الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 369
- بتاريخ: 29 - 07 - 1940
تقديم السنين
(على طريقة المقامات)
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت ونحن نقدم الساعة: غير هذا التقديم كنت أريد. فنحن لم نقدم الساعات ولكننا سمينا الحادية عشر ثانية عشرة وانتهينا عند هذا التبديل، وإن هي إلا أسماء!
وإنما التقديم الحقيقي بعنائه أن تتقدم الساعة في الزمان، فيصبح ما سيكون فيها وقد كان
فمن ركب الطيارة من القاهرة يصبح (على جناح السرعة) وهو في الإسكندرية
ومن أخذ في قراءة فصل من كتاب يصبح وقد فرغ من القراءة ووعى ما قرأ، أو في كتابة مقال يصبح وقد فرغ من كتابته كأنه قد جهد له طوال الدقائق الستين من تلك الساعة.
ومن غلبه الغضب يصبح وقد سرى عنه، أو من اطمأنت نفسه بالغبطة يصبح وقد تهيأت نفسه لغبطة جديدة
فهكذا يكون تقديم الساعات، أو هكذا يكون التقديم في الزمان
ثم قلت وقد سنح لي الخاطر وتمثلت الأمنية: أمن أجل ساعة واحدة تريد هذه الخارقة؟ كلا، هذا إسراف في التمني وافتيات على الخوارق. وساعة واحدة لا تستحق هذا الإسراف ولا هذا الافتيات. فما أيسر انتظارها على المتشوف، وما أسهل إغفالها أو نسيانها على المستطلع! إنما يستحق هذا الأمنية تقديم سنين لا تقديم ساعات، فمن لنا بمن يقدم الزمان في مجاهل المستقبل عشر سنين؟ ومن لنا بمن يميط هذا الحجاب الكثيف لعيون المتلهفين ونفوس المترقبين؟
عشر سنين فإذا الغد أمس والمجهول معلوم
عشر سنين فإذا الحرب الحاضرة وقد سماها الكاتبون حرباً ماضية، وإذا الناس قد عرفوا الغالب والمغلوب، وكشفوا الغشاوة عما وراء هذا الستار المضروب، من غبار الوقائع وعثيْر الحروب
عشر سنين فإذا بلاد قد طويت وبلاد قد نشرت، وإذا أعلام قد برزت وأعلام قد اندثرت، وإذا مذاهب من الإصلاح أو من الإفساد قد جربها المجربون، فمنهم راضون ومنهم ساخطون، ومنهم من يحكم على أصحابها بالحكمة ومن يحكم عليهم بالجنون؟
وفي مصر كم ذا يحدث في عشر سنين؟
وكم جاهل بحاضرة اليوم يصبح وهو من علم الغد وبعد الغد على أتم اليقين
عشر سنين!
فمن ذا الذي يدير لنا لوالب الزمان عشر سنين؟!
قال الراوي: وكأنما كانت أمنيتي هذه أمنية مرقوبة في العالم المجهول، فما سنحت في خاطري حتى تكشفت لبصيرتي ساحة فسيحة كأرحب ما تكون الساحات، مكظوظة باللوالب والتروس، مزحومة بالمحركين والمحركات؛ وعلى مقابض تلك اللوالب مردة أشداء، ظهر عليهم السأم ولا أقول ظهر عليهم الإعياء، وكبيرهم الذي يقبض على أكبر اللوالب يسألني سؤال العارفين: أأنت المقترح علينا تقديم الزمان عشر سنين؟
قلت: نعم. وأن شئت فعشرين أو خمسين!
قال: على رسلك. فما أجبت إلى الصغير حتى تطلب العظيم، فهل أنت وحدك طالب هذا التقديم؟
قلت: احسبني وحدي، فما زاد الأمر على أمنية في خلدي
قال: جزاك الله الحسنى، فليس أحب إلينا من إجابة ما تتمنى، فقد سئمنا والله وبرمنا، وشقت علينا الإدارة والدوران، وتاقت نفوسنا إلى اختزال واختزان، على شكل من الأشكال ولون من الألوان
إلا أنك وحيد. وماذا تغني أمنية الوحيد بين العدد العديد؟ فهلا ضممت إليك جمعاً من الطلاب، وحشداً من الزملاء والصحاب، فنسأل لك ولهم ونطمع إذن في أن نجاب؟
قال الراوي: ولم يكن أيسر عليَّ من جمع الألوف والمئين، ممن يشتهون تقديم السنين، فخرجت فناديت: إلينا يا طلاب الغيب المكنون، الذين يودون لو يعرفون ما أضمرت للدنيا سنة ألف وتسعمائة وخمسين، ففي لمحة واحدة تبصرونها اليوم فيما تبصرون، وتسمعونها اليوم فيما تسمعون. فما أتممتها حتى كان معي في الساحة الكبرى ملايين من ورائهم ملايين، يوشك أن يضيق بهم المكان، فلا تدور المحركات ولا يتحرك المحركون. وقلت لصاحب اللولب الكبير: دونك اللوالب فأدارها، فهؤلاء هم الراغبون المؤيدون
فنظر إليّ كالمنهمك وهو يقول: لوالبي فأديرها؟! أهكذا بغير شرط وبغير قبول؟
فاستغربت مقاله، وأعدت عليه سؤاله: بغير شرط وبغير قبول؟ فماذا تشترطون؟ وماذا وقد وصلنا إلى الساحة الكبرى يحول بيننا وبين الوصول إلى الغد المأمول؟
قال: الشرط معقول، والشرح لا يطول. . .!
قلت: هات ما عندك، فقد يهون الشرط المعلوم في سبيل الغيب المجهول
قال: إن هذه السنين تحسب من أعمار الناظرين
قلت: كيف؟ ألا تبين؟
قال: بلى، وإليكم البيان. فمن أباه فلينصرف ومن ارتضاه فليبق في هذا المكان
أيها المستطلعون والمستطلعات: إذا دارت اللوالب فمن بقى له من العمر خمس سنوات، فهو إذن مطوي في غياهب القبور منذ خمس سنوات، ومن بقى له من العمر اثنتا عشرة سنة فغايته بعد إدارة اللوالب سنتان، أو عشر مجرمات فهو ميت عند بداية الدوران
ثم نظر إليهم كما ينظر دلال المزاد، ونادى فيهم: أقابلون؟ (أنضبط) اللوالب على الميعاد؟
فما أتمها أو كاد، حتى خلا المكان إلا من خمسة أفراد: صاحب الأمنية، وفيلسوف، ومخترع، وفنان، ورجل من الزهاد
قال الراوي: فعجب أصحاب اللوالب من هذا الحشد الصاخب، والجيش اللاجب، ما بين زائغ ورائغ وهارب، وطفقوا يعجبون من قلة من يعيش للمعرفة والحكمة، وكثرة من يعيش للنفس واللقمة، وشاقهم أن يسألوا أولئك الخمسة ما بالهم قد طاب لهم المقام، فلم يتفرقوا مع الزحام؟
ومال صاحب اللولب على الفيلسوف يسأله: ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: إذا جمعت خلاصة العمر في لمحة فما أنا من الخاسرين
وسأل المخترع: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: إذا حكيت لوالب الزمن فقد عفيت على المخترعين، وقبضت على زمام القرون، فإني إذن لمن الخالدين
وسأل الفنان: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: لعلي أستخلص زبدة البقاء، من هذه السنين الجوفاء، فأصونها في رمز ثمين، أو تمثال مبين
وسأل الزاهد: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: لأن تذهب بي أقدام الزمن خير من أن تذهب بي هذه القدم الواهنة وهذا القلب الحزين
وسألهم جميعاً: ومن أدراكم وقد دارت اللوالب أنكم ستعيشون ولا تذهبون مع الغابرين؟
قالوا: هذا الذي نسألك عنه
قال: وهذا الذي أجهل سره
ثم عاد سائلاً: فهل قبلتم ما يكون وقد جهلتم أين تذهبون، يوم يدور دولاب السنين، وتطلع على الدنيا ستة تسعمائة وخمسين؟
فتلفتوا ثم تفلتوا
وانجلى الحشد الحاشد، عن شبح جامد، كأنه الجسد الهامد، لا يقارب ولا يباعد
. . . اذهب أيها الزاهد، أو أقعد حيث أنت قاعد، فما دارت طاحون من أجل واحد، فتدور من أجلك دواليب الزمن الخالد والأبد الآبد
قال الراوي: وإذا صدقتم هذه المقامة، فلا تقديم للسنين حتى القيامة، وعلى الله السلامة!. . .
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
إليك أعتذر، أيها الغزالي، فما كنت أحسب أن السياسة ستجني علينا كما جنت عليك - حصار مزعج! - اللهم اجعل هيكل باشا هو الدكتور هيكل - عواطف نبيلة من شعب نبيل
إليك أعتذر، أيها الغزالي!
في سنة 1922 كنت أقضي أكثر الوقت في تحرير كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وكان ذلك في أعقاب أعوام شداد واجهت بها نار الثورة المصرية، واكتوت يدي بلهب الجدل والصيال حول المطالب الوطنية، فأثر ذلك في عقلي وتفكيري إلى أبعد الحدود، وحملني ذلك التأثير على السخرية من اعتزال الغزالي للمجتمع السياسي وابتعاده عن الضجيج الذي كانت تثيره الحروب الصليبية في ذلك الحين
ثم مرت أعوام راضني فيها الدهر بعد الجموح، فعرفت أن الغزالي لم يكن من الجبناء، وإنما كان من الحكماء
وهل أخطأ أبن خلدون حين نهى العلماء عن الاشتغال بالسياسة؟ وهل أخطأ محمد عبده حين استعاذ بالله من مادة: ساس يسوس؟
دلوني على رجل واحد غمس يده في السياسة ثم سلم من الأقاويل والأراجيف؟
لا بأس من تجريح الرجل الآثم، ولكني أستطيع أن أذكر عدداً من الرجال أهينوا في السياسة بغير حق. وأعجب من ذلك أن أستطيع الإشارة إلى عدد من الرجال أهينوا بسبب الانسحاب من ميدان السياسة، فهي عقرب تلسع بلا تمييز بين الغويِّ والرشيد
إن أقطاب السياسة في مصر هم عيون الأمة من الوجهة القومية، وهم أيضاً من الأقطاب في ميادين العلم والأدب والذكاء، ولكن ما نصيب الأديب من الاستفادة بعقول هؤلاء الزعماء؟
الريبة تلاحقك إن فكرت في زيارة هذا الزعيم أو ذاك، والشبهات تحيط بك إن رأيت أن تزود عقلك بمعرفة أهل زمانك فتزور الأندية السياسية من وقت إلى وقت، وسمعتك غرض رجيم لأهل الظنون إن طاب لك أن تحفظ الأدب مع أقطاب عصرك فتؤدي واجب التهنئة أو واجب العزاء في بعض الظروف
لك أن تجالس الفارغين من أحلاس القهوات، وليس لك أن تظفر بمجالسة رجل كبير له منزلة سياسية، فإن فعلت فأنت وصولي ينتظر الجزاء القريب أو البعيد
أليس هذا هو الواقع في هذه البلاد؟
بأي حق يحرم الأديب في مصر من التعرف الصحيح إلى من يسيطرون على السياسية المصرية؟
وعمن يأخذ معاني التفكير في مصاير الأمور الوطنية إذا حرم التزود بأفكار أولئك الرجال؟
لو اتصل أدباؤنا بالزعماء لوجدوا لأدبهم آفاقاً أوسع من الآفاق التي يعرفون، الآفاق المحدودة التي لا تمتع غير البصر الكليل، الآفاق المزدحمة بأهل العقم والنضوب من الأشباح التي تغدو وتروح وليس لها زاد غير مضغ الحديث المعاد من فتات الزور والبهتان
كيف يجوز لأديب أن يقول إنه عاش في هذا العصر مع أنه لم يعرف أحداً من أمثال مصطفى النحاس ومحمد محمود وعلي ماهر وحلمي عيسى وعلي الشمسي وعبد الفتاح يحيى ومحمود النقراشي ومحمد هيكل ومصطفى عبد الرزاق وحسن صبري وعبد الرحمن عزام وحافظ رمضان ولطفي السيد وأحمد ماهر ومكرم عبيد وصبري أبو علم ونجيب الهلالي ومحمود بسيوني، ومن إلى هؤلاء من الوزراء والنواب والشيوخ، فإنما نريد التمثيل لا الاستقصاء؟
الأديب الذي لا يعرف أمثال هؤلاء معرفة صحيحة ليس بأهل لمعرفة روح العصر الذي يعيش فيه، وهو أيضاً أكذب الكاذبين حين يدعي أنه أثر في عصره تأثيراً قوياً أو ضعيفاً، فما يمكن لأديب أن يكون من أصحاب السلطة الأدبية إلا حين يستطيع بلسانه أو بقلمه أن يوجه المسيطرون على مصاير البلاد إلى غاية سامية أو مطلب شريف
ثم ماذا؟
ثم تقع البشاعة التي تشهد آثارها في كثير من الأحايين فالزعماء ناس كسائر الناس، وعندهم أوقات يزجونها بالسمر والحديث، فماذا يصنعون وقد غاب عن ناديهم كبار الأدباء؟
يلتفتون فيرون أنديتهم قد اكتظت بأهل اللغو والفضول من الذين يؤذيهم أن يكون لرجل من
أهل الأدب أديم صحيح، وعندئذ يصح عند الزعماء أن دنيا الأدب دنيا حقد غيظ وليس فيها مجال للفكر الثاقب والرأي الرشيد، فيكتفون بالزاد الخبيث الذي يقدمه إليهم الأفاكون من أشباه الأدباء. قاتلهم الله أنى يؤفكون:
سعد زغلول أعز أدب مصطفى المنفلوطي
وعبد الخالق ثروت أعز أدب طه حسين
ومحمد عبده أعز أدب حافظ إبراهيم
فهل تعرفون بعد هذه الأسماء أن زعيماً مصرياً عاون على خلق الفرص لأديب جديد؟
وكيف نصل إلى التعاون المنشود والعوائق تقوم من الجانبين؟
فالأدباء ينفرون من الاتصال برجال السياسة خوفاً من تهمة الوصولية
والساسة لا يعرفون من الأدب إلا أنه وسيلة للدعايات الحزبية وبين خوف أولئك وغرض هؤلاء تضيع الفرص على الأدب الصحيح الذي يمثل ما في المجتمع من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل.
أما بعد فالأدب في خطر، لأن أصحابه في عزلة عن الساسة، والساسة يملكون أكثر الوسائل في توجيه المجتمع، لأن الحاكم يملك في اليوم الواحد ما لا يملك الأديب في الأعوام الطوال
فإن كنتم في ريب مما أقول فتذكروا حوادث التاريخ، فقد كان الناس منذ أقدم العصور يعرفون أن الأدب لا بد له من سناد ليؤدي واجبه على الوجه الصحيح، وسناد الأدب هو الدولة، والدولة هي الساسة الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأحسن القول هو التوجيه الذي يصدر عن كبار الأدباء
أليس من العجب أن يكون قدماء اليونان أعقل منا وبيننا وبينهم أجيال وأجيال؟
ومن أجل هذا كان الأدب اليوناني القديم غنياً بالحديث عن سياسة الأمم والشعوب، كذلك كان الأدب العربي في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، فلما خمدت جذوة العرب تخاذل الأدب وترك الحديث عن السياسة العالية ليتحدث عن المنافسة بين الربيع والخريف، وليكثر القول في الألغاز وخصائص الأيام والأسابيع
أين ما دعوت إليه ألف مرة من خلق الصلات الروحية والذوقية والقومية بين الساسة
والأدباء؟
إن طالت هذه الجفوة بين هاتين الطائفتين فسيكون مصير الأدب من أقبح المصاير، فسيحصر وهو راغم في الحديث عن مشكلات الحاجة خدوجة والمعلم مشحوت!
وأين الأديب الذي قضى سهرته في منزل سعد زغلول ليلة الحادث الذي خرج به الجيش المصري من السودان ليخلق منه قصة أروع من قصة الزوج الذي خانته زوجته الحسناء؟!
