الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 37
- بتاريخ: 19 - 03 - 1934
(شهرنا الخالد. . .!
شهرنا الخالد في تقويم الدهر مارِس! فيه كما يقولون ألغيت الحماية، وأعلن الاستقلال، وصدر الدستور!
وفيه كما نقول استيقظ أبو الهول، وشبت ثورة النهضة. وتنافس في الجهاد النساء والرجال، وتعانق على الوداد الصليب والهلال، وتسابق إلى الخلود الشيوخ والأطفال. وسالت أنفس الشباب ضحايا على مذبح الحرية!!
وفيه كما تقول الطبيعة تتجدد الحياة، وتهتز الأرض، ويورق الشجر السليب، ويمرع الوادي الجديب، وينشد الربيع الباكر أناشيد الجمال والحب والأمل!!
ولكن خمسة عشر عاماً طوالا أتت على مارسنا الأول فجعلت ما قالوه كلمات ميتة، وما نقوله ذكريات خافتة، وما تقوله الطبيعة حديثاً مُعادا!
فالحكومة تدفع الحكومة، والذكرى تتبع الذكرى، والربيع يعقب الربيع، ونحن لا نزال في الموقف الأول، يتدفق علينا الزمن، وتُغَّبر في وجوهنا الشعوب، كأنما خرجنا عن مدارج القافلة، أو رمى بنا التيار في حواشي الوجود!
من الذي نضح القبس بالماء، وشغل المسامع عن نداء الشهداء، وحول وجه النهضة إلى الوراء، واعترض مجرى الحياة المصرية طول هذه الحقبة؟ ستقول خدعة السياسة، وشهوة الحكم، وفتنة المال، ونكسة المرض، ولكنك لو عبرت عن ذلك كله بانحلال الخلق لكان اجمع لأسباب الأمر، وأبلغ في إجمال الحقيقة، فان التكالب على سلطان الحياة وزهرة الدنيا يصدر في الغالب عن حمية ورجولة، ولكن ما نحن في اليوم من تحكيم الهوى، وتغليب الأثرة، وهوان الغرض، وفساد الضمير، وفجور الخصومة، لا يوائم فطرة الله، ولا يلائم طبيعة التقدم
على ان السفينة التي يصارعها الموج فتضطرب، ويعصف بها النوء فتجور، سيظل لها (مارس) منارا في مرفأ السلام يرسل الهدى للجائر، ويلقى السكينة في المضطرب.
سنذكر دائماً مارس من عام 1919 حين عصفت في الرؤوس نخوة العزة، ونَزَت في القلوب ثورة الحفيظة، وأعلنت مصر مرة أخرى بعد (عرابي) أن لها مثلا تتبعه، وماضياً تعيده، ومستقبلاً تعدُّه، وأمراً في أرضها تدبره، وحكماً في سياستها تصدره. ويومئذ كان للربيع معنى الربيع! هبت رياح آذار فألوت بحطام الشتاء والخريف، وسرت في البلاد
نسائم الروح الخالق والسر البديع، وجرت على الثرى المقدس دماء الضحايا الأُوَل فتفَّطر بالنبات البهيج، وبدت على الوجود المصري مظاهر الشباب من الرونق والصفاء والجدة والقوة، وتمردت على الطغيان المسلح نفوس شيَّعها الإيمان بالحق، وحطمت أسلاك البرق ودمرت طرق الحديد لتقطع ما بينها وبين جنود الذل، وأجبرت الغاصب الغاضب على أن يحترم رأيها في الشيخوخة الاسيرة، وعزمها في الشبيبة الثائرة، واتسع نطاق الأفق للقلوب التي حصروها بالكبْت، وانكشف رقيع السماء للأبصار التي عقدوها بالأرض، وفتح التاريخ للشعب المجيد، كتاب العهد الجديد، وكادت تتوالى صفحاته لولا أننا من الحلفاء وكالحلفاء، ربحنا الحرب وخسرنا الصلح!
يعود مارس فيعود العقل العازب، وينتبه الضمير الغافل، ويستطيع كل امرئ أن ينظر إلى الوراء فيرى ماذا ترك، والى الأمام فيرى ماذا قدَّم، ثم يجيب أطياف الشهداء وهي تطوف ساهمة الوجوه أمام الأزهر، وحول ابن طولون، وخلال المقبرة الموحشة، تسائل كل عابر: ماذا صنع الأحياء بعهود الموتى، وكيف حال المعيدين على لحوم الضحايا؟
يعود مارس فيودع في أوائله الشتاء، ويستقبل في أواخره الربيع، ونحن وان تلكأ بنا الحظ البليد خمسة عشر عاما لابد موفون على ربيع النهضة! وان في هبَّة الشباب من غفوته المريبة، ومعالجته الأمور من جهاتها المنتجة، واضطرام الشعور القومي في ذكرى مارس، وإطباق الرأي العام على وخامة الحال، لبشيراً بتوافي النفوس على الخير، وتواطئها على الجد، وتعاونها على الإصلاح
ليس في منطق الأشياء ولا من سنة الوجود، أن يجتمع لمصر ما لم يجتمع لغيرها من أسباب الطموح ووسائل الصعود، ثم تظل في ساقة الركب الأممي تمشى ظَلعاء إلى أمدها المرسوم وغايتها المرجوة، إنما هي عوائق تقيمها الذئاب ليُفردوا بها الحَمل الغافل عن القطيع! وان في هذه الذكريات العزيزة الطيبة حافزاً للهمم الوانية، وموقظا للضمائر الغافية، ومهُيباً بشوارد الأنفس إلى سواء السبيل.
احمد حسن الزيات
(محاضرة الآنسة مي
للدكتور طه حسين
لا اعرف شيئاً يحتاج إلى أن يقام عليه الدليل، والى أن يتكلف أصحاب المنطق والنظر له الحجج والبراهين، كالبديهيات التي يخيل إلى الناس أنها أوضح من أن تحتاج إلى دليل، وأبين من أن تحتاج إلى دليل، وأبين من أن تحتاج إلى أن تكد في إثباتها العقول، وقد زعموا لنا أن بعض أصحاب الرياضة يشك في أوليات الرياضة، ومن يدري لعل شكهم هذا ينتهي إلى أن هذه الأوليات بعيدة كل البعد عن أن تكون من الأوليات!. كنت أفكر في هذا كله أمس، حين كنت أذهب إلى الجامعة الامريكية، لأسمع للمحاضرة التي كانت الآنسة الجليلة (مي) تريد أن تلقيها، لأن موضوع هذه المحاضرة كان يدعو إلى مثل هذا التفكير، فقد زعموا لنا أن الآنسة كانت تريد أن تظهر فضل المرأة على الحضارة الإنسانية، وأعترف بأني لم اشك في يوم من الأيام ولا في لحظة من اللحظات بأن للمرأة على الحضارة الإنسانية فضلا لا يجحد، كما أن للرجل على الحضارة الإنسانية فضلا لا يتاح الشك فيه إلا لأمثال هؤلاء الرياضيين الذين لا يجزمون بأن الأربعة إذا قسمت على اثنين كانت نتيجة القسمة أثنين، وكنت اسأل نفسي عما تريد الآنسة (مي) أن تقول لتبين لنا فضل المرأة على الحضارة الإنسانية، فذلك شيء لا يحتاج إلى أن يقول فيه قائل، أو إلى أن يثبته مثبت، ولكن ما رأيك في أني سمعت المحاضرة، وانصرفت إلى داري وأنا أشك شكا عظيما في أن للمرأة فضلا على الحضارة الإنسانية؟ وأسأل نفسي عما أرادت الآنسة (مي) إليه بمحاضرتها القيمة الممتعة، أرادت أن تقنعنا بان للمرأة فضلا على الحضارة؟ أم أرادت أن تشككنا في ذلك؟ وتبسط عليه سلطان الريب في نفوسنا، ومن يدري لعل أديبا من الأدباء البارعين أن يفكر ذات يوم في أن يثبت فضل الرجل على الحضارة فينتهي في نفسي إلى ما انتهت إليه الآنسة (مي) أمس من إثارة الشك والريب.
وإذن أنا مقتنع بان الحضارة الإنسانية قد أنشأت نفسها وليس للرجل عليها فضل، ولا للمرأة عليها فضل، وإنما هي صاحبة الفضل عليهما جميعاً لأنها أنشأتهما إنشاء، ومتعتهما بما ينعمان به من لذات الحياة وآلامها، فهما ينعمان بالآلام كما ينعمان باللذات، وآية ذلك أن الآلام تلهمهما روائع الشعر والنثر والفن، وتحيي في نفوسهما من الفضائل، وجميل الخلال ما يملؤها متاعاً ولذة وشعوراً بالكرامة، وأملا في المستقبل وحباً للحياة، فالرجل والمرأة إذن ينعمان بالآلام كما ينعمان باللذة، ولعل أديباً من الأدباء الذين لهم حظ الآنسة (مي) من
البراعة وانهم لقليلين يستطيع أن يقنعني كما أقنعتني الآنسة أمس بان ليس للرجل على الحضارة فضل، كما أنه ليس للمرأة على الحضارة فضل، وإنما الفضل للحضارة عليهما جميعاً. أنبأتنا الآنسة أمس بان المرأة وحدها هي التي أنشأت الحضارة إنشاء وأعانتها على التطور والرقي، وابتكرت ما يزينها من العلوم والفنون والآداب، فأما أن المرأة أنشأت الحضارة إنشاء فشئ فيما يظهر لا سبيل إلى الشك فيه، لان كتب الدين كلها تنبئنا به، فلولا أن حواء أغواها الشيطان فأكلت من الشجرة، وعضت تلك التفاحة لما طرد آدم وزوجه من الجنة، ولولا انهما طردا من الجنة لما هبطا إلى الأرض، ولولا أنهما هبطا إلى الأرض لما عملا فيها، ولولا أنهما عملا فيها لما كانت الحضارة، وإذن فالحضارة أثر من آثار حواء، لأن حواء هي التي أكلت من الشجرة، وهي التي جرت على نفسها وعلى زوجها هذه العقوبة، وإذن فنحن الرجال ننعم بالحضارة راغمين، ننعم بها لأن خطيئة أمنا حواء قد أكرهتنا عليها إكراها، ولكن حواء لم تأكل من الشجرة لأنها اشتهت ما كانت تحمل الشجرة من التفاح، وإنما أكلت من الشجرة لان الشيطان هو الذي دلها على الشجرة، وزين لها التفاحة، وحببها إلى قلبها ودفعها إلى أن تأكلها دفعاً، والغريب أن حواء لم تأكل من الشجرة وحدها، وإنما أكل معها زوجها، وأكبر الظن انهما اقتسما التفاحة نصفين، فذهب كل منها بأحد شطريها، فالحضارة إذن ليست أثراً من آثار حواء وحدها، وإنما هي أثر من آثار حواء وآدم أيضاً، وإذن فلنا نصف الحضارة وللنساء نصفها، ولكن النساء لا يكرهن الظلم ولا يأبين التجنى، وأعظم من هذا أن أبانا آدم وأمنا حواء إنما دفعهما الشيطان إلى هذه التفاحة، فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ثم طردا منها طرداً، فليست الحضارة إذن من آثارهما.، إنما هي اثر من علم الشيطان، والشيطان رجيم، فلترجم معه الحضارة
وليت شعري أمما تتمدح به المرأة، أنها قد أنشأت الحضارة على هذا النحو، وأقامت بناءها الشاهق على الخطيئة، وبدأتها هذا الابتداء السيء الذي هو إعراض عن أمر الله، وإقبال على أمر الشيطان، أليس من حقنا نحن الرجال أن نلوم المرأة، ونغرق في لومها لأنها لم تستطع أن تقاوم الشيطان ولأنها دفعتنا إلى هذه الحضارة الآثمة دفعاً؟ ومن يدري لو أن أمنا حواء لم تقترف هذا الإثم، ولم تتورط في هذه الخطيئة، ولم تفتتن بحديث الشيطان،
ولم تتهالك على طعم التفاحة وريحها ولونها أيضاً، من يدري لعلها لو لم تفعل شيئاً من ذلك لنشأنا نشأة أخرى
ولعل هذه النشأة الأخرى أن تقيم لنا حضارة اطهر من حضارتنا هذه وأنقى وأشد امتناعاً على الآثام وبعدا عن السيئات، بل ليس من شك في أن أمنا حواء لو أطاعت أمر الله، وعصت أمر الشيطان لعصمتنا من الشر، وبرأتنا من النكر، وحمتنا من كل ما نتعرض له من ألوان الغي والبغي والضلال والفساد، فلم تحسن أمنا إلينا إذن بإنشاء الحضارة، ومتى كانت إطاعة الشيطان إحسانا؟
ولكننا نحن الرجال نحب العدل ونكلف بالرحمة. ونكره الطغيان، ولا نريد أن تستقل المرأة بوزر هذه الحضارة، وتحتمل وحدها آثامها واثقالها، فنحن نشاركها في هذه الآثام والأثقال، لأننا نعترف بان أمنا لم تأكل التفاحة وحدها، ولو قد أكلتها وحدها لطردت من الجنة وحدها، ولو قد هبطت إلى الأرض وحدها لما استطاعت أن تعمل ولا أن تجد، ولا أن تنشئ حضارة ولا أن تعيش، فهي محتاجة إلى الرجل لتحسن، وهي محتاجة إلى الرجل لتسيء، لم تعش في الجنة وحدها قبل الخطيئة، ولم تهبط إلى الأرض وحدها بعد الخطيئة، وإنما عاشت في الجنة مع الرجل، وهبطت إلى الأرض مع الرجل، أطاعت أمر الله مع الرجل، وأطاعت الشيطان مع الرجل، وأكلت التفاحة فهوت مع الرجل، ونحن الرجال اكرم مما تظن الآنسة مي، واحب للرحمة واحرص على العدل. فنحن لا نحمل أمنا حواء شيئاً من الأثم، وانما نحمل هذا الإثم كله أبانا آدم، ولا بأس عليه من ذلك فقد تلقى من ربه كلمات بعد ذلك فتاب عليه، ذلك أن حواء لم تخلق من الطين مباشرة كما خلق آدم، وإنما خلقت من آدم، فآدم هو الذي سبقها إلى الوجود، وهو الذي سبقها إلى الحياة، وإذا كانت قد خلفت منه، فقد اخفت عنه هذا الضعف الذي حبب إليها التفاحة، ودفعها إلى الخطيئة، ثم إلى إنشاء الحضارة، فما في طبيعتها من الضعف مستمد من الرجل، وما في طبيعتها من القوة مستمد من الرجل، وإذن فليست هي التي تحتمل وزر التفاحة، وما نشأ عنه من الآثار، وإنما يحتمله آدم، ثم يحتمله بعده أبناؤه من الرجال، أرأيت يا آنسة أننا اكرم مما تظنين، واحرص على العدل مما تظنين؟ ليست الحضارة خيرا، وإنما هي شر لأنها من عمل الشيطان، فنحن نرفع عن النساء أثقالها، ونحمل عن النساء أوزارها، وأي شيء
نستطيع أن نبخل به لحماية النساء من كل شر، ووقايتهن من كل وزر، كلا، للمرأة على الحضارة فضل عظيم، وهو أنها لم تنشئها وإنما أحتملتها، ولم تقترف إثمها وإنما خففت هذا الإثم وهونت علينا احتمال أثقاله، وأعانتنا على ما تكلفنا الحضارة في كل يوم من البأساء والضراء، أليس هذا خير من إيثار السبق، وهذه الرغبة في التفوق التي تظهرها المرأة في هذه الأيام، وأغرب من هذا أن الآنسة مي تحدثت إلينا أمس بأننا مدينون للمرأة وللمرأة وحدها باعتدال القامة، واستقامة القدود، والمشي على رجلين بعد أن كنا نمشي على أربع! ومع أنني لا اعرف كيف استطاعت المرأة أن تقوم قاماتنا وتعدل قدودنا وتقيمنا على رجلين بعد أن كنا نمشي على أرجلنا وأيدينا، مع أني لم اعرف هذا، ولن أستطيع أن اعرفه فيما يظهر لأني لم أفهم نظريات التطور، وأنا يائس من فهمها بحمد الله، فإني قد غمرتني الحيرة أمس حين سمعت هذا الكلام، فهل كنا نمشي على أربع بعد أن هبطنا إلى الأرض؟ أم هل كنا نمشي على أربع قبل أن نخرج من الجنة؟ فان تكن الأولى فلم مسخ آباؤنا، وقد كان أبونا آدم وأمنا حواء يمشيان على رجلين لهما قامة معتدلة وقد مستقيم، وان تكن الثانية فلم يكن إذن أبوانا على صورتنا هذه التي نعرفها، إنما كانا يمشيان على أربع، لم يكن رأساهما إلى السماء، إنما كان رأساهما إلى الارض، فنحن خير منهما حالا، وأجمل منهما شكلا من غير نزاع، ومصدر هذه الحيرة فيما يظهر هو أن الآنسة (مي) أرادت أن تجمع بين العلم والدين، وما أصعب الجمع بينهما في كثير من الأحيان! فالدين فيما يظهر لا يرضى لنا أن نكون من نسل القردة، والعلم أو بعض العلم على أقل تقدير لا يكره أن نكون من نسل القردة أو غير القردة من الحيوان، والآنسة (مي) تريد أن نكون من نسل القردة وان نكون من نسل آدم وحواء، وليت شعري كيف كان شكل آدم وحواء في رأي الذين يريدون أن يجمعوا بين الدين وبين مذهب أصحاب التطور؟ أما أنا فقد قلت وما زلت أقول، أني لم أفهم نظرية التطور وليس يعنيني أن أفهمها لأني أوثر أن أكون من سلالة رجل خلق معتدل القامة مستقيم القد يمشي على رجلين، أوثر ذلك على أن أكون من سلالة القرد أو غيره من الحيوان الذي يمشي على أربع، وينظر إلى الأرض لا إلى السماء، ولعل أجمل ما كان في المحاضرة آخرها، ` وهو هذه الأسطورة المصرية الجميلة التي تحدثنا بأننا مدينون لحياة لامرأة هي ايزيس التي بكت فجرى من دموعها النيل، هذا عندي أجمل
ما كان في المحاضرة وأظرفه، ولكنه من الأسف الشديد ككل شيء جميل، وككل شيء ظريف، لا يثبت للنقد والتحليل في هذه الحياة الدنيا، فمن يدري من تكون ايزيس، وأين كانت وكيف كانت، ومن يدري لعل النيل لم يجرر من دموع هذه الإلهة الرحيمة في رأي الأساطير، وإنما هو ينبع من تحت العرش كما يقول بعض الصالحين، والشر كل الشر ما يقوله العلماء، وويل للناس من العلماء! فهم يزعمون أن النيل ينبع من تلك البحيرات التي مهما تعظم ويرتفع شأنها عند العلماء والشعراء فهي بحيرات حقيرة لا تعدل دمعة من دموع ايزيس، ولا تعدل قطرة من هذا الماء السلسبيل الذي يجري تحت العرش
احسن الله جزاء الآنسة مي، فقد أمتعتنا أمس، أمتعتنا إلى غير حد، فكاهة حلوة، وحديث عذب، وصوت حلو. ولكني أخشى أن تغضب الآنسة، وويل لي منها إن غضبت، ومن يدري لعلها قد غضبت منذ قرأت السطر الأول من هذا الكلام، وإذن فأنا أشهد قراء الرسالة جميعاً على أني معتذر إليها أصدق الاعتذار وأخلصه، ضارع إليها أن تغفر لي هذه الهفوة، هفوة التحدث عن محاضرتها القيمة على هذا النحو، ولكني لست وحدي ملوماً في ذلك، فهي التي ألهمتني هذا الحديث، وقد زعمت لنا أمس أن نابليون كان يقول في كل شيء (فتش عن المرأة) فإذا لم يكن بد من أن يلام أحد على هذا الحديث فالآنسة (مي) هي الملومة، ولكني أحتمل عنها هذا اللوم كما احتمل أبونا آدم عن أمنا حواء إثم التفاحة، واعتذر إليها من هذا الحديث وهي بطبيعتها أرحم وأدنى إلى الحنان من أن تأبى قبول المعذرة.
طه حسين
المادة لا تنعدم
للأستاذ احمد أمين
هكذا يقول علماء الكيمياء ويشرحون قولهم، ويبرهنون عليه. ويرون أن المادة تتغير وتتحول وتعود إلى عناصرها الأولى ولكن لا تنعدم، والعالم كله كساقية جحا، تغرف من البحر وتصب في البحر، فقد يحترق هذا المكتب الذي أمامي لا قدر الله، ولكنه سوف لا ينعدم، بل يتحلل إلى عوامله الأولية. وسيتغذى منها النبات ويتكون منها خشب جديد، قد يكون مكتب المستقبل.
قال الكميائيون ذلك، وقصروا قولهم على المادة لأنها مادة عملهم وموضع تجاربهم.
