المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 367 - بتاريخ: 15 - 07 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٦٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 367

- بتاريخ: 15 - 07 - 1940

ص: -1

‌لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا

للأستاذ عباس محمود العقاد

لم نخدع أنفسنا حتى خدعنا الأوربيون عنها فانخدعنا!

ثم صدقنا أننا أهل عاطفة ولسنا أهل عقل، وأننا أهل خيال ولسنا أهل حس، وأننا أهل روح ولسنا أهل مادة، وأننا لذلك مخفقون

وأنا مع الذين يقولون: إننا لسنا أهل عقل ولا أهل حس ولا أهل مادة، ولكني لست ممن يقولون: إن هذه (الليسية) توجب لنا نقيضها وتعطينا ما يقابلها، فنصبح أغنياء في الروح لمجرد أننا فقراء في المادة، ونصبح نفَّاذين في الخيال لمجرد أننا محجوبون عن الحس، ونصبح و (العاطفة) فياضة من نفوسنا لمجرد أننا مستريحون من العقل أو واقفون منه عند ينبوع جديب

فجائز جداً أننا لا عاطفيون ولا عقليون، ولا روحيون ولا ماديون، ولا خياليون ولا حسيون؛ وأننا على نصيب نزر من جميع هذه الصفات لا تستلزم القلة في إحداها كثرة في نقيضها، لأن الصفات الإنسانية لا تمشيِ عدلين عدلين متلازمين يعلو أحدهما حيث يهبط الآخر ضربة لازب. بل قد ينعدم العدلان والبعير معهما في كثير من الأحيان. . .!

واليقين عندي أننا منذ زمن طويل فقراء في العاطفة محتاجون إليها أشد من حاجتنا إلى العقل والعلم والحكمة وسائر مشتقاتها.

وكان هذا رأيي يوم ناقشني فيه فقيد العراق الأكبر جميل صدقي الزهاوي المصلح الحكيم، وكان رحمه الله يسألني: بماذا عبر لندنبرج المحيط الأطلسي: أبا العقل أم بالعاطفة؟ فأجيبه: (بالعاطفة). . . فإن العاطفة لا العقل هي التي أركبته الطيارة بعد أن فرغ العقل من تركيبها في المصنع وتركها حديدة لا تتحرك ولا تأتي بالفلق إلا أن تقدم بها عاطفة مجازفة لا تبالي العقل ولا تحفل السلامة

والذي كان يسمعه رحمه الله يقسم حسبة الطيارة إلى كومين: كوم العاطفة وكوم العقل، يخيل إليه أننا نحن الشرقيين قد ظفرنا منها بكل ما فيها من عاطفة وهمة وطموح ومغامرة واستطلاع، ولم يبق منها للغربيين غير حفنة من مسامير ومطارق وأرقام، هي التي يرتع فيها العقل ما يشاء!

ص: 1

والآفة كلها من أوربا نفسها

فقبل اتصال أوربا بالشرق لم يقل أحد من الشرقيين إن الشرقيين أهل أحلام وخيالات، وإنهم من رجال العاطفة وغيرهم من رجال العقل والواقع

ولكن الأوربيين وصفونا هذه الصفة فاغتررنا بها ومضينا فيها، ولا سند لها على الأرجح أقوى من ألف ليلة وليلة وما جرى مجراها من القصص والنوادر، وهي كما نعلم ليست (بالخيال) في أي سمة من سماته ولكنها (واقع) مع إيقاف التنفيذ كما يقولون في لغة القانون! أوهي أحلام الجائع في سوق الطعام، لا فرق بينها وبين الواقع إلا أن يستطيع الأكل فعلاً، وهو عاجز عن الأكل لأن الأكل غير موجود!

فالخيال المزعوم عند الشرقيين هو (واقع ناقص) لا يحسب له فضل الواقع، ولا يحسب له فضل الخيال

ولو كان خيالاً حقاً لكان ابتكاراً وخلقاً وسعياً إلى عالم جديد ولم يكن واقعاً في كل شيء إلا في أنه غير موجود

فنحن واقعيون مفرطون في الواقعية

وكل الفرق بيننا وبين الأوربيين أن الأوربيين واقعيون يجدون المائدة التي يأكلونها، ولكننا نحن واقعيون نمضغ مائدة من الهواء. . . ومن الخطأ جد الخطأ أن نسمَّي من أجل ذلك خياليين أو حالمين

أخياليون وحالمون لأننا نعيش في عالم ألف ليلة وليلة؟ فما عالم ألف ليلة وليلة إذن؟ عالم قصور وموائد وكنوز وفتيات حسان. . . عالم واقع ملموس تراه العيون وتذوقه الأفواه إلا أنه لا ينال، وليس هذا هو الخيال

بل الخيال هو فكرة يبيع الإنسان في سبيلها متاع الدنيا وكنوز الأرض وبهرج الحياة

أو هو مثل أعلى لا تعرفه شهرزاد، ولا يتبعه صائغ البصرة، ولا تراه في ديوان من دواوين تلك القصص التي هي وسوق الرقيق سيان

وبودنا ألف ود لو يعظم نصيب الشرق من هذا الخيال

وقريب من هذا اعتقادنا أننا نحن المشارقة أهل السماحة والبر لأننا لا نصول ولا نجول، أو لا نصنع اليوم السلاح الذي نصول به ونجول!

ص: 2

فماذا يوم كنا نصنعه، أو يوم كان سلاحنا الذي نصل إليه كفيلاً بالنصر على أعدائنا وعلى العزل المستضعفين من جيراننا؟

كنا نتغنى بالسيف كما تتغنَّ أمة قط بسلاح، وكنا نعيب (رذيلة) السلم كما يعيبون اليوم رذيلة الكفاح

ولعل الأموال التي بذلت في الخير بين الغربيين لا تقل عن الأموال التي بذلت فيه بين الشرقيين. ولعل جهودهم فيه لا تقل عن جهودنا، وثمرات أعمالهم فيه لا تقل عن ثمرات أعمالنا، وعلامات البر في عصرنا الحديث لا تقل عن علاماته في سائر العصور

فالإنسان إنسان حيث كان

ذلك أصدق ميزان للخلائق الإنسانية في كل أمة وفي كل أوان

وأحرى بنا فيما نعتقد أن ننجو بعقولنا من أحلام الأوربيين التي أفرغوها علينا لا من أحلامنا نحن فليست لنا بحمد الله أحلام من القوة بحيث تتقاضانا النجاة منها

إن أناساً من هؤلاء الأوربيين أفزعتهم بلادهم في القرن الثاني عشر وما بعده فحلموا بالشرق كما يحلم آكل الأفيون بما يراه في غيبوبة الخدر والجمود، وتحلوه صفات ليست فمنه وليس منها فأعجب الشرقيون بما كتبوه

أو أن أولئك الكتاب الأوربيين قد تخيلوا أبطالهم من الشرقيين كما نتخيل الأبطال الذي ننحلهم في الروايات شمائل نتمنى أن نراها في عالم الحس فيعيينا طِلابها

أما الواقع فلا

الواقع أننا نحن الشرقيين لسنا عاطفيين ولسنا مأخوذين بالروح ولا مفتقرين إلى من يسوق لنا المواعظ بالإقبال على المادة والانصراف كما يقولون عن الخيال. ونحن أفرح من طفل بالدرهم وأعجز من طفل عن كسبه في سوق الابتكار

أنحن أهل خيال؟

سمع الله منكم أيها القوم!

لقد عشنا عصرنا الحديث نضرب المثل (بالجرسون) الرومي في الحرص على المليمات، ولو رأينا معاهده في بلاده وفي بلادنا لعرفنا مَن صاحب الحرص ومن صاحب الأريحية وإن اختلفت العوارض والأشكال

ص: 3

وربما ألقينا بقطعة اللحم من الفم لنزدرد قطعة اللحم التي في الماء. . .!

أخيال هذا؟

كلا! ولا النحاس الذي يستحيل ذهباً ولا الصفقة التي يدركها الصعود في سوق القطن فتفتح الكنز كله بعد اليوم

ما في شيء من هذا خيال وإنما هو كله واقع العاجزين

وبعد فنحن في عصر اضطراب الثقافات وارتجاج الأخلاق والمزايا لا جرم يخطر لنا أن ننظر فيما يصلح وفيما لا يصلح، وفيما تعز به النفوس وفيما تهون؛ وأن نسأل أنفسنا ماذا نأخذ وماذا ندع مما يتمخض عنه عراك الأمم والدولات

فلنكن على يقين سواء كنا من طلاب الحرية أو طلاب القوة أن النخوة مطلب لا غنى عنه في الحالتين وأننا محتاجون إليه، وأن الخيال عدة لا محيص عنها في المعسكرين، وأننا نحن الشرقيين عزل منها، وأن أمة من الأمم لن تصاب في سلمها ولا في حربها بمصاب هو أفدح عليها وأقبح بها من مصاب الانحصار في واقعها، لأن الانحصار في الواقع خلة حيوانية وليس بخلة إنسانية، وكلما ضاق أفق النفس عز عليها أن تخرج من الواقع القريب إذا أرادت الخروج منه، ولا مناص لها أن تريد ذلك في بعض حالاتها

تريد ذلك لتعلو على أثرتها ولتعلو على ضنكها ولتعلو على حاضرها في انتظار مستقبلها أو مستقبل بني قومها، وتريده لتشعر بأن الواقع الذي هي فيه دون الواقع الذي تبغيه

وهذا هو الخيال الذي يرتفع بالنفس عن واقعها

أما الخيال الذي هو ظل اللحم في الماء فذلك هو الواقع مشوباً بالعجز والغفلة

وأما (الواقعية) التي يقولون إنهم ينقذون الشرق بها ويردون الشرق من أحلامه إليها فحذار حذار منها. . . هي داء الشرقيين أجمعين، وإنهم لأئمة الواقعيين بين العالمين.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌في ظلال الذكريات

أحمد الله إليك!

للدكتور زكي مبارك

في شهر يولية سنة 1928 تلقيت وأنا في باريس خطاباً من الأستاذ الدكتور طه حسين بك جاءت فيه عبارة: (أحمد الله إليك)؛ فالتفت ذهني إلى هذه العبارة، لأنها لم تكن من العبارات المألوفة في رسائله إليَّ، وقلت لنفسي: من أين وصل هذا التعبير إلى الدكتور طه حسين وهو في هذه الأيام يعيش في جيرار يير؟

وصح عندي بعد التأمل أن الدكتور طه قد يكن مشغولاً بمراجعات متصلة بالسيرة النبوية، لأن عبارة (أحمد الله إليك) تكثر في الرسائل المأثورة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء

وبعد أعوام أخرج الدكتور طه كتابه (على هامش السيرة) وتفضل فأهداني نسخة ممهورة بعبارة كريمة من عبارات الإهداء، وكنت حينئذ أحرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ، فرأيت أن أتحدث عنه إلى قرائي بعناية تحملهم على اقتناء ذلك الكتاب، تحقيقاً للتضامن بين المؤلفين

فماذا قلت؟ قلت: إن الدكتور طه يجيد أعظم الإجادة حين يتروى في التأليف، وكتابه الجديد أثرٌ من آثاره الجيدة في تروّيه، فهو مشغول بموضوعه منذ سنة 1928، وإن لم يقل ذلك، فقد كتب إليَّ خطاباً في شهر يولية من تلك السنة يقول فيه:(أحمد الله إليك)، وقد فهمت من هذه العبارة أنه كان مشغولاً بدراسات متصلة بالسيرة النبوية، وكذلك عرفت أن الظن قد يبلغ درجة اليقين، وقد يقوم مقام المعاينة عند صدق الإحساس

فكيف استقبل الدكتور طه هذا التقريظ الطريف؟

مضى يقول: هذا اختراع جديد من اختراعات زكي مبارك في الأسمار والأحاديث، فليس من المعقول أن أكتب إليه خطاباً أقول فيه (أحمد الله إليك)، وهي ليست من عبارات هذا الجيل!

ولقيني بعد ذلك، فجدد استغرابه من العبارة التي نسبتها إليه؛ فقلت: إنها حق؛ فقال: إنها من المستحيلات!

ومضيت أبحث عن ذلك الخطاب، فلم أهتد إليه، لأن الدنيا كانت أسرفت في اللجاجة

ص: 5

واللدَد، فنقلتني من أحوال إلى أحوال، وبعثرَتْ ما كنت أحرص عليه من رسائل الأهل والأصدقاء، وعَدَتْ على مكتبتي بالقلب والإعلال، فلم يبق أمل في الوصول إلى نص الخطاب المنشود

ثم أخذت أتحدث في مقالاتي ومؤلفاتي عن أشياء وقعت بيني وبين الدكتور طه حسين، فكان إذا سئل عن بعض تلك الأشياء أجاب بأنها اختراع من نوع (أحمد الله إليك)!!

ومنذ أيام مضيت لمقابلة سعادة الأستاذ الجليل الدكتور السنهوري بك وفي يدي نسخة مهدأة إليه من كتاب (الأسمار والأحاديث) فوجدت الدكتور طه بك هناك، وسألني السنهوري بك عن بعض أغراض الكتاب، فقلت: فيه أقوال فاه بها الدكتور طه ولم ينشرها، فنشرتها بالنيابة عنه على نحو ما كان يصنع أفلاطون مع سقراط!

واللطف الملحوظ في هذه العبارة لم يمنع الدكتور طه من أن يقول: لا بد أن تكون اختراعات من طراز (أحمد الله إليك)

وسألني السنهوري بك عن القصة فأجملتها في كلمات قصار فراراً من الدخول في جدل جديد مع الدكتور طه حسين، فقال وهو يبتسم: يجب أن يكون الخطاب صحيحاً ما دمت تحدثت عنه في البلاغ!

فقلت: وإن وجدت أصل الخطاب؟

فقال الدكتور طه: إن وجدته فسيكون بخطك؟

فقلت: وإن كان بخط (توفيق)؟

فقال: هذا مستحيل!

فقلت: وهل عندك مانع من أي تحمد الله إليَّ؟

فقال: أنا أحمد الله في كل وقت، ولكني لا أذكر أني حمدته إليك!

ثم انصرفت وقد اطمأن مَن حضروا هذا الحوار إلى أني أتزّيد على الناس حين أشاء

أين ذلك الخطاب؟ وأين أنا من سنة 1928 وقد شرَّقتُ وغربت، وانتقلت من دار إلى دار، وبعثرت أوراقي مئات المرات؟

أما تسمح المقادير بأن أصل إلى ذلك الخطاب ليعرف الدكتور طه حسين أني لم أتزيد عليه؟

ص: 6

إلى يا أوراقي، إليَّ، إلىَّ، فقد طالَ عهدكِ بالحجاب، واشتقتُ إليك أشد الاشتياق!

ورجعت إلى تلك الأوراق، الأوراق التي سبقت هجرتي إلى بغداد، رجعت إليها في حذر وخوف، لأنها تذكرني بعهود سيطول عليها بكائي إن فكرت في أيامها الطيبات

فماذا رأيت؟

رأيت ألوفاً من أطياف الشباب، الشباب الذي أبليته في الدرس بلا ترفق ولا استبقاء

ورأيت قصائد منسية كنت نظمتها أيام كنت أومن بأن الدنيا أهل لأن يعيش فيها الرجل وهو مُرهَف الحس خفاق الفؤاد

ورأيت رسائل مهجورة أملتْها قلوبٌ خوافق لا أعرف مصيرها اليوم، ولا أدري مكانها بين الحياة أو الموت

ورأيت مواعيد وفيتُ منها بما وفيت، وأخلفتُ منها ما أخلفت، يوم كانت الدنيا تسمح بأن أتخيَّر من المواعيد ما أشاء. ومن أخصب تخيَّر. فيا زمن الخصب أين أنت؟ وكيف ألقاك؟

ورأيت صوراً غالية كادت تُبليها الأنفاس والمدامع، لطول ما عانت من لوعتي وأساي، قبل أن يروضني الدهر على اصطناع الصبر الجميل:

وإن أَكُ عن ليلَى سلوتُ فإنما

تسليتُ عن يأس ولم أسلُ عن صبر

ورأيت خطابات لا تستحق الحفظ، لأن أصحابها ضيعوا العهد، وأخلفوا الميعاد

وقد مزَّقتُ تلك الخطابات شر ممزَّق، ثم رجعت فجمعت أوصالها بترفق وتلطف، لأني تخيلتها جُثثاً هوامد لأرواح قتلها الغدر والجحود، ولا يباح التمثيل بجثث الأموات

ورأيت رسائل من هند، فعرفت أن بلائي بها قديم العهد، وكنت أحسب هواها أين أَمس!

ورأيت ما دلني على أن فلاناً كان ينزعج حين تخلو حياته من وجهي يوماً أو بعض يوم، وقد صار إلى ما صار إليه، فلا ألقاه إلا بعد استئذان

فيا فلان، كيف حالك، فلست أنت الذي أراه حين أستأذن في الدخول عليك، وإنما هو خيالك، خيال الصديق العزيز الذي كنت أعهد، وما هو خيالك؟ إنما هو الهيكل الذي أحتل روحك اللطيف بغير حق، فأين أنت يا صديقي لأقدم إليك تحية الوجد والشوق؟ أين أنت، فما تخيلتُ فجيعتي فيك إلا طار صوابي؟!

