمى حزب المستقلين، وهم الذين قرروا الاجتماع في حديقة الأزبكية ليعلنوا رأيهم في الصورة التي تؤلَّف بها الوزارة الجديدة. ثم سمعت أيضاً أن الوزارة أُلَّفت قيل أن ينفضّ اجتماعهم (المعقود)
وأنا في الأدب من حزب المستقلين، فليس من العجب أن تؤلَّف اللجان وتُعقد المؤتمرات بدون أن أخطر في البال، فتلك مزية الاستقلال!
سأتحزب، سأتحزب، سأتحزب
ولكن كيف؟
سأعقِد محالفة بيني وبين قلمي، وهو أقوى وأنفع من ألوف الأصدقاء
قضيتُ دهري بلا نصير ولا مُعين، وسأظل كذلك طول حياتي، لأقيم الدليل على أن من يستنصِر بالله لا يَخيب ولا يضيع
فإليك يا فاطر الأرض والسموات، وأنت وحدك الوليُّ النصير، أقدم واجب الحد والثناء
زكي مبارك
الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
قد لا يكون من الحكمة أن نتعجل بحث الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية من قبل أن نعرف: ما هو المقصود بالجنس؟ وما هي أنواع الأجناس المختلفة التي يدور البحث حولها؟
والموضوع من التعقيد بمكان، فقد شغل فقهاء اللغة، وعلماء الأجناس وعلماء الاجتماع والسياسة، ولا يزال يشغلهم حتى الآن، ولم يوفقوا بعد إلى رأي نهائي. وكل ما وصلوا إليه إنما هو حدس وفرض. وسبب ذلك أن موضوع الأجناس البشرية يبحث في القديم من التاريخ وفيما قبل التاريخ.
وليس ثمة من الوثائق التاريخية أو الأثرية ما يكفي لتحقيق فرض أو إثبات نظرية، كما يبحث أيضاً في الأجناس الحاضرة. وما قام به العلماء من محاولات لكشف ما عسى أن يكون من صفات جسمية وعقلية وخلقية مشتركة تميز طائفة من البشر عن غيرها لم يؤد بعد إلى حكم جازم بأن هذه الطائفة - مثلاً - متميزة كل التميز عن تلك. وذلك لما حدث في الماضي من هجر بعض الشعوب مواطنها الأولى واستقرارها في مواطن أخرى وامتزاجها بسكان هذه المواطن الأصليين بالتزاوج والتناسل، حتى أصبح من العسير علمياً أن يقال إن هذه الطائفة من الناس نقية الجنس لم تختلط بغيرها. وهذا ما جعل تعريف الجنس نظرياً فقط لا واقعياً. وهم يقولون إن الجنس من الأجناس البشرية هو جماعة كبيرة من الناس تنتمي إلى أصل واحد قديم، وتتميز بخواص جسمية وعقلية وخلقية مشتركة تميزاً وراثياً
والمتأمل في هذا التعريف لا يستطيع أن يجزم بالحد الذي تكون به الجماعة (كبيرة) بحيث تكوِّن الجنس. فجماعة سكان استراليا الأصليين مثلاً لا تعتبر كبيرة إذا قارناها بالترك، مع أن علماء الطبائع البشرية يعتبرون السكان الأصليين لأستراليا جنساً مستقلاً، بينما الترك فرع من الجنس المنغولي. وعلماء النفس لا يُقرون - كما سنرى - القول بوجود تلازم بين الخواص الجسمية والعقلية أو الخلقية. فإن وجود أنواع من الأجناس البشرية، تتميز بصفات جسمية خاصة، لا يدل مطلقاً على وجود تميز عقلي أو خلقي لهذه الأجناس، لأن
ذكاء المرء أو خلقه لا يمكن أن يحكم عليه عادة بشكل جسمه، ولأنا إذا سلمنا بوجود اختلاف بين الأجناس في العقل والخلق كنتيجة ملازمة لاختلافها في الشكل والمنظر، كان معنى هذا أن الأفراد يختلفون بالضرورة عقلاً (أعني ذكاء) وخلقاً باختلاف مناظرهم وإشكالهم. وقد أثبتنا في المقالات السابقة أنه لا توجد علاقة تلازمية بين الخواص الجسمية وبين الذكاء، ولا بينها وبين الخلق
ولقد كان الرأي السائد حتى منتصف القرن الماضي أن الأسرة البشرية إنما تنقسم إلى ثلاثة أجناس: سامي وحامي، ويافثي. وهذه هي نظرية التوراة المذكورة في قصة نوح، فإنه لما استوت فلكه على الجودي كان معه من أبنائه الناجين سام وحام ويافث (وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو أبو كنعان. هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح. ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض). ولقد شك كثير من العلماء في صحة رواية التوراة، وأيدوا شكهم هذا بحجج منها أن التوراة تجعل الكعنانيين من الحاميين مع أنهم أقارب الإسرائيليين وتربطهم بهم روابط عنصرية ودموية ولغوية وثيقة. كما تأثر فقهاء اللغات بهذه النظرية فقسموا لغات البشر إلى ثلاث طوائف: السامية والحامية واليافثية. ولكن العلماء الآن لا يرون ضرورة وجود علاقة بين اللغة والجنس. فالعرب - كما يقول الأستاذ مرجليوث - ليسوا ساميين لمجرد أن العربية هي إحدى اللغات السامية، فقد يشترك في تكلم اللغة الواحدة أكثر من جنس واحد. وإلى هذا يشير الكاتب الإنجليزي العالمي هـ. ج. ويلز بقوله: (وقد حدث أن خلط فقهاء اللغة بين اللغات والأجناس فافترضوا أن الأقوام الذي يتكلمون لغة واحدة مشتركة لا بد أن يكونوا من جنس واحد مشترك، وهذه ليست الحقيقة. ومن السهل على القارئ أن يعرف هذا إذا عرف أن زنوج أمريكا يتكلمون الآن الإنجليزية، وأن الأيرلنديين - إذا استثنينا استعمالهم للغة الأيرلندية القديمة لأسباب سياسية - يتكلمون الإنجليزية أيضاً كما يتكلمها سكان ويلز ببريطانيا بعد ما فقدوا لغتهم الكِلتية القديمة. وكل ما تدل عليه اللغة المشتركة بين الأجناس المتباينة هو حدوث اختلاط اجتماعي في الماضي بين متكلميها مختلفي الأجناس، واشتراكهم في مستقبل واحد، ولا تدل على أصل مشترك واحد
لم يتفق علماء الطبائع البشرية على الخصائص التي تميز جنساً من الأجناس البشرية عن
جنس آخر، ولكنهم متفقون على أنه قد وجد في العصور القديمة جداً أجناس بشرية أولية متميزة، وقد انتشرت هذه الأجناس في الأرض وارتحلت من مكان إلى مكان، ومن مناخ إلى مناخ، ومن بيئة إلى بيئة، فخضعت لاختلاف البيئة الجديدة، وتأثرت بما فيها من رخاء وشدة، ومن طعام ومأوى مغاير، فتكيفت الأجسام والعقول تكيفاً يناسب البيئة الجديدة. وتطور هذا التكيف خاضعاً لقانون التنازع الدائم بين الإنسان وبين الطبيعة: يريد أن يخضعها وتريد أن تخضعه. فجدت أقوام تخالف أجناسها الأصلية، وامتزجت هذه الأقوام بغيرها من أقوام ذوي جنسيات أخرى. وهكذا استمرت الأسرة البشرية في تغير وتطور حتى صارت إلى ما هي عليه الآن. فلم تبق إذا تلك الأجناس البشرية الأولية محافظة على وحدتها وكيانها، ولكن جماعات أخرى جديدة تأثرت بعوامل البيئة المستمرة وتميزت عن غيرها، وإن كانت هذه الجماعات الجديدة لم تحتفظ بدمها الجنسي الأصلي. من أجل ذلك نجد اختلاطاً كبيراً في صفات الأجناس البشرية الحالية، فسكان استراليا الأصليون سود البشرة بينما شعرهم ومستقيم، وتقاطيع وجههم تشبه تقاطيع وجوه الأوربيين. وكذلك نجد بين سكان الأقاليم الشمالية من له شعر أسود، وبشرة ورقاء، وبين سكان أقاليم البحر الأبيض المتوسط بيض البشرة وسمرها وبالرغم من هذا كله فقد حاول علماء الطبائع البشرية أن يقسموا الأسرة البشرية الحالية إلى جماعات جنسية وفقاً لصفاتهم الجسمية الظاهرة: كشكل الجمجمة، وتقاطيع الوجه، ولون البشرة، ولون الشعر ولن العيون. وعلى أساس هذه الصفات الجسمية تنقسم الأسرة البشرية إلى ما يأتي:
الجنس القوقازي: هو يشمل سكان أوربا والبحر الأبيض وغربي آسيا، وهو جنس أبيض. وهذا الجنس ينقسم إلى جنسين أو ثلاثة أجناس: الجنس الشمالي، ويمتاز بالشعر الأصفر وبياض البشرة بحمرة وطول الجمجمة. وجنس البحر الأبيض المتوسط، ويمتاز بالشعر الأسود والبشرة البيضاء بسمرة والجمجمة المدورة، وبين هذين الجنسين جنس ثالث هو الجنس الألبي وهو وسط بين الجنسين. ومن الجنس القوقازي بعض السكان الأصليين للهند وإيران وما بينهما. شكل (1)، (2)، (3)
الجنس المنغولي: ويمتاز بصفرة البشرة وسواد الشعر واستقامته، وارتفاع عظام الخد، وتوسط القامة. ويشمل سكان آسيا الوسطى والشرقية، والأمريكيين الأصليين (الهنود
الحمر)، وجنساً يسمى الكالموك كان يسكن هضبة التبت حتى القرن السابع عشر الميلادي حين ارتحل إلى شواطئ الفلجا. وقد اختلط الجنس المنغولي بالجنس القوقازي في أواسط آسيا وشرقيها. شكل (4)، (5)، (6)
الجنس الزنجي: ويمتاز بسواد البشرة، وتفلطح الأنف، وثخن الشفتين، وتجعد الشعر. ويكون هذا الجنس سكان أفريقيا الأصليين. وقد تأثر هذا الجنس بما جاوره من الأجناس الأخرى. شكل (7)، (8)، (9)
الجنس الأسترالي الأصلي: ويمتاز بسواد البشرة، وقد تكون حواء، وبسواد الشعر واستقامته وكثافته، وبطول الجمجمة، وتفلطح الجبهة وانحدارها إلى الخلف. ويشمل سكان استراليا قبل كشفها، وسكان جنوبي الهند وسيلان وشبة جزيرة الملايو. شكل (10)، (11)
ويذهب بعض علماء الطبائع البشرية إلى القول بوجود جنس أخر أقدم من الأجناس السابقة كان موطنه منطقة البحر الأبيض المتوسط الأفريقية، ويمتد شرقاً إلى الهند فالمحيط الهادي، ثم يعبره إلى المكسيك وبيرو. ويمتاز بالبشرة البرنزية وهو صاحب أقدم الحضارات المسماة بالحضارات الهليوليتية ولعل الحضارات الأولى التي ظهرت في وادي النيل والفرات ودجلة كانت على صلة بتلك الحضارة الهليوليتية. . . ويظهر أن سكان صحراء الجزيرة العربية البدو كانت لهم حضارة هليولوتية)
هذا وتقسيم الأجناس الذي ذكرناه إنما هو رأي طائفة من العلماء. والحقيقة أن هذه الأجناس قد اختلط بعضها ببعض لدرجة يصعب معها أن نجد جميع مميزات كل جنس باقية من غير تغير. بل إن بين بعض أفراد الجنس الواحد من الفروق الجسمية ما هو أكثر من الفروق بين فردين من جنسين مختلفين.
وسنعالج موضوع الفروق العقلية بين الأجناس في مقال قادم
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
هذه هي الساعة.
. .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
قامت الدنيا وأخذت تعد زينتها لأمر غير ما مضى من أمرها. إنها لابد أن تتبرج لعيون عشاقها، ممن كتب لهم أن يشهدوا مشهداً آخر من فصول الرواية الإنسانية التي تمثل في ساحاتها. نعم، فإن الحرب المهلكة التي لا تزال تقعقع من شواهقها حين تنقض، أو تزحر وتئن تحت أثقال الوقائع - لا تلفت الحياة الدنيا عن عملها في تلبيس العيش بالفتنة لمن يعيشون، ولا عن تقديم اللذة لمن يشتهون. وكأن هذه الحرب إن هي إلا تضخيم عظيم لعمل العامل في إزالة النظرية (التواليت) عن وجه الغانية، ونسف التطريف (المانوكير) عن بناتها، وما سوى ذلك من إعداد الغانية الحسناء لتبدو مرة أخرى في حلي وبهاء وزينة
لا أتشاءم ولا أتفائل، فالقدر قد قضى على الدنيا قضاءه؛ وما ندري ما يراد بنا منذ اليوم! فرب شر نتوهمه كذلك قد احتقب الخير، ليرمي في أرجاء الدنيا غرساً جديداً في أرض جدد ثراها ما أصابها من تدمير وهدم. إن بعض القسوة في الحياة يكون كتشذيب الشجر في إبانه، يقطع منه ليزداد قوة على إثبات وجوده وتقرير حقه في البقاء نامياً فينان يسمو وينتشر ويخضر ويثمر. وقانون الفطرة الذي تجري أحكامه على الطبيعة لتتجدد، لا يخطئ ابن الطبيعة يعمل فيه، ليصنع له حياة جديدة تثبت أن وجوده على الأرض حقيقة نامية أبداً، إن يكن الماضي قد باد في التاريخ، فإن الحاضر يثبت إثباتا عملياً أنه مستمر في الحاضر، ويكون استمراره في الحاضر دليلاً على امتداده إلى المستقبل. ويكون من جميع ذلك أن الحياة الدنيا مهما أصابها من شيء باقية، لا يمحوها إلا القانون الآخر الذي يجعل لكل أول نهاية ينتهي إليها. فإذا جاء أوان هذا القانون فقد بطلت حيلة المحتال
إن الزَّمنَ الذي يمشي في الأرض فَتَخضرُّ منها مواطئ أقدامه، هو نفسه الزمن الذي يدب عليها فيُسمع لدبيبه دمدمة مما يتقصف تحته من عمارة الدنيا وبنيان الحضارة، وعلى مواطئ الزمن تتنزل الحضارات كلها أو تتهَدّم. ومن يوم أن تنهَّدَت الأرض بالحياة يبيدُ شيءٌ ويقومُ شيءٌ، وما يزول منها ما يزول إلا ليحل عليها ما يحل، لأن الحركة دليل الحياة، فلا يثبت معنى الحياة إلا بها، وما يتحرك من متحرك إلا لتكون لانتقاله نهاية إليها يتوجه، وعندما يقف. فإذا وقف فهذا آخر أنفاسه، ثم يسكن سكون الموت
فما بنا على ذلك أن نتشاءم أو نتفاءل، وما التشاؤم والتفاؤل إلا حركة النفس الفارغة التي لا تجد عملها، فهي تعمل في إرهاق نفسها بما لا ينفعها ولا يعنيها؛ وليس من عمل الإنسان ما هو أضر عليه من إجهاد نفسه في باطل، والجهاد بها في غير طائل. فإذا أردنا اليوم أن ننظر فما ننظر إلا لنعرف الطريق التي يجب أن نقرر لجهودنا أن تمهدها لنا ولمن يأتي بعدنا على تدبير وسياسة
والقدرُ اليومَ قد قضى بين الناس، ووضع القضية لمن يختار، فمن شاء أن يدخل في عقد هذا وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يتخلَّف فقد رضي لنفسه على مَيْزة وبصيرة، وما ينقض القدر قضاءه الذي أبرم، فيأتي من يأتي ينوحُ بما ظُلم، ويتوجَّع بما غُبنَ!!