ولو عرض لهذا فيلسوف واسع النظر غير محدود البحث لقال (لا شيء ينعدم)
إن الأعمال من خير وشر لا تنعدم، بل تنمو وتتحول، وتؤثر وتتأثر، ولكن على كل حال لا تنعدم، إن كذبة واحدة تكذبها على أولادك في بيتك، ومن غير أن تعيرها اهتماماً لا تنعدم، فسوف تبيض وتفرخ وتنتج كثيراً من أمثالها، وسوف يكذب أولادك وستخرج الكذبة من حجرتك إلى سائر بيتك، وستخرج من بيتك إلى المدرسة، وستخرج من المدرسة إلى مصالح الناس ومعاملتهم فكيف تنعدم
قد يدق العمل ويصغر حتى لا تراه أعيننا. ولا تسمعه آذاننا، ولا تشعر به نفوسنا، ولكنه موجود، يعمل عمله في هذا الوجود، ويفعل وينفعل، ويتسع نطاقه، ويعمل في دوائر مختلفة قد لا تخطر بالبال، وما أظنك تجهل أن حصاة ترميها في البحر الأبيض المتوسط لابد أن يتأثر بها المحيط الأطلنطي، وان لم تر ذلك عيوننا. والدليل على ذلك بديهي، فلو كبرت هذه الحصاة ملايين المرات، أفلا تؤمن بهذا الأثر؟ إذن فآمن بأن هذه من تلك وعلى نسبتها ومقدار حجمها، وجزء من ألف من الشعرة له ظل حقيقي وان لم تره عيوننا، ولولا ذلك لما كان لألف ألف شعرة ظل، ولما كان لثوبك الذي تلبسه ظل
وعملك الخير مهما صغر له أثره في أمتك مهما صغر، أعلنته أو أسررته، نجحت فيه أو فشلت، علم الناس أنك مصدره أو لم يعلموا، وهل مقياس رقى الأمة وانحطاطها إلا عبارة عن عملية حسابية مركبة من جمع وطرح؟ جمع لما صدر منها من حسنات، وطرح لما صدر من سيئات - لتكن هذه العملية أشد ما تكون من صعوبة، ولتحتج إلى ما شئت من
آلاف دقيقة للجمع والطرح، فان رسم الحل لهذه المسألة في منتهى البداهة
وليس الأمر قاصراً على الأعمال، فإذا قلنا (الأعمال لا تنعدم) فهو تكرير لقول الطبيعيين (المادة لا تنعدم) وهل الأعمال إلا نوع من المادة؟
بل الأفكار والآراء من هذا القبيل، فالفكرة لا تنعدم، والرأي لا ينعدم، فإذا دعوت إلى فكرة أو جهرت برأي، فقد أخرجت إلى الوجود خلقاً جديداً ينطبق عليه القانون العام، قد ينجح الرأي وتعتنقه الأمة، بل ويعتنقه العالم وتظهر آثاره في أعمال الناس وحياتهم ونظامهم، فتسلم معي بأنه لم ينعدم ولكنه قد يفشل، وقد يستعمل الناس في اضطهاده وحربه كل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، والرفيعة والوضيعة، حتى يختفي ولا يظهر في الوجود، فتظن إذ ذاك انه انعدم، وهو ظن غير موفق، فقد يخفى ليعود إن كان صالحاً، ولكن كان قبل أوانه فيستتر وينكمش، ويبقى حياً يتغذى في الخفاء وتنميه الأحداث، حتى إذا تم نموه وتهيأ الناس له برز إلى العيون ثانية أو ثالثة وهو أشد على مقاومة الحرب، وأقوى على مصارعة الباطل، حتى يكتب له النجاح - وحتى إذا كان الرأي فاسداً سيئاً لا يصلح لحال ولا لمستقبل فليس مما ينعدم، إنما هو يتحول ويتحور كلوح خشب لا يصلح بحالته أن يكون شباكاً فينجر، أو لوح زجاج ليس بالحجم الذي تريده فيصغر، أو حديدة لا يناسب شكلها وحجمها فتوضع في قالب جديد بعد أن تصهر، وهكذا في الرأي يغير ويعدل، ويطعم بآراء أخرى حتى يخرج خلقاً آخر، ولكنه في كل ذلك لا ينعدم وفرق كبير بين أن تقول: فشل الرأي وفشل المشروع، وأن تقول انعدم الرأي وانعدم المشروع. فالفاشل موجود والمعدوم معدوم. وشتان بين الموجود والمعدوم. فالرأي الفاشل أو المشروع الفاشل شيء حي قد تلقى درسا من الفشل ليصبح بعد رأياً قويماً ومشروعاً ناجحاً، وهذا لا ينطبق على المعدوم
بل أذهب إلى ابعد من ذلك، وأرى أن العارض يمر على النفس، أو الخاطر يخطر بالذهن، لا يضيع ولا يذهب سدى ولا ينعدم، وإنما هو دخان قد يكون بعدُ سديما، ثم قد يكون السديم كوكبا يلمع أو نجما يتألق، وقد يكون على العكس من ذلك صاعقة تحرق، أو وميضاً خلباً يبرق، وعلى الحالين فسيكون مولوداً جديداً، شقياً أو سعيداً، أليس كثيراً مما يعترينا من حزن يسبب الكسل والخمول والملل، أو فرح يدعو إلى العمل، سببه طائف مجهول طاف
بالنفس، وخطرة متنكرة خطرت لها، فغيرت حالها وكيّفتها تكييفا خاصاً في هذا الوجود؟ أو ليس كثير من الآراء التي أسبغت على هذا العالم نعماً، وكثير من المشروعات التي عم الناس خيرها أو شرها بدأت خطرة ثم كانت فكرة، ثم أصبحت بعدُ عملاً أو خيراً، أليس مما يكوّن الإنسان خطراته، فهو خيّر أو شرير بخطراته، وهو بائس أو منعدم بخطراته، ولو كشف عنا الحجاب لقرأنا في صفحات الإنسان خطا عميقا خطته في نفس الإنسان خطراته وآراؤه، وهو أدل على الإنسان من مظاهره الكاذبة، ومناظره الخارجية الخادعة، (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) كل هذه الخطرات قد تتحول وتتغير ولكن لا تنعدم
وعلى الجملة فان قال علماء الكيمياء إن المادة لا تنعدم فكل ما في الوجود يقرر أن (لا شيء ينعدم). إن كان هذا حقاً فويل للخيّر يقعده عن الخير انه لم ير بعينه آثار عمله، وويل للخيّر صرفه عن خيره نكران الجميل وجحد المعروف، وويل للمجد عدل به عن جده أن لم يسبح الناس باسمه، ويشيدوا بذكره، ومرحى لمن كان مبدؤه (الخير للخير، ولا شيء ينعدم).
بعد حوادث النمسا
النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
أنشأت الديموقراطية الاشتراكية الجمهورية النمساوية الجديدة، وتولت زعامتها وقيادتها أثناء عقد معاهدة الصلح (معاهدة سان جرمان) وتسوية المشاكل الأولى التي خلفتها الحرب، ولكنها لم تتمتع طويلاً بالأغلبية البرلمانية وسلطان الحكم، ففي سنة 1920 خرج الاشتراكيون المسيحيون بأغلبية في الانتخابات، واختتم الدكتور رنر زعيم الديموقراطية وزارته الثانية، وألف الاشتراكيون المسيحيون أول وزارة لهم برآسة الدكتور (مير) ومن ذلك الحين تتعاقب الوزارات الاشتراكية المسيحية في حكم النمسا، أحياناً مستقلة دون ائتلاف، أحيانا مؤتلفة مع الديموقراطيين الاشتراكيين أو الأحزاب الصغيرة الأخرى (مثل الألمان الوطنيين والزراع) وفي العام التالي اشتدت دعوة الانضمام إلى ألمانيا (الانشلوس) في بعض نواحي التيرول، واشتدت الأزمة المالية، فاستقالت وزارة (مير) وألف الدكتور شوبر وزارته الأولى في يونيه سنة 1921ٌ ولكن الوزارة الجديدة لم تستطع أن تغالب الأزمة المالية، وارتفعت الأثمان واشتد الغلاء ووقعت كارثة النقد، فاستقالت وزارة شوبر، وألف المونسنيور سيبل وزارته الأولى (مايو سنة 1922)، وأبدى في معالجة الموقف كثيراً ` من الشجاعة والبراعة، واستطاع أن يحمل عصبة الأمم على الاهتمام بمتاعب النمسا، وأن يجعل من المسألة النمساوية مسألة أوربية، واستطاع بالأخص أن يعالج مسألة التضخم، وان يعيد الاستقرار إلى النقد، فهدأت النفوس وانتعشت الآمال نوعا، وبذل المونسنيور سيبل جهوداً تخلق بالإعجاب في سبيل توطيد شئون الجمهورية الجديدة، وتذليل مشاكلها الداخلية والخارجية، ولكنه اضطر إلى الاستقالة على اثر محاولة الاعتداء على حياته في نوفمبر سنة 1924 وألف الدكتور رامك بالاتفاق مع الديموقراطيين الاشتراكيين وزارة ائتلافية، استمرت في سياسة الإصلاح المالي، ثم استقالت في أواخر سنة 1926 حين اشتدت الأزمة المالية كرة أخرى، وألف المونسنيور سيبل وزارته الثانية
(في نوفمبر). وخرج الديموقراطيون الاشتراكيون على الائتلاف ونظموا معارضة قوية. وفي أثناء الانتخابات العامة التي وقعت في أبريل سنة 1927، بث زعماء الديموقراطية الاشتراكية وعلى رأسهم الدكتور أوتو باور، والهر كارل سايتز حاكم فينا ضد الحكومة وحزبها وأنصارها دعوة شديدة في العاصمة والاقاليم، ونضم اعتصاب عام شديد الوطأة ولكن الحكومة ثبتت أمام العاصفة، وأخفقت هذه المحاولة الأولى
وفي منتصف يوليه سنة 1927 وقع صدام دموي خطير بين الكتلة المسيحية الاشتراكية (الحكومة)، والديموقراطية الاشتراكية. وتفصيل ذلك أن بعض الفلاحين المنتمين إلى (جماعة هتلر) أطلقوا النار على جماعة من الديمقراطيين الاشتراكيين في قرية شاتندورف، أثناء اجتماع انتخابي عقدوه، فقتلوا رجلاً وطفلين، فقبض على الجناة متلبسين بجريمتهم وأحيلوا على المحاكمة، وثار الاشتراكيون لذلك الاعتداء، ولكن المحكمة قضت ببراءة المتهمين فاضطرم الاشتراكيون لذلك غضباً وسخطاً، ورموا الحكومة بالتأثير في القضاء، ونددوا بتحيز القضاء (البورجوازي)، وهرعت ألوف مؤلفة من العمال إلى قلب مدينة فينا لتتظاهر احتجاجا على الحكم. وكان ذلك في ضحى يوم 15 يولية، وأبدى بوليس فينا يومئذ - وعلى رأسه مديره الهر شوبر رئيس الوزارة السابق - في معاملة المتظاهرين صرامة. ووقعت أول مصادمة بين المتظاهرين والبوليس أمام دار البلدية (الرات هوس) وعندئذ تحول من المتظاهرين إلى وزارة الحقانية وأضرموا النار في جنباتها، ولما اشتد ضغط الجموع، أطلق البوليس النار على المتظاهرين، فقتل منهم نحو ستين بينهم عدد من النساء والاحداث، وكان يوماَ عصيباَ ساد فيه الروع والحزن مدينة فينا. ومما يجدر ذكره أن المتظاهرين، لم يكونوا مسلحين يومئذ، واعتذر البوليس عن تصرفه بان المتظاهرين بدءوا بإطلاق النار، ولكن البوليس لم يقتل منه سوى رجل أو اثنين؛ ولم تعرف الحقيقة قط، وأدركت الديموقراطية الاشتراكية من ذلك اليوم أنها تواجه جبهة لا يستهان بقوتها، وأنها تخوض معركة الحياة والموت مع القوى الخصيمة لها.
والواقع أن حوادث 15 يولية كانت ذات نتائج حاسمة في سير السياسة الداخلية النمساوية. فقد رأت الديموقراطية الاشتراكية أنها أضعف الحزبين، وأخذت تعمل لتقوية نفسها وتسليح أنصارها، ورأت الكتلة المحافظة، كتلة الملاك وأصحاب الأموال التي تؤيد حزب الحكومة
- المسيحيين الاشتراكيين - أن تنشئ لها قوة خاصة تستعين بها على مقاومة الديموقراطيين الاشتراكيين؛ وهكذا أنشئت جماعة (الهايمفر) - الشهيرة - ومعناها (الدفاع الوطني) - في خريف سنة 1927، لتكون قوة دفاعية للمحافظين والملاك. وتولى تنظيمها وزعامتها سيد من أبناء الأسر النبيلة القديمة هو البرنس أرنست فون شتار همبرج، وقامت جماعة الهايمفر مشبعة بروح الفاشستية الإيطالية، ولكنها أعلنت أنها مخلصة للنظام الجمهوري، وأنها تعمل فقط لحماية النمساويين من خطر الطغيان الاشتراكي أو الماركسي (نسبة إلى ماركس)، ونظم الاشتراكيون من جانبهم قوتهم العسكرية المعروفة (بالشوتسبند) أو رابطة الدفاع الجمهوري وهي القوة التي أنشأوها وسلحوها منذ حين ليعتمدوا عليها في مقاومة خصومهم وفي حماية أنفسهم ومصالحهم، وتولى تنظيمها وقيادتها قائد قديم هو الجنرال كرنر، وأصبحت النمسا تموج بهذين المعسكرين المسلحين الخصيمين، ولم يمض بعيد حتى اشتبك الهايمفر مع خصومهم في ضاحية (فينر نويشتات) وهي مركز المعسكر الاشتراكي (في أكتوبر) واضطرت الحكومة أن ترسل قوة كبيرة من الجيش لحسم النزاع والمحافظة على النظام، واحتج الاشتراكيون بقوة على قيام (الهايمفر) واتهموا أصحاب الأموال باستخدامهم لإرغام الاشتراكيين والطبقات العاملة على التنازل عن حقوقهم، وبدا خطر الحرب الأهلية داهما، وحاول زعماء الفريقين التفاهم والمهادنة، واقترح البعض نزع سلاح الفريقين، ولكن هذه الجهود السلمية ذهبت عبثا.
ولبث المونسينور سيبل في منصة الحكم حتى صيف سنة 1929 وكانت مسألة الاتحاد مع ألمانيا (الانشلوس) من أهم المسائل السياسية التي شغلت الأحزاب والرأي العام يومئذ، وكانت الديموقراطية الاشتراكية، كما قدمنا تعارض في هذا الاتحاد أشد المعارضة، وكان المونسنيور سيبل ينكره ويأباه في خطبه الرسمية، ولكنه لم يفعل شيئاً ضده من الوجهة الرسمية، ولم يقبل أن تدخل النمسا في حلف سياسي أو اقتصادي مع أية دولة من الدول الوسطى التي تعارض ألمانيا. وفى شهر أبريل استقال المونسنيور سيبل فجأة، واستطالت الأزمة الوزارية نحو شهر، ثم قامت وزارة الهر شتيروفتز أخيراً بتعضيد المونسنيور وحزبه المسيحي الاشتراكي، ولكنها لم تلبث سوى أشهر قلائل، تقدمت خلالها جماعة (الهايمفر) تقدماً كبيراً وزاد أنصارها بكثرة، ولا سيما في التيرول والنمسا السفلى،
واضحت قوة كبيرة يخشى بأسها، وأخذ المونسنيور سيبل وحزبه في تأييدها واضطرت وزارة شتيروفتز تحت ضغط الهايمفر أن تجري عدة إصلاحات دستورية، ولما زاد ضغط الهايمفر وصخبهم ووعيدهم استقالت وزارة شتيروفتز (سبتمبر): واتفقت الآراء على ترشيح الهر جان شوبر مدير بوليس فينا ورئيس الوزارة السابق؛ فألف وزارته الثانية، على قاعدة الائتلاف والتفاهم مع الديموقراطيين الاشتراكيين. وكان الديموقراطيون يضطرمون نحوه سخطاً منذ حوادث يوليه. ولكنهم اضطروا إلى مهادنته والتعاون معه نظراً لتفاقم خطر (الهايمفر) واشتداد بأس المحافظين. ولم يكن الهر شوبر من خصوم الهايمفر، وكان يرى بالعكس أن يصانعهم ليكسبهم ويأمن جانبهم وليوجه حركتهم إلى ما يدعم غاياته السياسية، وأعلنت الوزارة الجديدة أنها لن تدخر وسعا في تأييد النظام والأمن وقمع كل محاولة للعبث بهما. فاستقرت الأمور نوعاً وعادت الثقة والطمأنينة، وأثبتت الحكومة أنها تملك ناصية الموقف غير مرة كلما حدث احتشاد أو تظاهر من جانب الهايمفر أو خصومهم الاشتراكيين، وأبدى الهر شوبر بالأخص براعة في تسيير السياسة الخارجية وفي توطيد الثقة الدولية بالنمسا وحمل عصبة الأمم على معاونتها.
وفي نوفمبر سنة 1930 وقعت الانتخابات العامة وخرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية نسبية تفوق الأغلبية التي فاز بها المسيحيون الاشتراكيون، ولكنها لم تكن كافية لأن يعود الديموقراطيون إلى الحكم، واستقالت وزارة شوبر، وقامت وزارة ائتلاف برياسة الدكتور أندر يؤازرها المسيحيون والهايمفر وكتلة شوبر المستقلة، وتولى هر شوبر وكالة الوزارة ووزارة الخارجية وكان هو الروح المسير لهذه الوزارة، وخصوصاً في الشئون الخارجية، وفي مارس من العام التالي عقدت النمسا مع ألمانيا مشروع اتحاد جمركي نمساوي ألماني، فاحتجت عليه دول الحلفاء بشدة، وكذلك دول الاتفاق الصغير، واعتبرته مقدمة لتنفيذ مشروع الاتحاد النمساوي الألماني (الانشلوس)، وطالبت بإلغائه لأنه يخالف معاهدات الصلح وتعهدات النمسا إزاء عصبة الامم، فاضطرت النمسا أن تنزل عند إرادة الحلفاء في ذلك، وأن تحيل الاتفاق الجمركي إلى محكمة العدل الدولية الدائمة لتقضي بعد ذلك ببطلانه. ووقعت خلال ذلك كارثة (كريديت انشتالت) وهو أعظم بنوك النمسا وظهر عجز جسيم في موارده وكاد ينهار بناؤه فساد الذعر المالي وكادت النمسا تنحدر إلى هاوية
الخراب المالي، وتصدع بناء الوزارة لأنها لم تقو على معالجة الازمة، ووضعت الدول ذات الشأن شروطاً شديدة لإعانة النمسا وإقراضها، ومنها الإشراف على مالية النمسا على يد لجنة دولية، فاستقالت الوزارة في يونيه، وبعد مفاوضات معقدة خلفتها وزارة ائتلاف أيضاً على رأسها الدكتور بوريش، وعاد هر شوبر فتولى وكالة الرئاسة والخارجية وعنيت الوزارة الجديدة بمسألة الإنقاذ المالي وتوطيد الميزانية، واستطاعت بعد جهود عديدة أن تصلح الموقف نوعاً، وأن تدبر مسألة القروض المالية مع الدول ذات الشأن، وعالجت أيضاً مسألة المرتبات وإعانة العاطلين.
ووقعت في 13 سبتمبر محاولة عنيفة قامت بها عصابات الهايمفر في ولاية ستيريا دبرها الدكتور فريمر. واستولى الهايمفر خلالها على عدة مبان ومدارس حكومية، فجردت حكومة فينا في الحال على الثوار قوة كافية وانهارت المحاولة في الحال وفر مدبرها الدكتور فريمر، وكانت هذه أول محاولة من جانب الهايمفر للتطلع إلى السلطة، ولكنها كانت محاولة ضئيلة، ولم يبد من الشعب عندئذ أنه متحمس في تأييد الهايمفر. واستمرت وزارة بوريش في كرسي الحكم حتى مايو سنة 1932 ثم استقالت. وهنا قامت وزارة على رأسها رجل لم يعرف من قبل كثيراً في ميدان السياسة هو الدكتور انجلبرت دولفوس، وهو من رجال الاقتصاد، وكان قد تولى وزارة الاقتصاد في الوزارة السابقة، ولكنه لم يعرف من قبل ذلك بأي نشاط سياسي. وهو من رجال الحزب المسيحي الاشتراكي، قوى الإيمان والنزعة الدينية، ولم يكن يوم توليه الرآسة قد جاوز الأربعين بعد، وكان المقدر أن هذه الوزارة الجديدة ستكون وزارة إدارية على الاغلب، وانها لن تعمر طويلاً.
ولكن الدكتور دولفوس لا يزال يشرف على مصاير النمسا منذ عامين، ولا يزال يواجه الصعاب والأزمات المختلفة بجلد وشجاعة تخلقان بالإعجاب. ولم تلق النمسا الجمهورية من الأزمات العصيبة الداخلية والخارجية مثل ما لقيت في العامين الأخيرين، ولكنها استطاعت حتى اليوم أن تجوز هذه الصعاب، وأن تحافظ على كيانها السياسي والاقتصادي. وبدأ الدكتور دولفوس بالعمل في سبيل الإنهاض الاقتصادي، وانتهى في ذلك بعقد بروتركول لوزان على يد عصبة الأمم لمعاونة النمسا المالية والاقتصادية. ولكن هذه الخطوة أثارت معارضة شديدة من جانب الديمقراطيين وباقي الأحزاب المعارضة، ولم
تستطع الحكومة أن تحصل على الأغلبية البرلمانية اللازمة إلا بصعوبة؛ وطالب الديمقراطيون بإجراء انتخابات جديدة؛ فعارض الدكتور دولفوس في ذلك متذرعاً بحاجة البلاد إلى السكينة والعمل الهادئ، وسعى إلى الاتفاق مع جماعة الهايمفر ليكسب عونهم في البرلمان على أن يضم واحد منهم إلى الوزارة وكان الهياج الحزبي يشتد في كل يوم، إذ قويت دعوة أنصار الجامعة الألمانية (الهتلريين)، ووقعت بينهم وبين الديمقراطيين مناوشات دموية، فاستدعى الدكتور دولفروس زعيم الهايمفر في فينا الماجور فاي وهو جندي قديم ذو مواهب ممتازة واسند إليه وزارة الأمن العام، فعمل على ضبط النظام بعزم وقوة، ولما افتتحت الدورة البرلمانية في أكتوبر ظهرت شدة المعارضة، وانضم الهتلريون إلى الديمقراطيين في معارضة الوزارة متهمين إياها بالخضوع للسياسة الفرنسية، وتحرج الموقف البرلماني شيئاً فشيئاً حتى عدا مستحيلاً؛ وعمد الدكتور دولفوس من جانبه إلى العمل المستقل؛ وأخيراً استقال رئيس البرلمان وأعضاء مكتبه، فشل بذلك العمل البرلماني، وألقى المستشار نفسه طليقاً من إشراف المعارضة، واتخذ لنفسه سلطة شبه دكتاتورية.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان
تحديد الزمن عند قدماء المصريين
للأستاذ عبد الحميد محمود سماحة
مفتش مرصد حلوان
لا شك في أن الكثير من الظواهر الفلكية كان من أهم العوامل الرئيسية في تكوين العقل البشري منذ أقدم العصور، ثم في بناء المدنيات المتعاقبة في التاريخ.