وأين الأديب الذي قضى سهرته في منزل علي ماهر في الليلة التي مات فيها جلالة الملك فؤاد ليصور عواطف الوزراء في قلقلات التاريخ؟
وأين؟ وأين؟
تلك أيام خلت، فليستعد الأدباء لفهم هذا القول، فقد ينفعهم في الأيام المقبلات
حصار مزعج
ويمكن بعد هذا أن ندرك بوضوح أن الأدباء يعانون ضرباً من الحصار المزعج، فهم بعيدون عن الأوساط السياسة خوفاً من تهمة الوصولية، وهم بعيدون من الأجواء الشعبية خوفاً من تهمة الإسفاف، وهم بعيدون من الأوساط الفنية خوفاً من تهمة النزق والطيش، فقد شاع صدقاً أو كذباً أن الفنانين لهم بدوات تخرج عن الوقار في بعض الأحيان
نحن إذاً في حصار. ومع ذلك يطلب منا أن نصف جميع طبقات المجتمع، وأن يكون أدبنا صورة صحيحة لما يثور في ضمير المجتمع من عواطف وآمال
وأنا أشهد على نفسي بالمرض من هذه الناحية، فأنا أجانب رجال السياسة مجانبة مقصودة، لأني أتوهم أن اتصالي برجال السياسة قد يصورني أمام الجمهور بصورة من يطلب الصيد. وقد حاولت إبراء نفسي من هذا المرض فلم أفلح، وكان من آثار هذه العلة أن تمضي الأعوام ولا أنتفع بمحادثة زعيم أنقل عنه وينقل عني، فعندنا بالتأكيد آراء وأفكار قد تنفع الزعماء بعض النفع، وقد توجههم إلى التعصب للأدب الرفيع، وهو في حاجة إلى عصبية قوية ترفع ما يعترض طريقه من عقبات وأشواك
وقد أزعجت قراء الرسالة مرات كثيرة باقتراح لم أجد من يصغي إليه، وهو أن يكون للأدباء مكان في الحفلات الرسمية، فجميع الطوائف تمر في خواطر رجال الدولة عند المناسبات الخطيرة ولا ينسى غير الأدباء. وإلا فأين الأديب الذي دعي بصفته الأدبية إلى
حضور إحدى الحفلات في قصر عابدين أو قصر الزعفران؟
ويزيد الحرج حين يكون الأديب موظفاً، فهو لا يدعى لأية حفلة رسمية إلا حين يصل إلى درجة مالية تضيفه إلى طبقات الأعيان، والعياذ بالذوق!
والدرجات المالية للموظفين هي الميزان في كثير من الشؤون، ولا سيما شئون التشريف. ويكاد يكون من المستحيل أن يمر الموظف في خاطر أية جهة رسمية إلا بعد أن يصل مرتبه إلى كيت وكيت، ولو كان من أقطاب الأدب والبيان
وكان المأمون أن يعتدل الميزان في وزارة مثل وزارة المعارف وقد تولى شؤونها وزراء من رجال الأدب أمثال: محمد علي علوية، ومحمود فهمي النقراشي، ومحمد حسين هيكل. ولكن الأمور ظلت تسير في طريقها القديم، فلم يستفد الأدب شيئاً من الوزراء الأدباء، وإن كنت أذكر بالخير الكثير أن بعض هؤلاء راعى منزلتي الأدبية فتناسى أني تطاولت عليه في إحدى المجلات!
قد يقال: إن الدولة تفتح باباً من الشر حين تفكر في الاعتراف الرسمي بالقيمة الأدبية، فكل إنسان يدعي أنه أديب، وأن له حقاً في حضور الحفلات الرسمية!
وأجيب بأن الأدب لم يعد فوضى كما كان في الأزمان الخوالي، فالجمهور يكاد يتفق على الإعجاب بأفراد معدودين هم عنده الطبقة الأولى من الأدباء، وهو كذلك يعرف من هم رجال الطبقة الثانية ومن هم رجال الطبقة الثالثة، فما الذي يمنع من أن يكون في ذهن الدولة صورة لأدباء الطبقة الأولى لتفكر في دعوتهم إلى الحفلات الرسمية، كما تفكر في دعوة من يمثلون بعض الجوانب من حياة المجتمع؟
أليس من العجيب أن يشهد الحفلات الرسمية بعض المجهولين من موظفي السفارات والقنصليات، ثم يحرم رجال الأقلام من شهود تلك الحفلات، ولهم فيها زاد نفيس هو تذوق ما في المجتمع العالي من دقائق تعود على القلم بأجزل النفع؟
إن وزير المعارف اليوم هو صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا، وقد سألت عنه زملائي بالمعارف فأكدوا لي أنه الدكتور هيكل، الأديب المشهور الذي كان يحامي عن الأدب وأهله في جريدة السياسة، وأجمعوا على أنه هو بعينه صاحب كتاب (ثورة الأدب)
والحق أن وزيرنا الجديد فيه مشابه من الدكتور هيكل، وإن كنت أخشى ألا يكون إياه، فمن
واجبي نحو الأدب الذي أتشرف بالانتساب إليه أن أطلب من الوزير الذي يشبه الدكتور هيكل أن يتفضل فيخص الأدب بنظرة من نظراته الثواقب، ونحن بكل تواضع نقترح أن يكون لكبار الأدباء بعض ما لكبار العلماء من منازل التشريف. فإن كان العلماء - وهم اصطلاحاً رجال الدين - أولى منا بالرعاية لأنهم من أهل الآخرة، فنحن أحق بالعطف العاجل لئلا يكتب علينا الحرمان في الدارين!
وليكن مفهوماً جداً أني أقول هذا الكلام وأنا أتوهم أن هيكل باشا هو الدكتور هيكل، فإن ثبت أن زملائي بوزارة المعارف خدعوني وأن هيكل باشا شخص غير الدكتور هيكل، فأنا أعتذر لمعالي الوزير عن هذه الكلمات الجافية، وأرجوه أن يثق بأني برئ من الأدب والأدباء!
لو صح أن هيكل باشا هو الدكتور هيكل لكانت فرصة ذهبية لنصرة الأدب الرفيع، فقد نغريه بالوعود فنزعم أن أهل الأدب يحفظون الجميل، وأنهم لن ينسوا فضله في إعزاز الشخصية الأدبية بالديار المصرية
اللهم اجعل هيكل باشا هو الدكتور هيكل!
عواطف نبيلة من شعب نبيل
في صباح اليوم السادس عشر من حزيران تلقيت إشارة تليفونية من وزارة الخارجية المصرية تسألني عن اسمي الكامل وعن منصبي بوزارة المعارف، وأردت أن اعرف الموجب لهذه الأسئلة المفاجئة، فقيل: إن أجوبتها ستقدم إلى قصر جلالة الملك تمهيداً لوسام سأتلقاه من حكومة العراق
وفي صباح اليوم الخامس عشر من تموز تلقيت برقية من الصديق الكريم السيد عبد القادر أحمد الموظف بمديرية الدعاية في بغداد يهنئني بوسام الرافدين
ومعنى تلك الإشارة وهذه البرقية أنني خطرت في بال أهل الصدق والوفاء من أقطاب بغداد
وأنا مع ذلك لا أعد (وسام الرافدين) تحية شخصية، وإنما أعده رمزاً لتوكيد الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق، وقد جاهدت في ذلك جهاد الصادقين
وإذا كان الله أراد أن أتشرف بعضوية نادي القلم العراقي، وأن أتشرف بعضوية نادي
المثنى، وأن أتشرف بهدية من جلالة الملك غازي الأول، وأن أتشرف بحمل وسام الرافدين، فإن الله تباركت أسماؤه خصني بمزية جليلة هي وسام الود الصحيح الذي شرفني به الشعب العراقي، الشعب النبيل الذي قيدني في هواه بقيود متينة من شرف الحب وكرم الإخاء
وإذا قيل إن العراق يجزيني وفاء بوفاء، وإخلاصاً بإخلاص فأنا أقول إني سأقضي دهري كله مديناً للعراق. ولن أستطيع أداء ما للعراق في عنقي من ديون، ولو بذلت دمي وروحي في حب العراق وأهل العراق
ومن واجبي في هذا المقام أن أقدم واجب التحية لحضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله، الرجل العظيم القلب والروح، وقد عرفته معرفة صحيحة في جلال شخصيته الذاتية قبل أن يضاف إليها جلال الوصاية على عرش العراق، ثم زرته بعد ذلك فلم أره زاد إلا كرماً إلى كرم، وصفاء إلى صفاء، وكذلك تكون المعادن الكريمة لعظماء الرجال
ومن واجبي أيضاً أن اقدم التحية لفخامة رئيس الوزراء ومعالي وزير المعارف، وفخامة وزير الخارجية وسعادة رئيس الديوان الملكي في بغداد، راجياً أن يكون عهد جلالة الملك فيصل الثاني من العهود البواسم في بلاد الرافدين، بلاد دجلة والفرات
المرء كثير بأخيه، ولي في العراق أخوة يعدون بالألوف فلله الحمد وعليه الثناء.
زكي مبارك
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 1 -
امتلأت الصحف بحديث الطابور الخامس، وتناقلت الألسنة خبرهم، وتحدث الوزراء والقواد يحذرون الأمم منهم. والمقصود بالطابور الخامس تلك الفئة التي تظهر أو تستتر في أمة من الأمم المشتبكة في حرب مع أخرى، فتوالى الأعداء، أو تعمل على خذلان قومها بنشر الأراجيف وإذاعة الأخبار الكاذبة أو الضارة عن ضعف قومهم، وقوة أعدائهم، أو عن نتائج الحرب بما لا يفيد أبناء وطنهم، أو أنهم مسوقون إليها خدمة لمطامع أمة أخرى تحت شعار المحالفات، ومبادئ الشرف، والدفاع عن مبادئ الديمقراطية
وقد يكون عملهم إرشاد الجند الفاتحين إلى مواطن الضعف في البلد المغزو وإلى ما يدبر من خطط ترد كيد العدو وتصد زحفه
وشاعت هذه الكلمة أخيراً وصفاً لأعوان هتلر في النرويج وفي هولندا وبلجيكا، وفي فرنسا نفسها وجد هذا النوع من الناس فكان سبب نكبتها، وعاملا من أكبر العوامل في هزيمتها، ففني رجالها وضاع استقلالها، ووطئ الألمان بلادها يحكمون في أرضها وديارها وأموالها، ويغيرون على نظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويبدلون دستورها وحكومتها، ويفعلون بها ما يشاءون
والغريب أن هتلر ينفي وجود أعوان له مأجورين في بلد من البلاد التي غزاها، ويقول إن وجود هذا الطابور الخامس في البلاد المفتوحة راجع إلى فساد النظم في تلك البلاد ورغبة فريق من أبنائها في الاستعانة به على إصلاح الأحوال لتكون كألمانيا قوة واتحاداً
والحق الذي لا مرية فيه أن في كل أمة من الأمم - القديمة منها والحديثة حتى ألمانيا نفسها - اختلافاً في الرأي، ودعاة لمذاهب سياسية تخالف مذهب أمتهم، وغيرة من الطبقة الحاكمة وتشيعاً لنظم اقتصادية أو اجتماعية غير السائدة في بلادهم. وهذه الاختلافات تضعف وتقوى تبعاً للعوامل التي تساعد على قوتها أو ضعفها؛ فإذا كانت الأمة متحدة
الجنس، متشابهة البيئة قوية الأخلاق، مرباة على حب الوطن والتفاني في سبيله، وكانت الحكومة قوية يقظة كانت جماعة الطابور الخامس محدودة العدد قليلة الأثر ضعيفة النشاط.
وخير مثال لذلك إنجلترا التي أخذت حكومتها بالشدة أنصار الفاشست فيها، وقبضت على زعيمهم سير (أزوولد موزلي) هو وزوجه واعتقلت من تشك في أمرهم من رعايا الأعداء كذلك
أما الدول، أمثال تشيكوسلوفاكيا التي اختلفت عناصرها، وهولندا التي ضمت عدداً غير قليل من أنصار النازي داخل حدودها، وفرنسا التي تشعبت أهواء الناس ومذاهبهم فيها، فقد قضى هتلر على استقلالها، وأصابها بنكبة الهزيمة، وألبسها ذل الاحتلال وفقدان الاستقلال
وقد كان لمثل هذه الجماعة وجود ونشاط في عهد النبي (ص) وعني القرآن بأمرهم، وكشف أسرارهم، وحذر النبي منهم، ونزلت السور تنبئه بما في قلوبهم، وسماهم (المنافقين) وخصهم بسورة من سوره، وتحدث عنهم في غيرها من السور الكريمة تارة يصفهم وصفاً عاماً، وتارة يذكر مواقفهم في ظرف من الظروف التي أحاطت بالنبي، وأحياناً يأمره أن يتخذ منهم موقفاً خاصاً، أو يحرضه على إنزال نوع من الأذى بهم
وكان ظهورها وعملها والقضاء عليها بعد الهجرة بالمدينة وما حولها، وكان القائمون بها هم اليهود من بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير. وكان هناك رءوس للضلال من الأوس والخزرج أمثال عبد الله بن أبي بن سلول
وكانت هاتان القبيلتان الأوس والخزرج في حرب دائمة قبل الإسلام وبعده إلى ما قبيل الهجرة. كانت الخزرج أكثر عدداً، ففكرت الأوس في محالفة قريش عليهم، وأرسلوا لذلك رسلاً إلى مكة، فلما علم الرسول بأمرهم - وكان قد يئس من قريش أو كاد، وأخذ يعرض نفسه ودينه على القبائل وفي مواسم الحج - دعاهم إلى خير مما جاءوا له، ودعاهم إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده، فأبوا ثم عادوا إلى يثرب
عقب انصراف الوفد من مكة إلى المدينة حدثت موقعة (يوم بعاث) بين الأوس والخزرج، وانتصرت الأوس. وفي الموسم الذي تلا يوم بعاث أقبل جماعة من الخزرج إلى مكة للحج، فدعاهم الرسول إلى الإسلام، فآمنوا من فورهم، وكانوا من قبل يسمعون بقرب
ظهور نبي في بلاد العرب. ثم أخبروا الرسول بما في المدينة من تنازع وشحناء، ورجوا أن يصلح الله أمر يثرب على يديه، ولما عادوا إلى قومهم ذكروا لهم حديث الرسول والإسلام، فلم تبق دار في يثرب إلا وفيها حديث عن الرسول وعن الإسلام
وفي موسم الحج الذي قبل الهجرة بايع النبي قوم آخرون من أهل يثرب وتسمى بيعة العقبة الثانية أو بيعة النساء، وأرسل النبي معهم مصعب بن عمير يعلمهم الدين. فأسلم على يديه كثير من أشراف يثرب منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، ودعا سعد عشيرته إلى الإسلام أو يقاطعهم فأسلموا جميعاً
وفي عام الهجرة جاءه من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وأقسم سيدهم البراء بن معرور فقال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا. ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: إن بيننا وبين الرجال (يعني يهود المدينة) حبالاً وإنا قاطعوها. وأعرب عن خوفه منهم إذا تركهم لليهود بعد أن يظهره الله على أعدائه، ففهم النبي الكريم مراده، وتبسم وقال: بل الدم الدم، والهدم الهدم. يعني أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم
علمت قريش بما كان فأرسلت وفداً منها إلى منازل الحجاج من أهل يثرب، وأخبروهم بما حدث، وقالوا إنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فحلف نفر من مشركي يثرب أنه لم يكن شيء من هذا، وكانوا صادقين لأنهم لم يعلموا بما كان في الليلة السابقة. وقال لهم عبد الله بن أبي بن سلول، وهو رأس النفاق فيما بعد: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا، وما علمته. فانصرفوا عنه وأخيراً تأكد لدى قريش ما كان من بيعة العقبة الثالثة، ولكن بعد أن نفر الناس من منىً وفاتهم أهل يثرب
كان إسلام أهل المدينة نصراً للإسلام والمسلمين، وكان فرصة طيبة لأصحاب النبي في مكة، فقد وجدوا مهاجراً جديداً يفرون إليه بدينهم ويقيمون بمنأى من أذى قريش في حماية إخوان لهم في الدين، وجعل الله المدينة دار أمن لهم يلجئون إليها؛ فخرجوا مهاجرين إرسالاً، نساء ورجالاً، إلا من حيل بينه وبين الهجرة من المستضعفين
خافت قريش تلك الحركة ورأوا فيها خطراً يتهددهم، وصمموا على أن يحولوا بين النبي
وبين دعوته بكل ما وسعهم من قوة وحيلة، واجتمعوا للتشاور في دار الندوة، وتشاوروا في واحدة من ثلاث كما حدث القرآن الكريم بذلك في سورة الأنفال:(وإذ مكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقر رأيهم على قتله، وذلك بأن يجمعوا من كل قبيلة شاباً فتياً نسيباً، ويعطوه سيفاً صارماً، ثم يقف هؤلاء الفتيان على بابه ليلاً، ويضربوه ضربة رجل واحد وهو خارج لصلاة الفجر فيتفرق دمه في القبائل، ويرى بنو عبد مناف أن لا قدرة لهم على حرب جميع القبائل، فيرضون بالدية
أخبر الله الرسول بما كان وأمره بالهجرة، فذهب إلى أبي بكر الصديق - وكان من قبل يمنعه حتى يأذن الله لهما - وأخبره الخبر وأعد الرواحل والدليل. وفي الليلة الموعودة التي عينتها قريش لتنفيذ مكرها أمر النبي علياً أن يبيت في فراشه لئلا يرتاب أحد في وجوده، وخرج النبي من بيته في آخر الليل وهو يقرأ (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)، فألقى الله النوم على الفتيان، وأخذ النبي الكريم حفنة من تراب رمى بها في وجوههم وهو يقول: شاهت الوجوه
ثم ذهب إلى أبي بكر، وسارا حتى وصلا إلى غار ثور بأسفل مكة، واختفيا فيه ثلاثة أيام حتى انقطع رجال قريش عن طلبهما، ثم جاء الدليل وخادم وركبوا جميعاً وساروا في طريق المدينة حتى وصلا إلى (قباء) في اليوم الثامن من ربيع الأول لثلاث وخمسين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم. وذلك في اليوم العشرين من سبتمبر سنة 622 من ميلاد المسيح
أقام النبي بقباء أربعة أيام وأسس مسجد قباء، ثم ارتحل إلى المدينة يحيط به أنصاره من أهل يثرب، وكان كلما مر بقبيلة ناداه رئيسها أن ينزل عندهم، وأخذ بخطام ناقته، ولكنه كان يقول: دعوها فإنها مأمورة. ومشت الناقة حتى جاءت إلى موضع مسجده الآن فبركت، ثم قامت وبركت، فنزل النبي ووضع الرحل عند أبي أيوب الأنصاري واشترى مكان المسجد والدور التي بناها له ولزوجاته
ومن ذلك اليوم تبدأ حياة جديدة تختلف عن حياة مكة له ولأصحابه ولأهل المدينة أنفسهم، وبدأت عوامل النفاق تبدو، وتحركت العداوة والبغضاء في نفوس المنافقين، ولقي النبي من مكرهم وسوء أعمالهم ومؤامراتهم هم واليهود شيئاً حتى أراحه الله منهم جميعاُ
وذلك هو موضوع الحديث التالي إن شاء الله
عبد الرزاق إبراهيم حميدة
محنة باريس
بمناسبة ذكرى عيد الحرية 14 - يوليو سنة 1940
للأستاذ علي محمود طه
سألوني عن بياني وقصدي
…
أسَفاً. . . باريس! قد ماتَ نشيدي!