ورأيت عناوين محفوظة لأحباب أوفياء، فأين أولئك الأحباب لأكتب لأحدهم خطاباً أقول

ص: 7

فيه: (أحمد الله إليك)؟

ومن يضمن بقاء تلك العناوين، وخرائطُ البلاد تُغَيَّر من يوم إلى يوم؟ وهل تسمح الدنيا مرة ثانية بأن تأخذ المواعيد في القطارات لعام أو عامين ثم تفي بتلك المواعيد كما كنا نصنع؟

هي دنيا قد تولتْ

فعلى الدنيا السلامْ

إليّ يا أوراقي، إليّ، فقد بقيت مآرب يعزْ عليَّ أن تضيع

وما هذه الأشياء؟ ما هذه الأشياء؟ وبأي حق حفظتها في أصْوِنة الأوراق؟

هذهِ كسرات من آنية مصدوعة، فما تاريخ تلك الآنية؟

أسندتُ رأسي بيديّ وفكرت عساني أذكر ذلك التاريخ

ثم تذكرت بعد لأي أني كنت ذهبت إلى الهافر لأشهد الاحتفال بعيد (العنصرة) هنالك في سنة 1927 ونفدت نقودي فرجعت إلى باريس بدون أن أشتري شيئاً من طرائف ذلك الثغر الجميل

وسألتني ربة البيت الذي كنت أقيم فيه عن رحلتي إلى الهاقر فذكرتُ أني متوجع لأن النقود خانتني فلم أشتر شيئاً من طرائف تلك المدينة، فنظرت إليَّ ابنتها بطرف غضيض وهي تقول: سأعوِّض عليك ما ضاع منك، ثم أتحفتني بزهرية جميلة كانت اشترتها من هناك

وانصدعت الزهرية بعد أحايين فجمعت كِسراتها وضممتها إلى ما أحفظ من رسائل ذلك العهد، فهي اليوم روح من أرواح تلك الذكريات

فما أخبار صاحبة الزهرية؟ وكيف حال طرفها الغضيض؟

أفي الحق أن باريس عانت مخاوف الحرب وإطفاء الأنوار بالليل، ثم انتهتْ بها الخطوب إلى الاشتمال بأثواب الحِدَاد؟

متى نلتقي وفي جيبي كسرات تلك الزهرية التي عاشت بين أوراقي وهي مصونة في مدة زادت على أربعة عشر عاماً؟

متى نلتقي لتحدثني وأحدثها عما صنع الزمان بأحلامها وأحلامي؟ وهل أعرفها حين أراها أو تعرفني حين تراني بلا بشير بالتلاقي؟

عندي صورتها وعندها صورتي، ولكن أين نحن مما كنا عليه سنة 1927 وقد تبدلنا

ص: 8

أحوالاً بأحوال؟ ومن ذا الذي لا يتغير، يا ربة الطف الغضيض؟!

أنا بخير وعافية، وإن صنع الدهر ما صنع، فكيف أنتِ؟ ومتى تعود ليالينا بمطالع الأقمار في باريس؟ ومتى نعود سيرتنا الأولى، سيرة الأطفال الذي يرضَون ويَغضبون في اللحظة الواحد عشر مرات؟

حدثيني منى أردّ إليك أصداع الزهرية ومعها أصداع قلبي، القلب الذي أخذ عنك درس الثقة بالقلوب، فلم يعرف بعدك غير الأسف على حُسن الثقة بالقلوب؟!

كنت نسيت أني أخذت الدرس عن طفلة، وكذلك يندم من يأخذ الدروس عن الأطفال!

ولكن أين خطاب الدكتور طه حسين؟ وأين عبارة (أحمد الله إليك)؟

إن أسفاري في البحث عن هذا الخطاب ستطول، وقد لا أصل إليه أبداً، وما قيمة التعلق بتاريخ قديم تنكَّر له عارفوه؟ وما الفائدة في رَجْع هذا الدكتور إلى حسابٍ تمتْ تصفيته منذ أعوام طوال؟ وهل أقدر على بعث الأموات من الذكريات؟ تلك معجزة صحّت لبعض الأنبياء ولن تعود، فليقل الدكتور طه إني افتريت عليه وليُسرف في اتهامي كيف شاء، فحسبي من الطمأنينة أن أعرف أني كنت من الصادقين

ولكن ما هذه الخريطة؟ ولأي سبب حفظتها في أوراقي؟

هي خريطة لمقبرة بير لاشيز في باريس

فكيف عرفتُ تلك المقبرة وكيف احتفظتُ بالخريطة فنقلتها من باريس إلى مصر الجديدة بلطف ورفق لأرجع إلى درس معالمها حين أريد؟

كنت في درس المسيو (تونلا) أستاذ الأدب الألماني بالسوربون، وكانت دروس هذا الرجل تستهويني كل الاستهواء، فقد كانت تنقلني إلى آفاق من الفكر لا أصل إلى مثلها في صحبة رجل سواه، وفي دروس هذا الرجل عرفت سيدة ألمانية لم تكن مع زوجها على وفاق، وكانت فيما حدثتني من شواعر برلين، وكانت ملامحها وشمائلها تشهد بأنها على صلة وثيقة بشياطين الشعر الجميل. ويظهر أن الزوجية قيدٌ لا يستريح إليه بعض هذا النوع من الجنس اللطيف.

ولم يكن للشاعرة بُدٌّ من رجل تشكو إليه جهالة زوجها الغبيّ البليد، فهدتها الفِراسة إلي أن أذنيّ أصلح الآذان للترحيب باغتياب الأغبياء والبُلَداء، وكذلك أخذتْ تصبّ في أذني

ص: 9

شكايات هي أعذب وأخطر من صهباء الرُّضاب

كنت أعرف أن الغِيبة من الكبائر، وأن السامع شريك القائل في الإثم، ولكني نسيت الأدب مع الشرع، لأن تلك الكبيرة كانت تساق إلى أذني في لغة فرنسية ملحونة، وأنا أعبد اللحن في اللغة الفرنسية إذا صدر عن الألمانيات الملاح، وهل في الدنيا لغة أحلى وأعذب من لغة باريس حين تمضغها ظبية من برلين؟

واتفق في تلك الأيام أني كنت مشغول الفكر والقلب بدرس طوائف من الشعراء العشَّاق منهم ألفريد دي ميسَّيه، وقد كُتِب في تاريخ هواه عشراتٌ من المؤلفات الجياد، فحدثتني النفس بأن أحجّ إلى قبر ميسَّيه مع تلك الألمانية الحسناء، لأذوق حلاوة النجوى في رحاب ذلك (الشهيد)

وكذلك مضينا إلى مقبرة بير لاشيز في صباح يومٍ مَطير لا يَدفع غيومه الثقال غير ما في قلوبنا من صفاء

وأسرع البواب فقدَّم إلينا خريطة المقبرة بثلاثة فرنكات، ولم يكن بدٌّ من الاهتداء بالخريطة، لأن تلك المقبرة فيها ألوف من المقابر، ولن نصل إلى قبر ميسيه بغير دليل

وماذا تقول الخريطة؟

إنها لا تعيِّن غير أسماء العلماء والشعراء والكتاب والمجاهدين، وهي أسماء معدودات، فأين أسماء المجهولين والمنسيين بتلك المقبرة الفيحاء؟

أولئك أقوامٌ دفنوا همومهم في صدورهم فلم يتحدث عنهم شاعرٌ ولا كاتبٌ ولا خطيب

أولئك أقوام كانوا أحجاراً في بناء الوطنية الفرنسية، ولو كانوا من أصغر الطبقات، فكيف نسيهم الناس فلم يُحفظ لهم في الخريطة مكان؟

تلك حظوظ من يعملون وهم صامتون، وقد يكون فيهم من أدى لوطنه خدمة منسية، وقد يكون فيهم من حفظ العهد لإخوانه الناسين، وقد يكون فيهم من شرب من رحيق الوجود أكثر مما شرب كبار الشعراء

وما هي إلا لحظات حتى التفتتْ رفيقتي فرأت عينيّ مغرورقتين بالدمع، ورأتني لا أطيق الجواب من فرط الحزن والذهول

وصَوّبت الرفيقة بصرها إلى ما صوّبتُ إليه بصري فرأتني أحدِّق في لوحة رُقِمت هذه

ص: 10

العبارة الصارخة:

فرنسا! تذكري!! -

وهي عبارة مسطورة فوق قبر رجل استشهد في الدفاع عن الألزاس أيام حرب السبعين

فقالت: وماذا يهمك من هذه العبارة؟

فأجبت: أشتهي أن أوجِّه مثل هذه العبارة إلى وطني

وكنت في صبيحة ذلك اليوم تلقيتُ من مصر خطاباً يشهد بأن وطني لا يحفظ الجميل؟ فما هو ذلك الخطاب؟

هو خطابٌ له تاريخ يضيق عنه هذا الحديث

وفي طريقنا إلى قبر ميسيه مررنا بقبر حوله أحواض من الأزهار، فأخذتْ رفيقتي تجمع الزهر الذي تساقط على الأرض. ونظرتُ فرأيتُ أحد الحراس يراقبها من بعد، ثم انقض كالصاعقة يسألها عما جَنَتْ يداها، فأجابت: هذه أزهار ذوابل أسقطتها العواصف. فانصرف الحارس وهو مُجلّل بالخجل والكسوف!

ثم وصلنا بعد لأْي إلى قبر ميسيه وبجانبه تمثال الشاعر وهو كهلٌ لا تنطق معارف وجهه بأنه كان حُلم الغانيات في باريس

أما شجرة الصفصاف التي أوصى الشاعر بأن تُغرس بجانب قبره فقد رأيتها في صُفرة الموت

ثم قضينا بقية اليوم في تدوين ما كُتِبَ فوق القبور لأقارنه وحين تسنح الفرص بما يُكتب فوق المقابر المصرية، وهو مقال لم أكتبه بعد، وقد كان في بالي حين زرت مقابر الكرخ ومقابر بغداد

والكاتب قد يُجيل فكره في الموضوع الواحد عدداً من السنين

أين خطاب الدكتور طه؟ أين؟ أين؟

ولكن ما الموجب للحرص على خطاب صديق لم تصحّ لي صداقته غير عشرة أعوام كانت أقصر من عشرة دقائق؟

وماذا يهمني من أن يعرف أني لم أتحدث عنه بغير الصدق ولم تبق لذكراه في قلبي غير أطلال؟

ص: 11

هذا الصديق يهمني جداً، لأنه لم يعرف بعد فراقي كيف يكون صدق الإخاء

هذا الصديق يهمني جداً، لأنني خلقت منه عدواً عظيماً، وأنا أتخيَّر أعدائي كما أتخيَّر أصدقائي. ولكن أين الخطاب؟

هذه أوراق وأوراق وأوراق. هذه مئات من الرسائل التي تشهد بأني كنت على صلات مع أرواح جاذبتُها زمناً أطراف المحبة والعتاب

رباه! متى تعود أيامي؟ متى تعود؟!

ثم تشاء الأقدار أن أجد الخطاب المنشود، وبخط (توفيق) الذي صار من أيام دكتوراً في الحقوق من الجامعة المصرية

تشاء الأقدار أن أجد الخطاب الذي يقول:

(أحمد الله إليك على ما أنت فيه من رضاً بالإقامة في باريس، وأتمنَّى لك المزيد من هذا الرضا، كما أتمنى أن تنتفع بأيامك فر فرنسا إلى أبعد حدّ ممكن، وتقبَّل من السيدة ومني تحية خالصاً وشكراً جميلاً)

وتاريخ الخطاب 26 يولية سنة 1928

وقد ابتسمتُ حين وجدت (تحية خالصاً) فهي غلطٌ من (توفيق) لا من الدكتور، إلا أن يكون لها وجه ضعيف!

ثم ماذا؟

ثم تشاء الأقدار أن أجد خطاباً للدكتور طه كتبه إليّ من الإسكندرية، وفيه يقول:

(صديقي العزيز الدكتور زكي مبارك

أنا مَدين لكٌ بشُكر كثير: فقد قرأت كتابيك وتسلمتُ السَّفرين اللذين تفضَّلت بإرسالهما إليّ. ولست أدري كيف أشكر لك عنايتك بفلسفة ابن خلدون، وأنا مقتنعٌ فيما بيني وبين نفسي بأنها لا تستحق هذه الغاية. ومع ذلك فسأشتري (المقطم) منذ اليوم لأقرأ ما تكتُب لأنك أنت الذي سيكتبه لا لأني أنا موضوعه. وكل ما أرجوه لك أن تصدر فيما تكتبه عن الحرية الصادقة القاسية، لا عن الإخاء والمودة اللذين يدفعان في كثير من الأحيان إلى شيء من الرفق لا يخلو من إثم. وأنا أعيذ أصدقائي من أن يتورطوا من أجلي في إثم الإسراف في البِرِّ، كما أكره أن يتورطوا في إثم العقوق. وقد كنت أحب أن يقف كتابي عند هذا الحد،

ص: 12

ولكن الله يأبى إلا أن يضاعف دَيْني لك حتى يتجاوز قدرتي على الأداء، فأنا أريد أن تتكلف السعي إلى إدارة السياسة حيث تلقي صديقنا المرصفي وتطلب منه أصول الجزء الثاني من حديث الأربعاء فقد كلفته أن يجمعها لك، وأشكرك إن دفعتها إلى مصطفى أفندي محمد ليبدأ في طبعها. وأنا أرجو أن تكون بخير مطمئن النفس، وأن تكتب إلى في شيء من الإطالة والحرية، فإن كتبك وأحاديثك تقع في نفسي دائماً موقعاً حسناً. وليس لدي الآن ما يشغلني عن قراءة كتبك. فأنا أقضي من بقي من أيام الراحة في قراءة متفرقة لا نظام لها ولا نفع فيها، وأرجو أن أراك بخير حين أعود إلى القاهرة في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، إن شاء الله، وتقبل تحيتي الخالصة)

طه حسين

وتاريخ هذا الخطاب (2 أغسطس سنة 1925)

وفيه غلطة نحوية وقعت من (توفيق) لأنه أساء النقل عن الدكتور، كما كان يتفق له في بعض الأحيان

فإن قيل: وكيف أمكن بعد ذلك الوداد الوثيق أن تَفسُد العلائق بيني وبين الدكتور طه حسين، فإني أجيب بأن لله حكمه فيما وقع بيني وبين هذا الصديق

لم يكن لي بدٌّ من خصومة أتخذ منها فرصة لتوجيه الجمهور إلى الحقائق الأدبية، وكذلك خاصمتُ عدداً من رجال الأدب، كان أظهرهم الدكتور طه حسين

وأنا اليوم في حياد، أو غير محارب، وهما حالتان متقاربتان، فمتى أخلق خصومات جديدة أذكى بها نار الأدب من جديد؟

أنا حاضرٌ للخصومة، على شرط أن أجد خصماً في مثل مواهب الدكتور طه حسين، فما أرضى بمنازلة الشادين في الأدب من الذين لم يأخذوا زادهم الأدبي إلا من قراءة الهوامش بالجرائد والمجلات

يا دكتور طه

إن كنت أنكرت أن تحمد الله إليّ فخطابك تحت يدي أقدمه إليك حين تشاء، فإن لم تحمد الله إليَّ فأنا أحمد إليك!

وإن أذن الله بانقشاع ظلمات الحرب فستراني حيث تحب أو حيث تكره بأبحاث طوال

ص: 13

عراض تعود على الأدب بأجزل النفع، وتملأ مسامع الزمان

والله يحفظك للخصم الذي يتمنى لك دوام العافية والتوفيق

زكي مبارك

ص: 14

‌البلهبذ

للأستاذ حسن السندوبي

للأمير شكيب أرسلان كتاب قيم وضعه حديثاً عن (شوقي) وجعله تذكاراً لصداقة أربعين سنة. وقد حفل بالطريف من المعلومات، والجليل من الموضوعات، كما رد فيه كثيراً من الحقائق التاريخية التي غمرتها الحوادث، وأبعدتها عن أصولها الكوارث، في العصر الحديث. فكان كتاباً فريداً في بابه ككل ما يعرض له الأمير من أبحاث وشؤون، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بالعالم الإسلامي والعربي في بقاع الأرض

وقعت لي نسخة من هذا الكتاب القيم فعنيت بقراءته عنايتي بكل ما تجود به قريحة الأمير ويسيل به قلمه الكريم. ولي منذ الصبا ولع شديد بتتبع آثاره، واستيعاب أفكاره، واقتطاف أزهاره، فله عندي منزلة من الحب قوامها الاحترام

وبينما أردد نظري في صحائف هذا الكتاب استوقفني قوله وهو يقارن بين سينية البحتري التي يصف بها إيوان كسرى، وبين سينية شوقي التي يعارضه بها، عند قول البحتري:

قد سقاني ولم يصرد أبو الغو

ث على العسكرين شربة خلس

من مدام تقولها هي نجم

أضوأ الليل أو مجاجة شمس

وتراها إذا أجدت سروراً

وارتياحاً للشارب المتحسى

أفرغت في الزجاج من كل قلب

فهي محبوبة إلى كل نفس

وتوهمت أن كسرى أبرو

يز معاطي والبُلُهْبُذَ أنسى

قال الأمير: ما اهتديت إلى الآن إلى معنى (البلهبذ) الذي هو لفظ فارسي فيما يظهر

فلما رأيت ذلك دهشت وأكبرت ذكاء الأمير وفطنته عن أن يفوتهما المعنى من هذا اللفظ. ولا سيما بعد أن وضعه البحتري في مكان لا يحتمل لبساً ولا إبهاماً. فالبحتري يذهب به خياله إلى أن كسرى يعاطيه الخمر والبلهبذ يؤانسه بصوته الرخيم. إذن فالبلهبذ كان من ندماء كسرى ذوي التطريب والتغريد، ومن الذين يحبون مجالس الشراب، وينعشون محافل المنادمة بأصواتهم الحسنة، وأنغامهم العذبة، فالبلهبذ على هذا كان المغني الخاص لكسرى، والمطرب المغرد في مجلس شرابه

ولقد أذكر بهذا أن الشيخ الشنقيطي اللغوي الكبير قال قصيدة في رحلته إلى الأندلس،

ص: 15

وصف فيها الباخرة وصفاً سلبياً إلى أن قال فيها:

لا تحسبن عراب الخيل تشبهها

ولا المهملج شبديزاً ولا عدسا

ثم علق على هذا البيت بقوله: إن شبديز فرس كسرى المشهور. كان من خصائص كسرى أبرويز أن الناس لم يروا أحداً في زمانه قط أمد منه قامة ولا أتم ألواحاً ولا أوفر جسامة ولا أبرع جمالاً منه، فكان لا يحمله إلا فرسه شبديز، وكان في الأفراس ككسرى في الناس، يضرب به المثل في عظم الخَلق وكرم الخُلق وجمع شرائط العتق. ولما مات شبديز لم يجسر أحد على نعيه إلى كسرى، فضمن صاحب الدواب (للفلهيد) المغني مالاً وسأله أن يعرض لأبرويز بموت شبديز!

فقال - وهو يغنيه بمجلسه -: (شبديز لا يسعى ولا يرعى ولا ينام)

فقال أبرويز: (قد مات إذن)!