فظهور الشمس في ناحية ما من السماء، وارتفاعها عند الظهر نحو السمت، ثم انحدارها في الناحية المقابلة غرباً، واختفاؤها بعد ذلك كل يوم دون انقطاع، وما تجليه أثناء النهار من النور والدفء، وما يسببه اختفاؤها في أثناء الليل من الظلام والبرد؛ ثم ظهور القمر في ليال معدودة مبدداً حلكة الظلام؛ وشروق النجوم الثابتة من حيث تشرق الشمس، ومغيبها من حيث تغيب؛ وتلكم الكواكب السيارة التي تتحرك وسط النجوم الثابتة؛ وهذه المذنبات التي كانت تفاجئ الناس بظهورها ثم تفاجئهم ثانية باختفائها؛ وما كان يروعهم من كسوف الشمس وخسوف القمر؛ كل أولئك أو بعضه لا شك قد أيقظ انتباه (الإنسان الأول) كما تدل عليه آثار العصر الحجري
وتاريخ أقدم المدنيات يدل على مقدار ما كان لهذه الظواهر الفلكية المتعددة من الأثر في بناء هذه المدنيات نفسها؛ فعلى ضفاف النيل - حيث أشرقت على العالم أولى المدنيات - نجد في آثار أجدادنا ما يؤيد هذا الزعم
ولكي نستطيع ان نحكم بالدقة على مبلغ ما وصلوا إليه في هذه الناحية دون تورط في المديح أو مبالغة، لا نرى مندوحة من أن نذكر القارئ بالعقائد الرئيسية الثلاث عندهم، وهي التي صبغت بها مدنيتهم في جميع مظاهرها:
فالأولى - الشمس وهي الإله المعبود (رع)
والثانية - النجوم - منازل المباركين
والثالثة - النيل - النهر المقدس - الذي لم يزل يفيض على جوانبه الخير والبركات
ولما كان أهل مصر منذ القدم يعيشون على فلاحة الأرض، كان لزاما عليهم معرفة الوقت الذي يفيض فيه النهر المقدس ليربطوا تبعاً لذلك أزمنة الحرث والبذر والري والحصاد. ومن المصادفات الموفقة أنهم لاحظوا أن فيضان النيل يأتيهم عندما يرون الكوكب الألمع
سوثيس (الشعري اليمانية) يشرق لأول مرة قبيل شروق الشمس؛ ومن ثم اتخذوا الفترة الواقعة بين فيضانين متتاليين يحددها تحديداً فلكياً رؤية هذا الكوكب مرتين متتاليتين قبيل شروق الشمس وحدة للزمن. ويقول الأستاذ برستيد أن أول سنة حددت في التاريخ على هذا الأساس الفلكي - بل إطلاقا - هي سنة 4241 قبل الميلاد. غير انهم قاسوا هذه الفترة بخمسة وستين وثلاثمائة يوم. ذلك لأنهم فيما اتفق عليه اكثر المؤرخين كانوا رجالا عمليين اكثر منهم نظريين، فلم يأبهوا بأكثر من ذلك لدراسة حركة الشمس لاستنباط وحدة للزمن أدق من هذه التي كفتهم حاجتهم في تحديد أعيادهم الدينية ومواسمهم الزراعية؛ ولو أنهم فعلوا لوصلوا من غير شك إلى نتائج لا نستطيع ان نتكهن بمدى تأثيرها في المدنية، ولكننا نعتقد عند ذلك بإمكان تأسيس مدينة نظرية في مصر قبل اليونان حيث نشأت الفلسفة النظرية ومبادئ العلوم الحديثة.
دعت الحاجة بعد ذلك فيما اقتضته مرافق الحياة عندهم وما وصلوا إليه من درجة في المدنية أن يقسموا اليوم نفسه إلى اقسام، فاستخدموا الساعات الشمسية والمائية. وتدل آثارهم على أنهم استعملوا منها أنواعاً متعددة نقتصر هنا على وصف أهمها:
فالصورة (2) هي ساعة شمسية يرجع عهدها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتتكون من قضيبين متعامدين ب ب توضع بحيث يكون مواجهاً قبل المشرق قبل الظهر وقبل المغرب بعده وظل على ب ب يبين الوقت أثناء النهار. ولقد قسموا الفترة بين شروق الشمس حين يكون الظل أطول ما يمكن والظهر حين لا ظل إلى ست ساعات ومثلها بعد الظهر.
والصورة (3) هي نوع آخر من الساعات الشمسية استخدمت لتعين الوقت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وهي لا تختلف كثيراً عن المزاول الشمسية المستعملة إلى وقتنا هذا. وقد اكتشفت ببلدة جيزار في جنوب فلسطين.
والصورة (4) هي إحدى أنواع الساعات المائية وجدت في معبد الكرنك، ويرجع تاريخها إلى عهد امنحت الثالث (1400 قبل الميلاد) وهي مصنوعة من المرمر ومزينة من الخارج برسوم الكوكبات والكواكب السيارة مع إلاهي الشمس والقمر، وصورة الملك بين آلهة الشهور الاثني عشر. وهذا النوع من الساعات عبارة عن إناء مملوء ماء ينصرف من
ماسورة صغيرة في القاع. وقد جعل شكل الإناء بحيث يحدث تصرف كميات متساوية من الماء في أزمنة متساوية انخفاضات متساوية في سطح الماء
وفي أنواع أخرى من الساعات المائية كان يصب الماء من مصدر خارجي، وفي هذه الحالة يبين الوقت ارتفاع سطح الماء في الإناء
وربما كان أهم الاكتشافات العلمية في هذا الصدد تلك الآلة الزوالية الصغيرة التي ابتاعها الأستاذ برستيد من أحد تجار العاديات بلندن سنة 1923 لسببين:
الأول - إن الصانع الحقيقي لها هو الملك العظيم توت عنخ أمون نفسه كما تدل عليه الجملة الهيروغليفية المنقوشة على جانبيها (صنعتها بيدي)
الثاني - لأنها أقدم آلة فلكية عرفت في التاريخ، فقد دلت أبحاث الأستاذ جورج هيل على أن تاريخ استعمالها يرجع إلى حوالي سنة 3000 قبل الميلاد
وقد كانت تسمى هذه الآلة عندهم (مرخت) ومعناها آلة القياس، ولا يتسع المقام هنا لوصف طريقة استعمالها، ونكتفي بالإشارة إلى أنها تشبه - من هذه الناحية - الآلة الرئيسية في المراصد الحديثة المعروفة بالمنظار الزوالي. وبواسطتها يمكن تحديد الوقت برصد عبور النجوم على مظمار معلق من إحدى نهايتها.
ولا يفوتنا أيضاً أن نذكر أن آلة أخرى من هذا النوع أقدم من هذه التي ابتاعها برستيد توجد في ` متحف العاديات ببرلين
ويقول الأستاذ بورخات إن تاريخ استعمالها يرجع إلى عهد امنحتب الثالث
فليت شعري هل ترانا جديرين بهذا التراث العظيم. . . .؟؟!!
عبد الحميد محمود سماحه
من صور الحياة في دمشق
الشيخ عيد السفرجلاني
للأستاذ على الطنطاوي
. . . رفع الشيخ صوته مرة ثانية يأمر التلاميذ بالانصراف ولكنه لم يسمع لهم ركزا، فنظر فإذا المقاعد كلها خالية، وإذا آخر تلميذ قد بلغ الباب الخارجي، ثم قفز فرحاً مسروراً، وغاب في منعطف الطريق، وعم المدرسة السكون. . .
تنفس الشيخ الصعداء، وألقى عصاه جانباً، ثم تمدد على كرسيه المستطيل، يستريح من العناء الذي حمله في نهاره، وكأن هذا السكون العميق، وهذه الصفرة التي تبعثها في الغرفة أشعة الشمس المحتضرة قد ملأ نفسه كآبة ورهبة، فاغمض عينيه، وأسلم نفسه لخيالاتها:
أحس كأن هذه السجف التي أسدلها دون الماضي، ترتفع سجافاً سجافاً، وان هذا الماضي البعيد الذي لفه في ثوب النسيان، وألقى به في هوة العدم، قد استفاق في نفسه مرة واحدة، ثم عاد يكرر عليه كما يكر (شريط السينما)، ولكنها سينما حياة طويلة، مرت عليه كأنما هي يوم واحد أو بعض يوم، سبعون عاماً مرت به في لمحة عين، فلم يأخذ بصره فيها إلا العمل المستمر في تعليم صبيان دمشق، سبعون عاماً لم يسترح في خلالها إلا أيام الجمع، ثم يعاود عمله منذ الصباح السبت، هادئاً راضياً نشيطاً. . .
عادت به الذكرى إلى ذلك اليوم الذي بدأ فيه حياته التعليمية، وكان غض الشباب، يقطع مرحلة (العشرين)، وكان يوماً بعيداً طوى فكره الوصول إليه ثلاثة أرباع القرن، وأدار الفلك راجعاً سبعين دورة. . . يا لقدرة الفكر البشري! كيف يدير الفلك كما تدير الإصبع عقرب الساعة تقديماً وتأخيراً؟
كانت المدرسة التي استأجرها غرفة واحدة، في (المناخلية) قبالة الباب الحديدي الذي بقى مع قطعة من السور، تراثاً لدمشق المفتحة الأبواب لكل طامع، من دمشق المنيعة المتحصنة بسورها وقلوب أبنائها من كل طامح، وفي هذا الباب نفحة من نفحات الغساسنة (العرب الخلص) يحسها من يجوزه، كما يحسن من يدخل من الباب الشرقي روح خالد بن الوليد، بطل عصره، واينبال العرب، وكما يحس من يمر من باب الجابية روح أبى عبيدة بن الجراح، ولم يكن هذا الباب معروفاً بباب المناخلية كما يدعي اليوم، بل كان يدعى بالباب
المسدود، وقد كان قبل أن يسد الباب الرسمي الملوك الغساسنة، وكان يقابل قصر البريص، حيث كان الغساسنة الكرام الحسب الشم الأنوف:
يسقون من ورد البريص عليهم
…
بردى يصفق بالرحيق السلسل
ذكر كيف لبث نهاره كله منفرداً لم يجئ إليه تلميذ واحد، وكيف أسرع المساء بالعودة إلى داره. قبل أن يقفل العسس أبواب دمشق، وبواباتها التي كانت تغلق منذ العشاء، أيام كان الناس جادين مستقيمين لا يعرفون ملاهي الغرب ورذائله، ولا يعرفون أحياء الليل في الفاحشة، وقتل النهار في الكسل. وكيف كان قوى الأمل، جم النشاط، لا يخالط اليأس قلبه، فلم ينثن عن عزمه. وغداً في اليوم الثاني إلى مدرسته التي أنشأها في البلد الذي لا يعرف القراءة إلا اثنان في الألف من سكانه. . . فجاءه خمسة تلاميذ، وشرع يعمل
لم يكن الشيخ يحمل شهادة، ولم يكن في دمشق كلها من يحمل شهادة البكالوريا أو الكفاءة، ولكنه قد أتقن العلوم الإسلامية والعربية، وثابر سنين طويلة على (الطلب) حتى ألم بالثقافة العامة المعروفة في زمانه إلماماً حسناً. وانصرف للتعليم ابتغاء لمثوبة الله، وأجابه للرغبة القوية الجامحة. فلما جاءه هؤلاء التلاميذ، رأى فيهم تحقيقاً لحلمه فأكب على تعليمهم وتهذيبهم
- أحسن الله لأولئك التلاميذ! لقد كانوا أشرافاً عاملين، ثيابهم كاملة. وحركاتهم وأفعالهم فياضة بالرجولة، وحياتهم مقصورة على البيت والمدرسة، لا تعرف الرذيلة الغربية طريقاً إلى نفوسهم، ولم يكن الغرب قد غزانا بأزيائه وملاهيه وأبنائه، وأبنائنا الذين علمهم العلم والعقوق. وأعطاهم السلاح ولقنهم كيف يقتلون به (التقاليد) الشرقية الشريفة، فكانوا بمنجى من هذا كله.
لقد هاجت الشيخ ذكرى أولئك التلاميذ الذين أصبحوا اليوم شيوخاً ومات منهم من مات، وقارن بينهم وبين تلاميذ اليوم المتأنثين المتخنثين الذين يتقنون التجمل ويغوصون في الملاهي القذرة إلى أعناقهم فاسترجع وهم بالبكاء. وازدحمت في ذاكرته الصور المؤلمة، فرأى كيف كان يتلقى الفوج من تلاميذه أطفالاً، فيعلمهم ويربيهم، ويجعل منهم شبانا عاملين، ثم يودعهم بعد أن يوليهم من نفسه أسمى ما يولى والد ولده، فيغادرون المدرسة، ليدخلوا الحياة، ويرتقون من مقاعد النظارة إلى خشبة المسرح، ويحسبون أن هذه الشهادة
غاية العلم، وهي فاتحته، وانهم إذا نشروها، طويت لهم المراتب إلى الصدر وقدم لهم من كل شيء ما يشتهون، لا يدرون أن للحياة فناً غير فن الكتب، وفى العلم آفاقاً لا تحيط بها المدرسة. . . وكيف كان يلبث الأيام الطويلة يستوحش بالمدرسة والمنزل، ويحس بالفراغ في قلبه بعد أن اقتطع منه كل فوج قطعة ويتألم ويجفوه النوم. فلا يعلم إلا الله بألمه. ثم يستعين بالله ويستأنف العمل مع تلاميذه الجدد. ويحاول أن يجد فيهم بدلاً مما فقد، حتى إذا أنضجت الثمرة خرجت من يده. وكان حظه من هؤلاء حظه ممن سبقهم: ينسونه مذ يتخطون بأقدامهم عتبة الباب، وينصرفون عنه إذا لمحوه في طريق، مصعرين خدودهم، شامخين بأنوفهم - وهم التجار الأغنياء، أو الموظفون الكبار، أو الوجهاء الكرام - على هذا الشيخ المسكين (معلم الكتاب)
- أحد عشر ألف تلميذ. . . أحد عشر ألف. . . علمتهم وأفنيت فيهم حياتي، فضاع تعبي فيهم أدراج الرياح. . . يا الله! وفتح عينيه فوقع بصره على مرآة كانت إلى جانبه فنظر فيها وأطال النظر كأنما قد انتبه الآن إلى لحيته البيضاء الناصعة، والى سنيه التسعين فاسترجع مرة ثانية. . . وسأل الله حسن الخاتمة
- سقياً لتلك الأيام الهنيئة. حين لم يكن في دمشق إلا هذه المدرسة. ومدرسة الشيخ الصوفي، أما الآن فالمدارس تعد بالمئات، ولكن الناس لا يميلون إلا إلى المدارس الأجنبية، إنهم يضنون على مدرسة كهذه المدرسة تقدم أبناءهم لفحص الرسمي العام، وتحفظ لهم دينهم ووطنيتهم بعشرين قرشاً في الشهر، ثم ينفقون مائتين وثلاثمائة في المدارس الفرنسية أو الإيطالية أو الإنجليزية، ليعود اليهم أبناؤهم فرنسيين أو طلياناً أو إنكليز. . . آه، الحمد لله على كل حال الحمد لله. . . إننا نجد ثمن الخبز.
وانتبه فإذا الباب يقرع قرعاً متواصلا
- ادخل، تفضل. . . ممن هذا الكتاب؟
- من وزارة المعارف
قرأ الشيخ الكتاب أولا وثانياً، وقرأه مرة ثالثة، فغشيت وجهه سحابة أليمة من الغم، ثم قام إلى مكتبته صامتاً، فأخرج من قراراتها دفتراً كبيراً مسح الغبار عنه، وأخذ يقلبه يفتش عن هذا الاسم، بين أحد عشر ألف اسم حواها هذا الدفتر، فلما وجده تناثرت الدمع من عينه.
وارتمى على كرسيه محطماً.
- أهذه خاتمة المطاف؟. إه. . الحمد لله على كل حال. . الحمد لله لك يا رب. . انه تلميذي علمته ومنحته قسطاً من قلبي، وعلمت أباه من قبله، وعلمت أبنه من بعده، ولكن لا بأس، إن أمور المعارف بيده. ومن حقه ان يفعل ما شاء، وعاد فقرأ الخطاب للمرة الرابعة:(. . . ولأنكم لا تحملون شهادة تخولكم حق إدارة مدرسة ابتدائية لا نرى بداً من أن. . .)
كنت منذ عامين محرراً في الجريدة الوطنية الكبرى (الأيام) فجاني يوماً ناع، فنعى إلى الشيخعيد السفرجلاني. واخبرني أن هذا منصرفه من دفنه، فبلغ بي الألم مبلغه، وجعلت مقالي في ذلك اليوم عن الشيخ. ولما قدمته لرئيس التحرير. قال لي أحد الرجال الكبار في دمشق، وكان في غرفة الرئيس ما نصه بالحرف:
بلا مسخرة، شيخ كتاب مات!
قلت: ولكنك يا سيدي تلميذه
- وإذا كنت تلميذه؟. . شيخ كتاب!
وبعد يا مولاي الشيخ:
لا تأس على أن ذهبت في غير ما ضجة ولا صخب، وأن قد سكنت قبراً في (الدحداح) لا يمتاز من مئات القبور التي حوله ولا تحيط به النصب والنقوش، وان الناس لم يأبهوا لك كثيراً، ولم يقيموا لك الحفلات، ويلقوا على قبرك الخطب. . . فأنت أشرف وأجل من كل هؤلاء الصاخبين الضاجين، ومجدك الصامت الذي بنيته في سبعين سنة لبثت فيها مناراً للعلم - وهادياً ومرشداً. أسمى من مجد هؤلاء الذي ينبى على خطبة جوفاء، أو ليلة في السجن ظلماء، أو مقالة في صحيفة رعناء.
وان كنت شيخ الكتاب، فذلك فخر لك، وحسبك فخراً أن الذين سرقوا مجدك ومجد أمثالك - هم - كما هي سنة الحياة - أشد تلاميذك حماقة وجهلاً، وأقلهم استقامة وشرفاً، وانهم ما قفزوا إلى هذه المراتب، إلا ليجحدوا فضلك وفضل أمثالك، ويسخروا منك ومن أمثالك، هي سنة الحياة، يعمل أناس ليجني الثمرة آخرون يا مولاي الشيخ:
نم مستريحاً في ظلال الخلد، فأنت أبو النهضة العلمية في دمشق، أنت صفحة من تاريخها الحديث، أنت معلم كل من قرأ في دمشق كتاباً أو خط بقلم
عليك رحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي
الابتكار في الأدب
يرى بعض أدباء الغرب أن للمصور المجيد، والشاعر المبدع والموسيقى الماهر موهبة عجيبة تعرف بالعبقرية، تعمل مستقلة عن الزمان والمكان، وأن كل ما يحتاجه الفنان الموهوب إنما هو الإلهام مع قليل من الإقدام، فألق به كما يقولون في جوف المحيط أو في وسط الصحراء ودعه يتجه نحو الفن فسيعاون الإلهام عبقريته على إنتاج الجيد وإبراز المعجز من الفن والأدب.
ولكن الحقيقة أقسى من وهمهم هذا، فالواقع أنه ليس هناك فنان يعمل مستقلاً عن الزمان والمكان. ولو أخذنا طائفة من الكتب الأدبية الرائعة في أي عصر من العصور، وقرأناها مع إلمام تام بالكتب التي سبقتها مباشرة لحكمنا مضطرين بأنه لا يوجد كاتب - مهما علا قدره - يتهيأ له وجود مستقل عن حدود زمانه ومكانه الضيقين، إذ الكتاب ما هم إلا أجسام مختلفة تسكنها روح واحدة هي روح العصر الذي يعيشون فيه كما يقول البحاثة الإنجليزي بتركونل وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير.
وحقاً إن الكاتب الكبير قد يطبع العصر الذي يعيش فيه بطابعه الشخصي وينحو بجمهرة المتأدبين نحواً لم يعهد قبله، وحينئذ يلقبه معاصروه بالمجدد أو الثائر، ولكنه على ذلك يساير التيار الزمني ويتأثر ببيئته إلى حد كبير. وقد اعتاد مؤرخو الأدب الإنكليزي تقسيمه إلى عصور حسب الشخصيات البارزة في كل عصر ملاحظين هذه الحقيقة المقدمة. فهناك عصر شوسر، وعصر شكسبير، وعصر ميلنون، وعصر دريدن، وعصر بوب، وعصر جونسون، وعصر وردزورث، وعصر تينسون. وكلها شخصيات متفوقة تزعمت الأدب في عصورها وسلكت به مسالك مختلفة. ولكنا نراهم كثيراً ما يتأخرون بالعصر عن صاحبه ويدخلون فيه بعض مشاهير الأقربين ممن سبقوه ملاحظين تأثره بهم وتأثيرهم فيه، وتمثيل الجميع لأزمنة متشابهة. وكأنهم بهذا يقررون أن الابتكار الأدبي بمعناه الصحيح لا يتيسر لأي أديب.
وبعد هذا، له العظمة الأدبية تساوي الجدة الأدبية؟
الإجابة عن هذا الاستيضاح تدعو إلى التفكير وإنعام النظر. . . فقد اعتاد جل نقاد العربية أنهم إذا أرادوا بحث أثر أدبي أخذوا ينظرون إلى ما فيه من الأفكار والأخيلة: الجديدة هي فيذكر صاحبها بالفضل؟ أم سبقه بها غيره فيرمى بأنه دعى؟ وليس من فضل - عندهم -
للكاتب الذي يتعرض لما يتعرض له غيره ولو في إيراد مغاير ومن ناحية مباينة. وقديماً عدوا سرقات المتنبي. وفي العام الماضي ثاروا على الأستاذ المازني لأن فكرته في رواية له وافقت بعض الشيء فكرة رواية لمؤلف غربي.
والحق انهم مخطئون في هذا أو مسرفون، وأنه إن لم يكن بد من الحكم حسب الجدة، فعليهم أن ينظروا إلى أسلوب الأداء نفساً أهو جديد أم مستعار. فان كان جديد ألا يحرم صاحبه من فخر الإبداع الأدبي بل يجب أن يعترفوا له بالتفوق على صاحب الفكرة نفسا إذا صاغها صياغة أدق من صياغة سابقة وأكمل، لأنه حينئذ يكون قد أتى بما عجز عنه الأول. ولعل هذا الذي كان بعض المتقدمين يعنيه بقوله: إن المعاني معلومة للجميع وإنما المعول على النظم. هذا هو المقياس المستقيم وبه قدر المنصفون من النقاد الإنجليز حينما حكموا بأفضلية وصف العنكبوتة لبوب على وصفها لدريدن، وإن كان الأول مديناً بالفكرة التي قام عليها الوصف للثاني.
ومن الأمثلة القوية التي يصح الاستشهاد بها في هذا الموضوع شكسبير أعظم الشعراء السكسونيين، والذي لكتابته المنزلة التالية لمنزلة الكتاب المقدس في الأدب الإنجليزي. ولست أستشهد برواياته التاريخية يوليوس قيصر، وانطونيو وكيلوباتره، وكور يولينوس التي استعار أصولها بل بعض أخيلتها مما كتبه المؤرخ الشهير فلوطرخ وإنما أورد رواية أخرى لا تمت للتاريخ بنسب، وتعد من رواياته القيمة التي ألفها في عهد نضوجه الأدبي وهي رواية الليلة الثانية عشرة فقد أخذ حوادثها كلها عن رواية إيطالية، ومع ذلك لم يقل أحد إن شكسبيير لم يكن مبدعاً في هذه الرواية أو أنها ليست من مفاخرة الأدبية.
