المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 368 - بتاريخ: 22 - 07 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٦٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 368

- بتاريخ: 22 - 07 - 1940

ص: -1

‌بين المهاجرين والأنصار

كان من أثر الفزّعة الشديدة التي نالت الناس من الغارات الجوية الإيطالية أن لجأ سكان العاصمة والثغور، إلى القرى والعزب والكفور، يلتمسون الأمن في ظل الريف الوريف، وينشدون الهدوء في حِضن الطبيعة المشْبل

وكان الطيار الذي يحلق ذات صبح من هذه الأصباح المضطربة، في سماء مصر المشرقة المخوفة، يرى الطرق الرئيسية تسيل بحاملات الأنفس وناقلات المتاع بين القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد، فلا يجد نوعاً ولا شكلاً من عربات النقل أو الركوب التي تسيرها الأحصنة الحيوانية أو الميكانيكية إلا جُمع لهذه الهجرة التي لم تر مثلها مصر في ماضيها الطويل!

هذه سلاسل من عربات النقل تجرها الخيل أو الحمير فتسير على يمين الطريق وئيدة الكرِّ تقعقع عجلاتها مخنوقةً في التراب، وتجلجل أجراسها خافتة في الجو من ثقل ما تحمل من الأثاث و (الكرار) والماعون. . .

وهذه قوافل من اللوريات المكشوفة والمغطاة موقرةً بالأثاث الفخم والرياش الثمين، تهتلك دُروجاً في وسط الطريق المترِب فتثير غماماً من الغبار الخانق يحجب وراءها الأشخاص والأشياء إلى مسافة بعيدة

وهذه أرتال السيارات المملوكة أو المأجورة تَشْرَق بمن فيها من النساء والرجال والأطفال، وهي تنتقل من الوسط إلى الشمال، لتخطف طريقها من الكميونات العنيدة

ولدى كل نقطة من (نقط المرور)، وعلى كل رأس من رءوس الجسور، طوائف من القرويين والقرويات، يُلوِّحون بالفواكه والمرطبات، فلا يكاد المهاجرون المفزَّعون يحسونهم، لتوزع قلوبهم بين أهوال الحرب المتوقعة، ومخاوف الحياة الجديدة

أشرقت القرى العوابس بألوف من ناشئة النعيم المدني ذوي الوجوه الرفافة والأطراف الناعمة والطرر المصفوفة والبنائق المفوّفة والطرابيش القانية؛ وألوف من نابتة المطبخ الحضري ذوي الوجوه المطهمة واللغاديد الضخمة والبطون الشحيمة والجسوم الرهلة؛ وازدانت الأكواخ والمصاطب وحواشي البرك وحفافي السكك برواد الكنتننتال والكرسال وسان جِمس؛ واعترى القرى بادئ الأمر من التزابل والانزواء ما يتعرى القروية إذا رأت أحد الأفندية على حين فجأة. ثم أدرك القروين أنهم ملاذ هؤلاء الضيوف فاستشعروا قليلاً

ص: 1

من الجرأة، فخالطوهم وباسطوهم حتى ارتفعت الكلفة بين أهل المهجر وأصحاب الدار، وأصبح بينهم من التعاون والألفة ما كان بين المهاجرين والأنصار

وفي سقيفة من شجر الصفصاف وحطب القطن، بين تل من تلال السماد الطري، ومستنقع من آسن الماء الوَحِل، جلس ذات يوم جماعة من المهاجرين بعد شهر من الهجرة وقد حف من حولهم رجال القرية بين مضطجع فوق الحصا، ومحتبٍ بحضيض التل، ومستند إلى جذع الشجرة. وكان كل رجل من هذه الجماعة قد نال من جسمه الشحوب، وشاع في نفسه السأم، وانتشر على جبينه الأبلج حَبَر البراغيث والبعوض، فهو يتكلم من غير شهوة الكلام، ويجيب من غير تفكير في الجواب، ثم يذهل ذهول شارب الأفيون فلا كلمة ولا حركة. ولكن الشيخ السنطاوي، وهو رجل أزهري الثقافة سليط اللسان جرئ القلب، أراد أن يشفي صدور الفلاحين من هؤلاء المترفين الذي سلبوهم نعمة الله وراحة الدنيا وحق الحياة؛ فقال في خبثه المعهود يسأل أحدهم وهو من الملاك الغِلاظ المتأبهين:

- لعلك سعيد يا بك بجمال الطبيعة وبهجة الحقول وصفاء الهواء وهدوء القرية!

ولم يكد الشيخ يتم حتى تحرك ساكن القوم، ثم جاشت حركتهم حتى فارت على ألسنتهم خليطاً من الكلام فيه الضجر والسخر والملام والسب، قالوا:

- أين الجمال وهذه المزابل والزرائب والخرائب والبرك تقذي الأعين؟ وأين البهجة وهذه الأجسام الضاوية والثياب البالية والمساكن التي في بطنها الوحل وعلى ظهرها الروث تقبض الأنفس؟ وأين الصفاء وهذه الدور المنتنة والأزقة القذرة والمراحيض المكظومة تسمم الأبدان؟ وأين الهدوء وطنين البعوض والذباب، وتجاوب الكلاب والذئاب، ونقيق الضفادع، ونهيق الحمير، وصراخ الأطفال، تؤلف جوقة من الموسيقى الشيطانية تحطم الأعصاب؟

إن القرية الأوربية خميلة من خمائل الفردوس فيها متعة الحس والعقل والجسم؛ وكان الظن بالقرية المصرية أن تكون قريبة الشبه بتلك. فلما رأيناها أنكرنا أن يكون سكانها من الناس، لأنهم يأكلون ما تعافه الكلاب في المدن، ويشربون ما لا يجوز أن نغسل به الأقدام في المدن، ويعانون من مختلف الأمراض في القرية الواحدة، ما لا يجتمع مثله إلا في المستشفيات المتعددة. فنحن بهجرتنا إلى القرية قد فررنا من موت متوقع إلى موت محقق.

ص: 2

لذلك عقدنا العزم على أن نعود إلى القاهرة؛ فإن الموت بالشظايا على دفعة، أخف من الموت بالجراثيم على دفعات

فما كان جواب الشيخ والذين معه إلا أن قالوا بلسان واحد: الحمد لله الذي أراكم بعد العمى، وأنطقكم بعد البكم! لقد خطبنا حتى نشف الريق، وكتبنا حتى جف الحبر، فلم تصدقوا أنكم عمرتم المدينة وخربتم القرية، وأبطرتم الباشا وأفقرتم الفلاح، واتخذتم من عرقنا ودمنا أفناناً من لذائذ البطن أعلاه وأسفله، حتى ضوينا وسمنتم، وفزعنا وأمنتم، وكانت بلية كل أولئك على الإنتاج والدفاع!

ثم افترقوا، هؤلاء ساخطون، وأولئك قانطون! فعسى أن يلتقي هذا السخط وذلك القنوط عند معالي وزير الشؤون الاجتماعية!

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

الكتيبة الأدبية - دمياط والمنصورة - اكحلوا عين الزمان بمرود الحياة - يا ليل يا عين، ثم يا ليل يا عين، وللأستاذ فكري أباظة أن يقول ما يشاء!

الكتيبة الأدبية

في اليوم الثالث من شهر يونية قدَّمتُ إلى وزير المعارف السابق معالي النقراشي باشا اقتراحاً أدعو فيه إلى تأليف (كَتيبة أدبية) من رجال المعارف يتطوع فيها المدرسون والمفتشون، وتكون مهمتهم تقوية الروح القومي وحراسة العزيمة الوطنية من عدوان الأراجيف، بما ينشرون على صفحات الجرائد والمجلات، وبما يذيعون من خطب ومحاضرات. ثم قلت:

(ولي مَطلبٌ أوجهه إليك: وهو أن تدعو رجال الأقلام من وقت إلى وقت، لتشير عليهم بما تراه في تسديد العزائم الوطنية، ولتشعرهم بأن الدولة ترى أن القلم من أدوات الجهاد)

وقد أشَّر النقراشي باشا على هذا الاقتراح بعبارة كريمة من عبارات التأييد والتشجيع

ومضيت أفكر في تكوين تلك الكتيبة على مَهَل، ولكني سارعتُ فنشرت في المقطم والأهرام مقالات حماسية في نطاق الغرض الذي دعوت إليه، راجياً أن يكون في ذلك تمهيد لتكوين (الكتيبة الأديب) وتذكيرٌ لأهل الأدب بواجبهم في هذا الميدان

في الأسبوع الماضي وجه الأستاذ أحمد أمين دعوة إلى الكتَّاب على صفحات (الأهرام) يقول فيها إنه يرجو من أرباب الأقلام أن يتناولوا بعض المشكلات الحاضرة بالدرس فيتحدثوا عن الهجرة إلى الريف، وتنظيم الشؤون الاقتصادية بما يضمن السلامة من القلقة التي تحدثها الحرب، إلى آخر ما نص عليه من المسائل التي تستوجب الدرس، فردَّ عليه الدكتور طه حسين في اليوم التالي بمقال صرح فيه بأن الجرائد تحت رقابة الأحكام العرفية، وأن الكاتب لا يملك من الحرية ما يساعد على درس تلك المشكلات بصراحة، وعدّ السكوت تضحية! فعجب الأستاذ توفيق الحكيم من ذلك وكتب يقول: إنه لم يكن يعرف قبل اليوم أن السكوت من التضحيات. فوخزه الدكتور طه وخزة أليمة جاء فيها أنه يدعو إلى الأدب الرخيص في حين أن الأستاذ أحمد أمين كان يدعو إلى الأدب الثمين! وانزعج

ص: 4

الأستاذ توفيق الحكيم فكتب يرجو الدكتور طه أن يعد الكتابة في تقوية الروح الوطني من الأدب الرفيع، لأنها على كل حال مما يدعو إليه الواجب في هذه الظروف!

أولئك كتّابنا الأماجد، وهم قومٌ يمزحون في غير أوقات المزاح!

فالأستاذ أحمد أمين في يده مجلة أسبوعية وكان يقدر على معالجة تلك الشؤون منذ اليوم الذي نعب فيه نفير الحرب، وقد كان مفهوماً أن الحرب لن تترك مصر بلا إيذاء، فما الذي قهره على السكوت إلى اليوم، إلا أن يكون تذكر فجأة أن الدنيا فيها أشياء غير الحديث عن أدب المعدة وأدب الروح

وأحمد أمين الغيور على الريف هو نفسه أحمد أمين الذي صرح في إحدى مقالاته بأن الموت بالقنابل في القاهرة أفضل من الموت بالميكروبات في الريف، وذلك إيحاءٌ أثيمٌ سيَلقى عليه (أطيب الجزاء) بعد حين

أفي الحق أن الريف ليس فيه غير الميكروبات، وكيف أمكن إذاً أن تعيش كل تلك الخلائق في الريف؟ وكيف عاش آباؤنا وأجدادنا جميع تلك العصور الطوال؟

تلك وسوسة سخيفة لا تبلبل غير المتحذلقين. ولو أنصف أحمد أمين نفسه وقلمه لقال إننا فرطنا كثيراً في حق الريف، ومن الواجب أن ننتهز هذه الفرصة لنرجع إليه بالتحسين والتجميل، عساه ينسينا ما تعودناه من القرار الراكد في الحواضر أيام الصيف

والدكتور طه حسين أمره عَجَب: فهو يدَّعي أن الرقابة لا تسمح له بشيء، ويدافع عن كسله بأن البرلمان يلجأ في بعض الأحايين إلى عقد جلسات سرية، فمن حقه أن ينتظر إلى أن تنتهي الحرب ويستطيع الكتاب أن يقولوا ما يشاءون!

ومن الذي يضطر الدكتور طه إلى الوقوف عند درس المسائل التي لا يعرض لمثلها البرلمان إلا في جلسات سرية؟

أتكون كل مشكلاتنا القومية من اقتصادية واجتماعية وسياسية مشكلات لا يتحدث عنها الناس إلا في الخفاء؟

أيؤمن الدكتور طه بأن من المحرَّم عليه أن يتحدَّث في الشؤون التي تصور مستقبلنا بين أمم الشرق وأمم الغرب؟

أيعتقد أن الحديث عما نفترض لمصر من المصاير الاجتماعية والاقتصادية بعد الحرب أمر

ص: 5

قد يستوجب الوقوف أمام المحكمة العسكرية؟

وما هذه الذي يدَّعيه الدكتور طه حين يقول بأن الكتابة في تقوية الروح الوطني من الأدب الرخيص؟ ومن الذي أوحى إليه هذه الحكمة (الغالية)؟ وعمن أخذ القول بأن الحديث في تقوية الروح الوطني هو المقصود بالحديث المعاد الذي نهى عنه الحكماء؟

لقد دافَعَ توفيق الحكيم عن هذه القضية، ولكن توفيق الحكيم رجلٌ قصيرٌ ونحيل ولا يَقدر أبداً على صدْ غارات طه حسين

للدكتور طه أن ينسحب من الميدان بحجة أنه مشغول بشواغل أدبية تصرفه عن الحرب وأخبار الحرب وما يجب على مصر أيام الحرب. ولو قال ذلك لكان له عذرٌ مقبول، فالدولة تُطالب كل رجل بالتفرغ لما يصلُح له من الأعمال، والأديب الذي يُشغل بالأدب الصَّرف أيام الحرب هو أيضاً من المجاهدين، لأن الجهاد في سبيل الوطن له ميادين مختلفات، منها ميدان الأدب الصرف الذي يُنسى صاحبه أنه يعيش في غَمَرات الحرب. وقد اتفق للدكتور طه في أحيان كثيرة أن يتناسى المكاره القومية ليتفرغ لعلمه الأدبي بالجامعة المصرية، فما لامَهُ على ذلك لائم، ولا اتّهمه أحد بالجبن عن الاستجابة لنداء الواجب الوطني، لأن الوطن يعرف أن المتفرِّغ للأدب الصِّرف هو أيضاً جنديٌ في الميدان، وإن لم يحمل السلاح ويتقدم للقتال

ولكن الدكتور طه يأبى إلا أن يقع في خطيئتين: خطيئة الدعوة إلى السكوت عن درس المشكلات القومية إلى أن تنتهي الحرب، وخطيئة السخرية من الكتابة في تقوية الروح الوطني بحجة أنها من الأدب الرخيص!

ألَا يَفتح الله عليك مرةً واحدة يا دكتور طه فتكتب مقالاً واحداً يَسلَم من إثم المغالطة والتلبيس؟

بقيت حكاية توفيق الحكيم، الكاتب الذي يجمع بين الظَّرف والضَّعف، وأنا أقترح أن يُمحَى اسم هذا الكاتب من سِجِلْ الوطنية المصرية

هذا كاتبٌ خفيف الروح في بعض نواحيه، ولكن روحه يَثقُل جدَّا حين يتحامل على القومية المصرية، وحين يتوهم أنه من المصلحين، ومن خلفاء قاسم أمين!

وما ظنّكم بكاتب يزعم أن الفكر لا يساوره في مصر، وإنما يساوره حين ينتقل إلى

ص: 6

الهضاب السويسرية أو الفرنسية؟

العفو، يا سيد المِلاح!