شهدَ الحبُّ ذكرناكِ ولمْ
…
أنسَ نجواكِ ولم أخفرْ عهودي
أنا لا أنسى لياليَّ على
…
روضكِ الرفاف بالزهر النضيد
ثمر الفكر ومَجْنَى نُورهِ
…
ومراحُ العينِ والقلبِ العميد
خطرةٌ عابرةٌ عدتُ بها
…
عودةَ العوَّاص بالدرِّ الفريد
فاعذري المِزْهرَ في كفِّي إذا
…
أخرسَتْهُ ضَجَّةُ الرُّزْءِ الشديد
يوم قالوا جلَّل القيدُ يداً
…
حطمتْ بالأمس أصفادَ العبيد
حملتْ مِشْعَلَ حُرِّيَّاتهم
…
في شُراةٍ من شباب المجد صِيد
كيف يا باريس بالله هوى
…
ذلك النجمُ من الأفق البعيد؟
إن يَنَلْ منكِ المغيرون فما
…
فتحوا غيرَ تخومٍ وحدود!
لستِ بنياناً، ولا أرضاً، ولا
…
غابَ آسادٍ، ولا جنَّةَ غيد
أنت معنى عالمُ الفكر به
…
يتحدَّى قبضةَ الباغي المريد
كعبةَ الأحرار! هذى محنةٌ
…
راعتِ الأحرارَ في أكرمِ عيد
صُرِعَ النورُ به وانحسرتْ
…
جبهةُ الشمس عن النور الشهيد
وأتى الليلُ، ومِنْ أهوالِه
…
أَنْ تُرَىْ بين ظلامٍ وقيود
أين من فِرساي أفقٌ ضاحك
…
مشرقٌ عن أمل الشَّعبِ السعيد
وعلى كلِّ طريقٍ موكبٌ
…
صادحُ الأبواق خفَّاقُ البنود
لكأني اليوم ألقَى مأتماً
…
وأرى الكُنكُرْدَ كالقبر الحريد
حالَ شدوُ الماءِ في أحواضهِ
…
نَفْثَةَ الغرقى ببحرٍ من صديد
وقفتْ مصر به صامتةً
…
تتقرَّى الغيب، طلَّسْمَ الوجود
غلبَتْها حكمةُ الدَّهْرِ ولو
…
نطقت لَم تأتِ بالمعنى الرديد
ساحةَ الباستيل! حانَ الملتقَى
…
وتعالتْ صرخةُ الفجر الوليد
أين أبطالكِ؟ ماذا! أتُرى
…
ضربَ الليلُ عليهم بالوصيد؟
أغمدوا أسيافهم؟ وَيْحَ! وما
…
عوَّدوا أسيافَهم حبسَ الغمود
ويحهم قد شيَّعوا أعيادهم
…
بين عصفِ النار أو قصفِ الحديد
فوق أرضٍ صُبِغَتْ من دمهم
…
وتحدَّثْ كلَّ جبَّارٍ عنيد
فوق أحجاركِ صرعى أمسهم
…
فلذاتٌ كَتَبَتْ سِفْرَ الخلود
فاذكريهم بالذي مَرَّ بهم
…
وأقرئي تاريخهم، ثم أعيدي!
أيها العائدُ من غاراتهِ
…
راقداً تحت قبابِ (الأنفَليد)
تلك راياتُك، فانظرْ! أَتَرى
…
من سيوفٍ تحتها أو من جنود؟
أين من برلين أو آفاقها
…
جيشُك الظافُر بالحشْدِ البديد
تطأُ الأرضَ إلى مَشْرِقها
…
موغلاً في أَثَرِ الدُّبِّ الشريد
لفرنسا هِمَّةٌ لا تنثني
…
أَمَشَتْ في النارِ أم تحت الجليد
بالقليلِ الجمعِ من أبنائها
…
تنزعُ النصرَ من الجمع العديد
أممٌ ترسُفُ في أحقادها
…
دِنْتَها بالصفح والصنع الحميد
لم تسيِّرْ فوقها دبَّابةً
…
أو تباغِتْها بطيرٍ من حديد
يقتلُ الولدان والشِّيبَ ولا
…
يرحمُ المرضَى وربَّاتِ المهود
شَرَفُ الحرب كما لُقِّنتَه
…
ملتقَى سيفين في ظلِّ البنود
فاعذِر اليوم فرنسا إنَّها
…
وثقتْ بالعهد في دنيا الجحود
قَرَعَتْ للنصرِ كأساً! ويحها!
…
صَرَعَتْهَا خمرةُ النصر التليد!
رَقَدَتْ عن غدِها وانتبهتْ
…
حيث لا ينفعُ صحوٌ من رقود
أسفرتْ سِدَّان عن مأساتها
…
وتهاوى حجرُ الحصن المشيد
ثَغْرةٌ أُنْفِذَ منها خنجرٌ
…
قد تَلَقَّتهُ على حزِّ الوريد
شهدَ المجدُ لها باسلةً
…
خُضِّبتْ بالدم من نحرٍ وجيد
فابعثِ العزَّةَ من تاريخها
…
وتألَّقْ بسناهُ من جديد
واطلَعِ اليوم عليها سيرةً
…
وكن الشاعرَ واهتفْ بالقصيد:
. . . أيُّها الفاتحُ لا يغررْكَ ما
…
سِرْتَ فيهِ من حصونٍ وسدود
لكَ فيَّ العِبرةُ المثلى فلا
…
تأمنِ الزلةَ في أوجِ الصعود!
رُّبة النور سلاماً كلما
…
هتفَ الشِّعرُ بماضيك المجيد
لكِ في كلِّ خيالٍ صورةٌ
…
بَرِئَتْ من وصمةِ العصر الجديد
غير ذكري يرجعُ الفكرُ بها
…
لليالٍ من عصورِ الظلم سُود
لَهفَ نفسي لدمشقٍ ولمنْ
…
خرَّ فيها من جريحٍ وشهيد
من شواظٍ يقذفُ الموتَ على
…
رُكَّعٍ في ساحةِ الله سجود
فأنا الشرقيُّ لا أنسى الذي
…
حاقَ من حكمكِ بالشَّرقِ العتيد
المساواةُ التي أعلنتِها
…
أعلَنتْهُ بنذير ووعيد
والإخاءُ الحرُّ ما كان سوى
…
مدفعٍ يرمي بُمرْدٍ ومبيد
وطِني الروحيُّ، إن أغضَبْ لهُ
…
فلآباءٍ كرامٍ وجدود
وتراثٍ خالدٍ من أدَبٍ
…
أنا فاديهِ بروحي ووجودي
كفَرتْ ثورتُكِ الكبرى بهِ
…
وهوَ المحسنُ يُجْزَى بالكنود
سار بالإسلام نوراً، وهَدَى
…
بسنا عيسى خُطى الحقِّ الطريد
النبيُّون همو ثوِّارهُ
…
حاملو الشُّعلة، أعداءُ القيود
فخذي بالحقِّ والرُّوح الذي
…
هزَّ بالثورة أركانَ الوجود
وابعثيها ثورةً أخرى فما
…
يعرفُ الأحرارُ معنى للجمود!
(رأس البر)
علي محمود طه
من وحي الحرب
وداعاً. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
وداعاً، يا عزيزتي، وداعاً!
بين هذه الزعازع التي تلف العالم في ثورتها، وهذه العواصف التي تصعق الأمم في شدتها، وهذه النزوة الطائشة التي تبتلع الشعوب في احتدامها. . . وقفت أن أهتف بك: وداعاً، يا عزيزتي، وداعاً!
وانسرب بك القطار إلى الريف الجميل، إلى حيث تنعمين بالهدوء والراحة، إلى حيث تجدين لذة الأمان والطمأنينة؛ وخلفتني ألوح لك بمنديل أبيض قائلاً: وداعاً، يا زوجتي، وداعاً!. . .
ووجدت فقدك، فغمرتني لجة من الخواطر السود، وأنا في مكاني أشهد القطار وهو يتوارى خلف الأفق. . . ثم عرتني نكسة الفراق، فتراءت لي من خلالها أنانيتك، وأنت تسدلين عليها - في ساعة الوداع - سجفاً من عبرات خادعة كاذبة، هي صورة من قلب المرأة الفارغ
ورجعت أتخبط في أرجاء الأرض، وقد لعج الحزن فؤادي؛ تضيق نفسي بالوحدة، ويتحرق قلبي بالوحشة
ودخلت الدار وحدي فأحسست مقتها إلى وخيل إلي أنها تكاد تلفظني لأنني غريب عنها وهي غريبة عني. لقد امتدت حماقتك إلى أثاثك فحملته - من قبل - إلى دار أبيك
ورحت أطوف في أنحاء الدار فما أجد بعض آثارك، فعلمت أنك أردت أن تمسحي تاريخك من عمري وألفيت كتبي وحدها تناديني فجلست إليها ألتمس السلوة
آه لو ألقيت إليك السلم فقذفت بكتبي حيث طوحت أنت بأثاثك، إذن لاستشعرت فقدك مرتين
إن حرصك على حاجاتك انتزع منها الحياة فهي لُقى في ناحية من دار، أما اعتزازي بكتبي فما انفك يبعث فيها الحياة
لا جرم، قد انخذلت أوصالك وانخلع قلبك، أول ما دوت صفارة الإنذار، فانبعثت تبحثين
عن نفسك وقد تبعثرت في صلصلة الصوت
ثم تطاير الحمم من فوهات المدافع يزلزل الأرض والقلب في وقت معاً، فاندفعت تصرخين، وأنا أهدئ من روعك فما أصنع شيئاً
وهالني ما رأيت فتركت لك الخيرة من أمرك لأنني أشفقت عليك، فآثرت الرحيل
لا بأس، فقد خشيت أن يبلغك بعض غضب الإنسان الوحشي الذي لا يفترس - حين تتأجج حيوانيته - بالناب والظفر، بل بالقنبلة والمدفع والرصاصة و. . . مما لا يسمع ولا يرى ولا. . . ولا يعي
وغرك شبابك الغض وجمالك الخلاب وأملك الباسم، فضننت بها جميعاً أن تكون طعمة لثورة الإنسان
وحرصت الحرص الذي ينزع بالمرأة دائماً إلى أن تنسى كل شيء إلا أن تكون عالة تتدلل
وتركتني من ورائك جندياً في الميدان، أحمل عبء نفسي وعبء عملي وعبء الدار وعبء الفزع الأكبر الذي يتهددني، وأنت بين أهلك لا تحتملين شيئاً من كلف الحياة
هذا، يا عزيزتي، هو الإخلاص الذي تغنيت به زماناً فانخدعت له؛ والآن - حين مرج الأمر - تبعثر في دوي الصيحة الكبرى
إن المرأة، يا سيدتي، معمل تفريخ فحسب، فإن هي عجزت عن أن تكونه فقد تعطلت وظيفتها، وبطل عملها في الحياة
وأنا عشت معك عمراً من عمري، أصفيك محض الود، وأحبوك خالص العطف، على حين قد لبثت سنين أنتظر. . . غير أنك كنت جرداء قاحلة لم تتفتح حياتك الجافة عن نبتة واحدة أستمتع فيها بنور الحياة الجميلة، فما ضاقت بك داري ولا غصت بك أيامي. . .
يا عجباً! لقد نسيت أنك كنت وأني. . . ففزعت عني أحوج ما أكون إليك، وطرت بعلمك الجاهل وعقلك المأفون، وفي رأيي أن المرأة المتعلمة العاقلة ليست في الميدان أماً لطفل فحسب، بل هي أم ذلك الجندي الذي تعركه الحادثات وتصعقه النوازل، وهي. . . وهي. . . رأب صدعه، ولكنك عجزت عن أن تكوني واحدة منهن
وثقلت عليك أيامي وأحلامي معاً فانفلت إلى أهلك، ولكن جشعك الوضيع كان يبعث بك إلي أول كل شهر لتحبطي حجتك الواهية وتفندي رأيك الخاوي
لا ضير، يا سيدتي، فإن طرفي النقيض لا يتلاقيان إلا في شرع امرأة
في الريف، أخذ عقلك الفج يفتن في الزينة والتطرية و. . . تباهين بها فتيات من أهلك هي دونك لأنك أنت زوجي
ورحت تتبذلين في دار الاحتشام، وتنفثين عطرك الذكي بين الحظائر والزرب، وتتأنقين في ربى الطبيعة الساذجة، وتنشرين ثراك في بلاد المتربة والفقر، ونسيت أنك تؤرثين نار الحقد في قلب الفلاح المسكين، وتبذرين غراس الطمع في وطن القناعة والرضا
بالله لقد عجزت عن أن تلدي طفلاً فرحت تلدين في مأساة الحياة مهزلة تسخر منك
فهجرت المدينة والمدنية ما تبرح تتوثب في دمك وتتناثر حواليك سموماً تلتهم قلب الريف الطاهر النقي
آه، لقد خفت أن تمر يدك الغضة الناعمة على جنة الريف النضيرة فتذرها جحيما تتسعر
فذهبت إليك أخفف من غلوائك وأسكن من حدتك فابتسمت في فتور وقد طمت بك شيطانيتك التي لا ترعوي
وآدني أن أرزح تحت حماقتك وجهلك وغباوتك وأنانيتك فأسدلت على أيامك ستراً، ثم انطويت وأنا أهتف بك: وداعاً، يا عزيزتي، وداعاً!
وشملني ظلام الدار وظلام الحياة وأنا ما أزال في فرحة العمر وربيع الشباب، فانطلقت أفتش عن قبس من نور
لا تحزني يا زوجتي، فأنت. . . أنت دفعتني
وتلمست، فإذا فتاة في ريق العمر ونزوة الشباب، تبذك جمالاً وفتنة، وتفوقك علماً وأدباً، وتعجزك حسباً وثراء. . . وتلاقينا على ميعاد
ووصلت حبلاً بحبل، ونعمت، من بعدك، بالحياة بعد إذ أمضني ملمسها الخشن
واطمأنت نفسي إليها واطمأنت هي
وجلسنا في خلوة، ثم. . . ثم دوت صفارة الإنذار، فانخذلت أوصالها وانخلع قلبها، وانبعثت تبحث عن نفسها وقد تبعثرت في صلصلة الصوت
وانكشفت لي عن امرأة مثل من أعرف: امرأة فيها روح الثعلب أو شيطانة في مسلاخ امرأة
فطرحتها جانباً وانطلقت وأنا أهتف بها: وداعاً، يا عزيزتي وداعاً!