ونحن قد لقينا من أحداث الدهر ما ردَّنا بعد عزّ إلى قرار هوان. وقد أبَى لنا أن نرفع أنفسنا من وهدة واطئة قد ربضت بنا فيها سلاسل من حديد الذل، وقد حضرت ساعة ينبغي أن نفصل فيها بين عهد مضى وزمن يستقبل، فإذا قعدت عزائمنا، وعميت أبصارنا، فأنفسَنا نضيع، وأرواحَنا نزهق
جاءت هذه الحرب لتنسف تاريخاً شامخاً ثقيلاً قد اضطجع على حياة الشرق كما يضطجع الجبل على سفحه الرَّحْب، فإذا تأخر الشرق وتهاون وتكاسل على ما عوَّده الموت الروحيُّ الذي كان فيه، فقد سنًحتْ له الفرصة ثم ولَّت عنه، وتركتْ يدَه ممتدَّة لا تمسكُ إلا أذيالَ الريح التي استَرْوَحتْ عليه بأنفاس الصيد ورائحته
إن في هذا الشرق لميراثاً نبيلاً من الأعمال والأخلاق والآداب والسياسات، ولكن هذا الميراثَ المضيَّع المنسي لا يجدي من خير على نائم قد أغمض عينيه عن الحياة، استمتاعاً بحياة أخرى تعرضها له أحلام رخية تختال في خياله. هذا الميراث المجهول في حاجة إلى من ينفض عنه غبار القدم، وأتربة الإهمال، ويزيل عنه أدران الجهل والخمول، ويجلوه مرة أخرى على أعين الناس مضيئاً مشرقاً يتوهج بأنواره كأحسن ما يتوهج
لقد كانت الحضارة الأوربية الماضية، وقامت على روح من الأثرة والبغي والاستبداد، وفقدت كل معاني الروح السامية التي تبذل أكثر مما تأخذ، وتعتد الغنى من الاستغناء لا من الجمع والتعديد، وتجعل حرية النفس في ضبطها وإمساكها على المصلحة لا في تسريحها وإرسالها على مدة الشهوة. وقد كان للشرق مجد وحضارة ومدنية، وتمم الإسلام كل الكمال
لهذه الحضارة بما أقام للناس من شعرائه وآدابه، وجاء على الشرق زمان كان الإصلاح فيه ضرباَ من إفساد الصالح، وزيادة الفاسد فساداً وخبالاً. وكذلك ضاع كل شيء، ورجع بنا الزمان إلى جاهلية جهلاء، تقوم على التقليد لا على الإبداع، وعلى المتابعة لا على الاستقلال، وبالكبرياء لا بالتواضع، وحتى ذكرى مجدنا السالف قد صارت عندنا نخوة جاهلية في التعظم بالآباء والأجداد، لا عملاً عظيماً تعظمه أعمال الآباء والأجداد والوراثة القومية النبيلة
والحضارة ليست هي العرض الظاهر من قوتها وبنيانها وفنونها وكل ما يقوم به نعت الحضارة، بل الحضارة هي السر الذي يعمل في إيجاد ذلك واستنباته، وإخراجه على الأرض واستثماره: هي سر الحبة التي تنبت الدوحة، والذرَّة التي تقوم بها المادة. فكل حضارة لابد لها من روح تعيش بها وتنمو، وعلى ما في هذه الروح من النظام والتدبير والنبل والسمو، تنشأ الحضارة منظمة مدبرة سامية نبيلة. ونحن لا نشك في أن الروح التي ورثها الشرق في نواحيها، والتي طهرها الإسلام من نواحيها وأتمها، وأحسن سياستها، ونفى عنها خبثها - هي التي تستطيع أن توجد على الأرض حضارة تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وتفيض بها رحمة كم فاضت غلظة، وتجعلها طريقاً للإنسانية تخرج به من ظلمات الباطل والبغي والغرور إلى نور الحق والتواضع والمساواة. ويومئذ لا يقتتل الناس من أجل سلب الحق للزيادة في أنفسهم وجنسياتهم، بل يقتتلون - إن هم اقتتلوا - من أجل إعطاءِ الحق وردَّه على أهله مهما اختلفت جنسياتهم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بما يحسن هذا ويسئ ذاك، ويصبح القانون العالمي، قانون الحق يستقر حيث ينبغي أن يستقر
إن العالم الآن ليقتتل على غير غرض إنسانيّ كامل مقرّرٍ لا يشذ على غاياته ومبادئه أحد. إنه يقتتل على طعام يؤكل، بل على هذا الطعام كيف يُؤكل. فليس لهذه المدنية الأوربية إلا معنىً جنسيٌُّ مُتَعصِّبٌ تدافع عنه لنفسها لا للإنسانية كلها، لا يشك في ذلك إلا من طمس الله على بصيرته، وقادته أهواؤه وغرائزه دون عقله وواجبه. وما هذا التوحش الحيوانيُّ في هذه الحرب إلا نتيجة طبيعية للفكرة القومية المستقلة التي لا تريد إلا أن تستولي على أعظم ما يمكن أن تضع يدها عليه لتستمتع بالحياة والشهوات والسلطان
أما الإسلام - وهو روح الشرق من أقدم عصوره على اختلاف أديانه وأجناسه - فقد وضع كل مأثرة قومية جاهلية تحت قدمي صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وسوّى بين الناس من أهله وبينهم وبين أهل ذمته وعهده، واختار المسلمين ليكونوا شهداء على الناس، فيكونوا قضاة يحكمون بالعدل لا يبغون ولا يجورون، وجعلهم دعاة يدعون إلى مبدأ يتساوى عليه الناس، فمن دخل فيه فهو منه، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وكتب عليهم القتال وأمرهم بهم، وعظم الجهاد في نفوسهم، ولكنه قتال على دعوة إلى هذا المبدأ وجهاد في سبيله وحرم عليهم العدوان ابتغاء عرض الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها
فالمسلم من دينه في قانون إنساني كامل، لا يعمل للجنس أو الفرد أو السلطان والسيطرة، بل يعمل لإعطاء العالم كله روح المساواة، قد تحاجزوا بينهم في الشر، وانطلقوا في أيامهم يعملون على إثباتها في تاريخ الدنيا بمبدئها لا باستبدادها، وبغايتها دون لذاتها، وبالسمو بها إلى الإشراف على نظام الدنيا والسمو بها، لا بسيطرة القوة على إخضاع الدنيا وإذلالها، وجعلها كالبقرة يُحلب درُّها لمن يملكها. فالقانون الإسلامي العظيم هو روح الحضارة التي يجب أن تسود العالم، فإنها حين تسود عليه تجعل الحق هو السيد الذي تخضع له أعناق الناس، لا يبغي بعضهم على بعض في سبيل شهوات غريزية حيوانية مفترسة، يغذوها الدم ويهيجها الدم، فهي آكلة لا تشبع وثائرة لا تقر
والمسلمون اليوم هم جل الشرق، وروح الشرق، ولكنهم مسلمون قد أُفرغوا من معاني الإسلام وبقيت ألفاظه تعيش بهم. إن كل فضيلة من فضائل هذا الدين، وكل عمل من أعماله قد انتزعت منه روحه، فتعامَل الناس على ما خيّلتْ، لا يبالون ما أمروا به ولا ما نهوا عنه، ففقد هذا الشرق الرأي العام الإسلامي الذي يكون تعبيراً صحيحاً عن إرادة الإنسانية في الاستعلاء والسمو. ولكن هذه الحرب قد تثير هذا العالم الراكد، وتدفع فيه أمواجه الأولى التي غسلتْ وجه الأرض وطهرته من دنس الحياة المادية العابثة المعربدة، فإذا كان ذلك فإن هذا الشرق قد أعد اليوم لأمر جلل، وقد حفظ الله له تاريخه الذي ورثه كاملاً فيه الأسوة وفيه العبرة، وفيه فلسفة الحياة الاجتماعية التي تجعل الفرد الواحد أمة كاملة لأنه هو ممثل الأمة، وتنصبه حاكماً لأنه يحكم نفسه أول ما يحكم، وتهيئه جيشاً محارباً في سبيل الحق الأعلى للإنسانية، لأنه يحارب نفسه أول ما يحارب في إقرارها
على إعطاء الحق لمن يستحقه من حقيقة نفسه
فاليوم يوم الشرق إن اختار أن يبدأ حركته إلى الغاية التي أمر بالبلوغ إليها والوقوف عليها شاهداً قاضياً، يدبر الأمر ويصرفه في سيادة الحق كله على الباطل كله. ونحن لا ننسى ما صرنا إليه، ولا نغفل عما فرغت منه أيدينا من أسباب الغلبة التي تتحكم اليوم في مصير الدنيا، ولكت الإرادة التي تحكم الرجل الواحد، تستطيع أن تحكم العالم كله، وسبيل ذلك أن يكون كل رجل مريداً إرادة صارمة لغرض مقصود بعينه، فهذه الإرادة هي التي تفتق له الجو الإلهي الذي يعد الإرهاص للمعجزة الإنسانية
ستكون أحداث، وتتجدد على الناس نوازل، وتسيل الكوارث من كل مسيل، ولكن الشخصية الاجتماعية التي لا تختلف ولا تتدابر ولا تتعادى، تستطيع أن تغرس في أيام المحن غرس المجد الإنساني السامي، لتنبت شجرة يمتد ظلها، ويترامى فيئها، ويطيب ثمرها، ولا يكون ذلك إلا بعد جهد ومشقة وعنت، ومصابرة للنفس على لأواء الحياة التي فرضت علينا أن نتألم، وأن نصاب، وأن يبلغ منا العذاب مبلغاً يُجهد ويؤود
فهذا أوان يستطيع الشرق أن يضرب الاستحكامات في أرضه وفي أوطانه بالأخلاق سامية عاتية، فيها القدرة على النمو، والقوة على البقاء، وأن ينظم لحياته نظاماً يهدف بغاياته على مستقبل يبعد عنه أو يقرب على حياطة تحفظه أن يقع فيه ما وقع في أيام البلبلة الأخيرة التي تبعت الحرب الماضية. نعم، إن الشرق يفقد اليوم زعيمه الذي يهب من جماعاته كالأسد تنفرج عنه الأجمة الكثيفة عاليَ الرأس حديد النظرة، تتفجر القوة من كل أعضائه ولكن، أيمنع هذا أصحاب القلوب الحية التي تشعر بحاجتها إلى هذا الرجل أن تهزَّ شعوبها هزَّا عنيفاً متتابعاً، حتى ينفلتَ إلى المقدمة ذلك الأسد الرابض إلى الأرض في قيوده الاجتماعية التي تقعد به عن الحركة للوصول إلى المكان الذي أعده له القدر، ليبدأ بدأه في إعداد الدنيا لاستقبال الدين الذي سيتجدد في الدنيا، لأنه هو سر الدنيا وسر القدر
إن علينا أن نعمل، فإن كان ما أردناه وما نتمناه، فذاك عز الإنسانية ورضوان من الله، وإلا فقد أدينا ما وجب، ولله الأمر من قبل ومن بعد
محمود محمد شاكر
حركات الإصلاح الإسلامية
5 -
أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
لم تبق حركات الإصلاح محصورة في الهند ومصر، ولكنها تعدتهما إلى البلاد الإسلامية الأخرى، وذلك أن حركة التبادل الفكري في العالم الإسلامي قوية عنيفة لا يمكن معها أن تبقى مثل هذه الحركات مقصورة على مكان واحد. وعلى الأخص إذا كانت أفكاراً لذوي الشخصيات القوية مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ممن تعدت أفكارهم وآراؤهم الحدود ووجدت صدى بعيداً وتأثيراً مباشراً
وقد ظهرت فجأة وعلى غير انتظار حركة إصلاح ديني هي حركة الإصلاح في تركيا، ذلك الشعب الذي لعب دوراً في قيادة العالم الإسلامي عدة قرون. وقد جاءت هذه الحركة متأخرة عن الحركات الأخرى، ولكنها كانت مع هذا التأخر أشد من أولئك فضلاً وأنفذ عملاً. أما السبب الذي جعل تركيا التي كانت تسير في الإصلاحات السياسية والثقافية في المقدمة وعلى قمة الناهضين - لا تهتم اهتماماً استقلالياً بالإصلاح الديني إلا أخراً، فإن ذلك يرجع إلى أسباب من أنواع مختلفة، فمن ذلك أن الأتراك بطبيعتهم لم يكونوا باحثين منقبين، ولم يساهموا في تطور الإسلام بسهم ملحوظ؛ فإنهم عندما دخلوا الإسلام كان الدين والتفكير فيه قد انتهى إلى شكله النهائي الذي وصل إليه. وكما أنهم لم يساهموا فيه أولاً، كذلك لم يساهموا في نهضته أخراً، لما هو فيهم من ميل وسعي لاقتباس المدنية الغربية، وكلما ظهر تأثرهم بهذه المدنية قوياً ظهر إمكان إيجاد الاتصال بين الإسلام وبين العقلية الحديثة للشباب التركي أمراً بعيداً
وتطور التركية الحديثة يسير منذ زمن طويل قليلاً أو كثيراً في طريق لا يقوم على أساس أو خلق بل هو عار عن كل وطنية أو دين، وهو ما يسمى في الشرق بالنزعة الغربية أو الأوربية على أننا لا ننسى أمراً مهما وهو أن عصر طغيان عبد الحميد كانت تمجد فيه مذاهب السنة والتمسك بها في الآستانة. ومن الحق أن جمال الدين كان قد أثر هناك، ولكن تأثيره كان ضعيفاً من سوء ظن السلطان به؛ وكانت أفكاره قد طبعت من جانب عبد الحميد بطابع سياسي عملي. وفي هذه الفترة التي اشتد فيها النزاع الداخلي بين الإسلام والتقدم
الأوربي كان لا يمكن أن تأتي هذه الأفكار بثمرة. وهكذا ترى أنه بعد ثورة 1908 أخذت مسألة الدين مكاناً واهتماماً بنفس الشكل الذي كان عبد الحميد يحاول بشدة تنفيذه، وأخذت الحركة الروحية النائمة التي كان يحاول إيقاظها تدب فيها الحركة
وفي يدنا الآن بحث قيم وضعه عن تطور حركة التجديد في تركيا تركي مثقف ثقافة غربية كاملة، ولكنه في الوقت نفسه ذو إحساس ديني حار، وهو أحمد محي الدين الذي مات مع الأسف في سن مبكرة أما كيف سار التجديد بسرعة قبل أن يقطع طريقه مرة واحدة فيتبين لنا ذلك من هذه الحقيقة وهي أن محي الدين استطاع أن يكتب في سنة 1921 هذه العبارة:(إن طريقة أهل السنة التي غرضها التمسك بالإسلام بشكله التاريخي الحاضر قد أصبحت اليوم مغلوبة مهزومة). ففي هذا الوقت (1921) كان يتنازع الغلبة مذهبات مختلفان أشد الاختلاف: المذهب الوطني الذي كان يتزعمه الشاعر المفكر ضياء جك ألب. والمذهب الآخر الذي سمَّاه محي الدين (المذهب الإصلاحي) والذي كانت تقوم عليه شخصية الشاعر الواعظ محمد عاكف، وعمل برنامجه الأمير المصري والوزير العثماني محمد سعيد حليم. ومن الممكن على احتمال قليل أن نميز أولهما بأنه سياسي ثقافي والآخر بأنه ديني إصلاحي والمهم هنا هو أن كليهما قد وضع لمسألة الدين طريقاً واحداً للسير فيه. فكل منهما - كما يقول محي الدين - يرفض الإسلام التاريخي ويطلب الرجوع إلى الإسلام الأول، وكل منهما يرفض اعتبار الشريعة للوقت الحاضر ويطلب حرية الاجتهاد. فهما - كما يرى - قد رسما خطة للتجديد واسعة. ونستطيع أن نتبين من غير صعوبة أن برنامجهما المشترك يتفق في أهم نقطة مع برنامج الإصلاح المصري. وفي الحقيقة أن الارتباط الشخصي ظاهر بين (المذهب الإصلاحي) التركي، وحركة الإصلاح المصرية، وأمور الإصلاح فيهما متفقة
وقد وضع المذهبان التركيان لهما شعاراً للإصلاح الديني كلمة (إسلام أشمق) بمعنى الرجوع إلى الإسلام. وعند تفسير هذه الكلمة عند كل من المذهبين يتبين لنا الفرق الأصلي بينهما
ومعنى هذه الكلمة يرجع في مرحلتها الأخيرة إلى جماعة المؤمنين المتمسكين بالقديم، إزاء العصريين المندفعين في تيار الأوربية المنكرين للإسلام. ثم لما كشف القناع عن دخيلة
هؤلاء الأتراك الذين لا دين لهم ولا وطنية أخذ هذه الكلمة الوطنيون أصحاب المذهب الوطني في برنامجهم الثلاثي: (ترك - إسلام - تجديد) وأراد به هؤلاء الوطنيون تحرير الإسلام من أعمال أهل الدين المتأخرين، ومن أمور زمنية ومكانية التصقت به من أول الأمر، ولكن كما يظهر من البرنامج الثلاثي فإن هذه الكلمة تصور طلباً من طلبات الوطنية؛ والنقطة الرئيسية والعماد الأهم إنما هو الناحية السياسية الثقافية، فكلمة (الرجوع إلى الإسلام) هي على الأكثر القالب الذي يصب فيه البرنامج ما يحس به من مسألة الدين كنقطة هامة. وهكذا حدد هذا البرنامج الدين في مجاله الضيق وفصل عنه الجانب الآخر من الحياة الإنسانية؛ فهو يطلب مباشرة فصل الدين عن الدولة، وغايته حياة دنيوية غير روحية
وعلى الضد من هذا (المذهب الإصلاحي) فهو مع إحاطته على العموم بالحياة الثقافية والسياسية يتعمق من الوجهة الإصلاحية في الدين وما يعنيه من (الرجوع إلى الإسلام). فهو يعني الرجوع إلى الإسلام القديم؛ لا بإبعاد الأمور التي غيرت منه أثناء تطوره التاريخي فحسب، بل أيضاً وقبل كل شيء يريد الوقوف ضد هؤلاء العصريين المندفعين في تيار الغرب وضد دعاة المذهب الوطني، فهي حركة دينية تريد أن يكون الدين قوة تخضع لها كل الحياة المدنية من غير إضرار بحرية الفرد، وهي في هذا متفقة مع الحركة المصرية مختلفة مع المذهب الوطني أصلياً في مسألة الدين
وقد يختلف المذهبان اختلافاً جزئياً في طلباتهما، ولكنه أقل من اختلافهما في الدوافع، وكما يتحدان في نقدهما للإسلام التاريخي في كل الأمور، يتحدان أيضاً في كثير من المسائل العملية، فالفرق بينهما ليس فرقاً ظاهراً للعيان، ولكنه فرق كامن في الأساس. ومن الحق أن نقول من جانب آخر إن عدم اهتمام المذهب الوطني بالدين لا يصح أن يؤخذ على معناه الواسع، فإن شعر ضياء جوك ألب الديني يرينا بوضوح أنه ذو شخصية دينية محافظة عميقة
إلى هنا قد تعرفنا أهم أشكال الحركات الإصلاحية الحديثة في الإسلام، أما حركات هؤلاء الوافدين على أوربا وأمريكا مثل الحركة البهائية الفارسية أو الأحمدية الهندية، فهي حركات منفصلة لا تمت كثيراً إلى الحنيفية الإسلامية
وأخيراً يتبادر لنا هذا السؤال: هل تلك الحركات إذا ما أمكن تحقيقها تستطيع إلى مدى بعيد أن تحقق الاتفاق مع التفكير العصري والأخذ بحركات التقدم العلمي والمادي؟ وجوابنا على هذا السؤال بالإيجاب بدون قيد ولا شرط، فإن العقيدة الإسلامية لا تمنع أي تطور تجديدي، بل هي في أصلها أشد مرونة وأسلس قياداً من العقيدة المسيحية. والذي يظهر أنه مانع لا يذلل هو الفقه المكون من تفصيلات تافهة، فإذا ما ترك هذا كما هو الأساس في كل الحركات الإصلاح فإن التقدم العصري - حتى بمعناه الأوربي - يكون بابه مفتوحاً على مصراعيه.