فمصر يا أخي فيها منادح للفكر والبيان، وهي بشهادتك قد عزَّت على عُدوان الغرب وطغيان الشرق، وقد عجزت المصائب والويلات عن قتل مواهبها الذاتية، فكيف يجوز لك أن تسخر منها أقبح السخرية في بعض مؤلفاتك وأنت تعجز عن الرد على كاتب مثل طه حسين؟

أما بعد فأنا ما زلت أدعو إلى تأليف كَتِيبة أدبية تجرِّد ألسنتها وأقلامها لتقوية الروح الوطني لتحوِّل الوطنية إلى عقيدة راسخة لا تزعزعها النوازل والخطوب

وفي الأدب الصِّرف نفسه يتسع المجال لتأييد العقيدة الوطنية، فالشاعر الذي يتغنَّى بجمال الليل حين يتموَّج نور القمر فوق صفحات النيل هو شاعر وطنيّ؛ والكاتب الذي يتأنق في وصف ملاعب القاهرة والإسكندرية ودمياط هو كاتب وطنيّ. والباحث الذي لا يَعنيه غير درس مشكلات التعليم هو باحثٌ وطنيّ. واللاعب الذي يقضي أوقاته في التأهب للاشتراك في مباراة رياضية هو لاعبٌ وطنيّ. والتاجر الذي يُغلق أذنيه عن الحوادث اليومية ليتفرغ لمصاعبه التجارية هو تاجر وطنيّ. وطه حسين وأحمد أمين وتوفيق الحكيم يستطيعون أن يكونوا من الوطنيين إذا قَصَروا جهودهم على ما يحسنون من الأعمال

المهمُّ يا بني آدم أن تعاونوا على إيقاظ الروح الوطني في أية ناحية من نواحيه، وأن يكون لكم شأن في تحرير البلاد من قيود الركود والخمود

دمياط والمنصورة

وهَتف سائل يقول: ما الذي أوجبَ أن نرى في مؤلفاتك ومقالاتك إشارات رقيقة إلى دمياط؟

وأجيب بأني لم أزُر دمياط إلى اليوم، ولكني مُوَكل بالحديث عن البقاع الكريمة من وطني، فدمياط من ثغورنا البواسم وكان لها مقامٌ محمود في صدَّ الغارات الصليبية. وما تزال دمياط مرجع طوائف كثيرة من كرائم الأفئدة والقلوب، ولن أنسى أبداً طغيان البحر والنيل حول دمياط حيثُ غرِق الروح الشفَّاف الذي أوحى إلى خاطري بعض القصائد الجياد

وأخونا الزيات يقيم اليوم بالمنصورة ليتقي الغارات الجوية، وأنا والله في خوف عليه، وما

ص: 7

أخاف الميكروبات التي يخافها أحمد أمين، وإنما أخاف على الزيات غارات العيون، العيون الفواتك التي تصاول الآمنين والغافلين، فتحوِّل أرواحهم إلى أقباس أقسى وأعنف من طغيان السعير

وكيف يذوق العذاب من ترحمه المقادير فلا تدلّه على الطريق إلى المنصورة أو دمياط؟

ارجع إلينا، يا أحمد، قبل أن تعضك سمكة من سمكات النهر الذي أعرف وتعرف، وإلا فانتظر قدومي إليك لأشاطرك النشوة بغناء الملاحين في غفوات الليل

ولكن هل عندكم ملاح تذكر أغاريده بأغاريد الملاح الذي سمعته مرة وهو يَصدَح فوق متْن النيل في الأقصر بهذا النشيد:

فايتْ على جِسر النيل

قابَلوني اثنين حلوين

آخذ مِين وأسيِّب مين، يا بُويْ!

وحدثتنا الجرائد بأن النيل يهدر بعنف في أعالي السودان، فانتظرني عندك لأرى معك بعد شهر واحد كيف يَسهُل صيد السمك فوق ذلك الشط بأيسر عناء

أتخاف الحرب؟ لا تخف، فأعمار الأشقياء باقية!

وإن عشنا فسنقضي بقية العمر في التغريد فوق أفتان الجمال

ارجع إلينا، يا أحمد، قبل أن تعضك السمكات بشط المنصورة فقد عرفتُ بالتجربة أنها افتك من سمكات شط العرب. حرسَك الله وَحَماك!

أمَن الإثم هُتافي بالجَمالْ

في بلاد كلُّ ما فيها جميلْ

لو بعيني نظر الملاحي وجالْ

لرأى الفتنة في كل سبيل

اكحلوا عين الزمان بمرود الحياة

أنتم تسمعون أن الدنيا كلها في حرب، أليس كذلك!

بَلَى! ولكن الحياة لها مطالب روحية وعقلية تنسي الناس أحياناً مخاطر الحرب، والرجل الضعيف هو الذي تقهره الظروف على أن يكون ريشة في مهبْ الخطوب. أما الرجل القوي فتصطدم به المصاعب كما تصطدم الموجة العالية بالصخرة العاتية

لقد قَذيتْ عين الزمان فاكحلوها بمرود الحياة. . . كونوا أحياء في كل وقت، واحذروا

ص: 8

أقوال المرجفين الذين يزعمون أن الدنيا لم يبق فيها مجال لطرب الأفئدة وجُموح القلوب

لا تصدقوا الأستاذ فكري أباظة حين يحدثكم في المذياع عن عجبه من أن تعجز أعوام الحرب عن قتل تغريده (يا ليل يا عين) فهذا الأستاذ نفسه لم ينقطع عن الغناء وإن كان صوته (أرخم) الأصوات!

هذه الحرب التي تعانون بلاءها من قرب أو من بعد هي أيضاً شهوة إنسانية أو حيوانية كسائر الشهوات، والمحرومون من حب الدنيا ومن الهيام بما فيها من نعيم لا يصلحون أبداً للتمرس بالمخاطر في ميادين القتال

يجب أن تبقى حواسكم كلها سليمة، حتى حاسة الذوق وحاسة الجمال، لأن هذه الحواس هي (الجوارح) التي تصولون بها في ميدان الوجود. وهل يصلُح إنسان للتفكير في المنافع القومية حين يُشَل تفكيره في المنافع الذاتية؟

الجنديّ لا يصلح أبداً للاستماتة في الدفاع عن الوطن إلا إذا كانت له فيه مآرب وأهواء، أما الجندي الفارغ الرأس والقلب من المطالب الذاتية فهو أداةٌ عاطلة لا نفع فيها ولا غناء

زادكم الأول هو مطامعكم، وزادكم الثاني هو مطامعكم، وزادكم الثالث هو مطامعكم، وأزوادكم الأصلية والفرعية هي مطامعكم، فلا تعيشوا في دنياكم بلا أطماع لئلا تنعدم قدرتكم على الجهاد

لا تصدِّقوا الذين ينهونكم عن الابتسام للدنيا والوجود

لا تصدَّقوا من يزعمون أن مَرَح النفوس في أيام الحرب من نُذَر الفناء

الدنيا لكم ولسائر المزوّدين بالحيوية والأريحية والجذل والابتهاج

فما سكوتُ الشعراء وما سكوتُ المغنّين عن التغريد فوق أفنان الجَمال؟ وما الموجب للدعوة الأثيمة التي تريد أن تحوّل دنيانا إلى ملاطم ومتاحات؟

عزائمكم وأرواحكم وقلوبكم هي الذخائر الباقية، وهي أسلحتُكم في مقارعة الخطوب، فلا تُضعفوها باستماع الأراجيف، ولا توهنوها بالخضوع لخداع الأباطيل

ودَّ أعداؤكم لو تنقلبون إلى أشباح بلا عواطف ولا أحاسيس

فاحذروا الفتنة، فتنة الدعوة إلى تسريح الأماني والآمال

واعلموا أن الرجل الحق هو الذي يعيش في كل وقت بعواطف الأقطاب من الأحياء.

ص: 9

زكي مبارك

ص: 10

‌5 - إلى أرض النبوة

للأستاذ علي الطنطاوي

قرأتَ في المقالة الماضية وصفاً للصحراء ليلها ونهارها وشدتها إذا اشتدت ولينها إن لانت، على أنها تختصر صفتها، ويوجز تاريخها في كلمتين اثنتين هما: الحب والحرب، فليلها للحب، ونهارها حرب، حرب مع الشمس اللاهبة والرمال المشتعلة، والضلال والموت، وحرب مع الناس؛ فإذا أدركك المساء، ولا يدرك مساءها إلا كل بطل صبار قوي متين، تفتح للحب قلبك، فأحسست فيه بشوق إلى الهيام كشوق الظمآن إلى الماء الزلال، وشعرت كأن البادية كلها ملكك، فأنت منها في روضة وغدير، تعانق بدرها إن لم تجد من تعانقه، وتسامر نجمها إن أعوزك من تسامره، ويقبل عارضيك نسيمها الرخي الحبيب الذي يصور لك أنفاس الأحبة. . .

أشهد لقد نقْت ليالي الصحراء نفسي، وصفّتها، وعلمتها الشعور بجمال القبح وأنس الوحشة وأغاني الصمت، فعرفتْ جمال الكون، فأوصلها إلى معرفة كمال المكوّن، كما صهرت أنهار الصحراء عزيمتي فألقت عن نفسي أوضار الخوف والجبن والضعف والتردد، وأشعرتها عظمة الطبيعة وقوتها، فشعرت بعظمة الطابع، ولم أكن أعدم النظر في الأفاق الواسعة، ولا حرمت التحديق في المناظر البعيدة، وإني لأبصر من شباك داري دمشق كلها وغوطتها والقرى المنثورة فيها، لا يغيب عني من ذلك شيء فأرى فيها نهاية الجمال والرواء، ولكني لا أرى فيها طهر الصحراء ولا صفاءها. الصحراء مبسوطة مكشوفة كالرجل الصريح الشريف ظاهرها كباطنها لا تخفي سراً، ولا تبطن دون ما تظهر أمراً. . . ليست كالمدن ولا كالرياض، والله وحده يعلم كم يتوارى خلال تلك الأشجار المزهرة المخضرّة، وتحت تلك السقوف المزخرفة والقباب والسطوح من رذائل ورزايا، وكم يسكنها من عوالم الكذب والنفاق والحسد

إن الله حرم الصحراء رواء المدن، وروعة السهول، وفتنة الأنهار، ولكنه عاضها عن ذلك ما هو أحلى وأسمى: جمال الصدق وبهاء الصراحة، وسناء الإخلاص، ليس في الصحراء مثل النيل ولا الفرات تأوي إلى ضفافه، وتبصر غروب الشمس في مائه، وتمخر بالزورق عبابه، وما فيها إلا برك وغدران قليلة الماء غير دائمة ولا باقية، ولكنها على ذلك أجل من

ص: 11

النيل، وأجمل من الفرات لأنها في. . . الصحراء!

لست أستطيع أن أترجم لك عمّا لليالي الصحراء من معنى في نفسي، لأن لغة الألسنة لا تترجم عن القلوب. ويا ليتني أقدر أن أصف لك تلك الكائنات الخفية التي تعيش في ليالي الصحراء فتخاطب القلوب بما لا تنقله الأقلام

واشهدوا عليّ أني أوثر الصحراء على كل مظاهر الطبيعة المطبوعة، إلا الأودية والجبال، فإن للجبال السامقة ذات الصخور المائلة كالجبابرة لا تبلغ هامها النسور ولا العقبان، ولا يسكنها إلا الثلج الأبيض. . . والأودية العميقة التي لا يبلغ قرارتها إلا الشلال المتحدر من أعالي الجبال، ولا يعيش فيها إلا السواقي الحائرة التي تهيم على وجهها ذاهلة لا تصحو إلا على جرجرة أمواج البحر الذي يفتح فاه لابتلاعها. . . وإن في التواء الوادي حتى يضيع الطريق فيه، وفي اختفاء الشِّعب الضيق خلال الصخور، وفي ضلال الساقية بين الحشائش والحجارة، لمعنى من معاني المجهول لا ألقاه في الصحراء المكشوفة العارية؛ ولكن للصحراء سحرها وجمالها وإني لأفضلها على السهول والبساتين. . .

سلكنا بعد القُريّات مهامه وفلوات لا يعرف لها أول ولا آخر. ولا أدري ولا يدري أحد ممن كان معنا أين موقعها على المصوّر الجغرافي. وكنا كلما زدنا إيغالاً في الصحراء زادت بنا بعداً عن مظاهر الحياة، حتى أحسسنا كأن قد ودّعنا هذا العالم، وكأن دمشق وبغداد والقاهرة صور شعرية تخطر على البال ويدركها الخيال ولكن الواقع خلوٌ منها، واسترحنا من هموم الاجتماع ومشاغل السياسة وأعباء الفكر واستسلمنا إلى المقادير، فغدا شعورنا بالحياة كشعور من يرى في نومه أنه سائر على وجه الريح، أو مضطجع على صفحة الماء يحمله إلى حيث يشاء، فإما أن يغرق وإما أن يبلغ ما يريد، ولكنه على الحالين راضٍ قانع لا يشكو ولا يتبرم

وكان همنا الأكبر أن نتأمل الأرض أو ننظر في الفضاء لنأمن عثرة السيارة وننجو من الضلال، وما في البرية علامة يهتدي بها إلا النجوم، فعرفت بذلك معنى قوله تعالى:(وبالنجم هم يهتدون). وعرفت سرّ اعتماد العرب عليها في تحديد مواقع البلدان حتى أن الشاعر المحتضر ليسرّه أن سرى سهيلاً لأنه يذكره بلاده وأرضه. . .

وكنا نمر على الأرض المتماسكة الصلبة فنحمد الله عليها ونسرع. ثم نمر على القاع،

ص: 12

والقاع في عرف البدو أرض طينية كان فيها غدير من المطر فجف وترك فيها شقوقاً وغادرها مستوية كالطبق، ويسمى القاع في بادية الشام (على طريق بغداد) طليحة. . . ونمر على مسيل قد جرف الماء ترابه وأبقى فيه حجارة كباراً وصغاراً، وهو والشعب شر ما نمر عليه، والشعب في عرفهم أرض فيها رمل قليل هشّ ونبات صحراوي. . . أو نصعد رابة أو تلة، وامتدت هذه المرحلة (من القريات إلى تبوك) أربع ليال، مررنا فيها على مياه من مياه العرب، وهي آبار منتنة خبيثة الطعم واللون والرائحة، تضع المنديل بين فمك ومائها فتلقي عليه مثال الوحل أو ما هو أخبث، تسمى غطى والعيساوية والفجر، ولم نصادف في هذه المرحلة ماء غير ذلك. . .

ولا تسألني أين هذه المياه، ولا تطلب إليَّ تحديداً ولا يقيناً فلست أعرف ذلك، وإنما أعرف أننا تركنا وادي سرحان عن شمائلنا وسرنا قِبَل الجنوب حتى لاحت لنا عن اليمين جبال عالية، فأممناها حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأينا أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة مشينا في طرفها تسعين كيلاً، فيها حجارة سود دقائق مرصوفة رصفاً كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فرشت وثبتت بالمداحل، وهم يسمونها (بسيطة) بصيغة التصغير، وسلوا أهل الجغرافيا يعرفوكم موضعها على المصور، حتى وجدنا ثغرة في الجبل فدخلنا منها، فإذا نحن في واد ما رأيت في عمري مكاناً أوحش منه، وكلما أبعدنا فيه ازدادت وحشتنا، ولم يكن حولنا إلا الصخور والتلاع والفلل الشامخة، والوادي يتشعب بنا ويتفرع، ونحن منفردون بين ذلك كله، وطال الوادي حتى أمسى علينا المساء فبتنا به، ولم ندر أننا ضالون حتى أصبحنا غداة الغد، فخالط قلوبنا الرعب من أن تكون خاتمة مطافنا أن ندفن في بقعة لا يمر فيها إنسان ونحرم قبراً يستوقف السالكين، ويستجديهم دعوة صالحة. وكانت ساعة يأس أحيت في نفوسنا الماضي الذي ظننا أنا نسيناه فتلفتنا بالقلوب إلى دمشق فإذا نحن منها على مسيرة سبع ليال بالسيارة، ولكن ما إليها من سبيل، فجعل كل منا يذكر أهله وأحبابه، ويتخيل ماذا يحل بهم من بعده، ويتصور بردي يجري زاخراً دفاعاً ونحن نكاد نموت عطشاً لأن الماء الذي معنا قد شح ونفد إلا الأقل منه احتسبه الأقوياء منا، وبلغت المسألة مبلغ التنازع على الحياة، ولم يبق إلا الأثرة الشنيعة أو الإيثار البالغ. وحار الدليل وأظهر حيرته حين لم يعد مكان لإخفائها. وكان يدع السيارة في قعر

ص: 13

الوادي ويصعد قمم الصخور ينظر فلا يرى شيئاً، فيعود فيسير بنا على غير هدى، حتى نظر مرة وكان ذلك في مساء اليوم الثاني لدخولنا وادي الموت هذا. . . فلمح جبلاً فهلل وكبّر وقال: وصلنا. . . هذا شَرَوْري!

وشروري جبل قريب من تبوك أظن أن (ياقوت) قد ذكره. فسرنا إلى الليل وشروري مكانه عند الأفق لا يدنو ولا يريم، فنزلنا للمبيت. . . وعاودنا السير من الصباح فاختفى الجبل وهبطنا إلى جوف الأرض حتى وصلنا إلى موضع رأينا فيه جبلاً عظيماً يسد الوادي فتشاورنا فلم نجد بداً من صعوده بالسيارات وما تحمل من الأثقال، فجعلنا نصعد وندور ونحتال على الارتقاء حتى إذا بلغنا القمة بعد مخاوف ومتاعب لا ينفع معها وصف. نظرنا تحت أرجلنا، فإذا في الحضيض الأوهد البعيد فضاء فسيح كالبحر، في وسطه سواد، كأنه باخرة ماخرة، فقال الدليل مشيراً إليه. هذه تبوك!

علي الطنطاوي

ص: 14

‌يوم البعث.

. .