(مشتهر)
كامل محمود حبيب
من ثنايا (كتاب الديارات) للشابشتي
يوم من أيام المتوكل
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . ذكر (عبيد الله بن أحمد) بن خرداذبه أن المتوكل أنفق على الأبنية التي بناها وهي: بركوارا، والشاة، والعروس، والبركة، والمختار، والجوسق، والجعفري، والبديع، والصبيح، والمليح، والسندان، والقصر، والجامع، والقلاية، والبرج، وقصر المتوكلية، والبهو، واللؤلؤة. . . مائتي ألف ألف وأربعة وسبعين ألف ألف درهم ومن العين ألف ألف دينار؛ (ف) فتكون قيمة الورق بصرف الوقت مع ما فيه من العين ثلاثة عشر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار
قال (المؤلف): شرب المتوكل يوماً في بركوارا فقال لندمائه: أرأيتم إن لم تكن أيام الورد لا نعمل نحن شاذ كلاه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين لا يكون الشاذ كلاه إلا بالورد، فقال: بلى، ادعوا إلى عبيد الله بن يحيى، فحضر، فقال (له المتوكل): تقدم بأن تضرب لي دراهم، (زنة) كل درهم حبتان. قال: كم المقدار يا أمير المؤمنين؟ قال: خمسة ألف ألف درهم. فتقدم عبيد الله في ضربها فضربت وعرفه الخبر فقال: اصبغ منها الحمرة والصفرة والسواد، واترك بعضها على حاله. ثم تقدم إلى الخدم والحاشية - وكانوا سبعمائة - بأن يعد كل واحد منهم قباء جديداً وقلنسوة على خلاف لون الآخر وقلنسوة ففعلوا. ثم عمد إلى يوم تحركت فيه الريح فنصبت له قبة لها أربعون باباً فاصطبح فيها، والندماء حوله، ولبس الخدم الكسوة التي أعدها، وأمر بنثر الدراهم كما ينثر الورد؛ فنثرت أولاً أولاً؛ فكانت الريح تحمل الدراهم فتقف بين السماء والأرض كما يقف الورد فكان (هذا اليوم) من أحسن أيام المتوكل وأظرفها، وكان البرج من أحسن أبنيته فجعل فيه صوراً عظاماً من الذهب والفضة، وبركة عظيمة جعل فرشها - ظاهرها وباطنها - صفائح الفضة، وجعل عليها شجرة ذهب فيها كل طائر يصوت ويصفر، مكللة بالجواهر وسماها طوبى؛ وعمل له سرير من الذهب كبير، عليه صورتا سبعين عظيمين ودرج عليها صور السباع والنسور وغير ذلك، على ما يوصف به سرير سليمان بن داود عليهما السلام؛ وجعل حيطان القصر من داخل وخارج ملبسة بالفسيفساء والرخام المذهب فبلغت النفقة على هذا القصر ألف
ألف وسبعمائة ألف دينار. وجلس (المتوكل) فيه (يوماً) على سرير الذهب وعليه ثياب الوشي المنقشة وأمر ألا يدخل عليه أحد إلا في ثياب وشي منسوجة أو (ثياب) ديباج ظاهرة، وكان جلوسه فيه سنة تسع وثلاثين ومائتين. ثم دعا بالطعام وحضر الندماء وسائر المغنين والملهين وأكل الناس، ورام النوم فما تهيأ له، فقال له الفتح يا مولاي ليس هذا يوم نوم، فجلس للشرب. فلما كان الليل رام النوم فما أمكنه، فدعا بدهن بنفسج فجعل منه شيء على رأسه وتنشقه فلم ينفعه، فمكث ثلاثة أيام بلياليها لم ينم، ثم حم حمى حادة فانتقل إلى الهاروني قصر أخيه الواثق فأقام به ستة أشهر عليلاً وأمر بهدم البرج وضرب تلك الحلي عيناً
(انتهى)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الأدب الإنجليزي
دراسة شاعر قصصي
للأستاذ أحمد الطاهر
لنتخلف عن قافلة الزمان، ولنرجع إلى الوراء خمسة قرون أو ستة، ونحط الرحال في لندن، ونتخير أحد فنادقها، وليكن فندق (تابارد) في حي (سوث وارك). وما كنا لنهبط لندن في غير الربيع، فالأشجار وارقة غيناء تلتف أفنانها وتتلاقى خصلاتها وترف ظلالها، وهي لا تزال ملمة لم يحن وقت أثمارها وإن بكر بعضها، فما يزال الثمر أكماماً ونوراً، والطير يدوي في الأرض ويدوم في السماء، ثم يدف ولا يزال يواتر ذلك أبابيل ووحداناً تشدو بين إرنان شجي، وهزج دقيق، وترجيع شهي
يطرأ على الفندق جماعات من الناس مثنى وثلاث، يلقون عصا التسيار، وقد بدا على وجوههم أن تحلل بهم السفر فأعياهم: فيهم الرجال الأشداء، وفيهم النساء الضعيفات. ولكن لا يكاد أن يلتئم جمعهم حتى يشيع في وجوههم البشر، وتنطق قسماتهم بالسرور، ثم تغريهم كثرتهم فتنسيهم النصب والتعب، ثم يغرقون في اللهو والعبث؛ إن رأيتهم حسبتهم أطفالا قد استخفهم الفارح وازدهاهم الطرب
هذا خليط من الناس فيهم الطغام والهباء، وفيهم السادة والأحباء. أما هذا الرجل الأنيق البدين فهو أحد الفرسان، كمي جسور، مغوار مشهور؛ وأما هذا الذي وراءه فهو سيد من سادة الريف لعله صاحب القرية أو ذو الشأن فيها؛ وهذا الزري الضامر النحيف قس قد قنع بالكتاب عن فاخر الثياب، يلبس الأسمال والأخلاق، ويعلم الحكمة والأخلاق؛ وهذا الذي يرفل في الديباج الأحمر طبيب يلهج لسانه بالحمد والثناء، حين يذكر أيام الطاعون والوباء، إذا امتحنت المدينة عامين تعاون فيهما على الناس الطاعون والطبيب: ذلك يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وهذه الفتاة الناعمة الرقيقة راهبة من الرهبان، تتكلم الفرنسية بلهجة ظريفة سليمة، ولكنها لا تفهم لغة باريس؛ وحسبك أنها تعلمت الفرنسية في بلاد الإنجليز! أما الذي خلفها فراهب متعبد غير متأبد، لا يتذمم مع رهبنته من اقتناء الخيل والخروج للصيد، وهو ليس بالرجعي الذي يلزم القديم، بل هو مجدد كأهل هذا الزمان، لا يحبس روحه في القوس والصومعة، ولا عقله في الكتب والصحائف، ولا يكد بدنه بالزرع
والحصاد، إنما همه في الحياة أن ينمي اثنين: كلب صيده ولحم بدنه. وبجواره شماس خبير بأهل المدينة ونواديهم وحاناتهم وخاناتهم، قد وهب جمال الصوت وحسن التوقيع والبداهة في المداعبة الحلوة والمحارزة المرة. وهذا رجل من عامة ذوي الأملاك مرح طروب يشغله في الحياة شيئان: الطعام المريء والخمر العتيق. وهذا كاتب قد ملأ رأسه من اكسفورد لا فرق بينه وبين جواده: كلاهما هزيل ناحل ما أغني عنه علمه وما وعى، فهو لا يزال حائراً يتخبط في غيهب الحياة، ينام الليل متوسداً أرسطو وفلسفته ويصبح خالي الوفاض لا يملك شيئاً، حتى إذا يسر له صديق هرع إلى المكاتب يلقي إليها بالمال، ويعود منها مثقلاً بأحمال؛ وهذه ربة دار امرأة صناع قد أبلت في عمرها خمسة أزواج أوردتهم جميعاً موارد العذاب، ولا تزال تتربص بسادس فهي تنصب للزوج شركا من الحب الزائف والود المصطنع حتى يقع فيه فترديه، وهذا نجار وهذا صباغ، وهذا فلاح، وهذا حباك، وهذا نجاد
كل أولئك الذين رأيت لهم قبلة واحدة هي الحج إلى بيت الشهيد توماس في كانتربري. فبيته مثابة المؤمنين ومقصد المخلصين
ولعلي قد أنسيت أن أحدثك عن صاحب الفندق فهو رجل حلو الفكاهة رقيق الحاشية يرى أن الحج ركن من أركان الدين، حكمة شرعته أنه سبب رزقه ومورد الخير له، وهو لا يدخر وسعاً في إيناس الحجيج وتيسير السبل لهم. وقد تراءى له أن يحج هذا العام فما فصلوا عن الخان حتى بدا له أن يجد سبيلاُ للترفيه عنهم ودرء أوصاب السفر، قال: يا قوم نحن ثلاثون فعلى كل واحد منا أن يقص على إخوانه قصتين في الذهاب ومثلهما في الإياب، فمن فازت قصته بالإعجاب فله عشاء في فندقي يدفع ثمنه بقية الصحاب
ولست أدري هل كانوا جميعاً قد قصوا ما قضي عليهم، ولكنني أعلم أن رجلاً منهم قد وعى ما سمع من القصص أو هو أجرى على أفواه الحجيج قصصاً تخيلها وأسماها (قصص كنتر بري)!
هذا الرجل هو (جوفري شوسر) أبو الشعراء الإنجليز وزعيم قصصيهم
ولقد أدرك القراء أن وصف الحجاج والفندق ووصف المدينة في الربيع، وكل ما قرءوا من أول هذا المقال، إنما هو مقدمة قصص (كنتر بري) للشاعر الذي ندرسه، نقلتها عنه في
أمانة ووفاء، لنتبين أسلوبه، وندرس حياته وآراءه، وما تأثرت به كتاباته من آراء غيره ومما أحاط به من ظروف وأحداث كان لها الأثر في تفكيره وبيانه
فالشاعر كما ترون خلال هذه السطور القليلة التي قرأتم والتي أرجو أن أوفق للمزيد منها في مقال آخر، لا يحاول أن يبسط سلطانه على عقل القارئ ولا يختار موضوعاً اجتماعياً بعينه ليدلي فيه برأي قوي عنيف يفزع به القارئ أو يجذبه إليه، ولكنه يعمد إلى الحقائق المجردة والمشاهد المألوفة فيدعها تسيطر على عقله هو ثم يصفها لك كما أثرت في نفسه وكما يراها هو، فلا يلبث القارئ أن يؤخذ بالصورة التي رسمها له، ويتأثر بالعوامل التي تأثر بها الشاعر، فيرى بعين الشاعر ويفهم بعقل الشاعر في غير عناء ولا كلفة. وإنك لتدرك بعد هذا أن شاعرنا قوي السلطان على قرائه، ولكنه لا يقسرهم طاعته، شديد التأثير فيهم ولكنه لا يسلط عليهم قوته، وإنما هم القراء الذين يهرعون (لبضاعته) ويخضعون لطاعته والتأثير به. قال فيه أحد المترجمين له:(لم تكن هناك أخيلة قد ألقى عليها الشعراء ضوءاً يمكنه أن يختار منها ويقتبس، ولكنها كان يفحص الأشياء في حدود ضيقة لنفسه وبنفسه حتى يستطيع وصفها وصفاً لا يفترق عن صنعة المثال، فوصفه للطبيعة يشعرك بهبوب الريح ورطوبة الثرى وبرودة الجو)
وأحسب أن مما ساعده على هذه القوة الوادعة وهذه السطوة الهادئة أسلوبه التهكمي وسخريته الحلوة المرة إن جاز هذا التعبير، فأسلوبه حلو يستسيغه القارئ ولا يستطيع أن يعبس له، بل لا يسعه إلا أن يضحك منه ويتأثر به؛ وهو مر لأنه يكشف عن العيب الذي يريد الشاعر الكشف عنه، فيريك منه أبشع صورة وأشدها إيلاماً للنفس. أنظر إليه حين يصف أطباء عصره كيف يضحكك من وصفهم، وكيف يؤلمك من جشعهم وما نال الناس منهم ومن الطاعون: فطيبيه الذي يصف رجل يلهج لسانه بالحمد والثناء حين يذكر أيام الوباء، وهو والطاعون إذ اجتمعا على المدينة أفنياها، هذا يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وانظر إليه حين يصف المرأة المزواج يعبر عن ذلك بأنها (أبلت) في عمرها خمسة أزواج، ثم يدعها ويسخر من الرجال الذين يقعون في حبائلها. . .
ولعلك لمحت فيما قرأت له أن أكثر سخريته وأشدها منصب على رجال الدين من قساوسة وشمامسة ورهبان؛ ونحن نبادر قبل أن نعرض لهذا البحث - إن أتيح لنا أن نعرض له -
فنقول إنه متأثر في هذا بعاملين: أولهما حال رجال الدين في ذلك العصر وما كان بينهم وبين الملوك والأمراء من تحاسد وتباغض وتنازع في السلطان، والملوك والأمراء هم أرباب الفضل والنعمى على شاعرنا؛ وثانيهما خضوعه في هذا وفي غير هذا لما تأثر به في آرائه وأسلوبه من كتابات الشاعر الإيطالي بترارك وغيره من شعراء الطليان الغابرين وكتابهم
ولد هذا الشاعر في لندن منذ نحو ستمائة سنة. وقليل ما عرف عن فجر حياته، بل لم يسمع اسمه في لندن إلا عندما كان موظفاً في بلاط الدوقة كلارنس التي كانت زوج ابن إدوارد الثالث
وكان شوسر لا يزال شاباً في طراءة السن، ثم انخرط في سلك الجندية وحارب في حروب فرنسا المعروفة بحروب مائة العام. قيل إن الفرنسيين أسروه وطلبوا له الفداء ويهظوا واشتطوا على أهله وصحبه في الفدية، فاكتتبت أولئك في جمعها وساهم الملك بماله في ذلك. ولما عاد إلى بلاده استخدمه الملك خاصة له وأصبح له في الأسرة المالكة منزلة محترمة. فكان موضع الثقة في السفارات، والرسول المجتبى في الملمات. سافر إلى فرنسا وإلى إيطاليا فحذق اللغتين وقرأ شعرهم ولقي شعرائهما. وشغل بعد هذا مراكز حكومية كإدارة المكوس وعضوية مجلس الشورى ورياسة المقاطعات، ولا تزال جامعتا اكسفورد وكمبردج تتنازعان بنوة هذا الشاعر
ولعله لا يتعاظمنا أمر فقره في أخريات حياته، فهذا شأن الكثيرين من الكتاب والشعراء حتى اليوم، ولعل هذا هو ما أوحى إليه وصف الكاتب بقوله:(ما أغنى عنه علمه وما وعى - حائر يتخبط في غيهب الحياة، ينام الليل متوسداً أرسطو وفلسفته، ويصبح خالي الوفاض لا يملك شيئاً) لعله كان يصف نفسه، فكذلك كان شاعرنا، عاش على قليل من المال رتبه له هنري الرابع ابن صديقه جون أوف جونت، واتخذ له مسكناً في وستمنستر في بقعة منها يشغلها الآن جزء من كنيسة وستمستر المعروفة ببيعة هنري السابع ومات بها عام 1400م ودفن في زاوية الشعراء من هذه الكنيسة. وكان أول شاعر نال هذا الشرف
ولنا عود إن شاء الله إلى قصصه وآثاره.
(الإسكندرية)
الصاغ أحمد طاهر
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
أي الصلح يريد؟
عرض هتلر في حديثه إلى مجلس الريشستاغ الألماني إلى موضوع الصلح مع إنجلترا، فأبدى استعداده للدخول في مفاوضاته؛ ولكن أي صلح يريد هتلر؟ ولماذا يبدي استعداده اليوم بعد مضي شهر على تسليم فرنسا؟ الحقيقة أن هتلر لا يريد الصلح، وهو لم يكن في يوم من أيام حياته من مريدي السلام؛ بل هو في حالة حرب دائمة، فإذا كانت ألفاظ السلام على شفتيه، فعقله وقلبه يعملان للحرب، فصلحه وسلامه يقومان على الغدر والخيانة واستغلال الفرص للقضاء على سلام غيره
فتاريخ هتلر مملوء بالصفحات السوداء من تغرير، وخيانة، وغدر، وخديعة؛ ولم يتورع في تصرفاته عن استعمال أسلحة القتل والجريمة، فعندما أراد ضم النمسا دفع رجاله لاغتيال دلفوس زعيمها، فلما خاب مسعاه في المرة الأولى كرره في المرة الثانية، إلى أن تمكنوا من قتله، وعندئذ بدا هتلر على حقيقته زعيماً للمجرمين، فحمى القتلة، بل وزاد أن مجد ذكراهم لأول مرة في تاريخ الإنسانية، فوضع على قبور من اقتصت منهم العدالة أكاليل الزهر، وأقام نصب التخليد. فيالها من أكاليل ويالها من نصب!