علي حسن عبد القادر
أنا. . . والقلم
للأستاذ علي الطنطاوي
(بين يدي الآن رسائل من بيروت وحمص وبغداد والإسكندرية وأم درمان من إخوان كرام ما كان لي شرف الاتصال بهم، كلهم يسألني لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام، ويشفق أن تكون الأرزاء قد هدت ركني وكسرت قناتي. . . فكتبت هذا الفصل هدية إليهم وجواباً)
(ع)
أعترف أنها قد جفَّت قريحتي فما تبضّ بقطرة، وكلّ ذهني، ومات خيالي، ومرت علىّ أيام طوال لم أستطع أن أخط فيها حرفاً، وعدت من العيّ والحصر كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجر للبلاغة في مضمار. . . وما أدري أأبرأني الله من حرفة الأدب التي ابتلاني بها وابتلاها بي، أم هي سكتة عارضة وُعقلة مؤقتة، كالذي يعرض للشعراء والكتاب، ثم تزول السكتة وينطلق اللسان، ويعود أحدّ مما كان؟. وما أدري أعّلة ذلك الزواج، وقد قالوا إن زواج الأديب يؤذيه وتغور منه ينابيع فكره، أم هي الرزايا والآلام، وما يغيظ الأديب من انحراف الأمور عن صراطها، وتقدم من حقه التأخر، وتأخر من يستأهل التقدم، وضياع الحقوق وغلبة الجهال، أم هذه العزلة الحسية والروحية التي أبت إليها طوعاً أو كرهاً، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة، لا يسقط فيها حجر فيثير أوحالها ويخرج دررها؟
إني كلما أخذت القلم لأكتب، أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني؛ وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب، أو أنظر في صحيفة. فأقبل على القراءة، وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل، وأني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر. . . ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامية ومحبة الخمول، بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلب القلوب. . .
ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً
للشعور، موقظاً للهمم. كنت أتألم منها فأصف ألمي، وأشتاق فأصور شوقي، وأرى فيها جديداً فأنتبه إليه، فأكتب فيه؛ فرجعت أمرُ على المشاهد غافلاُ عنها لأني آلفها كلها وأعرفها، ورجعت لا آلم ولا أسر، ولا أقول إني راض ولا مبتئس - وهذا لعمري شرَّ ما يمر على الأديب من الأحوال، وهذا هو الموت. . . ولربما شغلني سفساف الأمور، وأضاع عليّ الكثير من وقتي. وهل ينفع القراء أن يعلموا أن عملي منذ شهر الطواف في أحياء دمشق من شرقها إلى المغرب، ومن شمالها إلى القبلة، أفتش عن دار أستعيض بها عن داري (في الجادة الخامسة)، لأن حماقة صاحبها كرهت إلى جمال مستشرفها، وطيب موقعها. . . وأن أعصابي في ثورة دائمة، عفت معها الحياة، من صبية عشرة - أحياهم الله لأبويهم - يسكنون الطبقة التي تحتنا، لا يهدؤون لحظة ولا يسكنون ولا يفترون عن بكاء أو صياح أو غناء، أو قرع باب أو كسر شباك؛ وقلبي يخفق وأعصابي تتمزق، ولا أنتفع من نفسي بشيء. وإن شكوت إلى أحد سخر مني وضحك عليّ. فليتصور القراء مبلغ ما أجد من الضيق والأذى، فيا ليت أني لم أعط ملكة الكتابة، أو ليتني إذ أعطيتها عرفت كيف أستفيد منها، فما شيء أصعب على الرجل من أن يريد ولا يقدر أو يقدر ولا يريد. . .
وليثق القراء أن يوماً يمرّ عليّ لا أكتب فيه شيئاً أو أعد في نفسي شيئاً لأكتبه لهو يوم بؤس عليّ لا يوم نعيم، وأن أول ما أفكر فيه إذا سرني أمر أو ساءني، أو أعجبني أو راعني، كيف أصوره وأعرض على الناس صورته كي أنقل إليهم شعوري، وأقاسمهم عواطفي، لا أفعل ذلك للشهرة والمجد الأدبي، ولا للنفع ولا للضرر، فقد بلغت من الشهرة ما يصح الوقوف عليه لو كانت الشهرة أكبر همي، ولكني رغبت عنها لأني وجدت ما نلت منها لمُ ينلني خيراً قط. ثم إنه ليس بين الرجل وبين أن يشتهر في بلادنا بصفة الأدب إلا أن يكتب فصلاً أو فصلين؛ فإذا هو ومن ملأ الأسماع أدباً حقاً وبلاغة باقية سواء، ولكني أكتب - علم الله - لأدفع عن نفسي الملل وما يصيبها من الألم إذا أنا لم أكتب، فكأنني أعمل بالغريزة التي تدفع النحل إلى اتخاذ العسل والعقارب إلى نفث السم، وكل حي من الحيوان إلى ما سخر له من نفع أو ضرر. ولا أعلم أأحسن أم أسئ، ومتى يكون الإحسان وكيف يجئ، وكل ما أعلم أن فكرة تخطر على بالي تأتي بها نظرة أو سمعة، فتنمو فيها
حتى تملأ ذهني وتسيطر عليّ، فلا أملك عن تدوينها تأخراً، فآخذ القلم فإذا هي تجر وراءها أخوات لها، وإذا أنا أمضي في الكتابة لا أكف حتى يكون القلم هو الذي يقف، ثم أبعث بذلك إلى المجلة أو الجريدة، فإذا أبطأت بنشره أو أهملته سخطت وثرت؛ وإن نشرته فرحت به وقرأته بلذة، فإذا مضى عليه يوم عدت إليه فرأيت عيوبه. فقلت ليتني نقصت من هنا وزدت من هناك، وحذفت هذا أو أثبت ذاك. . . ثم لا يمنعني ذلك أن أعود إلى خلتي من الإسراع كرة أخرى. ولقد حاولت التنقيح والصناعة مرة فأفسدت من حيث توهمت الإصلاح، فعدت إلى طبعي. فإذا كان في الناس من يعجبه ما أكتب فالحمد لله. . .
وما سكت لقلة في الموضوعات، ولكن لجفاف في القريحة. ولو كان بي أن أكتب لوجدت في كل شيء موضوعاً لفصل، غير أنه لابد من العاطفة والفن، ولو كان الأدب الواقعي أن تسرد كل ما (وقع) لك لكان الناس كلهم أدباء؛ ولكن الأدب الواقعي أن تأتي بالصورة الجميلة، قد صقلها الطبع، وبرقشها الخيال، وزانتها العبارة الصحيحة، والسبك الدقيق. لكنك لا تخرج فيها عما (يمكن أن) يقع. . .
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في وصف هذا الفتى الذي صحبنا في لجنة من لجان الامتحان كان فيها عالم الشام الشيخ بهجة البيطار ليصحح معنا أجوبة التلاميذ فكان كلما وجد استعارة أو مجازاً خط تحته خطاً، وكلما وجد ترادفاً من اللفظ أو مزدوجاً من الجمل مد مدّة فوقه، ثم نقص عليه من درجات التلاميذ درجة. فحاورناه في ذلك فكان من رأيه الذي تعلمّه في باريز وعلّمه التلاميذ الذي جعلوه معلمهم، أن المذهب الجديد ينكر ذلك ويعده غلطاً، وكانت حجته القاطعة على صحة رأيه أنه رأيه. . . وبذلك دفع كل ما ردّ به عليه الشيخ، وما بيّن له من سنن العرب في كلامها، وما جرى عليه بلغاؤها وما نزل به الكتاب. . . ومال ناظر المدرسة إلى (رأيه. . .) لأنه هو وحده بيننا الذي يحمل شهادة التخصص في اللغة العربية من. . . باريز!
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في التعليق على الامتحانات وما يكون فيها من الوساطات والشفاعات والالتماسات وما نالني منها، وكم أبصرت في داري من وجوه ما كانت لتكون فيها لولا الحاجة. . . وطلب (الشفاعات). . . وما يحيق بالمدرس المستقيم الشريف من عنت ومشقة، وما يقال عنه وما يلقى. . . وما يتخذ التلميذ من طرق الغش والحيل، فإذا
أظهرتها وعاقبته عليها زعم أنك ظلمته، وتَمَسْكن وجعل نفسه ضحية فأثار عليك الناس، أو (تنمرد) واستكبر فبطش بك، أو شتمك أو وكل بك من يقوم بـ (الواجب)!
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في تاريخ الأدب فصلاً أجعل إهداءه للدكتور صِلبا ليرى أن الله لا يستحيل عليه أن يمنح ملكة الأدب من لا يحمل شهادة اختصاص فيه. . . وأن الشهادة بلا علم ليست دائماً أفضل من العلم بلا شهادة. . .
ولو أسعدتني القريحة لوصفت هذا المشهد الذي يملأ النفس ألماً، ويفجر القلب أسى، منظر زميلنا المعلم الشاب (مصطفى شكري خسرو) الذي كان موعد زفافه اليوم، وكان صحيحاً معافى، فرئي اليوم نعشه يمشي إلى المقبرة وعليه غطاء سرير العرس ووقفت زوجته التي كانت ترقب الزفاف، تشهد الدفن. . .
مثل هذا الموضوع ينشد الأديب ويبتغي، ينشد لحظات الإشراق والتجلي، إذ يحس بأنه خرج من ذاته، فدخلتها روح أخرى، فطارت به إلى الملأ الأعلى، فأرته ما لا تراه عين، ولا تحيط بوصفه لغة بشر، وإنما يصور بإشارات ورموز ترفع قارئيها إلى هذا العالم النوراني العجيب
أما المشفقون على، الخائفون أن تلوي الحادثات قناتي، وتهد ركني، فليعلموا أني في أمان، وأن رسالة الأديب أن يطاعن عن الحق ويناضل حتى تعلو كلمته، أو يصرع دونه، ولينظروا أيهما أسير في الناس وأشهر، أورقة الشهادة الناطقة بفضل صاحبها، أم مجلة يكتب فيها الأديب فيقرؤها مائة ألف؟ وأيهما أقوى وأمتن، أهذا القلم الدقيق أم أرجل الكراسي التي يثبت عليها (أولئك) ويعلون بها؟ وأيهما أحد وأمضى، ألسان البليغ المفوه أم ألسنة ببغاوات الليسانس والدكتوراه؟
إن لكل أديب رسالة، فليقوّنا الله على تأدية الرسالة
علي الطنطاوي
أضرار التشجيع
للأستاذ سعيد الأفغاني
إن من عادتي إذا حل الصيف ونفضت عنى عناء التدريس وذيوله من امتحانات ومراقبات أن أفئ إلى قاعة المجمع العلمي العربي، فأسرح الطرف بما يرد إليها من الكتب والمجلات الغريبة. وكان أن وقع في يدي عدد من مجلة (العصبة) الصادرة في المهجر، فطفقت أطالع فيها، فوقفت عند هذا العنوان (ذلك الأمي اليتيم. بحث أدبي لا ديني) وإذا بالكاتب يسئ فهم النصوص ويغمز الأئمة الذين أجمعوا على أمية الرسول صلى الله عليه وسلم منذ صدر الإسلام حتى يوم الناس هذا، ويعجب من غفلتهم، ثم يتلطف بهم ويعتذر لهم بأن الخطأ أتاهم من حيث إن النبي كان أمياً ثم زالت أميته!