للأستاذ محمود محمد شاكر

إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل ولا تنثني ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تشعر العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينيه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه. ويتمنى أحدنا يومئذ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، وعسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة

وهذا العارض إذا ألم جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟

الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أحنائه حركة الروح العاملة، فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان. وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَك وأشواك وحطب وكل ما لا نفع فيه إلا أذىً وبلاء عليه وعلى الناس

وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم، فإن الفرد هو خلاصة الجماعة وأصل الجماعة. فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه. وعندئذ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة

ص: 15

مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة والأماني الباطلة المكذوبة

وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون ليوقظوا الأحياء الذين ضرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش

أما اليوم الذي نحن فيه، فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله. فهل يحق لنا أن نؤمل أن هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يلمُّ ما تشعث من حياته ليستقبل حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقضاض على أوثان المظالم القديمة التي نصبت فعبدها من عبد ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا - على أوهامهم - إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟

إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤالاً واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل. من أنا؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه، فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة

ولكن البحث عن الحقيقة هو أبداً أروع شيء وأخوف شيء؛ فإن السائل شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق، فإن السؤال سوف ينزع به وينبث عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصى المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمى جروحه، يتألم ويتوجع ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه

فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها ويكفها عن الشك

ص: 16

والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشامخ، فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة

والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يكل كل أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية. فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة وجراثيم التفاني والانقراض

ليس لشرقي أو عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة!! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأت فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يتَدارَس في نفسه وفي أهله وفي عشيرته وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد - حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟

والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟ فالعالم والأديب والشاعر والفيلسوف والعامل والصانع وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم ونوازعهم يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدءون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد

أما قيام الدعوة على البحث عن طرق الإصلاح وأساليب الإصلاح وتحقيق ذلك بالطرق العلمية. . . إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئاً إلا ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد. وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها

إن الأمم لا يُصلحها مشروع ولا أسلوب من الحكم، ولا بابٌ من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً - بما فيه من الحركة النفسية - على أن الحياة التي يعيشها هي

ص: 17

إثباتٌ لوجوده. ولا يثبت الوجود للحيّ إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلا أن تكون كل أفكاره منتبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟

فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور والجهل والغباء والبلادة وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه وأجوده وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل بمن أنا؟ فتجديد الحياة في الشرق حقيقةٌ لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض. وأما إذا انطلقت مع أحلام النوم وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مُسُوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت. . . أي البلادة! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه

إن من الهراء أن تأتي مجلس قوم من بلداء المهندسين قد اختلفوا في الأرض: هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحولوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته. . . مما يصلح عليه البناء! فإن هؤلاء إذا بدءوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة، فاعلم أنه لا فلاح لهم، وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر

فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف والمنابذة وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل. وعندئذ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياة الحياة إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه ومن وراء التاريخ

إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ - وسنبدأ بإذن الله -، فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا

ص: 18

أن نضع لأسس العلمية أو السياسية أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها. وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟

إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صور جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المتسعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن

يومئذ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا؟ عملاً صامتاً لا يتكلم، لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة والجهل والخمول.

محمود محمد شاكر

ص: 19

‌الفروق السيكولوجية بين الأمم

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

الفروق الذكائية

في سنة 1928 دعت وزارة المعارف المصرية الدكتور كلاباريد أستاذ علم النفس بجامعة جنيف لدراسة حال التعليم في مصر ومعرفة مواضع النقص فيه، واقتراح الإصلاحات الضرورية للمناهج وطرق التدريس ونظام المدارس على أسس من التربية وعلم النفس. وكان مما قام به الأستاذ هو إجراء بحوث اختبارية في الذكاء على طوائف من التلاميذ في جميع مراحل التعليم لمعرفة مستوى ذكاء التلميذ المصري واتجاه نموه العقلي. وقد أجرى الأستاذ فعلاً عدة تجارب - بمساعدة عدد من الأساتذة المصريين - لقياس الذكاء، واستخدم أنواعاً مختلفة من المقاييس من بينها مقياس الدكتور بالارد. وكان هذا المقياس قد جرب في إنجلترا وفي البلجيك وقُنِّن. ولكن الأستاذ أدخل عليه بعض التعديلات ليناسب الناشئة المصرية. وقد أظهرت النتائج التي أسفرت عنها اختبارات الذكاء أن مستوى الذكاء عند التلاميذ المصريين - ما عدا البنات اللواتي تتراوح أعمارهن بين الثامنة والعاشرة - أقل بكثير من مستوى الذكاء عند التلاميذ البلجيك والإنجليز

وقد استرعت هذه النتيجة انتباه الدكتور واهتمامه، فجعلته يحاول معرفة هذا التأخر الذكائي، فذهب يفرض له فروضاً، وشرع في درسها، وكان من بين الفروض التي افترضها ورفضها أن سبب هذا النقص هو انحطاط في فطرة الطفل المصري. وهو يقول في تقريره:(هذا وليس في الأسباب ما يحدو بنا إلى الاستناد إلى الغباوة الفطرية كخصيصة في الطفل المصري، لأننا إذا راعينا النتائج الفردية، ولم نقتصر على المتوسطات وحدها، فإنا واجدون في جميع أدوار أعمار الأطفال طائفة من نتائج اختبارهم أحسن ما تكون. وفي هذا ما لا يبرر الاستناد إلى الانحطاط الفطري) ثم هو يذهب فيبحث فروضاً أخرى ويرى (أن تأثير الوسط المحيط هو ما يصح الاستناد إليه في كثير من الوثوق والتأكد لتعليل ذلك الانحطاط. فقد دل عدد كبير من البحوث التي أجريت على أن مستوى عقل الطفل يترتب إلى حد ما على الوسط الاجتماعي الذي يمت إليه بصلة ما، وعلى وسطه العائلي الخاص أيضاً. وبدهي أن الأطفال الذين في أسرة مثقفة يعلو مستواهم

ص: 20

على مستوى غيرهم) نعم يعود الدكتور فيؤكد أن الوسط تقع عليه إلى حد كبير مسئولية رداءة النتائج العامة التي وصل إليها في اختبار ذكاء الطفل المصري، ومقارنتها بذكاء الطفل الأوربي، ويشير إلى سبب آخر من أسباب الانحطاط الذكائي خاص بالتجارب التي أجراها، ويقول:(إن نصف النتائج التي حصلنا عليها عن أطفال وشبان من تلاميذ المدارس الأولية والفنية أو مدارس المعلمين الأولية، أي من وسط اجتماعي متواضع. وقد قلنا إن نتائجهم أحط بكثير من نتائج المدارس الابتدائية والثانوية باعتبار التساوي في السن بينهم جميعاً، وأنها كانت لهذا السبب باعثاً على هبوط المتوسط العام. ولا شك في أن ما أبدته اختباراتنا من نقص النمو العقلي يعزى في بعضه إلى هذه الحال. والواقع أن الأطفال والشبان المصريين من الطبقات الدنيا تنقصهم الأسباب المنشطة للعقل، والبواعث التي تستثير دفين الذكاء، كما تنقصهم لتفتيق أذهانهم تلك الفرص التي كثيراً ما تستح للأطفال الصغار الأوربيين في حياتهم)

ساهم الأستاذ القباني بنصيب وافر في إجراء الاختبارات التي قام بها الدكتور كلاباريد ومراجعة نتائجها، ولكنه لم يقتنع بصحة هذه النتائج، لأنه كان شاكا في صلاحية مقياس بالارد لاختبار ذكاء التلاميذ المصريين، للاختلاف الكبير بين البيئة المادية والاجتماعية المصرية وغيرها من البيئات الأوربية، وهذا ما يجعل الأسئلة التي يختبر بها ذكاء التلاميذ الإنجليز أو البلجيك لا تناسب بالضرورة التلاميذ المصريين. من أجل هذا اتجهت عناية الأستاذ لدراسة الذكاء المصري، فأجرى عدة بحوث كانت أغراضها: التحقق من صلاحية كل سؤال من أسئلة بالارد لاختبار الذكاء في مصر، وحذف الأسئلة التي يثبت عدم صلاحيتها وإضافة أسئلة غيرها لتكوين مقياس مصري للذكاء، وإجراء هذا المقياس الأخير على تلاميذ المدارس الابتدائية ومن في مستواهم للوقوف على حقيقة عقليتهم. وقد نجح الأستاذ في تحقيق هذه الأغراض، وكأنه بعمله هذا أراد أن يختار من التلاميذ المصريين من تشابه بيئته - المدرسية والاجتماعية إلى حد ما - بيئة التلاميذ الأوربيين، حتى تكون المقارنة بين متوسط الذكاء المصري والذكاء الأوربي مقارنة عادلة. وقد كشفت اختبارات الأستاذ عن متوسط لذكاء تلاميذ المدارس الابتدائية أرقى من ذلك الذي وصل إليه كلاباريد، كما أيدت اختباراته نظرية تأثير الوسط في الذكاء، فقد وجد أن المدارس التي

ص: 21

يغلب على تلاميذها أن يكونوا من أوساط اجتماعية راقية تتفوق في الذكاء في كل عمر على المدارس التي يغلب إلى تلاميذها أن يكونوا من أوساط اجتماعية متواضعة، وأن الفرق بين ذكاء هذين النوعين من المدارس ليس كبيراً إذا قيس بالفرق بين متوسط ذكاء كل منهما ومتوسط ذكاء المدارس الأولية

رأينا إذاً كيف تتعسر المقارنة بين متوسط ذكاء أمة ومتوسط ذكاء أمة أخرى لاختلاف البيئات، هذا الاختلاف الذي له أثره في تنشيط الذكاء الفطري وشحذه، ولصعوبة إيجاد (عينات) ممثلة كل التمثيل لأفراد الأمة وأوساطها المختلفة تجري عليها اختبارات الذكاء. وعلماء النفس يدركون هذا التعسر ويُقرّونه، ولكنهم بالرغم من ذلك حاولوا التغلب عليه ودراسة الفروق الذكائية بين الأمم، فالتجارب التي أجريت في الولايات المتحدة لقياس ذكاء الزنوج ومقارنته بذكاء الأمريكيين البيض أسفرت عن أن الزنوج أقل ذكاء من الأمريكيين في كل المقاييس التي تتطلب حل معضلات معنوية مجردة بينما يقربون من الأمريكيين أو يشابهونهم في الذكاء الذي يحتاج إليه في حل المعضلات العملية أو المحسوسة، كما تدل على ذلك نتائج المقاييس العملية ومما لا جدال فيه أن القدرة على التفكير المعنوي المجرد والحكم تتأثر إلى حد كبير بالتربية والثقافة العامة، ونوع العمل الذي يقوم به الفرد. ومهما يكن السبب - وراثياً أو بيئياً - فالحقيقة الواقعة هي أن الزنوج أحط ذكاء كجماعة من الأمريكان البيض

في أثناء الحرب الكبرى الماضية قيس ذكاء أفراد الجيش الأمريكي، وكان بينهم جماعات ذوو جنسيات أوربية مختلفة: إنجلترا، وهولانديون، ودنماركيون، وإيطاليون الخ. وقد استغل علماء النفس نتائج اختبارات الذكاء في معرفة ما إذا كانت هناك فروق ذكائية بين الأمم الأوربية ممثلة في جماعات الجيش الأمريكي. درست النتائج دراسات إحصائية مطولة، وكان ترتيب الأمم ترتيباً تنازلياً بحسب الذكاء هو:

(1)

إنجلترا (2) اسكوتلندا (3) هولندا (4) كندا (5) ألمانيا (6) الدانمراك (7) السويد (8) النرويج (9) ايرلندا (10) النمسا (11) تركيا (12) الروسيا (13) البلجيك (14) اليونان (15) إيطاليا (16) بولندا

والمتأمل في هذا الترتيب يرى أن سكان الأقطار الأوربية الشمالية (الجنس الشمالي) أذكى

ص: 22

من سكان الأقطار الأوربية الوسطى (الجنس الألبي) وهؤلاء أذكى من سكان أقطار البحر الأبيض المتوسط. وقد وجِّهت انتقادات كثيرة لهذه النتيجة السابقة، أهمها هو أن هذا الترتيب لا يصح أن يؤخذ على أنه ترتيب الذكاء الفكري عند هذه الأمم. وهذا انتقاد وجيه، ولكن أقل ما يدل عليه هذا الترتيب هو مقدار تأثير التربية المدرسية والثقافة الاجتماعية في إظهار ذكاء الأمم

وثمة اختبارات أخرى أجريت على صبيان ولدوا في الولايات المتحدة وآباؤهم من جنسيات مختلفة، وكانت أعمارهم تتراوح بين الخامسة والنصف وبين الثامنة عشرة. وكان هؤلاء الصبيان يتعلمون في المدارس العامة وقد بلغ عدد من اختبر ذكاؤهم 5504 تلميذ، وكانت تربيتهم المدرسية متشابهة بصفة عامة، كما كانوا يعيشون في بيئات متجاورة ومتقاربة الثقافة. وكانوا جميعاً يعرفون اللغة الإنجليزية بجانب لغتهم الأصلية. وقد رتبت نتيجة ذكائهم ترتيباً تنازلياً، فكان الترتيب كما يأتي:

اليهود البولنديون، السويديون، الإنجليز، اليهود الروس، الألمان، اللتوانيون، الأيرلنديون، الكنديون البريطانيون، الروس الخلص، البولنديون الخلص، الإغريق، الإيطاليون، الكنديون الفرنسيون، البرتغاليون. وسأترك للقارئ المقارنة بين هذه النتيجة ونتيجة الاختبارات السابقة لها

هذا وخلاصة القول هي أن علماء النفس متفقون على أن الاختبارات التي أجريت حتى الآن تدل على وجود فروق ذكائية بين الأمم المختلفة. ولكنهم مختلفون في سبب هذه الفروق؟ أهي فطرية جنسية، أم بيئية ثقافية، أم هما معا؟ والجمهور على الرأي الأخير.

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 23

‌لمح وجيزة عن

كتاب الديارات

لأبي الحسين علي بن محمد الشابشتي

للأستاذ صلاح الدين المنجد

. . . وبعد فهذا كتاب جليل، حوى ما طَرُف من أخبار الأدباء وما لَطُف من سِيَر الشعراء وما فُقد من أحاديث الندامى وأفاكيه الأمراء في العصر العباسي الأول، سمّاه صاحبه (كتاب الديارات)، وجعلها سبيلاً إلى سرد ما حفظه من أخبار أهل الأدب وطرائفهم؛ فجمع فيه ما لا تجده في غيره من الكتب. فهو مؤلّف ثمين جدير بأن ينوّه به ويكتب عنه

كيف عثرنا عليه

عنيت منذ زمن طويل بدراسة أثر الأديار في الأدب العربي، فقد كان أهل بغداد يعيشون في عالم مِلؤه الهدوء والسلام، ساجين في النعيم، غارقين في اللذائذَ واللهو والمجون. وكانت الديارات من المواطن التي يحلو فيها الغناء والشراب، وتصفو بها القلوب والنفوس. وكان يرتادها خلعاء الشباب ومترفو الناس، ومُجّان الأمراء والشعراء؛ يجدون فيها ما تشتهي الأنفس من خمر ولذة وجمال. وكان أهل هذه الدايارت يرحبون بالطُرَّاق: يهشون لهم ويأنسون بهم، ويعطونهم من أنفسهم وأموالهم ما يشتهون، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويوجهوهم وجهة كلها فتون ومجون وإغراء، فكان الشعراء ومن اتبعهم يهتزون لمرأى الراح والريحان والبيض الحسان، فيجيش في صدورهم الشعر، ولكنه شعر رقيق فيه صفاء وملؤه أنغام، وصفوا فيه الدير والديار، والقسَّان والغلمان، والعذارى والمتبتلات، والصليب والناقوس، والخمر والنديم، والمسوح والصلاة. فقد وجدوا في هذه الأديار عالماً جديداً فيه بشر وانطلاق وسرور وحبور وسع الأخيلة وأبهج النفوس

وقد أورد ياقوت في معجمه طرفاً من الأشعار التي قالها روَّاد تلك المواطن. وقد نقل عن (الشابشتي) مؤلف هذا الكتاب كثيراً. ثم جمعت ما ذكره صاحب مسالك الأبصار في الديارات وأهلها، ووددت لو أقع على نسخة من كتاب الشابشتي، حتى زرت مكتبة المجمع العلمي العربي بدمشق، وعثرت فيها على نسخة فوتغرافية له، أخذت عن نسخة مصورة

ص: 24

أخرى من الخزانة التيمورية. وكان أحمد تيمور باشا قد أرسل فصوّرها عن نسخة خطية فريدة موجودة في خزانة برلين تحت رقم (1100)