الاختطاف الدولي
وعندما أراد أن يضم إلى بلاده مناطق السوديت توطئة لوضع تشيكوسلوفاكيا تحت سيطرته تبع نفس الوسائل، ولكن بطرق أخرى؛ فبدل أن يقتل اختطف، فاستدرج الرئيس هاشا بحجة المفاوضة، فلما وصل إلى ألمانيا أحاطه بالحرس المسلح، وألقى إليه بشروطه، على أنها شروط لا تقبل المفاوضة؛ فلما رفضها، برزت المسدسات من مناطق الرجال، وحيل بين هاشا والنجاة وجعلت شروط الصلح شروط الفدية، مذكراً بمصير (شوشنج) وما يعانيه من آلام الأسر، وعذاب رجال الجستابو
وعبثا حاول هاشا الخلاص من التهديد أو الإكراه إلى أن نفد احتماله وأغمى عليه مرات، ولكن الأطباء المعدين في حجرة مجاورة كانوا يسعفونه بالعلاج حتى يتمكن من إمضاء
الاتفاق؛ وبعد ساعات من الاضطهاد المتواصل خارت قوى الشيخ فسلم الفدية وأمضى الاتفاق
فأي فرق بين هتلر وعصابات الاختطاف والسرقة؛ فالأول يقتل الزعماء ليتخلص من عزيمتهم، ومن منافستهم، ليسلب بلادهم حريتها، وليبعث الرعب في قلوب غيرهم؛ والآخرون يقتلون منافسيهم وغرماءهم ليسلبوهم أموالهم؛ والأول يختطف رؤساء الدول مستغلاً قواعد المعاملات الدولية، ويجعلهم رهينة ترهب وترغب، إلى أن يكرهوا على تسليم الفدية؛ والآخرون يخطفون الأثرياء طمعاً في فدية يحصلون عليها من ذويهم
أي فرق بين هاتين العصابتين؟ وإذا كانت الأمة لا تسمح لمثل هذه الطائفة بالعيش، وتسلط عليها رجال الأمن للقضاء عليهم، فهل يحق للعالم أن يترك هتلر يقتل الزعماء ويختطف الساسة تحت ستار السلام؟
وإذا أردنا أن نذكر تصريحات هتلر ووعوده مع بولندا والدانمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا، ضاق نطاق المقال، وأعدنا على القارئ سيراً مؤلمة
وشعر هتلر بأن النصر بعيد، وأن الهزيمة أقرب منه، فأراد أن يهرب من مصيره، ولوح للعالم بالسلام، ولكن العالم يعلم ما يخبئ لهم هذا السلام، فإن هي إلا فترة من الزمن يبث فيها رجال الطابور الخامس في إنجلترا فينشرون الرعب والخيانة بين رجالها، وإن هي إلا فترة من الزمن يستعد فيها هتلر بقوات تمكنه من غزو إنجلترا حتى يبدأ الحرب الفعلية من جديد، وهذا هو السلام الذي يريده هتلر
ولم الآن. . .؟ إن الشهر الذي انقضى منذ توقيع الهدنة الفرنسية لم يمض عبثاً، فقد خبر فيه هتلر قواته، وشاهد نتائج إغاراته على إنجلترا، فعرف أن بريطانيا العظمى بعيدة المنال، وأن سلاح العنف لن يصل به إلى غرضه، فعاد إلى سلاح الخديعة ليوهم أنصار السلام بأنه ملاك، وليحمل إنجلترا تبعة استمرار الحرب، فيشتد عضد أنصار الهزيمة فيها، وتسري في الرأي العام لهجة الصلح، ولكن هيهات! ففي تاريخ إنجلترا كله ما يدل على أنها إذا عزمت على أمر فلا مفر منه إلى النهاية
وهي خلة فرضتها عليها الظروف، فهي تبدأ الحرب متراخية ضعيفة، ولكنها لا تلبث أن تحشد جهودها، وتوجه قوتها إلى الغرض المنشود، وهي تتكلف في هذا التحول كثيراً من
الخسائر المادية والأدبية مما يعز عليها أن تتخلى عنه وهي في منتصف الطريق
سياسة الإمبراطورية
فهي تضع خطة نضالها على حرب طويلة الأجل، تكون في نهايتها أقوى منها في أولها، وقد فرضت عليها سياستها الإمبراطورية هذا السبيل حتى لا ترهق شعوبها بالاستعدادات الحربية في زمني الحرب والسلم، وتكتفي بالسيطرة على جميع المواد في زمن الحرب؛ وغني عن القول أن مواردها تنمو في فترة السلم نمواً كبيراً بفضل تقدم العمران، وأن شعوبها إذا أحست بالخطر ضحت في سبيله، حرصاً على رفاهيتها من أن تهددها دولة أخرى؛ وعلى هذا الأساس تدخل الميدان واثقة من قوة عزيمة رجالها، واثقة من اتساع مواردها
عرف هتلر كل هذا واختبره، ولهذا السبب يعرض الصلح الآن. فخير له أن يحل مشاكله وهو قوي من أن يحلها وهو ضعيف، فالحالة الأولى تتيح له التهديد بالرفض أما الثانية فلا يسعه فيها إلا القبول، فقد أدرك الآن أن خطة الحرب الخاطفة التي بنى عليها سياسة انتصاره يرجح فشلها على نجاحها
في الشرق الأقصى
وثمة ميدان آخر بدأت الحياة تدب فيه، وبدأ الناس يتكهنون بما يجري فيه، فسألني عدة أصدقاء ما هو الموقف في الشرق الأقصى؟ ماذا ينتظر أن يجد فيه من الأحداث السياسية والعسكرية؟
فهناك أمريكا واليابان والروسيا والصين؛ وهناك أيضاً أملاك لهولندا وقد احتل بلادها الألمان، وأملاك لفرنسا وقد سيطر على فرنسا النازيون، فانقطعت الصلة العسكرية بين هذه الممتلكات وبين أمها، بحيث يتعذر عليها وحدها الوقوف أمام غزو ياباني سياسي أو عسكري
والموقف في الشرق الأقصى دقيق لا يتيح للباحث أن يقطع فيه برأي، وأمريكا هناك هي القطب الرحى، وهي أقدر دولة على حفظ التوازن والسلم ولو إلى حين. وقد ناقشنا في مقالنا الماضي ناحية من العلاقات وتضارب المصالح بين الروسيا واليابان
ونناقش الآن موقف أمريكا في هذا المجال، فإن كانت مصالحها في أوربا لا تدفعها إلى دخول الحرب والاقتصار على إمداد إنجلترا بالعتاد الحربي فإن مصالحها في الشرق الأقصى رغم اتساع المحيط الهادي تدفعها إلى الاحتفاظ فيه بالتوازن الدولي بجميع الوسائل ومنها الحرب
المصالح الأميركية
فقد تضاعفت تجارتها في الصين قبل حربها مع اليابان حتى بلغت ستة أمثال ما كانت عليه، فأصبحت 250 مليون دولار؛ فإذا اعتبر هذا المبلغ بسيطاً بالنسبة لأمريكا، فإن زيادته المطردة وتضاعفه في فترة قصيرة مما يبعث كبير الأمل في نفوس الأمريكيين ولا سيما أن الصين بدأت تأخذ بأساليب الحضارة الحديثة من صناعية وزراعية
واستيلاء الروسيا أو اليابان على الصين يقضي على التجارة الأمريكية فيها، ويهدد أميركا ودولها بالغزو، فبنت أمريكا سياستها في الشرق الأقصى على ألا تكون لإحداهما فيه إمبراطورية واسعة تضم إليها الصين، ومن ثم يسهل عليها الاستيلاء على الجزر الواقعة في المحيط الهادي وأهمها الفلبين وهاواي، وعندئذ يتاح لها أن تغزو أية دولة شرق المحيط الهادي، وتتخذها قاعدة لتهديد الولايات المتحدة تهديداً مباشراً
ومن سياسة أميركا في الشرق أيضاً أن تثبت أقدام الدول الأوربية فيه، حتى لا تكون مهمة حفظ التوازن واصطدام المصالح قاصرة عليها، فعندما اشتدت حركة الحصار الياباني على تيانتسين، واتخذ اليابانيون مع البريطانيين وسائل قاسية تدخلت أميركا وهددت اليابان بقطع العلاقات التجارية
ولتهرب اليابان من المسئولية الدولية بنت سياستها على المكر والدهاء، فألفت حكومة صورية في منشوكو لتنفذ بها سياستها؛ فعلى حكومة منشوكو أن تزرع وعلى اليابان أن تجني الثمر ناضجاً، فمنطقة شنغهاي مثلاً منطقة دولية موزعة على الدول، فتلبس حكومة منشوكو قفاز اليابان وتطالب الدول بإخلائها، فإذا احتجت الدول إلى اليابان على أنها المحرك الأصلي قالت إنها غير مسئولة عن تصرفات حكومة أخرى مستقلة
أمريكا تعمل
ولهذا برزت في الدوائر الأمريكية فكرة تضع اليابان في وسط المعضلة، فتخطر بأن كل حركة أو عمل ينفذ من جانب حكومة منشوكو تعتبر اليابان مسئولة عنه، وتتخذ قبلها العقوبات أو التصرفات اللازمة
أما هذه التصرفات فهي:
1 -
عرقلة التجارة اليابانية في أمريكا وهي أكبر عملائها، فتفرض الضرائب على الواردات اليابان
2 -
عرقلة مساعي الصين في اليابان وإفساد خططها
ويؤيد هذين التصرفين الموقف الدولي الحاضر وحالة الحرب الناشبة في الميدان الأوربي والميدان الصيني، وقد نتجت عنه ثلاثة عوامل
ا - تعتمد اليابان على التجارة الأمريكية، فلم يبق لها من أسواق سواها
ب - ضعف اليابان نتيجة لحربها مع الصين وصعوبة تخلصها من هذه الحرب
ج - ضرورة احتفاظها بقوات بحرية وبرية كبيرة لتدافع عن ممتلكاتها إذا نشبت الحرب بينها وبين إنجلترا
ولا تعتمد أمريكا على اليابان اعتماداً كبيراً في تجارتها، فالأقطار الأمريكية من أغنى أقطار العالم، وهي البلاد الوحيدة التي تستطيع الاستغناء عن الدول الأخرى لاتساع رقعتها وتوفر خاماتها
وقلنا في مقالنا السابق أن مساعي إنجلترا للصلح بين الصين واليابان على وشك النجاح، ومعنى هذا إضعاف هذه العوامل وخصوصاً العامل الثاني، ولكنه يلاحظ أن صلح الصين واليابان لا يعيد للأخيرة ما فقدته من عتاد وقوات حربية، ولكنه يعطي لهذه البقعة السلام، وهو ما ترجوه الدول ذات المصالح فيها، حتى تعود تجارتها واطمئنانها إلى سابق عهدهما
وهناك عامل آخر يحبذ وقف القتال بين الصين واليابان، فالخطر الأكبر هو أن تسيطر الروسيا على الصين، وهذه نتيجة طبيعية لاستمرار الحرب، فإن أمل الصين في الانتصار ضعيف نظراً لتفوق اليابان العسكري وموقعها الجغرافي الحصين، فهي جزيرة كإنجلترا؛ فكل أمل الصين هو وقف الزحف الياباني أو إخلاء بعض المناطق الصينية المحتلة
وبعض المقاطعات الصينية خاضعة للنفوذ السوفياتي، فإذا طالت الحرب وتخلت قوات هذه
المقاطعات فيها، فإن النفوذ السوفياتي ينتشر في الصين كلها، ويتدحرج من السلطة العسكرية إلى السلطة المدنية، وتصبح الصين بلاداً بلشفية، أو بعبارة أوضح تتكون الإمبراطورية الشرقية بزعامة الروسيا، وهو الخطر الذي تخشاه دول أمريكا وأوربا
وتخيف هذه النتيجة اليابان، لأنها إذا تحققت قضت على جميع أحلامها في الصين، وحققت أحلام الروسيا، وهو خطر يهدد جزر اليابان نفسها إذ توضع الأراضي الصينية تحت تصرف الروسيا، أو تصبح جزءاً منها كما حدث في ليتوانيا واستونيا ولتفيا، فقد بدأ النفوذ الروسي فيها صغيراً، ثم تدرج إلى أن أعلنت انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي
فمن مصلحة اليابان إذن أن تضع حداً لحربها مع الصين اتقاء لشر الروسيا، ولا سيما أن فقر الصين مرعى خصيب للمبادئ الشيوعية ومنها تنتقل العدوى إلى اليابان، فمستوى المعيشة فيها ليس أكثر ارتفاعاً منه في الصين، ولا يبعد اليابانيين عن الشيوعية إلا بعض المعتقدات الدينية والتقاليد التي لا تلبث أن تنهار أمام شظف العيش وغريزة حفظ النفس
ولهذا فلا يستبعد أن يكون الصلح بين اليابان والصين صلحاً شريفاً يقبله الطرفان ويحفظ كرامة المتحاربين.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة
رسالة الفن
تأملات:
لتقليد والتمثيل
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
عندنا عامل فقير مرح، فجأته ثروة ضخمة، فانكب على إنفاقها، فأصابته أمراض وعلل، فانقلب صاحب هم وغم ولم يجد خلاصاً من همه وغمه إلا أن يفر من ثروته
هذا الرجل نريد أن نمثله فكيف نمثله؟
الممثلون ينقسمون حيال هذا الرجل - كما ينقسمون حيال غيره - إلى قسمين: قسم يقول لك: أنا إذا أردت أن أمثل دوراً كهذا فإني أبحث بين الناس أو في ذاكرتي عن رجل يشبهه أكون قد رأيته أو أكون قادراً على رؤيته، ثم أدرس هذا الشبيه في فقره ومرحه فأرى أثر الفقر فيه، وتأثيره في صوته، وفي مشيته، وفي حديثه، وفي إصغائه، وفي إشاراته، وفي إقباله على الناس، وفي تركه للناس. . . وما يفعله الفقر بعد ذلك كله في نفسه، ثم أدرسه بعد ذلك في مرحه، ثم أدرسه بعد ذلك إذا اغتنى، فإذا رأيته يبذر القرش في طعام، فهو سيبذر الجنيه في طعام أيضاً إذا أتاه جنيه، وإذا رأيته يبذر القرش في زينة، فهو سيبذر الجنيه أيضاً في زينة، وإن اختلفت زينة القرش عن زينة الجنيه؛ ثم أدرسه بعد ذلك وهو مريض معتل، فأراه إذا كان يصير ويحتمل أو يتبرم ويتململ؛ ثم أدرسه بعد ذلك في همه وغمه، فأراه كيف يشكو أو كيف يكتم الشكوى، وأراه لمن يشكو إذا شكا، ألكل من هب ودب أمامه، أم لعاقل ترجى عنده النصيحة، وأراه بعد ذلك كيف يقطع الرأي فيما يهمه ويغمه، أيتردد طويلاً أم قصيراً أم يبت في الأمر بالفكرة الأولى، أم يستقصي ما يتوارد إلى ذهنه من الأفكار، أم يستسلم فلا يفكر؛ ثم أدرسه في آخر الأمر وهو فار هارب من همه وغمه، وأراه كيف يكون حين يشعر بالنجاة، أراضياً مرتاحاً، أم ساخطاً، أم مشتاقاً إلى الرجوع إلى النكد عندما يذكر أن هذا النكد كان فيه مال، وكانت فيه ثروة فإذا درست هذا كله وإذا رأيته استطعت بعد ذلك أن أمثله وأنا أضمن أن أخرجه صورة طبيعية صادقة رائعة. . .
هذا كلام يقوله ممثل من القسم الأول، أما الممثل من القسم الثاني فيقول: (ومالي أنا أجري وراء الناس، أو أجري وراء الأشباح في ذكراي؟ أنا سأفرض أني هذا العامل الفقير وسأرى أي أثر يؤثر هذا العمل في النفس وفي الجسم: أهو يعطي صحة أو يعطي سقماً، أهو يورث الهدوء أم يبعث في الأعصاب الفزع، أهو ينشط العقل أم يعلمه النوم والكسل. . . فإذا علمت أي شيء يصنعه هذا العمل بالعامل استطعت أن أعود إلى نفسي أنا فأراها كيف تكون عندما تنطبق عليها الأوصاف المترتبة عن هذا العمل، وليس علي بعد ذلك إلا أن ألزم نفسي في اتخاذ هذه الأوصاف وأنا أمثل هذا الدور، فإذا فرغت من هذا الأساس رجعت إلى نفسي مرة أخرى فرأيتها في الفقر ورأيتها في المرح، ورأيتها حين تبذر وتسرف كيف تلقي المال وكيف تنسقه إذا كانت بهذه الأوصاف الجيدة، ثم أرى نفسي بعد ذلك كيف أهتم وكيف أغتم، وكيف أفر من الهم ومن الغم. . .
فإذا رأيت هذا كله وإذا درسته استطعت بعد ذلك أن أمثله وأنا أضمن أن أخرج الدور لك صورة طبيعية صادقة رائعة
وتسمع أنت كلام الممثل الأول، وكلام هذا الممثل الثاني، وتريد أن ترى أيهما الأضمن طريقاً، وأيهما ألأمكن فناً، أهذا الذي يتلقط مادة فنه من صورها الطبيعية، أم هذا الذي ينفخ نفسه في الطبيعة فيخرجها مخلوقاً جديداً؟
فإذا طلبت من هذين الممثلين أن يمثلا هذا الدور، رأيت الممثل الأول يسرع إلى الإجادة، فلا يحتاج إلى تدريب، وإن احتاج فإلى تدريب قصير يتمكن بعده من الدور تمكناً ملحوظاً
أما الممثل الثاني فإنك تراه يتسكع نحو الإجادة تسكعاً، ولكنه كلما أصاب تصوير حالة ما استمسك بها، وراح يبحث عن غيرها، فكلما طال تدربه على الدور وانشغاله به زاد إتقانه له واندماجه فيه، على العكس من الممثل الأول الذي يقف في الإجادة والإتقان عند حد خاص، هو الذي رآه في الطبيعة ونقل عنه.
وليس هذا وحده هو الفرق بين هذين الممثلين، فثمة فرق آخر كبير، ذلك أنك تجد في الممثل الأول الذي يأخذ عن الصور الطبيعية ملامح هذه الصور الطبيعية ولا ترى ملامحه هو، كما أنك ترى النفوس هذه الصور الطبيعية ولا ترى نفسه هو؛ أما الممثل الثاني فإنك ترى ملامحه ونفسه في الدور، فكأنه هو قد انصرف عن التمثيل فعلاً واشتغل عاملاً
وافتقر، وحدث له وحدث. . .