يتساءل حضرته: هل زالت عنه الأمية كما زال عنه اليتم بعد أن تقدمت به السن؟ هل تعلم القراءة؟ (وهو يعني طبعاً القراءة في الصحف التي لا يعرفها إلا من تعلمها مع الكتابة تعلماً). ثم قال: (نجيب بكل جرأة (هكذا والله بالحرف) إنه تعلمها وبز الأولين والآخرين!) انتهى وما شاء الله كان
ويأبى بعد ذلك إلا أن يسرد ما يراه حججاً من مثل: (أنا أفصح من نطق بالضاد)، (أنا مدينة العلم. . .)، (اطلبوا العلم. . .)، (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
لست أريد الرد على هذا الكلام ولا أنا بصدد شرح أمية الرسول فمن العبث المخجل أن أشغل القراء بما هو معلوم من التاريخ بالضرورة، وإن مما يفهمه الصغير قبل الكبير أن القراءة معناها مطلق التلاوة، و (اقرأ) الواردة في الآية معناها (اتْلُ) عن ظهر قلب لا أن يسرد ما في صحيفة أو كتاب. وإن حض الرسول على طلب العلم، وكونه أعلم الناس لا ينافي أميته، وكل ما في الأمر أن هذا الناشئ جهل الفرق المقرر بين (الأمية) و (العامية) فتوهم تناقضاً بين النصوص، وأن هذا التناقض عمى عنه الأولون والآخرون حتى طلع حضرته ببصيرته النافذة ونظره الثاقب فأزال لبسه وحل تناقضه بقوله: كان أمياً ثم تعلم وزالت أميته. دع عنك ما يعرفه كل مطلع على سيرة النبي من اتخاذه كتاب الوحي ومن استعماله الرجال ليكتبوا عنه إلى الملوك ومن الحادث المشهور في الحديبية حين سأل علياً عن مكان كلمتي (رسول الله) من الصحيفة ليمحوها بيده الشريفة إذ أصر رسول المشركين
على محوها وامتنع عليّ. . . إلى آخر القرائن التي لو لم يكن غيرها لما ساغ لأحد عنده شيء من الفهم أن يذهب إلى نفي أميته، فكيف ونصوص القرآن نفسها مصرحة بأميته في آيات مكية ومدنية، ولو لم يكن إلا هذا التواتر الصارخ لكان لعاقل أن يتهم عقله إذا تطرق إليه في هذا الأمر شك مهما ضؤل
أم كان من الحتم إذا قرر كاتب أن بحثه غير ديني أن يركب رأسه فيه فينقض المبرم ويبرم المنقوض، ضارباً بالعلم والتاريخ واللغة والمنطق والعقل عرض الحائط: يأخذ ما شاء ويدع ما شاء ويستنبط ما شاء كيف شاء بلا سناد من برهان ولا رابط من فهم ولا ضابط من منطق
أنا لا أشك في أن إفساح مجلة (العصبة) صدرها لمثل هذه الآراء الفطيرة ضرب من التشجيع، وأننا باسم هذا التشجيع نُقذي عيون القراء بما يزهدهم في سمين الأدب تحامياً لغثه
وقد آن للمفكرين أن يوازنوا بين مساوئ التشجيع وما يذكر من حسناته، حتى إذا رأوا الشر فيه أربى على الخير نبذوه غير مأسوف عليه
على أن أول الأضرار حائق بالذين تشجعهم: لأن أحدهم حين يرى سخفه مذيلاً باسمه في صحيفة سيارة، يداخله من الصلف والغرور ما لا يقوّمه مهذب بتهذيبه ولا ناصح بنصحه، ثم يترفع بعد هذا عن كل درس ومطالعة، ذاهباً إلى أنه شب عن الطوق وأن بوسعه أن يأتي بخير مما في الكتب، فقد صار كاتباً تحريراً وأديباً كبيراً؛ وهذا ما يعوق كثيراً من ناشئتنا عن التعلم والتأدب الصحيحين، وهو هو ما يشكو تفشيه فيهم كثير من العقلاء
لست أنكر أن التشجيع قد يكشف عن بعض المواهب ويسلك بها السبل المجدية التي تؤتى فيها أكلها، لكنه إلى ذلك يدفع إلى الحياة بخلق كثير من أنصاف العوام الذين انتفخوا غروراً واعتداداً وكانت أنوفهم في السماء وهممهم في الحضيض وقلوبهم هواء
ولأن نصد بتثبيطنا اثنين أو ثلاثة نأمل فيهم النجاح خير لنا وأبقى من أن نفتح الباب على مصراعيه فنشجع كل جاهل ودعي وغبي، ونملأ صحفنا ومجلاتنا جهلاً وسخفاً ونعيش في جو مشبع غثاثة وابتذالاً
وبعد فماذا على المرء أستاذاً كان أم أديباً أم صاحب صحيفة، إذ قال للشادي: يا بني تحتاج
إلى أن تتعلم كثيراً وتتعب طويلاً قبل أن تحدثك نفسك بدفع ما تخط إلى المطابع؟
وإذا كان في كل حكومة إدارة خاصة لمراقبة المطبوعات من الناحية السياسية، فلم لا يكون في كل إدارة جريدة ومجلة وفي كل مطبعة مراقبة فنية دقيقة ترفض كل رخيص مبتذل من المقالات؟
إن من الواجب على المطابع أن تكف عن طبع كل كتاب ليس فيه سد ثغرة في المكتبة العربية أو إضافة خير أو إحياء تراث قيم. . . وحينئذ يستريح الناس من هذا الهِتْر الذي تدفعه المطابع إلى الأسواق حتى سَئِمَتْ النفوس الكتب والمجلات لما في أكثرها من غثاء وهزال
والحاجة إلى هذه المراقبة أمسّ لأن فيها وقاية للملكات من الابتذال والركاكة والفساد، وذلك أجدى على الثقافة من كثرة المعاهد والكليات، إذ أن الصحف والمجلات والكتب مدارس ميسرة لكل قارئ مهما ضؤل حظه من المعرفة. ومن أول الواجبات على هذه المدارس العامة أن تكون رافعة لمستوى قارئها لا خافضة له
في الأقطار العربية ظاهرة ثانية للتشجيع المجرم لا تقل عن هذه فتكا ونكاية، وليس بناصح من عرف موطن الداء فلم يدل عليه مجاملة أو إشفاقاً. عنينا بهذه الظاهرة داء الشهادات التي يحصل عليها حاملها بأرخص ثمن وأيسر سبيل
ومع أني أعرف أن الجامعات ليست سواء في التساهل (أو الغش إذ شئت الصراحة) أعرف كذلك أن بعضها قد تدنى - وخاصة مع الغرباء - إلى درجة لا يصح السكوت عليها، بل يجب على كل حكومة تحررت من أن يفرض على مصالحها هؤلاء المزورون فرضاً - أن ترفض هذا الضرب من الشهادات صيانة لمصالحها من عبث الجاهلين وحفظاً للأمة أن تنحدر إلى الهاوية إذا تولى أمورها المدلسون
يذهب الشاب العربي إلى إحدى ممالك أوربة، فلا يكاد يهبط عاصمتها حتى تراه مهرولاً إلى مكتبة مشهورة أُعطى عنوانها قبل سفره، فيقفها على أن مراده الحصول على شهادة (الدكتوراه) فتتفق معه على مئات من الفرنكات تتناسب هي وعدد الصفحات المطلوبة، فتجمعه بأحد عملائها من الأساتذة الذين يرتزقون من التزوير، فيكتب له الأطروحة ويعلمه إياها تعليما، ويقومان معاً بتجربة المناقشة، ثم يتقدم بها الطالب إلى الجامعة فيفوز بالشهادة
ومعه درجة (مشرف جدَّا ويعود إلى بلاده فيعهد إليه بمنصب علمي أو إداري يشرف منه على كثير من المتعلمين ليس فيهم إلا من هو أعلم منه ومن أستاذه وأشرف
وقد بلغت الوقاحة ببعض الجامعات أن تعطي الدكتوراه لمن قدم إليها أطروحته بلغة يجهلها هو كل الجهل. فإذا أنت عجبت لهذه الجامعة كيف تترخص هذا الترخص، وهي في أرقى البلاد المتمدنة، أجابك المنافحون عنها: إن هذا شأنها مع الغرباء فقط، وهو من قبيل التشجيع لا غير، وليس على الجامعة من ضير، لأن هذا الجاهل لن يضر وطن الجامعة، وإنما الضرر منه على وطن آخر قد تكون سياسة الدولة التي تنتسب إليها الجامعة تتعمد هذا الإضرار تعمداً. والأمر بعد هذا على شاكلة كل البضائع المغشوشة التي تصدر هناك، ويكتب عليها:(بضاعة للتصدير إلى الخارج)
ولست أدري، هل في هذا الذي ذكروا ما يبرر الغش والتزوير؟ وهل يستبيح العلم تسمية الجاهلين علماء لوجه التشجيع فقط؟
ولما رأى الكثيرون هذه السبيل المعبدة لنيل الشهادات تهافتوا عليها وهجروا الطرق المشروعة من التعلم الصحيح والدأب المتواصل والعمل الجاهد؛ وصار الذي يطلب الشهادة من طريقها الحلال مثلاً شروداً بين أصحابه في الغفلة والغباء
ألا أخبرك، يا سيدي القارئ، بأشد من ذلك كله وأنكى؟ أتريد أن تعرف كيف آل الأمر بهذا التشجيع؟ فاستمع إذن لما أقصه عليك:
لقيني منذ سنوات خمس شاب من حملة (الليسانس) هبط دمشق فجال جولة في أروقة الحكومة فيها، وتكفل دهاؤه وشطارته ووسائطه أن يعهدوا إليه بتدريس اللغة العربية في إحدى مدارسها. فبعد أن عرفني بنفسه بلطف متناه واحترام فلبي، خدَّرني بمجاملته لساحرة، ثم قال:
إن أولى أمانيه في مجيئه إلى دمشق أن يجد السبيل لإنقاذ مخطوط عربي نفيس من الضياع، وإنه لقي كثيراً من علماء العاصمة وأدبائها، وارتاد أبهاءها الثقافية (صالوناتها)، متعرفاً لرجالاتها، ثم خاطبهم بمراده، فكلهم أشار عليه بأن يلقاني. . . وإن الغيرة على العلم والأدب هي التي تحفزه لهذا الأمر الجُسام، وهو مستعد أن ينفق على مشروعه النفقات الباهظة. . . وليس يعوزه إلا أستاذ ضليع محقق. . . عنده من الغيرة على لغة
العرب وتراثها ما يستحلي من أجله كل صاب وعلقم. . . وإنه يحمد الله على أن هداه إليَّ ووفقه إلى إنجاح المسعى بي. . . الخ
كل ذلك يقوله بنبرة متحمسة ولهجة عصبية تعطف عليه الصخر الأصم. ولم يكن من هذا العاجز إلا أن وقع في الشراك قائلاً في نفسه: إن من الفرض على المرء أن يشجع من نصب نفسه لخدمة العلم مهما كلفه التشجيع من الجهد والوقت
وعدته أن أهب له فراغي الوحيد كل أربعاء من الصباح حتى الظهر، ولبثت على ذلك حتى انتهى العام الدراسي: يقرأ على في قاعة المكتبة الظاهرية نسخته التي نسخها بمصر من كتاب (سر الصناعة لابن جني) وبيدي النسخة الخطية التي تملكها دار الكتب الظاهرية من هذا الكتاب، وأنا أصحح وأقابل وأضبط وأعلق وأرجع إلى مصادر كثيرة في القاعة وهو يكتب ما أملي عليه. فما سلخنا العام حتى أتممنا من العمل قسما صالحاً لست أدري مقداره الآن بالضبط، ولكن الخطة شرعت والعمل وضح، والعقبات اجتيزت، والحزون سهلت، وبقي من العمل ما لا خطر له. كل ذلك على ملأ من الناس، وعلى عين من موظفي المكتبة ومناوليها وروادها لأن قانون دار الكتب يحظر إخراج المخطوط منها تحظيراً باتاً
ثم تعاقبت الأيام يلقاني فيهن هذا الشاب. كلما هبط دمشق بمظاهرة حافلة من البشاشة والشوق والتعظيم والاحترام. . . إلا أنه لا يذكر الكتاب بحرف طول هذه المدة، فظننت أنه ناء بالمشروع وعجز عن نفقاته فأهمله لسوء حاله، ولم أجد من المروءة أن أنكأ فيه جرحاً داملاً. . . وكرت الشهور وإذا بي أجد في دار الكتب قبل شهرين رسالة صغيرة بالفرنسية نال بها هذا الشاطر الدكتوراه، بعد أن عرضها - فيما بلغني - بالعربية على الجامعة المصرية فلم تر فيها شيئاً فرفضتها. قلبت الورقة الأولى من الرسالة فإذا خلفها:(سيصدر للمؤلف بالعربية: كتاب سر الصناعة لابن جني) فدار رأسي والله، لا حسرة على الوقت الضائع والجهد المسروق، ولا خشية أن يكون عبث بالعمل فأفسده ثم هيأه للطبع، ولكن فوجئت بما لم أكن أتصور أن الحياة تنطوي عليه من وقاحة وصفاقة، وعرفت أن ذلك التهافت من شبابنا على نيل الشهادات بأرخص الوسائل وأبعدها عن الشرف، قد دخل في طور آخر أدنى وأحط، هو ما قصصت عليك من أمر هذا الشاب
وعلم موظفو المكتبة بالأمر فتعجبوا وشُدهوا وقال أحدهم: (هلا انتظر هذا المزور موت الشهود عليه وهم كثير). ثم بلغني أنه يريد أن يتقدم بهذا الكتاب إلى الجامعة المصرية لنيل دكتوراه ثانية؛ فهان الأمر عليّ لأن أقل مناقشة من أساتذة الجامعة المختصين في موضوع الكتاب وتعليقاته تطلعهم على التزوير فيه وعلى أن البضاعة المعروضة هي لغير عارضها
أحسب والله أن هذا الشاب - ولعل أمثاله في المجتمع كثيرون - لا يرى أنه أتى أمراً إدَّا، وأنه فعل فعله أكثر من سبقوه بنيل الدكتوراه من بعض الجامعات الأجنبية، ففيم يفرد دونهم باللوم؟
وإذا كان أولئك الدكاتير نقدوا من صنع لهم أطاريحهم المئات من الفرنكات فلأن هؤلاء الصانعين غربيون ماديون مرتزقون؛ وأساتذة دمشق بحمد الله مثاليون يحتقرون المادة، وحسب أحدهم من تعب السنين وسهر الليالي أن ينقذ تراثاً من الضياع وليس يهمه أن ينسب إلى سواه
وبعد فهذه أنماط مختلفة من أضرار التشجيع، عرضتها ليعالجها وأمثالها المطلعون من الكتاب، حتى يحذرها الناس
وإن أختم بشيء فهو قولي للمسؤولين من علماء وأدباء وأصحاب صحف ومجلات ورجال جامعات:
احرصوا على تثبيط الدجالين والمغرورين حرصكم على تشجيع الأكفياء الصالحين، وما أنتظر لكم من ثواب الله وشكر العلم وامتنان الناس على تثبيط الأولين أضعاف ما لكم على تشجيع الآخرين.
وإذا لقيتم هذا الضرب الوبيل من الناس وجاءوكم بغشهم وتزويرهم وغرورهم وجهلهم، فثبَّطوا ثم ثبطوا ثم ثبطوا
(دمشق)
سعيد الأفغاني
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
الهدنة الإيطالية
اختلفت شروط الهدنة الإيطالية الفرنسية اختلافاً بيناً عن الشروط الألمانية، فالفرق بين القيود الألمانية والقيود الإيطالية فرق كبير، يستنتج منه الباحث عدة نتائج، فهي تدل على ظاهرتين عامتين:
1 -
التعاون بين الحكومتين: الإيطالية والألمانية، فكلا الشروط الألمانية والإيطالية يتفق في مبادئ عامة، كشرط نزع السلاح، وشرط وقف القتال
2 -
التحفظ من جانب الحكومة الألمانية، فبينما شروط الهدنة الألمانية مؤكدة التحقيق في اكثر بنودها، نجد شروط الهدنة الإيطالية صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة بغير قتل
فالهدنتان تطالبان حكومة بتان بوقف القتال في فرنسا، وفي المستعمرات وفي البحر وفي الجو، وهذا سهل مؤكد في الشروط الألمانية، ومشكوك فيه أو من المؤكد عدم تنفيذه في الشروط الإيطالية. فقد احتلت ألمانيا أكثر الأراضي التي نصت عليها الهدنة قبل وقف القتال ولم يبق ألا جزء ساحلي صغير في الجنوب، يقابله من ناحية ألمانيا احتلال مناطق داخلية تمتد إلى ليون
وأنبأتنا البرقيات أخيراً أن إخلاء هذه المناطق الواقعة خارج نطاق الهدنة يقيد باحتلال المناطق التي لم يصل إليها بعد، ويعضد تنفيذه رغبة حكومة بتان في الوصول إلى وضع حد للقتال، ووقوع هذه الأجزاء الساحلية تحت تهديد الغزو الألماني، فلا مفر إذن من تسليم حكومة بتان باحتلالها
تقييد إيطاليا
فإذا تركنا الجانب الألماني وانتقلنا إلى الجانب الإيطالي نجد أن إيطاليا لا تطالب باحتلال شواطئ البحر الأبيض المتوسط الفرنسية خلافاً لما توقعناه وتوقعه كثيرون، فهي تكتفي باحتلال المناطق التي حصلت عليها أثناء الحرب. ولعل هذا يفسر لنا السبب الذي من أجله اشتد الهجوم الإيطالي بينما كان المندوبون الفرنسيون يفاوضون المندوبين الإيطاليين،
فقصدت القيادة الإيطالية احتلال أكبر جزء من الأرض ولكن الجيش الفرنسي لم يترك لقواتها الطريق حراً، بل وقفها عند المخافر الأمامية، أي أن إيطاليا تسيطر على جانب لا يستحق الذكر من الأراضي الفرنسية لا يتجاوز بضعة كيلومترات في أراضٍ لا أهمية لها من الوجهة العسكرية، فالحصون الفرنسية الإيطالية تقع على جبال الألب وهي خارج المناطق المحتلة
ومن المعروف أن شروط الهدنة الإيطالية اتفق عليها موسوليني وهتلر، أو هي بطريق أوضح من وضع هتلر لا من وضع موسوليني، ومنها نستنتج ثلاثة أمور:
1 -
إيجاد قواعد فرنسية يلجأ إليها الأسطول الفرنسي إذا قبل قادته شروط نزع سلاحه، فلا يتكلف اجتياز مضيق جبل طارق ويتعرض للصدام بالأسطول البريطاني. فالمعروف أن أكثر قطع الأسطول الفرنسي موجودة في غرب البحر الأبيض المتوسط
2 -
تهديد حكومة بتان باحتلال الشواطئ الفرنسية للبحر الأبيض في حالة عدم تنفيذ شروط الهدنة فيما يختص بوقف القتال في المستعمرات، فإن هتلر وموسوليني يعرفان جيداً تقاليد الفرنسيين ووطنيتهم وعدم خضوعهم لأعدائهم، فتهديد هذا الجزء بالاحتلال يدفع بالمارشال بتان إلى بذل أقصى ما لديه من جهد لإكراه رجال المستعمرات على تنفيذ شروط الهدنة
3 -
وضع إيطاليا تحت إبهام هتلر بطريقة لا يتيسر لموسوليني التملص منها. فقبل أن تعلن المستعمرات الفرنسية موقفها حيال الهدنة كان من المقطوع به أن تسليمها قليل القيمة، أو ليست له فائدة عسكرية، فمثلاً أعلنت حكومة سوريا ولبنان أنها وقفت القتال، فهذا كلام لا تستطيع ألمانيا أو إيطاليا تنفيذه. فإن القوات الموجودة هناك لم تشترك في القتال لتقفه، فضلاً عن عدم وجود قوات ألمانية أو إيطاليا بالقرب منها لتلاحظ تنفيذ هذه الشروط، فإن الجزء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والأراضي المحيطة بسوريا ولبنان مناطق نفوذ إنجليزية
حالة غامضة
وما يقال عن سوريا ولبنان يقال عن تونس والجزائر وجيبوتي. وما زالت هذه الجزاء الأخيرة صامتة لم تعبر إن موقفها بصورة قاطعة انتظاراً لما تبرزه الظروف. ويختلف
موقف القوات في تلك البلاد عنه في سوريا ولبنان فيجاور كل منها ممتلكات إيطاليا، فالصومال الفرنسي هو المنفذ البحري للحبشة، وتونس تجاور ليبيا؛ ولكن الممتلكات الإيطالية هناك مرتبكة بانشغالها في الحرب مع قوات الممتلكات البريطانية، وقد لا يمر زمن طويل حتى تتجلى حقيقة موقف المستعمرات الفرنسية، فما قيل حتى الآن لا يوضح اتجاهها الصحيح
وهذه الحالة الغامضة ترغم موسوليني على مؤازرة هتلر والرضوخ لأوامره، في مقابل إمداده بالمعونة العسكرية سواء أكانت رجالاً فنيين أو معدات قتال، أو بعبارة أخرى يعطي هذا الموقف لهتلر ضماناً باستمرار موسوليني في ميدان القتال. فطلبات إيطاليا لم يتحقق منها شيء، ولم تحصل على ضمان يسهل لها الحصول على أحدها
وإذا حاولت إيطاليا أن تتدخل في شئون سوريا ولبنان بأية وسيلة، فإن تركيا تدخل الحرب، تنفيذاً لتعهداتها للحلفاء ومحافظة على مصالحها، فلن تقبل تركيا أن تجعل إيطاليا البحر الأبيض المتوسط بحيرة إيطالية كما يريد موسوليني، فيهدد مواصلات الدردنيل والبوسفور، وتصبح مجاورته للأراضي التركية خطراً يهددها. وأعلنت بريطانيا أخيراً أنها تقاوم بالسلاح كل عمل حربي يرمي إلى احتلال هذه الأجزاء أو التدخل في شؤونها لغير فرنسا بأية طريقة كانت
في البلقان
واستغلت الروسيا فرصة انهيار فرنسا واستولت على مقاطعتي بسارابيا وشمال بكوفينا الرومانيتين، وهو ما توقعناه في مقال سابق، إذ قلنا إن الروسيا لن تدخل الحرب بصفة جدية، وإنها ستكرر ما فعلته في بولندا، فتستغل ضعف مقاومة الفريقين المتقاتلين وتستولي على الأراضي التي تهمها في البلقان أو في البلطيق
ويلاحظ في تصرفات الروسيا أنها تتبع سياسة روسية محضة غير مقيدة بأي فريق، فاحتلالها العسكري لبعض مناطق بحر البلطيق يهدد مصالح ألمانيا التي حرصت على أن تجعل بحر البلطيق منطقة نفوذ ألمانية حتى تضمن سهولة حصولها على خامات السويد، وتحكم السوفياتيين في هذا البحر يهدد هذه المصالح، فهي خطوة لا ترضي ألمانيا، ولكنها مضطرة إلى قبولها الآن لاشتباكها مع إنجلترا في القتال، فإذا وضعت الحرب أوزارها أو
تناولتها فترة انتظار؛ فنتوقع أن يكون بحر البلطيق مثار نزاع بين الدولتين
ومن الناحية الثانية ضمن الحلفاء سلامة رومانيا، ولألمانيا وإيطاليا فيها مصالح حيوية لمسناها في الحرب الحالية، فلولا بترول رومانيا لما استطاعت ألمانيا الاستمرار على القتال إلى الآن. وأعلنت إيطاليا مراراً أن البلقان مناطق نفوذ إيطالية، وأن أي اعتداء على إحدى دوله تقابله بالسلاح؛ ولكن الفترة الحالية لا تسمح بامتشاق الحسام في وجه الروسيا وإكراهها على احترام مصالحه أو تصريحاته
منذ 20 سنة
ومسألة بسارابيا مسألة طال النزاع عليها، فقبل سنة 1920 كانت إحدى مقاطعات الروسيا، واستغلت رومانيا فترة الثورة الروسية الشيوعية، وانحلال قوة المقاومة فيها وضمتها إلى أراضيها ومن ذلك الوقت لم تصل الدولتان إلى اتفاق عليها
ورومانيا بلد كثير الأعداء والخلافات الخارجية، ويعتبر استيلاء الروسيا على بسارابيا ثغرة لتدفق هذه المشاكل، ففي سنة 1912 اشتعلت الحرب بين رومانيا وبلغاريا وأخذت منها الأخيرة جزءاً من مقاطعة دوبروجا، فلما كانت الحرب الكبرى وانحازت رومانيا إلى جانب الحلفاء، وانحازت بلغاريا إلى جانب ألمانيا، استعادت رومانيا الأجزاء التي فقدتها بمقتضى معاهدة نوبلي سنة 1919، وخسرت بلغاريا في هذه المعاهدة أيضاً مقاطعتي مقدونية وتراقية وقد ضمتا إلى اليونان وفقدت بفقد هاتين المقاطعتين منافذها الساحلية على البحر الأبيض
وحصلت رومانيا من المجر (هنجاريا) بمقتضى معاهدة تريانون التي عقدت في 4 يونيه سنة 1920 على ترنسلفانيا وجزء من مقاطعة بانات التي قسمت بينها وبين يوجوسلافيا، وتطالب هذه الدول الآن بالأجزاء التي اقتطعت منها، ولهذا ينتظر أن تكون خطوة الروسيا في الوقت الحالي بمثابة شعلة من النار ألقيت على دول البلقان، فيكفي أن تتحرك إحدى هاتين الدولتين لاستعادة أراضيها لإشعال نار الحرب في البلقان. ولولا ضغط دول المحور عليهما لأعلنتا الحرب من مدة على فوهة بركان
وإذا اشتعلت الحرب بين دول البلقان، فلا شك أن ألمانيا وإيطاليا ستضطران إلى دخولها دفاعاً عن الدول المنحازة إليهما؛ فإن المجر وبلغاريا من الدول الموالية لمحور برلين روما،
وستدخل إنجلترا هذه الحرب أيضاً تنفيذاً لسياسة مناوشة ألمانيا ومهاجمتها كلما سنحت الفرصة، وتنفيذاً لتعهداتها حيال اليونان وتركيا
أما موقف إنجلترا الأخير حيال رومانيا، إذا اجتاحت الروسيا جزءاً من أراضيها فلم ترسل قوات لنجدتها، فيفسره أن رومانيا لم تدافع عن نفسها، بل قبلت شروط الروسيا وتخلت عن الأرض، ولو قاومت الجيوش الرومانية تقدم الجيوش السوفياتية لتغير الموقف ولأرسلت إليها إنجلترا القوات اللازمة. وإذا كانت رومانيا لم تتحرك للدفاع عن نفسها، ولم تطلب معونة إنجلترا، فهل يحق لمنصف أن يطالب إنجلترا بالتصرف بينما صاحبة الشأن الأول لم تدافع عن نفسها؟
وتعود حركة الروسيا الأخيرة بخسارة كبيرة على ألمانيا وإيطاليا، كما أثرت على هيبة بريطانيا، لأنها لم تستطع الوفاء بعهودها. أما خسارة دولتي المحور فترجع إلى استيلاء الروس على مناطق كان أكثرها يزرع لحساب ألمانيا، فيمدها بالمواد الغذائية، وترجع أيضاً إلى اقتراب الروسيا من مناطق البترول الرومانية.
