الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 370
- بتاريخ: 05 - 08 - 1940
نهاية أديب.
. .
في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر يولية، لفظ البحر على ساحل (جليم) بالإسكندرية جثة كانت في رونق العمر. وإن بدا على محاسرها مسحةٌ من شفوف الهم وشحوب الألم. لم يكد يلقيها الموج الصاخب المتعاقب بالرمل المستوي المنضوح حتى أخذتها عيون الحرس الساحلي، فظنوها لأول وهلة ضحية من ضحايا الحرب الإنجليزية الإيطالية في هذا البحر المسجور العذاب والموت؛ ولكنهم علموا من بذلة الغرق ومعطفه وسلامة بدنه أنه مدني سقط في البحر أو ألقي فيه. فلما فتشه رجال الشرطة ليكشفوا عن هويته عثروا في جيب معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يقول فيه:
(إنه قتل نفسه بالغرق يأساً من الدنيا وزهادة في العيش، ويوصي بأن يحرق جسده ويشرَّح رأسه)
إذن هو رجل من رجال الفكر والرأي، جعل للحياة مثلاً لم يحققه فهو يجتويها، ورأى في العقيدة رأياً لم يرقه فهو لا يرتضيها، واعتقد أن في مخه عبقرية فهو يرجو أن يظهر بالتشريح خافيها.
فهل تدري من هو؟
هو الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم) عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، كما كان يخبر عن نفسه؛ وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف، ومنشط الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة. نَجَله أبوان مختلفان: تركيٌّ وروسية، ثم غُذي في يفاعته بثقافة البحر الأسود، فتأثر بنفسية الترك الجمهورية، وعقلية الروس الشيوعية. وتزوج أبوه مرة أخرى من مصرية فعاش معه في الإسكندرية حيناً من الدهر تعلم فيه العربية. ثم ترك له بعد موته بيتاً صغيراً كان يعيش على أجرته هو وأخته عيش الكفاف الضيَّق. واعتراه داء السل فكان يراوغه بالسكنى في جفاف (أبو قير)، ولكنه كان مضطراً إلى أن يشق طريقه في زحمة الحياة بسن القلم: فكتب وألف وحاضر وناظر، حتى كان له في كل كتاب رأي، وعلى كل مسألة اعتراض، ومع كل كاتب موقف. وأعانه على هذا الجهد العظيم قريحةٌ طيعة وبصيرة ناقدة وعزيمة نافذة وطبع عمول؛ ومع ذلك ظل في عزلة عن القلوب المؤاسية أو المشجعة من جمهرة القراء وقادة الأدب، لأن نشأته اللادينية، ونزعته العلمية، وطبعه الجرىء الحر، وأسلوبه الجاف
القلق، كانت تجعل لسطوره ظلالاً من الإلحاد والمادية والغثاثة تبغّضها إلى صاحب الدين وصاحب الفن. ثم وصل أسبابه ببعض ذوي القلم النابه فاستخدموه فيما لا يكسبه المودة والعطف. وجابه قوماً من المتصوفة وطلاب العلم بوقاح الرأي في الدين فآذوه في بدنه وسمعته. ووجد رضَى نفسه وراحة عقله في تسليط الطبيعة على العقيدة وتحكيم الفلسفة في الشعور، فساءت ظنون الناس فيه، وأُرهفت الألسن عليه، حتى عجز أن يعيش على ثمرات فكره.
وكان المرحوم إسماعيل أدهم عفيف النفس يتقنع بميسور الرزق، ويتكرم عن طلب المعونة ولو كانت جزاء على عمله. وكان مرضه الدخيل المزمن يقتضي وفرة الغذاء وجودة الهواء وراحة الجسد، ولكنه كان لا يجد الكفاف لضيق مضطربه، ولا ينال الدعة والجمام لقوة عزمه؛ فتظاهر عليه الداء والشقاء والإباء واليأس من روْح الله حتى زلزلت هذه المحن في نفسه الثقة، وأذهبت عن قلبه السكينة.
ونُكبت الإسكندرية الجميلة بالغارات الجوية الإيطالية، فجلا أكثر الساكنين عن الثغر المروَّع، فأقفرت المنازل حتى منزل أدهم وهو مرتزقه الوحيد، فلم يكن بد من هذه النهاية المخزنة التي انتهى إليها هذا الأديب البائس.