قرأت الكتاب فأغرتني طريقته ونوادره وأخباره، وما ضم من أحاديث مفقودة وأشعار رقيقة مجهولة، وتراجم شعراء جمعوا بين الرقة والعذوبة فأتوا بشعر منه المطرب ومنه الراقص، فنسخت الكتاب، وعزمت على تحقيقه وفهرسته وشرحه وجمع ما ضاع منه وحفظته الكتب الأخرى، وبدأت العمل منذ شهور وشهور، ووضعت للأديار مخطَّطاَ يبيّن مكان كل منها. على أنى لاقيت في تحقيقه العناء والبلاء، ولا يعرف الجهد إلا من يعانيه، ولن يمضي إلا القليل - إن شاء الله - حتى يكون الكتاب جاهزاً

أول من نوه بالكتاب

وأول من نقل عن هذا الكتاب ونوه به هو السيد حبيب الزيات، فقد أخرج للناس في تموز من عام 1935 عدداً خاصاً من مجلة (المشرق) الكاثوليكية في بيروت عن (الديارات النصرانية في الإسلام)، فنقل عنه نقولاً كثيرة وبحث في الديارات ونشأتها وأهلها. ولكنه لم يتجرد في بحثه عن تعصب وافتراء، شأنه في مباحثه التي يديرها حول النصرانية وأهلها وأمورهم في الإسلام. على أنه نوّه بالكتاب وقال عنه: إنه جدير بالخدمة وجدير بالتحقيق

وصف الكتاب

والكتاب يقع في (135) صفحة فوتغرافية، كل صفحة ضمت صفحتين من صفحات الكتاب الأصلية، فيكون عددها إذن (270) صفحة، في كل صفحة - على الغالب - خمسة عشر سطراً، وقد كتبت بخط شديد الشبه بالنسخي، مضبوط قليل الأخطاء، أسقطت منه الهمزات، كما أسقطت منه (التعقيبة) في كثير من الصفحات، وما وضع منها فهو بخط يختلف عن خط الناسخ. وقد سقطت من أوله أوراق كثيرة فيها ذكر ديارات الشام. على أن في ياقوت ومسالك الأبصار نقولاً عن الشابشتي تتعلق بها

أما الصفحة الأولى منه فلم يظهر فيها إلا:

بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد

ص: 25

ثم يلي ذلك جمل مضطربة سقطت بعض كلماتها، وحروف وأرقام، ثم يبتدأ الكتاب بما يلي:

(الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه بباب الشَّماسيَّة. وموقعه أحسنُ موقع. . . وهو نَرِهٌ كثير البساتين والأشجار. . . الخ)

وفي آخر صفحة منه:

(تمَّ كتاب الديارات بحمد الله وعونه وقوته وحسن توفيقه. ووافق الفراغ منه في ليلة صباحها يوم الخميس السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلثين وستماية).

(كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله عبد الحليم بن محمد ابن عبد الوهاب بن أحمد بن عربي الدمشقي، المعروف جده بالنحوي. وهو يسأل الله أن يغفر ذنوبه ويستر عيوبه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين).

نسخ الكتاب

وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة من هذا الكتاب. وقد أخبرني صديقي الأستاذ شكري فيصل بأنها رديئة قليلة الضبط لا يستطيع المحقق أن يعتمد عليها. وكنت أخبرت بذلك صديقي الجليل سيد النثر الأستاذ أحمد حسن الزيات بغية أن يعلمني شيئاً عن الكتاب، ولكنه تكرم فطلب أن (أنشر فصلاً منه وأن أكتب كلمة عنه) فخصصت هذه الكلمة بالرسالة، ومن أحق من الرسالة بهذه البشرى وهذه المباحث؟

وقد ذكر الأستاذ حبيب الزيات في رسالته (الديارات النصرانية في الإسلام):

(إنه كان من هذا الكتاب نسخة ثمينة مزوقة وقف عليها شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي في القرن العاشر للهجرة (عن ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر لابن طولون الحنفي، رقم 1422 من الخزانة التيمورية) ولا يخفى ما فاتنا بفقدها من الفائدة الجُلَّي، لإمكان دلالة ما فيها من الصور والأشكال على رسوم الديارات وضروب أبنيتها) (الديارات النصرانية: مقدمة)

فالكتاب إذن قيم ذو شأن لما جمع وحوى. ترى من هو مؤلفه الشابشتي. . .؟

والشابشتي هذا نديم بارع وأديب فاضل، ولاّه العزيز صاحب مصر خزانة كتبه، ولعله

ص: 26

ألف هذا الكتاب وهو قائم عليها، وله تآليف كثيرة ضاع أكثرها، منها (اليسر بعد العسر) نهج فيه نهج القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) وما ندري أيهما أخذ عن صاحبه نهجه فقد كانا معاصرين ولكن توفي القاضي التنوخي قبل الشابشتي بأربع سنوات (توفي الشابشتي سنة 388 هجرية، وتوفي القاضي سنة 384) والمرجح أن الشابشتي أخذ عن التنوخي

طريقة الكتاب

قلنا إن المؤلف قد جعل الديارات سبيلاً إلى ذكر أخبار الشعراء والأمراء، فهو يذكر الدير وموقعه وما يحده وما يتصف به، ثم يذكر من زاره من الشعراء، ثم يستطرد إلى الشاعر فيورد ما قاله في الدير من شعر، ثم يتنقل إلى سرد أخباره، فإن كان الزائر من الندامى ذكر الخلفاء الذين نادمهم واستطرد إلى ذكر بعض نوادرهم، وإن كان من الأمراء ذكر بذخه وترفه ومجونه ولهوه ولك ما يتصل بحياته الخاصة بسبب، وهو بطريقته هذه قد ترجم لكثير من الشعراء والندماء والمغنين والولاة والخلعاء والأمراء والخلفاء وما بنوه من قصور وما أقاموه من حفلات وما أنفقوه من أموال. وفي الكتاب فصل فريد لم أعثر عليه في كتب الأدب وهو وصف حفلة أقامها المتوكل لأعذار المعتز وهو في منتهى الطرافة، وسننشره إن شاء الله في العدد القادم:

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 27

‌من عجائب الاجتهاد.

. .!

(لناقد أديب)

منذ عامين رأى الدكتور بشر فارس أن يخرج للناس مسرحية رمزية يثبت بها اتجاهاً جديداً في عالم القصص الرمزي

وبعد التحصيل والروية والاجتهاد، كما يقول الدكتور الفاضل في مستهل توطئته، صنع هذه القصة أو المسرحية الرمزية وعنوانها (مفرق الطريق) وقال في تبيين موضوعها وتوضيح فكرتها: إنه مفرق طريق ينحدر يساراً إلى ظلمة، حيث الشعور، ويمتد يميناً مناراً في صعود مثلوجة، حيث العقل. وفي هذا المفرق الصراع بين العقل والشعور، فإما أن ينتصر الشعور فينحدر المرء في ظلمة تحترق عندها النفس، وإما أن ينتهي الصراع بانتصار العقل فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق. ثم يقول (على ما هو مبين في رسم الغلاف)

ورسم الغلاف هذا صورة رمزية أيضاً من تصميم المؤلف نفسه، تمثل جبلاً عالياً ذا قمة مغطاة بالثلوج، ومنحدراً ينتهي إلى غور مظلم يتضرم بحرارة الحياة

ومنذ اثنتي عشرة سنة أنشأ الأستاذ عباس محمود العقاد قصيدة رمزية في ديوانه صفحة (206) عنوانها: (القمة الباردة) حيث يعيش العقل متجرداً من الشعور في عالم ثلجي لا يشعر فيه بحياة

ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن الفكرة التي جعلها الأستاذ العقاد لباب موضوعه، والموضوع الذي بنى عليه قصيدته هما نفس الفكرة وذات الموضوع الماثلتان في مسرحية بشر فارس!

ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد هذه أن يقول العقاد في مقدمة قصيدته: (إن الحي لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة). فيقدم بشر فارس لمسرحيته بنفس المعنى ويقول بلسان صورة من صنع الشعور: بيني وبين بصرك صلة اليقظة والإحساس بالوجود. ويقول عن رسم من صنع العقل: أفلا تقبض صدرك البرودة المنسابة فيه؟

ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن تكون (القمة الباردة) في قصيدة العقاد هي

ص: 28

(الصعود المثلوجة) في المسرحية ص 14، وأن يكون الطريق الذي يسلكه العقل في الصعود المثلوجة مُناراً، لأن القمة الباردة في قصيدة العقاد لا تعرف اختلاف الليل والنهار

هنالك لا الشمس دوَّارة

ولا الأرض ناقصة زائدة

وأن تكون (القمة الباردة التي تعلوها الثلوج و (ثلوج الذرى) التي (تفتر عندها الحياة) والتي (لا يشعر عندها بحياة) كما كتب العقاد في قصيدته - هي في مسرحية بشر فارس (الآن أعيش في الثلج ص 25) و (إنما أحيا والثلج من حولي ص 25) و (إنما حياتي في الثلج ص 27) و (بيني وبينك الثلج لا يبرح قائما ص27) و (أحرقته وهو يثلجني ص 36) و (سيثلج بعضي بعضاً منذ الآن ص 37) فهذه مسرحيته طمرتها القمة الباردة بثلوجها كما قدمنا في هذه الكلمة

ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن تدور هذه المسرحية حول الفكرة التي تدور حولها القصيدة وأن يكون ختام المسرحية والقصيدة واحداً لا تباين ولا خوف؛ فإذا دعا العقاد إلى النزول من هذه القمة والانحدار إلى الغور المتضرم بحرارة الحياة

إلى الغور!! أما ثلوج الذرى

فلا خير فيها ولا فائدة

ختم بشر فارس مسرحيته أيضاً بالدعوة إلى النزول من الصعود المثلوجة بقوله: (خذا هذا الطريق، الذي لا نور فيه، الذي ينحدر)

من عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن يقع هذا كله، وأن تأتي عجائب أخر في التحصيل والروية والاجتهاد أيضاً من قصيدة للشاعر علي محمود طه عنوانها (قلبي) (ديوان الملاح التائه طبعه عام 1934). في ختام هذه القصيدة يصف الشاعر الصراع بين القلب والعقل أو الشعور والعقل فيقول مخاطباً قلبه:

ووشيت حين أخبَّك الليلُ

متمرداً تجتاحك النارُ

وبدا صراعك أنت والعقلُ

ولأنّتما بحرٌ وإعصارُ

ما بين سلمكما وحربكما

كونٌ يبين ويختفي كونُ

وبينمّا الدنيا وحسبكما

دنيا يقيم بناءها الفنُّ

فيجيء الدكتور بشر فارس في عام 1938 ليقول في هذا المعنى (يلتقي العقل والشعور فيتجاذبان المرء، ولكل منهما حظه من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر

ص: 29

الشعور العقل، فينحدر المرء وقد عمى رشده إلى غاية تحترق عندها النفس الخ. . .)

فتجاذب الشعور والعقل القوة والغلبة هو في قصيدة علي محمود طه (وبدا صراعك أنت والعقل)

والقلبُ الذي أجَنَّهُ الليلُ في القصيدة هو (الشعور في الجانب المظلم)، والقلب الذي يجتاحه النار في قصيدة علي محمود طه هو النفس التي تحترق في مسرحية بشر فارس. وهكذا ترى هذا الصراع الذي يبدو محدداً بخطوطه، مصوراً بألوانه، في قصيدة الشاعر، منقولاً بإطاره في مسرحية الكاتب،

كما رأيت القمة الباردة فكرة وموضوعاً ماثلة بذاتها في المسرحية وتوطئتها حتى بعض العبارات ودلالاتها وإن اختلفت لفظاً وتركيباً، وكأن يقول الأستاذ العقاد:(التي لا يشعر عندها بحياة)

فيقول الدكتور بشر: (يعوزه لهب الحياة)

وبعد فهذه مسرحية رمزية من فصل واحد صفحاتها مردودة وألفاظها معدودة، لم يبق منها لكاتبها التحرير سوى زهرة تضوع، ونهر يهدر، وإضافات تائهة في منعطفات الروح ومثاني المادة (كذا)، وراقصة متشنجة تكِنى بالتلوِّي والتوتر (كذا) وتغرف بذراعيها طرائف من الهواء (كذا)، وغير إنسان أبله يعوي مقلداً الكلاب (كذا)، ثم كلب مسكين يتهمه المؤلف بامتصاص القصب!! (كذا)

وهذا ولا شك كما قلناه وأثبتناه وأعدناه من عجائب التحصيل والروية والاجتهاد في زمن اصطناع المسرحيات الرمزية من قصائد الشعراء.

(ناقد أديب)

ص: 30

‌الحرب في أسبوع

للأستاذ فوزي الشتوي

المؤامرة

يرى كثير من الناس أن الصراع الحالي مؤامرة سياسية عسكرية نظمتها الدول الدكتاتورية بمهارة وإتقان منذ سنوات، ويرون أيضاً أنها تسير بخطوات متزنة، فلم يطرأ عليها حتى الآن خلل يستحق الذكر. أما رأس هذه المناورة فألمانيا، وأطرافها إيطاليا والروسيا واليابان وأسبانيا

ويستدلون على ذلك بتسلسل عدة حوادث أدت إلى انهيار فرنسا، وإذا صادفها النجاح إلى النهاية فقد تؤدي إلى انهيار إنجلترا أيضاً. فقد وضعت فرنسا سياستها عقب الحرب الكبرى على تطويق ألمانيا بالدول الصغيرة التي تعتمد على ولائها لفرنسا مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وبلجيكا

فعمدت ألمانيا من جانبها إلى تحطيم هذا النطاق، فنجحت رغم معارضة خططها لما كان معروفاً من قبل لخطط إيطاليا والروسيا؛ فكانت الأولى تحرص على استقلال النمسا، ومع ذلك سمحت لألمانيا باحتلالها؛ وكانت الثانية تشتهي من زمن طويل أن تحصل على مرافئ حرة على بحر الشمال، ومع ذلك سمحت لألمانيا باحتلال النرويج

وأخيراً، دخلت إيطاليا الحرب تنفيذاً لاتفاقات موسوليني وهتلر، عندما كانت فرنسا في النزع الأخير، وبعد ما أفادت ألمانيا بموقفها غير المحارب فائدة كبيرة

الفرص المناسبة

ومعنى هذا أن دول المؤامرة - في عرفهم - تنفذ الجزء الخاص بها عندما تتوفر ظروف خاصة، كما حدث مع إيطاليا التي يعتبرون دخولها الحرب بمثابة بدء الجزء الخاص بإنجلترا، وبمثابة عامل يمنعها من وقف القتال إذا أرادت عقب تسليم فرنسا؛ فلن ترضى بريطانيا مثلاً أن تتجاوز عن حقها في البحر الأبيض وهو طريقها الطبيعي إلى إمبراطوريتها إذا طالبت إيطاليا ببعض هذه الحقوق، وهذا ما كان منتظراً لو استكانت بريطانيا لأعدائها

ص: 31

أما متى تدخل الدولة التالية ومن تكون فهذا أمر رهن الظروف، وإن كان بعضهم يرجح أن تكون أسبانيا، فلدول المحور فيها نفوذ كبير، بل إن حكومتها الحالية تدين لدولتي المحور بالبقاء. ولأسبانيا أهمية خاصة إذ يسهل من أراضيها سواء في أسبانيا أو في مراكش الأسبانية من كوتا ضرب جبل طارق، وإطلاق سراح الأسطول الإيطالي ليوالي أعماله في البحار، وينقل الجنود لمهاجمة إنجلترا. ولعل انتظار هذا الظرف هو السبب في هرب الأسطول الإيطالي من مواجهة الأسطول البريطاني

الصخرة

ويعتبر جبل طارق أقوى حصون العالم وأمنعها، فهو لسان دقيق من الصخور المرتفعة ينساب من الشاطئ الأوربي، ولا يتجاوز طوله ثلاثة أميال وعرضه ميلاً واحداً، وهو متصل بجنوب أسبانيا برقبة ضيقة من الأرض السهلة. وفي شمال الصخرة من جهة أسبانيا سهل يمتد ربع ميل به خطوط الدفاع البريطانية، ويليه الأرض المحايدة وهي رملية تمتد 1500 ياردة بطول الأرض وعرضها يختلف من 900 - 1800 ياردة، وفي نهايتها مدينة لالينيا الأسبانية

وترتفع الصخرة من الناحية الأسبانية عمودياً، ثم تتدرج إلى ناحية البحر، وارتفاع أقصى قممها 1400 قدم فوق سطح البحر. كان سطح الصخرة في أول الأمر مكوناً من الرمال والصخور في أوضاع غير منتظمة، ولكن أعمال الهندسة تناولته فبنت فيه طرقاً دائرية من الأسمنت المسلح يتجمع فها ماء الأمطار وينساب إلى أحواض عظيمة لحفظه. وبهذه الطريقة حلت معضلة ماء الشرب، وأصبح خلو الصخرة من الأنهار أو الآبار أمراً لا أهمية له