نحو البترول
فالمسافة بين الجيوش الروسية الآن وبين ينابيع البترول الرومانية أقصر من المسافة بين الحدود الألمانية وهذه الينابيع، وكذلك طبيعة الأرض من ناحية الروسيا أسهل منها من ناحية ألمانيا، فالمناطق التي تقابل الروسيين سهول، ولكن جبال كراباتيا تقف في منتصف الطريق بين ألمانيا ومناطق البترول. فإذا حان وقت تمزيق رومانيا فالغالب أن تستولي الروسيا على هذه المناطق
ويظهر أن الروسيا تتبع سياسة بعيدة الغرض منها السيطرة على جميع دول أوربا. فيلاحظ عند احتلالها لبولندا أنها استولت على مناطق البترول فيها ووضعتها تحت سيطرتها، وتركت لألمانيا المناطق الأخرى. ويلاحظ أيضاً في حركتها الأخيرة أنها اقتربت من مناطق البترول الرومانية ولم تقصر استيلاءها على بسارابيا، بل احتلت شمال بكوفيتا، حتى تجد منفذاً للالتفاف حول جبال كراباتيا فيتاح لها الدفاع عن مولدافيا وفلاكيا اللتين بهما أغنى مناطق البترول في أوربا
ويستنتج من هذا أن الروسيا وضعت سياستها على أساس السيطرة على بترول أوربا،
والبترول مادة أساسية من المواد الحربية، وبعد الحصول على حقول البترول الرومانية تصبح منابعه كلها تقريباً في قبضة الروسيا، وبالتالي تتحكم في مصير الدول لأنها تكون الدولة الوحيدة التي تستطيع إصدار الأوامر وإكراه الدول الأخرى على إطاعتها. ولكن حركتها هذه موجهة إلى دول وسط أوربا أكثر مما هي موجهة إلى دولها الغربية، فإنجلترا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال تستطيع الحصول على هذه المواد من بقاع أخرى، بينما دول المحور محصورة وخصوصاً في حالة الحرب الحالية والحصار البريطاني المفروض على المحيطات، فهل يتجاهل النازيون هذه الحقيقة؟ وإلى متى يمكنهم الصبر؟
إن الموقف الحالي وتوجه حكومتي روما وبرلين بكل قواتهما لمهاجمة بريطانيا لا يتيح لهما اتخاذ قرار في هذا المصير المقبل، ولكن حركات الروسيا الأخيرة سببت ولا شك متاعب كثيرة لدول المحور، وأوجدت لها مشاكل خطيرة يجب حلها بسرعة، وهي لا تستطيع الآن دفع البلقان إلى الحرب حتى لا تخسر موادها وهي عمادها الوحيد، واشتراك هذه الدول في الحرب معناه خسارة هذه المواد.
فوزي الشتوي
رسالة الشعر
إليها. . .
للأستاذ حسن حبشي
إِطْلَعي في شُفُوفِكِ الْخَضْرَاءِ
…
يَا مِثَالَ الدَّلَالِ وَالإغرَاءِ
وَدَعِي الْعَيْنَ لَحْظَةً تَتَمَلْى
…
فَاتِنَ الْحُسْنِ وَالْهَوَى الوَضَّاءِ
مَا أَلَذَّ الْحَيَاةَ فِي ظِلِّكِ الْعَذْ
…
بِ وَفِي فَيْضِ نورِكِ اللأْلَاءِ
مَا أَلَذَّ الْحَيَاةَ في كَنفِ الْحُسْ
…
نِ طَلِيَقْينِ مِنْ إِسَارِ الْقَضَاء
كلّما شَاهَدَتْكِ عَيْناَيَ دَبَّتْ
…
نَشْوَةُ الْحُبَّ في صَمِيمِ دِمَائي
ربةَ الحُسْنِ وَالمفاَتِنِ حَسْبِي
…
طَيْفُكِ الْعَذْبُ فَهْوَ كلُّ عَزَائِي
فيكِ أَبْدَعْتُ كُلَّ لَحْنٍ حنُونٍ
…
سَاحِرِ الجرْسِ، فَاتِنِ الأصْدَاء
آهِ يا دُمْيتِي الجميلَةُ لو تَد
…
رِينَ مَا بالفَوادِ مِنْ أَهْوَاء
قَدْ بَنَى فيهِ حُسْنُكِ الساَّحِرُ الفت
…
انُ دُنْيَا مِنَ الأمَاني الوِضَاء
لسْتِ يا فِتْنَتِي مِنَ الأرْضِ لكِنْ
…
أنْتِ عُلْوِيةُ السَّنَا والسَّنَاء
أنْتِ حُكِّمْتِ فِي الفُؤَادِ فأضْحَي
…
طوْعَ هَذِي البدائعِ الغَرَّاء
أينمَا كنْتُ لم أشاهِدُ سوى حُسْ
…
نِكِ يجري في النَّفْسِ مَجْرَى الدِّمَاء
فِي الدُّجَى وَالصَّبَاحِ وِالشَّفَقِ الدَّا
…
مِي، وَسِحْرِ الطَّبِيعَةِ العذْرَاء
وغِناء الطُّيُورِ السُّحْبِ والرَّوْ
…
ضِ ضَحُوكاً وفي خَرِير المَاء
حسن حبشي
من وحي الربيع الأحمر
قوس قزح
للأديب حسن أحمد باكثير
أمي قوس بسنى الشمس تجلْت
…
وبأطياف الدراري والبدور
أخذت من كل لون فتجلْت
…
جمة الألوان تزري بالزهور
أترى قوس (كيوبيد) استهلت
…
لاصطياد القلب من بين الصدور
أم ليهدي كل نفس قد تخلت
…
عن هداها بسناها المستطير
ليته يرسل وبلاً من سهامه
يترك الأكباد صرعى بغرامه
ويزيل الحقد منها بضرامه
إن من في الكون عاثوا بنظامه
وأَثاروها حروباً في سلامه
كل فرد منهمُ رهن حسامه
أصغر الخد فخور بوسامه
تغتلي في صدره نار انتقامه
ضلةً يسعى حثيثاً لحِمامه
ويخوض الحرب زهواً بُعرامه
وسدىً يخفي أساه بابتسامه
ويوارى كربه خلف لثامه
إن سهم الحب شافٍ لسقامه
ينزع الأحقاد منه بمدامه
ويصب الحب وهاجاً بجامه
أرسلي يا قوس وبلاً من سهامك
…
واتركي أكبادنا صرعى غرامك
إن سهماً منك يردي كل شرٍّ في الصدور
حسن أحمد باكثير
صرخة روح
للأديب عبد العليم عيسى
مشعلي غاب عن عيوني وما زل
…
ت غريباً لا أنتهي من مسيري
وتهاويلُ ظلمتي أفرعَتْ رو
…
حي فأضحيت بيتها كالضرير
أين تمضي يا زورقي أين تمضي
…
هل لمسراك في الدجى من مصير؟
تَتَخَطَّى المدَى وَأَنْتَ ضَلولٌ
…
وحَواليْك كل شيء خطير!
وهزيزُ الرياح ينذر بالوي
…
ل المعمَّى والهوْل والتَّدْمِير
قف تمهل بجديك شيء
…
قف تمهل فأنتْ رهن العثور!
رقصَ الجن في طريقي فأججم
…
ت عن السَّيْر في طريقي النكير
غير أنِّي لا أستطيعُ وقوفي
…
رَغمَ هولي وَعلتي وضموري
أي حلم يُغري فؤادي المدمَّي
…
يا ترى. . أي كامِن مقدور؟!
حجبتْني الأوهامُ عن فتنةِ ال
…
كوْنِ فغلْغلتُ في ضلالي العسير
ورميتُ الأقداحَ من كفِّي الدا
…
مِي ومَزِّقْت في فَمي مزْموري
والأزاهير بعثَرتْها على الطِّ
…
ين يدي في هناءة وحبور
جفَّ نبعي بها. . فلستُ أبالي
…
أن أراها في روضها المنضور
ما الذي غيَّر الوجودَ بعيني
…
فغدا معْبَد الدجى المنشور
وأنا الشَّاعر الذي يعشق النُّو
…
رَ ويعنو لحسْنه المسحور؟
أي دنيا ملأتها بغنائي
…
فوق شط منضَّر بالنور!
أي عودٍ حملْته ذاهلَ الرو
…
ح وحَوْلي أَحبَّتي وزهوري!
ذهبَ الأمسُ مثلَما يذهَبُ ال
…
حلم بكاسَاتِ للذَّتي وخموري
فإِذا بي على ضفاف حياتي
…
مثقل بالهمومِ والتكدير
آه ما أثقل الحياة عَلَى الشَّا
…
عِر لمَّا يجفوه قَيض الشعور
(القاهرة)
عبد العليم عيسى
رسالة الفن
تأملات:
ذات اليمين وذات الشمال
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أوى الفتية إلى الكهف
قالوا إنهم سبعة وثامنهم كلبهم
وقد لجئوا إلى الكهف هاربين من الدنيا يستعجلون الآخرة. والآخرة عندهم جميعاً نهاية نيرة يستطيع كل إنسان أن يصل إليها إذا سلك لها طريقها
ولما كانوا في المدينة بحثوا طويلاً عن هذه الطريق حتى أعياهم البحث، وكانوا يتفرقون ثم يجتمعون ويسأل بعضهم بعضاً هل اهتدى أحدهم إلى طريق النهاية النيرة؛ فما كانوا يجيبون وما كانوا يهتدون
وأخيراً قال قائل منهم: ما أظننا واجدين شيئاً ولو قضينا العمر كله هنا في هذا المكان المنحرف عن مسرى النور، وتحت هذه الجدران الجاثمة فوق الأرض بأثقالها والقاذفة الأرض بظلالها، ظلالها المظلمة المعتمة، التي لا يحب أهلها أن تشف، ولا أن تلطف. . . فتعالوا بنا إلى هذا الكهف الذي فوق هذا الجبل فإنه أكثر تصدياً للنور، وأبعد عن حلبة الصراع المخبول، ولعلنا هناك نهتدي إلى شيء. . .
فأوى الفتية إلى الكهف، وتبعهم الكلب
وكانوا وهم في الطريق إلى الجبل يسيرون جميعاً صامتين خاشعين مطرقي الرؤوس، شاهدين على أنفسهم بعجزهم وضعفهم، مؤملين أن يتاح لهم ما يرجونه حتى إذا ما رحلوا عن هذه الدنيا غادروها وهم أكبر مما كانوا يوم وردوها. . .
إلا أحدهم، فقد كان يضحك. فسألوه عما يضحكه فأشار إليهم ثم أشار إلى نفسه وظل يضحك، فتركوه يضحك
ولما انتهوا إلى الكهف قال قائلهم: نستطيع الآن أن نتفرق في أركان هذا الكهف وزواياه ومنافذه، ولنجتمع بعد يوم كامل لينبئ كل منا صحبه عما رأى. . .
فتفرقوا أفراداً، إلا أحدهم فقد اصطحب أحدهم
أما الكلب فقد جلس حيثما كان وبسط ذراعيه
وذلك الذي كان يضحك، ظل يضحك ولم يرض أن يتجه إلى ناحية ما يستقر فيها، وإنما أخذ يطوف بهم، فكلما رآهم واجمين زاد ضحكه، فإذا رآهم منبسطين تضاعف ضحكه، حتى الكلب لم ينج من ضحكاته، بل إنه هو نفسه لم ينج منها، فقد مر وهو في تلافيف الكهف بنبع نظر في مائه فرأى صورته فما استرسل إلا ضحكا. . .
حتى إذا جاء إلى الاثنين اللذين تصاحبا سمعهما يتناجيان، فتخفى وراء صخرة يستزيد سمعاً. . . وأرهف للسمع نفسه كمن يستجدي السمع مهرباً من ضيق وأزمة. . . مع أنه كان يضحك!
كان الصغير يسأل الكبير قائلاً:
- الآن وقد جئنا إلى هذا الكهف لنبحث عن ذلك الذي دخنا في البحث عنه لما كنا في المدينة، ماذا ترانا صانعين، وأين ترانا سنبحث؟ ولقد كانت في المدينة حياة متلونة، وكنت ترسلني منها وتقول لي: ابحث. فإذا سألتك عن أي شيء أبحث؟ قلت لي: سر متيقظاً، فإما رأيت أو سمعت شيئاً فاسأل نفسك ما هو؟ وكيف كان؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين هو ذاهب؟ فإذا وجدت الجواب عند نفسك فامض بحثاً حتى تقف أمام ما يعجزك تأويله. فكنت إذا أعجزني تأويل شيء جئت إليك فأولته لي، وعرفتني أصله وفصله، ولم أرك يوماً حرت في أمر ولا استغلقت عليك مسألة، بل إني على العكس من ذلك كنت أراك تجيئني أحيانا بأحاديث عما رأيت أنت وسمعت مع تفسيره وتأويله، وما كنت أنا لأخرج منه بشيء إن كنت رأيته أو سمعته. . . هذه كانت حالنا في المدينة، فكيف تريد بحالنا أن تكون هنا، ونحن لا نرى شيئاً ولا نسمع شيئاً، وليس أمامنا إلا هؤلاء الذين جاءوا معنا، وهاهم أولاء كما تراهم متفرقين يبحثون مثلنا عن شيء لا أراه أنا فدلني عليه إن كنت تراه. . .