كان الدكتور أدهم - غفر الله له - شديد الذكاء أصيل العقل رياضي الفكر واسع الثقافة لا يؤمن إلا بالعلم والمنطق. وقد أضاف إلى ثروة الأدب العربي الحديث جهداً مهما اختلفت الآراء فيه فإن له قيمته. وكان من الممكن أن يعيش في ظلال أدبه رخي البال مكفول الرزق لو أنه وصل ما بينه وبين الله. ولكنه خضع لسلطان طبيعته ونشأته فعالج الموضوعات الإسلامية معالجة الملحد المخلص الذي يجد سعادته في الكفر ورسالته في التكفير. ولو أنه خادع الناس عن عقيدته كما يفعل بعض الأكياس من الأدباء، لأدرك السلام في الأرض وإن لم يدركه في السماء؛ ولكنه كان أشبه بشهداء الكفر الذين يجدون اللذة في الألم، ويبتغون الخلاص في الموت!
رحم الله الدكتور أدهم! حسب أن أرقام العلم واقيسة المنطق هل كل شيء في تقدير المعلوم واكتناه المجهول، فاعتمد في أدبه على العقل القعيد الذي يرى ولا يطير، واتكأ في فلسفته على الفرض البعيد الذي يطير ولا يرى، وتحامل في مُعتقده على الضمير البليد الذي خبا
وَهجُه بين فتور الخيال وخمود العاطفة. ثم غره أن معارضة الدين سبيل من سبل الشهرة فأوغل فيها بعنف حتى انقطع في صحراء الحياة عن الله والناس! فهو لا يملك النور الذي يضئ ظلمة القلب، ولا الرجاء الذي يخفف وطأة الكرب، ولا الحب الذي يؤنس وحشة الطريق. وحكم القدر على السائر في الظلام والوحدة أن ينزلق من صخرة الحرمان إلى لجة العدم؛ وهناك لا يدركه إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء وشملت كل شخص!
إن الأدب الملحد قد يعيش في الغرب لأن الظلام يمدْه الظلام، ولكنه لا يستطيع أن يعيش في الشرق لأن الظلام ينسخه النور!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
موجة صوفية تثيرها رحلة الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى سنتريس - بين القناطر الخيرية وسدة الهندية - خطاب ضائع - ثمرة شهية من ثمار المطابع.
موجة صوفية
في عصرية الاثنين (2271940) تَوجَّه جماعة من الأصفياء
إلى سنتريس، وفيهم المسيو دي كومنين والمسيو جوزيه
كانيري والدكتور إبراهاميان والمسيو بولْدريني والموسيقار
محمد عبد الوهاب وسِربٌ من كرائم الفرنسيات.
ولم تكن تلك القافلة تحتاج إلى دليل فقد شرَّفتْ سنتريس بزياراتها مرات كثيرة، ولا سيما مدام دي كومنين التي تأنس كل الأنس بزيارة سنتريس، والتي تُعَدُّ زيارتها لداري من مواسم الفرح عند أبنائي.
إنما يحتاج إلى الدليل ذلك الموسيقارُ السابح في لُجج الأحلام محمد عبد الوهاب، وكذلك أُتيحت الفرصة لأن يترفق فيدعوني لمرافقته في طريقنا إلى سنتريس.
وماذا أستفيد من مرافقة عبد الوهاب؟
وهل يُفيق هذا الحالم حتى يعرف رفيقه في الطريق؟
ابتدأ صاحياً في المرحلة الأولى، فسأل عن منازل الكتْاب المصريين وعن مبلغ تأثيرهم في مصر والشرق، وما كدنا ننتهي من الكلام عن طه حسين والزيات والعقاد وتوفيق الحكيم حتى أسلم خياله لأحلام أوابد لا يَقْنُصها غير القلب الذي راضه الحب على التمرُّس بملاحقة أبكار المعاني. ومحمد عبد الوهاب قنّاص أحلام وألباب، وإن كان أرقّ من الزهر المطلول.