واستغلت الصخرة نفسها فعملت فيها عدة أنفاق عسكرية يوصل أحدها بين البحر الأبيض والمحيط، كما جهزت بالمدافع والحصون والمخابئ. وشيد على الشاطئ الغربي للصخرة ميناء بديع يرجع عهده إلى القرن الثامن عشر، وله شهرة تاريخية يمجدها الإنجليز فهو أول ميناء رست فيها السفينة (فكتوري) وهي تحمل جثمان (نلسن) عقب موقعة الطرف الأغر التي دمر فيها الأسطول الفرنسي، ومنها أذيع النبأ في جميع أنحاء الإمبراطورية، ومساحة المنطقة المائية لهذا الميناء 440 فداناً مربعاً، وأطول أرصفتها 851 قدماً

ص: 32

منذ قرنين

وبلغ عدد سكان جبل طارق سنة 1931: 21. 372 نسمة لا يحق لأحدهم امتلاك قطعة من أرضها، بل يعيش فيها الجميع بتصاريح خاصة من حاكم المنطقة، ويتضمن هذا العدد العسكريين منهم والمدنيين

بدأت سيطرة إنجلترا عليها سنة 1704، وحاولت فرنسا وإسبانيا نزعها منها، ولكن جميع الجهود التي بذلت لم تأت بأية نتيجة. ففي سنة 1779 حاصرتها الدولتان، وكان عدد الجنود البريطانية ثلاثة آلاف جندي يقابلهم 17 ألف جندي فرنسي وإسباني، واستمر الحصار ستة أشهر خسر فيها المهاجمان عشرة آلاف مقاتل مقابل 400 بريطاني، وتوالى عليها الحصار في هذه الحرب مدة ثلاث سنوات وسبعة شهور ولكنها ظلت أمنع حصون العالم

ولا نستطيع أن نتكهن من الآن عن المصير الذي تواجهه فقد صقلت الأسلحة الحديثة إلى حد بعيد، وأصبح من السهل قذفها بقنابل المدافع من كوتا في الساحل الأفريقي، فهي لا تبعد عنه إلا 12 ميلاً، كما يمكن ضربها من أسبانيا؛ فإذا حاولت دولتا المحور مهاجمتها فسنرى لجبل طارق تاريخاً جديداً، فقد جهزه الإنجليز بأحدث الأسلحة وأبعدها مرمى، واستعدوا لجميع الظروف من تخزين مؤن وذخائر مما يجعل اقتناصها أمراً بعيد التحقيق

ومنذ سنة 1783 لم تحاول أية دولة دخلت الحرب من إنجلترا أن تطمع في مهاجمة جبل طارق أو تنازع بريطانيا العظمى السيادة فيه. ولهذه الصخرة أهمية ممتازة وخصوصاً في الحرب الحالية. في مفتاح البحر الأبيض المتوسط، ويتحتم على كل سفينة تحاول دخول هذا البحر المرور في مياها الساحلية لضيق المسافة بين الشاطئين الأفريقي والأوربي. فإذا حاولت العصيان فإنها تتعرض لقنابل مدافع الصخرة المركزة في أماكن حصينة

حلقة الحصر

ويؤدي جبل طارق في هذه الحرب مهمتين:

الأولى: حبس الأسطول الإيطالي في حوض البحر الأبيض فيتعذر عليه الخروج إلى المحيط لعرقلة الملاحة البحرية، فإن رجال البحرية الإيطالية يعرفون مقدرة الأسطول

ص: 33

البريطاني فلا يفكرون في الاشتباك معه في معركة بحرية، وظهر هذا التصرف واضحاً عندما التقى الأسطولان في البحر الأبيض فلجأ أسطول إيطاليا إلى الهرب

والثانية: حصر إيطاليا وتعطيل تجارتها فيستحيل على سفنها أن تنقل إليها المواد الخام أو الأغذية اللازمة لسكانها. ولجبل طارق ميزة أخرى أشرنا إليها في مقالنا السابق، فهو القاعدة التي تكمل حلقة الحصر البحري على ألمانيا، وبهذا أصبحت دولتا المحور محصورتين في حلقة مقفلة، فإن نشاط الأسطول الإيطالي محصور في غرب البحر الأبيض، أما في شرقه فلبريطانيا سيادة كاملة عليه. أضف إلى ذلك قنال السويس وهو يعزل إيطاليا عزلاً تاماً عن مستعمراتها في شرق أفريقيا

وبهذا الوضع يتيسر لبريطانيا السيطرة البحرية التامة على المحيط الأطلنطي، فلا توجد فيه أساطيل تنازعها سيادته بعدما أصيب الأسطول الألماني بخسائر فادحة في النرويج جعلته مشلول الحركة

فإذا انتقلنا إلى باقي أطرا المؤامرة وهي الروسيا واليابان فقد وضحنا في مقالاتنا السابقة أن الروسيا تتبع سياسة خاصة لا تهتم فيها إلا بتحقيق أغراضها، وإن هذه السياسة لا تلبث أن تفصم العلاقات التي بين هذه الدول، فضلاً عن عداوتها واصطدام مصالحها بمصالح اليابان في الشرق الأقصى

بين الروسيا واليابان

فالروسيا تعتبر الصين وآسيا من مناطق نفوذها، واليابان تعتبرهما من مناطق نفوذها، وهي التي أصدرت المبدأ القائل:(آسيا للأسيويين) فإذا تجاوزنا اختلافهما في المبادئ إذ الروسيا بلشفية تسعى لبلشفة العالم، واليابان ملكية وللإمبراطور فيها نفوذ الآلهة، وإذا اقتصر بحثنا على اصطدام مصالحهما تبين لنا أن اتفاقهما متعذر

فإذا قلنا إن ما حدث بين الروسيا وألمانيا يمكن أن يحدث بين الروسيا واليابان وجدنا أن القياس متعذر، فإن المناوشات لا تكاد تنقطع بين قوات الفريقين، فحدودهما متجاورة وبحارهما واحدة، بل إن بعض البحار التي في شمال الجزر اليابانية والتي تحيط الأملاك الروسية فيها مصالح رئيسية لليابان؛ فهي مورد رزق لعدد كبير من صيادي السمك اليابانيين، ومصدر صناعات كبيرة في اليابان، وفي هذه البحار يتقابل الفريقان ويتناوشان.

ص: 34

فهذا الاختلاف البارز في علاقات الدولتين يفسر لنا الجزع الذي بدأ في أوساطهما عند ما ظهرت مساعي إنجلترا للاتفاق معهما، فكل منهما تخشى الأخرى ولا تريد أن تقوي جبهتها بالانحياز إلى جانب قوي يستطيع أن يفض خلافاتها، ومن ثم يعتبر اشتراكهما في المؤامرة الدكتاتورية اشتراك المصلحة فحسب، فإذا تيسر لإنجلترا تحقيق هذه المصالح، وهو في استطاعتها بما لها من نفوذ في الشرق فلا يوجد ما يستدعي استمرار المؤامرة ولا سيما أن الروسيا واليابان تطمئنان إلى التوسع البريطاني أكثر مما تطمئنان إلى التوسع النازي، فقد خبرا الأول وعرفا ميوله ووسائله، ولكن الثاني مجهول. وإن رجحت فيه كفة الخيانة والغدر، فالاتفاق مع إنجلترا خير من الاتفاق مع ألمانيا، لأنه اتفاق مأمون العاقبة

السياسة تعمل

أما كيف يتم هذا الاتفاق وعلى حساب أية دولة فهذا أمر ليس في استطاعة الباحث أن يجيب عليه، فقد دخلت الحرب الآن في فترة تعمل فيها السياسة والمعاهدات أكثر مما تفعل القوة العسكرية. فالحرب الآن حرب حياة أو موت تكثر فيها المقامرات، وتكثر فيها المعاهدات السرية الوقتية التي تعمل المعجزات

فمعنى أن إنجلترا تسعى لفض منازعات اليابان مع الصين أنها رأت في سكون هذا النضال مصلحة تريد استغلالها، فساستها ليسوا من الغفلة بحيث يفضون مشاكل اليابان في الصين إذا اعرفوا أن اشتراكها في مؤامرة ألمانيا وإيطاليا ما زال معقول التنفيذ

وتعرف إنجلترا ما بين الروسيا واليابان، فتلويحها بالاتفاق مع إحداهما إضعاف للمؤامرة النازية، وإنذار للأخرى، ولا سيما لما بينها وبين أمريكا من اتفاق على إنقاذ العالم من شرور النازية وأطماعها، وخصوصاً لما بين اليابان وأمريكا من اختلافات قد تؤدي إلى الحرب بينهما

واتفاق الحلفاء مع الروسيا مع ملاحظة سياستها الحالية التي تسعى إلى الحصول على أغراضها كلما سنحت الفرصة سواء كانت هذه الأغراض ضمن الاتفاق أو خارجة عنه كما شاهدنا في تصرفاتها مع ألمانيا - اتفاق لا يطمئن إليه الحلفاء. فللروسيا أطماع كبيرة في تركيا، فسياستها في جميع مراحل الحكم من قيصري وشيوعي كانت مبنية على الاستيلاء على مداخل البحر الأسود في البسفور والدردنيل، فإنه يلاحظ إذا نظرنا إلى خريطتها أنه

ص: 35

رغم الرقعة الواسعة التي تشغلها في القارتين الأسيوية والأوربية، يلاحظ أن منافذها البحرية الهامة محصورة وتحت تصرف غيرها من الدول، أو معطلة في جزء من السنة

الروسيا تنتظر

فموانيها في بحر البلطيق تقفل أثناء الشتاء بفعل تجمد الماء، وكذلك موانيها في البحر الأبيض الشمالي بعيدة قليلة الأهمية. ويلاحظ في موانيها في البحر الأسود أن منفذها إلى البحار الواسعة تحت سيطرة تركيا، فهي تسعى للاستيلاء على البسفور والدردنيل ليكون منفذها إلى البحر الأبيض المتوسط حراً، ولتأمن الاعتداء على سواحلها في البحر الأسود من اعتداء أساطيل الدول البحرية، فإنها إذا سيطرت على هذين الجزأين أصبحت سيدة البحر الأسود وهددت البحر الأبيض المتوسط

ومن يتتبع سياسة الروسيا يشاهد أنها توفر قواتها إلى وقت تستطيع فيه استغلالها في ظروف أكثر ملاءمة، فقد احتلت نصيبها من بولندا ورومانيا دون أن تبذل أي مجهود حربي يؤثر على الجيش السوفياتي

فهي في الغالب تنتظر أن تنهك الدول المحاربة ثم تبدأ بنشر الدعوة البلشفية بين الأمم، مستندة إلى قوة الحديد والنار، ولعل هذا مما يدعو الدول الأخرى إلى التفكير في ذلك المصير إذ يهدد الخطر الشيوعي الدول المنتصرة والمنهزمة، ولا شك أن ساسة الدول فكروا في هذا المصير طويلاً وقدروا له العلاج اللازم

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 36

‌سبحي معي.

. .!

أنا يا أختُ شاعرٌ قسَت الدن

يا عليه فعاشَ فيها شقيا

وأنا ابن الخيالِ والفنَّ والحبِّ

نمتْني السماء روحاً بهيا

فتعالَيْ نعزفْ على العودِ لحناً

يدع الكونَ مستهاماً زكيا

سبِّحي سبِّحي مَعي للذي أَوْ

دَعَ قلبيْنا حبَّنا العْذريا

يسمع الله يا حبيبةَ قلْبي

لحبيبيْن ينشدان سويا

أنتِ أسكرتني وأنسيْت قلبي

كرُباتٍ تركْنَ فيه دويا

أنت فتَّحت في عيونِيَ آفا

قي وأبصَرْتني جمالاً خفيا

أنت أجرَيْت جدوَلي بعد أن كا

نَ حبيساً مغلفاً منسيا

أنت أذهلْتني فسِرْتُ وما أدْ

ري على كونِيَ المنوَّر شيا

أنت عودتني احتقار الأناسِيِّ

وأحلَلْتني مكاناً عليا

فتساميتُ عن وجودي وغَنِّيْ

تُ غناَءً مخلداً سحريا

أنت أرقصْتِ حَوْلَ روحي أغاري

دَ فصارَتْ دنيايَ لحناً شجيا

أنت أسمْعتني من الغيْب أصوا

تاً وهمساً محبباً علويا

أنت صيرتني طروباً يغني

ذاهلا عن حياته قدسيا

فاسمعيني يا أختُ في عشك السَّا

جي وروِّي فؤادَك العبقريا

ألهميني أغانيَ الوتر الشَّا

كي ومدِّي شعاعَك الكوكبيا

واسكبي النورَ صافياً في عيوني

وافتحي قلْبي الرحيبَ الصبيا

واخلُقيني كما خلقْتكِ في فنِّ

يَ وخلَّدْتُ حسْنكِ الأبديا

العناياتُ أبدعتْكِ لأنْغا

مي وشَعْري فجئتِ سحراً شهيا

فاصطفيني كما اصطفيتك قلباً

صافياً، زاهراً، طهوراً، نقيا

واتركيني في حضنك الشاّعر الحا

ني وليداً مدللا قمريا

حوله ترقصُ الملائِكُ نشوى

وتغني الأقدار لحناً سنيا

طهرتني السماءُ حتى تمنَّيْ

تُ لَوَانَّ الوجودَ مثلي نقيا

ورعتْني الغيوبُ فانسابَ قلبي

جدولاً، ناغماً، رقيقاً، نديا

إيه من تلْهم الأناشيدَ كالعْط

رِ تعالَيْ نسكرْ على الكونِ هيا

ص: 37

أنت للفنِّ صاغَكِ الله يا روح

ي فلا تمنعي عن الفن ريا

وأنا الفنَّانُ الذي يَهتْف الطي

ر حواليه حين يسري هَنيا

وتغني الأمواجُ سكرى من الشَّوْ

ق وتلهو على الضفاف مليا

وتفوحُ الأزهار حتى يُرى الكوْ

ن نسيماً معطراً عبهْريا

هكذا جئْنا للحياة. . فلِمْ لا

نتغنَّى على الحياةِ سويا؟

عبد العليم عيسى

ص: 38

‌رباه.

. .

يا طلعةَ النورِ في ظلَماء أحزاني!

يا بسمةَ الأمنِ في أمواج حرماني!

يا هَدأَةَ الروح في أهوال عاصفةٍ

يا نغمةَ الطُّهْرِ في سرِّي وإعلاني!

يا شُعلةَ الخير في صدريِ مؤَجَّجةً

ويا صدى الحقِّ في أحناء وجداني!

ربَّاهُ صوتُكَ في الأعماق رَجَّعَةُ

قلبي الضعيفُ بترتيلٍ وألحانِ

رباه هذا كياني رمزُ مقدرةٍ

يَضجُّ بالحمدِ والتسبيح للباني

رباهُ إنَّ لهيباً ثائراً أبداً

أذكى دمائي بوقدٍ ليس بالفاني

رباهُ منك اقتبستُ الشعرَ مؤتلقاً

بكلِّ معنىً رفيع القدرِ فتَّانِ

رباهُ لولا جمالٌ منك مطلعُهُ

يوحي البدائع لم أهْمِمْ بتبيانِ

رباهُ طَهَّرْ فؤادي أن يُلِمَّ به

إثمُ الضلالةِ من إغواءِ شيطانِ

رباهُ إن سبيلي شائِكٌ وَعِرٌ

فاشدُدْ قوايَ بلطفٍ منك معوانِ

وافتَحْ لروحِيَ آفاقاً مُزَوَّقةً

من الخيالِ بأضواءٍ وألوان

واسكبْ عليها نَدى الآمالِ ممتزجاً

بنشوةِ الحسنِ من أعطافِ نَيسانِ

وانثرْ ورودَ الأماني في بواكرها

على ربيع صِبايَ الضاحك الهاني

رباهُ هذي صلاةُ الشعر حاملَةً

نجوى يقيني وتقديسي وإيماني

ما قيمةُ الشعرِ إن لم ينتظمْ سُوَراً

تدعو إلى الحقِّ ماكرَّ الجديدانٍ

(العراق - العمارة)

أنور خليل

ص: 39

‌رسالة الفن

طبق الأصل

معركة. . .