فقال الفلهيد: (من الملك سمعت)

وليس من شك في أن (البلهبذ) في بيت البحتري هو نفسه (الفلهيد) في رواية الشنقيطي، وعليه يجب تصحيح رواية الشنقيطي بقول البحتري. والظاهر أن الشنقيطي نقل روايته عن كتاب أعمل فيه الناسخ يد المسخ والتحريف والتصحيف، ولم يفطن لها الشيخ ولم يتكلف تحقيق صحتها إذ لم تكن الفارسية من شأنه، ولا خفاء أن النقلة عن اللغات الفارسية والسريانية والعبرية وغيرها من اللغات القديمة طالما وضعوا (الفاء) في مكان (الباء)، كما عكسوا ذلك. وكثيراً ما أعجموا الدال وأهملوا الذال، وهكذا في المتشابه من الحروف. وهذا كثير غامر فيما وصل إلينا من آثار السلف

على أنني لم أرد بذلك نقد الأمير أو الغض من عالي منزلته وراسخ علمه، فهذا ما لم يخطر لي ببال، وإنما أردت الإيماء إلى شيء لا أشك في أنه مر كثيراً بالأمير أثناء مطالعاته ولكنه سها عنه عند إيراده بيت البحتري. والكمال لله وحده

حسن السندوبي

ص: 16

‌الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

عرضنا في المقال السابق نظرية تقسيم الأسرة البشرية إلى أجناس رئيسية، والمميزات الجسمية العامة لكل منها. وقلنا: إن وجود هذه الفروق الجسمية بين الأجناس لا يستلزم بالضرورة وجود فروق عقلية بينها، فقد يتساوى اثنان في نسبة الذكاء، ويختلفان في الصفات الجسمية الجنسية بأن يكون أحدهما زنجياً والآخر أوربياً (قوقازياً)

والتاريخ والواقع يثبتان أن النقاوة الجنسية لا توجد إلا بين جماعات منعزلة بحكم الطبيعة أو الاجتماع. فأمريكا خليط من كل الأجناس، وآسيا الصغرى تواردت عليها أجناس مختلفة. ومصر غزاها الهكسوس والفرس والإغريق والرومان والعرب والترك والفرنسيون، وامتزجت هذه الدماء قليلاً أو كثيراً بدم السكان الأصليين. وإذاً، فقد انمحت إلى حد ما خواص الأجناس البشرية الرئيسية، ولم يعد لعلماء النفس مجال للبحث العلمي التجريبي على أساس الجنسية، اللهم إلا بين بعض الجماعات التي لا تزال تحتفظ بنقاوتها نسبياً كزنوج أمريكا والهنود الحمر

تعرض الأستاذ وَدْوِرْث بإيجاز لموضوع الفروق الذكائية بين الأجناس في كتابه: (دراسة الحياة العقلية). وكان في كل ما كتبه عن هذا الموضوع حريصاً حرص العلماء المدققين. وهو يحدثنا أن تجارب (أجريت) في ولاية (أُكلاهوما) بأمريكا الشمالية على تلاميذ المدارس الأولية الريفية ببعض المدن الصغيرة. وكان هؤلاء التلاميذ يمثلون ثلاثة أنواع جنسية وهي: هنود حمر خلَّص، وأمريكيون خلص، وخليط من الدمين الهندي الأحمر والأمريكي. وقد اختبُرَ ذكاء ثلاثمائة تلميذ من النوع الأول، وأربعمائة من النوع الثاني، وثلاثمائة من النوع الثالث. واستعملت في هذه التجارب (المقاييس الجمعية) النتيجة ما يأتي:

الهنود الحمر الخلَّص: متوسط نسبة الذكاء 73

الأمريكان الخلص: متوسط نسبة الذكاء 100

الخليط منهما: متوسط نسبة الذكاء 91

والمتأمل في هذه النتيجة يرى أن نسبة ذكاء الهنود الحمر الخلص أقل بكثير من نسبة

ص: 17

الأمريكان الخلص، الذين يمثلون مزيجاً من الأجناس الأوربية أو الجنس القوقازي. كما يرى أيضاً أن نسبة ذكاء الخليط من الجنسين هي نسبة وسط بين النسبتين السابقتين. فإذا علمنا أن البيئة المدرسية لهؤلاء التلاميذ واحدة جاز أن نستنبط أن هذا الفرق في نسبتي الذكاء بين الهنود الحمر وبين الأمريكان الخلَّص إنما يعزى للفرق الجنسي، والأستاذ يقول في حيطة:(على أنه يجب أن نذكر في نفس الوقت أن هذه المقاييس إنما تناسب ثقافة التلاميذ الأمريكان الخلص، ولذلك فالهنود الحمر يجدونها غريبة عليهم. هذا والتلاميذ الخليط أكثر تأثراً بالثقافة الأمريكية من الهنود الحمر) وليس معنى هذه النتيجة أن كل فرد من أفراد الهنود الحمر أقل ذكاء من كل أمريكي، فالنتيجة تشير إلى متوسط فقط، وعلى هذا قد يوجد من بين الهنود الحمر الخلص من هو أكثر ذكاء من الأمريكان الخلص

وثمة تجارب أجريت على بعض الأطفال الزنوج في جنوب الولايات المتحدة وأسفرت عن أن متوسط نسبة ذكائهم هو 75. وفي مدنية ناشفيل في شمال الولايات المتحدة أجريت تجارب أخرى على بعض الأطفال الزنوج، وكان متوسط نسبة ذكائهم يعادل 85 ولهذا الفرق بين نسبة ذكاء الزنوج في الجنوب والزنوج في الشمال مغزاه. فإن زنوج الشمال أصلهم من الزنوج سكان جنوب الولايات المتحدة وإنما هاجروا إلى الشمال لأنهم أكثر طموحاً وأقوى استعداداً على التكيف باختلاف البيئات من الزنوج الذين آثروا الإقامة في الجنوب. وهذا يدل على أنهم أذكى من الزنوج المقيمين، ويفسر ما أظهرته التجارب من زيادة نسبة ذكائهم. ونعود فنسمع الأستاذ ودورث يعلق على نتيجة هذه التجارب بقوله:(إن ذلك الضعف الواضح في نسبة ذكاء الأطفال الزنوج يمكن أن يعزى إلى الجنس، أو إلى بيئتهم الثقافية الأولى غير المنشطة، أو إلى خطأ في الاختبارات نفسها. ولم نصل حتى الآن إلى رأي جازم يعزو ضعف الذكاء إلى واحد بعينه من هذه العوامل الثلاثة)

تطورت كلمة (الجنسية) حتى أصبحت تستعمل في الوقت الحاضر - كما في جواز السفر مثلاً - بمعنى النسبة إلى الوطن السياسي الذي ينتمي إليه الفرد، أو ما يقابل الكلمة الفرنسية وهذه الكلمة مأخوذة من كلمة بمعنى أمة أو جماعة سياسية خاضعة لنظام حكم واحد مقرر، على حين أن كلمة (الجنسية) العربية مأخوذة من (الجنس) التي يقابلها في الفرنسية ومن هذه المقارنة يظهر التساهل في استعمال كلمة (الجنسية) بالمعنى السياسي

ص: 18

في اللغة العربية، ودقة استعمال كلمة أو ما يشبهها في اللغات الأوربية. ولعل سبب هذا التساهل في استعمل كلمة (الجنسية) هو أن الأصل أن الأمة أو الوحدة السياسية إنما كانت تتكون من أفراد ينتمون إلى جنس واحد، فأطلق العام وهو الجنس على الخاص وهو الأمة مجازاً. وإلا فقد تتكون الأمة من عدة أجناس مختلفة كما ذكرنا

ذهب علماء النفس خطوة أبعد من بحث الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية الرئيسية، فقد رأوا أن الأمة الواحدة - ولو أنها تتكون من أجناس مختلفة - قد تحمل طابعاً خاصاً يميزها عن غيرها جسمياً وعقلياً وخلقياً. ذلك لأن وحدة الأمة السياسية إذا طالت عليها المدة. واستقر السكان، وقل الطارئون عليهم من الأمم الأخرى، وربطتهم لغة واحدة، وثقافة واحدة، وخضعوا لظروف مشتركة، فإن هؤلاء السكان مختلفي الأجناس - كما في مصر وأسبانيا مثلاً - يمتزج بعضهم ببعض بالتزاوج فتختلط الدماء، ويتكون من أمشاجها المتباينة نوع جديد ودم جديد، نتيجة لهذا الاختلاط المستمر الكثير الذي قد يتغلب فيه جنس خاص ويسود. وبهذا تمتاز الأمة - بمرور الزمن وتعاقب أجيالها - بخواص جسمية وعقلية وخلقية قد تختلف عن خواص غيرها من الأمم وتختلف أيضاً عن خواصها هي قبل هذا الامتزاج والانسجام الجنسي (وقد حدث هذا الاختلاط الجنسي والامتزاج بالضبط في كل الوحدات السياسية والأمم التي على ظهر البسيطة الآن. فكلها من غير استثناء نتيجة امتزاج عناصر جنسية مختلفة. وكل واحدة منها تكاد تصل إلى المرحلة التي تتميز فيها بخصائص أُمِّيَّة (نسبة إلى الأمة) تجعل منها طرازاً جنسياً جديداً، كأسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وأمريكا. وترتيب الأمم هكذا إنما هو وفق لتطورها التاريخي وتكوينها الجنسي. ولو أن هذه الأمم استمرت على ما هي عليه الآن بضعة آلاف من السنين من غير امتزاج بأي عنصر آخر من الخارج لتَكوَّن من كل منها جنس جديد)

ولا نريد أن نتعرض هنا للفروق الجسمية بين الأمم لأنها موضوع يطول شرحه من غير جدوى، ولأنها تستدعي دراسة كل أمة أو وحدة سياسية على انفراد، ومعرفة الخواص الجسمية والعضوية التي تمتاز بها. وإنما يهمنا أن نذكر بعش التجارب التي أجريت لمعرفة الفروق الذكائية بين بعض الأمم. وهنا يجدر بي أن أشير مؤكداً أن نتائج هذه التجارب ليست نهاية أو قاطعة لأنها ما زالت في مرحلة النظريات، فهناك صعوبات كثيرة تحول

ص: 19

دون الوصول إلى النتائج النهائية، منها تعذر وجود (عينات) ممثلة تمثيلاً صحيحاً لأفراد الأمم التي ندرس ذكاءها، ومنها صعوبة وجود الاختبارات التي تلائم في لغتها ووضعها عقليات الأمم المختلفة. وفيما يلي نتائج لتجارب أجريت في أمريكا في مقاطعة ماساشوستز على أطفال ولدوا بها، وآباؤهم من أمم أوربية مختلفة، وقد هاجروا إلى أمريكا طلباً للرزق. وهي تدل على متوسط نسبة الذكاء لأطفال كل أمة

أطفال آباؤهم من السويد

متوسط نسبة الذكاء 102

أطفال آباؤهم إنجلترا

متوسط نسبة الذكاء 101

أطفال آباؤهم يهود

متوسط نسبة الذكاء 100

أطفال آباؤهم ألمان

متوسط نسبة الذكاء 99

أطفال آباؤهم أمريكان

متوسط نسبة الذكاء 98

أطفال آباؤهم لتوانيون

متوسط نسبة الذكاء 97

أطفال آباؤهم أيرلنديون

متوسط نسبة الذكاء 96

أطفال آباؤهم سلاف

متوسط نسبة الذكاء 90

أطفال آباؤهم إغريق

متوسط نسبة الذكاء 88

أطفال آباؤهم إيطاليون

متوسط نسبة الذكاء 86

ص: 20

أطفال آباؤهم من كندا الفرنسية

متوسط نسبة الذكاء 85

أطفال آباؤهم برتغاليون

متوسط نسبة الذكاء 83

ويقول الأستاذ ودورث الذي اقتبسنا من كتابه هذه الأرقام (وهذه النتائج يجب ألا تؤخذ على أنها تدل قطعاً على الفروق الموجودة بين ذكاء الأمم التي يمثلها المختبرون. لأن أسباب الهجرة لها اثر في اختيار نوع من الناس دون الآخر. فالإنجليز والسويديون جاءوا في الغالب من طبقة مثقفة يبحثون عن أعمال تحتاج لثقافة أعلى من ثقافة تلك الأعمال التي ينشدها الإيطاليون أو البرتغال)

وقد حاول علماء النفس التغلب على صعوبة اللغة في اختبارات الذكاء فاستخدموا (اختبار الرسم المقنن) لمعرفة نسبة الذكاء عند أفراد يمثلون أمماً مختلفة. وهذه هي النتيجة:

أطفال آباؤهم يهود

متوسط نسبة الذكاء 106

أطفال آباؤهم من اسكندنافيا

متوسط نسبة الذكاء 105

أطفال آباؤهم صينيون

متوسط نسبة الذكاء 103

أطفال آباؤهم أمريكان

متوسط نسبة الذكاء 100

أطفال آباؤهم يابانيون

متوسط نسبة الذكاء 100

أطفال آباؤهم ألمان

متوسط نسبة الذكاء 99

أطفال آباؤهم أرمن

متوسط نسبة الذكاء 92

ص: 21

أطفال آباؤهم إيطاليون

متوسط نسبة الذكاء 88

أطفال آباؤهم مكسيكيون

متوسط نسبة الذكاء 87

أطفال آباؤهم هنود حمر

متوسط نسبة الذكاء 86

أطفال آباؤهم زنوج

متوسط نسبة الذكاء 83

هذه نبذ عامة عن الفروق الذكائية بين بعض الأمم، وهي نتيجة تجارب ما زالت موضع بحث ونظر، وسنعود لتحقيقها في مقالات قادمة إن شاء الله.

(بخت الرضا - السودان)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 22

‌أخوك أم الذئب.

. .؟

للأستاذ محمود محمد شاكر

أجل!! هذا هو العالم المغرور الذي ظن خير الظن بمدنيته، وأثنى عليها ثناء الأم على عذرائها، ونفض عليها من تحاسين الخيال فنوناً كذُنابَي الطاووس، وأدار عليها مجامر الندِّ والمندل والعود من عطر الشهوات واللذات، وأحاطها بالعبقرية العلمية التي توجد في كل شيء شيئاً جديداً يدخل على العقل إبليساً صغيراً ليُضل عن سبيل الحق، ويضع في الثمرة حلاوة تلذ ونشوة تسكر، ثم زاد فأعطى المادة المتبدلة الفانية تدليساً يجعلها في فتنة الرأي ثابتة خالدة ثم غلا فجعل النفس تطلق أهواءها جميعاً لتحرز من لذات الحياة كفايتها، إن كان لأهواء النفس كفاية

هذا العالم المغرور يقف اليوم في فئتين التقتا للقتال في سبيل الأهواء الغالبة والشهوات المستحكمة. وفي هذا القتال تنكشف لمن أبصر حقيقة هذه المدنية، وحقيقة أغراضها التي عملت لها وعمدت إليها، وحقيقة الروح التي يتعامل بها الاجتماع الإنساني الذي تعيش به هذه المدنية الأوربية التي تنكر من الحياة وتعرف وتدعي لنفسها إسقاط ما أنكرت وإقرار ما عرفت

وفي كل يوم تتجدد أحداث الحرب، فتتجدد معها أساليب الغرائز الوحشية المصبوغة رحمتها بأصباغ الافتراس، وفي كل يوم يخلع الوحش عن مخالبه ذلك المخمل الناعم الذي دسها فيه، ويهجم بطبائعه على فريسته ليعين بذلك أنه هو الوحش: قانونه المنفعة، وشرفه المنفعة، وصداقته المنفعة، وأدبه المنفعة، ودينه المنفعة. فهو لا ينفك من منفعته في مثل السعار إذا أخذ الوحش فاستكلب فهاج فطغى، لا يهدأ حتى يطفئ هذا السعارَ ما يشفيه أو يرده أو يقدعه، وهو لا يرعى في ذلك حرمة، ولا يكفه شرف:

وكان كذئب السوء لما رأى دماً

بصاحبه يوماً أحال على الدم

وقبيح بنا - نحن الشرقيين - أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضاً لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في

ص: 23

حضارة غريبة عنه، لا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتاً وإرهاقاً وغروراً

إن رؤوساً من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة. طلبوا المنافع لأنفسهم، فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوّاً في الأرض واستكباراً، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟

إن الشرق لا يؤتي ولا يغلب إلا من قبل أهله. هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولاً قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقاً آخر، وقلوباً انبتت من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقاً محفوفاً بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضي به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي وأباطيل الحاضر، فيمتلك من سلطان روحه ما يستطيع به أن يهدم الأسداد التي ضربت عليه، ويجتاز الخنادق التي خسفت حوله

لقد لقينا بهؤلاء العنت حين استحكم لهم أمر الناس فتسلطوا عليهم بالرأي وأسبابه، فخلعوا بسوء آرائهم على الشرق ليلاً من الاختلاف لا يبصر فيه ذو عينين إلا سواداً يختفي إذ يستبين. وكانوا له قادة فاعتسفوا به كل مضلة مهلكة تسل من قلب المؤمن إيمانه، وتزيد ذا الريبة موجاً على موجه. فما كتب الله أن يدفع مكر هؤلاء بقوم جِردوا أنفسهم للحق، رأوا أن يلبسوا للناس لباساً من النفاق يترقون به إلى التلبيس عليهم بما حذقوا من المداورة، وما دربوا عليه من فتن الرأي، وما أحسنوا من حيلة المحتال بالقول الذي يفضي من لينه إلى قرارة القلوب، حتى إذا استوى فيها لفها لف الإعصار، واحتوشها من أرجائها، ثم انتفض فيها انتفاض الضرمة على هبة الريح في هشيم يابس.

وقد أقبلت اليوم على الشرق أيام تتظاهر فيها الأقدار على أن تسلم إليه قيادة مدنيته الجديدة بعد طول الابتلاء وجفاء الحرمان، وجاءت مع هذه الأيام فتنٌ يُخشى أن تضرب أولّه بآخره حتى لا يقومُ شيءٌ هو قائمٌ، ولا يبقى من أعلام الماضي إلا آثار التاريخ التي تقف

ص: 24

شواهد على ما مضى وآيات لما يستقبل. فإذا كان ذلك، فإن الحكمة والحزم والجِد أن نميز الخبيث من الطيب، وأن نختار لأنفسنا قبل البدء، وأن يلي منا أمر القيادة من هو حق صاحبها والقائم عليها والمحسن لتصريفها وتدبيرها وسياستها، وإلا انفلتت من أيدينا حبال الجمهور المتحفز، فانتشر على وجوهه وتفرق، وكأن ما كان لم يكن، وكأن الفرصة قد عرضت لنا لتدع في قلوبنا بعد ذلك حسرة لا تزال تلذع بالذكرى.