ونظرتُ إليه في غيبوبته الروحية فرأيته يُغمغم بأجراس صوتيه لا تُبِين عن لفظ مُعيَّن أو غرض محدود.
وفي لمحة من لمحات الوجد تمثَّلتْ لي شفتان ورديتان لو سبَّح لله بهما مسبَّحٌ لكان فيهما غَناءٌ عن تسبيح كل ما حوَى الملكوت من أرواح وأشباح.
أَيصير عبد الوهاب إلى مثل هذا الحُسن الفاتن كلما نقله الخيال إلى عالم الروح؟
ثم انتبه بغتة، وقد وخزَته به نظراتي فقال: أتزور سنتريس في كل أسبوع؟
فقلت: وما الذي يهمك من ذلك؟
فأجاب: إن هذا إن صح قد يفسِّر نزعتك الصوفية، فما شعرتُ بمثل هذه الأقباس الروحية إلا في هذا الطريق الذي يصل بالأفئدة إلى سنتريس.
وما كاد يُتم هذه الجملة حتى هوَى إلى الغيبوبة من جديد، وحتى عُدتُ إلى التأمل في أسارير ذلك الوجه الذي خلق ليكون مَصدَر هداية ومبعَث فُتُون.
وبعد لحظات كانت أقصر من ومضة القلب بالتشوق إلى موعد غرام وصلنا إلى القناطر الخيرية، ثم وقفنا عند قنطرة الرَّيْاح المنوفي لننتظر سيارات الأصفياء قبل أن تُغذَّ السير إلى سنتريس. وهناك وجدنا على غير موعد جماعة من الشبان الفنانين يترنمون بأغاريد عبد الوهاب، وهم ينتظرون وفود القمر لمصافحة النيل؟
ثم وصل الأصدقاء الفرنسيون فطربوا لذلك المنظر الجذاب، وسرّهم أن يكون في مصر فنَّان يرى طلائع فنه في مكان يتوجه إليه على غير ميعاد.
ودخلنا سنتريس والشمس تجنح للغروب والناس يرجعون إلى دورهم وفي أيديهم مقاود المال الناطق، وتلك طلائع نعيم تكون أوفر ما تكون في سنتريس: فأخصبُ أقاليم مصر هو إقليم المنوفية، وأخضب مراكز المنوفية هو مركز أشمون، وأخضب البلاد في مركز أشمون هو سنتريس، وأخضب بقاع سنتريس هو ما ورثته عن أبى وجدي، وأجمل دار في سنتريس هي دار شاعر سنتريس.
فإن ضاق بعض الناس صدراً بهذا الازدهاء، فليذكر أني تحدثت عن الريف وجمال الريف قبل أن تُخلَق وزارة الشؤون الاجتماعية بأعوام طوال. يضاف إلى ذلك أن بلدي أجمل البلاد حقّاً وصدقاً، وهو الشاهد على أن مصر موطن الخيرات والثمرات ومهد الأفئدة والعقول. ولو قلت: إن بلدي يفوق جميع البلاد من الوجهة العلمية لكنت أصدق الصادقين.
ثم جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث مع الأهل والأصدقاء، وقد ذاع في أرجاء البلد أن عبد
الوهاب حضر ومعه عوده الحنّان فأقبلوا يتسابقون لتزويد أفئدتهم بأطايب البواكير من أغاريد الخلود.
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان: فقد قيل إن في سنتريس مغنين يغنُّون أصوات عبد الوهاب بأطيب وأوقع مما يغنيها عبد الوهاب.
وتَنَادى أولئك المغنّون ليَباروا مطرب الأمراء والملوك، وليروضوه على الاقتناع بأن التواضع خُلُقٌ جميل، فانسحب من الميدان قبل انتهاء السهرة ليرجع إلى القاهرة بحجة أن عنده موعداً في منتصف الليل!
وعند باب الحديقة سأل عبد الوهاب عن العود ليكون رفيقه في الإياب، ثم سارت به السيارة وهو يترنم بقول أحد الشعراء:
تنظُر الساعةَ من حينٍ لحين
…
ليت شعري ما الذي يستعجُلكْ
إن هذا الوصل أحلاُم سِنينْ
…
فاتق الحب وَدَع ما يَشغَلُك
وانصرف جمهور المعجبين بالموسيقار عبد الوهاب وبقيتُ مع الضيوف الأعزاء نتحدث عن الآداب والفنون، ونسمع مداعبات من كان في السهرة من الجنِّيات.