ومن المفيد أن نذكر خلاصة كل من الروايتين حتى يتبين القارئ مدى الاستعارة. فملخص الرواية الإيطالية وقد ألفت سنة ألف وخمسمائة وسبع وثلاثين أي قبل تأليف رواية شكسبير بنحو سبعين سنة واسمها جلينجاناتي ' ، هو ما يأتي: فابرييتو وليليا. أخ وأخت فرقت بينهما ثورة روما في سنة 1527 دفت المقادير بليليا إلى مودينا مقر فلامينيو الذي كان بينه وبينها علاقة غرام سابقة فتنكرت في زي شاب ودخلت في خدمته فوجدت أنه نسى حبها وتعلق بسيدة من أشراف مدينته تدعى إيزابلا. ليليا كشاب جذاب كانت تحمل رسائل الغرام من سيدها فلامينيو إلى إيزابلا. إيزابلا لم تتأثر بتوسلات فلامينيو ولكنها
أحبت ليليا - وهي رجل في اعتقادها - حباً عميقاً. فابرييتو يصل إلى مودينا ولأمر ما يلقى إيزابلا فتتم بين الاثنين مراسيم الزواج وهو في اعتقادها ليليا شقيقته. تظهر الحقيقة بعد هذا فينتقل حب إيزابلا في سهولة من ليليا إلى شقيقها ويتزوج فلامينيو من حبيبته الأولى ليليا.
وخلاصة رواية شكسبير ما يأتي: الدوق أورسينو يقيم بايليريا، وقد وقع من وقت طويل في حبال غرام نبيلة من نبلاء مدينته تدعى أوليفيا. أوليفيا لا تبادله الحب بل تنتهز فرصة موت شقيقها، وتعلن أنها سوف لا تسمح لأي خطيب بالاقتراب منها وأنها ستمكث في حداد على أخيها سبع سنين. وهنا نرى فيولا توأم شاب من نبلاء ميسالين يدعى سيبستيان، ظن أنه توفى أثناء عاصفة هبت على سفينة كان هو واخته من بين راكبيها، ونجت فيولا بفضل ربانها على الشاطئ المقابل لايليريا، ولما علمت فيولا بأمر أورسينو وكانت تحبه لما تسمعه عنه، فكرت في العمل عنده كأمين، وتنكرت في زي أخيها وقدمها إلى قصر الدوق أحد رجال حاشيته. اطمأن الدوق إليها وأطلعها على حبه أوليفيا واستخدمها في استعطافها، وعندما تراها أوليفيا لأول مرة تفتن بها وتطلب إليها أن تزورها ثانية بحجة أخبارها بسبب رفض طلب اورسينو، وفي المقابلة الثانية تصدم أوليفيا ببرود فيولا التي أظهرت لها أوله غرامها به. فيولا وهي غير قادرة على كشف سرها لأوليفيا تتركها معلنة أنها سوف لا ترجوها في أمر سيدها ثانية. وبعد وقت قصير يأتي سيباستيان الذي يشبه أخته مشابهة تامة حتى أنه لا يميز بينهما إذا ما تشابه لباسهما فتدفعه الحوادث إلى منزل أوليفيا ويتم بينهما عقد الزواج ثم يكشف السر فلا ترى أوليفيا بأساً من استمرار العقد ويتزوج أورسينو فيولا التي كانت تحبه حباً جماً
نعم قد استعار شكسبير حوادث روايته من تلك الرواية السابقة على النحو الذي رأينا، ولكنه صاغها صياغة أخرى وخلقها خلقاً جديداً فأفاض عليها من قريحته الخصبة وخياله الواسع أفكاراً وصوراً كسبتها بهاء وجلالا حرمتهما الرواية الإيطالية - فهي على استعارة حوادثها جديدة قوية لأنها في أسلوب جديد وهو أسلوب شكسبير القوي الذي امتاز به من غيره. فليس للنقاد أن يطلبوا من الأديب أن يكون أول عابر للسبل التي يسلكها، أو أصيلا في الموضوعات التي يطرقها، أو مبداعاً للحوادث التي يدور حولها، وإلا كان طلبهم من
ناحية أخرى أن يمعن في الاطلاع على الآداب الماضية، وتفهمها عديم الغناء القليل النفع، ومن غير المعقول أن يكون الأدب الحديث غير قائم على الآداب الماضية؛ كما انه من غير المعقول أن تكون المدنية الحديثة غير قائمة على المدنيات السابقة. اللهم إذا كان أدباً متأخراً لا يمثل العصر الذي قيل فيه.
والذي يؤاخذ به من يريد الاشتغال بالأدب أشد المؤاخذة هو ألا يكون مبتكراً في أسلوبه، أو بعبارة أخرى أن يكون أسلوبه مرقعاً من أساليب أدباء آخرين يحتذيهم وينحو منحاهم، ويا ليته يبلغهم. . . هذا لا سواه هو الادعاء الأدبي. فلا فرق بين الأديب المحسوب على الأدب بالنسبة إلى مأثور القول، إلا أن الأوليخضعه لطبيعته ويتصرف فيه حسب مزاجه الخاص. أما الثاني فيضعف أمامه أو تضعف طبيعته - ضعفه أمام المعبود المقدس فلا يستطيع أن يتناوله بتبديل أو تحوير
وعمل الأديب الحق يشبه تماماً عمل النحلة التي تحيل بطبيعتها الحلوة ما تمتصه من مختلف الأزهار إلى عسل مصفى لا تتبين فيه الأصول التي أخذ منها.
السيد محمد نوفل
حنين المهد إلى الطفولة
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
يكاد يكون الحنين إلى (المنزل الأول)، غريزة من الغرائز الإنسانية، تزداد قوة ورسوخاً كلما توغل المرء في عبور مرحلة الحياة. . . ولعل أعذب ذكريات الشيخ الفاني المثقل بتجارب الحياة أياماً قضاها على شاطئ اليم يلهو مع الصغار ويجمع الأصداف ويلقى الشباك للأسماك أو يصنع دوراً وقباباً من الطين والرمال، ثم يهدمها ليعيد بناءها. . بل إن الفتى اليافع ليتضاءل أمام عينيه ما يستمتع به من قوة ومرح وصفاء عندما تستعرض مخيلته صور عهد الطفولة المليء بالسذاجة والحركة المتواصلة والمرح البريء. . . وقد ينشأ المرء وضيعاً في كوخ حقير ثم يرتقى سلم العلياء ويسكن القصور ذات الحدائق الغناء ومع ذلك تتوق نفسه للحج إلى مهد الطفولة وتستحيل في نظره خشونته نعومة وقبحه حسناً وجدبه رخاء. . .
وهذا الحنين هو أساس الوطنية ونواة إعزاز القومية لا تخلو منه إلا القلوب الصماء المجردة من العطف والوفاء فلا بدع إذن أن يحط الركاب الشاعر الفياض العاطفة إذا مر بأطلال الديار ليذرف دمعة أو ليستعيد ذكرى أو ليرسل نجوى قبل أن يستأنف المسير ويخب الخطى به عشرا. . .
ولعل أشد الحنين هو حنين ذلك الذي ينتزع انتزاعاً من بين أحضان مهد طفولته ويقصى عنه قوة واقتداراً، ثم يشغل هذا المهد العزيز الوثير أعداؤه المغتصبون بينما هو لا يجرؤ أن يحاول منه اقترابا، إذ تحول بينهما الاستحكامات والحصون فلا يجد من وسائل الاتصال غير الذكرى والخيال. . . ولكن الذكرى التي لا أمل يصحبها ويجلوها تصبح كرياح القيظ اللافحة تحرك الأشجان كما تثير الرياح الرمال. . . والحنين يبعث الذكرى التي هي رمز الوفاء. . . .
إذن فبأجنحة الذكرى أحلق فوق مهد الطفولة المقدس - فوق ربوع السودان. . تلك الربوع التي كانت ميداناً لبطولة الأجداد والآباء، منذ عهد الفراعنة قبل أن تصبح مهداً لبراءة الطفولة ومرحها الفياض
هنالك في إحدى بقاع السودان عند ملتقى النيل الأبيض بالأزرق قضت فتاة سني الطفولة التي مهدت لها الطبيعة هناك كل وسائل اللهو والنعيم، فحبتها ببساط لا نهاية له من الرمال الذهبية تنطلق فيه انطلاق الظبي في الفلوات. . كما زودتها بأشجار باسقة من دوم ونخيل وساسبان كانت رؤوسها حصناً منيعاً للطفلة التي كانت تهرع لتسلقها بمهارة القردة وخفة النسانيس إذا أصابها ذعراً أو لحقها وعيد! ولطالما وجدت الطفولة في أمطار السودان الغزيرة وسيوله المندفعة التي تكتسح الدور والأشجار والناس ما يثير اللذة والخوف معاً. . ومن ثوران الزوابع والعواصف التي كانتتنافس السيول في الجبروت وكثرة الأسلاب، كانت تستمد الطفولة الطليقة نوعاً من التسلية الممزوجة بالدهشة، وتنصت باهتمام إلى دوي العواصف وقصف الرعود التي تعلمت كيف تأنسن بها بعد أن تغلق الأبواب والنوافذ دونها! والحر على شدته وقسوته لا يضير الطفولة، لأنها بالنهار تلهو برؤية الطيور الفاتنة التي تنطلق أمامها مداعبة ومحاورة، فتطلق على ذات الريش الأخضر منها (عصافير الجنة) والأحمر (عصافير النار) وان كانت لا ترعى حرمة الأولى ولا تخشى حرارة الثانية! بل تجد في اللحاق بها دون جدوى. . على أنها سرعان ما تشعر بالجهد فتتجه دون ندم إلى مداعبة الغزلان الوديعة الجاثمة في الظل أو معاكسة الببغاء الثرثارة أو القردة والنسانيس المتمردة. . التي قلما تخلو منها حديقة من حدائق منازل السودان. . . وفي الأصيل عندما يهب عليل النسيم وتنخفض جذوة الحرارة ويسمع نعير السواقي يمتزج بأغاني السودانيين الرقيقة على ضفاف النيل، وتمتطى صهوة مهر أو حمار وتندفع بين الأدغال بمحازاة النهر العظيم بينما تتناثر عليها سلاسل ذهبية من أشعة الشمس المائلة للغروب. فتطل عليها من بين غصون الشجر مودعة وتكر راجعة إلى حيث تجتذبها أصوات الرفاق اللاعبين فوق بساط الرمل الوثير. . وسرعان ما تنبثق النجوم في القبة الزرقاء. . ويتهادى القمر حتى يستوي على عرشه المتلألئ في صدر السماء. . بينما تتعالى تهاليل الأطفال البيض منهم والسود سواء. . لأن الطفولة تسمو فوق فوارق الألوان والأديان والأجناس. .
وهكذا كان يسود التفاهم والوئام بين الطفولة والطير والعجماوات والأشجار والعواصف والأمطار والناس - في حين كانت رتع آمنة في ذلك الفضاء غير المحدود الذي حبب إليها
الحرية المطلقة طبعها على الصراحة وجعلها تهيم بالجمال في شتى نواحيه. . .
ولكن ما هي إلا عشية أو ضحاها حتى زلزلت الأرض زلزالها وقبض (سنخاريب) على معول يهدم به وكر السعادة. . . فاستفاقت الطفلة مذعورة في أحد أيام شتاء سنة 1924 ونظرت حولها فكادت تنكر الدار التي بها ترعرعت إذ هنا وهناك تكدس أمامها الأثاث في غير نظام وعهدها بدارها نموذج التنسيق والجمال. . . وإذا بالأم تقبل مرتجفة واجمة وتنادي الطفلة بصوت تخنقه العبرات أن أسرعي فقد أزف وقت الرحيل عن الديار نعم، وا أسفاه. . . لقد حل بالمصريين في السودان عام 1924 ما دهى بني إسرائيل في أورشليم في القرن السادس قبل الميلاد على يد الكلدانيين. . . ولم تطلب الطفلة إيضاحاً لأنها أدركت بغريزتها حدوث أمر جلل. . وهل بعد الطرد والتشريد من الديار من مصاب؟. . تركت الطفلة حجرتها في صمت رهيب، وسارت حتى بلغت حديقة الدار الفسيحة فأطلت على النيل برهة امتزجت فيها دموعها بمياهه، ثم توغلت بين الأشجار التي طالما احتمت برؤوسها كلما توعدتها أمها بالعقاب وتعلقت بغصونها، وأخذت تقبلها قبلات الامتنان والوداع. ومازالت تسير حتى بلغت مكان طيورها وحيواناتها العزيزة ووقفت أمامها في خشوع فأقبلت إليها النسانيس وتعلقت بشعرها ونظرت في وجهها كما لو كانت تستفهم سبب وجومها، واقتربت منها الغزلان وقد كان عهد الطفلة بها شدة النفور والابتعاد فوقفت أمامها كتمثال. ولم تكد الطفلة تجثو على قدميها لتعانق أعزاءها العناق الأخير حتى أقبلت الأم مهرولة، وجذبتها معلنة قدوم العربات. فاستسلمت الطفلة استسلام اليائس، على أنها سرعان ما وقفت عن المسير وأجهشت بالبكاء إذ تذكرت أنها تركت وراءها عصافيرها المحبوبة دون ماء أو غذاء، ولكن الأم رغم تأثرها العميق لم تدعها تفلت من يدها إذ كان عليها أن تحلق القطار.
بمثل هذه العجلة المؤلمة ختمت حياة الطفولة الرغدة في السودان وبمثل هذه القسوة انتزعت الطفلة البريئة من بين أحضان المهد الرؤوم دون إنذار. . فلا غرو أن يتضاعف حنينها إلى المهد المغتصب الذي له فوق قداسة ذكريات الطفولة السعيدة قداسة الماضي التليد: ماضي البطولة وبذل النفوس من أجل الخلود. . .
أسماء فهمي
ذكرى.
. .
// لم يطل ليلى ولكن لم أنم
…
ونفى عني الكرى طيف ألم
. . . ولكنه لم يكن طيف غرام ولا خيال غانية، ولم يكن صدا هذا الذي عقد طرفى بالنجم، ولا بعدا هذا الذي أغرى بي الهم، ولكنها ذكرى!
كن ما استطعت قوي العزم، عصي الدمع. فسيصهرك الأسى وسيقهرك الدمع، سيلاحقك هذا الطيف، ستستبد بك هذه الذكرى
مصر في أمر مريج: رجال هنا وبنود، ورصاص هناك وجنود، هنا حق مغلوب أبي، وهناك باطل ظلوم قوي، هنا رجال أقوياء بحقهم يزيدهم الإيمان غلوا؛ وهناك رجال أقوياء بسلاحهم يزيدهم الظلم عتوا، ولكن الحق من روح الله فهو نصيره، والباطل من عمل الشيطان فالخذلان مصيره.
الشوارع يومئذ تزخر بأمواج المتظاهرين الثائرين، الشباب دائماً في الطليعة، الرايات الخضر تتردد خفاقة بين أحضان الريح، الموسيقى تعزف أنشودة (الحرية أو الموت) الصليب والهلال يتعانقان بعد أن محت وحدة الألم ما أقره في الأذهان المريضة صاحب (فرق تسد)، السيدات يلوحن من النوافذ بالمناديل والأعلام، ويهتفن في اتصال وانفعال. . بل إني لألمح فتاة شقراء يلفها العلم الأخضر تتقدم الصفوف، وتهتف في صوت حزين رهيب تخنقة العبرات ونبرات طويلة حلوة (شجرة الحرية تروي بالدماء - في سبيلك يا أماه نستشهد)
لقد كنت تلميذاً صغيراً يومئذ، ولكن اسماً وتاريخاً ما زالا محفورين في قلبي. أما التاريخ فهو 19 مارس 1919 وأما الاسم فهو (مصطفى ماهر أمين) الطالب بالسعيدية!! لقد كان مصطفى يقود الصفوف، وصدى المدافع يصم المسامع، والهول يأخذ على الناس كل طريق، وقد انبثت أسباب الموت في كل مكان، وتقسم الجنود الشوارع ينثرون على الجموع رشاش الهلاك، مصائب بعضها فوق بعض
ولكن مصطفى ماض في عزم، راض في ايمان، يحمل العلم عاليا خفاقاً، ويحتمل الألم راضياً فخوراً، عيناه تشعان نوراً وصدره يلتهب نارا وسعيرا، شفتاه تقذفان شرراً، ووالله ما رده اليأس ولا الخوف، ولا صده العنف ولا الضعف، يسوقه الإيمان ولا تعوقه النيران، يدفعه الإخلاص ولا يمنعه الرصاص: رجل والرجال في الدنيا قليل، وهناك. . . عند
شجرة الحرية سالت دماء الرجال والرجال في مصر كثير، وفي لهيب المجد تراكم الوقود من الجنود، وعلى مذبح الفداء تزاحمت من الضحايا الوفود.
طلعت الجنود الإنجليزية من إحدى المنعطفات وراحت مناجل الموت تحصد زرع الوطن، والشباب مع ذلك يستبق إلى الحتوف كلما ذاب صف تقدمت صفوف، ثم سقط مصطفى فتدفقت لرفع العلم ألوف. ويلاه! ما أمر الذكرى ولكن ما أحلاها!! لقد رأيت مصطفى قبل أن يسلبه ملك الموت سر الحياة: عيناه تبسمان في رضا وإيمان، الألم يمزق ضلوعه، الدم يدفق من فمه، شفتاه تهمسان بكلمات خافتة، اكبر اليقين أنها تسبيح بمجد الوطن.
ورأيت الضابط الإنجليزي الذي صرعه بمسدسه على خطوات منه، ورآه كذلك مصطفى، فكأن رؤيته له حلت عقدة من لسانه فهتف (فداء الوطن - لتحيى مصر) ثم أغمض مصطفى عينيه ونقل إلى المستشفى حيث استرد الله فيه وديعته.
هذه هي الذكرى التي حطمت أعصابي أمس، وأزجت إلى روحي الحزن، وكلفتني قطرات من الدمع، ولكني رغم كل شيء لم أتمالك أن ابتسمت من خلال الدموع، لأن في مصر رجالا يعرفون كيف يستحب الموت. حين تكون في الموت حياة. . .
لست أشك أن ذكرى مصطفى - أول الشهداء - قد مست من قلوبكم مكامن الحسرة، بل إني لا أغلو إذا قلت إن غير قليل منكم ترجحت في عينه دمعة أو دمعتان وجرت في عروقه هزة عنيفة، بل سأمضي إلى أبعد من هذا، فازعم ان بعضكم سيقاسي الذي قاسيت من سهد وجهد في دفع الأرق!
أيها الناس! اذكروا (مصطفى ماهر أمين) فقد مات لتحيوا! أيها الوطن! اذكره فقد جاد بدمه لتكتب به سطوراً في صفحة الحرية والمجد والخلود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود
أيها الخلود! سجل اسمه في سفر الأبطال الخالدين
أيتها الجنة: التي أعدت لمن أحسن عملا. أعدي له مكاناً بين الشهداء والصديقين. . .
وأنت يا رب. أكرم مثواه وابسط عليه جناح رحمتك، فقد مات في الشباب
محمود البكري القلوصناوي
في الأدب العربي
شوقي
1351هـ - 1932م
للأستاذ عبد العزيز البشري
هو أحمد شوقي بك بن أحمد شوقي بك. ولد بالقاهرة ونشأ فيها. وقد حدث عن نفسه في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه (الشوقيات) قال: (سمعت أبي يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم هذه الديار يافعاً يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا. . . فادخله الوالي في معيته، ثم تداولت الأيام، وتعاقب الولاة الفخام. وهو يتقلد المراتب العالية، ويتلقب في المناصب السامية، إلى أن أقامه سيعد باشا أميناً للجمارك المصرية). ثم ذكر طرفاً عن سيرة جده لوالدته إلى أن قال عن نفسه: (أنا إذن عربي، تركي، يوناني، جركسي).
وقد كفلته من المهد جدته لأمه، وكانت في يسر ونعمة، على حين أتلف أبوه ما ورثه عن أبيه. ولقد كانت جدته تيك من وصائف قصر الإمارة في عهد إسماعيل. قال:(حدثتني (يريد جدته) إنها دخلت بي على الخديو إسماعيل، وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديو بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه، فوقعت على الذهب اشتغل بجمعه والعب به، فقال لجدتي اصنعي معه مثل هذا فانه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض. قالت هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي. قال جيئي إلي به متى شئت.
فلما بلغ الأربعة أدخل في مكتب الشيخ صالح، وكانت نشأته في خط الحنفي، وقد جاز بعد ذلك متفوقاً بارعاً مرحلتي التعليمين الابتدائي والثانوي. فلما تقدم إلى مدرسة الحقوق اعتل ناظرها عليه لصغر سنه. على انه دخلها ودرس بها عامين. وكان قد أنشئ فيها قسم للترجمة، فعدل إليه ولبث فيه سنتين أخريين، وأحرز الإجازة النهائية. وألحقه المرحوم الخديو توفيق بمعيته. ثم أشخصه على نفقته إلى فرنسا ليدرس الحقوق والآداب الفرنسية، على أن يقضي عامين في مدينة (منبلييه)، وعامين في باريس. حتى إذا أحرز الشهادة
النهائية رأى والي الأمر أن يظل في فرنسا ستة أشهر أخرى ففعل، وعاد بعدها إلى مصر، وتولى منصبه في معية الأمين.
وفي سنة 1896م ناب عن مصر في مؤتمر المستشرقين الذي عقد في جنيف من أعمال سويسرا.
وما برح شوقي يتدرج في المناصب حتى تولى رياسة القلم الإفرنجي في المعية الخديوية. ولما نشبت الحرب الكبرى أزيل عن منصبه. ثم رؤى له أن يغادر البلاد، فاختار برشلونة من أعمال أسبانيا مثوى له ولأسرته. ولم يؤذن له في العودة إلى مصر إلا بعد أن استقر السلام العالمي.
ولقد رأيت أن أكبر منصب سما إليه شوقي في معية الخديو هو رياسة القلم الإفرنجي، على أن نفوذه وسلطانه لقد تجاوزا شأن هذا المنصب إلى حد بعيد، فلقد نال من الحظوة عند ولي الأمر ما لم ينله من قبل أحد. فكانت داره (كرمة ابن هانئ) مثابة طلاب الحاجات، ومورد المستشفعين من كل ناحية، صغار الناس وكبارهم في هذا بمنزلة سواء. فلقد كانت إشارته حكما، وطاعته عند أكثر الحكام من بعض المغانم
ولقد كانت مصر إلى ذلك العهد تابعة للدولة العثمانية، فكان شوقي كثير الاختلاف إلى الآستانة، فلا يكاد يدخل الصيف من العام إلا وهو على جناح السفر إليها، فلا يلقى من أولياء الأمر هناك إلا الإجلال والنزول في منزل الكرامة. ولقد انتهى إلى الخليفة في إحدى السنين خبر مقدمه فأمر بان يقيم ما أقام هناك ضيفاً على مقام الخلافة. وأنعم عليه بالرتبة الأولى من الصنف الثاني وهو يتقدم بها على بعض من يحملون لقب الباشوية. كما انعم عليه بكبار الأوسمة من الدولة العلية، ومن ألمانيا (قبل الحرب) ومن الدولة السورية.