فأي واحد من هذين الممثلين أمكن فناً من صاحبه؟
أغلب الممثلين المجيدين في الغرب من النوع الأول، وقليلون جداً فيهم الذين من النوع الثاني وأذكر منهم شارلي شابلن
وأغلب الممثلين المجيدين عندنا هنا من النوع الأول أيضاً، وقليلون جداً فيهم الذين من النوع الثاني وأذكر منهم نجيب الريحاني
ولعل القارئ يلحظ أن شارلي شابلن منذ استتب اخذ يتباطأ في إخراج الروايات ولم يعد يلاحق بعضها ببعض، كما أن نجيب الريحاني قد أخذ هو أيضاً يتباطأ ولم يعد يخرج في العام الواحد أكثر من روايتين
ولعل القارئ يعرف أن شارلي ونجيب يقضيان ما بين الرواية السابقة والرواية المقبلة تهيؤاُ وتربصاً، وإن كان شارلي يستمتع بحرية أوسع بكثير جداً من الحرية التي يستمتع بها الريحاني
وشارلي ونجيب لا يتشابهان في هذا فقط، وإنما هما يتشابهان أيضاً في أن كلا منهما يؤلف رواياته لنفسه، ويعلم ممثليها بنفسه، ثم إن كلا منهما يضم حوله مجموعة من الممثلين لا يكاد الجمهور يعرفها إلا حوله هو، فإذا بعدت عنه ثقل التمثيل عليها وثقلت عليه، زد على ذلك أن شارلي شابلن بدأ أخيراً يضع الموسيقى التي تصاحب التمثيل في رواياته، وقد سبقه الريحاني إلى هذا وإن لم يكن قد سبقه بنفسه، فزكريا أحمد الملحن الكبير الذي اختصه الريحاني برواياته يقول إنه تعلم من الريحاني ألواناً من الموسيقى شرحها له معاني فنفذها هو بالنغم
فهل هناك علاقة بين أوجه الشبه هذه، وبين الطريقة التي يسلكها هذان الممثلان في فنهما؟ وهل نستطيع أن نقول إن هذه الطريقة هي التي ارتقت بهذين الممثلين حتى ميزتمها هذا التمييز على الممثلين المجيدين؟
الواقع أن هناك علاقة وصلة بين هذه الطريقة وبين هذا التمكن الفني الذي وصل إليه كل من الأستاذين شارلي شابلن ونجيب الريحاني
فنحن إذا رجعنا إلى طريقة التمثيل الأولى رأيناها أقرب إلى ما تمارسه القردة من التقليد،
فالقرد كلما رأى حركة قلدها، وكلما رأى حالة نفسية تتضح على صاحبها أثراً جسمانياً بادياً تصنع هذا الأثر الجسماني البادي وإن لم يقدر على أن يقنع الناظر إليه بأن نفسه من الداخل قد تحولت إلى هذه الحال التي من عادتها أن تنضح بهذا الأثر، ولكن الممثل الذي من نوع شارلي ونجيب أصدق تصويراً للنفس الإنسانية في حالاتها المختلفة، وإن كان يتقيد في هذا التصوير بطبيعة نفسه هو تاركا ما عداها من النفوس، ونفسه مهما كانت غنية ومهما كانت سهلة طيعة فهي نفس مفردة واحدة بينا الحياة فيها ملايين الملايين من النفوس والصور. . .
وهذا عيب قد يؤخذ على هذا النوع من الممثلين، ولكنه في الحقيقة غير عيب، وإنما هو فضيلة. فكل نفس إنسانية في حقيقتها المجردة لا تفترق في شيء عن غيرها من النفوس، وإنما تختلف النفوس بعضها عن بعض تبعاً لمؤثرات عارضة بعضها موروث وبعضها مكتسب، وبعضها تمكن، وبعضها لا يزال مزعزعاً، وهكذا، والفنان الذي يتخذ الحق طريقة إلى الفن يبدأ أول ما يبدأ بمراقبة نفسه وبمتابعة فضائلها ورذائلها، ثم يعكف على توطيد الفضائل، ومكافحة الرذائل، فإذا لم ينجح حيال شر من شرور نفسه لم يخفه عن الناس، وإنما أعلنه مع ما يعلن من نفسه فيعرف عن الناس أسراره ودخائله وشروره وآثامه وعيوبه وأخطاءه ومساويه ورذائله، وهو أول من يعرفها من الناس، وهو أول من يكرهها وإن استسلم لها وعجز حيناً عنها، ولكنه لا يزال يتربص بها الفرص ويرجو النجاة منها ويطلب من الحق أن يعينه على هذه النجاة. . .
وهذه نزعة من نزعات التصوف، وهي انطلاقة جريئة نحو الحق، وهي وحدها التي تمكن صاحبها من الإلمام بنفسه والإحاطة بما فيها، فإذا بالذي فيها كنز لا يفنى، ككل كنز في كل نفس، غير أن هذا كنز مفتوح لم تتكدس عليه الأكاذيب والأباطيل
فليس عجيباً بعد هذا أن تتاح صحبة من الفنون الجميلة للفنان الذي نفسه هي هذه النفس، فيكون أديباً وممثلاً ومغنياً وراقصاً ومعلماً وغير ذلك
وإذا كان القرد يقلد وينجح في التقليد نجاحاً خفيف الروح بهيج الظل لأنه يتطلع إلى غيره، فإن للإنسان أن يكون فناناً إذا تطلع إلى نفسه وهي أقرب إليه من غيره.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
الوضع الحقيقي لمشكلة
جابر بن حيان
للأستاذ أحمد زكي صالح
تقرير الأستاذ برتلو
وبرتلو هذا هو أول من تعرض لبحث مشكلة جابر بن حيان على منهج علمي منظم، وذلك في ثنايا عرضه لتاريخ الكيمياء في كتابه حيث يعرض برتلو منهجه قائلاً:(ولكي تجزئ هذه المشاكل العسيرة، ونعين بها مشاكل كتب جابر بن حيان، التي تعانيها هذه المرحلة العلمية، فإن الدراسة المباشرة للنصوص أو للتراجم اللاتينية تفيدنا أكثر إفادة، ولكن هذه الدراسة النقدية لا تكفينا تماماً، إذ أنه يبدو لي أنه من الضروري أن نستعين بدراسة المؤلفات العربية نفسها، وأن نقارنها بالنصوص اللاتينية المعروف أنها ترجمة لها. ولكن في ركاب الدهر، ولكن يوجد بعضها في المكاتب الأوربية مثل ليدن وباريس، وإن نشر هذه المخطوطات من الضرورة بمكان كبير، حتى تتم الدراسة المقارنة ذات الأثر الفعال في تاريخ العلوم. وحتى يتيسر لنا أن نضع تاريخ الكيمياء في وضعه الصحيح)
ثم بعد أن برتلو كتب جابر بن حيان التي لا يشك في أنها من تصنيفه يقول:
يسمح لنا تحليل هذه الكتب بأن نكون الفكرة العامة لمميزات جابر، وأن نتبين كيف أن هذا الكتب ترتبط ارتباطاً مباشراً مع عدد معين من الأفكار والآراء والنظريات التي تبسط في التراجم اللاتينية للكتب العربية مثل كتب أفلاطون وأرسطو والرازي وابن سينا وغيرها من الآراء والنظريات التي انتقلت عن طريق الكيمياء العربية إلى الكيمياء اللاتينية في القرن الرابع عشر من الميلاد. وفي حركة النقل هذه ظهرت قيمة جابر بن حيان وكيف عُد أستاذ الكيمياء في الإسلام
ويمكن أن ترد بعض هذه النظريات إلى أصول يونانية، ولكن الأعمال العربية لجابر تختلف تماماً من حيث عرض الأفكار وأسلوب البحث ومنهجه أو إثبات الظواهر ووضوح النظريات عن تلك الكتب التي ألفها منتحل اسم جابر - ليس فقط في أن الظواهر
الجديدة التي يشرحها هذا المؤلف كانت مجهولة تماماً عند العرب بل إنه من المستحيل أن نجد في المؤلفات التي تحمل اسم جابر في اللاتينية صفحة حتى ولا فقرة يمكن أن تعتبر ترجمة لنص عربي
ولكن هذا لا يمكن أن يقلل من شأن الكيمياء العربية التي أثارت تاريخ العلوم إثارة كبيرة إذ أنه عن طريقها أمكن معرفة تاريخ الكيمياء عند المصريين واليونان ثم في بيزنطة وعند السريان، ثم عند العرب أنفسهم
ثم أن كتاب ال لا يحتوي أي دليل يشير إلى أصله العربي سواء في منهجه أو في حقائقه أو في كلماته أو الأشخاص المذكورين فيه، ولا في الخرافات الإسلامية التي هو خلو منها تماماً
وليس شكي في أن كتاب السوما قد أُلف قبل القرن التاسع بأقل من شكي في أنه لا يوجد ثمة أصل عربي هو ترجمة له في مثل هذا التنظيم البديع وتلك الإبانة الوافية. إذ أن مؤلفات جابر العربية وأبحاث ابن سينا لا يمكن أن تملي علينا التسليم بان كتاب السوما ترجم عن أصل عربي
ونحن لا ننكر أن بعض العبارات قد اقتبست من مؤلفات جابر العربي، الذي لا زال وجوده. ولكن على الرغم من ذلك لا نستطيع أن نقول بإمكان أن يكون مؤلف هذا السفر الجليل عربياً مسلماً، إنما الافتراض الذي يبدو لي معقولاً هو أن مؤلفاً لاتينياً لا زال مجهولاً لنا تماماً كتب هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن الثالث عشر من الميلاد ونسبه إلى جابر كما فعل الكيميائيون اليونان في مصر الذين وضعوا اسم ديمقريطس على مؤلفاتهم لديمقريطس كي تشتهر وكما فعل الكيميائيون السريان في نحلهم مؤلفاتهم لديمقرطيس كذلك
وقصارى القول إذن أن المؤلف اللاتيني - (المدعي الجابرية) قد احتل مكانة سامية في العالم الكيميائي بفضل وضوح منهج الـ وبامتيازها عن غيرها من المؤلفات العربية البحتة حتى صار هذا المؤلف في القرن الرابع عشر من الميلاد أساس الدراسة الكيميائية في العالم أجمع، ولكن نسبة هذا الكتاب للعرب أنفسهم أفسد كل تاريخ العلم لمنحه لهم هذه القدرة العلمية الإيجابية التي ما وجدت لديهم يوماً ما)
مناقشة تقرير برتلو
يرى الأستاذ برتلو أن وضوح كتاب السوما وأسلوبه وتنظيم أبوابه وقوة نظرياته ومنهجه الخاص تكفل لهذا السفر الخروج عن دائرة التأليف الإسلامية، والدخول في دائرة التأليف اللاتينية، ولكن لم لا يكون جابر هو الذي كتب هذا المؤلف، بالعربية طبعاً، في أخريات حياته، بعد أن اكتمل له حظ كبير من المعونة العلمية ومن الآراء والنظريات السابقة له؟ ولكن هبني سلمت بأن جابراً لا يعرف التنظيم في مؤلفاته، وهذا بعيد جداً، فلم لا يكون هذا التنظيم وذلك الأسلوب اللذان ركز عليهما برتلو نقده الطويل، من عمل المترجم؟ وكل ما هنالك أن هذا السفر الكيميائي كان حظه أوفر من حظ غيره من الكتب، إذ وهب مترجماً ميالاً للأدب، ضليعاً في لغته، فاهماً تمام الفهم ما هو في سبيل ترجمته. وأؤكد أن هذه الأمور لو توافرت في أي مترجم لخرجت الترجمة وهي تضارع الأصل في وضوح الفكرة وجمال العرض
فالأساس الذي يعتمد عليه برتلو في نقده كتب جابر بن حيان أساس خاطئ، حظ الشك فيه راجح على حظ اليقين. ونحن نكتفي بان نسأل سؤالين:
أليس من اليقين القاطع أن أعمال جابر العربية التي في متناول أيدينا تدل على نبوغ وعبقرية؟؟ ولم لا تكون هذه الكتب اللاتينية الأربعة التي سبق أن أشرنا إليها في بدء المقال، قد ترجمت عن أعمال أخرى لجابر بن حيان؟
أما السؤال الأول فإن برتلو يسلم بأن الكتب العربية لجابر ابن حيان تدل على نبوغ وعبقرية
ولقد لاحظ الأستاذ رسكا خليفة برتلو في الاهتمام بمشكلة جابر بن حيان، أن عملين من المؤلفات التي نشرها برتلو إنما تدل على سمو وامتياز، وعلى عقلية نامية نابغة
أما السؤال الثاني: فإن إجابة برتلو عليه كما سبق أن بينا، لا تلزم الباحث بضرورة الاقتناع برأيه
وعلى ذلك فإن القول بأن هناك أسباباً وجيهة جعلت كيمائياً لاتينياً ينسب أعماله لجابر ين حيان لشهرته التي لم تأت فقط عن طريق التراجم العرضية كمذكراته ورسائله، إنما كذلك عن طريق التراجم اللاتينية لبعض المؤلفات العربية لجابر بن حيان الدالة على نبوغ
وعبقرية، والتي أكثرها أهمية بدون شك هو كتاب السبعين الذي نشره برتلو وهوداس في سنة 1903 حسب مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس
ولما كان من المستحيل أن يكون لدينا رأي جازم في مستوى الأسلوب العلمي في ذلك الوقت فإنه ليس من الممكن أن نسلم بأن كتبا كتبت على أسس جديدة غير الأسس القديمة ليست من أعمال جابر بن حيان
ونحن لا نكتفي هنا ببيان استحالة صحة رأي برتلو من الناحية الأسلوبية فقط، إنما كذلك تحت أيدينا من النصوص ما يثبت قطعاً أن رأى برتلو في معالجته لمشكلة جابر بن حيان من الناحية الموضوعية خاطئ كل الخطأ كذلك
ونحن لا نكتفي هنا ببيان استحالة صحة رأي برتلو من الناحية الأسلوبية فقط، إنما كذلك تحت أيدينا من النصوص ما يثبت قطعاً أن رأي برتلو في معالجته لمشكلة جابر بن حيان من الناحية الموضوعية خاطئ كل الخطأ كذلك
والآن فلنقارن بعض النصوص اللاتينية التي يذهب برتلو أن جابراً لم يفطن إلى معانيها، أو إلى التجارب التي تشرحها، ببعض النصوص المسلم بأنها من عمل جابر بن حيان، من جميع العلماء المستشرقين:
أولاً: كتاب الاستتمام، هذا الكتاب ذكر في الفهرست لابن النديم، ويذهب المستشرقون إلى أن هذا الكتاب، أعني ترجمة باللاتينية التي نقلت بدورها إلى الإنجليزية تحت عنوان إنما هي منسوبة إلى جابر بن حيان انتحالا، التي لم يحاول العرب التفكير فيها. ونحن الآن نقتطف نصاً من هذه الترجمة اللاتينية ونصاً آخر من كتاب لجابر بن حيان بالعربية وهو (الإيضاح) وترى بعد ذلك هل حقاً يوجد تباعد بين الفكرتين؟
يقول كتاب ما ترجمته (تتركب جميع المعادن من أصل واحد هو الكبريت سواء كان نقياً أم لم يكن)
ويقول كتاب (الإيضاح)(مخطوط بدار الكتب بالقاهرة): (تتكون جميع الأجسام المعدنية في جوهرها من الكبريت الممتزج مع الزئبق. . . وإنها إن يختلف بعضها عن بعض فما ذلك إلا لسبب اختلاف خواصها العرضية) فأين إذن هذا التباعد بين النظريتين؟
ثانياً: كتاب السوما أي الجمع:
ولعل هذا البرهان الذي سنسوقه الآن هو الذي سيضع المشكلة في وضعها الصحيح، فمقدمة الكتاب اللاتيني ترجمت عن العربية، إذ جاء فيها ما ترجمته (إن ما ذكر غير كامل في كتبنا السابقة قد أكملناه في كتابنا هذا)
وهذا ما يتفق تماماً وملاحظات جابر وتعليقاته في أنه قد فرق براهينه في كتب مختلفة. وهو قد قال: (إن البحث ينبغي أن يعمل بالشكل الذي يوافق الطبيعة)؛ كما يذكر أن الكيميائي يريد أن يقلد الطبيعة بوسائل مصطنعة. كما يذكر أيضاً أن الكيميائي ينبغي أن يكون مجتهداً في عمله مواظباً على الوصول إلى نتيجة نهائية، وألا يسلم لنتائج سريعة وظواهر خداعة
ففي كتاب الجمع أتى ذكر عملية التكليس في الفصل الرابع عشر؛ فبالرغم من أن التعاليم والأوصاف التي أعطاها جابر اللاتيني في وصفه لجهات التجربة وخطوات العمل فيها تتفق تماماً مع تلك التي قال بها جابر بن حيان في كتاب الخواص، الذي لا يشك أحد أنه من عمل جابر، فإن الأستاذ برتلو يعترف بأن عملية التكليس هذه لا نطير لها في الكتب العربية، ولكن من حسن الحظ، أو من سوئه، لا أدري، أن جابر بن حيان قد أفرد كتاباً لهذا الموضوع فقط هو كتاب (التكليس)، ولا يشك أحد أنه من عمل جابر بن حيان
فلنقارن النصوص، ونتركها تتكلم:
جاء في كتاب الجمع في النص اللاتيني ما ترجمته: (التكليس هو تأكسد المادة بواسطة التسخين، وذلك أنه يسلب الماء والرطوبة منها فتتجمع أجزاؤها، والسبب في ذلك هو أن تجفيف الكبريت وتلوينه وإفساده يمكن أن تمنع بواسطة التسخين، ولكن هذا المنع يختلف باختلاف الأشياء المتكلسة إذ أن الأجسام تكلس كما تكلس الأرواح، ولكن رغم ذلك توجد بعض الأشياء الخارجة عن طبقة هذه وتلك. . .)