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

نشبت في الأسبوع الماضي على صفحات (الأهرام) معركة بين فريق من كبار الكتاب المصريين، كان مثار الخلاف فيها أن بعضهم أراد أو تمنى أن يعالج مفكرونا وأصحاب القلم عندنا شئوننا الاجتماعية والاقتصادية والقومية والحربية وغيرها من شئوننا الفقيرة إلى التفكير والتدبير، بينما رأى البعض الآخر أن هذا الوقت العصيب الذي نجتازه ليس أنسب الأوقات لمعالجة هذه الشئون التي لا ريب تحتاج في دراساتها إلى أعصاب مستريحة وعقول مطمئنة. وأين هي اليوم هذه الأعصاب التي لا تتحفز في اليوم الواحد مرات لا مرة واحدة، والني لا تشرئب إلى الغيب تريد أن تستخلص منه الحادثات وما يتبعها من النتائج، وما هي مستخلصة شيئاً إلا هذا الجهد الذي يبذله. وهذا الشرود الذي تعانيه. وأين هي اليوم هذه العقول التي تستطيع أن تتلقط مادة الفكر ومادة النطق في خلال هذه المفاجآت المنهارة على الناس من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون. . .

هذه كانت معركة الأسبوع الماضي

وستنشب في الأسبوع المقبل معركة أخرى بين هؤلاء الكتاب الكبار وسيدخلها غيرهم، وقد جاءتني أنباؤها، واطلعت على ما أعد هؤلاء الكتاب لها من وسائل الهجوم وعدد الدفاع فآثرت أن أستعجل الزمن وأن أطلع قرائي على ما أطلعتني عليه الصدف، أو الملائكة

ما قل ودل

لما كنت في باريس، في المرة الأخيرة، ألقى صديقي الأستاذ مارسيل دوديه محاضرة قيمة في دار جمعية (الشمس والقمر والنجوم) كان أهم ما جاء فيها قوله المأثور:(إن الإنسانية يجب عليها أن تفكر منذ الآن في البحث عن وطن جديد غير الأرض تكون نسبة الأكسجين في مناخه أقل من نسبته في مناخ كوكبنا هذا، فإنه لا شيء يساعد على إشعال النفوس بالغيرة والحقد والغيظ مثلما يساعد الأكسجين على ذلك). . . وقد أثبت الأستاذ

ص: 40

مارسيل دوديه نظريته هذه بصور كثيرة عرضها بالفانوس السحري كما أنه قام أمام النظارة بعدة تجارب أجراها على الأرانب والجرذان وعلى نوع خاص من الحشرات لا يوجد مثله في مصر ويوجد منه كثير في فرنسا وسامه اللاتيني (سانكا مانكا هوساروم) وقد دلت كل التجارب التي ألقاها الأستاذ مارسيل دوديه على أن نظريته صحيحة كل الصحة، ولكن الحرب لم تمهله حتى يتم أبحاثه فقد فوجئ بصفارات الإنذار وهو في معمله. ولست أدري ماذا حدث له بعد ذلك وإن كنت آسفاً كل الأسف على أن بحثاً جليلاً كهذا وئد وهو في طفولته. . .

أ. . .

البحث مستمر

كتب صديقنا الأستاذ الصاوي يقول: إنه كان في باريس حين ألقى العلامة الفرنسي الجليل الأستاذ مارسيل دوديه محاضرته الخالدة عن (المسكن الجديد) وهو الكوكب الذي كان هذا العلامة الفذ يريد أن ينقل الجنس البشري إليه فراراً من الأكسجين الأرضي الذي يشعل في النفوس الغيرة والحقد والغيظ فيسبب بها الحروب والويلات والأهوال. . .

والحقيقة هي غير ما قال الأستاذ الصاوي، فأنا الذي كنت في باريس في ذلك الوقت، وأنا وحدي الذي حضرت هذه المحاضرة القيمة، ولقد رويت ما استقيته منها للأستاذ الصاوي عندما قابلته في اليوم التالي في مطعم (سان سوسي) حيث قال لي إنه هبط باريس منذ ساعتين فقط، وما كنت أظن الأمانة العلمية تهون على الأستاذ الصاوي إلى حد أن ينسب لنفسه الاستماع إلى ما لم يسمعه، وادعاء العلم بما لم يأخذه بنفسه على أهله

وإني استحلف الأستاذ الصاوي بالضفدعة التي أكلناها معاً في ذلك اليوم أن يعود إلى الحق فينسب الفضل إلى أهله وذويه

على أنه لا يهمني كثيراً أو قليلاً أن يأخذ عني الأستاذ الصاوي هذا الذي أخذه، فكم أخذت مني معلومات نسبها الآخذون إلى أنفسهم وهي لي أنا تعلمتها في رأسي هذا الذي أحمله فوق كتفي والذي كدت أنوء بأثقال العلم التي احتواها.

ومع هذا فإني سعيد. ومن أسعد من العالم الذي يرى علمه يتفشى في الناس، ويروج

ص: 41

ويذيع؟

هذه كلمة عاجلة أردت بها أن أضع الحق في نصابه، وكفاني الحق وكيلا.

زكي مبارك

(حاشية):

نسيت أن أقول إنه بلغني أن الأستاذ مارسيل دوديه لا يزال مستمراً في أبحاثه.

موضوع للتفكير

كثر اللغظ في هذه الأيام حول موضوع الهجرة من الكرة الأرضية إلى كرة أخرى من هذه الأكر المنثورة في الفضاء. الواقع أنه موضوع جدير بالتفكير، وإن ظهر لنا اليوم أنه قد يكون بعيد الحدوث. ولكن كل الاختراعات التي حققها العلم في هذا العصر كانت في العصور السابقة أحلاماً اعتبرها الناس إذ ذاك بعيدة الحدوث

والذي يراجع التواريخ ويقلب الكتب يجد أن رجال الآداب والفنون عادة هم الذين يسبقون رجال العلم في تخيل هذه الأحلام، ويجئ رجال العلم بعدهم فيحققونها

والأستاذ مارسيل دوديه رجل من كبار الأدباء والفنانين والمفكرين لا في باريس وحدها، وإنما في أوربا كلها، وهو شيخ تجاوز التسعين من العمر، وقد كان هو أول من فكر في اختراع الدبابات، وإن لم يكن تفكيره قد اتجه إليها مباشرة، ففي نهاية الربع الثالث من القرن الماضي كتب الأستاذ مارسيل دوديه قصة (السلحفاة الحديد) ونشرها في جريدة (العقل الجديد). فاستغل العلماء هذه الفكرة واخترعوا بها الدبابة

وعلى هذا الأساس أستطيع أن أدعو الأدباء والكتاب والفنانين والمفكرين المصريين إلى أن يسرحوا في عالموت الخيال ما استطاعوا عسى أن يوفق أحدهم إلى فكرة يمكن تحقيقها مادياً. وعندئذ يكون لمصر فخر المهاجرة بالبشرية من هذا الكوكب الذي قضى ربك أن ترتفع فيه نسبة الأكسجين ارتفاعاً يسبب الحروب والكوارث

فما رأى الكتاب عموماً؟ وما رأى أخي طه على الخصوص؟

أحمد أمين

أوهام

ص: 42

لست أدري كيف جاز على الأستاذ أحمد أمين أن هناك أستاذاً في باريس اسمه مارسيل دوديه، وأن هذا الأستاذ عضو في جمعية اسمها جمعية الشمس والقمر والنجوم، وأن هذا الأستاذ ألقى في هذه الجمعية محاضرة عن الأكسجين في الأرض والأكسجين في الأرض والأكسجين في السماء، وأن هذه المحاضرة خرج منها السامعون أو السامع الواحد الذي يؤكد أنه سمعها ورأى فيها صوراً بالفانوس السحري وتجارب على الأرنب والجرذان، وعلى تلك الحشرة العجيبة التي اسمها (سانكا مانكا هوساروم). . . بفكرة هي أن الناس يستطيعون أن يعيشوا في أرض غير هذه الأرض وفي جو غير هذا الجو. . . مع أن قصة هذه المحاضرة كلها من أولها إلى آخرها ليست إلا مزاحاً أراد به صديق عابث أن يلهو مع الدكتور زكي مبارك الطيب القلب السليم النية، فقدمه إلى شاب من هواة التمثيل في باريس، بعد أن تنكر هذا الشاب في زي شيخ من العلماء الطاعنين في السن. وقد اختلق هذا الشاب الماجن الساخر كل ما حسبه الدكتور زكي مبارك حقاً، وألقى عليه المحاضرة الساخرة في نادي التمثيل الذي ينتسب إليه، وقد حسبه الدكتور المبارك جمعية علمية يعمل أعضاؤها على هجرة الأرض وسكنى السماء. . .

وقد كنت أربأ بصديقي الأستاذ أحمد أمين عن تصديق مثل هذه الأشياء، ولكن يظهر أن الذين قالوا: إن لكل عالم هفوة لم يكونوا كاذبين.

طه حسين

ولكني مسرور

بعد أن فضح أستاذنا الدكتور طه حسين ذلك الشاب الفرنسي الخبيث الذمي ادعى أنه أستاذ علامة، وأن اسمه مارسيل دوديه، وأنه يبحث عن سعادة البشرية واطمئنان الإنسانية، فحملني الخبيث على تصديقه والإيمان به. . .

بعد هذه الفضيحة، قد يحسب القراء أنني أريد السفر إلى باريس الآن لأبحث عن هذا الشاب وأخنقه وأشرب من دمه. . .

ولكن لا. . .

فما هذا والله إلا من ظرف باريس، ولطف باريس

ص: 43

وإنك لا يمكن أن تجد هذه الدعابة العذبة الحلوة الشهية إلا في باريس

رعاك الله يا باريس، وجدد شبابك، وأعاد لك البهجة والحبور، ولتمزحي معي بعد ذلك كيف شئت. . .

يا باريس. . .

زكي مبارك

وأخيراً

تيقظت من تأملاتي العميقة التي يسبح فيها فكري في سماء الفن البنفسجية المتماوجة الأضواء، على صوت شاب من جماهير المعجبين بي الذين يضايقونني بزياراتهم وأسئلتهم التي يوجهونها إليّ بالتليفون وبالبريد، وبالتلغراف أحياناً، ظناً منهم أنني ما دمت مفكراً وفناناً وفيلسوفاً فإنني أستطيع أن أصغي إلى أسئلتهم وأن أجيب عنها مع أنني أتعب نفسي كثيراً في عملية الإصغاء والفهم، فعقلي الطائر وراء الحقائق المتراقصة فيما بعد آفاق الإدراك لا يستطيع أن يغوص إلى حيث تدب المخلوقات العادية على أرض العقل الناعس المتهدل

تيقظت على صوت ذلك المعجب وهو يسألني رأيي في مسألة الأستاذ مارسيل دوديه؛ فطلبت منه أن يقصها عليّ بمنتهى الإيجاز حتى أستطيع أن أحصرها فلا تفلت منها شاردة ولا واردة، فلما فرغ منها طلبت منه أن يعطيني مهلة يوماً أو يومين حتى أفكر في هذا الموضوع

وبعد طول التفكير نتأت في عقلي فكر جديدة، وهي: لماذا لا نتخلص من هذه الأبدان التي تحتاج إلى الأكسجين والهيدروجين وسائر هذه المواد التي تحجب عنها أنوار الأفراح المقامة في السماء؟

وأخيراً اعتزمت أن أبدأ بهذه التجربة. . .

وكما طلبت من ذلك الشاب المعجب بي أن يمهلني فأمهلني حتى اهتديت إلى هذه الفكرة، فإني أطلب من القراء أن يمهلوني هم أيضاً حتى أهتدي إلى الطريقة التي يمكن بها أن نتخلص من أجسامنا الكثيفة

ص: 44

توفيق الحكيم

. . . وهذه (هدنة) تقف عندها المعركة

(عزيز أحمد فهمي)

ص: 45

‌رسالة العلم

الوضع الحقيقي لمشكلة

جابر بن حيان

للأستاذ أحمد زكي صالح

الباعث على نشوء مشكلة جابر

نحن الآن أمام شخصية فذة، ذلك لأن (جابراً) هو شخصية العلم، لا في العصور الوسطى الإسلامية فقط، ولكنه شخصية العلم في القرون الوسطى الأوربية.

ومنذ عام 1922، احتلَّت مشكلة جابر بن حيان الصدر والمكانة الأولى بين أهم المسائل التي عالجها العلماء المستشرقون في أوربا بوجه عام وفي ألمانيا بنوع خاص

ويمكن أن نقول: إن من أهم الأسباب لنشوء مشكلة جابر بن حيان وجود عدد معين من الكتب الكيميائية اللاتينية التي ينسب أصل تأليفها العربي لجابر بن حيان العربي المسلم

وهذه الكتب تعرف في الأدب اللاتيني الكيميائي بالأسماء الآتية

1.

2.

3.

4.

ولعل أهم باعث على الشك في صحة نسبة هذه الكتب لجابر بن حيان، هو هذه اللغة الواضحة، وذلك الأسلوب الجميل، وهذا العرض المنسجم الطلي، وغير ذلك من ظواهر الوضوح الفكري التي كتبت بها هذه الكتب. ذلك في حين أن التراجم اللاتينية لبعض المؤلفات العربية الأخرى كانت في لاتينية مضطربة وأسلوب مشوه قبيح، ولهذا السبب خُيِّل لبعض العلماء المستشرقين غموض أصل هذه التراجم وأنها مدخولة على جابر بن حيان

ولكي نعرض المشكلة عرضاً حسناً، ونضعها في وضعها الصحيح يجب أن نعرضها على شكل أسئلة نحاول أن نجاوب عليها، فإذا استطعنا ذلك سهل علينا إصدار الحكم الصحيح

ص: 46

في هذه المشكلة، فنتساءل:

أولاً: هل يمكن أن تكون الكتب الكيميائية التي عرفت في الأدب الكيميائي في القرون الوسطى تحت اسم من أصل أوربي؟

ثانياً: إذا لم تكن هذه الكتب من أصل لاتيني فهل يمكن أن تكون ذات أصل عربي؟

ثالثاً: هل حقاً أن هذه الكتب كتبها جابر بن حيان العربي المسلم؟

رابعاً: إذا كان كذلك، فمن هو جابر إذن؟

ولكن في عرضنا للمشكلة، لن نعرض لها جزءًا جزءًا، ولكن سنعرضها ككل، وبعد ذلك نناقش ما وصلنا إليه من نتائج

شخصية جابر بن حيان

جابر بن حيان من تلك الشخصيات التي عاشت في صدر الإسلام، وكلنا يعرف أن أهم ميزة يمتاز بها رجال هذا العصر هي العقلية الجامعة العامة، وأعني بها تلك التي يطلق عليها وجابر خير من كان يمثل هذه العقلية، إذ أنه جمع بين العلم والأدب، وكان فيلسوفاً ومتكلما شيعياً، وكيميائياً، ومنطقياً، وإماماً للشيعة، وطبيباً، وإذا عرفنا شيئاً عما يذكره (الفهرست) من مؤلفاته أمكننا أن نتصور على أي شكل وصورة كانت عقلية جابر

فنحن نجد في (الفهرست) إلى جانب ما يذكره له من كتب الكيمياء وهي حوالي 250 كتاباً، نجد كذلك 300 كتاب في الفلسفة و 500 في الرد على الفلاسفة، و1300 في العلوم الآلية والحيل ومثيلها في عدد الحروب، و 500 ونيفاً في الطب، وعدداً كبيراً من الكتب في علوم التنجيم والفلك والسحر والتعويذ والعلم الإلهي

ونحن لا نذهب إلى القول بصحة ما جاء في هذا الثبت، فقد يكون ابن النديم قد فهم (الرسالة) على أنها كتاب أو أراد التهويل، ولكن الذي يعنينا هنا أن ابن النديم يريد أن يصور لنا عقلية جابر بن حيان على أنها عقلية جبارة

أصول الترجمة اللاتينية لمؤلفات جابر

ليس من شك في أن اتحاد شخصية التي يقول بعض المؤرخين إنها الشخصية اللاتينية المؤلفة للكتب السابق ذكرها مع شخصية جابر بن حيان - يكون عديم القيمة إذا كانت

ص: 47

نسبة المؤلفات اللاتينية لجابر محض انتحال، وفي نفس الوقت تقدم البرهنة على ذلك مفتاحاً لمصادر هذه المؤلفات. وفي اختبارنا إياها كي نرى هل هناك احتمال يمكن أن يدل على أصلها العربي يتحتم علينا أن ندرس الكتب العربية لجابر بن حيان التي وصلت إلى أوربا؛ ولكن الأهم من هذا كله هو أن ندرس محتويات هذه الكتب الأربعة التي سبق أن أشرنا إليها

فكتاب (الجمع) الذي يعد بحق أعظم وأهم مؤلفات جابر كلها، قسم إلى كتابين: الكتاب الأول مقسم إلى أربعة أبواب؛ والثاني إلى ثلاثة:

فأما الباب الأول من الكتاب الأول فإن المؤلف يعالج فيه الصعوبات التي يقابلها الكيميائي في تحضير الإكسير. وفي الباب الثاني يدحض جابر براهين وأقوال أعداء الصنعة وخصومها. واختص الباب الثالث بمناقشة خصائص عناصر الكبريت والزرنيخ والزئبق التي منها تتكون المعادن في نظر جابر بن حيان. ويبين في الباب الرابع الكيفيات التي بها تعالج المعادن والكحول والتبر ووصف التجارب الخاصة بكل معدن؛ ثم تحدث بعد ذلك عن العناصر الهامة والأجهزة اللازمة لكل تجربة

وفي الباب الأول من الكتاب الثاني عالج تحضير الكحول وبعض المعادن، ثم في الباب الثاني ذكر عدداً من الوصفات الطبية لا بأس بها، وفي الباب الثالث ذكر بعض التجارب التي لا تحتاج إلى شرح طويل

وسنقتصر هنا على ملخص هذا الكتاب لأهميته ولإحرازه قصب السبق على الثلاثة الآخرين، إذ أن هذا الكتاب أخذ منزلة إنجيل الكيمياء في العصور الوسطى فضلاً عن أنه نشر مرات باللاتينية منذ العصور الوسطى حتى الآن

مناقشة آراء المستشرقين في جابر ومؤلفاته

ولقد عَزّ على بعض المستشرقين أن يوجد مثل هذا المفكر الجليل الشأن، في الشرق خاصة وفي الإسلام عامة؛ فأخذوا يبتدعون أساليب الشك، ويحاولون بمعاول الهدم أن ينالوا من جابر بن حيان، ولكن هل قُدر لهم النجاح فيما أرادوا؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه!