وكان، رحمه االله، شغفاً بالسياحة في الغرب وفي بلاد الشرق القريب، ولكنه في مؤخرات عمله قصر سياحاته على البلاد السورية واللبنانية، فيلقى من أعيانها وأدبائها أبلغ العطف وأعظم الإكرام.
وفي سنة 1927 عقد في مصر مؤتمر لتكريمه اشترك فيه عنق من رجالات مصر وعلمائها وأدبائها، وحضر إليه عدد غير قليل من أعيان الأدباء في الأقطار العربية. وتوجت حفلة التكريم برعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فؤاد الأول حفظه
الله لقد عاش شوقي مبجلا عالي الاسم، رفيع المنزلة. فلما قبض إلى رحمة الله تعالى أقامت له وزارة المعارف بالاشتراك مع طائفة من أعيان أهل الفضل والأدب حفلة تأبين دعت إليها كبار العلماء والأدباء في الأقطار العربية. وشرفها جلالة الملك المعظم بنائب عن ذاته الكريمة. وقد أقيمت هذه الحفلة في دار الأوبرا الملكية في شهر ديسمبر من السنة التي قبض فيها.
وبعد، فقد تقلب شوقي من أول نشأته في النعمة، وأصاب ما شاء من متع الحياة، ولو قدر لخلق من الناس أن يدركوا كل مناهم، وأن يبلغوا الحياة مدى أشرها، لكان شوقي من أحد هؤلاء
وإذ قد عرفت هذا فلا يتعاظمنك ما ترى من شيوع الترف في شعره، فلا تقع من تشبيهاته، في غير المآسي، إلا على كل فاخر ثمين
صفاته وأخلاقه
كان شوقي ذكيا وافر الذكاء، حيا جم الحياء، لا يتبسط في الحديث إلا إذا خلا له وجه صديق أو صديقين. ولعل بعض ما حمله على هذا أن طلاقة لسانه لا تكافئ فصاحة قلمه، ولا تواتي مطالب عقله، يكره الدخول في زحمة الناس، وينفر من شهود الحفل الجامع؛ إلا أن ينقبض في ركن من ملهى أو ملعب، وادع النفس، هادئ السعي. لا تراه يعنف، وقل أن يستفزه الغضب. عطوف شديد العطف، رحيم كثير الرحمة. ينفر من ذكر المآسي ويفر من رؤيتها فراراً. على أنه مع هذا قد راض نفسه على الصبر على المكروه، ودربها على الرضا بالقضاء واقعاً حيث وقع. فإذا لحقه المكروه راح بذهنه يستخرج من بعض نواحيه خيراً. فان تعذر عليه استراح في النهاية، إلى أن الله تعالى إنما دفع به ما هو أكره.
وهو دائم الاعتداد بما يعتريه من النعماء، فإذا دقت وصغرت جعل يجلها ويعظم، ولو بالتخييل، من شأنها. وعلى الجملة فان هذا الرجل لو انحدرت عنه كل نعمة لعاش من رضاه في أوسع نعمة. وعلى هذا لقد كان من أقل الناس شكوى من زمانه. ولعل أوجع ما شكى فيه قوله
أحرام على بلابله الدو
…
ح حلال الطير من كل جنس؟
وهذا قاله وهو منفى من وطنه. ولقد جعل الله النفي من الوطن عديلا للقتل والصلب
وتقطيع الأطراف. قال جل مجده: (إلا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض). وأي رجل هذا المنفى من وطنه؟ هو الذي يقول في هذا الوطن من القصيدة نفسها:
طني، لو شغلت بالخلد عنه
…
نازعتني إليه في الخلد نفسي!
ولقد كان شوقي شديد الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر. ولم تحص عليه في هذا الباب زلة لسان أو عثرة قلم، وكان شديد الحنين إلى السيد المسيح صلوات الله عليه، دائم الذكر له في شعره ما واتته المناسبة. يذكره في عطف وشوق ولهفة، وإذا ذكرت ما ركب في طبع هذا الشاعر من الرقة والرحمة والحنو ودعة النفس أدركت الوجه في إيثاره لاسم هذا النبي الكريم بكثرة الإشادة والترديد
على أن شوقي. على شدة إيمانه هذا، كان في شباب السن مستهتراً بلذائذ الدنيا، مسرفاً في الإصابة مما يطيب له منها، لا يتأثم في هذا ولا يتكلف مداراة الناس، فبلغ فيه حداً يشبه الإباحية، ولكنه حين لحقته السن، قصر متعته على شهود (السينما) وحضور مجلس الغناء، وله من بلائه في النضح عن دولة الإسلام وفي مدحه لسيد الأنام أعظم رجاء في كرم العاقبة وحسن الختام ولقد قال في (نهج البردة)
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل
…
في الله يجعلني في خير معتصم
وهو بعد هذا مفتن بأجمع معاني الكلمة، يكلف بفنه إلى حد الافتتان، بل إنه لا يكاد يرى الرجل كل الرجل يتمثل إلا في الشاعر.
ولا يرى للحياة في جميع صورها غاية إلا قرض الشعر. انظر كيف يقول على لسان إحدى من ينسب بهن:
جاذبتني ثوبي العصى وقالت:
…
أنتم الناس أيها الشعراء!
ولقد كان إلى هذا شديد التمكن من نفسه حتى ما يرى في الدنيا شاعراً يباريه أو يتعلق بغباره.
شاعريته
لم يطاول شوقي في قرض الشعر ولم يجهد فيه؛ بل لقد جاء به فتى؛ وأطلقته قريحته الغضة عالي المعنى، فخم اللفظ؛ متلاحم النسج، ومدج الخديو توفيقاً وهو لما يزال طالباً
حدثاً، ونشرت مدائحه يومئذ في (الوقائع المصرية) وارتفعت من قورها إلى ولي الأمر. فدل هذا على أن فيه طبيعة؛ وانه أوتى الموهبة. ثم لقد كشف الزمن عن ان تلك الموهبة من الضرب الرفيع الغالي الذي يضن بنفسه على الأجيال
ولا شك في أن المواهب الفنية لا تعلل. فان حاولت أن ترد هذا إلى أنه قد دخل في أصله العنصر العربي، فهذه ملايين الخلق من خلص العرب، لم يقولوا الشعر ولم تنتضح به ألسنتهم، وأكثر من عالجوه منهم لم يرتفعوا إلى شيء من حظ شوقي، وإن أنت رددته إلى أنه جرى في أعراقه الدم اليوناني، فهذه الملايين من اليونان الخلص لقد تعذرت عليهم ملكة الشعر فلم يجيئوا منه بجيد ولا برديء
نعم، لقد يكون للعنصر وللدم دخل في توجيه شاعرية الشاعر، وتكوين عقليته وفي تصوير منطقه، وتلوين عاطفته، والذهاب بنزعته مذهباً خاصاً. ونحو ذلك. أما أن ذلك مما يخلق الموهبة خلقاً، فهذا مالا يكون.
شعره
تقدم لك في أثناء هذا الكتاب صفة الشعر في العصر الحديث (من الحملة الفرنسية). وكيف كان يغلب عليه الضعف والإسفاف، والدوران في فنون من الأغراض لا غناء فيها لمطالب العاطفة، ولا لحاجات المجتمع. ولقد نجم شوقي أول ما نجم والكثرة الغامرة من جمهرة الشعراء على هذا؛ على أنه من يمن طالعه أن تقدمه إلى قرض الشعر أفذاذ ثلاثة: عبد الله فكري، ومحمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري. فدلته الموهبة عليهم، وعدل من فوره إلى احتذائهم، وانتهاج طريقهم في تجويد الشعر باصطفاء اللفظ، وإحكام الصياغة، والاحتفال للمعاني، وعدم استهلاكها في سبيل البديع، صنع أكثر من يقوم في العصر من الشعراء.
ولقد كان في صدر شبابه كلما قرض قصيدة أو نظم مقطوعة من الشعر عرضها على إسماعيل باشا صبري، وهو شاعر قد بلغ الغاية من دقة الذهن، وكمال الذوق، ورهافة الحس، فلا يزال يعالج معه ما عسى أن يقع من قلق في اللفظ، أو انحراف في المعنى، أو نشوز على مواقع الجمال. وتلك كانت سنة كثيرة من الشعراء من قديم الزمان.
وشوقي، فوق هذا، كان شديد الاكباب على قراءة الكتب بوجه عام، وكتب الأدب على وجه
خاص، ودواوين الشعراء على وجه أخص. ومن أعظم من عنى بقراءة دواوينهم، واستظهار أشعارهم، وانتهاج طرائقهم، ومباراتهم في منازعهم. أبو نواس، وأبو تمام، والبحتري، والمتنبي. وقد نضح أربعتهم على شعره، فكان أثر كل منهم فيه بينا. وإنك لتلمح فيه حلاوة أبي نواس ودقة وصفه، وتصرفه في فنون الغزل، وإشادته بمجالس اللهو، وافتنانه في الخمريات، كما تلمح فيه احتفال أبي تمام للمعاني الرفيعة والارتصاد لإصابتها مهما جشمه ذلك من إعنات اللفظ وجلجلة الصياغة. ولقد تلمح فيه هلهلة البحتري، وإحكام نسجه، وبراعة نظمه. أما أثر المتنبي في شعره ففيما ترى من شيوع الحكمة والإكثار من ضرب المثل
ولا يذهب عنك أن هذا الكلام ليس معناه أن شوقي إنما هو مستعير منهم ومقلد لهم. بل الغرض أنه استظهر أشعارهم فاتصلت بذوقه، وجرت في عروقه، وخالطت طبعه فنضحت على قلمه.
والواقع أنه إذا كانت أشعار هؤلاء الشعراء وغيرهم من العناصر التي دخلت على شاعرية شوقي وجلته في هذه الصورة، فانه مما لا شك فيه أن للرجل شخصيته القوية الخاصة به، والتي ينفرد بها عن سائر من عداه من الشعراء، حتى إنك لو عرضت شعره على أهل البصيرة من نقدة الكلام لما ترددوا في نسبته له وإضافته إليه، شأن غيره من فحول البيان. واعلم ان احتفال الشاعر للمعاني حتى ليقلق الألفاظ في سبيلها لا ينافي اجتماعه في بعض الأحايين لاحكام النسج وتجويد الصياغة. والشاهدة على هذا ما نرى في شعر أبي تمام والبحتري كليهما.
ولا شك أيضاً في أن من العناصر التي دخلت على شعر شوقي فذهبت به هذا المذهب حذقه اللغة االفرنسية، وسعة اطلاعه فيها على أدب الغرب، وترويه عيون بلاغاته. ومن الحق أن يذكر له في هذا المقام، أنه كثيراً ما مس فمن معاني القوم أو لمحها في شعره، ومع هذا لقد جلاها عربية خالصة لا تنشز على الذوق العربي، ولا يجد هو فيها ريح الاستعجام. وإذا ذكرنا أن شوقي من أوائل من ارتصدوا لهذا وعالجوه في العصر الحديث، فجاء به عربياً خالصاً في مثل هذا اليسر، قدرنا بمبلغ كفايته وتبريزه في فنون البيان.
كذلك من العوامل التي لها أثر واضح في شعر شوقي نشأته في بيت الملك، ومقامه في
بطانة الأمراء وظهارتهم، ودخوله في أدق الأسباب السياسية في مصر، سواء ما اتصل منها بالدولة المحتلة (إنجلترا) أو بالدولة المتبوعة يومئذ (تركيا).
وفي الغاية، لا تنس أثر سياحاته الكثير في بلاد الغرب، وفي بلاد الشرق القريب، ومخالطته لأصناف الخلق، ووقوفه على طباعهم وأخلاقهم ومأثور عاداتهم، وما تجلى من صور الطبيعة في بلادهم، وغير ذلك مما لا يتهيأ لكثير من الشعراء.
وبعد، فمما لا يعتريه الريب أن شوقي يعد بحق، من أعظم أقطاب الشعراء في العالم العربي كله؛ بل إن بعض النقدة ليتخطى به القرون فيصله بأعلام الشعراء في أزكى عصور العربية وأنضرها بياناً
ولقد تصرف شوقي في كل فن، وجال في كل غرض، وأصاب من كل مطلب، فبذ وبرع. وعارض متقدمي الشعراء ومتأخريهم فما قصر ولا تخلف. ولقد ظل جيلا ونصف جيل يرسل غالي الشعر، ما وقع في البلد من حدث إلا جلجل بالقريض، ولا كانت الجلى في رجاً من أرجاء العالم إلا نظم ما تتقطع من دونه علائق الأقلام.
وهنا ينبغي أن يذكر له ولصاحبه حافظ ابراهيم، عليهما رحمة الله، انهما من أوائل من بعثوا الشعر في الأغراض العامة، وخاضوا به في المسائل الاجتماعية، فأغنوا وأجدوا، وأصبح أثرهم في هذا الباب ثابتاً على وجه الزمان.
ومن خصائص شوقي في شعره أنك قد تراه يمدح أو يرثى أو يتصرف في غير هذين الفنين من فنون القريض، ولكنه لا يفتأ ينحرف عما هو بسبيله إلى ضرب مثل أو إجراء حكمة فيها كل النفع لو قد أخذ بها الناس.
وهو طويل النفس جداً حتى لقد يبلغ بالقصيد المائة، وقد ينيف عليها في غير قلق ولا إسفاف. ولقد بلغت قصيدته (كبار الحوادث في وادي النيل) مائتين وتسعين بيتاً أكثرها من مصطفى الشعر ومتخير الكلام.
وله مقطوعات شعرية يرجعها بعض حذاق المغنين اليوم ومن شعره الذي لو تقدم به الزمان لكان حقيقاً بان يتغنى به أمثال إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق قوله من قصيدة (لبنان):
دخل الكنيسة فارتقبت فلم يطل
…
فأتيت دون طريقه فزحمته
فازور غضباناً وأعرض نافرا
…
حال من الغيد الملاح عرفته
فصرفت تلعابى إلى أترابه
…
وزعمتهن لبانتى فأغرته
فمشى إلي وليس أول جؤزر
…
وقعت عليه حبائلي فقنصته
قد جاء من سحر الجفون فصادني
…
وأتيت من سحر البيان فصدته
لما ظفرت به على حرم الهدى
…
لابن البتول وللصلاة وهبته
وديوان شوقي رحمه الله يقع في أربعة أجزاء، طبع منها اثنان. وله غيره من الشعر كتاب (عظماء الإسلام)، وكشكول جامع لقصائد لم تنشر، وقصائد سهلة للأطفال والأغاني، وربما استغرق هذا الكشكول ثلاثة أجزاء. وله في النثر كتاب (اسواق الذهب) جارى فيه الزمخشري رحمه الله في كتابه (أطواق الذهب) وله روايات شعرية وهي: على بك الكبير، وكيلوبترا، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعنترة، وله روايات أخرى نثرية منها: لا دياس، وورقة الآس، ومذكرات بنتاؤر، وأميرة الاندلس. ومن هذا تدرك مبلغ إنتاج الرجل وسخاء ذهنه من يوم نجم إلى أن أدركته الوفاة.
من طرائف الشعر
إلى الشتاء
للأستاذ محمود الخفيف
أيها الراحل العنيد وداعا
…
قد سئمناك من زمان بعيد
كم تظاهرت بالرحيل خداعا
…
فظننا خطاك تمضى تباعا
فإذا أنت مقبل من جديد!
طال شوقي إلى الربيع فهيا
…
يا شتاء حويت كل عجيب
مذ تراأيت مكفرا عتيا
…
تنذر الناس بكرة وعشيا
بضحى شاحب وليل كئيب!
حين أقبلت يا شتاء علينا
…
في بنود من السحائب سود
جئت قبل الأوان تسعى إلينا
…
وتوغلت في الربوع لدينا
بين دمع الحيا وضحك الرعود
هازئا بالغصون ألقيت حلاها
…
وتعرت على امتداد الضفاف
ولَّه الطير عريها فتراها
…
نازحات تغربت عن حماها
في فروع الكروم والصفصاف
وترى كل جدول أو غدير
…
ناضب القاع بعد طول امتلاء
يشتكي الجدب في زمان مطير
…
ويطيل السكوت بعد خرير
قبل لقياك كان حلو الغناء
شبح أنت يا شتاء مخيف
…
ماثل الطيف دائماً في خيالي
قارس البرد زمهرير شفيف
…
عاصف أينما حللت عنيف
هيكل قدّ من سواد الليالي
لست أنساك حين لحت عشاء
…
فوق كوخ تناوبته الرياح
لم يجد ساكنوه منك وقاء
…
فتراهم أذلة أشقياء
ما دجا الليل أو تراءى الصباح
لست أنساك إذ تمثلت يوما
…
شبحا لاح في زوايا الطريق
أورئته الحياة بؤساوهما
…
شاحب الوجه زاده الجوع سقما
ناحل الجسم في كساء عتيق
أنت كالدهر قُلَّبِيٌّ كذوب
…
لا يروق العيون منك صفاء
هادئ تارة وطورا غضوب
…
يعقب البشر ان صحوت قطوب
مثلما يعقب النعيم شقاء
أيها المُؤْذِني بليل رهيب
…
وصباح مجلل بسواد
ونهار هامي الدموع كئيب
…
لست أقسى إساءة من حبيب
لج في الصد بعد طول وداد
يا شتاء شيعته في جفاء
…
لست أقسى من الجهول الظلوم
لست أقسى عداوة من مراء
…
أو جحود فؤاده من عداء
مشرب اللون من سواد الغيوم
الجندي القديم
للأستاذ فخري أبو السعود
لقد كان يوما شديد الأياد
…
رشيق القوام نضير الصِّبا
يقضِّى مع الصحب ساعَ السرور
…
وينهب والغيدَ صَفوَ الهوى
وتحلو أحاديثه للرفاق
…
إذا جمعتهم كؤوس الطلى
فَنَبَّهَهُ ذات يوم نداءٌ
…
إلى الحرب يدعو فلبَّى النِّدا
لِيحمى أوطانه في الحماةِ
…
ويدرأ كيد عدوِّ طغى
ويَدفَعَ عن أرضه فهي كهف
…
الحضارة طرَّا ومأوى العلا
ويقتحم الموت من أجلها
…
ويَلقى الحديد ويَصلى اللظى
ويأخذ بين الصفوف مكان
…
الأُلَى طحنتهم تروسُ الرحى
فقاسى أذلاها وأهوالها
…
ودافع ما شاء أو لم يَشا
وصادف في كل يومِ حماماً
…
وذاق من الخوف ألْفَىْ رَدَى
فإذ كادت الحرب أن تنجلى
…
ويَطرِحَ الجند ذاك العنَا
وآن له أن يعود قريراً
…
لأوطانه بعد طول النوى
أُتيح له قاذفٌ فرماه
…
بمارج نارٍ إليه هوى
فطاح بساق له بعد ما
…
تراءى قريباً بعيد المنى
ولم يَدرِ ثَمَّتَ مَنْ ذا رماه
…
ولم يدر واتِرُهُ مَن رمى
وأيَّ فؤادٍ دَهى فأثارَ
…
به الحسراتِ طِوالَ المدى
وما اجتمعا قبلها في مكان
…
ولا التقيا بعد ذاك اللقا
ولكنها محن ثَمَّ تهوى
…
على خائضيها هُوِىّ القضا
فآب بساقٍ إلى قومه
…
وقد غُيِّبَتْ أختها في الثرى
فقلده الحاكمون وساما
…
وأثنوا عليه جزيل الثنا
وقالوا افتدَى وطناً غاليا
…
بِعضوٍ ثمين فنعم الفدى
وأجرَوْا عليه الكفاف جزاءً
…
على ما سعى وعلى ما جنى
وعاد إلى داره مفردا
…
يقَضِّي الحياة إلى المنتهى
ذوى عوده وانحنى رأسه
…
وجلل فوديه شيبٌ بدا
بجانب موقده يصطلى
…
بياضَ النهارِ وشِطْرَ الدجى
وحيداً فبالصحب عنه اشتغال
…
بِرَوْم الصفاء ونَشْدِ الغنى
يدخن مسترسلا في الخيال
…
ومستغرقا في قديم الرُّؤَى
ويَذْكرُ وسْطَ دُخَانِ الطباق
…
دُخَانَ الحروبِ ونارَ الوغى
وكيف ألمَّتْ به الغاشياتُ
…
فخاض دُجاها وكان الفتى
وكم كرَّ بين صفوف العدوِّ
…
فأوْقعَ في القومِ ثم انثنى
ويروى وقائعه الرائعات
…
لأَيٍّ أصابَ وأيِّ رأى
ويسردهن عليه مراراً
…
وهيهات يسأم مما روى
ويسردهن على نفسه
…
إذا هو لم يلق سمعا وعى
فان راح يبغي الرياضة يوماً
…
ويبعث بالسير مَيْتَ القوى
فصاحبه كلبه في المسير
…
وعكازتاه بحيث مضى
آذار أمي
للأستاذ زكي المحاسني
أستاذ الآداب العربية بتجهيزية دمشق ودار المعلمين
الورد لا وردي ولا زهري
…
زهر الربيع الفائح النَّشْر
غنيت والأحزان مائجة
…
تهتاج مثل البحر في صدري
أهل الهوى قاموا لنزهتهم
…
دوني وهم يدرون ما عذري
وأتيت مهدوماً منهنهة
…
عيني بكاً ودنوت من قبر
فنثرت أساً فوقه وهمي
…
دمعي على أوراقه الخُضر
أمي بهذا القبر هادئة
…
وأنا فُجعت بها على الدهر
مَثَّلتُ آذاراً لا نعته
…
بالشعر فاستعصى على الشعر
فوصفته بالوهم أهمسُه
…
معنى أدقَّ كلمعة الفكر
ناجيت فيه الريح صافرة
…
والغصن منعطفاً على النهر
ورأيت في غلوائه أسفاً
…
كم يزهد الإنسان أو يغري
وأصخت للأطيار فاندفعت
…
كفى على قارورة الخمر
أسكرت آلامي لأسكنها
…
يا ليت لا تصحو من السكر
شرْخ الشباب حملت رائقة
…
وغداً يسير بمهيع العمر
هو مثل آذار على سَفرِ
…
لكن بلا عَوْد من السَّفر
آذار سرُّ الحب في يده
…
أفضى به في مطلع الزهر
حب جديد
قفوا دون هذا الحب لا تتركوا له
…
سبيلا إلى نفسي فإني مغلق
فقد أوصدت قلبي هموم تجمعت
…
على دورة الأيام لا تتفرق
رأيت الهوى يسعى بوجه مخادع
…
ويلقى شباكا علني أتعلق
يلوِّح باللذات تلويح غادر
…
وما أعجب اللذات: تسقى وتحرق!