(وكل معدن يكلس بطريقة تختلف عن الطريقة التي يكلس بها معدن آخر، ذلك لأنه يوجد بعض المعادن النقية الصافية بطبعها وفي هذه الحالة يكون الغرض من التكليس هو تحويل المعدن إلى مسحوق نهائي. أضف إلى هذا كله أن الحقيقة القائمة بأنه إذا طرقت الفضة حتى صارت صفائح رقيقة ثم سخنت بعد ذلك في درجة الحرارة الملائمة يمكن سحقها بعد ذلك مباشرة كالزجاج تماماً، ثم إذا صهرت مع البورق ترجع ثانياً إلى حالتها الأولى أي
على صورة سبائك غير مطروقة). أقول إن هذه الحقيقة إنما وجدت في كتاب الخواص قبل غيره من الكتب، وهو كتاب لا يمكن أن يتطرق شك إلى أنه من عمل جابر بن حيان
وآية ذلك كله أن محتويات الكتب اللاتينية لها شبيه في محتويات الكتب العربية إن لم نقل إنها هي نفسها، وهو القول الأقرب إلى الحقيقة والصواب
(يتبع)
أحمد زكي صالح
البريد الأدبي
الحزن على باريس
قرأت ما نشر في (الرسالة) بإمضاء (صديق) وما نشر بإمضاء الأستاذ علي الطنطاوي، وكذلك قرأت ما نشر في جريدة (الدستور) بإمضاء الأستاذ محمود محمد شاكر، والأستاذ محمود حسن إسماعيل، وما نشر في جريدة (منبر الشرق) بإمضاء الأستاذ أحمد جمعة الشرباصي، وسمعت الملام من بعض الأصدقاء، وذلك كله كان تعقيباً على المقال الذي نشرته في (الرسالة) بعد سقوط باريس تحت أيدي الألمان
ويظهر أن أولئك الأصدقاء تناسوا أني حددت فكرتي بأوضح بيان حين قلت: إني جزعت على مصير فرنسا الروحية لا فرنسا السياسية، فقد حاربت الاستعمار بقلمي أعواماً طويلة، وقمت بحملة قلمية ضد فرنسا وأنا في باريس بمناسبة الحوادث التي أريد بها تنصير البربر، وخطوت خطوات في أندية باريس لصد ذلك العدوان
فما الموجب للقول بأني أتوجع لأمة صنعت ما صنعت في الشرق، وقد وضحت غرضي تمام التوضيح؟ وما الموجب لأن يتفضل كاتب كبير مثل الأستاذ المازني فيغمز جميع من توجعوا لباريس بمقال لاذع من مقالاته القيمة في البلاغ؟
أيجوز أن يقع حادث مثل سقوط باريس ولا يتوجع له روح الأديب؟
وكيف جاز إذاً لكبار شعرائنا أن يتوجعوا للأمم التي آذتها الزلازل من أمثال الطليان واليابان؟
وما قيمة الأديب إن لم يتأثر بالحوادث الخطيرة في هذا الوجود
ما قيمة الأديب إن لم يتوجع لمصاب العدو كما يتوجع لمصاب الصديق؟
في تاريخنا الإسلامي نقطة بيضاء هي ما صنع صلاح الدين حين جزع لمرض عدوه وهو ملك نصراني قاد جيشاً لمحاربة المسلمين في فورة الحروب الصليبية، فقد سجل التاريخ أنه اهتم بمداواة ذلك الملك النصراني، وكانت مكرمة مأثورة من مكرمات صلاح الدين
فكيف يعاب علينا أن نجزع لنكبة الفرنسيين ولو صح أنهم في جميع أحوالهم أعداء؟
وأقول للمرة الأولى بعد الألف إنني لا أصدر فيما أكتب إلا عن وحي القلب والضمير، ومن الصعب أن ألتفت إلى النصائح الثمينة التي يوجهها الأصدقاء من حين إلى حين،
والخطأ المبتكر هو عندي أفضل من الصواب المنقول
وهل كان من الكثير أن اكتب مقالاً في التوجع لما صارت إليه باريس؟
تلك والله إحدى الأعاجيب، ومن الخير أن تقع في دنيانا أعاجيب، فقد عرفت أن في الدنيا ناساً يرون الشماتة من كرم الأخلاق. . . عفا الله عنهم وهداني!
زكي مبارك
حول العتب والبيان
كتب الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الصادر أول يولية سنة 1940 كلمة عن أدب دمشق، وأنها - أي دمشق - (ضائعة بين مصر ولبنان، فلا هي ترتضي مذهب لبنان في الأدب ولا مصر تلقي لها بالاً وتحفل بها) فعجبت من مساق هذا الرأي ورضا الكاتب عنه، فأنا أربأ بدمشق الخالدة، بلد العلم والثقافة، ومثابة الشعر والجمال، أن تكون متبعة في أدبها لا متبعة، مقلدة لا مبدعة، راجية في أدبها الاقتداء لا السيادة، وذلك على الرغم من سماتها السادرة، وطوابعها الحائرة، وما يعتور أدبها من قلق ووجوم وفتور. إن دمشق الشام لها كيان أدبي مرموق، وفيها أهل معرفة وثقافة، فينبغي أن تفرض أدبها فرضاً، وأن تسم آثاره بمياسم خاصة تميزها من غيرها، وتكون دليلاً عليها
قد تكون مصر الأدبية والعلمية بحكم أهلها الكرام وجيرانها الخلصاء، لا تعبأ بأدب الأقطار العربية التي تعتز بها وتؤمن بزعامتها، فقد سبق لكثير من أهل هذه الأمصار أن عتب على مصر العزيزة لتفريطها في الحديث عن ثقافة الإخوان والجيران، ورعاية الإعجاب الذي يحسه نحوها كل أديب ومتأدب في هذه الديار، على أن مما يسكن نأمة العتب أن قادة الأدب في مصر وكتابه الفضلاء كالدكتور عبد الوهاب عزام، والدكتور طه حسين، والأستاذ سعيد العريان، يعترفون بهذا التفريط في حق من يولونهم هذه المودة الصريحة والثقة الغالية اللتين تتجليان في أقوال العاتبين وأفعالهم، وإن المجال ليضيق الآن عن تعداد ما كتب أولئك المصريون الفضلاء، وترداد ما أعلنوا بصدد العتاب والاعتراف
والواقع أن على مصر الناهضة تبعات ثقالاً وأن لها رسالات أشتاتاً، فهي آخذة في توحيد الشعور والتفكير، جاهدة في سبيل الحرية والتعاون والمعاش، متلاقية بأمصار العرب
والإسلام تحت راية القرآن وفي حمى الفصحى والجوار، ولسوف تقيض لها الأيام أن ترى ألوان الأدب في كل بلد من بلاد الشام وتلمس مبلغ قوته أو ضعفه فتتعاون والإخوان على ازدهار الحياة الأدبية عندنا إن كانت متينة مشرقة، أو على تغذيتها وتقويتها إن كانت كامدة موهونة.
أما العتب الذي وجهه الأستاذ الطنطاوي بشأن منشورات دمشق العلمية والأدبية وإهمال الكتاب المصريين واجب نقدها والإشارة إليها، فمن ذلك النوع المعاتب على نية خالصة بريئة ولوجه الأدب فحسب
ولو أنصفنا لقلنا إن أكثر تلك المؤلفات التي أومأ إليها الأديب الفاضل كتبت عنها (الرسالة) و (الثقافة) الكريمتان، وقد نشرنا من بعضها فصولاً طوالاً. ولعل قارئ المجلتين يتذكر ما سبق إذاعته عنها، وأما كتب أساتذة الجامعة السورية من طبية صحية وحقوقية قانونية، فليس من اختصاص أهل الأدب وكتاب النقد في مصر أن يلموا بها ويكشفوا عن محاسنها ومساويها، فإذا كان ثمة عتب من أجلها فينبغي أن يوجه إلى أنداد أولئك الأساتذة من علماء القانون والطب في مصر
ومن الحق أن نعترف أن مجلات مصر الكبريات كالمقتطف والهلال والرسالة والثقافة تشير في كثير من الأحيان إلى ما يرد عليها من آثار القلم في بلاد العرب وإن تكن إشارتها محدودة ضئيلة، على أنها لا تحجم أحيانا عن نشر دراسات مفصلة لتلك الآثار
على أن هنالك كتباً قيمة صدرت عن دمشق تجاوز عن ذكرها الأستاذ الطنطاوي سهواً ونسياناً، وكان يجدر بها ألا تحرم إعجابه وتنويهه بها، فقد اقتصر على ذكر طائفة معينة من المؤلفات الدمشقية طالما أشاد بها وأكبر أصحابها، فرأيت من العدل أن آتي على ذكر ما يحضرني من الكتب التي لم يشر إليها الكاتب العاتب، منها:
ديوان التقي: للأستاذ أديب التقي
الزراعة العلمية: للأمير مصطفى الشهابي
فن القصص عند الجاحظ: لمحمد المبارك
الحجاج: لإبراهيم الكيلاني
آرائي ومشاعري: لفلك طرازي
أخطاؤنا في الصحف والدواوين: لصلاح سعدي
غزل البحتري: لياسين الحموي
صريع الغواني وجرير: لجميل سلطان. . . وغيرها. . .
وأما كتب الأستاذ محمد كرد علي فإنها في مصر تكاد تكون أشهر وأذيع منها في ديار الشام، ومؤلفاته الحديثة المطبوعة فيها من مآثر (لجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر) مما ينطق ألسنة الشاميين بالشكر والإعجاب.
(دمشق)
وداد سكاكيني
من عجائب الاجتهاد
قرأت البحث القيم المنشور في عدد الرسالة الأخير تحت هذا العنوان عن مسرحية الدكتور بشر فارس واقتباسه موضوعها وفكرتها من قصيدة الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد (القمة الباردة) ومن أبيات للأستاذ علي محمود طه من قصيدة (قلبي) المنشورة في ديوانه (الملاح التائه) فوجدت في هذا البحث هدى للمطلعين. وقد لاحظت خطأ مطبعياً في صدر أول بيت من أبيات الشاعر علي محمود طه أرى تصحيحه كما هو مثبت في ديوانه بالنص الآتي:
وصرختَ حينَ أجنَّك الليلُ
…
متمرداً تجتاحكَ النارُ
ولاشك أن هذا النقد القوي الدقيق هو من مقومات حياتنا الأدبية
سالم العطار
مدرس ثانوي
إلى علماء التاريخ
لما كنت في كركوك من مدن العراق وجدت البلد قسمين: المدينة الجديدة وهي في السهل وبحذائها (مدينة النفط) والمدينة القديمة ويدعونها القلعة لأنها قائمة على قلعة عالية منشأة على هضبة مصنوعة وحولها خندق ولها أبواب. أما سورها فلم أجد منه إلا بقية لا يكاد
يتبينها الناظر، فلما خرجت منها متوجهاً إلى دمشق عن طريق الهلال الخصيب مررت بإربل (ويسمونها اليوم أربيل) فوجدت فيها قلعة مثل قلعة كركوك ولكنها أكبر وأظهر وأبقى أثراً وحولها خندق عميق وفيها بيوت سراة القوم والسوق المسجد الجامع. ثم بلغت الموصل فوجدت فيها قلعة مثلها ولم أستطع أن أراها، ثم دخلت حلب فوجدت قلعتها على مثال القلاع التي ذكرت غير أنها مبنية بالصخر وهي أكمل وأجمل، وحيال بابها جسر يجتاز عليه الخندق كجسور قلاع القرون الوسطى. ثم أتيت حماة فوجدت فيها وفي حمص قلعتين على هذا الشكل فاستوقفني هذا الخط من القلاع وأحببت أن أعرف تاريخه فرجعت إلى (ياقوت) وغيره وسألت من أعرف من المشتغلين بفن التاريخ فلم يشف لي أحد منهم غلة، فعرضت السؤال على قراء الرسالة راجياً ممن له معرفة بالجواب نشره فيها، لأستفيد منه أنا وغيري ممن لم ينقطع للتاريخ ومباحثه
(دمشق)
(سائل)
قصتان والفكرة واحدة
منذ أشهر قرأت للأستاذ محمد سعيد العريان قصة (من أدباء الجيل) بالرسالة العدد (345) ولقد أعجبت هذه القصة كل من قرأها لقوة فكرتها وروعة أسلوبها، ولكني بعد انتهائي من قراءتها أخذت أشعر باني قرأت مثل هذه القصة من قبل. ثم تذكرت أني قرأتها في العدد الخاص ب (أحسن القصص) من مجلة (كل شيء والدنيا)، ولقد أفضيت بما يجيش في نفسي لبعض الأصدقاء، ولكن كان جواب أحدهم: يجوز أن يكون الأستاذ العريان نشرها من قبل وعلى ذلك يكون المؤلف واحداً. فكان جوابي: نعم يجوز
واليوم بينما أنظم مكتبتي - المتواضعة - عثرت على مجلة (كل شيء والدنيا) العدد (498) الأربعاء 22 مايو 1935. ولقد تصفحت هذا العدد، فوجدت القصة التي هي بيت القصيد للأستاذ (محمد أبو طائلة) وعنوانها (الشهرة) ولقد قرأت هذه القصة مرة أخرى، فوجدت أن فكرة هذه القصة هي بلحمها ودمها فكرة قصة (من أدباء الجيل) وإن اختلف الأسلوب والعنوان وبعض الحوادث الثانوية
هذا ولست أقصد من وراء قولي هذا أن أعتبر هذا الاتحاد في الفكرة من السرقات الأدبية. كلا. . . فإني أحترم أدب الأستاذ (العريان) وأنزهه عن ذلك. وإنما أعتبر اتحاد الفكرة في القصتين من توارد الخواطر. والذي دعاني إلى تسجيل هذه الكلمة هنا هو أني أريد بأن أضع الحق في نصابه، وحتى تكون للأدب (كما قال الدكتور زكي مبارك) رقابة أدبية، تراقب الإنتاج الأدبي الجديد وتزنه تميزان الحق والعدل. ومن العدل أن نقول إن الأستاذين (أبو طائلة والعريان) كتبا قصتيهما فأجادا. ولكن الفضل الأكبر للسابق لأن الفكرة واحدة.
(دمنهور)
حسين الحوني
ارتجال المصادر
ذكر الأديب السيد ميخائيل عواد العراقي في ثنايا حواشيه على مقالة (العروب في العراق) في العدد الستين بعد الثلاثمائة من الرسالة النيرة، أن للسيد حبيب الزيات مقالة نفيسة في مجلة (لغة العرب) (5 (1927) 461 - 465) بعنوان:(السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) وقد رجعنا إلى مجلة لغة العرب، وبحثنا عن هذه المقالة فلم نجدها، كما فتشنا في مجموعة المجلة المحفوظة في المجمع العلمي فلم نرها. فهل للأديب السيد عواد أن يزيدنا من الإيضاح، ويعلمنا مكان المقالة بالضبط؟
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
استفهام
وقع نظري في مقالة الأستاذ محمود شاكر في العدد 364 على قوله: (وجعل يقتطف منها حيث أراد) فكان من الحتم علي - وأنا من المعجبين بأسلوبه ولغته واطلاعه - أن أسأله هل يسوغ استعمال (اقتطف) ومعجمات اللغة كاللسان والأساس والقاموس والنهاية والمصباح لم تذكر غير (قطف)؛ على أنها نصت على استعمال (قبس واقتبس)
وإذا كان استعمال (اقتطف) من الخطأ الذي لا يجوزه القياس ولا السماع فقد قال العلامة
ابن الأثير في المثل السائر: (ليس الفاضل من لا يغلط، بل الفاضل من يعد غلطه)
رشاد عبد المطلب
انتحار الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
روت الصحف أن الدكتور إسماعيل أحمد أدهم الباحث المعروف قد انتحر غرقاً في البحر الأبيض في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الماضي يأساً من الحياة وزهداً فيها. وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين، ويطلب إحراقها وأن يشرح رأسه
والدكتور أدهم أعزب في الثامنة والعشرين من عمره ينتسب إلى أصل تركي، ولم يكن له عمل أو وظيفة، بل كان يعول في الحياة على إيراد منزل يمتلكه بالإسكندرية. وقد كان يميل في بحوثه إلى الفلسفة اللادينية
مصير المبادئ في فرنسا
تعجبني هذه الروح التي بدت في الشرق على أثر انهيار فرنسا ورددت صداها مجلة الرسالة الغراء في مقالات الأساتذة: الزيات، وزكي مبارك، وصديق، هذه الروح التي التفتت إلى الشرق لترى ماذا أصابه من فرنسا المنهزمة
صحيح أننا إذا أردنا أن نحكم على أمة عظيمة مثل فرنسا لا يمكننا ذلك إلا إذا عشنا في فرنسا نفسها وفي مستعمراتها لنرى كيف تتصرف في كل من البلادين. وعند ذلك نستطيع أن نحكم، وعند ذلك نستطيع أن نعلل هزيمتها تعليلاً منطقياً صحيحاً. ولو عاش الدكتور زكي مبارك في مستعمرات فرنسا كما عاش في باريس لعرف أن الحرية التي تحمل رايتها فرنسا، وأن الديمقراطية التي حاربت الألمان من أجلها هي أفكار قد سعدت بها فرنسا يوم كانت تؤمن بها أشد الإيمان وشقيت بها يوم أصبح إيمانها بها ضعيفاً وأصبحت عندها كتقاليد لا كمبادئ. . .