ومضينا نواجه النيل وقد طلع القمر وطاب النسيم فرأينا طوائف من أدباء سنتريس يَسمُرون هناك كما كنت أسُمر مع أصفيائي قبل أن يصنع الدهر بقلبي ما صنع، وقبل أن أُحرَم من قضاء ليالي الصيف في سنتريس، فما ذقت طعماً للحياة الهادئة منذ قضت الأيام بألا أزور سنتريس إلا كما يزور طيف الخيال.
ثم هتف هاتفٌ بأن الليل قد انتصف وآن أوان الرحيل عن سنتريس
وفي القناطر الخيرية وقفنا مرة ثانية نشهد صراع الأمواج في قنطرة الريّاح المنوفي، فأخذتُ المسيو كانري من يده، واقتربت به من معركة تلك الأمواج.
ثم وَثب القلب وهو يسأل: أين الموعد، موعد فلانة، الموعد الذي عقدتْه فوق (سَدَّة الهندية) منذ أكثر من عامين؟
فأجبتُ: تلك يا قلبي مواعيد البنان المخضوب!
وتلفتُّ إلى المسيو كانري وأنا أقول: ألا يكون النوم في ضيافة هذه الأمواج الصواخب أطيب من النوم في الغُرف المغلقة النوافذ؟
فأجاب: ذلك نعيمٌ خاصٌّ بأهل الرق.
فقلت: ومن أجل هذا النعيم يوصي بعض الفلاسفة بأن تكون مدافنهم في ثنايا الأمواج.
ثم رجعنا إلى القاهرة لنأنس بالعيش الرَّتيب من جديد.
فإن سألتموني: أين كنا؟
فأنا أجيب: كنا في رحلة صوفية، وكان معنا عقل دي كومنين وبلاغة كانري وعُذوبة عبد الوهاب، وكانت معنا أشياء، فلا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تزدكم أسفاً على الحرمان من أطايب الوجود. . . وهل كانت تلك الأشياء إلا القلوب الأواهل بأرواح الصفاء؟
خطاب ضائع
كان صديقنا الأستاذ صادق عنبر - طيب الله ثراه! - قد نشر في مجلة (النهضة النسائية) سنة 1927 خطابات غرامية قال إنه وجدها مُلقاة في الطريق، وصحَّ عندي يومئذ أنه ابتدع تلك الخطابات، فكتبتُ إليه من باريس أهنئه على ذلك البِدع الطريف، فأجاب بأنه لم يبتدع تلك الخطابات، وإنما وجدها مصادفةً في شارع الدواوين وهو ذاهب إلى جريدة الأهرام، ولم أصدِّقه فيما ادعاه فتعقبتُه في جريدة البلاغ بمقال لاذع بدَّد ما كان بيني وبينه من وداد.
ثم تشاء الأقدار أن تصحح رأيي في ذلك الصديق المظلوم فقد وجدت أن أيضاً خطاباً ضائعاً، وجدته في شارع فؤاد وأنا ذاهب للسَّمَر مع الأستاذ (وحيد بك الأيوبي) في قهوة السلام بميدان إبراهيم، وأطلعتُ عليه جماعة مت الفضلاء الذين صادفتهم هناك.
وإلى القارئ فقرات من ذلك الخطاب الضائع، ستَر الله كاتبه وهداه!:
(تعاتبين؟ تعاتبين؟ وما الموجب للعتاب وقد صدَّ قلبٌ عن قلب، وزهد روح في روح؟!
ومن تعاتبين، يا شقية، وقد انتهى عهد العتاب، ولم يبق من الذكريات غير أطلال؟
لا أراك الآن إلا حجراً أصم أبكم، لا يسمع ولا يتكلم، وإن كنتِ تحسنين زُخرفَ القول حين تكتبين إليّ من حين إلى حين. . .