ففيها حياة عذبة، ثم مرة
…
مقيدة يوما وفي الغد تطلق
ويرقص فيها الموت رقصا مروعا
…
وينهل منها الخير، والشر يورق
يطل عليها الشعر بالوحى من عل
…
ويرتع فيها الفحش يشدو وينعق
ويحنى لها الدهر المراوغ هامه
…
وفي مقلتيه بسمة تتألق
فقلت له: عني! وحسبي ما مضى
…
وحسبك أنى هيكل متمزق
ملكت جناني مرة بعد مرة
…
فكنت شبابي تستبيح وتسحق
ولم الق إلا ذلة ومهانة
…
ولم تك تصغى للشكاة وتشفق
فدعني إلى من لم يكابدك عمره
…
فلن يفتن التجريب حسن مزوق
باريس
حسن عارف
قلبي!
كان كالخيمة في أعلى الجبل
…
كل ريح بالهوى مرت عليها
وإذا هبت لها ريح الأمل
…
مرةً لم تنعطف يوماً إليها
وأنا في جوفها أقضي الحياه
…
حائرا ما بين يأس ورجاء
كلما افترَّت من الريح شفاه
…
خفت أن يقضى علينا بالفناء
وانقضى في خيمتي عهد الصِّبى
…
ناعماً بين أمانٍ ووعود
تتهادى فوقها ريح الصَّبا
…
في حنان مثل أنفاس الوليد
كلما مرت بها تلك الرياح
…
قبَّلتها قبلة الأم الحنون
فتُرى كالطير يهفو بالجناح
…
بعض حين ثم يغشاها السكون
قلت يا بشراي لَو مر الشباب
…
مثلما مر الصِّبى حلو المصير
فإذا أيامه بحر عبُاب
…
ثائر اللجة مرهوب العبور!
وأتى في عهده يوم عصيب
…
كالح الوجه كأشباح الكهوف
طالع الناس بإنذار رهيب
…
فقضوه هربا تحت السقوف
وأنا في خيمتي نهب الشجن
…
قلق الأحشاء كالطير الذبيح
مرغم! مالي سواها من سكن
…
تفزع النفس له أو تستريح
وجميع الكون حولي مُغرَقٌ
…
في سكون ليس يدري شاطئيه
وظلام الكون جهمٌ مطبقٌ
…
عمى الناظر فيه عن يديه
وإذا ريح على البعد تثور
…
في جنون يملأ الجو دويا
ألهبت قلبي بسوط كالسعير
…
ثم ألقته أباديدَ عليا
ويح للقلب الذي كان صبيا
…
يستقى في الحب كأس الأمل
خانه الحبُّ فأراده فتيا
…
ليت شعري من ترى يحييه لي؟
فريد عين شوكة
في الأدب الألماني
الشاعر نوفاليس
1772 -
1801
للأستاذ خليل هنداوي
غالى قوم في نعتهم (نوفاليس) بنبي المدرسة الرومانتيكية الألمانية، وقد كان لنوفاليس تأثير واضح في تشييد دعائم هذه المدرسة في عصر كان الأدب الألماني فيه حائراً تتهاداه السبل، وتتقاذفه الشكوك. ولكن هذا التأثير لا يجعل من نوفاليس نبياً قدسي الآيات، ولعله كاد أن يكون نبياً وفوق النبي لهذه المدرسة، ولو لم يقتطف الموت زهرة صباه عاجلا قبيل أن تتفتق، لكن قلبه النضير، قلبه الشاب استطاع أن يسبح في عوالم الشعر. ويعود - بعد طوافه - غنياً بما جمع والتقط وكثير ما هم النبغاء الذين تنبغ قلوبهم قبل ان تنبغ أعمارهم، ويفيض عبيرهم قبل أن تتفتح أزهارهم، ويمضون سراعاً وهم في مقتبل العمر، وقد تركوا وراءهم دوياً لا ينسى ابد الدهر، شأن شيللي وكيتس ونوفاليس. لكل نابغة - في مقبل عمره - مثال من النوابغ المعجب بهم، يتأثر به ويتشيع له ويترسم خطواته. وكان (شيللر) مثل (نوفاليس) الأسمى، كان مثله في البراعة والعظمة والكمال. وشيللر هو الذي أحيا في نفسه هذه الميول، ودفع به إلى الحياة الشعرية،
خبت في نفسه هذه الميول، ثم ما لبثت أن هبت ثانية على أثر مطالعته كتب (ويلهلم مستر) وعكوفه على هذه الكتب يتلوها تلاوة وجد وهيام، فطبعت في نفسه لحناً رومانتيكياً وولدت عنده حقائق عميقة محاطة بالرموز، ولكن هذه الميول ظلت هامدة ساكنة لا يقوي شيء على إظهارها، حتى عرضت لعينيه غادة أحلامه متمثلة في (صوفيا الصغيرة) التي لا تتجاوز الاثني عشر ربيعاً. فخطبها فكان له ذلك، ولكن القدر كان قاسياً، فانتاب الفتاة داء لم يمهلها إلا قليلاً، فتيقظت ميوله واهتاجت عواطفه، وبكاها ما شاء له البكاء، ينظم فيها الشعر ويجعلها مثله الأعلى في الوجود. ويعتقد أنها حية في نفسه لم ينهبها موت، وإنما الميت هو نفسه، وأنها سبقته إلى ذلك العالم تدعوه إليها. فيسأل: (هل في استطاعة الإرادة البشرية التي تحول وتبدل ما تشاء في هذا العالم أن تجوز أبواب الأبدية؟. .
ويقول: (أود أن أموت، لا موت ذلك الكائن البالي الذي عافته الطبيعة، أود أن أموت كالعصفور المتنقل الذي يسعى وراء أقطار جديدة، أو أن أموت فرحاً كالشعر الفني) وبهذه العاطفة التي تجعل تشاؤمه مضيئاً كتب (أغانيه لليل) بأسلوب شعري منثور، لم ينقصه الوزن شيئاً من روعة معانيه، ولم يضع نثره من العاطفة الشعرية. يغلب على أغانيه شيء من الطرب القائم، يناضل به صاحبه الشقاء. هذا هو الطرب الذي خفف من شقائه، وهذه هي الفتوة التي كانت تزين له الأحلام وتنقله من حياته هذه إلى حياة اكثر سعادة وأحسن أملا.
أراد (نوفاليس) أن يطرق عالم الفلسفة فغلب عليه خياله، وتبدو في كتابه (الأغاني) و (الدفتر اليومي) فكرته التي تدور حولها فلسفته، وهذه الفكرة يريد من ورائها ان يفرض سلطة الروح بدون واسطة على المادة وعلى الاشياء، كما هو الحال في العلم الذي يسيطر عليها، وهذه الفكرة هي (علم السحر) ويعتقد أن إزاء فن المنطق الذي يعتمد على الأقيسة العقلية والبراهين الفكرية فناً هو أسمى منه، يدعوه (عالم الوهم) وهذا الفن هو أن نعرف كيف نستنتج بصورة نفسية فنا نعمل به على تحقيق أحلامنا وأوهامنا، وغير مغنيك شيئاً أن تسأل (نوفاليس) عما ينتج من هذا الفن من فائدة، فانه يطلب إليك إزاء إلحاحك الكثير أن تغادره سعيداً في أقطار أوهامه وأخيلته، وهذا المعتقد الفلسفي قد أثر تأثيراً واضحاً في روحه الشعرية، وما كانت هذه الروح إلا أثراً من آثار هذا المعتقد الذي يشيع في كل جوانب نفسه، فيحس في نفسه ميولا عميقة لا تقل غموضاً عن جوهرنا الذاتي، لا أسماء لها ولا القبض عليها بمستطاع، فيوجب على الشعر أن يوقظ فينا مثل هذه الميول، لأن الشعر هو لسان باطني، وتعبير تحدث به النفس ذاتها، وعليها أن تنفر كثيراً من الصيغ الواضحة كل الوضوح لأن كل وضوح وكل حد تحمل عليه النفس يحدد آفاق النفس التي يجب ألا تحد.
الموسيقى هي الفن الأول، والشعر هو أولى الفنون كلها بالتقرب من فن العزف والضرب على الأوتار، وكما أن الشعر يهتك الأستار ويهبط علينا بالأسرار، فالموسيقى تحمل إلينا معاني الطبيعة الخفية المستورة وتعبر لنا عن نفس الطبيعة، ونفس الطبيعة عنده هي الشيء الغريب، والشاعر هو الذي يعطل فينا ملاحظتنا العادية للاشياء، ويرينا الخليقة كما
تبدو للأنظار في الوهلة الاولى، هو يعجبنا ويذهلنا وهو بعد ذلك عندليب مترنم.
هذا هو مذهب (نوفاليس) في الشعر أعلنه يوم كانت المدرسة الرومانتيكية في بدء عهدها. وعده بعض أنصار هذه المدرسة نبياً للمدرسة، على ان هذا المذهب الذي جاء به لو حلله النقاد وعمل على مقارنته بالمذاهب الرمزي لرأى أنه أدنى إلى الرمز منه إلى المذهب الرومانتيكي، لأن صاحبه رمزي وأكثر تمسكاً بالرموز من أصحابها بها. ولكن ذلك الجيل كان يجهل بواعث الرموز، وفلسفة ذلك الجيل لم تصل إلى تقرير المشاعر الباطنية في النفس تقريراً علمياً. فلم ير ذلك الجيل إلا أن يحشره مع المدرسة االرومانتيكية، وإن لم يكن منها.
أليس نوفاليس هو الذي يعلن أن هنالك ميولا خفية لا تسمى هي ما يجب على الشاعر أن يوقظها ويخرجها بلغة لا يفسدها الوضوح، وهذا المذهب نفسه هو الذي إلى (الرمزيون) على أنفسهم أن يظهروه. وجعلوا أصحابه أصحاب مدرسة جديدة في الشعر. ولم ينس نوفاليس تأثير الموسيقى في الشعر، فأوجب على الشاعر أن يكون نظمه وإيقاعه للألفاظ إيقاعاً موسيقياً، لأن الموسيقى لغة النفس
ولكن تلك الفاجعة التي نزلت به في مطلع صباه، جعلت منه شاعراً متألما يتغنى بألمه، ويأبى أن يظهر والألم غالب عليه فيضحك للألم ويطرب للشقاء، ويرشف دموعه ناعما كما يرشف الطائر الظمآن دماءه، وفي هذه المجالي تسمع نفسه تشكو وصدره يزفر، وترى عينيه محدقتين في العالم الموهوم الذي تصوره وشاء أن يسكنه
روح (نوفاليس) الرومانتيكية تبدو في رواياته التي كتبها لنفسه، لأنه لم يستطع أن يدخل إلى العالم ويعاشر سكانه ويعرف أهواءهم، لأنه شاعر غني يريد أن يوزع ما لديه بعد أن ضاقت جوانب نفسه بكنوزها، هو لا يأخذ ولكنه يعطي. وهكذا نرى (نوفاليس) شاعراً في رواياته، شأنه أن يجود وأن يعطى. .
وضح مذهبه الشعري جليا في روايته (هنري دوفتر ينجين) التي جاءت ناطقة عن نفسه. نوفاليس الذي فقد (صوفيا) وهام بعدها هيام الجنون، قد وجدها مرة ثانية حية في (جوليا) فأحب هذه وكأنه يحب صوفيا، وخطبها كأنه يخطب صوفيا فأطفأ هذا الحب الجديد كل ما لقي من كآبة وسأم. وأخذ يستقبل الحياة بقلب يخفق مرحا. ويشيع عهده الأول ليدخل في
عهد ثان طافح بالأمل والرجاء.
بدأ يكتب روايته هذه، ولكن القدر لم يشأ له أن يكملها. فألف جزأها الأول، وترك بعده مقطوعات منثورة قد تتم معنى روايته وتظهر الغاية التي سلك إليها. يبدأ جزؤها الأول بحلم وينتهي بقصة، وكلا الحلم والقصة جزءان متلائمان منتظمان يعبران عن نفسية البطل (وبطل القصة) خلق شاعراً، ونشأ تحت رعاية والديه، يقضي وقته متأملا متنقلا في مروج الخيال. دون أن تحول حوائل بينه وبين ما يصبو إليه.
رأى في حلمه الزهرة الزرقاء، وهي مثل حياته الأعلى، ورأى انه إذا أرادها لنفسه، فمن الواجب عليه أن يهجر وطنه، ويسيح في أقطار الأرض وبقاع العالم. فأطاع هذا الهاتف النفساني، وسار في الأرض يتأمل في أقطار تقع عليها عيناه. وفي طريقه التقى بالساحر الشاعر (. . .) وهو الذي ألقى عليه بعض فصول ممتعة في الفن، وأفهمه مخاطر الهيام، وأدلى إليه بفائدة التأمل والتمحيص. وكان لهذا الشاعر الساحر ابنة جميلة، ما أن وقع عليها نظر هذا الهائم حتى جن بها، واعتقد أنها هي (الزهرة الزرقاء) التي وجدها في حلمه. فشغف بها شغفاً شديداً، ولكن المنية داهمتها فقضت نحبها - وهذه الجميلة لم تكن إلا (صوفيا) محبوبة نوفاليس الأولى - ثم واصل الشاعر الفتى سياحاته في الأرض، ما زاده موتها إلا كلفاً وهياماً
ثم تأتي أجزاء الرواية المنثورة فنفهم منها أن البطل سيعرج على إيطاليا ويعرج على اليونان، ثم يسيح في بلاد المشرق. ثم يجتمع بالشاعر الساحر، فتقوم - هنالك - مجادله شعرية فنية ثم يتعرف الشاعر الفتى إلى فتاة تمثل (الزهرة الزرقاء) وتحل محل الأولى - وهذه الجميلة الثانية هي (جوليا) محبوبة نوفاليس الثانية. - فتجدد له حياة زاهية الألوان. وتبنى له من الأرض الغبراء سماء ساطعة الأضواء. فيرى الشاعر في وجهها وجه الأولى، وهما متحدان مقترنان في وجه واحد سام كامل، وهكذا تنتهي سياحة الشاعر.
والشاعر بعد أن ساح في أقطار الارض، وبعد أن تعرف إلى صور كل شيء، لم يبق له وراء ذلك لا أن يطوي نفسه، ويدخل إلى عالم نفسه - كما يقول نوفاليس في إحدى مقطوعاته - (ألا إن كل شيء يقودني إلى نفسي!) وهذه هي الفكرة التي بنى عليها نوفاليس روايته.
فالرواية لا تتخذ لها أجواء إلا أجواء النفس، وهي ضعيفة بحقيقتها واسعة بخيالها، تمتزج خيال الشاعر ولا تلائم حقيقة الفيلسوف. قد اجتمع فيها كل ألم الشاعر وآماله. وكل ما اعتقد ويعتقد من قواعد في الشعر والفن. وهذه الرواية هي أدنى إلى القصيدة الشعرية منها إلى القصة التي تعتمد على الألوان الخارجية. وهي قصيدة طويلة عميقة الخيال، بعيدة الغور، تصل إلى أعماق الباطن والنفس، يظهر فيها نوفاليس الشاعر وراء الشخصية المبهمة التي تلبس بها. تلك الشخصية التي تستفزها الأحلام وتهيجها الآمال وتفهم الجمال الكلي الذي لا يموت بموت الملامح.
روح وادعة تنظر إلى الوجود بعين الأمل والرضا، يريد صاحبها ان يحمل شقاءه كصديق، ولا يريد أن يوليه مملكة قلبه وعقله كالغالب يعيث فيها فساداً. لأنه يرى نفسه مرتاحة بهذا النزر من الشقاء قال عنه (فردريك شيلجل)(وكان لا يجد أثراً للسوء والشر في الوجود، وكان يعتقد أن كل شيء يستعد ليدخل في حياة ذهبية) ونوفاليس يقول عن نفسه (انو الطبيعة حبتني هذه النعمة، نعمة النظر إلى سمائها ولألائها بعين المرح والسرور) وهذه الكلمة تبدي لنا الحساس (نوفاليس) العميق في الطبيعة، وتفهمه لدقائق أشيائها. هو إحساس لا تغلب عليه العاطفة الهوجاء. ولا تصدمه الحقيقة السائدة في الوجود، وكيف نريد أن نقيد أو نحدد إحساسه وهو الذي آمن بالأحلام ليستطيع أن يكيف الطبيعة كما تبتغي أحلامه. . وهو يبغي أن يحيا في الطبيعة كما يريد لا كما تريد هي. .! ولكن هذا المرح لم يكن مرحاً هائجاً ثائراً، بل كان مرحاً ساكناً هادئاً، يتمشى بين ثناياه ألم عميق إذا تعمق الناقد في باطنه تبينت له تلك السحابة القائمة، وتلك الظلمة الفاحمة. وقد تكون سحابة قاتمة لكنها موشاة بألوان الشفق الوردي: يبدو احمرارها للعين ويتوارى سوادها. وقد تكون ظلمة فاحمة ولكن أشعة قمر مستور يغمرها بشعاع باهت ينيرها ولكن لا يظهرها.
هذا هو (نوفاليس) الذي غادر الوجود ولما يبلغ التاسعة والعشرين، قد غالى قوم في تقديسه حتى نعتوه (بنبي المدرسة الرومانتيكية). وغالى قوم في بخسهم قيمته، فقالوا ان فنه هو مجموعة أحلام صبيانة. والناقد الحق هو الذي لا يغالي في الأمرين. ينظر إلى الأولين فيدرك أنهم أرادوا لو انفسح عمر الشاعر لكان منه ذلك النبي المزعوم. وينظر إلى الآخرين فيدرك أن مقاييسهم كانت قاسية، تريد من الشعر مالا يريد الشعر من نفسه، فيقف
بينهما موقفا وسطا ويقول: كان نوفاليس شاعراً تلاه ناس، وسوف يتلوه ناس، لأنه كان شاعر النفس والعاطفة العميقة والأحلام والرموز.
وهنالك - العدوى الفلسفية - وهي اشد سرياناً في الفلسفة منها في الأدب، فان جل البارزين واللامعين في العصر الحاضر إذا حككت مذاهبهم قليلا رأيت فيها كثيرا من مذهب أساتذتهم اللامعين - في العصر الماضي - فمثل هذه القربى يجب ان تظهر وان تحلل، لأن قرابة الفلسفة قرابة جامعة بين الفلاسفة هي أشمل من قرابة الأدب بين الأدباء.
هذه كلمة يتقبلها الأستاذ الأديب ممن لا يحمل له إلا المحبة والإخلاص
دير الزور
خليل هنداوي
إلى الأستاذ زكي نجيب محمود
آخذ الرسالة بيدي، وأفتح عيني على أسماء كتابها، فأفرح كلما وقعت على اسم قام بيني وبينه شيء من التفاهم الروحي، وهذا التفاهم هو الذي يدفعني - في كل رسالة - إلى النظر لهذا الاسم، والتحري عنه بين الأسماء. فإذا لم أجده غلب على نفسي شيء من المرارة، لأنني أحببت هذا الاسم وأحب أن أراه في كل رسالة.
بين هذه الأسماء - اسم الأستاذ زكي نجيب محمود - الذي خص الرسالة بصفحات لامعة من تاريخ الفلسفة الفكرية، وقرب كثيراً من أبعادها، وحلل كثيراً من مذاهب أصحابها. وهذه المقالات سدت فراغاً كبيراً في الأدب العربي، وعرفت أهله بأقطاب الفلسفة الغربية بصور واضحة بليغة، هي أوجز ما تكون سطوراً، وأملأ ما تكون أفكاراً.
هذا الاسم أطرب له، وأهفو إليه كلما وقعت عليه، ويستولي على شيء من الخيبة إذا لم أجده بين الأسماء. لأنه أصبح عزيزاً عليّ، لا أريد ان يغيب عني، مهما كانت عوامل هذا الغياب.
إنني أعجبت - بمقالاته الفلسفية - كما أعجب بها كثيرون، وقد رأيت أن هذه المقالات قد تكون أكثر فائدة لو كان يربط ما بينها وحدة متماسكة متراصة، وأريد من وراء ذلك أن يدرس الكاتب العصور الفلسفية دراسة تنتظم فيها دراسة الأشخاص والأفكار والأيام والعصور - أدبية كانت أو فلسفية - لها تأثيرها في الأشخاص كما لها تأثيرها في المذاهب، وخير حل لهذه النقطة - والأمر أمر الكاتب - أن يبدأ بدرس الحركة الفلسفية من بدء نهضتها وثورتها ويأتي على أصحابها ويصف تأثيرهم وتأثير مذاهبهم في التطور الفكري، مع شيء من المقارنة بين المذاهب المتباينة، ومثل هذا الدرس يجعل - للمقالات - وحدة يفتقر إليها من ود أن يقف وقوفاً تاماً على تطور الحركة الفلسفية عند الغربيين، وهذه الوحدة هي لازمة - في اعتقادي - وقد تكون الزم من الوحدة في الأدب لان الأدب الحاضر يستطيع أن يحيا إذا قطع كل أواصره مع الأدب القديم، ولكن الفلسفة - ومسائلها الحاضرة هي ذات مسائلها الماضية - يخطئ من يريد أن يتفهم تطورها الحديث قبل ان يقف على تطورها القديم.
العُلوم
ملاءمة الكائنات الحية لبيئاتها
للأستاذ احمد عبد اللطيف النيال
مدرس النبات بكلية العلوم
تختلف الحيوانات والنباتات بالنسبة لبعضها اختلافا عظيما حسب المناطق والأجواء التي تعودت الحياة فيها. فكل كائن نشأ في بقعة اعتاد هو وأسلافه عليها وتدرع لها بخواص تكفل له المعيشة في تلك البقعة على أصلح حال ممكنة.