- هأنذا معك يا بني، لا أرى إلا ما ترى، ولا أسمع إلا ما تسمع
- وهم جميعاً هكذا، وسنقضي العمر هنا أضيع مما كنا سنقضيه لو أننا بقينا في المدينة، فهيا بنا نعد فهناك من غير شك أوفى حياة وأحلى
- صحيح. ولكن أمامنا الآن ونحن هنا في هذا الكهف شيء ليس في المدينة متا يشبهه،
وإنه من الخير لنا أن نبقى هنا لنراه
- أما فرغنا من رؤيته بعد، هذا الكهف وما فيه؟
- ربما كنا قد فرغنا من استعراض الكهف حقاً، ولكننا لم نفرغ بعد من استعراض الذين فيه نحن ومن معنا. أما قلنا إننا سنجتمع بعد أن يمضي يوم؟ أو لا يمكن أن تحدث في هذا اليوم حوادث لنا وللذين معنا؟ أو لا يمكن إذا انتهى هذا اليوم أن يقول لنا واحد منا إنه رأى شيئاً أو سمع شيئاً، ولو في المنام رؤيا؟ ثم أليس أمامنا الآن نفسانا ونفوس هؤلاء الذين معنا وقد اعتزموا أن يقضوا يوماً في الكهف بحثاً. . . ألسنا جميعاً أهلاً لأن يرانا راء وأن يسمعنا سامع ونحن على هذه الحال التي لو علم بها أهل المدينة لجعلونا بها سخرية وهزؤواً؟ ألست تحب أنت أن تسخر وتهزأ. . . هيا اسخر واهزأ إن لم تجد أمامك جداً. . .
. . . وهنا قصفت من وراء الصخرة ضحكة انفجرت في صدر المختفي وراءها لم يستطع أن يحبسها، فلما دوت الضحكة وفضحته أطل من وراء الصخرة وقال لهما وقد استرسل يضحك:
- لقد سبقتكما، فأنا أضحك منذ كنا تحت. . . سنلتقي في آخر اليوم، وسأقول، وستقولان، وسيقولون، وسنسمع. وأما أنا فسأظل أضحك، وأما أنتم. . . فمن يدري
فقال الصغير: نحن الذين سنضحك في الآخر وأنت ستبكي
وقال الكبير: من يدري. . .
. . . وهنا. . . تثاءب الكلب. . .
. . . فلما تثاءب الكلب تثاءب بعده أقربهم منه. . . وكان شاباً صادق الوجه، فيه ملاحة وفيه خفة وفيه دلال بعثه في نفسه حب الناس له وإقبالهم عليه. . . وكان فيه إلى هذا إهمال ظاهر في إهماله لنفسه، ولمحاسنه ولعقله. . .
رأى الكلب يتثاءب، فالتقط منه تكاسله، وتثاءب هو أيضاً، ثم طرح نفسه على الأرض، وقال للكلب:
- أتكون أنت أهدأ مني بالاً؟. . . لماذا؟. . . أنا جالس إلى جانبك أحرق نفسي بحثاً عن هذا الذي يبحث عنه هؤلاء جميعاً، والذي لا أعرف ما هو، وأنت جاثم نائم مرتاح؟ لماذا
لا أرتاح مثلك؟ ألأني أريد مثلهم نهاية نيرة؟ إن عندي ألف نهاية نيرة! جلسة عند الراقصات الحور في جنة قطوفها دانية بين ذراعي تلك التي. . . هل تعرف يأيها الكلب (تلك التي. . .)؟ أو لست تعرفها. . .؟ تعرفها أو لا تعرفها، فإنني أنا أعرفها، وسيزورني الآن طيفها ومعه قطعة من الجنة، فأحسن استقباله يا صديقي الكلب، ودله عليَّ إذا تاه عني، وهأنذا راقد إلى جانبك. . . أسعدت مساء. . .
. . . قال هذا ونام. . . نام بعد أن غنى لنفسه ما شاء، وما استطاع. . . ومر به الضحاك، فإذا به نائم؛ فبانت عليه إمارات الغيظ وانحنى عليه يسأله:
- أنائم أنت؟. . . فإذا استيقظت في آخر اليوم، فماذا أنت قائل لهم إن سألوك عما رأيت وعما سمعت؟ سنرى. . .
. . . وانصرف الضحاك عنه إلى واحد من أصحابه رآه يثقب سقف الكهف بمثقاب نحته من الحجر. فهم الضحاك بأن يشكو لهذا الصاحب صاحبهما الذي نام، ولكنه آثر أن يستتر خلف منعطف في الكهف، ليرقب هذا الذي يريد أن يخرق الحجر، وليس شيء وراء الحجر إلا الفضاء
وسطع من جوف الحجر بريق، فانبهر الثاقب، وجفل الضحاك. أراد أن يضحك، ولكنه أمسك عن الضحك، وآثر مرة أخرى أن يظل يرقب صاحبه، وهذا البريق الذي لمع من حرف الحجر، وما عساه أن يحدث بينهما. . .
ظل الرجل يثقب ويثقب حتى استخرجها من جوف الحجر حصاة كبيرة شفافة براقة متألقة، استقبلت النور فعكسته أنواراً، فراح يتأملها في إعجاب وفرح، وأخذ ينفخ فيها ويمسها بأنامله وهو يقول:
- أظنهم مهما جدوا فلن يعثر واحد منهم على ما يشبه هذه؟ ولكن ما هذه؟ على أي حال إنه لا يعنيني كثيراً أن أعرف ما هذه، ما دمت بهذه أستطيع أن أمتاز على الناس وأن أخلب أنظارهم؛ فلأخفها ولأكتم أمرها
. . . وبعد أن كان الضحاك الذي كف الآن عن الضحك. . . بعد أن كان يريد أن يشكو صاحبه الذي نام لصاحبه الذي اهتدى إلى قطعة النور المتجمدة، مضي وفي عزمه أن يشكو صاحبه هذا الأخير لأول من يلقاه من أصحابه. . .
فأخذ يتسلل بين منعطفات الكهف حتى اشرف على صاحب آخر رأى ينبش الأرض وينكثها، وينبش وينكث حتى تفجر من الأرض ماء، مد الرجل إليه فمه فشرب منه رشفة، فإذا به يترنح ترنحاً خفيفاً وإذا به يقول:
- ما في الحياة خير من هذه لذة. . . ولا أمتع منها راحة. . . سأملأ من هذا الماء قدحاً، وسأسقي كلا من أصحابي رشفة فيهدءون ويرتاحون، ويدعون بحثهم واستقصاءهم، فأبحث أنا وأستقصي أنا فإن وجدت بعد ذلك شيئاً أعطيتهم منه القليل، وادخرت لنفسي مصدره. . . لن يكون غير هذا، ولست ظالمهم، ولاهم ظالمي، وإنما لكل منا حظه. . .
وكان الضحاك قد نسي الضحك، واعتراه هم لم يكن يتوقعه واعتراه بأس لم يعرف منشأه، فأطرق برأسه إلى الأرض، وسار بخطوات عمياء إلى حيث لا يدري، وانتهى به المسير إلى حيث كان الكلب راقداً فرقد إلى جانبه هو أيضاً، ولكنه لم يرقد كما يرقد الناس، وإنما انبطح على وجهه كالكلب، وبسط ذراعيه أيضاً كالكلب. . .
كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. أما الكلب فهو الكلب
وأما هم فأولهم هذا الضحاك الذي اغتم ونام وفي آخر الأمر، وثانيهم هذا الذي غنى ونام من قبله، وثالثهم صاحب قطعة النور، ورابعهم صاحب الماء اللذيذ، وخامسهم صاحب سادسهم، وهما اللذان أرادا منذ أول الأمر أن يريا في هؤلاء الجماعة جداً أو هزؤواً وسخرية إن لم يريا الجد
فأين كان سابعهم؟. .
سابعهم كان جالساً على حجر عند مدخل الكهف يتمتم قائلاً:
- هو. هو. هو. هو. هو. هو
وانقضى اليوم. واجتمعوا عند مدخل الكهف حول هذا المتمتم، فسأل أولهم: ماذا وجدت؟ فضحك. فقال له: أمجنون أنت؟ لقد سكتنا عن ضحكك هذا عندما كنا في الطريق، ولكننا الآن لا نستطيع أن نسكت عنه بعد أن قضينا يوماً بحثاً. . .
فضحك. . . فقالوا جميعاً: دعه، إنه مجنون. فتركه يضحك
ثم سأل الثاني: ماذا وجدت. فقال له: غادة هيفاء، وروضة فيحاء، ونسيم عليل، وخمر وغناء، ورقص وتسابيح، ودنيا أخرى غير هذه ما فيها إلا السعادة والنعيم. . .
فسأله: أين هي؟ فقال: هاهي ذي. . . أما تراها. . . إن كنت لا تراها فهي إذن قد ولت. . . يا خسارة. . .
فقال له: إذا عدنا إلى المدينة فصفها للناس يرحبوا بك شاعراً
ثم سأل الثالث: وأنت ماذا وجدت؟
فقال له: هذه. . . تلمع في النور، وتلمع في الظلام، لها أنوار مختلفة الألوان، حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء. . . أنا لا أدري ما هي ولكني أحبها، وأنت أيضاً تحبها، والناس جميعاً يحبونها، أليس كذلك؟
فقال له: نعم، فإذا نزلت إلى المدينة فاخلب بها الأنظار والألباب إنها السحر. . . ولكني أوصيك ألا تؤذي ببريقها امرأة ولا طفلاً ولا رجلاً ضعيفاً، فما كل عين تطيق هذا التألق الخطاف. . .
ثم نظر إلى الرابع وسأله، وأنت ماذا وجدت؟
فقدم له القدح وقال له: اشرب، فقال له: ما هذا الذي تريدني أن أشربه؟ فقال له: ماء وجدته. فسأله: أين؟ فقال: لن أقول، فإن لي به سلطاناً لو شاع بين الناس فقدته. . . إنه شراب لذيذ ومسعد
فقال له: لا ريب إن كنت لا تزال صادقاً. . . فارجع به إلى أهلك فاسقهم منه يقيموك فيهم كاهناً يطلبون عندك الراحة كلما تعبوا. . . ولكن لماذا لا تدلهم على سر هذا الشراب حتى إذا مت وجدوه من بعدك. . .
فقال: من بعدي؟ ما لي أنا والذين بعدي، والذين قبلي؟ هل عطف عليَّ من أهل هذه المدينة أحد. . . لا يا سيدي، لكل منا سره. . .
. . . ثم نظر المتمتم للصاحبين المتلازمين وسألهما: ماذا رأيتما؟ فقال الصغير: رأيناكم أنتم، وقد عرفتكم جميعاً إلا أنت يا من تسألني. . . وتسأل الناس لم أعرف ماذا وجدت أنت؟ ولا ماذا ستصنع عندما تعود إلى المدينة. . .
فقال الكبير من الصاحبين: هذا يا صغيري رجل، له ولي، كلما فرغ نصب وذكره، فهو دواماً معه. . .
فسأل الصغير - ومن وليه؟
فأجاب الكبير - هو. . .
فسأل الصغير مرة أخرى - ومن هو؟!
فأجاب الكبير مرة أخرى - اسأله هو. . .
فسأله الصغير - قل لي من هو؟
فقال له - عندما أستطيع الكلام سأقول لمعلمك. . .
ثم نزلوا إلى المدينة. . . ووراءهم كلبهم. فلما تشتتوا كان الكلب يعود إلى الكهف وحده بين الحين والحين لينام، فقد استطاب الهواء الذي هناك.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
الذرة وبناؤها الكهربائي
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
يكاد يكون اتجاه علم الطبيعيات الحديثة في مبحث الذرة أن اللبنات الأساسية التي تبني منها الذرة موجبة، وذلك من بعد ما نجح العالم الفرنسي (لويس دي بروجلي) - والأستاذ (هيزنبرج) - في وضع مبادئ الميكانيكا الموجبة. فنحن نعلم أن نظرية (نيلز بوهر) مع نظرية المقدار القديمة كانت تستحكم في الأذهان حينما تقدم للملأ (لويس دي بروجلي) عام 1923 م مقرراً أن الإلكترونات وهي دقائق كهربائية مادية ذات شحنة سالبة تحمل ما يتبين فيه نبض موجبي، وأن أشعة (إكس تظهر في شكل من القوة خاص بالذرة غير أن ملاحظة (لويس دي بروجلي) لم تحظ بتأييد أحد غير العلامة حدث أن نجح الأستاذ (دافسن) وزميلة (جرمر) في إثبات أن الإلكترون وهو دقيقة مادية يخضع لقوانين التفرق الموجي. فنحن نعلم أن مرور موجة ضوئية في ثقب دقيق يتمخض عما يعرف باشتباك الأمواج وتفرقه - إذ بدلاً من أن تسير الموجات الضوئية في خطوط مستقيمة فإن أجزاءها تشتبك. ومثل هذا يحدث إذا مرت في معدن متبلور أو صفائح فلزية حيث تقوم دقائق المعدن أو الفلز مقام الحائل في الضوء المرئي. وقد نجح هذان العالمان في إمرار إلكترونات من خلال صفائح فلزية من الذهب ومعادن متبلورة، فكانت النتيجة التي انتهينا إليها أن الإلكترون يتصرف تصرف الأمواج، إذ تشتبك أجزاؤه وتتداخل. ومن ذلك الحين احتلت الميكانيكيات الموجبة مكانها اللائق في عالم الفكر العلمي الحديث
وقد استند (لويس دي بروجلي) إلى ظاهرة تصرف الإلكترون كموج وقرر أنه عبارة عن موجة كهربائية تجمعت في حيز صغير، ورغم أن فرضيته كانت توافق النتائج التجريبية التي انتهى إليها الأستاذة (دافسن) و (جرمر) و (طمسن الصغير) فإن مبدأ (عدم التثبت) الذي كشف عنه (هيزنبرج) كان يقف عقبة دون قبول هذا الرأي
فنحن نعلم من نظرية المقدار القديمة أن إطلاق لمادة لفوتونات الطاقة يكون كاملاً وكذلك
امتصاصها لها، وأن عملية امتصاص الفوتونات وإطلاقها تسير متقطعة غير متصلة، وذلك يرجع إلى أن نظرية (ماكس بلانك) قامت تستمد كل قوتها من التحولات الدورية في الاهتزازات التي تعين خط شعاع الموجة، معتبرة هذه التحولات غير مستمرة بل هي وثبات متماثلة متساوية المسافة الفاصلة بينها، كما أن الزمن الفاصل متساو، فتكون بناء على ذلك هذه التحولات الدورية راجعة لوحدات ثابتة لا تنقسم اصطلح على تسميتها بثابت بلانك في الرمز الرياضي. فإذا أخذنا موضع النظر الحقيقة التي قررها (جيمس كلارك ماكسويل) من أن الأمواج أياً كانت تتسع في دوائر باستمرار في كل الجهات، فكأن موجة ضوئية تصدر من أحد السدم تصل إلى الأرض بعد سنين من صدورها، ورؤيتها تحمل في (علم المقدار على أن مقداراً أصاب العين، مع أن المقدار المنطلق من إحدى ذرات السديم يجب أن تتوزع طاقتها على صدر قوس موجتها، حتى أن السنتيمتر من سطح الأرض الواقع في دائرة شمول الموجة لا يصيبه إلا جزء صغير جداً من المقدار وهذا يستلزم انقسامها وهي لا تنقسم، وهذا خلف
ولقد افترض (هيزبنرج) لحل هذا الإشكال أن الأمواج لا تحمل كميات من الطاقة متساوية في صدرها، إنما تحمل احتمالات متساوية بوجود الطاقة، متجمعة في إحدى النقط الواقعة على صدر الموجة. والمذكرة التي قدمها (هيزنبرج) في هذا الشأن خريف عام 1925م تنطوي على هذا المبدأ الذي يستتر وراءه حقيقة من أهم حقائق الكون الخفية
وقد نجح العلماء من بعد (هيزبنرج) في إثبات هذه الحقيقة وقد كنت أنا من أوائل هذا النفر، فقد بينت تجاربنا بمعامل البحث الطبيعي في موسكو أننا لو أسقطنا حزمة من أمواج الحرارة على طبقة معدنية من المغناسيوم، فبطبيعة الأمر سيتطاير عدد من الكهارب، وعن طريق قياس سرعة سقوط أمواج الحرارة وعدد الكهارب المتطايرة وعرض الموجة، أمكننا حساب مسألة تركز الطاقة في نقط معينة من صدر الموجة أو توزعها، وكانت نتيجة هذه التجارب أن الطاقة في أمواج الحرارة متجمعة في أجزاء على صدر الموجة، وبذا تؤثر في الكهارب التي تصدمها