وتقترحين أن أزورك في مدينة. . . فهل تظنين أني أطرب لزيارة مدائن الأموات؟
تلك غمرة من غمرات الكرب عانيتها حين توهمتك إنسانة لها وعي وإحساس، ثم لطف الله فأفقت، وما كنت احسبني أفيق
كان غرامي نزوة من نزوات الطيش، وقد عقلت، والحمد لله على نعمة العقل!
أمثلُكِ يُزارُ بوحيٍ من القلب، وأنتِ رسمٌ من الرسوم الهوامد، وقد انتهى عهد البكاء على الرسوم والطلول؟
ما أبكي عليك، يا شقية، وإنما أبكي على النعيم الذي ذهب منذ اليوم الذي انزاحت فيه الغشاوة عن قلبي
كنت توهمت أني عشقت، وكانت الدنيا لا تسعني كلما خطر في البال أني أملك قلب امرأة لها في دولة الحسن تاريخ
ثم انجابت ظلمات الغواية فرأيتك مخلوقة من خزف، مخلوقة غبية بليدة حرمتها الأقدار نعمة القهم لسرائر الأرواح والقلوب.
خرجتُ من هواكِ كما دخلتُ، فما أمدَّني هواكِ بقصيدة رشيقة ولا مقال بليغ. والأديب لا يعشق ليقال إنه عشق، وإنما يعشق الأديب ليطلع على الآفاق المجهولة من ضمائر الوجود. وأنت أنت، أنت الأنثى الغبية البليدة التي لا ينتفع الأديب من صحبتها بشيء، إلا أن يصير اسمه إعلاناً عن جمالها المظنون، وأنت والله جميلة، ولكن جمالك لا يزيد عن جمال التماثيل!
إنما أبكي على نفسي، فقد كنت احسبني أهلاً لغرام أقوى وأعنف من الغرام الذي عانيت، ثم عرفت مع الأسف الموجع أنني شغلت قلبي بإنسانة ضعيفة لا تقدر على نقل القلب من مكان إلى مكان. فمتى تزحزح من مكانك يا قلبي؟ ومتى تعرف أن الهدى ليس أكرم عنصراً من الضلال؟
لا تكتبي إليّ بعد اليوم، يا شقية، فقلبك أصغر من قلبي، ولم تكوني إلا طفلة نضجت قبل الأوان فتوهمتْ أنها قادرة على مساورة الرجال)
تلك فقرات من ذلك الخطاب الضائع، الخطاب الذي وجدته في شارع فؤاد.
فهل رأيتم أسخف من كاتب هذا الخطاب؟
الدنيا في حرب وشقاء وبلاء، فكيف يجوز أن يكون فيها من يعشق ويلتاع؟
وفي قهوة بالميرا بمصر الجديدة صادفت الدكتور مشرَّفة بك عميد كلية العلوم فعرضت عليه هذا الخطاب على أنه نموذج من السفاهه والحُمق فابتسم، وقال: العواطف من القُوى
الأساسية في حياة الإنسان، ولا بُدَّ لتلك القوى من غذاء. واستطرد فحدثني أنه طرب حين رجع إلى معاهد الطفولة بدمياط، يوم كان يتقرب إلى الله بتقبيل ضريح الشيخ مظلوم!
العواطف تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول؟
هذه فلسفة لم أسمع بها من قبل
فإن صحت هذه الفلسفة فهي سِنادٌ لكاتب الخطاب الضائع، الخطاب الذي وجدته في شارع فؤاد
الدنيا في حرب، فلا تصدَّقوا الدكتور مشرَّفة، وإن كان عميد كلية العلوم، واقضوا أوقاتكم كلها في متابعة أخبار الحرب بين الإنجليز والألمان، فأخبار الحرب هي زاد العواطف والعقول في هذه الأيام العِجاف!
ثمرة شهية من ثمار المطابع
اليوم عرفت أن الأستاذ محمود بك تيمور وأخاه المرحوم محمد بك تيمور ورثا فنّ القَصَص عن أبيهما العظيم أحمد باشا تيمور.
أقول هذا وقد فرغت من قراءة كتاب نفيس اسمه (أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر) تحدث فيه تيمور باشا عن جماعة من الشعراء والعلماء والأعيان بأسلوب هو القَصَص الحق، أو هو أحسنُ القَصَص، إذا صح الاستئناس بعبارة القرآن المجيد.