يعتقد أغلب العلماء الطبيعيين أن الكائنات الحية جميعها نشأت من اصل واحد وفي بيئة واحدة هي الماء. وهذا الكائن الأولى يسهل علية تهيئة نفسه للمعيشة في أي وسط يوجد فيه. تكاثر هذا الكائن ولما أن ضاقت به بيئته نزح إلى غيرها طلباً للمعيشة والغذاء. فلكي ينجح وينمو ويتكاثر لابد له أن يتأهب ويحور نفسه بطرق توافق بيئته الجديدة ، استمر هذا الانتقال تدريجياً أعني من وسط مائي صرف (ويغلب أن يكون ذلك الوسط بحراً) إلى نصف مائي ثم إلى أرضي، ومن هذا إلى المياه العذبة والى الهواء. ومن المحقق أن هذا الانتقال قد تدرج على كر العصور والأحقاب في ملايين السنين. وفي أثناء هذا الصراع في سبيل الحياة كانت تنقرض هذه الكائنات التي جمدت أمام بيئتها الجديدة، وعجزت عن الملاءمة بين تركيبها وما يحيط بها - على حين نجح غيرها تدريجياً، وتشعبت أفرعه التي انتشرت في أنحاء المعمورة، وباين بعضها بعضا تبايناً عظيماً وفقدت كل شبه لأصلها ولأقاربها. ويمكن تقدير مدى نجاح الكائن الحي وسعة انتشاره بقدرته على الملائمة بينه وبين الوسط الذي يحتويه.
وقد اجتهد النبات في تكوين غذائه بنفسه واتخذ الأرض أصلا ثبت فيها والهواء وسطا تفرع فيه. ولكي يقوم بكل عمليات الحياة ولوازمها اختص كل جزء منه للقيام بوظيفة خاصة. إذ ضربت جذوره في الأرض لمسافات مختلفة وارتفع ساقه في الهواء لحمل أفرعه حيث تنوعت كذلك لحمل الأوراق التي تفرطحت وتركزت فيها مادته الخضرية لتمكنه من الحصول على أكثر كمية مناسبة من الأشعة الضوئية ومن الغازات الجوية.
ولكي يقوى على حمل ذلك الحجم العظيم تكون له هيكل داخلي (الخشب) ليحفظ قوامه من فعل الرياح
أما الحيوان فقد سلك طريقاً آخر لم يجتهد في تحوير نفسه لتكوين غذائه (ولربما اجتهد ولم يفلح) ولكنه طمح إلى أخذه قهراً ممن هو قادر على تكوينه وهو النبات فتركز جسمه ليشغل حجاً صغيراً يمكنه من الوصول إلى غايته وتحورت أجزاؤه إلى أعضاء للحركة تمكنه من الانتقال من مكان إلى آخر. وتناسبت أعضاؤه الداخلية لكل هذه التحورات حتى تقوم بأصلح ما يمكنها القيام به
وتحورات النبات عديدة جداً شملت كل عضو من أعضائه ولكني سأقتصر على ذكر أهمها بالأجمال
نشاهد النباتات التي تعيش على الأرض تختلف عن مثيلتها التي تعيش في الماء، ونسمي الأولى أرضية والثانية مائية، والنباتات الأرضية تختلف باختلاف أنواع الأراضي التي تنبت فيها، فمن صحراوية إلى صخرية إلى تلك التي تنبت في أرض خصبة. ثم إن نباتات المناطق الحارة تختلف عن نباتات المناطق المعتدلة
فنباتات الصحراء مثلا كونت لها جذوراً امتدت امتدادا عظيماً حتى يمكنها أن تجمع ما يلزمها من الماء والغذاء. وضمرت أفرعها وأوراقها لتقتصد بقدر الإمكان ما تفقده من الإسراف في ماء النتح ولقد تحصن بعض النباتات الصحراوية بشكل آخر إذ كون له مخازن مائية يملؤها وقت الكثرة ليتصرف فيها حين الضرورة والقلة، وعلى العكس من ذلك تحورت النباتات المائية لأنها محاطة بغذائها فاضمحلت جذورها لعدم الحاجة إليها وتكاثرت أفرعها على قدر غذائها، وتوسطت بين هذين - النباتات التي تعيش في الأراضي الخصبة إذ تناسبت أجزاؤها امتداداً وترفعاً
أما تأثير الأجواء فله أهمية عظمى في تكييف النبات جملة وأعضائه خاصة. ولقد كان انقلاب الجو وتغييره في الأزمان الغابرة سبباً من أسباب انقراض الكثير من النبات كما كان سبباً في تكاثر بعضها الآخر
سلك الحيوان مسلك النبات وتبعه أينما حل وانتشر في مختلف البقاع وتكيف حسب بيئته. وأهم أعضائه التي تأثرت أعضاء التنفس والحركة. فأعضاء التنفس يمكننا القول إجمالا
أنها اتخذت نوعين رئيسين لبيئتين متباينتين هما: الماء والهواء، فالحيوانات التي تعيش في الماء كالأسماك تتنفس بواسطة الخياشيم التي تستخرج غاز التنفس من الماء. والتي تعيش على الأرض أو في الهواء تتنفس بواسطة الرئة، والحيوانات البرمائية كالضفادع جمعت بين هذين العضوين (الخياشيم والرئة) فتستعمل الخياشيم في أطوارها الأولى والرئة بقية حياتها
أما أعضاء الحركة فقد تحورت كذلك حسب حاجة الحيوان، فما عاش في الماء تفرطحت أرجله فصارت كالزعانف يستعملها للسباحة ولموازنة جسمه، وتفرطح ذيله كذلك ليستعمله دفةلحركته كالأسماك والحوت. ومن الحيوانات التي عاشت على سطح الارض ما تعود الجري فاستطالت أقدامه وقويت عضلاتها. ومنها ما كانت طبيعته الوثب فتستطيل خلفيتاه فقط. وما اعتاد الحفر قويت أماميتاه، والحيوانات التي عاشت وسط الأشجار كالقردة استطالت أيديها لتتمكن بذلك من الانتقال من فرع إلى آخر بسهولة وسرعة.
أما ما اتخذ الهواء وسطاً لسيره فتكونت له أجنحة تحمله في ذلك الوسط. وقد اختلفت الأجنحة حسب قوة طيران الحيوان، فأحسنها أجنحة الطيور ثم الوطاويط ثم القوارض الطيارة وأمثالها التي تطير مسافات قصيرة، وأقلها الأسماك الطيارة
ولذلك تغير شكل الحيوان الخارجي وتركيبه الداخلي. فالأسماك وأمثالها اتخذت شكلا مستطيلاً مدبباً وتكونت لها مخازن هوائية داخل جسمها تغير حجمها كيف شاءت فترتفع وتنخفض في الماء حسب رغبتها. والحوت تكون في رأسه تجويف عظيم مملوء بالزيت زيادة على تكوين مادة دهنية تحت جلده. هذه المواد الزيتية والدهنية أقل كثافة من الماء فتساعد على تقليل الثقل النوعي للحيوان
والطيور وأمثالها تحورت نحو تقليل وزنها بتكوين أكياس هوائية كثيرة تخللت كل جزء من جسمها حتى عظامها زيادة على الريش والزغب ومحو الأسنان وتقليل الزوائد وتكييف الشكل الخارجي العام بطريقة مناسبة
يظهر مما تقدم كيف اتخذت الكائنات أشكالاً عديدة تضمن لها النمو والتكاثر في الوسط الذي وجدت به، ولكن إذا لاءم الكائن بيئته لدرجة الكمال كان ذلك سبباً من أسباب انقراضه وتلاشيه إذا حدث تغير عم البيئة التي يعيش فيها ككثير من الزواحف الجسمية
المنقرضة وغيرها. ولقد كان الفيل في العصور الماضية يقطن سيبريا وشمال الروسيا حينما كانت تلك البقاع دافئة فلما انخفضت حرارتها نزح إلى أسفل نحو خط الاستواء حتى وصل الآن إلى تلك المنطقة في بقعتين فقط هما: الهند ووسط أفريقيا، وانمحى بتاتاً من كل البقاع التي مر بها تاركاً آثاره ومعالمه، وقد ثبت ذلك بصفة قاطعة، فقد وجدت آثاره في مصر (بالفيوم) وفي سيبريا حيث يستخرج منها سن الفيل المنقرض ويستعمل في أغراض صناعية
وهناك حيوانات ذات قدرة على المعيشة في مختلف البيئات كالفأر والعصفور الصغير فأنهما منتشران الآن في جميع أنحاء العالم، مثلهما مثل الكائنات التي قاومت الانقلابات، الجيلجية في العصور الماضية فعاشت وأنتجت كائنات الأجيال التالية، وقد حدث في بعض جزر المحيط الهندي والهادي أن انتابتها براكين دمرت ما عليها من حيوان ونبات ما عدا القليل الذي أصبح أصلا نتجت منه الأجيال التي تكاثرت بتلك البقاع بعد ذلك
وإذا جفت البحر في منطقة ما، انقرضت الكائنات التي تعيش فيها، فمناحم الزيوت والأسمدة التي بمصر على ساحل البحر الأحمر كانت مغطاة بالمياه ثم جفت فماتت حيواناتها وتراكمت وتغطت بطبقات أرضية وتحللت أجسامها وتكونت منها الزيوت والأسمدة المختلفة التي تستخرج الآن من تلك البقاع
ومناجم الفحم أصلها غابات ناضرة نمت في العصور الغابرة، فلما انتابها تغيير فجائي في بيئتها سقطت وتغطت وتحللت وتكونت منها المناجم التي يستخرج منها الفحم الآن
وكثيراً ما انتاب سطح الأرض من الانقلابات ما غير معالمها فكان رائع التأثير على الكائنات التي تعمرها. فيأخذ بعضها في الانقراض ولكن لا يلبث أن يتكاثر ما يفلت من هذه الكوارث فيعمر البسيطة كرة أخرى فسبحان من يبدأ الخلق ثم يعيده.
أحمد عبد اللطيف النيال
القصص
ليلة ضائعة
مسرحية ذات فصل واحد
تأليف شارل كليرك
ترجمة فتحوح نشاطى
أشخاص الرواية
ممثلة التراجيديا العظيمة: راشيل. الشاعر ألفريد دي موسيه. لوردي برانكور. ايفون: وصيفة الممثلة
تقع حوادث الرواية حوالي سنة 1840 في باريس
(يمثل المنظر صالون استقبال صغير في قصر الكونت دي كاستلان أعد لتستعمله الممثلة الكبيرة مقصورة مسرحية. عند رفع الستار تدخل راشيل حاملة باقة فخمة من الزهور يصحبها دوي التصفيق والهتاف فقد ألقت في حفل أرستقراطي حاشد قصيدة رائعة للشاعر الخالد الفريد دي موسيه: ليلة ضائعة. ولا تكاد تخفت عاصفة التهليل حتى يسمع من بعيد عزف كمنجة حنون)
المشهد الأول
راشيل - ايفون
راشيل (لوصيفتها) لا أحد! هل تسمعين؟ لا أستقبل أحداً! سنرحل على أثر انتهائي من تمثيل مشهد (هرميون). .
ايفون - (ملحة) ولكن. . . معالي الوزير سيدي الكونت دي شاتل جاء قصداً خصيصاً ليحظى برؤية راشيل العظيمة على انفراد
راشيل - لا حد
إيفون - (قارئة البطاقات المشبكة بباقات الزهور) واللورد بروجهام؟ أيمضي إلى حال سبيله؟ والكونت دي موليه الذي لا يجازف ببطاقته إلا داخل باقات ملكية؟
راشيل - (ضجرة) أرغب ألا أرى أحداً الليلة!
إيفون - كيف يا سيدتي؟ أتراك تبدلت نفسك؟ أقدر لنا أن نلقى معبودة فرنسا وقد عادت نافرة ملولا تزهد في بخور الإعجاب الذي طالما نشقته وهي نشوى بعطره المتصاعد؟ هل أضحى الظفر أو هي جاذبية من أن يستوقف خاطرك الحزين؟
راشيل - (وقد ارتدت لباس هرميون) لا أراك مصيبة في فهمي يا ايفون - يشوقني حقيقة في المسرح إعجاب الجماهير التي تؤخذ بنبرة هرميون الصادقة وإشارتها البسيطة - لكن هنا، في قصر آل كاستلان، داخل هذه الصالونات الصاخبة التي يتناوب تمثيلي فيها عزف الموسيقى! هنا حيث لا يحتفون براشيل ولا يمجدونها الا لأنهم يرونها عن كثب. هنا حيث أستبين في العيون الشاخصة إلى شهوة ملحة أكثر مما ألمح فيها إعجاباً خالصاً!
ايفون - كفى إذن عن أن تكوني فتية وجملية!
راشيل - لقد عدت برمة بهذه الجمهرة من العشاق المتزاحمين حوالي كالفراش! أتدرين ما الذي يجذبهم اليّ؟ انه المجد. . . مجدي الذي صنعته بيدي مفرقي! هل دار في خلد واحد منهم أن يجازف بعاطفة حنون نحوي أيام كنت أسابق ظلي على الطريق الموحشة، في الريف عارية القدمين، وحيدة، بائسة؟ أمضي بهذه الزهور بعيداً عني. . . أريحي عيني من مرأى هذه البطاقات. . . جميعها. . . جميعها. . . أريدني الليلة سيدة نفسي! (لنفسها وقد جلست إلى مرآة الزينة بينما ترتب الوصيفة باقات الزهور)
لم يجيء موسيه حتى الآن! أن سهرة نسائية شغلته ولابد عن الحضور لسماعي وأنا القي قصيدته. . . إيه! أراني أسعى وراء أحلام طائشة! لننس الناسي!
(طرقة خفيفة على الباب) من الطارق أيضاً؟
ايفون - إنها تلميذتك، مدموازيل دي برانكور التي تستأذن راشيل - هي. . . بلا شك. . . على الرحب والسعة. . . فلتدخل. . .
المشهد الثاني
راشيل - لوردي برنكور ثم يعد حين الوصيفة
راشيل - (للور) أنت هنا يا عزيزتي لور؟
لور - نعم يا صديقتي العظيمة - أكاد أكون من الأسرة.
فصاحب القصر الكونت دي كاستلان قريبي. لكم رددت في حداثتي أشعار فلوريان تحت
هذه الصورة الخطيرة التي تمثل أحد أجداد هذه الأسرة الكريمة، فقد جذبني المسرح إليه منذ ذلك العهد البعيد
راشيل - (مجاملة في عطف) وما زالت تتألقين في سمائه!
لور - بفضل تعاليمك الغالية التي تسدد خطواتي المتعثرة! أعلم أني تلميذة جهول، غير أني أرحب دائماً بانتصاراتك الباهرة واصفق لها من كل قلبي! شد ما أعجب بك الحضور الليلة!
راشيل - لا تخادعي نفسك! لقد أعجبوا بي ولكنهم لم ينظروا إلا إليك! لو أني أكثر أنوثة وأقل ولوعاً بفني لحسدتك على سنيك التسع عشرة المتألقة!
لور - شبابي اعجز من أن يسامي عبقريتك! أنت يا من تجمعين إليك أرواح الجماهير لتمضي بها نحو المثل العليا! أنت التي لم يعوزك لتتسنمي قمة المجد - أكثر من ليلة صغت إليك فيها باريس. ثم توجتك أميرة للمسرح! أنت يا من تبعث مواهبك الفذة كورنيل حياً بعد راسين، والتي ينحني العالم مشدوهاً أمام نبوغك المشرق! أي حلم!
راشيل - (في حرارة) الحلم جميل نعم. . . لو يدوم ولو لم تبدده ريح النسيان العاتية! أسفاه! من يمجدونني اليوم هم أول من يمزقونني غداً! ولا أعود أجد بعد قليل بين آلاف المعجبين غير شاعر واحد يصون مجدي من البلى: هو الذي سمعته من هنيهة
لور - موسيه؟ إن الأشعار الجديدة التي أنشدتها منذ حين ستبقى عزيزة على من صفقوا لها معجبين. أكاد أسمعها تتغنى في حافظتي فهي لعذوبة معانيها وروعة صورها أقرب إلى الذاكرة وألصق بالفكر: الشاعر الحالم وسهرة الكوميدي فرنسين؛ العنق الرشيق الناصع الذي ينوه بفرعة الفاحم، والذي يبصر به الشاعر فجأة وهو يستعرض الوجوه بمنظاره، فيستوقف منه النظر والفكر حتى ساعة الرحيل، الصورة الخيالية الباهرة التي تبارى في رسمها شاعران كبيران، والتي استلهم فيها موسيه بيتين من شعر الشاعر شنييه. . .
راشيل - (تردد الأبيات المعنية)(تحت رأسك الظريف يتثنى عنق بض، رشيق (يكاد لفرط بياضه أن يكسف نصاعة الثلج)
لور - يظهر لي أن لغزاً دقيقاً يستتر خلف هذه (الليلة الضائعة) وأكاد أفترض لحظة أن راشيل ربما كانت تعرف العابرة الجميلة التي تراءت للشاعر المحبوب
راشيل - (مرحة) أبدا! لم أمثل في حياتي أدوار العجائز اللاتي يعمد إليهن أبطال الروايات للمارة! فيم إذن تحلم الفتيات الطائشات؟ ثم ما يدريك أن موسيه ما زال يذكر للآن تلك الرؤيا الخفية التي مرت به كومضة البرق الخاطف؟ هذا الرأس الجميل الذي لمحه موسيه ليلة في مسرح إن هو في عرفي إلا خيال شاعر! وما احسب موسيه متأثراً إلا بروعة الأبيات التي خطها يراعه للخلود!
لور - تتهمينه بما هو براء منه. . . واعتقد. . .
راشيل - ليكن، أخطأت! انتشى إذن وحدك بهذه القصة الوجدانية الخيالية فهي من سنك!
لور - ولكنك لم تبلغي العشرين بعد!
راشيل - القلب الذي يسيطر عليه الفن يذوي قبل الأوان ويعود يؤمن بالأشعار الجميلة اكثر مما يؤمن بأحلام الشاعر
الوصيفة (داخلة) يطلبونك يا سيدتي
راشيل - في الحال. . . أنا على استعداد
(تخرج الوصيفة)
لكن، يا للفوضى!
لور - (وهي تقترب من مرآة الزينة التي وضعت أمامها الممثلة العظيمة حليها بين عقود وخواتم) اطمئني! آخذ على عاتقي ترتيب كل شيء!
راشيل - امضي إذن واثقة بسلامة حلي من الضياع؟
(تخرج)
المشهد الثالث
لور - ثم - الزائر
لور - (لنفسها وهي تجرب الحلي التي تجمعها) تروقني هذه اللآلئ الصافية. . . هذا الخاتم في إصبعي يغريني بالزهو والعجب. يا لدنيا المسرح العجيبة! ترى ما الذي حل براشيل هذا المساء. تبدو لي كئيبة، متجهمة! أيكون لانقباضها علاقة بهجمات ذلك النقادة الظالم الذي ادعى أنها خيبت آمال اصدقائها في رواية (با يزيد)؟ على أن هذا محض افتراء! فما رأت عيني سلطانة أروع وأجمل منها في دور (روكسان)! لقد دافع عنها
موسيه. وأحسن صنعا فالجمال حقيق بكل تقديس وعبادة!
(يدخل الزائر فلا تلحظه لور وقد جلست مدبرة للباب. الزائر غاية في التأنق يلبس (فراك) السهرة والصديرى الأبيض)
الزائر - مساء الخير يا راشيل!
(تلتفت لور فيتولى الزائرعارض من الدهشة، رجة نفسانية يكبحها في الحال) أنت!
(يملك روعة وقد تبدلت لهجته) أوه! عفوا! مدموازيل! ما كنت أتوقع. . . ودهشتى لا تحد. . . طرقت متطفلا ودخلت دون استئذان. . .
لور - أبدا يا سيدي. . . لكن راشيل تمثل الآن مشهد هرميون فعجل إن شئت مشاهدتها
الزائر - هل أنشدت بعض أشعار؟
لور - نعم، ارق وأعذب قصائد الوجدان، أبيات شجية للشاعر موسيه، تلتها علينا من لحظة قصيرة بين الإعجاب والتهليل ذكرى (ليلة ضائعة)، عمل أستاذ قدير!
الزائر - قرأت أخيراً هذه الأشعار الجديدة وتمنيت لو أسمعها لكني وفدت متأخراً، أنا أيضاً أعد موسيه شاعري المفضل. يشوقني فيه فنه الساحر: ذلك المزيج البارع من الحنان الصادق والأسى العميق!
لور - حرمت على مطالعة (قصص إيطاليا) غير أني نعمت بقراءة (فانتزيو) وشاركت (فينون) أحلامها الذهبية! لكن لنعد إلى قصيدة الليلة. آه! يا سيدي لو تدري كم أجهدت ذهني في التقصي عن مجهولة الليلة الضائعة أهي كميل أم سيسيل؟ من تكون يا ترى تلك الفتاة الصبوح ذات العنق الناصع. من؟
الزائر - إنها العذراء الفاتنة التي تشبه الاثنين على غير علم منها!
لور - (متابعة فكرتها) وهكذا قدر للملهمة أن تجهل القصة الرائعة التي الهمتها! لو أنها تكشفت هذا السر لعادت به جد فخورة!
الزائر - تظنين؟
المشهد الرابع
المذكوران. الوصيفة.
الوصيفة - أوه! عفواً! جئت أبحث عن فراء سيدتي (تبصر بالزائر) أنت مسيو دي
موسيه؟ وما وقوفك هنا؟ تعال: كيف؟ يمجدون راشيل. وتهجرها؟
موسيه - أسير إليها في الحال. . .
الوصيفة - عجل فقد تكاثر من حولها الإعجاب! (تخرج)
المشهد الخامس
موسيه - لور
موسيه - (للور وقد بهتت مأخوذة حيرى) ثقي أني ما استرقت سرك إلا بالرغم مني، فلولا هذا اللقاء العزيز الذي لم يكن ليؤمله قلبي لقدمت إليك نفسي لأول بادرة. إن العابرة المجهولة التي تطوف في سماء قصيدي قمين بك أن تعرفيها. تأملي هذه المرآة. . . المجهولة الجميلة أنت! كنت ترتدين تلك الليلة ثوباً وردياً، وكنت قد وصلت متأخراً إلى المسرح - فجأة - بينما كنت أجيل بصري في أرجاء تلك الصالة التي استحوزت عليها سخرية (ألسست) اللاذعة فجعلتها تضج بالضحك والإعجاب - لمحتك في مقصورتك. . .
لور - (في خفر صادق) أمسك ياسيدي. . . لا تزد حرفاً ارجوك. . . أرى لزاماً على أن أفارقك. . . فما أخالك إلا شاعراً بالضيق الذي طوح بي إليه اعترافك. إنني جد خجلة. . .