إن أكثر هؤلاء الذين وصفنا قد وجدناهم يمدون أعناقهم يتطاولون مرة أخرى للوقوف في مقدمة الطلائع الشرقية، ورأوا - من أجل ذلك - أن يماسحوا الرأي العام على بعض أهوائه وعلى طائفة من أغراضه، ليستمر لهم ذلك المكان الذي حازوه من قبل، وليكونوا في الشرق الجديد ما كانوا في أيامه السالفة. فهم يبدون له ما لا يعتقدون عليه نياتهم، ويحدثونه حديث من طب لمن حب، وهم كانوا قبلُ أعانوا عليه، إذ أفسدوا صالح أعماله بالآثم من أعمالهم وآرائهم، وهم كانوا عليه حرباً، إذ نزعوا من يديه سلاح القتال في سبيل حريته واستقلاله وانفراده بخصائصه التي ورثها وخص بها، وعمل الجيل بعد الجيل في تنقيتها له تنقية المدَرة من بين الحَب

ليس اليوم أوان يترك الشرق عنانه في الأيدي التي لعبت به وغررت، ولا هو يوم التهاون في القليل لأنه قليل، ولا هو يوم إحسان الظن بمن يحتال للظفر بحسن الظن، ولكنه اليوم الذي يتفلت فيه من كل ضلالة وعبث، ومن كل مرتفق للنفع متشرف للمصلحة، ومن كل سبب من أسباب التدمير. فإذا فعل ذلك، وأعطى كل ذي حق حقه، وامتاز المجرمون، وخلص له المخلصون واستعان بحرية اختياره على إقرار الناس في مواضعهم وعلى مراتبهم، فيومئذ يجد القدرة على انتزاع حريته من أنياب الغاصبين، ويصيب مهاد الطريق إلى الغاية التي ينظر إليها بآماله وأشواقه نظرة العامل لا نظرة الحالم المتخيل

وأخوف ما نخافه هو ما أوتي هؤلاء من الرفق واللين وحسن المجاملة، وأنهم قد أحكموا معرفة الأسباب التي بها يأخذون بأيدي الناس وعقولهم، وأنهم قد أوتوا نصيباً من الصيت يتغلب بهم على ما يعترضهم أو يردهم، وأن الناس أسرع اتباعاً لما ألفوا وحنيناً إليه، وأن البلبلة التي تأتي مع الحروب وتمتد في أذيالها، تدع الناس حيرى غرقى يتلمسون في كل شيء شيئاً يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى

ص: 25

اختيار الأصلح في كل شيء شيئاً يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى اختيار الأصلح في كل شيء، فما بد من أن تنجلي العمايات بعد عن الدنيا لتطبق علينا عماية مصفقة كالظلام المصمت. ويومئذ نرتد على أعقابنا حسرى عناة كأسوأ ما مر بنا من زمن، وتضيع الفرصة السانحة ونحن غرقى في بحر طام قد نزح عنا شاطئه بعد الدنو

فعلينا الآن أن نثق بأنفسنا غاية الثقة، لأن الثقة بالنفس هي جيش الحرية، وأن نشك كل الشك في أصحاب الرأي ومن يتعرضون للإمارة عليه، لأن الشك في هؤلاء هو حارس الحرية، وأن نشتد في مطاردة الضلال والعبث، لأن هذه الشدة هي سلاح الحق وسلاح الحرية. فإذا غلب علينا التهاون في شيء من ذلك، فإنها ثغرة تتدفق منها على الشرق مرة أخرى ضلالات وفتن كقطع الليل المظلم، ويعجز أهله عن حمل أعباء الحضارة الجديدة التي اختارهم الله مرة أخرى للعمل عليها والقيام بها. فما بد من أن ينفض الشرقي بعينيه ورأيه كل بارقة وكل غمام، مخافة أن تنزل الصواعق عليه من حيث ظن الغيث

ليس في الشرق قوّى تضارع تلك القوى الهائلة التي صبت من الحديد والنار وأسرار الكون، وليس فيه ذلك الغنى غنى الاستبداد والجبروت والسياسة، وليس فيه ذلك الجمهور العظيم من العقل العامل لإيجاد القوة في كل شيء لاستخلاص المنافع من كل شيء، ولكن هذا الشرق لا يزال يحتفظ بأعظم قوة تخضع كل هذه الأشياء لسلطانها الذي ينال النصر ما تعاون ولم يتفرق. وتلك هي قوة الروح، وقوة الخلق، وقوة الاستمرار إلى النهاية مصابرة لا ذلاَّ، وإيماناً لا عناداً، وتسليماً لا غفلة. فعلينا أن نعرف فضائلنا التي توارثناها، وأن ننفي عنها ما خالطها من خبث الجهالات القديمة التي تراكمت عليه فقعدت به أزماناً طوالاً، حتى استرخى نائماً والناس يقظى

إن الشرق إذا خلص من شر النفايات الطافية على سطحه، وإذا وثق بسلطان الروح السامية التي لا تذل، وإذا نهج النهج لا يتهيب، فما بدٌّ من أن يحوز من القوة ما يضارع قوة المدنية الأوربية المتهالكة، وأن يجعل في هذه القوة من النظام الروحي النبيل ما يرد كل غائلة ويمنعها كل عدوان، ويرفع الإنسانية درجات في طريقها إلى السماء. وهذه أيَّامٌ فيها عِبَرٌ كثيرةٌ لمن يعتبر، فإن حقائق المدنية الأوربية تستعلن كلها في هذه الرجة العظيمة

ص: 26

التي ترجف بالعالم ساعة بعد ساعة

ولكن علينا أن نثق، وعلينا أن نشك، فإذا رفعت الثقة أسباب الشك، فإن الخير كله آت على طول الجهاد وترك التهاون وعلى استجادة العمل ومرابطة النفس عليه، وعلى الأناة دون العجلة، فإن الفرس الصغير يكبر على التعهد حتى يؤتى الثمرة، ومن استعان بأسباب الحق أُعين، ولا يهلك الناس إلا من هيبة أو تهور

محمود محمد شاكر

ص: 27

‌الحرب في أسبوع

للأستاذ فوزي الشتوي

سكون الميادين البرية

سألني بعض القراء من أيام عن مدى التغير الذي حل بالموقف العسكري منذ تسليم فنسا (وهل يضعف تسليمها إنجلترا أم يقويها؟) وردنا على هذا السؤال بنعم ولا؛ فهذا التسليم يضعفها ويقويها، كما ترتبت عليه نتائج لها خطورتها. فبعد ما كانت نهاية الحرب رهن معركة برية وانهزام بري، يعقبه انحلال ألمانيا السريع، لم يبق تسليم فرنسا من مجال يؤدي إلى هذا الغرض، وتبعاً لذلك يرى بعض العسكريين أن الحرب قد تطول فيمتد زمنها إلى عدة سنوات

أما الأسباب التي يستندون إليها لإطالة الحرب فهي:

أولاً: سكون القوات البرية، فلم يعد من صلة مباشرة بين قوات إنجلترا وقوات المحور في أوربا، فلا توجد منطقة تعتبر معاركها حاسمة وتقرر النصر والهزيمة، فإن السلاح الجوي وحده ليس كفيلاً باحتلال البلاد، ويقتصر عمله على إضعاف الروح المعنوية في الشعوب، وعلى تدمير المرافق الحيوية التي تغذي الجيوش.

ثانياً: اتساع موارد دولتي المحور، مما يتيح لهما إطالة زمن الحرب، فهما تسيطران الآن على جميع موارد أوربا من صناعية وغذائية، ونضوب هذه الموارد ليس من الأمور اليسيرة؛ فموارد بلدان أوربا عظيمة، وبهذه البلدان أكبر مصانع العالم، وضعفها الوحيد، هو حاجاتها إلى بعض المواد الأولية التي تستورد من أمريكا أو من المستعمرات كالقطن والمطاط والبترول وغيرها من المعادن التي تدخل في صناعة الطائرات والذخائر.

موطن قوة ألمانيا

وإذا كان اختفاء الميادين البرية من الحرب الحالية يطيل الحرب، فإنه قد قوى مركز إنجلترا قوة لا يستهان بها وجعلها حصناً منيعاً، فإن استعداد ألمانيا البري والجوي استعداد لم يسبق للعالم أن رأى شبيهاً له، فهي تمتاز بمعدات برية سلم قادة الحلفاء أنفسهم بأنها معدات ساحقة. ومن حسن حظ إنجلترا أنها جزيرة لا تستطيع ألمانيا أن تنقل إليها هذه

ص: 28

المعدات فبطل عملها. فالموقف الحالي إذن وفر على إنجلترا الاصطدام بنقط ألمانيا القوية، وأتاح لها تدميرها شيئاً فشيئاً، كما أتاح لها الوفرة من الزمن إذ تستطيع أن تعد ما يضارعها ويفوقها

حكم تسليم فرنسا على قوات ألمانيا البرية بالنوم، ولم يبق لها إلا القوة الجوية، وهي تفوق القوة الجوية البريطانية من الناحية العددية، ولكنها في الوقت نفسه تعتبر أضعف من القوة الجوية البريطانية إذا نظرنا إلى مجال كل من القوتين ومدى تأثيرهما. ونستخلص هذه النتيجة من ثلاثة عوامل:

1 -

اتساع رقعة الأراضي التي يحتلها الألمان

2 -

صغر رقعة الجزر البريطانية

3 -

استعداد إنجلترا للدفاع الجوي

فأما اتساع رقعة الأراضي التي يحتلها الألمان، فتستطيع إدراكه من نظرة واحدة نلقيها على خريطة أوربا فنرى المساحة العظيمة التي يضطر الألمان للدفاع عنها، وصغر الرقعة التي يدافع عنها الإنجليز. وفيما يلي بيان تقريبي لمساحات هذه الأراضي التي يحتم موقف ألمانيا العسكري الدفاع عنها

الدولة

مساحتها بالميل المربع

ألمانيا

185.

998

النمسا

32.

000

دانزج

745

تشيكوسلوفاكيا

40.

865

بولندا (الألمانية)

ص: 29

70.

000 (؟)

بلجيكا

11.

752

هولندا

12.

582

دنمرك

16.

570

النرويج

124.

964

فرنسا (المحتلة)

141.

972 (؟)

إيطاليا

119.

744

ألبانيا

10.

600

المجموع

767.

784

ويقابل هذه مساحة الجزر البريطانية وهي 115. 338 ميلاً مربعاً. أي أن مساحة الأراضي التي تدافع عنها دولتا المحور ستة أمثال مساحة الجزر البريطانية. فلتساوي قوات الدولتين الجوية يجب أن تكون قوات ألمانيا ستة أمثال قوات إنجلترا وهذا يخالف الواقع

سلاح الطيران

فقد كان مجموع الطائرات الألمانية في سبتمبر سنة 1939 22 ألف طائرة يضاف إليها سلاح الطيران الإيطالي وعدد طائراته خمسة آلاف طائرة. وكان عدد الطائرات البريطانية في ذلك الوقت 17 ألف طائرة يضاف إليها ما اجتلبته من الولايات المتحدة وكان مجموعه

ص: 30

إلى الشهر الماضي 2500 طائرة، وقد تدرج هذا المجموع في النمو تدرجاً مطرداً بفضل نشاط المصانع الإنجليزية حتى أصبح التفوق العددي لدولتي المحور تفوقاً غير مذكور

ولا ننسى في هذا المجال جرأة الطيارين البريطانيين وحسن مرانهم، مما يتيح للسلاح البريطاني التفوق الفني على السلاحين الألماني والإيطالي، مما ألقى الرعب في قلوب الطيارين النازيين ودفع بإذاعة برلين إلى الشكوى من قسوة الإغارات البريطانية على ألمانيا

أما العامل الثالث وهو استعداد الجزر البريطانية للدفاع الجوي، فقد ثبت أن الطائرات الألمانية تجد صعوبة كبيرة في مهاجمة إنجلترا وخصوصاً المرافق العسكرية فيها؛ فلندن مثلاً تحاط بسور من المناطيد الجوية التي ترتفع إلى طبقات الجو العليا وتهبط منها أسلاك متينة مشدودة إلى الأرض، فإذا حاولت الطائرات اختراق هذا السور فإنها تصطدم بالأسلاك وتتحطم، فإذا أرادت التحليق فوق المناطيد، استحال عليها ذلك نظراً لتخلخل الهواء في تلك المناطق وقلة الأكسيجين اللازم للجسم، فيموت الطيار قبل أن يصل إلى ارتفاعها

وأفاد تسليم فرنسا من جهة أخرى، فإن معدات الدفاع ضد الغارات الجوية من طائرات مطاردة ومدافع مضادة للطائرات بعدما كانت موزعة في فرنسا للدفاع عن القوات والبلاد الفرنسية عادت إلى الجزر البريطانية وتركزت في رقعتها الصغيرة لاستقبال الطائرات المعادية، فازداد عددها وأصبح مجموع النيران التي تقابل بها الطائرات المغيرة أكثر مما كان قبلاً، ففشلت الطائرات الألمانية في الوصول إلى أهدافها

ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن قوات بريطانيا البرية أصبحت الآن مركزة في الجزر البريطانية لاستقبال ما قد يرسله هتلر من قواته إليها مما يضمن لها التفوق على ما قد تنقله الطائرات، أو ما قد يفلت من حصار الأسطول البحري، إذا تيسر لبعض السفن الإفلات

وكان من نتيجة تسليم فرنسا زيادة أعباء الأسطول البريطاني واتساع مساحة المناطق المحصورة بحرياً، فبعدما كانت مناطق الحصر قاصرة على بحر الشمال مرتكزة إلى القواعد الفرنسية، شملت جميع سواحل أوربا مرتكزة على جبل طارق، وهي مهمة قاسية خبر الأسطول البريطاني تنفيذها في تاريخ إنجلترا وحروبها الطويلة

ص: 31

لأسباب عائلية

وكنا نأمل أن تنضم قوات المستعمرات الفرنسية إلى الجانب البريطاني، ولكن يظهر أن حال الفرنسيين تغيرت، وأن دعاة الهزيمة في فرنسا غلبوا على ما في القواد الفرنسيين من وطنية وحب للحرية؛ فأعلنت قوات الجزائر وتونس وسوريا تسليمها لأسباب مضحكة، فقال الجنرال ميتلهوزر إن له عائلة في ستراسبورج فهو يخشى إذا استمر على القتال أن تضطهد، فهو على رأي أحد القراء الكرام: يقف القتال (لأسباب عائلية)

فهذا السبب يدعو إلى الضحك، وشر البلية ما يضحك، فهل هؤلاء قادة؟ ألم يكن في استطاعته أن يستقيل بدل أن يقول مثل هذا اللغة؟

في المستعمرات

وخسرت إنجلترا في المستعمرات الفرنسية القوات المقاتلة في تونس والجزائر، فإن وجودها كان عاملاً له أثره في القتال في ليبيا، لأنها كانت تضطر القوات الإيطالية هناك إلى القتال في جبهتين، فتقاتل من الغرب القوات الفرنسية، ومن الشرق القوات البريطانية؛ ولكنها الآن تستطيع أن توجه جهودها إلى الميدان الشرقي وحده. وأدى تسليم قوات سوريا ولبنان إلى فائدة تلك البلاد، فاتفقت تركيا والعراق على استقلاها، وهي بشرى حسنة للأقطار الشرقية. أما في الصومال الفرنسي فقد رفضت القوات الفرنسية وقف القتال، ولهذا القرار أثره، فإن جيبوتي هي المدخل البحري المتصل بالحبشة

وتنبأنا منذ توقيع الهدنة أن الأسطول البحري الفرنسي سيخير بين شيئين، فإما أن ينضم إلى الأسطول البريطاني في كفاحه وإما أن يغرقه، وقد تحقق ما تنبأنا بوقوعه، فعند ما عارض قادة الأسطول الفرنسي الطلبات البريطانية وجهت الوحدات الإنجليزية نيرانها إليه فأغرقت بعض قطعه ودَّمرت قطعاً أخرى حتى أصبح استعمالها متعذراً، إذا قدر لها أن تقع في أيدي الأعداء

موقف حازم

وأعجب العالم بحزم الحكومة البريطانية في هذا الموقف، إذ ضمنت بتصرفها حرمان دولتي المحور من أسطول بحري كبير، يفوق في استعداده وعدد قطعه الأسطول الإيطالي؛

ص: 32

فلو وقع هذا الأسطول في يد هتلر وموسوليني لسببا لإنجلترا كثيراً من المتاعب سواء في البحر الأبيض أو في المحيطات، إذ تستغل قطعه في أعمال القرصنة، ولا عبرة بما وعدا به من عدم استعماله، فإنهما يدفعان بفرنسا الآن إلى إعلان الحرب على إنجلترا مستغلين ضعف وزارة بتان

ولا ندري بالضبط مدى التهديد الذي يوجهه النازيون إلى قادة الفرنسيين، ولا مدى الوعود المعسولة التي يمنونهم بها، ولكنه مما لا شك فيه أن الوزارة الفرنسية واقعة تحت ضغط شديد يفقدها حرية التفكير والعمل. ويقال إن الألمان يهددون الفرنسيين بنسف مدن كاملة إذا لم تنفذ الهدنة تنفيذاً دقيقاً، وإذا لم يخضع الفرنسيون لجميع طلباتهم، ومثل هذه الوحشية ليست بعيدة عن الألمان

في البلقان

كتبنا في مقالنا الماضي في حركة الروسيا في رومانيا، واستنتجنا منها أن الروسيا تتبع سياسة خاصة لا تتقيد فيها بدولتي المحور ولا بالحلفاء، مستغلة الظروف الحالية، وأنها تتجه في سياستها إلى الاستيلاء على بترول أوربا وتقوية مركزها العسكري. فالروسيا مشتركة في المؤامرة الديكتاتورية على الدول الديمقراطية، ولكنه اشتراك ظاهري كما يبدو لنا، الغرض منه حصولها على أهدافها على حساب غيرها، دون أن تكلف نفسها خسائر حربية. وقد تم حتى الآن كما نرى نصف المؤامرة ولم يظهر بين المتآمرين خلاف كبير أو تعارض في المصالح، وبدأنا نشعر بأن تحقيق مؤامرتهم على وشك أن يفشل، لأن الروسيا هددت باستيلائها على بساربيا وشمال بكوفينيا مصالح دولتي المحور في البلقان. فإن المدى الذي تهدده الروسيا لا يمكن أن يكون داخل نطاق المؤامرة، فالتسليم به بمثابة تسليم رقبة دولتي المحور للروسيا الشيوعية التي تخالفهما في المبادئ والمصالح، والتي طالما نعتوها بأقبح النعوت.