كتابٌ كله أقاصيص، ولكنه حقائق، وله جاذبية تجعله فوق القَصَص المعطَّر بأنفاس الخيال.
في هذا الكتاب أربعة وعشرون ترجمة لبستْ جميعاً ثوب الصدق في حدود ما وصل إلى المؤلف من أخبار مَن ترجم لهم. ومن المؤكد أن هذا الكتاب يسدّ فراغاً في تصوير بعض معالم العهد الذي عاش فيه المؤلف، ففيه أخبار سياسية وأدبية واجتماعية لم يتحدث عنها أحد من قبل هذه الدقة وبهذا التفصيل.
ونحن نأسف على أن لم يُكتَب لتيمور باشا أن يقف جهوده على هذا اللون من التاريخ، فلو أن الله كان وفقه إلى ذلك لأتى بالأعاجيب في تسجيل الحوادث وترجمة الرجال.
وقد التزم تيمور باشا في هذا الكتاب التواريخ الهجرية أو كاد، والتزم العبارات القديمة في وصف بعض الأشياء، فالعِزبة هي الضَّيعة، والجنيه هو الدنيار، ودخول الإنجليز مدينة القاهرة كان يوم الخميس مستهلّ ذي القِعدة سنة 1299. وتلك من لوازم تيمور باشا الذي
كان يريد أن يجعلنا عرباً ومسلمين في جميع الشؤون، أحسن الله إليه بقدر ما أحسن إلى العروبة والإسلام!
وتيمور باشا في كتابه يجسِّم الحسنات ويتغافل عن السيئات. وإذا قهره التاريخ على تسجيل سيئة أحاطها بعبارة من عبارات التشكيك، أو أعتذر عنها بلطف ورفق، حتى ليمكن الحكم بأن الرجل أراد أن يكون كتابه من كتب الأخلاق الصِّحاح. وكيف لا يكون مراده كذلك وقد شهد عارفوه وشهدت آثاره بأنه كان من أرباب القلوب.
ولا تجد في هذا الكتاب عبارة تشير إلى أن تيمور باشا كان يرتب ويصنف ويؤلف، فهي أحاديث بعضها برقاب بعض في يسر وسهولة واتساق، وذلك شاهد القدرة على التعبير الخالي من التكلف والافتعال.
وقد أكثر تيمور باشا من الترحم على من ترجم لهم، فعليه رحمة الله، وعلي الهراوي رحمة الله، وعلى عبد المطلب رحمة الله، فقد كانا يريانه إماماً في الأدب واللغة والتاريخ، ولهما في البكاء عليه قصائد جياد.
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة الفؤاد الأول
انتقال اللغة من السلف إلى الخلف: التطور الجبري؛ مظاهره
في لغة الحديث ولغة الكتابة
تتأثر اللغة في تطورها وارتقائها بعوامل كثير يرجع أهمها إلى أربعة طوائف:
(إحداها) انتقال اللغة من السلف إلى الخلف
(وثانيتها) تأثر اللغة بلغة أخرى
(وثالثتها) عوامل اجتماعية نفسية وطبيعية، كحضارة الأمة ونظمها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها، وثقافتها واتجاهاتها الفكرية، ومناحي وجدانها ونزوعها، وبيئتها الجغرافية. . وما إلى ذلك.
(ورابعتها) عوامل أدبية، تتمثل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللغة، وما تبذله معاهد التعليم والمجامع اللغوية وما إليها في سبيل حمايتها والارتقاء بها.
وسنعالج بإجمال في هذه الكلمة الطائفة الأولى من هذه العوامل، مرجئين الكلام عن العوامل الأخرى إلى المقالات التالية
على الرغم من أن الطفل يأخذ اللغة عن أبويه والمحيطين به، فإن لغة الخلف في كل أمة تختلف عن لغة السلف في كثير من المظاهر، وبخاصة مظاهر الصوت.
ويرجع جزء يسير من نواحي هذا الاختلاف إلى أمور خاصة مقصورة على بعض الأفراد كالعيوب الصوتية التي يصاب بها بعض الناس، وضعف السمع، واختلال أعضاء النطق. . . وما إلى ذلك؛ وليس لمثل هذه الأمور شأن كبير في تطور اللغة؛ لأن آثارها مقصورة على أصحابها، تبقى معهم وحدهم في حياتهم وتختفي بموتهم.