موسيه - وأنا جد سعيد. هذه الليلة الهانئة تبدد جهمة الليالي العاصفة التي تملأ قلب الشاعر بالشك المقيت! أن أشعاري التي تحبينها هي صفوة ما كتبت، ولقد بت أستحسن ما تفضلين في قصائدي من شعر طهور ورؤى علوية ما دام قلبك العذري خفق لها خفقة الإعجاب. نعم، صدقيني يا آنسة. نينيت ونينون أختان لك. أراهما على صورتك. لهما عيونك وصوتك. إني لم اعد أستطيع أن افصل عن خيالي الفني هذه الأبيات التي رسم لك فيها شينيه صورة مخلدة (تحت رأسك الظريف يتثنى عنق بض رشيق)
(يكاد لفرط بياضه أن يكسف نصاعة الثلج)
لور - عندما أنشدتنا راشيل هذه الأشعار تأثرت بها نفسي أقل بكثير مما تأثرت الآن، لقد تجلت لي فجأة بهجتها السحرية! وهأنذا استعيد ذكرى تلك السهرة التي قضيتها بالكوميدي فرنسيز في أدق تفاصيلها ولأول وهلة تتضح في عيني معالم قصيدتك وتتناسق. أذكر وقد جلست محازاة والدتي أني شعرت بنظرة ملحة تحوم حولي مرتقبة نظرتي. يا للعجب! بينا كنت أغرب في الضحك غرامية عجيبة؟ هل متفكهة بمشهد (اورونت) لم يهجس ببالي أني
كنت أحيا قصة كنت تتابع الرواية أنت الآخر.
موسيه - ما كنت أرى إلا إياك! لقد تبعتك في فترة الاستراحة القصيرة وحمت حواليك أتملى محاسنك الغضة، وإذ أنت توشكين العودة إلى مقصورتك سقطت منك عفواً مروحتك فخففت التقطها وقدمتها إليك واجف القلب واليد، تذكرين؟
لور - (حالمة) نعم أذكر تلك الليلة تعاودني اللحظة كالذكرى السعيدة!
موسيه - ليلة أقل سحراً وقداسة من التي تعود بك إلى مازجة جميع أعطار العالم بعطرك الشذى! أنت وأنا يا للغبطة! ومع ذلك ما أراني أجتزئ أن أصعد فيك بصري يا مليكة العطور والزهور! ألا ليت الزمن الحاني يقف بنا متمهلاً! يا للساعة السعيدة التي يرود الحب فيها حوالينا موحياً إلى قلوبنا العطشى أن تعتصر خمرته الإلهية مذكراً إيانا أن الحياة حلم غامض لا مغزى له إلا عند من جمعوا شتيت آمالهم في يوم هني!. . . أرى الدنيا تتداعى حواليك ولا أبصر في وهيج المصباح الذي ينير بقربك آنية شفافة. غير عينيك النجلاوين وشفتيك اللتين تفوقان زهر الربيع نضارة وبهاء! أحبك
لور - (مقاطعة) أخشى هذه الكلمة. . . أخشى ألا تكون منبثقة من أعماق قلبك وأن تكون مخادعي بها وأنت تخدع نفسك، ألم ترددها من قبل على راشيل؟
موسيه - احبك! أنا لا أدري عنك شيئاً، ومع ذلك فقد ملأ طيفك النوراني سماء خيالي في كل وقت. هي انت، هي صورتك التي كانت تتبدى لي في ليالي سهادى، وأنت في الحق خيالي الشعري تجسم حيا! كل ما أعجبك في أعمالي الأدبية، هي أنت! لكم تشفعت بك واستنجدت في أيامي العصيبة المحمومة. كنت أرتقبك كما يرتقب الغريق صخرة النجاة، وكما كانت ليالي المدلهمة تتشوق لمطلع فجرك! أحبك!
لور - الآن اصدق. وبودي لو أصارحك بما يجيش في صدري من أمان خفية لكن وا أسفاه! أما زلت حرة؟ لا ادري. شت فكري! كيف يمكنني ان أكون لك بينما أرى كل شيء يفصلنا؟ لقد تم اختيار أهلي. . فهل يحق لي أن أخالف الرغبة الوالدية فأتصرف بنفسي كما يحلو لي؟
موسيه (محزونا) نعم أنت محقة. . . أحس يدك ترتجف اكثر مما يجب بين يدي كي لا أردها إليك في الحال! وا أسفاه! حرمت حتى هذه التعزية، الأخيرة واراني ملوماً إذ تجرأت
على الكلام دون ان استوثق من اني اطرق قلباً خالياً. فهل تتجاوزين عن نزوتي المختبلة؟
لور - (مادة له يدها) إنسني!
موسيه - وهل يرتجى فيك نسيان؟ أتموت الذكرى التي قدسها الألم كما تغيب لؤلؤة داخل علبتها الذهبية؟ إن الألم المقدس الذي يحيى ميت الإرادة ويشحذ الهمة الشماء، الأم الذي يرهف قوى النفس ويصمد لحوادث القدر كالسنديانة في مهب العواصف، ذلك الألم الإلهي الذي يغسل الأفئدة المجدودة، أحسست به اليوم لأول مرة! بفضلك سأدين لك آخر الدهر يبعث قلب جهله الكل وظنوا ماء الحياة فيه قد نضب!
لور - (بعطف) الوداع!
موسيه - لا لا ترحلي بهذه السرعة! سينتهي حلمي بعد حين غير تارك في قرارة نفسك سوى ذكرى عفيفة! انك إذ تلمسين مدى سلطان محاسنك البريئة على، لا تتنزلين عن جزء من طهارة قلبك! هل تروح زنبقة الوادي أقل نصاعة، لأن ظلال السحر تطيف بجمالها الفتان؟ قد تمسى أحزاني أهون حملا لو أضاءتها مثل هذه الساعة الحنون! أبقى، أرجوك! فلن تخجلك بعد ارتحالي، نجوى هذا القلب الذي باح رغماً عنه بكل ما يكن لن تصدقي بعد اليوم جميع ما يذاع عني ما دمت تحتفظين إلى الابد بذكرى اللحظة التي تنسمت فيها زهرة القبلة على شفتيك بينما كان في مكنتى وقد استشعرت رجفة يدك في يدي ان اقطف تلك الزهرة العلوية!
لور - (مبتعدة عنه) أقبلت راشيل! ترى. هل أملك الوقت الكافي لابثك عميق اضطرابي؟ وا أسفاه! لابد لي من اصطناع الابتسام وتكتم عذوبة هذه العاطفة الوليدة! أخشى أن يخونني ثبات جأشي!
المشهد السادس
المذكوران - راشيل ثم الوصيفة
(راشيل للوصيفة من الخارج) سأتناول الطعام في البيت. إني أتهالك من فرط الإعياء!
(تبصر بموسيه)
يا للمفاجأة! انت. موسيه؟
موسيه - (مقبلا يدها) نعم، قدمت متأخراً. كنت مرتبطاً بسهرة ولم استطع الفرار. . .
سوف أشرح لك
راشيل - (متخابثة) ولكني حذرت كل شيء أيها العزيز!
موسيه - ترينني شديد الأسف. سامحيني.
راشيل - سامحتك. وهل أملك أن أكون صارمة حيال الصديق الشاعر المحبوب الذي تقودني حكمته وينير مجدي حماسه؟ لقد هبت ذئاب النقد تتواثب حوالي شخصي الضعيف فلم ألق غيرك يثبت إيماني بنفسي. ترى، أهي الصداقة التي أملت عليك موقفك إزائي أم اليقين؟
موسيه - الاثنان معاً. ثقي أني ما كتبت غير ما يجول بخاطر باريس جميعا! إنما أنت عنوان فخرنا، بك ننفس ونزهو على العالمين! إلا دعى الحمقى الأغرار يتزاحمون عليك رجاء النيل من عزيمتك: لن ينتزعوا من ذكرياتنا الحية (هريميون) ولا (مونيم) ولا اللهب المشبوب الذي يتطاير من هذا القلب الفتى الخفاق! اندبي يا أميرة المسرح (بايزيد) الملك بييروس، فكل دمعة منك ترتفع بمجدك الناشئ وبفننا المسرحي أكثر ألف مرة مما نفيده من نقد جميع الناقدين!
راشيل - أشكرك وأومن بقولك. كنت الليلة في حاجة ماسة إلى كلمة مشجعة، إلى شعاع من الأمل. سأدرس (فيدر) عقب عودتي إلى المنزل. هذا الدور معقد أحلامي! قرأته عشرين كرة بعيني التلميذ، وأطمح في تمثيله وشيكا
لور - تعملين الليلة؟ ولكنك لم تستريحي اليوم!
موسيه - (للور) الفن طاغوتنا!
راشيل - اذن، فلا تحرر من ربقته. لور محقة. موسيه. . . أدعوك إلى العشاء معي. سوف نتذاكر الماضي العزيز: عشاءنا الأول الذي كان غاية في الفقر والظرف. أتذكر تلك الليلة البوهيمية التي خدمتك فيها بنفسي أثر عودتنا من الكوميدي فرانسيز؟ قرأنا، ليلتها فصلين من (اندروماك)، بعد أن تناولنا، فرحين، شايا ممزوجا بالروم! تعال: سنعيد السيرة من جديد. . . وأكرم وفادتك. . . خيرا من الماضي!
موسيه - (وقد لحظ القلق يستولي على لور) صدقيني. لم انس راشيل الناشئة وتغريني هذه الدعوة الحبية، لكني لا أجد الليلة من نفس حافزاً للهو والمرح، خصوصاً وقد وعدت
بالسهر على مقال يرتقبونه من زمن مديد. . . خذلني تكاسلي مرات عديدة فلا أرى الهرب من الواجب، مرة أخرى!
راشيل - يا للعذر الواهي! وإن أضعت أيها العزيز ليلة أخرى!
موسيه - (شاخصا إلى لور) لا. بت والأسف يحز في نفسي على بعض (الليالي الضائعة)
راشيل - (تتطلع نحو الاثنين ثم تقول وقد فهمت كل شيء) الليالي الضائعة؟ أو أثق أنت من ضياعها؟ أراهن انك التقيت بالعابرة المجهولة وأن قلب عذراء في العشرين سيحلم الليلة بالأبيات الخالدة التي ألهمتك إياها إحدى هذه الليالي الضائعة، لقد اهتدت فطرة ذلك القلب السليمة إلى ما تبقى في نفسك من صدق ونبل وحنان وإني لا بصر وأنا أهتك سرك - بموسيه مجهول ربما كان هو موسيه الحقيقي!
موسيه - (في تأثر بالغ) مساء الخير يا راشيل!
(يقبل يد الممثلة ثم ينحني طويلا أمام لور التي تكتفي بكلمة تعبر له عن شدة تأثرها واغتباطها برفضه قضاء السهرة في مرح)
شكرا
(يخرج موسيه)
راشيل - (للوصيفة) على بمعطفي!
(تخف إلى لور التي تابعت الشاعر بعيونها وتقول)
أما أنت يا صغيرتي لور فصدقيني: لك أن تفاخري بهذا الحب!
(ثم لنفسها في أسى مرير)
لم يناجني موسيه قط بمثل هذه النجوى القدسية!
- ستار -
(النقد
قصة خسرو وشيرين
والشعر المرسل
بقلم احمد حسن الزيات
ألقي إلينا في البريد رواية شعرية في خمسة فصول، بعنوان (قصة خسرو وشيرين) لا تحمل اسم ناظمها، ولا عنوان طابعها، ولا تتسم بشيء من السمات الدالة على الشخصية، فكأنها الوليد البريء جاء لِغِيَّة فألقى على مدرجة الطريق، متروكا لرحمة القدر أو قسوته.
الرواية جليلة الموضوع، نبيلة المغزى، جميلة النسج، ينم سياقها وحوارها على قلم مدرب، وفكر ناضج، وثقافة عالية، فلا يمكن أن يكون المؤلف قد أرسلها غفلا، فرارا من تعقب الدين أو القانون أو الأدب أو الفن، إنما علة هذا التخفي على ما يظهر من المقدمة تمكين الناقدين من الرأي الحر والحكم الصريح في قضية الشعر المرسل.
فان المؤلف كما تدل المشابهة القوية بين ما نشر من هذا الشعر في (الرسالة) وبين ما جاء منه في هذه الرواية، زعيم القائلين به والقائلين فيه، فهو بذلك يضع المثل أمام القراء والشعراء ليقطع حبل الجدل، ويخرج من النظر إلى العمل، ويجعل الدفاع عن هذا المذهب لقوة الحياة فيه، ومبلغ الفائدة منه.
أضف إلى ذلك إن المؤلف يدرك نبو هذا الشعر في ذوق الجمهور فهو يريد أن يوسع له في مجال القول، ولا يجعل لاعتراضه أو امتعاضه حدا من الصداقة أو المجاملة. قال الأستاذ في المقدمة:
- (أرجوك العفو أيها القارئ عما يمكن ان تتحمله في قراءة هذا الـ. . . (ماذا أسمي هذا؟ أظن خير تسمية ان أسميه المطبوع). وأنك إن قرأت منه كلمة واحدة أو سطراً واحداً ثم رميته كارها كنت عندي معذوراً، فهذا ما توقعته، ولا عجب في الأمر إذا كان متوقعاً ولست عندي معذوراً فحسب، بل انك جدير بشكري، إذ أنك قرأت منه شيئاً في حين أن كثيراً من الناس إذا وقع لهم مثل هذا المطبوع لا يقرأون منه حرفاً بل يقلبون صفحاته تقليباً سريعاً، ثم يرمون به إلى أقرب موضع، ولكنهم مع ذلك لا يترددون في ان يبدوا رأياً في عيوبه أو محاسنه إن تكرموا. وأما إذا أنت صبرت أيها القارئ فقرأت سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع، ثم قذفت به حيث أردت لم تكن في ذلك بالمعذور، بل كنت متفضلا مضحياً من أجل مجاملتي مع أنك لا تعرف من أنا، وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع، وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكاره بحيث استطعت ان تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة، ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها
وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور - إذا فعلت ذلك كنت في نظري بطلا من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى وان بلغت في ثورتك مبلغاً مخيفاً، لأني قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تتحرج فيما تفعل، فلعلي إذا أظهرت لك شخصي بدوت لك صديقاً أو ممن يمتون إليك بسبب فتجاملني أو تكظم غيظك عليّ، فيكون في ذلك أذى لك لا أرضاه. فافعل ما بدا لك أيها القارئ. ولا تتورع فان أحجارك أو سهامك لن تصل إليّ).
ذلك ما بدأ به المؤلف الفاضل مقدمة الرواية، ومن وراء سطوره كما ترى إغراء بالقراءة. وتحريض على النقد. وعتاب ساخر لمن يقول في الشيء بغير علم. ويحكم عليه من غير خبرة.
فإذا علمت بعد هذا انه لم يعرض روايته في السوق، وإنما أهدى ما طبع منها إلى الأصدقاء والأدباء ازددت يقيناً بأنه لا يريد غير محاكمة المذهب، وسواء بعدها أكنت له أم عليه.
على ذلك نصارح الأستاذ برأينا في الشعر المرسل، ونحن أشد ما نكون اطمئناناً إلى رضاه، ووثوقا بحسن ظنه.
لقد قرأت الرواية وحاولت أن أوفق بين شعرها المرسل وذوقي المقيد فلم أفلح. فالأبيات تطربني بأجزائها المتسقة، وألفاظها المختارة ومعانيها السامية. ولكن أواخرها النواشز تتناكر مع الطبع والسمع فتذهب بحلاوة سياقها وعذوبة موسيقاها. اقرأ معي قوله في الفصل الأول ص14
شيرين:
جئت حينا هنا، فألفيت أرضا
…
غير ما اعتدت إذ تكون بجنبي
كان لون الزهر غير بهيج
…
وخرير الماء غير جميل
وقوله في الفصل الثاني على لسان خسرو ص41
خسرو:
لا أرى في الأنام أحرى بسخر
…
من معنى بكاذبات الأماني
من يكن همه التماسا لرزق
…
لم يجد في طلابه أسقاما
قد يهيم الفقير بين الفيافي
…
في التماس الاحطاب والأعشاب
فإذا فاز بعد جهد جهيد
…
برغيفين لم يعكره هم
غير أن الذي يحاول مجداً
…
يدع النوم والسلام ويأبى
ثغرة الابتسام حتى إذا ما
…
طالعته المنى رآها سرابا
وقوله في أول الفصل الخامس على لسان جنديين يهيئان مجلساً في بهو القلعة لخسروا السجين ص103
الأول: إن في الفقر سلوة يا صديقي.
الثاني: فتمتع به وحيداً هنيئاً إنني لا أراه إلا عذاباً.
الأول: قد أمنا في الفقر غدر الليالي.
الثاني:
هل ترى تلك نعمة ان أمنا
…
إذ بلغنا الحضيض؟ أي أمان!
الأول:
ليس في الفقر لو علمنا شقاء
…
أنا إن جعت كان حسبي رغيف،
وإذا ما تعبت نمت عميقا
…
لا أبالي إذا تعريت صيفا
وشتائي لباسه جلد شاة
الثاني:
لا تبالي إذ كنت فرداً وحيداً
…
ليس يبكي الأطفال حولك جوعا
كن كما شئت، عش فقيراً، فإني
…
حانق حاقد على إملاقي
الأول:
يا صديقي أكنت ترضى بعز
…
ثم تهوى إلى قرار سحيق؟
سل عن المجد والعزازة كسرى،
…
بعد أن ذاق ذلة المأسور
الثاني:
ان قلبي يسيل هما إذا يا
…
من كسرى يختال في الأسر كبرا.
الأول:
حسبه شقوة إذا كان قوم
…
مثلنا يرحمونه في شقائه. . .
يا صديقي لا تغتر بلباس
…
للامع قد يكون ستراً لبؤس.
ماذا تجد في حسك من هذا الشعر؟ ألا تجد في ذوقك المطبوع على نغم القوافي العربية نفوراً من هذه الفواصل المتدابرة؟ لقد كان هذا النشوز يخف لو راعى الأستاذ الشاعر اتحاد الأصوات في أواخر الأبيات كقوله مثلاً على لسان سرجيس:
قد علمنا أن الحياة غرور
…
ثم لا نستطيع غير الغرور
جعل الله في النفوس نزوعا
…
لاضطراب الحياة رغم العقول
فان بين الغرور والعقول مزاوجة تلطف من وقعمها على الذوق الحساس والعادةالموروثة: ولكن أين هذا وذاك من قوله في ختام الفصل الخامس على لسان شيرين (ص129)
أيها الذاهب الشهيد بنفسي
…
ما أصابتك من جروح دوامي
قد أسالوا الدم الزكي. وأني
…
تنفع المدنف الدموع الهوامي؟
ذهب اليوم صاحب وحبيب
…
كان من هذه الحياة نصيبي
فجعوني به، فكيف حياتي
…
بعد أن غاب عن حياتي حبيبي
شيرويه (يرى شيرين فيظهر التألم)
وا أبي! صرعة العظيم قضاء
…
عرفته النجوم منذ القديم.
قد أراد القضاء ما كنت أخشى،
…
ما احتيالي في الكائن المحتوم؟
شيرين: (لشيرويه)
أنا أبكي والدمع حسبي، فمالي
…
حيلة في المصاب غير دموعي
ليس لي الصولجان والسيف حتى
…
أندب الملك بانتقام وجيع.
شيرين:
دع لمثلي الدموع، فهي دوائي
…
من شجون لواعج وكلوم
فجعوني بصبيتي تحت عيني،
…
وأسالوا دماء قلب سقيم
ثم ضحوا بصاحبي وحبيبي،
…
وا فؤاداه للصريع الكريم!
أسعفي يا دموع قلبي حتى
…
أجد الطب في الهلاك الرحيم
ففي هذه الأبيات اشتد التأثير في الموقف، وقوى الشعور في الأشخاص، فغلبت القافية إرادة الشاعر، وجاء المنظر الختامي حجة عليه ونقضاً لما عاناه من ترويض الآذان على الشعر
المرسل
إنما يتميز الشعر من سائر ضروب الكلام بخصائص ثلاث: موسيقية شديدة الحساسية، وصعوبة عسيرة التذليل، وقدرة على تثبيت الفكرة بلفظها في الذاكرة. فالشعر المرسل يستطيع أن يدرك شيئاً من الموسيقى إذا زاوج الشاعر بين أواخر الأبيات، واستفاد من الحرية التي أعطيها، فتخير الألفاظ، وعدل الأقسام، وألف الألوان، وحرك المعاني، ونوع الصور، وأخشى بعد ذلك كله ألا يرتفع عن النثر البليغ المحكم. ولكن الصعوبة التي تلقى الشاعر في كل بيت عند القافية فيسلط عليها ذهنه وفنه وذوقه ولغته حتى يفجأ أذنك - وهي تنتظر في غير صبر - بتلك الحيلة الفنية، واللفتة الذهنية، والكلمة الصادقة الموسيقية، لا تجدها في غير الشعر المقفى
كذلك يعجز الشعر المرسل عن أن يهيئ للذاكرة في التمثيل - على الأخص - ما تهيئه لها القافية من (نقط الارتكاز) وعلائم الطريق حتى لا تجور ولا تضل.
على أن تسهيل الشعر بإلغاء القافية يخمد الذهن ويجدب القريحة، لان الصعوبة ترهف الفكر فيدق احساسه، وتوقظ العقل فيزيد انتاجه، وتبعث الفن فيحيا بين الهام الشاعر وإعجاب القارئ
والواقع أن القافية لم يشكها شاعر مطبوع ولا ناظم مطلع، فان الطبيعة الغنائية للشعر العربي من جهة، ووفرة الثروة اللفظية للشاعر من جهة أخرى، تجعلان القافية من أخص لوازم الشعر واسهل ضروبه. ولك في الأراجيز القديمة، والموشحات الحديثة، وسائر ما استحدث المولدون من الأنواع القائمة على موسيقى القافية دليل ناهض على ما نقول.
فإذا وقع شاعر اليوم في رهق من بناء القافية لقلة محصوله من اللغة، أو لمعالجته التمثيل والقصص الطويل، كان له في تنويعها مندوحة عن هذا النوع الذي تذبذب بين النظم والنثر، فوقف من الأذن موقف الغصة من الحلق، بذلك استطاع البستاني أن يترجم الإلياذة، وتسنى لشوقي أن يبدع في مآسيه.
هذه كلمة موجهة نفتتح بها المعركة الأخيرة بين الشعر المقفى والشعر المرسل، فان رواية (خسرو وشيرين) مع ملاحظة التحفظ في عرضها، جاءت بعد المقالات التي نشرت بالرسالة أشبه برواية (هرناني) حين كتبها (هوجو) على المذهب (الرومانتيكي) بعد أن دعا
إليه في مقدمة (كرومويل) وفاتحة (الشرقيات) فجعلها هو وأنصاره المعركة الفاصلة بين هذا المذهب والمذهب (الكلاسيكي).
أما الحديث عن موضوع الرواية، وتصوير أشخاصها، وعرض مواقفها، وتسلسل حوادثها، وتدرج العمل فيها، فله فرصة أخرى نرجو أن تحين.