لقد علل المريشال بيتان هزيمة فرنسا بالضعف الخلقي الذي أصابها بعد الحرب العظمى والذي صحبه انحلال في المبادئ التي ورثها الفرنسيون عن الثورة الفرنسية الكبرى
وآمنوا بها، فلا الحرية بقي لها المعنى السامي الذي عرفها به الذين أعلنوا (حقوق الإنسان) ولا الديمقراطية نفذت في فرنسا كمبادئ سامية يدين بها الشعب والزعماء والأحزاب. ولكن فرنسا - بعد الحرب العظمى - تسترت تحت هذه الكلمات:(الحرية، الديمقراطية، العدل) ولم تعمل بها كمبادئ ولكن كأفكار فقط
وهذا سر ما نرى من أنها ما كادت تسلم لأعدائها حتى محت من دستورها كلمات (الإخاء، الحرية، المساواة) وأخذت تعمل على تغيير دستورها ونظام الحكم فيها، وما كان للحرية والديمقراطية اللتين يؤمن بهما شعب عظيم من أن ينهار بهذه السرعة
وإذا كانت فرنسا تمثل ركناً عظيما من أركان الديمقراطية فكيف تفسر الاتفاق بين سياستها وسياسة إيطاليا الفاشستية مثلاً: إن الفكرة التي أوحت إلى إيطاليا الفاشستية أن تقذف بزعماء العرب في طرابلس من الطيارات هي التي أوحت إلى فرنسا الديمقراطية - وفي عهد الجبهة الشعبية - أن تجرد على قرية من قرى المغرب الأقصى سرباً من الطيارات ليهدمها على أهلها لأنهم طالبوا بحقوق حيوية لهم كعدم صرف مياههم التي يستغلونها في الشرب والسقي إلى المعمرين الفرنسيين
والفكرة التي أوحت إلى هتلر أن يسجن شوشنج زعيم النمسا في قصر عظيم من قصور فيينا لأنه عارض في استعمار بلاده، هي التي أوحت إلى فرنسا أن ترسل الزعيم علال الفاس إلى (ليبرفيل) - مقبرة الرجل الأبيض - ليستنشق من هوائها العذب الموت الزؤام، لأنه عارض في سياسة القمع والإرهاب التي يساس بها المغرب الأقصى
الحق أننا يجب أن ننتبه إلى ما جرى في الشرق فإنه قد يكشف لنا عن أسرار الحوادث الجسام التي تجري في الغرب
(ع ك)
القصص
زينوبيا
للأستاذ محمد محمد مصطفى
(لا تزال أطلال مدينة (تدمر) قائمة بالقرب من دمشق ينقب
فيها العلماء عن الآثار، وقد حكمت هذه المدينة من سنة 267
إلى 272 بعد الميلاد فتاة تدعى (زينوبيا) فاتنة عنيدة شديدة
المراس لاقى منها الرومانيون الأهوال، وقصتها ممتعة شائقة)
- مولاتي. . . مولاتي. . . أين مولاتي؟
- ما ورائك يا مرندا؟
- إنه بيلنوس يا مولاتي. . . تالله لقد رأيته بعيني هاتين. أنصتوا. . . ألا تسمعون قرع الطبول؟. . . لقد عاد بيلنوس من مصر على رأس جيشه الظافر
- لئن كان ذلك حقاً فلن يضع أحد سواك على رأسه الغار
ودنت كتائب الجيش من المدينة فقامت (تدمر) بأسرها تحيي الظافرين، وغص قصر الملكة بزرافات الشعب ترقب عود الفاتحين. . .
وتحدج الملكة بنظرها قائدها بيلنوس وقد نال منه الونى، وبدا عليه الوهن لفرط ما بذل في دحر الرومان، فتهتف: يا ابنة ناديوس ضعي على رأسه الغار
ويفتر ثغر مرندا لهذا الشرف ويهتز له قلبها وتطوق رأسه بالغار، وتسأله في خفر: كيف وجدت مصر؟
- لقد عاث فيها الرومان الطغاة وأنزلوا بها الهوان، فانقضت جيوشي عليهم فروعتهم وملأتهم رعباً وتساقط جنودهم تحت أقدام فرساننا كالذباب واندفعت وراء فلولهم حتى انجلى آخر روماني عن أرض وادي النيل
وتبسم الملكة فيميد لابتسامتها قلبه، وتقول له: لقد أعجبت بما جندلت من جنود العدو مشاة وفرسانا، وقد وليتك أرض مصر فكن بأهلها رحيما، وأعلم أن بها أناسا يكنزون المال
وآخرين لا يجدون إلى القوت سبيلاً، فخذ من غنيهم وأعط فقيرهم، فإن أبوا فخذ رقابهم من أموالهم بديلاً، فإن جئتك زائرة لا أجد فيها معوزاً ولا ذليلاً
واهتز جسم القائد وشحب لونه شحوباً عظيما وتمتم في صوت خافت:
- أفيكون جزائي بلائي وما أكنه لك من بالغ الوجد إقصائي؟ فتدرك مرماه وتهمس له مؤنبة:
- ما رأيت أشد منك هولاً الحرب وأوهى جلداً أمام النساء
فتفصد جبينه عرقاً ولوى عنانه وانسل بين جموع الجنود
أخذ الكرى بأجفان الجنود إلا بيلنوس، فقد أمضه السهد، ورانت على نفسه الأحزان، فانطرح على الرمال يؤرقه الشوق إلى وجه مليكته التي أرسلته إلى مصر وهو الذي كان يستمد السعادة من النظر إلى عينيها
وفي ذات ليلة هاجه إليها الوجد، فجلس يقلب في السماء عينيه السادرتين، وذكر أنها تنعم الآن بالحياة، لا يخطر اسمه على بالها ولا تفكر إلا في شن الغارات على ممتلكات الرومان، أما قلبها فلن تهبه له ولا لسواه لأنها تهيمن عليه وتخضعه لإرادة من فولاذ
وأحاط به اليأس، فقام يمشي كسير النفس جريح القلب، ذاهلاً، لا يشعر إلا بألمه. وفي منعطف الطريق رأى سائلا، فتحسس جيوبه ليعطيه شيئاً فلم يجد، وأراد قتل الوقت فسأل السائل عمن يكون، فتكلم السائل أو تحدثت الفتاة التي تمد يدها في الطريق، فكأنما كانت تسكب في روحه نغما موسيقياً يسحره ويسلبه. وقالت: إنها رومانية فقدت ذويها في الحرب، فلبست مسوح الرهبان، ووقفت تستندي الأكف لتطعم أبناء جلدتها الجائعين
ويشفق بيلنوس لهذا الجمال يهصره برد الليل ويقبره الدير، ويأسى لهذه الفتنة يدب فيها الذبول، وهذه العيون ينطفئ فيها البريق، وتراه (دورا) مقبلاً عليها بنفسه وبقلبه، فتسكن إلى حديثه، وتنصت له بسمعها وقلبها، حتى إذا ما كشف عن نفسه وعلمت فيه المبدد لجيوش وطنها القاتل لذويها ثارت نفسها سخطاً عليه
نحن في القصر الإمبراطوري بروما وقد جلس الإمبراطور أورليان على عرشه يحف به الجلال، ونراه يستبطئ قدوم شخص دعاه فيزلزل البهو بصوته الجهوري:
- أين مارسيوس؟
- هوذا أنا يا مولاي
وترى فتى مديد القامة يهش الإمبراطور لقدومه ويبش ويسأله عما إذا كانت السفن قد أعدت للرحيل، فيجيب: نعم، فيقول: ألم يصل بعد أوكتاف، فينبئه أنه وصل الآن وأن الراهبة ستعمل بمشيئة الإمبراطور
- حسن. ستكون أنت إذاً يا مارسيوس على رأس الجيش المغير على أرض تدمر، وعليك أعتمد في محو هذه المملكة، وعليك أن تولي وجهك إذا ما حالفك النصر شطر مصر، ولدى دورا أوامري المشددة بإقصاء القائد بيلنوس عن مركز رياسة جيشه
- ما لي أرى وجه الحبيبة كالحاً كالظلام؟
- قد تركني حبك يا بيلنوس نهباً بين نداء القلب ونداء الدير، ولي الآن شهور انقطعت فيها عن جمع الإحسان لأنعم بقربك وتراني أذوب كمداً كلما ذكرت أهلي الذين جندلوا في الحرب، ولم يبق منهم غير شقيقي الذي لاذ ببطن الصحراء وركب النيل إلى بلاد النوبة
- جعلت فداك، فما تشائين؟
- أريد اللحاق به فما يهتأ لي عيش بدونه
- وأنا يا دورا. . . أفتتركين هذا الحب يعبث بقلبي لا ينفعني طب ولا رقي؟
- فلم لا ترافقني في رحلتي نبحث عنه ونعود به فأعيش بينكما؟؟
- ومصر يا دورا؟
- ليقم عليها لبيد بن عبد الله حتى تعود
ونجحت دورا في إقصاء القائد عن جيشه، وتوغلت به في ذرا الهضاب وبين النجود والوهود تسأل الغادين والرائحين عن شقيقها المزعوم، وشغله هواها عن ملكته وجيشها الذي ائتمنته عليه.
أبحر مارسيوس وألقت سفنه مراسيها، ووثب جنوده إلى شاطئ (تدمر) كأنهم موج يتلوه موج، وساح جيشه في أرض تدمر كأنه الطوفان، وأفل نجم زينوبيا فلم تصمد لهجومهم العنيف
وصعدت الملكة إلى مخدعها حيث كانت خادمتها تمسح عن سيفها ودرعها دماء الأعداء
وتهالكت على مقعد وقد بدا على وجهه الجميل الغضب فزادها جمالاً وتمتمت: كيف يكون
هذا يا رب؟
أين أنت يا بيلنوس. . . يا خائن؟
تا لله لو رأيته لأجعلن جسده طعاماً للنسور
واقترب مارسيوس من القصر الملكي وملكه العجب لهذا الفردوس وهذا الدوح المحيط بقصرها الممرد المنيف. وما كاد يطأ وصيد البهو حتى رأى زينوبيا جالسة على عرشها وقوراً
وسمرت قدماه وقد شدهته هذه الفتنة، وسبته عيناها الفيروزيتان، وراعه جمالها فزلزل كيانه وانعقد لسانه فما كاد يبين
ووقر في قلبه أن هذا الجسد الفتان سيكون هدفاً للسهام إن أرسلها أسيرة حرب إلى روما
وهتفت نفسه: ماذا أفيد من دك هذا العرش وموت هذه الفتاة؟
ودنا منها متوسلاً إليها أن تفر من وجهه إلى حيث يحلو لها المقام
واستضحكت زينوبيا وقالت:
- أما وقد ثل عرشي واجتاحت جيوش الرومان بلادي فليس لي رغبة في الحياة
وحملق فيها مارسيوس وأخذ يعبث بيده في قوسه وسهامه ورأسه يفور كبركان أوشك أن ينفجر
قال وهو يرسف في إسار سحرها:
- لاشك أنني أخطأت بلقائك يا زينوبيا بعد ما انتهى إلي من فعل سحرك بمن يراك، ولقد غلبني هواك فما أستطيع إرسالك إلى روما ليعجل الإمبراطور أورليان بك إلى الموت
- أتخاف الموت أيها الشاب؟
- كنت لا أخافه قبل أن أراك، أما الآن فقد تبدل الحال وأحببت الحياة لأنك معنى كبير من معانيها
- إنك تجيد الغزل إلى حد ما. . . ولكن قلبي منيع لم يتطرق إليه يوماً عبث الحب وسفاسف العشق التي أودت بقائدي الخائن بيلنوس الذي شغفته الرومانية حباً، وتوغلت به في الجبال، فلم يعثر عليه رسولي ولا سمع استغاثتي
أفعل ما توحي به إليك وطنيتك وما أمرك به إمبراطورك أيها الشاب فتكسب احترامي
وتقدير مواطنيك
فما سمع منها ذلك حتى هب لونه وتفصد جبينه عرقاً، حتى لقد ظنت الملكة أن فالجاً قد عالجه، واقتلع قدميه اقتلاعاً حتى دنا منها وسلك يديها البضتين في سلسلة من ذهب
وحالف النصر مارسيوس فاجتاح مصر وثأر لمواطنيه، وغدرت (دورا) ببيلنوس فأسلمته إلى مارسيوس
وهبت روما تستقبل من عجلت بفناء فلذات أكبادها أعواماً تلي أعواماً، وكان الناس يؤذونها بما يرمونها به من فاحش القول وبذئ الفعال؛ على أنها كانت وسط هذا الضجيج رافعة الرأس هادئة البال، فكانت في محفتها ملكة لم يغير من أبهتها ما لاقته من هوان، فإذا ما بلغوا بها السجن ألقوها في قبو منه يعاف النوم فيه الكلاب. . .
قال الإمبراطور في مجلس الأعيان:
- سأرمي بها للأسود في ملعب الأولمبياد لتخف لوعة المحزون على ولده من شعبي
فضج المجلس بالاستحسان، واسترسل الإمبراطور:
- سيكون يوم موتها عيداً تقام فيها الصلوات للآلهة شكراً، وسأضع بيدي هاتين الغار على رأس مارسيوس العظيم!
وعجل مارسيوس العودة إلى روما إذ دعاه إمبراطوره. ولما علم بالعزم على طرح زينوبيا فريسة للأسود اشتد وجيب قلبه، حتى خيل إليه أن صوت هذا الوجيب قد طغى على أصوات الجماهير التي تزخر بها جوانب الطرق. وكان يبسم للشعب وقلبه، يقطر كمداً. وقبله الإمبراطور فأحس كأن عقرباً قد لدغته، ووضع على رأسه الغار فشعر كأن ناراً توضع على جبينه. . .
وأحنى مارسيوس هامته حتى كادت تلامس الأرض، وطلب إذن الإمبراطور له بالكلام فأذن:
- خدمت مولاي ثلاثين عاماً أو تزيد لم ألتمس فيها شيئاً ولي الآن حاجة. . .
فقاطعه الإمبراطور:
- كل خزائن الدولة وهن رغبتك
- ليس لي بها حاجة
- فما حاجتك؟
- حياة زينوبيا
فتجهم وجه الإمبراطور وتمتم:
- هي ملك الشعب وقد خرجت من يدي
ووقعت الكلمات على قلب مارسيوس فدكته بين ضلوعه، ومشى مستأنيا والناس من ورائه ذاهلون، وسقط في فراشه يقبض بأصابعه على بطنه فيكاد يفريها، ويشد شعره فيكاد يقتلعه، وينتابه اليأس فيومئ إلى بعض أنصاره لإنقاذها فيصرع حرس السجن منهم كثيراً ومن يبق يبتلعه السجن
وجلس الإمبراطور في الحفل الهائل يضحك حيناً ويشير حيناً إلى الأسود التي تزأر في ساحة الملعب، فيتردد صدى أصواتها في جنبات القصور، وغص الأولمبياد بمن جاء من القرى والحضر ليرى المشهد المروع
ويؤتى بالملكة إلى ساحة الموت فتقترب منها الأسود في بطء كأنها ترهب ترهب هذا الجمال وتدوي أصواتها كالرعد فيغشى على النساء ويخفى بعضهن عيونهن بأيديهن، وكلما ضاقت المسافة جفت الحلوق وذهبت الألوان حتى الإمبراطور لم يملك نفسه فتهف:(يا لهذا الجمال!)
ووقفت الملكة يتدلى شعرها الأسود اللامع على كتفيها العاجيتين تنظر إلى الأسود لا تجفل ولا تفزع كأنها مقبلة منها على صديق، فإذا لم يبق بينها وبين أول أسد إلا عشرون متراً رأته يقفز وبين عينيه سهم رائش نفذ في رأسه وراح يتخبط في الأرض، وذعر الأسود فتفرقوا شذراً. وبسرعة خاطفة سقط مارسيوس إلى جانب الملكة، وأخذ يذود عنها الأسود بالسيف، ويدفع زينوبيا إلى الوراء حتى إذا اقتربت من الحاجز رفعها أنصاره. . . وتراجع المنقذ ليلحق بها فأنشب فيه أسد جريح أظفاره وراح يعمل فيه
صرخ الإمبراطور: أليس لك رغبة ننفذها يا مارسيوس؟
فهتف بما وسعته قوته: زينوبيا
محمد محمد مصطفى