أما معظم نواحي هذا الاختلاف وأكبرها أثراً في تطور اللغة فترجع إلى أمور عامة يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة ويمتازون بها عن أفراد الطبقة السابقة لهم، كالارتقاء
الطبيعي لأعضاء النطق في الفصيلة الإنسانية (لأن أعضاء النطق في تطور طبيعي مطرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها) والارتقاء الطبيعي للظواهر النفسية (فالقوى العقلية بمختلف أنواعها في تطور مطرد، شأنها في ذلك شأن أعضاء النطق. ومن الواضح أن كل تطور يحدث في هذه القوى ينبعث صداه في اللغة) والأخطاء التي تنتشر بين الصغار في طبقة ما ولا يقطن لها الكبار لدقتها وخفائها أو يهلون إصلاحها ولا يعنون بالقضاء عليها. فالفروق اللغوية الناشئة عن هذه الطائفة من العوامل يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم.
ومن هذا يظهر أن ناحية هامة من نواحي التطور اللغوي ترجع إلى عوامل جبرية لا اختيارية للإنسان فيها، ولا يد له على وقف آثارها أو تغيير ما تؤدي إليه.
ومن هذا يظهر أنه ليس في قدرة الأفراد أن يقفوا تطور لغة، أو يجعلوها تجمد على وضع خاص. فمهما أجادوا في وضع معجماتها وتحديد ألفاظها ومدلولاتها، وضبط قواعدها وأصواتها. . .، ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءة وكتابة ونطقاً وفي وضع طرق ثابتة سليمة يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوة في محاربة ما يطرأ عليها من لجن وخطأ وتحريف، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل الذي تريدها على السير فيه سنن التطور والاتقاء الطبيعيين.
حقاً إنه يمكن أحياناً التحكم في لغة الكتابة والجمود بها زمناً طويلاً على أصولها القديمة أو ما يقرب منها؛ ولكن لغة الكتابة التي تجمد بهذا الشكل لا تمثل تمثيلاً صحيحاً حالة الحياة اللغوية في الأمة، وتتسع كثيراً مسافة الخلف بينها وبين لغة المحادثة، لأن هذه اللغة الأخيرة في تطور مطرد، ولا تستطيع أية قوة إلى تعويق تطورها سبيلاً. فلا تنفك تبعد عن لغة الكتابة الجامدة، حتى تصبح كل منهما غريبة عن الأخرى، ويصبح تعليم لغة الكتابة في الأمة أشبه شيء بتعليم لغة أجنبية. هذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة هي اللاتينية، وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شئون المحادثة؛ وما عليه الحال الآن في مصر وبلاد العرب وشمال أفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة في هذه الممالك.
على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو؛ ولا تبقى إلا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال. فإذا ما بلغت هذه اللغة أشدها، وتم تكونها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالة مفرداتها ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم، أخذت تطارد لغة الكتابة وتستلبها وظائفها وظيفة وظيفة حتى تجردها منها جميعها، فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة. وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال.
فما أشبه لغة الكتابة الجامدة، في حالات كهذه، بجبل ثلج ثابت على سطح البحر؛ ولغات المحادثة المتطورة بالتيارات المائية التي تموج من تحته. فهمها طال بقاء هذا الثلج، فإن مصيره إلى التحطم والذوبان، وحينئذ تطفو تلك التيارات إلى سطح البحر، وتعيد إليه ما كان مستوراً تحت هذا الجيل الجامد من مظاهر النشاط والحياة:(سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا).