في أحضان النازية

وظل الشك يخالجنا في موقفها في الفترة الماضية، ولكن حوادث رومانيا الأخيرة أزالته، وأكدت لنا أن علاقاتها بهما ليست صافية، وأن حركاتها ليست متفقاً عليها كما يتوهم

ص: 33

البعض. فبعد استيلائها على مقاطعتي بسارابيا وشمال بكوفينيا يذاع أن وزارتها أعيد تشكيلها وأن بعض أعضائها من حزب الحرس الحديدي، وهو حزب نازي المبادئ والميول، ثم يعلن أيضاً أنها ارتمت في أحضان ألمانيا

وليس لهذا الموقف إلا تفسير واحد، وهو أن رومانيا تطلب حماية ألمانيا من الروسيا، فليست بسارابيا وبكوفنيا إذن هما كل ما تريده الروسيا، بل إن رومانيا تشعر بأن جعبة الروسيا لم تفرغ فهي تسعى وراء شواطئها الساحلية ومنابع بترولها، وإذا قبلت ألمانيا شرط الحماية فهي تقبل تبعاً لذلك موقف معارضة الروسيا، وتلوح لها بأنها تعارض تحقيق مطامعها، ومعنى ذلك انهيار جزء كبير من المؤامرة الدكتاتورية

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 34

‌تفاريق الحياة

للأستاذ إيليا أبو ماضي

إذا جدَّفت جوزيت على التجديف بالنار

وإن أحببت عيرت من الجارة والجار

وإن قامرت أو راهنت في النادي أو الدار

فأنت الخاطئ الآثم عند الناس والباري

وإن تسكر لكي تنسى هموماً ذات أوقار

خسرت الدين والدنيا ولم تربح سوى العار

وإن قلت إذنْ فالعيش أوزارٌ بأوزار

وإنَّ الموت أشهى لي إذا لم أقض أوطارى

وأسرعت إلى السيف أو السم أو النار

لكي تخرج من دنيا ذووها غير أحرار

فهذا المنكر الأعظم في سر وإضمار

إذنْ فاحيا ومتْ كالناس عبداً غير مختار

إيليا أبو ماضي

ص: 35

‌أغنية حزينة!

(مهداة إلى شاعر الحب والجمال (علي محمود طه))

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

دنا الليل، وما الليل سوى أطياف آلامي!

دنا الليل، وما الليل سوى أشباح أيامي!

دنا الليل، وما الليل سوى يأسي وأوهامي!

فهاتي خمرة اليأس

وهيا أترعي كأسي

وعبي منه يا نفسي

ولا تبكي ولا تأسي

فما يومي سوى أمسي

دنوت الآن يا ليلى فأيقظت كآباتي!

ورعت فؤاديَ الغافي وهيجت جراحاتي!

وأترعت بخمر الوحشة الخرساء كاساتي!

وأطلقت بأفق الروح أشباح خيالاتي!

أتسمع أيها الليل صدى شجوي وأناتي!

أتبصر أيها الليل سكوني وارتعاشاتي؟

أتبصر في محيايَ تهاويل التعاسات؟

شكوت إليك يا ليلى فما أجدت شكاياتي!

فعدت أعلل النفس، فلم تنفع تعلاتي!

فهاتي خمرة اليأس

وهيا أترعي كأسي

وعبي منه يا نفسي

ولا تبكي ولا تأسي

فما يومي سوى أمسي

زرعت الحب والأحلام في بستان أيامي

وقمت الليل أرويه بماء سحابيَ الهامي

وأعزف عنده فرحاً على القيثار أنغامي

وقلت: (إذا أتى الفجر بنور منه بسام

ص: 36

سألقي الحقل - وافرحا - يرف بزهره النامي)

فلما أقبل الفجر يفيض بنوره السامي

رأيت الشوك في حقلي يماثل أسهم الرامي!

فعدت لكوخيَ النائي بقلب حائر دامي!

أوقع لحن حرماني، وأحزاني، وأسقامي!

فهاتي خمرة اليأس

وهيا أترعي كأسي

وعبي منه يا نفسي

ولا تبكي ولا تأسي

فما يومي سوى أمسي

(دمنهور)

إبراهيم محمد نجا

ص: 37

‌هكذا الدهر.

. .

للأديب بدوي سليمان

نُحْ مَعي يا شاكي الأيْ

كِ فقد صوَّح روضي:

خبتْ الشعلة في رو

حي وقد أطفأ وَمْضي

فرْعك الغض سيذوي

مثلما قد كان غَضِّي

فانعه من قبل أن

يُدْركه الصيف بأرضي

كل من طال به العَيْ

شُ فلا بد سيمضي

زمرٌ في إثر أخرى

لاحقاتٍ إثرَ بعضِ

بدوي سليمان

ص: 38

‌رسالة الفن

بواطن وظواهر

. . . وعندنا فنانات أيضاً

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

السيدة روز اليوسف

جاء عليها يوم كانت فيه الممثلة الأولى في مصر، وجاء عليها يوم بعد ذلك كانت فيه الصحافية الأولى في مصر، وهي لا تزال إلى اليوم تحتل مكانها الملحوظ في عالم الصحافة

أظهر ما فيها طيبة قلبها، حتى ليعدها الإنسان بلهاء؛ فهي بعد الوقت الطويل الذي انغمست فيه بين أهل الفن والصحافة، وما أدراك ما أهل الفن والصحافة، وما نعومتهم وما دهاؤهم، مع طول ما جربت هؤلاء وقارفت عشرتهم وقارفوا عشرتها؛ فإنها لا تزال إلى اليوم على استعداد لأن ترحب بكل من قال لها (إني صديق)، وبكل من قال لها (إني صادق)، على شرط ألا يقول لها هذا تصريحاً، فإنه لو فعل ذلك لشكت فيه

تتعرف إليها الساعة، فتراها انطلقت إليك بروحها كلها غير متحفظة وغير متريثة، فإذا كنت ابن حلال قدَّرت هذه البراءة وصنت لها رجاءها فيك. أما الجاحدون فيخدعونها ويجمعون من حولها الرزق والشهرة، حتى إذا شبعوا هجروها، وريما آذوها

وهي لا تزال صابرة سليمة النية، والله يسلمها من كل كرب ومن كل ضائقة

أنشأت منذ سنوات صحيفة يومية تطاولت إلى مقام الأهرام وقد تصدت بصحيفتها هذه لأزمة كانت مستحكمة في البلد، فكانت من أقوى الأسباب التي حطمت هذه الأزمة، ولكن هذه الأزمة كانت العامل القوي الوحيد الذي حطم صحيفة روز اليوسف

ولكن السيد روز اليوسف لم تتحطم، وإنما رعاها الله بضعفها وسلامة نيتها

السيدة فاطمة رشدي

ليلى، كيلوباترا، سمير اميس، النسر الصغير، غادة الكاميليا، نجف، إيميلى

كل هذه أدوار أشبعتها فاطمة رشدي حياة، مع أني أستطيع أن أراهن بكل (السجائر) التي

ص: 39

معي على أنها لم تدرك من أسرار هذه الأدوار إلا أيسر الإدراك، ولم تلم بدقائقها النفسية إلا أهون الإلمام

فكيف إذن كانت تجيد فاطمة رشدي هذه الأدوار، وكيف كانت توفق فيها التوفيق الكبير؟

إنها كانت تجيد وكانت توفق، لأنها كانت تتصور وكانت تحس، ولأنها كانت تبني بخيالها نماذج لهذه الشخصيات التي كانت تمثلها، فكان طبعها السليم يهديها إلى أصدق النماذج مشابهة لهذه الشخصيات، فكانت تمثل كما لو كانت رأت اللواتي تمثلهن

ولكنها على الدوام كانت تنفذ بروحها إلى أرواح بطلاتها، فإذا بالشخصية المسرحية التي كانت فاطمة رشدي تتقمصها، لا يزال فيها من فاطمة رشدي نفسها، حركات قاهرية عذبة، وإشارات بلدية لذيذة، وتنهدات وتكسرات نعرفها نحن في مصر وفي هذه الأيام ولكني لا أظن أن كليوباترا، وسميراميس، وليلى، وغيرهن من بطلات فاطمة رشدي قد عرفنها. . .

وتلاشى هذا العيب من فاطمة رشدي وتمثيلها حين ظهرت في فلم العزيمة، فقد أخرجت في هذا الفلم دور فتاة قاهرية بلدية فانطلقت في التمثيل على أساس من سجيتها وعلى عون من ذكائها وبراعتها، فتساند فنها بعضه إلى بعض واكتمل لها النجاح على نحو متألق رائع

الآنسة نبوية موسى

مربية تحترمها الأسر احتراماً كبيراً، وتعترف لها وزارة المعارف بجلال العبء الذي تحمله على عاتقيها

وكاتبة قصدت فيما تكتبه من مذكراتها لأخطر ما يمكن أن يكتب فيه المربي، وتعرضت فيه لخفايا يتهرب أشجع الكتاب من التعرض لها مع أن أمرها معروف، وخطرها ظاهر، ونتائجها بينة، وعلاجها أمر تفتقر إليه بيئات التعليم وغيرها من البيئات افتقاراً ملحاً عنيفاً، ومع هذا فنحن نتعامى عنها على قسوة ما يترتب عليها

فإذا لم يكن للآنسة نبوية موسى غير مالها من فضل الشجاعة الأدبية التي دفعتها إلى معالجة هذا الموضوع، واحتمال ما قد ينشأ عن ذلك من سخف القول لكفاها هذا فخراً، فإن هذا الموضوع لم يتعرض له حتى اليوم في مصر من الكتاب المعاصرين رجل.

السيدة بديعة مصابني

ص: 40

لها ابتسامة لا أدري كم تجهد أعصابها. حاولت أن أقلدها فيها مراراً، فكنت أضحك أنا من نفسي قبل أن يضحك الذي كنت أتصنع هذه الابتسامة معه

ولكن بديعة مرنت على هذه الابتسامة، واعتادها الجمهور منها وأصبحت لها أمارة وعلامة

هي مديرة مدبرة تحسب الحساب، وترتب النتائج على الأسباب، وتأخذ عملها بالحزم والجد، وهي لذلك تنجح وتواصل العمل

وهي أيضاً فيلسوفة صاحبة حكمة. أرادت الرقابة أن تمنعها عن أغنية (لا والنبي يا عبده) فضحكت وقالت: إذا منعت هذه الأغنية عندي فسيغنيها الشعب في الطرقات والبيوت لأنها (نشيدنا القومي. . .!)

في هذا التعبير قسوة من غير شك. وفيه لطمة لحشمتنا. ولكن بديعة على أي حال صدقت، فالأغنية راجت رواجاً لم ترج مثله أغنية أخرى منذ (يا عزيز عيني) و (زوروني كل سنة مرة)!

الآنسة روحية خالد

كانت وهي في فرقة رمسيس كالعصفورة، وربما كان التحاقها بالفرقة القومية من العوائق التي عرقلت نموها الفني، فهي تشعر اليوم بأنها موظفة حكومة، تقبض مرتبها آخر كل شهر، فهي لا تحاول الاستزادة من الإجادة في عملها، وإنما التفتت إلى الاستزادة من دواعي راحتها

لا ريب في أن استعدادها الفني جارف، ولكن منذا الذي سيتعهدها في الفرقة القومية؟ إن العمل في هذه الفرقة يسير على نمط عجيب، فلكل رواية مخرج، وكل مخرج ينتقي من الممثلين والممثلات من يرى صلاحهم لروايته وأدوارها، وأغلب ما يهتم المخرجون في الفرقة القومية بالمناظر والملابس والإضاءة. أما أرواح الأشخاص الذين يظهرونهم على المسرح فأمر يتركه المخرجون للمثلين؛ والممثلون أنفسهم يحبون من المخرجين هذا، والمخرجون أنفسهم راضون عن أنفسهم في هذا، وعلى هذا الأساس فإن ممثلة ناشئة مثل روحية خالد سيقف تقدمها الفني عند المرحلة التي انتهت إليها وقتما فارقت فرقة رمسيس حيث كان الأستاذ يوسف وهبي يعلمها بإخلاصه لفرقته ونفسه كل ما يعلم من تجاربه

ص: 41

واطلاعه

ويوسف وهبي - على الأقل - أكبر سناً من المخرجين في الفرقة القومية وأغلبهم تلاميذه. . .

السيدة خديجة حافظ

أخت السيدة بهيجة حافظ. وخديجة الكبرى

موسيقية كأختها، ولكنها ليست ممثلة، لا اعرف من أخبارها اليوم شيئاً، ولكني أذكر لها (تانجو أورينتال) وضعته منذ عشرين سنة تقريباً، وكنت أسمعه وأنا صغير فيخفق له قلبي غراماً وحباً، وحناناً ووداعة. . .

ولا أزال أترنم بهذا اللحن إلى اليوم كلما هفت نفسي إلى ذلك العهد.

السيدة بهيجة حافظ

هي أيضاً موسيقية ممتازة، وموسيقاها عندي أحب من تمثيلها. لها قطعة أسمها (أنت) أعوذ بالله من الآلام التي تتدفق فيها.

متوثبة. ذات آمال فنية عريضة، ولكن هناك عائقاً شديداً يحول بينها وبين تحقيق هذه الآمال، إن هي تخطته فقد يسهل عليها جداً أن تتخطى بقية العوائق. . .

ذلك أنها لا تنسى في أي لحظة من اللحظات أن أباها كان باشا، وأنها بذلك من طبقة غير طبقة هؤلاء الممثلين وهؤلاء الممثلات، وهؤلاء الموسيقيين وهؤلاء الموسيقيات

وفكرة الأرستقراطية هذه كفيلة بتحطيم الفن ونسفه في أي نفس مهما تأصل فيها الفن ومهما تمكن منها. . .

السيدة زينب صدقي

وهذه لم يكن أبوها (باشا) ولا غير ذلك من حملة الألقاب، ومع هذا فهي تحب أن تظهر بمظهر الأرستقراطية، وتحب من دعاتها دائماً أن يقولوا عنها إنها أرستقراطية. وقد تأثر كثيرون من الناس بهذه الدعاية وأنا من بينهم، وكانت نتيجة هذا التأثر عندي أني حسبتها أرستقراطية حقاً وقريبة من الأرستقراطية فنفرت منها ونفرت من فنها

أقول هذا، وأقول أيضاً إلى جانبه إني كثيراً ما كنت أنسى هذه الدعاية وأنا أشاهد زينب

ص: 42

في تمثيلها فكنت أهتز لها وأعجب بها

فإذا كانت تريد أن تبرأ من عتمة الجمود التي نسبها إليها دعاتها فلتطالبهم بأن يكفوا عن دعايتهم الخاطئة

الآنسة أسمهان

إذا لم يكف عنها أخوها الأستاذ فريد الأطرش، وإذا لم تبدأ منذ اليوم بالبحث عن ملحن يربي مواهبها، فإنها بعد ثلاثة أعوام أو أربعة على الأكثر ستتحول إلى مغنية (ميكانيكية) بسمعها الناس بآذانهم بينما قلوبهم منصرفة عنها وعما تغنيه. . .

كل عمل في الدنيا يقبل (الشركة) و (المساهمة) إلا الفن

السيدة زوزو الحكيم

فيها الشاعرية والأسى اللذان أراهما في (كاي فرانسيس) وعلى الرغم من أنها قضت وقتاً طويلاً على المسرح المصري فإني لا أزال أنتظر لها دوراً يشبعها ويشبع معها الذين يثقون بها

والفرص مقبلة، وفي الله الأمل

أظنها في الفرقة القومية، وأظنها لهذا فقط لا تزال مغمورة. . . ولكن أين تذهب، وفي أي فرقة أخرى تعمل، وحال المسرح كما نعرف!. . .

الآنسة فردوس حسن

فيها ميل ظاهر إلى المرح واللعب والضحك، لست أدرى إذا كان طبعاً فيها أو درعاً لها، ولكنها به على أي حال تستطيع أن تكون في طليعة ممثلات الكوميدي، وإنها لكذلك ولو لم تتح لها فرصة التخصص

السيدة نرجس شوقي

لم نعد نشمع عنها شيئاً في هذه الأيام، ولست أدري أين هي ولا ماذا تصنع، ولكني لا أنسى أنها كانت (المونولوجيست) المصرية الوحيدة الرشيقة الخفيفة، التي كانت ترتجل مواقفها وحركاتها وإشاراتها على المسرح ارتجالاً، معبرة بذلك عما تلقيه أنفذ التعبير وأبلغه؛ كما كانت المرحومة امتثال فوزي

ص: 43

لم ترق كثيراً في عملها من الناحية المادية، لأنها فنانة كانت تعتمد على فنها وحده كما كانت تعتمد على الله في حفظ حياتها يوم كانت (بهلوانة) في سرك تقفز في الفضاء قفزات ثمن الغلطة في إحداها كارثة أقل ما فيها من شر هو تحطيم العظام وتكسير الضلوع

هي

التي ربت أذني، وعيني، وقلبي، وعقلي، ولساني، وقلمي، والتي غذت روحي ونفسي

والتي تسلمتني من فاطمة بنت حواء وآدم التي احتضنتني بعد ما احتضنت أبي من قبلي. . .

والتي رفعتني، وخفضتني، وقومتني وعوجتني، وألهبتني وأثلجتني، وأروتني وأظمأَتني، وأصلحتني وأتلفتني، وعلمتني وخبلتني. . .