وإذاً يمكننا أن ننقح رأي (لويس دي بروجلي)، وأن نفترض مع الأستاذ (أروين شرودنجر) أن الكهربائية في الذرة ليست مركزة في نقط معينة من الذرة، هي الكهارب، إنما هي
موزعة على السواء في محيط كرة الذرة. وتفسير هذا التوزيع يشكل أهم مسألة في الطبيعيات الحديثة
2: -
لقد كان أثر نظرية المقدار في تفكيرنا العلمي عن بناء الذرة كبيراً، إذ لم نعد نعتبر سير الإلكترون في فلكه حول النواة مستمراً بل متوثباً، ويكون بذلك شكل الذرة الخارجي متعدد الأضلاع نظراً لأن الإلكترون يرسم حدود الذرة وثباً في سيره من حول النواة، وهكذا نقترب من التصوير الذي وضعه للذرة (جلبرت نيوتون ولس) 1916، والتي اعتبرت أساساً لبناء الذرة المستقر
وهذا التفكير وضع حداً لذرة (بوهد) وخصوصاً أنه كان يرى المسارعة في الذرة، مسارعة الإلكترون ترجع لقوانين النشاط الكهربائي - الكلاسيكية، بينما إشعاعات الذرة للفوتونات ترجع لقاعدة (ثابتة بلانك) في (علم المقدار). ومن المعلوم لنا عن طريق التجربة أن المسارعة من جهة وإطلاق الذرة للفوتونات من جهة أخرى يمكن أن يخضع لقوانين النشاط الكهربائي الكلاسيكية، ولكن. . . ذلك إذا بلغت عدد المقادير - ثوابت بلانك - اللانهائية أو قاربتها
هذا إلى أنه من المتعذر على الباحث في الدقائق - أن يعين مكان دقيقة ذريرية وسرعتها في آن واحد، فإذا عرف المكان تعذر على الباحث تعيين السرعة، وإذا عرفت السرعة تعذر عليه تعيين المكان، وقد كان تأثير هذا المبدأ - مبدأ عدم التثبت - كبيراً فإنه هدم ثقة العلماء بالجبرية في علم الطبيعة غير أنه من المهم أن نلاحظ أن عدم التثبت كان ينعكس في المقادير الكبيرة إلى نوع من التثبت والحقيقة. وهذه الحقيقة بجانب أوليات حسابات الاحتمال مهدت السبيل للعلامة (أورين شرودنجر) أن يضع نظرية جديدة في (علم المقدار) تضافر معه على تحقيقها (ماكس بورن) و (جوردان) و (ديراك) وفي هذه النظرية الجديدة لم يعتبر (شرودنجر الإلكترون دقيقة مادية ركزت فيها الشحنة الكهربائية، إنما اعتبرها شحنة كهربائية موزعة على ذلك الإلكترون على السواء، والتوزيع هنا معناه احتمالي محض، وقد اختلفت وجهات النظر في تفسير الاحتمال، فهو عن شرودنجر ليس ساحة فراغية إنما هو ساحة رياضية صرفة، بينما هو عند جودان وماكس بورن مقياس لا
لكم واحد أو عدد من الكميات وإنما هو مظهر من قياس عدد لا متناهٍ من الكميات الممكنة المنتظمة؛ أما (ديراك) فيرى التوزيع رمزاً ولكن بدون أي إمكان لتفسير عددي إذ يأخذ بالوجهة التي تربط سرعة الإلكترون بمقدار طاقة حركتها
إن فكرة الاحتمال التي دخلت ساحة الطبيعيات الحديثة نبتت من الحقيقة التجريبية في أنه إذا بلغ عدد المقادير أعني ثوابت بلانك اللانهائية أو قاربها، فإن مسارعة الإلكترون وإطلاق الذرة للفوتونات يخضعان لقوانين النشاط الكهربائي الكلاسيكية، ومن المعلوم من حسابات الاحتمال أن اتساع الدائرة التي تخضع للاحتمال يؤدي إلى تكييفات حتمية أو شبه حتمية، وذلك راجع إلى أنه في حالة اتساع الدائرة تتساوى نسبة مجيء الحادثات واطرادها في تتابعها. وبيان هذا:
لو افترضنا أن معنا قطعة من النقد، فهذه القطعة لها وجهان بطبيعتها، واحتمال مجيء أحد هذه الوجهين معادل لاحتمال مجيء الوجه الآخر. فالحالات الممكنة اعني المحتملة هنا هي:
1، 2 ز 2، 1
ويكون احتمال هاتين الحالتين بنسبة بعضهما لبعض:
ح1 ح2=1 - ح1
باعتبار أن الوضع 1، 2=ح1 والوضع 1. 2=ح2 فإذا تكررت هذه الأوضاع ن من المرات، فالحالات الممكنة ثابتة في التعاقب ويكون وجه احتمال مجي الوضع ح1 راجعاً للمعادلة
(ح1 - ح2) ن
التي تحدد من إمكان الوضع الأول
وهنا التفاضل بين ح1 - ح2 أصغر من الواحد، فإذا كان مقدار ن بالغاً الحد الأعظم فإن إمكان الوضعين يقترب من التعادل حتى يساويه في اللانهائية
واستناداً إلى هذه الفكرة الرياضية المحضة أمكن تفسير غامض انطلاق الفوتونات وتغيير الذرة لموازنتها الكهربائية، فنحن نعرف أن كهربا ينطلق من الذرة إذا بلغ عدد المقادير اللانهائية وذلك في صورة متجانسة مع المبادئ الكلاسيكية، وانطلاق كهرب أو تغييره
لفلكه يحدث اختلالاً في موازنة الذرة ويحدث في بناء الذرة رد فعل ينجم عنه موازنة جديدة، لا تأتي إلا بإطلاق مقادير من الطاقات تعرف بالفوتونات. وإطلاق الذرة لهذه الفوتونات يرجع لحملها حالة طقس جديدة تقوم على عدد لا نهائي من المقادير. وهذه اللانهائية في عدد المقادير هي التي تعطي الاطراد في انطلاق الفوتونات بالنسبة لتغيير الشحنات الكهربائية موازنتها في الذرة، لأنه في الوضع اللانهائي يتساوى كل الحالات الممكنة واطراد انطلاق الفوتونات في تتابعها
ونفس النظر الاحتمالي فسر مفهوم مبدأ عدم التثبت لأن هذا المبدأ في أبسط صوره لم يخرج عن استحالة تعيين دقيقة ذريرة في مكانها وسرعتها في آن واحد، فإذا أمكن تعيين السرعة استحال تعيين المكان، وإذا أمكن تعيين المكان استحال تعيين السرعة. ولكن هذه الاستحالة وعدم التثبت سرعان ما ينعكسان - كما قلنا في المقادير الكبيرة - ولبيان هذا نقول:
إن قطعة النقد المؤلفة من وجهين: وجه عليه رسم الملك، ووجه آخر عليه القَّية؛ ولنرمز إلى الوجه الأول بالرمز (ح1)، وللوجه الثاني (ح2)؛ فإن إمكان تعيين أحد الوجهين متعادل واحتمال مجيئه متساو بحكم الطبيعة، فإذا رمينا قطعة النقد عدداً من المرات، فمن المحتمل في هذه المرات أن يأتي كل وجه في دورة واحدة، كما أنه لا يستبعد أن يأتي أحد الوجهين عدداً من المرات، ولا يظهر الوجه الآخر إلا مرة واحدة. . .
ولكن هذا التخالف سرعان ما يتناقض مقداره ويأخذ في الاقتراب من الصفر إذا رمينا قطعة النقد 500 ألف مرة، لأنه في هذه المرات الكثيرة يعطي اتساع المدى تساوياً لتتابع واطراد الأوجه الممكنة - التي هي وجهان هنا - فيأتي معنا الوجه الذي يحمل رسم الملك 250 ألف مرة، وكذلك الوجه الآخر
ونفس هذا يحدث معنا في ساحة (علم الذرة) وعلم (المقدار) ولشرح هذا نقول:
إن المشاهد في عالم الذرة أن النتيجة التي يخلص بها الباحث من تعيين أوضاع لبناتها غير حتمية، لأن النتيجة التي يخلص بها الراصد والباحث في زمن ووضع معين يخرج بغيرها باحث آخر في غير الوقت والوضع ولو جرت التجربة في عين الشرائط التي جرت وفقاً لهذه التجربة الأولى. ولو أجريت التجارب عدداً من المرات فعلى عدد هذه المرات تكون
النتائج معنا، غير أن هذه العدد إذا بلغ حداًّ كبيراً فسنجد أن النتائج الجزئية تعطي وجهاً عاما في احتمال لا نهائي. وهذا الاحتمال يمكن الباحث من حساب النتيجة التي تأنى معه في وضع رياضي ولكن يحمل عنصر اللزوم والحتم في طياته
وهذا نفس ما يحدث معنا إذا رمينا قطعة النقد مرات فإن النتائج تتباين في كل رمية، ولكن هنالك في اتساع المدى تساوياً في تتابع واطراد هذه النتائج
هذه الأوليات تفسر لنا أوجه تفسير (التوزيع) عند كل من (شرودنجر) و (جوردان) و (ماكس بورن) و (ديراك) من وجهتيه الطبيعية والرياضية
3: -
لقد انتهى (ديراك) بمباحثه النظرية في تفسير التوزيع، إلى أن هذا التوزيع رمز ولكن بدون أي إمكان لتفسير عددي أخذاً بالوجهة السلبية من المعادلة الأساسية لنظرية الكوانتا الجديدة، أعني الوجهة التي تربط سرعة الإلكترون بمقدار طاقة حركته، وكان نتيجة ذلك أن انتهى إلى أن هنالك ضربين من الكهارب موجبة وسالبة الشحنة الكهربائية؛ والكهارب ذات الشحن السالبة من الكهربائية هي الإلكترونات، أما الموجبة فهي وراء تناول تجاربنا، فكأنها والخلاء سيان
وامتحان نظرية (ديراك) من الوجهتين الرياضية والفيزيقية عن طريق دراسة تدفق الإشعاع المادي واستناداً إلى معادلتي كلاين و (نشينا) ينتهي بالباحث، كما انتهى بنا، إلى حقيقة فوزيقية مهمة: هي أن الطاقة السالبة، والطاقة الموجبة التي ترتبط بدقيقة الكهربية متساوية، وأن الاختلاف في دلالة الإشارة الجبرية على توزيع الشحنة، وهذا يؤدي حتما إلى افتراض كهرهب موجب الشحنة الكهربائية يقابل الإلكترون السالب الشحنة الكهربائية. وهذا التنقيح في نظرية (ديراك) يجعلنا ننجح حيث فشل غيرنا، مثل أوبنهمير ومن الحتم أن نقول إن (لويس دي بروجلي) يوافقنا على هذا التعديل
وقد كشفت المباحث الفيزيقية الأخيرة عن وجود دقيقة مادية ذات شحنة موجبة تقابل الإلكترون اصطلح على تقريبها بالبوزيتون. وكان زميلنا العالم الروسي سكوبلنر أول من انتبه إلى هذه الحقيقة أثناء تصويره مسارات الأشعة الكونية عن طريق ما تتركه من الأثر في المسار الذي تسلكه خريف عام 1929. وكانت تجارب الأساتذة: أندرسون
وبلاشيت وأشياليني في الذرة المتهيجة تحت تأثير الأشعة الكونية قد انتهت لحقيقة تجريبية في أن كتلة هذه الذرات المتهيجة تحت تأثير الأشعة الكونية تعادل كتلتها في حالتها الأولى. وقد تبيّن خلال هذه التجارب أن هنالك خطوطاً مزدوجة أحدها منحرف لليمين والآخر لليسار، أعني أن أحدهما موجب والثاني سالب، وتبين من مباحثهم أن الخط الموجب هو صنو للإلكترون نظراً لأن الخط السالب هو الإلكترون نفسه، وأن كتلة الدقيقة الموجبة معادلة لكتلة الدقيقة السالبة، فكأن البوزيتون صنو الإلكترون وليس البروتون هو صنوه
ونحن نعلم من نظرية (نيلز بوهر) العالم الدانمركي أن النوية في الذرة تعادل كتلتها كتلة الذرة وأنها مكونة من بروتونات، غير أن الميكانيكا الموجبة وتجارب (دمبستر). بينت أن البروتون لم يخرج عن كونه موجة كهربائية ولكنها ليست مركزة في قلب الذرة كما ارتأى (دي بروجلي) وإنما هي موزعة توزيعاً رياضياً في كرة الذرة الداخلي
هذه الحقيقة التي تنسجم مع المبادئ النظرية في الفوزيقا الحديثة لها ما يسندها في عالم التجربة، وقد كان لي علم 1933 فكرة في أن كرة الذرة الداخلية متوزعة فيها الشحنة الموجبة توزيعاً رياضياً، وأن هذه الشحن تتجمع في بعض النقط، وهذه النقط هي الإلكترونات الموجبة أو البوزيتونات حسب الاصطلاح الحديث
وفي مستهل عام 1938 حملت أنباء التجارب العلمية الحديثة أن البروفسور سكوبلزن قد نجح في تخليص بيروتونات من تيار من البوزيترونات تحت ضغط عال، فإذا صح هذا، فسيكون معنا في الذرة لبنتان أساسيتان - الإلكترون والبوزيتون وهكذا يتحقق معنا الغرض القديم الذي قلت به منذ خمس سنوات في مذكرتي إلى معهد الطبيعيات الروسي، وهي أن الذرة مكونة من موجتين: ذات شحنة موجبة وذات شحنة سالبة، وأن هاتين الموجتين في توزيعهما الرياضي في عالم الذرة يخلْقان لنا ذلك الشيء الذي نصرف إليه اصطلاح الذرة
إسماعيل أحمد أدهم
البريد الأدبي
بين الدكتور زكي مبارك وصديق له
رأيت في الرسالة الغراء كلمة وفاء ورثاء يفي بها الدكتور مبارك لفرنسا، ويرثو لما أصابها. وجميل بالرجل أن يكون وفياً رقيق القلب، ولا سيما في مثل موقف فرنسا ونكبتها التي حلت بها من انحلال الأخلاق واللهو واللعب مكان الرجولة والتضحية، كما قال المارشال بيتان، وهذا من أعظم مواضع الرثاء والأسف
وقد أعجبني من صديقي مبارك أنه متفق مع الجميع في التأثر والألم لما أصاب مدينة النور (باريس الجميلة) فإن لكل متعلم في باريز عهداً لا ينسى ذكراه. وللمدينة الخالدة (باريس) فضل على كثير من الشرقيين والغربيين لا تبلو جدته
غير أني رأيت الدكتور يرد على صديق عاتبه في الإفراط بمحبة فرنسا، بينما فرنسا الدولة المستعمرة التي أرهق استعمارها عشرات الملايين وإخوان زكي مبارك
ورأيت الرد خلط بين أمرين كان يجب التفريق بينهما
الأول: فرنسا العالمة مبعث النور والحرية ومهد الاختراعات
الثاني: فرنسا المستعمرة بكل ما في معاني الاستعمار من استبداد وفي الحالة الأولى يجب على كل إنسان أن يحب فرنسا ويرثى لنكبتها
وفي الثانية على كل حر في العالم وكل من ذاق استعباد فرنسا في مستعمراتها ألا يجزع لما حل بها
نعم، إن الشماتة لا تليق بالرجال ولكن حب الانتقام، ولا سيما في المظلوم من الغرائز البشرية التي اعترفت بها الشرائع والقوانين، وهي صفات إذا فقدتها الجماعات والأمم أصابها هذا الانحلال. . .