وضروري جداً، لمن كان في سبيل بحث كبحثنا هذا، أن يؤرخ تأريخاً بسيطاً لحركة

ص: 48

الاستشراق العلمي

كانت دراسة المستشرقين للناحية العلمية في العالم الإسلامي عديمة القيمة في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر؛ ولكن منذ خمس وعشرين سنة ظهرت حركة جديدة في محيط الاستشراق لتبيّن أصول العلم العربي الذي يوجد بين طيات تلك المخطوطات العربية العديدة الموجودة في دور الكتب الشرقية والغربية، والتي يرجع الفضل في نشر بعضها إلى: برجستراسر وبراون وتكاتش وسوتر ومسبيرو

وهناك مدارس كثيرة من تلك التي اختصت بالكيمياء والطب والفلك والرياضة والطبيعة والفلسفة صبغت نفسها في نفس الوقت بصبغة استشراقية، نذكر من هؤلاء: رسكا وودمان وستشو وكروس وبلستر وسرطون ورينو وغيرهم

تقرير الأستاذ شميدر

الأستاذ شميدر له صولة وجولة في تاريخ الكيمياء، وبطبيعة الحال اتصل بحثه بمشكلة جابر بن حيان ومؤلفاته، ونحن نقتطف بعض عبارات مما كتبه:

قال: إن أشهر الكتاب العرب الذي عالجوا الصنعة (أي الكيمياء) هو جابر بن حيان الذي عاش حسب تقدير ليوافريكانس في القرن الثاني الهجري، ويمكن أن يقال بالدقة في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد. وليس ثمة عربي قبل جابر استطاع أن يكتب مثل ما كتب جابر. وليس ثمة عربي بعده استطاع أن يصل إلى مثل ما وصل إليه جابر، الأمر الذي ترتب عليه أن أطلق على جابر بن حيان في التراجم اللاتينية اسم (ملك العرب)، وإنه ليظهر لي غريباً وبعيد الاحتمال أن أولى محاولات التأليف في موضوع معين في شعب من الشعوب قد تبلغ هذه المرتبة من الناحية العلمية، ولكن المشكلة زال ما كان يعتريها من غموض بفضل استكشاف ليوافريكانس الذي ذهب إلى القول بأن جابر لا يمت إلى العرب بصلة، وإنما هو منحدر من سلالة إغريقية. فلقد عاش جابر في إشبيلية بأسبانيا حيت ألم بكل فروع الفلسفة اليونانية العربية، وربما يكون جابر هذا هو الذي أنشأ الجامعة العربية هناك، أو على الأقل يمكن أن يعتبر مؤسس مدرسة فلسفية انتشر تلاميذها في القارات الثلاث، وأخذوا ينشرون العلم باسم جابر بن حيان. ولما كانت كل مؤلفات جابر بالعربية فإنه اكتسب لنفسه الجنسية العربية وكذلك اكتسبها لعلمه

ص: 49

ولكن إذا أنعمنا النظر في هذا الرأي الذي يأخذ به الأستاذ شميدر وجدناه مليئاً بالأغلاط التاريخية، وذلك أن جابراً لم يذهب إلى إشبيلية، وما عاش بها قط، إنما عاش متنقلاً في بلاد المشرق بين الكوفة وبغداد، وأن جميع كتب التاريخ العربية تثبت لنا ذلك بشكل قاطع، هذا أولاً، وثانياً: إذا كان صحيحاً ما يقول به شميدر من أن جابراً معتنق جديد للدين الإسلامي، فما هو اسم جابر الأصلي؟ ولمَ لَمْ تذكر في كتب التاريخ هذه الحقيقة؟ وهبني سلمت بصحة ما يقول به شميدر فكيف يمكن التوفيق بين ما يقول به وبين ما تقول به كتب التاريخ الصريحة من أن جابراً تولى إمامة الشيعة، بعد موت جعفر الصادق، وهم على ما هم عليه من تطرف وغلو شديدين في الدين الإسلامي؟

وهذا كله لا يسعنا إلا أن نرفض ما يقول به الأستاذ شميدر

تقرير الأستاذ مايرهوف

يرى الأستاذ مايرهوف أن تلك الكتب التي تنسب لجابر هي في ذاتها مشكلة، إذ كيف يتيسر أن نفهم أن رجلاً عاش في القرن الثامن وله كل هذا الاطلاع على الأدب اليوناني الكيميائي؟ ولكن يظهر أن هذه المؤلفات من أعمال جمعية في القرن العاشر من الميلاد أي القرن الرابع الهجري شبيهة بتلك التي أطلقت على نفسها (إخوان الصفاء). وأسماء المؤلفين اليونان هي التي تذكر فقط أعمال جابر الطبية، ولكن النصوص بعيدة عن أصحاب هذه الأسماء جد البعد، وتدل على روح مدرسية صريحة، ففي حين أنه قليلاً ما يأتي ذكر الأعلام السريانية والهندية، نجد كثيراً ما وردت الأعلام الفارسية. . . وعلى أية حال فمن المشكوك فيه أن نعدها الحلقة الأخيرة من سلسلة تقدم علمي امتد من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الإسلامي

ولكن رأى مايرهوف لا يعدو أن يكون تقريراً ساذجاً، فالأستاذ رسكا يقول: إن المسألة لا يمكن أن تفسر هذا التفسير البسيط الساذج من أن أعمال جابر بن حيان إنما هي أعمال مدرسة استمرت عدة قرون

ولكن، فلنتوسع قليلاً في مناقشة ما يذهب إليه مايرهوف: فمايرهوف يبني أساس برهانه على أنه لا يمكن لجابر أن تكون له هذه المعرفة الواسعة المدى بالكيمياء، وهو الذي عاش في القرن الثامن للميلاد، ولكن أنسى الأستاذ مايرهوف وهو الفطن اللبيب الذي بحث في

ص: 50

الأصول التي استقى منها الإسلام العلم وبين بكل وضوح وجلاء أنه ما أتى القرن الثاني من هجرة الرسول، أي القرن الثامن من الميلاد، حتى كان لدى المسلمين معرفة حسنة بل جيدة بالعلوم، وخاصة الطبيعية منها التي كانت لدى الفرس والسريان والهنود والمصريين واليونان

ولكن يمكن أن نلتمس له عُذراً إذا عرفنا أن المدة بين رأيه الأول ورأيه الثاني تقرب من ثماني سنوات. فإذا كان مايرهوف سنة 1937 يهدم الأساس الذي بنى عليه مايرهوف تقريره سنة 1930 فلا يسعنا إلا أن نرفض النتيجة المترتبة على رأيه الأول، وهي أن أعمال جابر من أعمال مدرسة امتدت حوالي ثلاثة قرون

(يتبع)

أحمد زكي صالح

ص: 51

‌البريد الأدبي

إلى الدكتور زكي مبارك

قرأنا حنقين مقالك الذي تبكي فيه بلدة آثرت صلة هواك بملاهيها وحبك لمعاهدها على صلتك بإخوانك الذين جرّعهم أبناء النور الصاب، وأوردوهم شرّ مورد، صلة الدم واللسان والإسلام ما كان لك أن تنساها

ولولا أن الفم فيه ماء، لعاتبتك عتاباً يتحدث به الركبان.

ولكن يشفع لك ما قدمت إلينا من جميل، وما أسلفت من إحسان

وإن يكن القول الذي ساء واحداً

فأقوالك اللائي سررن ألوف

وأرجو ألا يمنع الأستاذ الزيات من نشر هذه الكلمة أنه شريكك فيما أعاتبك عليه وألوم. .

والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته

(دمشق)

علي الطنطاوي

(الرسالة):

كان الأستاذ الطنطاوي حرياً أن يفرق بين فرنسا السياسية المستعمرة وفرنسا الأدبية المتمدنة، فأنه لو فعل ذلك لوافقنا على أن فرنسا الروحية هي الوطن الفكري لكل أديب.

أصحاب العاهات ونوادرهم

ذكر الأستاذ صلاح الدين المنجد في العدد الماضي من الرسالة أن نخبة من أدباء دمشق عنوا بجمع أخبار أصحاب العاهات ونوادرهم وأنهم لم يعثروا إلا على القليل من أخبار العور وملحهم. ويسرني أن أرشد هذه اللجنة الموقرة إلى كتاب يفيدها في هذا الموضوع، وهو (الشعور بالعور) للعلامة صلاح الدين خليل ابن أيبك الصفدي، وهو كتاب جامع في أخبار العور من صحابة وتابعين وعلماء وأدباء، وهو على مثال كتابه في العميان المسمى (نكتُ الهميان في نكتِ العُميان). والشعور بالعور من الكتب التي نقلها المرحوم أحمد زكي باشا بالتصوير الشمسي عن مخطوط في بعض مكاتب الأستانة. وهو يوجد الآن في

ص: 52

خزانته الزكية بدار الكتب المصرية. وعسى أن يجده الأستاذ في مكاتب دمشق الخاصة أو العامة فإنه فريد في بابه.

محمود حسن زناتي

أمين الخزانة الزكية سابقا

(الرسالة):

جاءنا مثل هذا البيان من الأديب رشاد عبد المطلب، وقد زاد على ما قال الأستاذ الزناتي أن من هذا الكتاب نسخة خطية في الخزانة الخالدية في القدس، وأن للصفدي كتابا في العمش وآخر في الحدبان ذكرهما السخاوي في كتابه (الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ).

دعاء: شيئاً لله يا مرسي!

يا أبا العباس لقد كنت تقياً، وقد كنت ولياً، وإن لك عند الله كرامة، وهو مجيبك إذا دعوته، فهلا دعوته اليوم للإسكندرية!

لقد دعا الشيخ المراغي للقاهرة فادع أنت للبلد الذي أسكنك الله إياه كما دعا إبراهيم للبلد الآمن، الذي أمنه الله بدعائه

قل يا رب صن الإسكندرية من شر عبادك، كما صانت الإسكندرية عبادك من شر بلادهم، فكم جاءها من فقير، وكم جاءها من يائس، وكم جاءها من مؤمل، وكم جاءها من مجاهد، وكم جاءها من عالم، وكم جاءها من عابد، وكم جاءها وكم جاءها. جاءوها من هنا وجاءوها من هناك، ففتحت لهم جميعاً ذراعيها، وأحسنت وفادتهم، وآخت بينهم، وحنت عليهم أماً رؤوماً، وعلمتهم، وشدت أزرهم، وصرفتهم من كتمة الغل إلى براح الرجاء، وطهرتهم من وخامة الحقد لما كوتهم بالملح. . . فصنها يا رب صنها فما كانت تتوقع من إنسان غدراً، وما قدمت يداها سيئة، وما انطوت نفسها على ضغينة. . .

ليس في الإسكندرية جبن يا رب وليست فيها ذلة، وأنت أعلم بمن فيها من عبادك الذين يصارعون التحجر في الصحراء والتجبر في البحر والتناحر في التجارة. . . أيكون هؤلاء جبناء أنذالاً أذلة، أم هم الأحرار الكرام الأعزة. . .؟ إنهم الأحرار الكرام الأعزة يا رب، إذا هبط لهم العدو وصادمهم وجهاً لوجه، وفرداً لفرد؛ أما أن يتحجب فوق السحاب ويقذف

ص: 53

بالنار وهو فوق، فالأسود يا رب تحرقها النار إذا انقذفت عليها من فوق. . . فصن اللهم الإسكندرية

وإذا كانت الإسكندرية قد فسقت يوماً عن أمرك يا رب حين تولتها المرأة كيلوباترة فقد أنزلت بعد ذلك عليها من غضبك ونقمتك ما ردها لصوابها فتابت إليك يا رب وأنابت واحتملت عن مصر بعد ذلك ويلات الحروب المتوالية، وهجمات الطامعين المتعاقبة. فهلا تبت عليها بذلك فغفرت لها الهينات من سيئاتها، وما سيئاتها إلا مجون الطيش وعبث الخفة، وهي بريئة بعد ذلك من الطغيان، بريئة من الكفر. . . وهي لا تزال إلى اليوم تخشاك وتخافك، إن أذنبت استغفرتك، وإن زلت استنجدتك، فإن استمرأت الخطيئة، واستغرقت فيها ذكرتك، وإن في الأدنس من أحيائها صلاة لك، ومسجداً تهوي إليه أفئدة الأشقياء المحرومين، أو أسماعهم أو أنظارهم، فما يلبثون حتى يقولوا وهم في سكرة الرجس: اللهم يا رب. . . يرجونك ويسألونك الهدى. . .

يا رب. . .

. . . قل لربك هذا يا مرسي، وقل من عندك ما هو خير

(عزيز)

عطف ملكي كريم

رفعت إلى السدة الملكية العالية نسخة من كتابي الجديد (بين صديقين) فكان من فضل حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، أن تلقيت كتاباً كريماً من ديوان كبير الأمناء، أتشرف بنشره في مجلتنا (الرسالة) الغراء، ونصه:

حضرة المحترم الشيخ أحمد جمعة الشرباصي:

أتشرف بإبلاغ حضرتكم الشكر السامي، على النسخة التي قدمتموها إلى (حضرة صاحب الجلالة الملك) من كتابكم (بين صديقين)

وتقبلوا وافر الاحترام

كبير الأمناء

تحريراً في 9 يوليو سنة 1940

ص: 54

عنه: أحمد محمد حسنين

إمضاء

وإني لأبتهل إلى الله العليّ القادر أن يؤيد مُلك الفاروق وأن يعز دولته، وأن يحفظه قائداً للشباب وقدوة للملوك!. . .

(البجلات)

أحمد جمعة الشرباصي

الشيخ الأكبر

يطلق كثير من المسلمين لقب (الشيخ الأكبر) على الشيخ محي الدين العربي اعتقاداً منهم بولايته ومنزلته عند الله؛ وضريحه في دمشق محطّ للمئات منهم كل يوم يطوفون حوله ويتمسحون به تبركاً وربما دعاه بعضهم لقضاء حوائجه بدلاً من أن يدعو الله. وإذا أنكر هذا عليهم منكر اتهموه بالزندقة، وقد أحببت أن أعرض للقراء بعض ما يقول هذا الرجل، وأن أترك لهم الحكم في (ولايته)

قال في كتاب اليواقيت والجواهر: اعلم أن عدد الأنبياء والمرسلين من بني آدم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، كما ورد الحديث (!) ولا بد من هذا العدد في الأولياء في كل عصر وقد يزيدون. وقد جمع الله بيني وبين جميع أنبيائه في واقعة صحيحة حتى لم يبق منهم أحد إلا وعرفته، وكذلك جمعني على من هو أقدامهم من الأولياء فرأيتهم وعرفتهم كلهم. وقال: رأيت في كشفي جميع الأنبياء والمرسلين، وأممهم مشاهدة على من كان منهم ومن يكون إلى يوم القيامة أظهرهم الحق تعالى في صعيد واحد! قال: وصاحبت منهم غير محمد صلى الله عليه وسلم جماعة منهم الخليل عليه السلام قرأت عليه القرآن كله باستدعائه ذلك مني فكان يبكي عند كل موضع ذكره الله تعالى فيه من القرآن وحصل لي منه خشوع عظيم. وأما موسى عليه السلام فأعطاني علم الكشف والإفصاح عن الأمور وعلم تقليب الليل والنهار. وأما هود عليه السلام فأخبرني بمسألة كانت وقعت في الوجود وما علمتها إلا منه. وأما عيسى عليه السلام فثبت على يديه أول دخولي في طريق القوم.