سألتها أن تقرأ الفاتحة معي للسودانية التي فتحت لله منذ الطفولة نفسي

ولنا جميعاً من الله الرضا والرحمة

ولكن. . . من الذي سيترجم لها هذا، وكيف ستقرأ الفاتحة؟

عزيز أحمد فهمي

ص: 44

‌رسالة العلم

تأملات:

في مملكة الحيوان

للأستاذ محمود الدسوقي

في إحدى السنين التي كان خلو الذهن فيها ظاهرة بادية في الشعوب، وأشغاله ظاهرة تبدو على الحكومات، والتي كانت فيها الطبيعة آمنة، وكان الناس من نحوها آمنين مطمئنين - في إحدى هاته السنين زرت أوربا، وأوربا كعادتها جمة النشاط، منصرفة إلى التجديد، والطبيعة باسمة حالمة يفيض قلبها بالحب وتزخر على جوانبها الأماني، فلم يرعني شيء كالألفة القائمة بين الحيوان والإنسان تقليداً ترعاه التربية العامة، ولا يغفل إلا بمقدار

وقد كان بيني وبين الطير والحيوان حديث ما أعذبه، فلم يكن في الجو ما يقصى الطير عن شجره والحيوان عن مأمنه. والطير والحيوان أحب الرفاق إلى الإنسان إذا أعوزته الرفاق، فهما أحفظ لسره، وأبقى على عهده، وأطوع لإرادته، ما دام كل شيء يجري معهما على سجيته

لم اقصد إليهما كما فعل التاجر هورن، فأقتحم عليهما الغاب والآجام، فأنا أعرف بالحدود من ألا أقف عند حد. بل إني حاولت أن أجتمع بهما وأنا آمن، وهما عديما الحيلة عديما الأذى. وهل في غير حدائق الحيوان ينشد المرء مثل هذا اللقاء؟ وإنه لمتعة للنفس، وفرصة للنظر والدرس، وساعة للتحصيل لا تجلب السآمة

وقد كنت أغشى حديقة الجيزة فيما مضى من الزمان، فإذا الظاهرة التي تسترعي انتباه من يعنيه الانتباه إلى علاقات المخلوق الطليق بالمخلوق الحبيس هي اضطهاد وتحفظ، اضطهاد من الزوار الذين لا ينون عن مضايقة الطير والحيوان كل في قفصه، وتحفظ من الطير والحيوان، إذ هو لا يقترب إلا حذراً، ولا يبتعد إلا متوجساً

وغشيت في تلك السنة التي ألمعت إليها إحدى حدائق أوربا العامة المترامية الأطراف التي يضل فيها السائر من دون خريطة، وتسعف فيها المركبات من كلت قدماه قلت: غشيت تلك الحديقة، فإذا الكلفة التي ألفنا أن تكون في حديقة عامة بين الطليقين من الإنسان والحيوان

ص: 45

مرفوعة، وإذا ألفه معقودة بين المخلوقات تجعل من الحديقة سفينة أخرى لنوح عليه السلام. وقد لفت نظري عند جزع شجرة أطفال دون العاشرة (وسنجاب) في أعلى الشجرة، والسنجاب حيوان خفيف الروح، تملكه بالإحسان والدعابة، لكن قبضك الريح كقبضك عليه. وقد ناداه طفل بالاسم الذي آثره به فأحس في الحال أنه المعني بالنداء، فدلف من فرع إلى فرع، ووقف عند متناول اليد، فمد إليه الطفل يده بالغذاء غير باغ، فتناول (السنجاب) حاجته منه وارتد. وجعلت طفلة تستهويه بشيء جديد، وتناديه كذلك باسم جديد، فإذا السنجاب دالف على عادته، مؤدٍّ مهمته، والأطفال بين ضاحك وباذل ومتحبب (والسنجاب) في تلك الأسرة الصغيرة ابنها المدلل العزيز

ولقد خطرت لي فكرة التحدث إلى السنجاب ما دام من سجاحة الخلق بهذا القدر فحاولت أن أختلي بأخ له بعيداً من مجمع الأطفال إذ كنت قد نسيت فنونهم من قديم، وإني إلى ذلك لأتحاشى أن يذكروني بهذا الفنون؛ فكان أن لقيت سنجاباً فدعوته إلى ناحية فتطلع إليَّ ولم يزد إذ كانت يدي خالية مما يطمع فيه، وانطلق ليستروح طيب الشمائل من غيري

والعصافير فطينة أليفة في تلك الحديقة تتصيد المارة. وكثير من الناس يطوفون بالحدائق العامة وفي ميزانياتهم رصيد محترم للطير والحيوان. فالحب دائماً على أكفهم لا يبذرونه، ولكن يقع الطير عليه فيلتقطه غير هياب. وقد لقيت غير بعيد عصفوراً جاثماً على فرع شجرة، فما إن اقترب منه عابر سبيل باسطاً يده بالنذر اليسير حتى هبط على يده والتقط الحب في لمح البصر ثم عاود الجثوم، وعاود المار الكرة وعاودها العصفور، حتى إذا خرجت يد العابر من هذه المعاودة وهي خالية إذا بالعصفور يميل يمنة ويسرة، ويصل بين ذنبه ورأسه، ولا أدري أكان يبغي بما فعل أن يرد الحسنة بعشرة أمثالها أم كان يبغي المزيد

وجلست في حديقة للحيوان غشيتها بعد ذلك بأيام على مشرب أستريح. وعلى كثرة أقفاص الحديقة وحظائرها، والمواطن التي أنشئت فيها على غرار الطبيعة، ليحس فيها الطير والحيوان أنه في بيته - كنت أجد الطاووس يخطر في طرقاتها ومماشيها مع الزوار جنباً إلى جنب أو معترضاً طريقهم، وكنت ألقى الدجاج الزاهي الألوان البديع الريش يسرح بين الناس في طلب الرزق. وليس في هذا ما يستحق الذكر، لكن حين جلست إلى مائدة المقهى

ص: 46

أقبل على الدجاج في رهطه ومعه طائفة من الديكة الرومية أحاط بي جميعها في انتظار ما يكون. وكان أن طلبت فنجاناً من القهوة يعيد إلى رأسي بعض ما انتهب التعب، فأدرك الدجاج أن ليس ما يطلبه عندي فلا فطيراً رأى ولا كعكا، ولا قارطيس مما يحمل المحسنون؛ ولم يشأ أن ينصرف مع ذلك عني فلعله خشي أن أتهمه بالنفعية أو لعله لم يكن قد يئس بعد من كرمي وأنا رجل غريب لا علم لي بتقاليد الحديقة

واستأنفت المطاف في الحديقة ووقفت أمام حيوان صغير لطيف يشبه النمس ويدي في جيبي، فتبعها بنظره شأن المترقب حتى إذا خرجت وألفاها فارغة رماني بنظرة لم يفتني ما فيها من ازدراء.

تعرف الحرية القيود جد المعرفة، وقد لا تعرف غير القيود؟ فليس ثمة إباحة إلا ولها شرط. وقد كنا إلى عهد قريب نسرف في تقييد حرية الطير والحيوان في حديقة الجيزة، ثم احتذت مثال حدائق الحيوان في الغرب في كثير؛ لكنا لا نرى فيها ما رأيت حين تابعت المسير في الحديقة الأوربية من قطعان الحمير التي لا تعرف الحظائر أو تعرفها ولا تحتاج إليها. ولعل من الخير أن تترك الحمير تسرح في الحدائق وتمرح على هواها فقد ترتفع من هذا قيمتها ويرتفع سعر ذكائها المشهور، فهي تحسن جرش السكر فوق ما تجيد من طحن الفول ومضغ التبن وحصد البرسيم، وهي تعرف كيف تعترض سبيلك لتنال بغيتها منك، وكيف تدفع ظهرك بأشفارها لتلفتك إليها. وقد تسير في الحديقة في حاشية طيعة من البرازين تتبعك كظلك إلى حيث تشاء في داخل الحديقة طبعاً إذا كنت رجلاً كريماً، وكان السكر بعض ما عندك

والحيوانات جميعاً حبيبة إليّ، لأنها على الفطرة، وفطرتها سليمة لم تتلف على نقيض الإنسان الذي تستنفذ فيه المدنية هذا الزخر الطبيعي، وفصيلة القط أجمل الحيوانات طراً، لأن لها شخصية قوية، ولأنها قادرة على النضال، ولأن كل حركة من حركاتها جذابة فيها ظرف كثير. وهذه الفصيلة بالذات هي التي يخشاها الإنسان لأنه يتوجس منها الشر ولأنها في يقينه غادرة خائنة وقد لا تكون أغدر من الإنسان ولا أخون، وهنا نتساءل لماذا نحبو بالعطف غير هذه الفصيلة من طير وحيوان ونأباه على الوحش الذي ينتمي إليها، والجواب الذي تنتظره مني أيها القارئ غير الجواب الذي أعده لك، فليس كون هذه الوحوش تفترس

ص: 47

في جوعها سائر المخلوقات هو الذي يحبس عنها عطفنا وإلا فما الذي لا يفعله زعيم المخلوقات الإنسان العاقل النبيل في جوعه؟ وإنه ليقال إن الإنسان ليفترس أخاه الإنسان في مسة الجوع الجنونية حين تجنح به سفينة إلى شاطئ قفر أو تتحطم به في البحر

إن المرء ليتوجس من الوحش ويتوقع دائماً أذاه لأنه كثيراً ما يغفل من حسابه حساسية الحيوان في حالات كدره. فقد يقربه بشيء من الملاطفة فلا يجني إلا عكس ما ينبغي أن تثمر الملاطفة، وكذلك يفعل الإنسان حين ينحرف مزاجه ويضيق صدره. أفلا يضيق هو أيضاً ذرعاً بالتربيتة على كتفه والمسحة الرفيقة على خده وأحياناً بالكلمة اللينة؟ فالحيوان والإنسان في هذا سواء وإن اختلفا في المظهر وطريقة الأداء أو إن شئت فقل أدب السلوك. فالنمر والأسد والسنور تدهم في استيائها ملاطفها بعضة دامية؛ والإنسان يجبه ملاطفه في فترة كدره بكلمة نابية أو دفعة غير لطيفة سواء في ذلك الرشيد وغير الرشيد، وصغار الحيوان والإنسان وحدها هي التي لا تملك في تلك الحالة أذى لكنها تطيق الملاطفة على مضض. فالغدر والغش والخيانة صفات يشترك فيها الحيوان والإنسان، غير أنها تصدر من الأول عن ضرورة غالباً ويرتجلها الثاني في أغلب الأحيان. والطبيعة التي سلحت الوحوش الضارية بأنياب أنفذ من السنان وأحد من الخنجر لا يمكن أن تتطلب منها ما تتطلب من أسنان اللبن، ولا أن تجعل مهمة الحوافر والأظلاف كمهمة المخالب والأظفار. ولولا أن للثور قرنين ما فكر في النطح، ولولا أن للحية سماً زعافاً للزمت الأجحار؛ لكن للمخلوقات جميعاً - والإنسان على رأسها - أوقات صفاء وفترات كدر؛ فالنمر الذي يفترس الإنسان وهو يطلب الصيد قد يمسح خده في كمك ويطيق أن تربت على جلده في ساعة الرضا. بقي أن تعلم متى يكون راضياً ومتى تكون غمضة عينه ورقدته الساكنة على كدر. وكذلك هدأة الإنسان كثيراً ما تكون خطراً أي خطر، وكثيراً ما تنطوي على أسوأ المفاجآت؛ وهذا على فهمك الإنسان وجهلك الحيوان

إن القلق الذي يساور بعض أكلة اللحوم غريب مُسَلٍّ، والغريزة التي تحرك صغارها أعجب وأغرب، فقد مررت بقط السرفال المستوحش في حديقة حيوان الجيزة، فألفيت وجبته من اللحم النيئ بين فكيه وهو مقبل مدبر، يساوره القلق الدائم من مزاحم ينجم له من بطن الأرض، أو لعله كان يأمل أن يتاح له من القفص مخرج فيفلت بوجبته إلى حيث

ص: 48

يأمن الانزعاج

وتربض النمرة تتناول مخصصاتها وهي لا تقل عن صدر ثور ويأبى لها حنان الأم إلا أن تنزل عن ضلع للصغار وهي ثلاثة ذكر وأنثيان فينقض الذكر على الضلع يحاول نهشه فلا يعدو جهده سلوخاً رفيعة ينسرها بشق الأنفس، وتجتمع عليه أختاه تحاولان صرفه عن هذا الجشع وحب الذات، فينهرهما ويلطمهما بمخلبه فتبتعدان تعويان. لقد آثر بغريزته هذا الجهد على الرضاع الهين، وترك اللبن لأختيه، وأعمل هو أسنان اللبن في الضلع وحده بلا شريك

وهناك ظاهرة ملحوظة هي الشبه بين الإنسان والحيوان في المنطقة الواحدة، وللمناخ وطبيعة الأرض وظروف الحياة أثرها البالغ في إحداث هذا الشبه بلا مراء. فقد مررت بالدب الأسود والدب الأبيض في وقت كان السلام يسود فيه ربوع العالم فلم أفطن إذ ذاك إلى شيء، ودارت رحى الحرب بين الروسيا وفنلندة، فإذا بالدبين ماثلان أمامي أفطن هذه المرة إلى ما بينهما من فرق وأعمد إلى المقابلة، الدب الأسود أو الدب الروسي يحاول أن يعض قضبان القفص فيعض يده، فيئن ويتأوه ولا يبرح موضعه، وإنما يدور في باطنه حول نفسه في ضجر وبرم شديدين، لا ينقطع له تأوه ولا أنين. والدب الأبيض أو دب الشمال أنيق، سامي المظهر، رشيق الخطو، يدور في قفصه في خطى ثابتة متزنة، ويلتمس المخرج في كل مكان، فإذا عز لم ييأس ولم يحاول أن يقبع نهباً للقنوط كجاره الروسي

كذلك الببغاوات شريكة الإنسان في البيان والمكان، تغري بالمقابلة، فحظها في حدائق الحيوان كحظ مناطق الانتداب تستمتع بقسط كبير من الحرية، وترسف مع ذلك في القيود

و (البوم) محببة إلى الحكماء تشبههم في رصانتهم وتحفظهم وتعاليهم واستصغار شأن من عداهم، والانصراف عن التفكير في المادة إلى التفكير فيما وراء المادة. وهي كالحكماء لا تلفيها في مجلسها إلا صامتة، اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، تطيل التأمل والنظر

هذا قليل من كثير مما يعرض للمرء من أمور الحيوان. وقد نكون تناولناه في شيء كثير من العجلة وقليل من التعمق، والأناة والغوص من صفات العلماء، ولسنا في هذه العجالة منهم

ص: 49

محمود الدسوقي

ص: 50

‌البريد الأدبي

مصطلح التاريخ

تفضل الصديق الكبير الدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ في جامعة بيروت الأميركية فأهدى إلى كتابه الجديد (مصطلح التاريخ)(المثودولوجية)، وهو أول كتاب في موضوعه في اللغة العربية، وقد نحا فيه المؤلف إلى تطبيق هذا العلم الجديد على قواعد (مصطلح الحديث) واستعمال طرائقه، فكان هذا الكتاب تلخيصاً وافياً لمصطلح المحدثين، فضلاً عن أنه ينقل إلى العربية علماً جديداً، وكان عمله فيه سنة حسنة يكون من نتائجها وصل نهضتنا الجديدة بنهضة أجدادنا، وإقامة بنائنا الحاضر على أساس متين مما بنوا؛ وقد بحث فيه المؤلف في التقميش (أي جمع الأصول) والعلوم الموصلة (ويعنى بها وسائل المؤرخ) ونقد الأصول (وهو باب طويل يشتمل على فصول) وتنظيم العمل، وتفسير النص، ثم بحث في العدالة والضبط، وتكلم بإسهاب عن سبق علماء الحديث في هذا المضمار، وإثبات الحقائق المفردة، والربط والتأليف، والاجتهاد، والتعليل والإيضاح، والعرض.

وأنا مع إدراكي جلالة هذا البحث من الناحية العلمية الخالصة ومن الناحية التوجيهية، وفضله في نشر (مصطلح الحديث)، وبيان ما وفق إليه رجاله - لا أستطيع أن أنقد الكتاب أو أحكم عليه، لأني لست من رجال هذا الفن؛ وأنا أشكر لصديقي الدكتور رستم هديته، وآمل أن يتولى بعض زملائه (أساتذة التاريخ في جامعة القاهرة) الكلام على هذا الكتاب في الرسالة وأن يسارع إلى اقتنائه المشتغلون بالتاريخ

علي الطنطاوي

1 -

لجنة لفهرسة المخطوطات في المكتبة الظاهرية

عقد في دار الكتب الظاهرية بدمشق اجتماع حضره بعض أعضاء المجمع العلمي العربي، ورئيس المطبوعات الفرنسية وبعض حملة الشهادات الأجنبية، لتلخيص المخطوطات الثمينة العربية التي ترقد تحت الغبار فوق قبر الملك الظاهر. وقد حضر الاجتماع الأستاذ أنور أفندي حاتم الدكتور في الآداب الفرنسية، لاطلاعه الواسع على المخطوطات العربية، كما حضرته الآنسة فلك طرزي، والأستاذ يوسف أفندي العش حامل أجازة صف الكتب

ص: 51

وتنظيمها من باريس. فنرجو لهذه اللجنة التوفيق الباهر لما سيبذله أعضاؤها الأعلام من خدمات

2 -

أصحاب العاهات ونوادرهم

تقوم نخبة من الأساتذة الأدباء بجمع أخبار أصحاب العاهات ونكاتهم. وقد توفر لديها قسم كبير منها. على أنها لم تعثر إلا على القليل من أخبار العوران ومُلحهم. فمن كان لديه شيء منها فليتفضل بنشره أو بالإشارة إليه على صفحات الرسالة، أو بإرساله إليَّ وله الشكر الجزيل

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

برناردشو بعد بلوغه الثانية والثمانين

كتبت بعض الصحف الإنجليزية أن جورج برناردشو اعتزل كتابة المسرحيات بعد بلوغه الثانية والثمانين من عمره فكذب هو هذه الإشاعة وكتب يقول:

(إنني سكير مدمن من أسرة مدمنة، ولكن بينما أسرتي قد قنعت بالكحول فإني ترديت في شيء أردأ من جنون السكر هو جنون العمل

إني لأشعر بتعس لا حد له إذا انقطع عملي. إني لأحس بصداع خفي بعد سكرة كل شهر، وقد عاهدت نفسي على تحريرها منه وقررت بيني وبينها ألا أشتغل بعد الغداء، وأن أشتغل ساعتين فقط في اليوم؛ ولكن هذا كان عبثاً فكل يوم جديد يأتي بإغراء جديد وشهوة جديدة؛ وفي كل رمة يشتد بي الشوق ويستأثر بي الحنين؛ وأنا أفزع من البطالة أكثر مما أفزع من أي شيء في العالم. . .)