فالإنسانية تتألم لفرنسا والحرية تبكيها، والأمم التي أصابها ظلم فرنسا تصمت أمام انهيار السياسة الفرنسية، وتعد انهيارها نذيراً لكل أمة تظلم الإنسانية أيّاً كان مذهبها وملتها
فالأولى بالصديق مبارك أن يفرق بين فرنسا وفرنسا؛ وعندها ينصف نفسه وينصف من يعتب عليه
(صديق)
من الأستاذ القاياتي إلى الدكتور عزام
أرسل الأستاذ السيد حسن القاياتي إلى الدكتور عبد الوهاب عزام هذين البيتين على أثر قراءته كتاب (رحلات):
طعنت لتصلح لب المقيم
…
وعدت لتكتب رأي الحكيم
بيانك والشرق أغلاهما
…
جمال الجديد ونبل القديم
حسن القاياتي
المقنع لأبي عمر والداني
أبو عمر وعثمان بن سعيد الداني الأندلسي عصري ابن حزم المتوفى سنة (444) إمام من أئمة علم القرآن، وله فيه تصانيف كثيرة منها (التيسير)، وهو اليوم أقدم مرجع للبحث في القراءات السبع. وكتابه (المقنع) أقدم مرجع في رسم القرآن وكتابته، و (النقط) في نقطه وإشاراته، وكان بعض المستشرقين قد نشره ونشرت ترجمته إلى اللسان الفرنسي - فأعاد الأستاذ المحقق الشيخ محمد أحمد دهمان نشره مقابلاً على ثلاث نسخ مخطوطة قديمة بتحقيق وعناية وطبعه على ورق جيد جداً، قلما يطبع على مثله كتاب، فلما بلغ إلى المقدمة أعدها وهي تبلغ ثلث الكتاب (الكتاب مع فهارسه يقع في 180 صفحة) لم يجد في السوق من هذا الورق وكره تشويه الكتاب بتنويع ورقه فأرجأ نشرها إلى طبعة أخرى، ولعله ينشرها في الرسالة مستقلة أو مختصرة
والأستاذ (دهمان) مؤسس مكتب الدراسات الإسلامية في دمشق، وقد نشر كتباً قيمة منها:(كتاب النشر في القراءات العشر) - وهو أول من نشره - و (البدع والنهي عنها) لابن وضاح وهو أقدم كتاب في موضوعه، و (سنن الدرامي) وغيرها
ونحن نشكر للأستاذ جهده وننبه المشتغلين بهذا الفن إلى صدور هذا الكتاب القيم
(ع. ط)
للتاريخ - لماذا هزمت فرنسا؟
أذاع المارشال بيتان البيان الآتي:
أيها الفرنسيون في فرنسا وفيما وراء البحار، أخاطبكم اليوم لأوضح لكم الأسباب التي دعتنا إلى عقد اتفاقيتي الهدنة الأول مع ألمانيا منذ ثلاثة أيام والثانية مع إيطاليا أمس
إن الأمر الذي يجب التنويه به قبل كل شيء هو الوهم الخادع الذي بنت عليه فرنسا وحلفاؤها آمالهم بشأن قواتهم العسكرية الحقيقية وأثر السلاح الاقتصادي وحرية البحار والحصار والموارد التي كانوا يستطيعون الحصول عليها. فاليوم - كما في الأمس - لا تكسب الحرب بواسطة الذهب والمواد الأولية فقط. إن النصر يتوقف على القوات والمعدات وكيفية استخدامهما. وقد دلت الحوادث على أن ألمانيا كانت متفوقة في هذا الميدان في مايو سنة 1940 تفوقاً ساحقاً كنا لا نستطيع أن نواجهه عند ما دارت رحى المعركة إلا بعبارات التشجيع والأمل
وقد انتهت معركة الفلندر بتسليم الجيش البلجيكي وسط القتال ومحاصرة الفرق الإنجليزية والفرنسية. وقد قاتلت هذه الفرق الأخيرة قتال الأبطال، وكانت مؤلفة من خيرة قوات جيشنا. وبالرغم من مقدرتها لم نتمكن من إنقاذ جانب من رجالها إلا بالتخلي عن معداتها. ودارت المعركة الثانية على نهري الأين والسوم، وللثبات في هذا الخط قاتلت 60 فرقة فرنسية لا تحميها التحصينات ولا تؤيدها الدبابات - تقريباً 150 فرقة ألمانية من فرق المشاة و11 فرقة من الفرق المصفحة. فاخترق العدو خطوطنا في بعضة أيام، وجعل قواتنا أربعة أجزاء واجتاح القسم الأكبر من الأراضي الفرنسية، وكانت ألمانيا في حكم المنتصرة عندما دخلت إيطاليا الحرب، وأقامت ضد فرنسا جبهة جديدة صمد لها جيش الألب. وعندئذ اتخذ نزوح اللاجئين شكلا يفوق ما يتصوره العقل، فقد انضمت عشرة ملايين من الفرنسيين إلى مليون ونصف مليون من البلجيكيين وأخذوا يتدفقون على مؤخرة جبهتنا في أحوال اختل فيها النظام وسادها بؤس لا يوصف
وابتداء من 15 يونيه اجتاز العدو نهر اللوار وانتشر في بقية أنحاء فرنسا. فأمام مثل هذه المحنة كان يجب أن تكف مقاومة الجيش، وكان على الحكومة أن تختار بين أحد أمرين: إما البقاء في مكانها أو مغادرة البلاد. فتداولت في الأمر وقررت البقاء في فرنسا للمحافظة على وحدة شعبنا وتمثيله أمام العدو، ذلك لأنها رأت أن وأجبها في مثل هذه الأحوال يقضي بالحصول على هدنة مقبولة باستثارة روح الشرف والعقل لدى العدو. وقد عقدت الهدنة
وانتهى القتال. وفي يوم الحداد الوطني هذا تتجه أفكاري إلى جميع القتلى، وإلى جميع أولئك الذين تألموا في أجسادهم وعواطفهم من جراء هذه الحرب. إن تضحيتهم قد احتفظت بسمو علم فرنسا وطهارته فهم لا يزالون أحياء في ذكرياتنا وقلوبنا
أما الشروط التي اضطررنا إلى قبولها فهي قاسية. فسيحتل جزء كبير من أراضينا مؤقتاً وتقيم ألمانيا حاميات في شمال بلادنا وغربه من بحيرة جنيف حتى تور ثم على طول الساحل من تور، حتى جبال البيرينيه. ويجب أن تسرح جيوشنا وأن تسلم معداتنا وتحصيناتنا وأن يجرد أسطولنا من سلاحه في موانينا. وستجرد القواعد البحرية من سلاحها في البحر الأبيض المتوسط
أما الشرف فلا يزال سليما. فلن يستخدم أحد طائراتنا ولا أسطولنا. ونحن نحتفظ بالوحدات البرية والبحرية اللازمة للمحافظة على النظام في فرنسا ومستعمراتها، وستظل الحكومة حرة ولي يدير شؤون فرنسا إلا الفرنسيون
لقد كنتم على استعداد لمواصلة القتال - إني أعلم ذلك - ولكن الحرب كانت لا محالة خاسرة في فرنسا
لا تنتظروا كثيراً من الدولة فهي لا تستطيع أن تعطي إلا ما تتلقاه. اعتمدوا في الوقت الحاضر على أنفسكم وفي المستقبل على الأبناء الذي ستربونهم؛ وعلينا أن نجدد فرنسا، فأظهروها للعالم وهي ترقب خصمها وتعمل في هدوء وكرامة. لقد أتت الهزيمة من الانحلال فدمرت روح الملذات واللهو ما شيدته روح التضحية، فإني أدعوكم قبل كل شيء أن تنهضوا بأخلاقكم. أيها الفرنسيون، إنكم لقادرون، وإني أقسم لكم أنكم سوف ترون فرنسا جديدة تنبعث من حرارة إيمانكم
رد الجنرال دي جول على بيتان
قال الجنرال دي جول في إذاعة له رداً على بيان المرشال بيتان:
(في ساعات الخجل والغضب هذه، يجب أن يرتفع صوت واحد للرد عليك
(لقد ضربت فرنسا بقوات العدو الميكانيكية، فإذا كانت فرنسا لا تملك هذه القوات الميكانيكية، فغلطة من هذه؟
(لقد كنت ترأس هيئاتنا الحربية بعد انتهاء الحرب في عام 1918، وكنت قائداً عاماً حتى
1932، وكنت وزيراً للحربية في عام 1935، وكنت أكبر شخصياتنا العسكرية. ولكنك لم تطلب أبداً إدخال الإصلاح اللازم لهذا النظام البالي
إن قبول العبودية لم يكن يتطلب بطل فردون، بل أي إنسان كان يستطيع عمل هذا. إنك رفضت موارد الإمبراطورية البريطانية والمساعدة الأمريكية الكبيرة، وقد لعبت لعبة فاشلة وألقيت بالأوراق وكأنه لم يبق في أيدينا أية ورقة نافعة
كيف تنتظر من فرنسا النهوض مرة أخرى وهي تحت أحذية الألمان الثقيلة وأحذية الرقص الإيطالية؟
(ألا إن فرنسا ستنهض مرة أخرى في الحرية والنصر
(إن أسلحتنا منضمة إلى أسلحة حلفائنا ستعود بالنصر، وسنعيد خلق فرنسا. . .)
القصص
جندي مرابط
للأستاذ محمد سعيد العريان
(راجح! حبيبي! أرجوك. . . إن العدوّ لا يرحم، ولا يعفو؛ فلا ترمِ بنفسك إليه. . . احرص على حياتك من أجلي يا حبيبي! عِش لي، أْوْلا، فاقتلني وأسدل بيديك أجفاني قبل أن أرى فيك مصارعَ أهلي وأهلك يا راجح!)
كانت (بدرية) تتحدث إلى فتاها وقد أمسكت بيديه، ورفعت إليه عينين مخضلّتين بالدمع وفي صوتها نبرة يأس وأسى. كانت موقنة بأنه لن يستمع إليها، ولن يجيب؛ ولكن جذوة الحب التي تؤج في صدرها كانت تبعث في نفسها إثارةً من الرجاء! واستمع إليها الفتى صامتاً وفي قلبه عواطف تصطرع، وفي رأسه خواطر تموج وتتدافع؛ وأوشك أن ينتكث عزمه، حين التقت عيناه بعينيها الدامعتين وأحسّ شَدَّ يديها على يديه كأنما تخشى أن يفر إلى أجله قبل أن تُقلى إليه كلمة الوداع!
وبرز القمر من خلل أعذاق النخيل، فألقى شعاعه على وجه الفتى والفتاة جالسين مجلسهما على مقربة من مضارب الحيِّ، وقد سكن كل شيء منهما ومما حولهما، إلا قلباً يجف وأنفاساً تتردّد. . .
وثابت إلى الفتى نفسه حين أذكرتْه صاحبته مصارع أهلها وأهله؛ لقد كان موشكا أن يخور وتضعف عزيمته، ولكن ذكرى أهلها، وأهله. . . ووطنه. . . قد ردّته إلى رأيه، فأفلت من يدي صاحبته ووقف، وهتف:
(نعم. . . ولكنَّ دم آبائي يا بدرية، ودم أبيك، وشرف الوطن. . . يناديني؛ لقد أقسمتُ أن أنتقم أو أموت، وسأنتقم، أو أموت. . . ويومئذ ألقى آبائي، وآباءك، رافع الرأس فخوراً بما بذلت لأهلي ووطني، من دمي. . .!)
وراح يدبّ على رمال الصحراء، تحت ضوء القمر، وبندقيته على كتفيه؛ لم يحاول أن ينظر إلى وراء فيودْع الفتاة التي كان كلَّ شيء في دنياها وكانت؛ ومضى ليجيب داعي الوطن!
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، حين زحفت الجنود المغيرة من مربضها الذي ترابط فيه
منذ سنوات على ساحل برقة، تحاول أن تبسط سلطانها على الجنوب كما بسطته على الشمال لتعيد مملكة الرومان في جوف الصحراء وتنشىّ لها عرشها من جريد النخل في ظلال أغصان الزيتون. . .
واصطرعت قوتان، أما إحداهما فكانت تملك الحديد والنار وفي يدها السيف والذهب، وأما الأخرى فكانت تملك الإيمان بالله، والإيمان بالوطن. . . وترامى الفريقان بنبالهما، وسال الدم، وعقد الدخان ضبابة سوداء فوق رءوس العسكرين، ودارت رحى المنون!
وانتبه الفتى والفتاة من سكرتهما وحيدين قد فقدت أباها وفقد أباه وعمه؛ فأقسم من يومئذ قسمه وأبرم عزمه. . .
. . . وخلف الفتاة في الحي تنتظر مآبه!
لم تهدأ ثائرة البادية حين خيل للفتاح المغير أنْ قد غَلب وتسلط، ولكن جمرات تحت الضلوع تبص بصيصها ثم تختفي، ولا تخبو
وقاد (راجح) فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربص على حذر ورقبة؛ فما يمر به وليٌّ ولا عدوٌّ إلا عرَّفه نفسه وحيَّره بين عاقبتيْه. . .
وشَرِىَ أمرُ الفتى وعزّ جنده، ووفدت إليه الوفود من أبنا البدو وأفلاذ الصحراء مذعنة لأمره مطيعة، وعقدوا له اللواء؛ وحار العدو حيرته فما عرف سبيلاً إليه ولا منجاة منه، وإن له العدد والقوة والعتاد!
وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية!
وبّث العدوّ سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غِرّته، وراحت الدبابات تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلقت الطيارات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتَّبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح؛ وكان ما لابد أن يكون، وأمعن العدوّ قتلاً ومُثله حتى بلغ مبلغه؛ وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطونُ الأرض أشلاءَ وجماجم. . .
وحلقت طيارات الجيش الظافر ترسل تحيتها إلى القرى المغلوبة قذائف من جماجم بنيها الشهداء؛ وليس الحدادَ شعب بأسره؛ وأحدثت (بدرية) على فتاها كما أحدِّت على أبيها
وأهلها من قبل!
وفي بيت من الشَّعر إلى جانب الصحراء في غرب الإسكندرية، رأيت بدرية منذ ثلاث سنين. . .
كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة، فإنها لتغدو عليّ وتروح كل يوم لحاجتها بين السوق والبيت؟ فأراها. . .
لم أكن أعرف شيئا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخبرها وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب قد ضربن خيامهن هناك؛ ولكن مرآها كان يثير في نفسي فضولاً عجيباً؛ فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطر وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها؛ فأتبعها عيني حتى تغيب. . .
كانت بزيَّها، وعينيها، وشفتيها المطبقتين أبداً على ابتسامتها العابسة - تماثلاً صامتاً يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يملك من يراها إلا أن يتخشع ويصمت؛ وكان لها جمال، وفي عينيها وداعة، وعلى جبينها طهر؛ وعلى أنها فيما تبدو لمن يراها جاوزت الأربعين فقد كان لها روح الطفل وخفته
. . . وعرفتُ خبرها من بعد، فأعظمتُ وفاءها، ورثيت لها.
لقد مضت بضع عشر سنة، منذ تلك الليلة التي خلَّفها راجح ومضى لأمره، يحاول أن يثأر لقومه؛ ولكنها ما تزال بعدُ كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ أيام. لم يزدها مرُّ السنين وحادثاتُ الليالي، وفراقُ الوطن، إلا وفاءً لذكراه
وجَلَتْ عن أرضها مكرهة فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفت لآخر مرة تُتبعه عينيها وهو ماض لأمره تلفُّه ريح الصحراء في الليل القر!
وقنعتْ بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع! ونذرت نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوج، ولم تخلع الحداد! ونسيتْ ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه! وتأيَّمت العذراء ولما تخلعْ أبراد الشباب!
وكانت بدرية في فراشها حين دوّتْ صفارةُ الإنذار لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهلها ليأخذوا أهبتهم للكفاح؛ وأشرق الصبح وقد هجر المدينةَ نصفُ أهلها فراراً من الموت؛ فحملتْ بدرية متاعها ومضتْ مع الناس تلتمس سبيلاً إلى النجاة!
يا رحمتا للمسكينة مما يطاردها من أحداث الليالي!
وأعياها السير، فحطَتْ متاعها عن كاهلها وجلست تستريح على حيد الطريق، حين مر بها فوجٌ من الجند فمدّتْ عينيها تنظر. . .
ونظرتْ، فعرفت، فهتفت. . .
ولكن هتافها تلاشى في ضجة الناس وزحمة الطريق؛ ومضى الجند ومضت تعدو في آثارهم وتركت متاعها تتقاذفه أقدام السابلة. . .
وانقطع بها الطريق فما بلغتْ ولا بلغ صوتها إلى من يَسمع، وكأنما كانت تنادي مُناديً من التاريخ يفصلها منه بضعة عشر عاماً من عمر الزمان!
وهامت المسكينة على وجهها ذاهلة لا تكاد تعي شيئاً مما ترى أو تسمع، ليس لها هدف فيما تسعى ولا غاية إلى ما تسير!
وأعيتْ بعد جهد فسقطت في الطريق لا حسٌّ ولا حركة ولا حياة؛ ثم أفاقت لتسأل نفسها ويسألها الناس فلا تجد الجواب!
وتتابعت على عينيها ذكريات الماضي يوماً يوماً منذ كانت حتى صارت؛ ونظرت يمنة ويسرة، ثم انطلقتْ تعدو. . .!
وعرفتْ بعد لأي أين تقصد، فمضت في طريقها. . .
. . . والتقى في خيمة الضابط المشرف على فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء شخصان لم يلتقيا منذ بعض عشرة سنة، أما أحدهما ففتاة في الأربعين قد تقنعت بلفاع أسود حائل، وعليها ثوب أسود مرقوع، وترف على شفتيها ابتسامة لم تنفرج عن مثلها شفتاها منذ سنين. وأما الآخر فرجل أشمط مخدّد الوجه في جبينه شجّة ملمومة، يلبس حلة عسكرية وعلى رأسه طربوش بدوي غليظ يكبس أذنيه ويتدلى زره على قفاه. . .
وقالت الفتاة: راجح!. . .
وغصت بريقها وتسابقت بوادرها على خديها!
وقال الرجل: لم أكن أظن يا بدرية!
وكان الضابط جالساً إلى منضدة في صدر الخيمة يسمع وينظر ويبتسم ابتسامة الغبطة والرضا!
وعادة بدرية تقول: راجح. . .!
وربت راجح على كتفيها وهو يبتسم، وقال: لا تخشى بعد اليوم شيئاً يا بدرية؛ لن نفترق بعد؛ لقد دنا اليوم الذي أرتقب يا عزيزتي من زمان، لأغسل الدم بالدم، وأنتقم، فنعود أعزَّة إلى الوطن الذي أكرهنا على هجرانه، ويومئذ. . .
وطأطأت بدرية رأسها من حياء، واسترجعت أماني عاشت بها حيناً وعاش فتاها؛ وسرحا بأفكارهما إلى بعيد؛ إلى حيث كانا يلتقيان كل مساء تحت ضوء القمر في ظلال النخيل القائمة على مقربة من بيوت الحي، يتساقيان ويتناجيان نجوى الشباب؛ وابتسم، وابتسمتْ. . .
ودوى بوق المعسكر يدعو فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء إلى نَوبتهم في العمل؛ فهب راجح واقفاً ومضى إلى واجبه، تتبعه عينان تفيضان بالحب والحنان، ولسانٌ يخافِت بالنجوى والدعاء!
محمد سعيد العريان