وقال في الفتوحات (الباب الثالث والسبعين): ما اجتمعت بأحد من الأنبياء أكثر من عيسى

ص: 55

عليه السلام، وكنت كلما اجتمعت به دعا لي بالثبات حياً وميتاً، وكان يقول لي: يا حبيبي! وقال فيه (الباب الخامس والستين): قد شاهدت في واقعة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وشاهدت جميع الأنبياء وأشهدني الله تعالى جميع المؤمنين بهم، حتى ما بقي منهم أحد لا من كان ولا من يكون إلى يوم القيامة، وعرفت خاصهم وعامهم، وعرفت جميع السعداء الذي كانوا في ظهر آدم وعددهم، فلا يخفى عليَّ الآن منهم أحد من أهل الجنة ولا من أهل النار، لكن لم يعطني الله تعالى معرفة عدد أهل النار لكثرتهم. ويقول فيه (الباب الثامن والتسعين) فإن قلت. فهل اطلع أحد من الأولياء على عدد الحوادث التي كتبها القلم الأعلى في اللوح إلى يوم القيامة؟ فالجواب نعم ومائة نعم! وأنا ممن أطلعه الله على ذلك. فإن قيل لكم: فكم عدد ما سطر في اللوح من آيات الكتب الإلهية؟ فالجواب: عدد ما سطر في اللوح من الآيات التي أنزلت على الرسل: مائتا ألف آية وتسع وستون ألف آية ومائتا آية!!

فما رأى سادتنا العلماء في هذا الولي العظيم والشيخ الأكبر؟

(دمشق)

ن. ط

حديث صحيح

جاء في كتاب (فجر الإسلام) ص 267: أن البخاري على جليل قدره ودقيق بحثه اثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية على أنها غير صحيحة. واستشهد لذلك بحديث: (لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة) اهـ

هذا الحديث أخرجه البخاري كاملاً في باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء من كتاب الصلاة، ونصه: عن عبد الله بن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النبي (ص) فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. فوهل الناس في مقلة رسول الله عليه السلام إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة؛ وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض يريد أنها تخرم ذلك القرن. ورواه مختصراً - على عادته من تجزئة الحديث في مواضع متعددة - في باب السمر من كتاب العلم، ونصه كما نقله

ص: 56

الأستاذ أحمد أمين. وفي هذا المقام نبه الشراح - ابن حجر والقسطلاني والكرماني - على أنه جزء حديث، وأنه ذكر كاملاً في باب السمر في الفقه، وأنه مقيد بقيد (اليوم). ورواه مسلم من طرق متعددة إحداها عن جابر انه عليه الصلاة والسلام قال لهم قبل وفاته بشهر:(ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ). وقد نص النووي وغيره على أن هذا الحديث علم من أعلام النبوة إذ أخبر فيه بأن كل نفس كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة، وكان الأمر كذلك، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، ولا إخبار عن فناء الدنيا بعد مائة سنة كما فهمه الأستاذ أحمد أمين. وقال ابن حجر بعد شرح الحديث المذكور:(وكذلك وقع بالاستقراء فكان آخر من ضبط أمره ممن كان موجوداً حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة وقد أجمع أهل الحديث على أنه كان آخر الصحابة موتاً، وغاية ما قيل فيه أنه بقي إلى سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنة من مقالة النبي صلى عليه وسلم). فكيف أقدم الأستاذ على الحكم بوضع هذا الحديث، وهو كما رأيت من أخبار الرسول التي وقعت كما أخبر!

وقد عدَّ الأستاذ في آخر فصل الحديث مراجع ذكر في مقدمتها فتح الباري والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم فإن كان قد اطلع على روايات الحديث، وما كتبه الشراح، فكيف حكم بكذبه، وإن كان لم يطلع إلا على الجزء المختصر من متن البخاري فكيف عدَّ تلك الشروح من مراجع بحثه؟!

مصطفى حسني السباعي

في الكلمة الماضية جاء لفظ (قهزار) وصوابه (فهزاذي). (والفزار) وصوابه (الفزازي).

-

ص: 57

‌القصص

عودة الماضي

للأستاذ محمد سعيد العريان

خلَتْ (هُدَى) إلى نفسها تتدبّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ كانت تشعر أنها قادمة على أمر ذي بال، وأَنها الساعةَ في مرحلةٍ بين مرحلتين من حياتها، وثَمّةَ طريقان عليها أن تختار أيَّهما تسلك؛ فإما إلى سعادةِ تُنسيها الماضي بما فيه من لذة ونشوة وسحر، وإما. . .

ولكنها لا تعرف السعادةَ إلا ما كانت فيه قَبل؛ فما هذا الجديد الذي يحاول أهلها أن يزيَّنوه لها ويحملوها عليه؟

الزواج! والبيت! والأسرة!

ما أجمل هذه الأسماء وألطفَ موقعَها من قلب كل فتاة! ولكن ما بال (هدَى) إذ تسمعها الساعةَ كأنما تَخِزها وخزَ السنان، فما تطرق أُذنَها إلا فارغةً من معناها أو معدولاً بها عنه، فليس لها في نفسها إلا معاني القلق والوحشة والحرمان!

أتراها وقد جاوزت العشرين لم تفكر في الزواج والبيت والأسرة قبل اليوم؟ بلى! ولكن. . .، ولو أن أحداً غير أبيها وأمها ألقى إليها هذه الكلمات قبْل، لكان لها معنى حقيقٌ بأن يسرَّها ويملأها سعادة ومرحاً؛ أعني لو أنه هو. . . ولكن، أين هو؟ وهل يدري. . .؟

وطارت خواطرها سريعاً إلى (ماجد) وتمثلتْه جالساً مجلسَه ينتظرها لموعدها الذي طالما التقيا فيه منذ سنواتِ. . . يتلفْت ويمدْ عينيه يَتنورَّها قادمةً من بعيد، فيلقاها مبتسماً ويبسط لها يمينه!

آه: ماذا تُراه يفعل حين يبلغه النبأ، فيعرف أن (هدى) لن توافيه لموعده منذ اليوم، ولن تلقاه، ولن يراها؛ لأن حياةً جديدة قد باعدت بينهما فلا سبيل إلى اللقاء!

ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، وتدحرجت على خذها عبره؛ أَّمحى خياله من خيالها، ثم عاد، ورأته - كما نظرتْ في مرآتها - عابساً مقطِّباً، في جبينه ذلة المخذول وفي عينيه ذبول السهر ولهفة الحرمان!

وغلبتْها نفسُها فأرسلت عينيها، وأطرقتْ، وأصابعُها تعبث بمنديل بللته الدموع!

ورن جرس المِسرَّةَ، فهبْت واقفة كأنها من رنين الجرس على ميعاد، ثم ذكرتْ موقفَها،

ص: 58

فقمعتْ في صدرها رغبة تختلج وعادت إلى مجلسها. لا ينبغي أن يسمع (ماجد) صوتها في المسرة بعد اليوم!

لم يَحسب ماجد وهدى حساباً لهذا اليوم من قبل، لوم يدُر في خاطر واحد منهما لحظة أن هذه الساعة آتية؛ لقد كانا من الحب في سكرة ذاهلة لا تدع لهما سبيلاً إلى الفكر والتدبير وتَوَقُّع ما لم يقع بعد. . . وفجأة تغيْر الموقف وكان ما لا بد أن يكون؛ وطرق الباب طارق مجهول يطلب يد هدى. . .

. . . وسأل أبوها وتقصَّى أمرَه، فرضِيَه لفتاته، ولكنه تلبِّث حتى يسمع رأيها، وسألها فلم تُجب، وفزعت إلى خلوتها تتدبَّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها، وتبكي. . .

أكانت تبكي حُباً لماجد أم شفقة عليه؟ مَن يدري؟ ولكنها ظلت تبكي؛ وماذا تملك أن تفعل غير البكاء؟

أتُراه يعرف؟ يا ليت. . .! إنه هو وحده الذي يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة غير البكاء! لو أنه جاء الساعةَ يطلب يدها! إذن لاستطاعت أن يكون لها رأي، وأن يكون لرأيها اعتبار ومكان. . .!

ولكنه جالس مجلسه هناك، ينتظرها لموعدها؛ فَمَن له بأن يعرف؟ مَن له بأنه لن يرى هُدى بعدُ، ولن تراه؟

. . . أم تراه لو عرف يسرع إلى بابها فيزحم هذا الخاطبَ المجهول بما لَه من سَابقةٍ قريبة؛ فما مَنَعَه من ذلك قبلُ لو أنه كان يريد؟

. . . ومضت أيام قبل أن تعلن هدى رأيّها إلى أبيها؛ لقد حاولتْ في هذه الأيام أشياءً كثيرة ولكن محاولاتها جميعاً لم تستطيع أن تحمل فتاها على ما أرادتْ؛ ليت شعري أكان ذلك منه غباءً أم تغابياً؟

ولم تَجد الفتاةُ سبيلاً إلى الخلاص بعد، فرضيتْ!

لم تكن هدى من الغفلة بحيث تجهل أنها مقبلة على عهدٍ جديد ليس بينه وبين ماضيها سبب، وأن ذلك الماضي بما فيه من أماني وذكريات قد ذهب إلى غير رجعة؛ فإن هي لم تستطع أن تنزع من نفسها كل ما يربطها به، فقد ضلَّتْ وأَثِمتْ وبذلتْ ما لا تملك لمن لا يملك - فراحت من أول يوم تحاول أن تدفن ذلك الماضي في أعمق أغوار النسيان، فلا

ص: 59

تدع سبباً يذكّرها به إلا أبعدته وعفَّتْ آثاره؛ فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء من معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذْرَتْ رمادها، وحتى المخدع الذي كان يُلمّ بها طيفُه إذ تأوي إليه، لم تَدَعه في موضعه؛ والصورة التي تصوّرتها يوماً لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها -، لم تُبقِ عليها؛ والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاولْ أن تمسك سمّاعتها بعدُ مرةً واحدة لتنادي أحداً أو تجيب نداء. . .

ولكن هدى مع كل ما فعلتْ وما غيِّرتْ من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورِقْبة، تخشى يوماً يستيقظ فيه ذلك الشبحُ الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويُزِلّها!

وتركتْ ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان؛ وجلست في مُصَلاَّها ورفعتْ يدين ضارعتين إلى الله تدعو:(يا ربّ! هذه طاقتي فيما أملك؛ فجنَّبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!)

ولما حُدِّد يومُ العُرس بعد أيام، رَجَتْ أباها وخطيبَها أن يَنْسآ الأجل؛ فما تريد أن تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعاً!. . .

وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأتْ فتىً يستحق الحبَّ لو أنها تملكه؛ فمنحته الاحترام والطاعة!

وكثر لقاؤها خطيبَها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديثُ فنوناً، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه؛ ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضَتْ من حياءِ، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!

أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط!

لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع سرّاً أطلَّ عليه من عينيها حين نظرتْ ونظر، فلم ترقأ دمعتُها ليلتئذ!

ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولتْ أن تقول شيئاً ثم أمسكتْ؛ قلد خُيِّل للمسكينة أنها تستطيع أن تَتَخفّف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحتْ به بين يديه؛ ولكنها لم تقدر، فسكتتْ على ألم!

ص: 60

وراحت الأيام تدنيهما قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفساً لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنواً من الإخلاص والوفاء والرجولة؛ فمنحته الإعجاب إلى الاحترام والطاعة!

وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت؛ فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها، وأتست إلى حاضرها وسعدت به!

وصحبتْ زوجها إلى داره، والتقيا روحاً وجسداً وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضى؛ فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل وراح زوجها يبذل لها، ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرَّد ألحانه. ومضى عام، وصار الاثنان ثلاثة؛ واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق - كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفَّف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!

ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خالٍ على شط النيل حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها. وانبعث الماضي إنساناً حياً يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من سِنيه لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت؛ وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار بسمات على الشفاه تختلج وتناجياً في العيون تتلاحظ؛ وهتف ماجد في هَمس: هُدى!

وهمَّتْ هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صورٌ وذكريات، وخيل إليها أن أصواتاً كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، وأفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: ماما! ماما! أنا سبقتك!

وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!

وكعهدها في ليلةٍ منذ سنوات - كانت في تلك الليلة؛ وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ وشعرت كما شعرت مرة من قبل، أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها

ص: 61

الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها؛ ولكنها هذه المرة لم تكن في شك من الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وإن كانت تطأ فيه الشوك وتدوس على الجمر!

ودنا الطفل من أمه وعلى شفتيه كلمة صامتة وفي عينيه سؤال. . .

ومدت أمه إليه يداً فضمته إلى صدرها وانحنت عليه وراحت تبكي بلا دموع!

(يا ولدي!. . .)

ولم تتم حديثها! ترى بماذا كانت تريد أن تحدث طفلها؟ أتراها كانت تريد أن تتخفف من ثقل يئودها فتفضي إليه بالسر الذي عجزت من الإفضاء به إلى أبيه. . .

وذكرت الرجل الذي وضع أمانيه بين يديها وأخلص لها؛ لقد منحته من نفسها الاحترام والطاعة حين عجزت أن تمنحه الحب؛ ولقد خُيل إليها في فترة من حياتها أنها تحبه؛ فما بالها اليوم قد صبأت حين ذكرت ذلك الماضي الذي كانت تظنه قد غاب في مَدْرَجة النسيان؟

وتعاقبت الأيام، وهُدى من داء قلبها في همٍّ واصب، والزوج يرى ويحس ولا يكاد يدري، والطفل يذبل ويذوي عوده؛ إذ كانت أمه في شغل عنه بما تصارع في نفسها مِن هم!

وعاد الزوج إلى الدار ذات مساء ومعه ضيف. . . وكان الماضي طيفاً يُلمّ فعاد ضيفاً يزور!

واستقبلته هدى بشعور بين الأنس والوحشة، واتخذت مجلسها بإزاء الرجلين اللذين فرض عليها القدر أن تكون منهما بين شِقَّي مقصَ لا يجتمعان إلا على فرقة وشتات!

ونهض الزوج لبعض شأنه، فهمَّت أن تلحقه حين ناداها ماجد، ونظر إليها ونظرتْ؛ وكان في عينيه نظرة ضارعةٌ، وفي عينيها نظرةُ تساؤل، وتحركت شفتاه هامساً:(هدى! لقد التقينا أخيراً. . .)

وفي نبرة صارمة متكبرة أجابته ووجهها إلى الباب: (خيرٌ ألا تعود. . .!)

ولما خلت إلى نفسها بعدُ ومَثَلَتْ صورته في خيالها، كان رجلاً لآخر غير مَن كان؛ بلى، إنها كانت تحبه، وكانت تحفظ له في أعماقها أجملَ الذكرى، ولكنها لم تعرفه على حقيقته إلا الساعة؛ لقد كانت له يوماً بقلبها وعواطفها تحفظ له غَيْبَه ومَشْهده؛ فما له يحاول اليومَ أن يكون له منها غَيْب ومشهد؟ أتراه لم يصحب زوجها إلى داره إلا ليقول لها في همس:

ص: 62

(هدى! لقد التقينا أخيراً. . .) أم تراه يحاول أن يُزِلَّها بالمكر والخديعة لتمنحه في غفلةٍ من زوجها بعضَ ما لا تملك!

ونبذتْهُ مذ عرفتْه وسقط من حسابها، وتحطم التمثالُ الجميل الذي أقامتْه في قلبها تقدْسه وتتعبّد له؛ ومحت كلمةٌ من شفتيه ما لم تمحه السنون من ذكريات الماضي فصار هباءً وعاد كما بدا!

ووازنتْ بين رجلٍ ورجل فشالت موازينُ ورجعتْ موازين، وانجابت الغشاوة عن عينيها فبعد لأيّ ما أبصرتْ، وعرفتْ. . .

. . . وشيعه زوجها إلى الباب وقفل إليها كأنه عائد من سفر طويل، ودفنت وجهها في صدره لتذرف آخر دمعةٍ على الماضي الذي ذهب ولن يعود؛ ورفعت إليه عينين مخضلَّتين بالدمع وعلى شفتيها كلمة حب لم يسمعها قط ولم تقلها منذ أظلمها سقف.

وكأنما كان قلبها في سجنٍ فحطّم أقفالَه وانطلق، وبدأ الحب يكتب تاريخاً جديداً في صفحة بيضاء!

محمد سعيد العريان

ص: 63