الإمبراطورية العربية

نشر أحد الكتاب الأوربيين سلسلة مقالات في إحدى الصحف الأمريكية عن (الإمبراطورية العربية) و (حلم العرب الأكبر) خلاصتها أن الناطقين بالضاد يحلمون بتأسيس إمبراطورية عربية عظيمة تضم شمل العرب وتجعل منهم إمبراطورية كبيرة تواجه العالم الغربي

ص: 52

مواجهة الند للند

وقد نشر الكاتب قائمة بأسماء هذه الأمم وعدد سكانها ننشرها فيما يلي، ونلاحظ أن بعض الأرقام الخاصة بعدد السكان أقل من العدد الحقيقي، ويرجع ذلك إلى أنها مأخوذة من إحصاءات قديمة:

الأمة

عدد السكان

مراكش الفرنسية

6.

000. 000

مراكش الإسبانية

800.

000

الجزائر

7.

500. 000

تونس

2.

500. 000

ليبيا

750.

000

مصر

15.

000. 000

الحجاز ونجد

5.

000. 000

العراق

3.

500. 000

اليمن

6.

500. 000

سوريا

ص: 53

3.

000. 000

لبنان

900.

000

فلسطين

1.

500. 000

شرق الأردن

300.

000

الكويت

50.

000

جزائر البحرين

120.

000

قطر

150.

000

عمان

500.

000

عدن وحضرموت

500.

000

المجموع

54.

607. 000

مؤلف كتاب المقنع

تفضل الصديق الكريم الأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان فقدّم لي نسخة من كتاب المقنع في مرسوم كلمات القرآن الذي نشره بعد أن صححه وعلق عليه وحققه حسب عادته في جميع ما ينشر من كتب، ومؤلف الكتاب هو الإمام أبو عمرو عثمان ابن سعيد الداني المتوبي سنة 444هـ وألحق به رسالة في النقط والتشكيل تتمة للكتاب للمؤلف نفسه. ولقد كنت أطالع أمس فصلاً في كتاب (ألف باء) للإمام يوسف بم محمد البلوي فرأيته يذكر كتاب

ص: 54

المقنع ويعزوه إلى الإمام أبي عمرو المقري وينتقل عن الكتاب فصلاً في نقاط المصاحف هو نفس الفصل الموجود في كتاب الداني، فكان ذلك باعثاً على الشك في أسم المؤلف. فأنا أشكر للصديق الكريم هديته، وأرجو منه إيضاح هذه الناحية وله مزيد الشكر

(دمشق)

ناجي الطنطاوي

الجمعية الملكية للدراسات التاريخية

أقر مجلس الوزراء المرسوم الخاص بإنشاء الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، وهو مكون من عشرين مادة تتلخص فيما يلي:

تنشأ بمدينة القاهرة جمعية تاريخية تسمى (الجمعية الملكية للدراسات التاريخية) ويكون غرضها تنظيم الدراسات المتعلقة بالتاريخ وتشجيعها، وخاصة التاريخ المصري من نواحيه المختلفة

ولتحقيق أغراض الجمعية:

1 -

تقوم بجمع الأوراق والمذكرات الرسمية وغير الرسمية الخاصة بالتاريخ المصري في مصر والخارج وتنسيقها ووضع فهرس عام للمؤلفات والمطبوعات ذات الاتصال بتاريخ مصر، وعمل مصورات لمصر في عهودها المختلفة ومعجمات تاريخية للمدن والآثار والوقائع الحربية والرجال الذين امتازوا في مختلف نواحي الحياة المصرية

2 -

تنشر مؤلفات وأبحاثاً في الأغراض السابقة وتصدر مجلة دولية تتضمن مباحثها ونواحي نشاطها

3 -

تبذل المساعدات المادية لتشجيع البحث التاريخي والرحلات المتعلقة بالدراسات التاريخية

4 -

تنظم في مصر مؤتمرات ومعارض، وتشترك في مثل هذه المؤتمرات والمعارض في الخارج

5 -

تنظم محاضرات ومناقشات في موضوعات تاريخية

عبد الله بن المبارك في كتاب (فجر الإسلام)

ص: 55

جاء في كتاب فجر الإسلام ص 260 في صدد الكلام عن الوضاعين في الحديث: (وبعضهم كان سليم النية بجمع كل ما أتاه على أنه صحيح وهو في ذاته صادق فيحدث بكل ما سمع فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه كالذي قيل في عبد الله بن المبارك؛ فقد قيل: إنه ثقة صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر) وجاء في هامش الكتاب أن هذا القول في عبد الله بن المبارك وارد في صحيح مسلم

وهنا أخطأ المؤلف في موضعين، الأول: أن الوضّاع في الحديث هو من ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً لم يقله، أما سليم النية الذي يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح وهو في ذاته صادق، فهذا رجل ذو غفلة لا يدخل تحت الوضاعين بحال من الأحوال، فحشره بينهم كما صنع الأستاذ أحمد أمين خطأ بيِّن

الثاني: أنه جعل عبد الله بن المبارك من المحدثين ذوي الغفلة الذين يحدثون بكل ما سمعوه من غير تمييز بين الصحيح والموضوع والغث والسمين؛ واستدل لذلك بالعبارة التي نقلها عن مسلم. وعبد الله بن المبارك من أوائل المحدثين الذين عنوا بنقد الرجال ولم يرووا إلا عن الثقات من الشيوخ، وفي مقدمة صحيح مسلم أمثلة متعددة لعنايته بالنقد وبلائه الحسن فيه. وفي تذكرة الحفاظ للذهبي:(عن إبراهيم بن اسحق قال سمعت ابن المبارك يقول: حملت عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف منهم)، فرجل يسقط من شيوخه ثلاثة أرباعهم لا يروي عنهم لا يصح أن يقال فيه إنه يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح. ومن هنا أجمع الأئمة ونقاد الحديث على إمامته وجلالة قدره، يعلم ذلك من يرجع إلى كتب الرجال. أما العبارة التي نقلها عن مسلم فهي محرفة تحريفاً شنيعاً وأصلها كما في جميع النسخ المطبوعة من صحيح مسلم:(حدثني قهزاز قال: سمعت وهباً يقول عن سفيان عن ابن المبارك قال: (بقية) صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر) فالكلام عن بقية وهو بقية بن الوليد المحدث الحمصي المشهور، والمتكلِّم عنه هو عبد الله بن المبارك. وبقية هذا مشهور بما ذكره عنه ابن المبارك، ففي مسلم بعد هذه العبارة بقليل (عن أبي إسحق الفزار): اكتب عن بقية ما روى عن المعروفين ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين. ونقل الذهبي عن ابن المبارك نفسه أنه كان يقول في بقية: إنه يدلس عن قوم ضعفاء ويروي عمن دب ودرج. فانظر بعد ذلك هل الأستاذ أحمد أمين قرأ عبارة مسلم

ص: 56

بنفسه فأخطأ في فهمها ونقلها وبنى عليها هذا الرأي الخاطئ في رجل كعبد الله بن المبارك؟ أم هنالك شيء آخر؟!

مصطفى حسن السباعي

ذكرى سيد العاشقين

نشرت إحدى المجلات الأسبوعية المصورة فصلاً عنوانه: (ضريح سلطان العاشقين) قالت فيه ما خلاصته:

لعل الكثير من المصريين - إن لم تقل كلهم - لا يعلم أن ضريح الشاعر العظيم عمر بن الفارض موجود في جبل المقطم بالقاهرة قريباً من جامع الجيوشي المعروف في هذا المكان

وذكرت المجلة أن مندوباً لها ذهب إلى هناك فعلم أن المرحومة الأميرة جميلة إسماعيل أرادت قبل وفاتها أن تبني لها ضريحاً فوق الجبل، ولما اختارت المكان لذلك، وجدت أن ضريح ابن القارض مجاور لهذا المكان، فأمرت بتجديده وتشييده، حتى صار عنواناً على الروعة والجلال!

ومن الطريف أن جميع الذين يزورون هذا الضريح من العاشقين والمحترقين بنيران الصبابة، وهناك يشكون إلى إمامهم ما يلقونه في سبيل الحب والهيام، ويرددون ما يحفظون من أشعاره ويكتبونها على جدران الضريح، ويوقعون ذلك بأسمائهم الصريحة

ولا ينسى بعض المستشرقين الهابطين القاهرة أن يزوروا الضريح وينشئوا عنه الأحاديث، ويأخذوا له مختلف الصور. . .

وقد رجت المجلة في نهاية المقال (أن يعني الأدباء والموسيقيون بالعمل على إحياء ذكرى ذلك الشاعر المتصوف)

فيا ترى، هل تجاب هذه الدعوة الطيبة، وهل يعمل أدباؤنا وموسيقيونا، على تحقيقها، فيقضون الواجب عليهم نحو هذا الشاعر الذي خلق أناشيد الغرام، وأنغام العشق والصبابة؟

لقد أحببت الإشارة إلى هذا الموضوع في مجلة (الرسالة) الغراء لأنها مجلة الآداب والفنون، وهي أسير من غيرها بين أهل الفن والأدب. قد يقال إن الحرب تلفتنا عن الاهتمام بمسائل الأدب وشئون الروح والفن، ولكن الواجب أن يعنى بهذه المسائل في مثل

ص: 57

تلك الظروف وأمام تلك القلقلات العالمية لنلفت الناس ولو بعض اللفت عن أحاديث المدفع وأخبار القنبلة والطيارة، وقد ذكر أستاذي الدكتور زكي مبارك أنه كثيراً ما احتفل بذكرى الكتاب والأدباء في ميادين القتال نفسها. . .! فيا ترى. . . هل نشهد عناية من أهل الأدب ورجال الوفاء بهذا الشاعر العاشق المتصوف؟ وهل نراهم يخصون ضريحه - بعد أن عرفوه - بالزيارة والحديث؟!

أحمد جمعة الشرباصي

ص: 58

‌القَصَصُ

حلم ساعة

للأستاذ نجيب محفوظ

من عجيب الأمور أننا قد نحيا الحياة سعيدة نخالها طويلة في حلم قصير الأجل. وما تعتم أن تطرق اليقظة مغلق الأجفان، فينتقل النائم من عالم الأحلام المخدرة إلى دنيا حقائق شديدة الجفاء، وما يجد يده قابضة إلا على هواء. على هذا المثال مضى ذلك اليوم من حياته، كان يوماً أو بعض يوم، ولكن قلبه ذاق فيه سعادة وغبطة، وحَلق في آفاق بعيدة من أحلام المنى، وخفق خفقة فرح سماوي جاز به عالم الزمان والمكان. ثم أدركته يقظة منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد، على نحو بالغ في القسوة والوحشية. . . كيف كان ذلك؟!. . .

كان اليوم السعيد يوم الخميس، وكان الأستاذ بهاء الدين علما عائداً من سماع محاضرة علمية في الجمعية الجغرافية الملكية عن الغدد الصماء؛ وكان يسير في ميدان الإسماعيلية متفكراً في يتلك الأدوات الإنسانية العجيبة المسيطرة على الفرد أيما تسطير، وكيف يزعم العلماء أنهم بالتحكم في إفرازاتها يستطيعون أن يحولوا الطيب إلى شرير، والشرير إلى طيب، والشاعر إلى رياضي، والرياضي إلى شاعر. وكيف يفسرون أخيلة جيتة وأحلام شيلي بعصاراتها المتدفقة في الدم؟. . . وكان رأسه لا يكاد يخلو من أمثال هذه الأفكار، فهي مادة عمله ومادة حياته معاً. وفي الواقع يندر أن تجد بين الشباب المعيدين بكلية العلوم من يناظر الأستاذ بهاء الدين في حبه العلم وحرصه على تحصيله

وكأنما أرهقه القعود والسكون - في أثناء إلقاء المحاضرة - فأحس بارتياح إلى المشي واعتزم السير على قدميه إلى شارع فؤاد الأول، واتجه إلى شارع قصر النيل في خطى وئيدة يدخن لفافة من التبغ ويجتر أفكاره وتأملاته في لذة ويسر، وصادف بلوغه مدخل المكتبة الفرنسية بروز فتاة منها تندفع فيما يشبه العدو، فتوقف بحذر ووجل وتراجع خطوة على عجل، وتوقفت مثله وتراجعت، والتفت نحوها فرآها ترمقه بنظرة ارتباك واعتذار ثم مضت في سبيلها حتى إذا ما حاذته عطفت رأسها إليه بغتة وقد بدا على وجهها التساؤل والحيرة وكأنها تحاول تذكرة ولا تدري كيف، ثم أدركت ما في نظرها إليه هكذا من

ص: 59

الغرابة، فأدارت رأسها عنه وما روت غلة، وقصدت إلى سيارة تنتظر إلى جانب الطريق، فأدرك من أول وهلة أن صورته اشتبهت عليها وعلت لذلك فمه ابتسامة، وأراد أن يستوثق من رأيه فألقى بنظرة إلى السيارة - وكان جاوزها بأمتار - فرآها تتابعه بنظرتها تعلو وجهها آي الحيرة والغرابة. فغمرته موجة انفعال مضطرب لذيذ وتعثر بأذيال الارتباك والحيرة. ثم تحركت السيارة مندفعة في الاتجاه الذي يسير فيها وما تزال صاحبتها ترنو إليه خلل زجاج النافذة بنظرة تحير بماذا يصفها. . . ودية! حنون؟. . . حتى باعدت بينهما المسافة. . .

وعجب الأستاذ أيما عجب، على أن عجبه كان شيئاً يسيراً إلى ما أحس به ساعتئذ من ثورة الوجدان، وكانت الفتاة شابة حسناء مدمجة الخلق، مرتوية الساقين، فاتنة القسمات، يزين وجهها عينان زرقاوان لنظرتهما وقع السحر في الحواس والقلب والأعصاب. فانبعث في قلبه خفقان واضطراب، وشعر بنشوة رائعة، ثم لسعته حسرة أليمة، حسرة محروم طال عهده بالحرمان وكانت حياته في الواقع خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس، لأن تفانيه في طلب العلم لم يدع له وقتاً لشيء سواه، ولعيبين طبيعيين كبرا في وهمه واشتدا على نفسه، إذ كان يترامى إلى أذنيه أنه ثقيل الظل، وكان إلى هذا عيباً حصوراً لا يكاد يبين، فلم يكن في وسعه قط أن يحسن خطاب فتاة فضلاً عن أن يغازلها. ودعاه هذا وذاك إلى النفور من الحسان. وإلى ما يشبه الخوف منهن. وحز لذلك الألم في نفسه وسكب في قلبه امتعاضاً ومرارة، فتبدى عليه الجفاء والوحشة، واضطرب عهداً طويلاً يائساً بين الرغبة في الحب والخوف من المرأة، والتشوف إلى النساء والحقد عليهن. فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهب عليه من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسه الظمآنة ويندى بها قلبه الجاف ولكنه ارتواء كالظمأ وندى أشد حرقة من الجفاف. فتحير وتعجب وتساءل وهو يقلب كفيه: ترى ما خطب هذه الفتاة؟. . . وما معنى هذه النظرة الفاتنة التي أذابت الوجد والهيام والحنو المتجمدة في قرارة نفسه؟. . . إنه لا يعرفها على وجه اليقين ولا يذكر أنه رآها من قبل، وهي بغير ريب لا تعرفه أيضاً، فلا هي قريبة ولا جارة ولا طالبة بكلية العلوم، ولعله التبس عليها شبهه، ولكن كيف طال بها الشك تلك المدة السعيدة التي أدامت فيها النظر إليه؟!. . . ومضى يتفكر تنقله الحيرة من فرض إلى فرض وقد

ص: 60

انشغل عن الغدد والكيمياء جميعاً. . .

وكان في عزمه أول الأمر أن يعود إلى بيته فيستمع إلى المذياع ساعة ويطالع ساعة قبل النوم. ولكن عافت نفسه ذلك ومضى ويضرب في الأرض على غير هدى تاركا محرك خياله للخواطر السعيدة والأحلام اللذيذة والأوهام المخدرة حتى أعياه التعب وتعناه المشي؛ وكان سرى عنه بعض الشيء وأخذ يفيق من أثر النظرة، فاتجه إلى قهوة روجينا وجالس بعض صحبه حتى شارفت الساعة التاسعة. ثم خطر له أن يقضي سهرة المساء في سينما رويال - وكان قليلاً ما يجذبه مزاجه إلى ذلك - فسار بلا تردد إلى السينما وابتاع التذكرة. وكان يكره الانتظار جالساً فدلف إلى الصور المعلقة بالردهة الخارجية وقلب فيها عينيه، ثم أولاها ظهره ملالاً وأرسل بناظريه إلى مدخل السينما يشاهد جمهور الداخلين. فرأى سيارة فخمة تقف أمام مدخل السينما، وفتح بابها ونزلت منها سيدة بدينة بادية النعمة والثراء تبعتها على الأثر فتاة حسناء انخلع لرؤيتها قلبه في صدره وأحس بفرح عجيب تمازجه دهشة، فلم تتحول عنها عيناه. وفاته في ذهوله أن يرى ضابط بوليس شاب يبرز من الباب الثاني للسيارة ويدور حولها بسرعة ويلحق بالسيدة والفتاة. وانعطف رأس الفتاة إليه - وكانت فتاته دون سواها - كأنما جذبتها قوة بصره المشوق فالتقت عيناهما، ولاح على محياها الجميل الاهتمام والدهشة ورقت نظرتها بالحنان الذي حيره وفتنه منذ حين. فتبعها في خطى مضطربة ملبياً نداء وقوة عاتية. وصعدت الفتاة مع الصاعدين إلى الطابق الثاني فوقف في الردهة يتابعها بعينيه. ورآها قبل أن يغيبها عن ناظريه منعطف السلم تلقي عليه نظرة أخرى. . . يالها من نظرة. . . فاستخفه طرب جنوبي عذب لا يتأتى لغير الموسيقى وصفه. واندفع إلى الداخل لا يلوي على شيء، فلما اطمأن به مقعده مضى يصعد نظره في (الألواج والبناوير) باحثاً عن الوجه الحبيب ذي النظرة الفاتنة الحنون. حتى وجد ضالته في (البنوار) رقم (3)، وكانت تتقدم السيدة لقامتها الهيفاء. والتقت نظرتها بوجهه هذه المرة أيضاً، وكأنها كانت تتوقع أن تجده مجداً في العثور عليها فارتسم على شفتيها القرمزيتين شبه ابتسامة أضاء لها وجهها بنور بهي. وجلست وهي ترنو إليه بعينيها فبدت وهي تنحني قليلاً وكأنها تحنو عليه. وأنقذه من سعادته، التي لا تحتمل، انطفاء الأنوار وانهماك الشاشة في عرض أخبار الدنيا. . . كان قلقاً مجنوناً إلى غير حد، فرحاً سعيداً بغير حساب، يشعر

ص: 61

برغبة عنيفة لا يدري ماكنهها إلى القتال أو الرقص أو الصياح أو البكاء، وتندت أهدابه بدمعة أحس بتفجرها من أضلعه. كان بمعنى آخر عاشقاً يتلقى قلبه لأول مرة أمواج الحب الكهربائية الغامضة غموض الأثير. وأغمض عينيه في الظلام وهو يتنهد في ارتياح وغبطة مستسلماً للذة الأحلام. وتساءل في استسلامه السعيد: ترى ما الذي ساقه هذا المساء إلى السينما ولم يكن أعد نفسه لذاك؟. . . إن كل شيء يبدو وكأنه يؤكد أن القدر يرسم خطة رائعة بدأها في شارع قصر النيل وما زال ينسج فصولها في سينما رويال. نعم إنه لم يرها عبثاً، ولن تلتق عيناهما مصادفة؛ كلا، ولم يأت إلى السينما اتفاقاً. ولكن الحب يخلق الحوادث والظروف، وإلا فما معنى هذه الحلقة المتقنة؟! وما معنى هذه النظرة الحنون العذبة التي دل تكرارها على أنها مقصودة!؟ أليس هذا الذي يسمونه الحب من أول نظرة؟. . . بلى، هو هو. . . ويشهد عليه قلبه ومشاعره ونظرتها الفتانة النافذة التي لن يمحى أثرها من نفسه. كيف حدث هذا. . . هل كان القدر في قسوته عليه وازوراره عنه يدخر له هذه المفاجأة السعيدة وهو لا يدري؟. . وهل وُجدت أخيراً من لا تستثقل ظله كما يستثقله كثير من الناس. . . ومن تتعرف نفسه بالنظرة الملهمة لا بتغرير الألفاظ وسحر البيان؟. . . كم سخط على الدنيا ظلماً؛ وكم أدان القدر جهلاً. . . والساعة الساعة ينتهي الجفاء وتتبدد الوحشة، ويندى قلبه المحروم ويرطب قلبه اليابس. وفكر الأستاذ بهاء الدين مع ذلك في أمور غاية في الأهمية والجد تناولت حاضره ومستقبله، ولم يفته أن يحسب حساب الوسيلة إلى التعرف والخطبة، ولا فاته - في تلك الساعة - أن يقدر المهر ويحدد تاريخاً للزواج السعيد. . .

ولم يحس بالوقت كالسعداء. وجعل يتأمل بعين مخيلته الوجه النضير والنظرة النافذة إلى القلوب، مستسلماً للأحلام استسلام الحران إلى برد النسيم حتى ظن أن أشهى الأماني دانية لا تكلفه إلا أن يمد يده فيقطفها في يسر واطمئنان

وانتهت الشاشة من عرض فصولها الأولى، وأضيئت الأنوار، ففتح عينيه وكأنه يصحو من نوم سعيد. وصعد رأسه إلى (البنوار) رقم 3، فرأى فتاته في أجمل صورة ترمقه بنظرتها الفاتنة كأنما كانت تنتظر انقشاع الظلمة مثله، ورآها تميل برأسها نحو السيدة البدينة - التي تدل الظواهر على أنها أمها - وتهمس في أذنها، ثم شاهد السيدة تنظر إلى أسفل

ص: 62

باحثة بعينيها حتى استقرتا عليه. . . فارتبك وتعجب وتساءل ترى لماذا تدل أمها عليه؟. . . على أن عجبه ازداد إلى غير حد، لأنه رآها تعطف رأسها إلى الوراء وتحادث شخصاً لا يرى سوى أعلى طربوشه. ومال هذا الشخص إلى الأمام ونظر صوبه وكان ضابط البوليس. فلم يستطع أن يديم النظر إلى أعلى وأدار رأسه إلى الأمام. ولكنه تذكر هذا الضابط، وذكر أنه كان من زملاء فرقته في الخديوية، وأنه يدعى علي سالم، وأنه كان مبرزاً في الألعاب الرياضية، وظن أنه أخو الفتاة، ولكنه تحير في فهم الدواعي التي بعثتها إلى توجيه الانتباه إليه بكل جسارة، وفيما عسى أن تكون حدثتهما به عنه. . . وغلبه الشوق وحب الاستطلاع فرفع بصره إلى (البنوار) مرة أخرى فرأى الوجوه الثلاثة محدقة فيه. وخيل إليه أن زميله القديم يحييه، فلم يصدق بصره وظل جامداً لا يتحرك، فأعاد الضابط تحيته برفع يده إلى رأسه ورد عليه الأستاذ التحية مرتبكا، وشاهده يدعوه أن يصعد إليه، فخفق قلبه خفقة عنيفة وقام واقفاً وقد لفته الدهشة والارتباك، وغادر المكان في ذهول شديد، وصعد السلم والتقى بصاحبه عند مدخل (البنوار) واستقبله هذا استقبالاً ودياً وشد على يده بحرارة - ولعله فعل ذلك ليطرد عنه الدهشة والارتباك - ثم أوسع له وهو يقول هامساً: (تعال أقدمك إلى أهلي، ووجد نفسه في البنوار أمام السيدة والفتاة الجميلة. وقال الضابط يقدمها له وهو يشير بيده:

(حرم الأميرالاي محمد جبر بك. الآنسة زينب كريمتها وخطيبتي)

ثم التفت إليه وقدمه لهما مكتفياً بذكر اسمه وزمالته القديمة لأنه كان يجهل حاضره. ودوت كلمة (خطيبتي) في أذنه دوياً مزعجاً أطفأ نشوة الفرح في حواسه جميعاً وسكب مكانها خيبة مرة، فجلس كما طلب إليه ذاهلاً مرتبكاً قانطاً عاجزاً العجز كله عن حصر انتباهه فيما حوله، وكانت السيدة ترحب به وتشارك الضابط في التودد إليه ومجاملته ولكنه لم يدر مما قالا شيئاً، واكتفى بانتزاع ابتسامة مغتصبة من شفتيه يرد بها عليهم رداً صامتاً كئيباً. وكان يتخبط في حيرة عمياء، لا يدري لماذا دلت الفتاة عليه، ولا كيف دعاه زميله، ولا لأي سبب عرفه بهما وعرفهما به. . . ولاحت منه نظرة إلى الفتاة، فوجدها تبتسم إليه ابتسامة حزينة، فشعر بامتعاض، ووجه عينيه إلى أمها كأنما يفر منها فراراً، فرأى المرأة ترنو إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، فازدادت دهشته وبدا عليه الانزعاج، والتفت إلى

ص: 63

صاحبه متسائلاً متحيراً. ودق الجرس في تلك اللحظة منذراً بإطفاء الأنوار، فقام الشاب واقفاً وأحنى رأسه محيِّياً، ودعته السيد إلى زيارة البيت، فوعدها قائلاً:(إن شاء الله) وهو لا يعني ما يقول. وغادر (البنوار) ولحق به صاحبه، وكان يدرك ما يقوم بنفسه من الدهشة والانزعاج، فقال له وهو يشد على يده مودعاً:

(إني آسف جداًّ على ما أحدثته دعوتي لك من الارتباك والانزعاج، وحقيقة المسألة أنك تشبه شبهاً عجيباً ابناً شاباً فقدته هذا الأسرة منذ عامين. ولعل هذا يفسر لك كل شيء أيها الصديق. . . . . .)

وهبط السلم في خطى بطيئة جدا. وكان يتوقف كل درجتين ويتأمل فيما أمامه بعينين لا تريان شيئاً، وعلت شفتيه الشاحبتين ابتسامة هازئة مريرة وقد بدا له كل شيء كريهاً كئيباً تعافه النفس. . . . . .

نجيب محفوظ

ص: 64

‌نهاية التنكر

بقلم استيفن ليكوك

ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار

كان رئيس البوليس السري جالساً إلى مكتبه، وأمامه وجوه مستعارة وشوارب ومناظير مستعارة كذلك مختلفة الأشكال فهو في أقل من ثانية يستطيع التنكر

ووضع قليلاً من مسحوق أبيض في كوب من الماء وتجرعه، وفي هذه اللحظة طرق باب حجرته طارق، فخبأ المسحوق في درج مكتبه ووضع على شفته العليا شارباً أسود، وأذن للطارق بأن يدخل، ولكنه لما رآه وتبين أنه سكرتيره أعاد الشارب إلى مكانه وهو يقول:

- أهذا أنت؟ ماذا لديك من الأخبار؟

فأجابه سكرتيره:

- عندي مسألة في نهاية الغموض وفي نهاية الأهمية لعلاقتها بدولة أجنبية، ويخشى إذا لم يستطع البوليس حلها أن تنشب حرب طاحنة

قال رئيس البوليس السري:

- وهل تكون المسألة بهذه الدرجة من الأهمية ويعجز بوليس لندن عن حلها؟ قل لي، هل تتعلق بالبرلمان أم الوزارة أم ماذا؟ فأجابه سكرتيره:(هي تتعلق بمن لا نكاد نجرؤ على النطق بأسمائهم ولها مساس بالسياسة الدولية وأخشى أن تحدث بشأنها حرب عالمية)

قال رئيس البوليس: (إذن فأخبرني بما عندك من التفاصيل)

فأجابه السكرتير: (لقد اختطف البرنس ورتمبرج)

وقف رئيس البوليس السري منزعجاً وقال: (لقد سمعت كثيراً عن هذا الأمير وأعتقد أنه من أسرة البوربون. إنك محق بلا شك فإن وراء اختطاف الأمراء أمراً شديد الخطورة)

فأخرج السكرتير من جيبه رسالة برقية وقدمها لرئيسه وهو يقول: (هذه رسالة رئيس البوليس في باريس)

فتناولها وقرأها وهذا نصها: (لقد اختطف البرنس ورتمبرج والأرجح أنه نقل إلى لندن. يجب أن يعاد إلى باريس قبل يوم المعرض. الجائزة ألف جنيه)

قال الرئيس: (لابد أن يكون المعرض دولياً ولا بد أن يكون لاشتراك البرنس فيه مغزى

ص: 65

سياسي، فهم لذلك يختطفونه. أكتب برقية في الحال إلى باريس طالباً وصفاً دقيقاً للبرنس)

فأحنى السكرتير رأسه وخرج. وفي اللحظة نفسها طرق الباب طارق ولكنه دخل بغير استئذان

ولما التفت رئيس البوليس كان الزائر قد توسط الغرفة. ولما عرفه وقف مذعوراً وقال:

- رئيس الوزارة الإنكليزية! ما الذي تأمرون به يا صاحب الدولة؟ أظنكم جئتم من أجل البرنس ورتمبرج؟

قال رئيس الوزارة: (كيف عرفتم؟ لقد أتيت من أجل هذا السبب فابحثوا عن الأمير ولكم جائزة غير التي تعرضها فرنسا ولكن أهم من العثور عليه ومن إعادته ألا يمس أحد شعره أو أذنيه فإنه لا فائدة من إعادته إذا قص شعره أو قطعت أذناه)

دارت رأس الشرطي ولم يكد يفهم معنى لهذا التحذير. ولكنه أجاب على وجه التأكيد: (يا صاحب الدولة سيعاد دون أن يمس بسوء)

وهنا طرق الباب ودخل زائر آخر بغير استئذان، وهو كبير البطن عليه عباءة حمراء، فاشتد انزعاج رئيس البوليس ووقف وهو يقول:(رئيس أساقفة كونتريرى! تفضلوا بالجلوس يا صاحب النيافة. . . لابد أن يكون مجيئكم من أجل البرنس ورتمبرج؟)

فأشار رئيس الأساقفة على نفسه إشارة الصليب، ولم يسره كثيراً أن يعرف رجل البوليس السري الأمر الذي جاء من أجله كأنه من المشتغلين بالسحر. وقال:(نعم لقد جئت من أجله لأن أختي مهتمة أشد الاهتمام بالعثور عليه، فقد راهنت عليه بعشرة آلاف جنيه. على أن أهم من وجوده في نظرها ألا يقص شعره ولا تشوه خلقته ولا تزال العلامات الخاصة به. . .)

أظهر رئيس البوليس اهتماماً شديداً لمّا سمع أن الكونتس داسليغ أخت رئيس الأساقفة مهتمة بالبرنس ووعد بأن يبذل كل عنايته. وفي الحال دق الباب مرة ثانية ودخلت الكونتس فابتدرها رئيس البوليس بقوله: (. . . وأنت أيضاً أتيت من أجل البرنس ورتمبرج؟)

فقالت: (لقد اختطف هذا الكلب المسكين وأنا مهتمة به أشد الاهتمام)

ارتاع رئيس البوليس من ذكر كلمة (كلب) ولكنه تذكر أنها دوقة تحاول إنقاذ حياة أمير فلا

ص: 66

بد أن تكون العلاقة بينهما علاقة حب، وقد يكون من مقتضيات هذه العلاقة في بعض الأحيان أن تصف المحبة حبيبها بأنه كلب. وقال ليتعرف كنه العلاقة بينهما:(هل أنت تحلفين به كثيراً؟)

قالت بلهجة التعجب: أحفل به؟ إنني ربيته

فغير رئيس البوليس السري رأيه في الحال وقام بروعه أنه ابنها وليس حبيبها كما كان يظن. وقالت الكونتس: (وفضلاً عن ذلك فإني راهنت عليه بمبلغ عشرة آلاف جنيه، ولكن أحذرك من أن يقصوا شعره أو يغيروا شيئاً من صفاته)

كان رئيس البوليس لا يزال في حيرته من كون هذه الدوقة أماً لأمير من أمراء البوربون، ولكن كل شيء محتمل في الحياة وأدرك أن المؤامرة لابد أن تكون كبيرة الأهمية لأن في نجاحها كشفاً لأسرار خطيرة بين الأسرة المالكة

وخرج رئيس الوزارة ورئيس الأساقفة وأخته معاً. وبعد لحظات من خروجهم تلقى رئيس البوليس برقية من باريس بصفات الأمير المفقود، فلم تزده هذه البرقية إلا ارتباكا، وفيها أن جسمه طويل وإن شعره أسود كثيف وأن أذنيه طويلتان وأن وصوته عميق

قال لسكرتيره: (قل لي بالله كيف يمكن أن نهتدي إليه، وهذه صفاته كلها مبهمة؟)

وقبل أن يجيب السكرتير على سؤال الرئيس وردت برقية من باريس لم تزدهما إلا ارتباكا، وفيها أن أهم صفة بارزة للبرنس ورتمبرج أن في وسط ظهره خصلة بيضاء من الشعر

قال الرئيس: (على كل حال يجب أن نبحث عنه على أساس هذه الصفات، ولا بد أن يكون الأمير شاباً أولاً، لأن الدوقة دعته كلباً، وثانياً لأنها ربته فلنبحث عنه في مجتمعات الشبان.

وتنكر رئيس البوليس وبدأ بحثه

وفي الأربعة الأيام التالية زار كل مكان من لندن ودخل كل مشرب وكل مكان عام. وكان في بعض المشارب يدخل متنكراً في زي بحار، وفي البعض الآخر يدخل متنكراً في زي جندي، وفي غيرها يتنكر في زي قسيس، وفي غيرها يتنكر في زي أجنبي ولم يعباً أحد به، ولم تسفر مباحثه عن نتيجة

وألقى القبض على رجلين لاعتقاد أن كلا منهما هو الأمير، ولكن أطلق سراحهما في الحال

ص: 67

لما ثبت من أنهما سواه

واستأنف رئيس البوليس السري مباحثه وزار بعد منتصف الليل سراً منزل رئيس الوزارة وفحصه غرفة غرفة، وزار بيت رئيس الأساقفة وبيت الدوقة، وهناك وجد ما حل الألغاز التي كانت مستعصية على كل طرق الحل. . . وجد صورة معلقة على الحائط، وقد كتب تحتها اسم الأمير ورتمبرج، ولكن الصورة كانت مع الأسف صورة كلب حقيقي، وقد توافرت فيه كل العلامات التي ذكرت في برقيتي باريس

صاح رئيس البوليس بسكرتيره: إن البرنس ليس إلا كلباً

ثم هرع كلاهما إلى خارج المنزل والسكرتير يقول لرئيسه: (ألم تصرح لنا الدوقة بأنه كلب؟. . . على أن كل الصفات لم تكن لتنطبق إلا على الكلاب. . . أليس في وسط ظهره خصلة من الشعر الأبيض بين شعره الأسود؟ أليس يراد قبل المعرض؟ أليس هو موضع المراهنة؟)

وفي اليوم التالي ذهبا إلى الدوقة فوجداها على أشد حالات الانزعاج وقالت: (هل علمتما؟ لقد عرفنا مكانه ووجدناهم قد قصوا شعره وقطعوا أذنيه وغيروا علاماته التي كان ينتظر أن ينال بواسطتها الجائزة الأولى، وقد ضاع المبلغ الكبير الذي راهنت به عليه)

قال رئيس البوليس السري:

- لا تحزني يا سيدتي فإني سأحصل على الجائزة الأولى فأتنكر وفقاً للوصف الذي وصل إلينا في شكل كلب فأحصل على تلك الجائزة. إنني سأحضر المعرض فأربح الرهان، ومن أمهر مني في التنكر؟!

وفي الليلة التالية أرسل رئيس البوليس السري إلى باريس متنكراً في شكل كلب تنطبق عليه جميع العلامات المميزة للبرنس ورتمبرج

قال كل من في المعرض: (ما أجمل هذا الكلب وما أذكاه!) وكان الشبه شديد الإحكام بينه وبين الكلب المفقود ونال الجائزة الأولى. ولكنه فاته مع الأسف أن يحصل لنفسه على رخصة كلاب من بلدية باريس فلم يكد يخرج من المعرض حتى التقطته عربة الكلاب فأعدم عصر ذلك اليوم

على أن هذه النهاية بالطبع ليست ضرورية في صلب القصة وإنما هي عرضية يجب أن

ص: 68

تذكر على أثر نجاحه في نيل الجائزة

عبد اللطيف النشار

ص: 69