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون
الحضارة المتبرجة
للأستاذ محمود محمد شاكر
أعطيت هذه الحضارة الأوربية الحديثة أعظم روح من الفن كان في الأرض من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. وهذه الروح الفنية - على سموِّها في بعض نواحيها إلى غاية ما يتسامى إليه الخيال الفني - تتساقط وتتدنى وتنحدر من جوانبها إلى أدنأ ما يبتذل من الفن العامي المثير لأشأم الغرائز الحيوانية في الإنسان. وبهذه الرُّوح الفنية عالجت الحضارة الأوربية مشكلة الحياة السريعة الدائبة المثقلة بأعباء العمل، فاتخذت لكل مَلَل راحة واستجماماً بلغت بهما غاية اللذة الفنية، تلك اللذة التي تجعل الأعصاب المجهدة إذا أوت إليها كأنما تأوي إلى بيت ذي رونق وزخرف وعطر وضوء يغمغم ألحاناً من الفن الموسيقي، فإذا بلغته استنامت بإجهادها على حشايا الخز والديباج، نعومة وليناً ترسل في الأعصاب لذة تمسح الجهد حتى يسكن ويخف ثم يتبدد.
وكانت المرأة هي فنَّ الفنِّ للإنسانية، وهي الشاطئ الوادع لبحر الحياة المتموج، وكانت الظل الرطيب في بيداء موقدة تحت أشعة الشمس المحرقة، وكانت هي السكن للقلب المسافر دائماً في طلب أسباب العيش والحياة. فجاء فن المدنية الحديثة فجعل الشاطئ بحراً آخر يموج موجاً فنياً مغرياً يجعل السباحة المجهدة فيه ضرباً من الراحة، وتركت الظل الرطيب حرارة مستعرة تحرق، ولكنها تحرق بلذة، وفرشت السكن حتى مدته طريقاً بعيداً مترامياً يسافر فيه القلب سفراً بعيداً في أحلام وفتنة وجديد لا يتقادم.
وبدأت المرأة بدأها لتجعل الحضارة فناً جديداً من تجميل الحياة للمكدودين. ثم جاءت الحرب الماضية، فخرجت المرأة من وطيسها المتوقد قد استوت ولذَّت وطابت، وتجدّدت عقلاً وروحاً وجمالاً، وشاركت أسباب الحضارة في إيجاد حل جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكدٍّ وإرهاق وعناء، فاتخذت فن العقل السامي عبداً تصرِّفه في إنشاء لذات الحياة إنشاءً عبقرياً تخشع لسطانه النفس خشوعاً راضياً، ثم تمشى في جنّاته: تأْبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء: كوني جميلة، فتكون.
وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزَينت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت
الغرائز كلها من هزة الأشواق وحب الاستمتاع، وانحدرتْ في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنَّثة، وسطعت في كيانه كله نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلها على كل شيء ألواناً تتخايل بالفن المنسَّق البديع، وصبغتْ كل شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوىً في الحياة إلا وهو من المرأة وإلى المرأة وفي سبيل المرأة.
وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في تلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يُحس ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرّف، وبذلك لم يبق له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته.
أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فناً جميلاً يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثراً ومنتظماً، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، ومع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استعباد الشهوات.
ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظاً من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدة في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد لحركة، وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة التي تتحول في نار الشهوات رماداً بعد توقد واشتعال.
فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتد بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي
ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل.
وجاء اشتراك المرأة اشتراكاً عملياً في الحياة الأوربية العامة ليقذف الروح بعيداً عن عزلتها، ويدني غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسطان الأشواق وحدها دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائماً أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعم ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقي من العنت والقسوة والمشقة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحراراً في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل كما تترفع عن بغي السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكم طبقة في طبقة كما تأبى ثورة طبقة على طبقة.
ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخَلق الجميل الفتان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرّد، فقام النظام كله على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه وتلك الدولة الصغيرة التي تسمى البيت، بل هو يعمل ليجد أولاً تلك اللذة الحاكمة الممتعة التي يستمتع بها في ظل تلك الدولة العظيمة التي تسمى المرأة.
وإذا بدأت الطبقة العاملة من الشعب تجد حوافز أعمالها في شيء بعينه، كانت كل أعماله من الأدنى إلى الأعلى لا تجد في أعمالها إلا هذا الحافز الواحد، وإذا تشابهت الحوافز تشابهت الغايات، وما يفترق هذا عن ذاك إلا بأن لكل شيء أسلوباً، ومهما اختلفت الأساليب في هذا فلن تختلف في الدلالة إلا بمقدار الأصل العملي الذي يوجب هذا الاختلاف.
والمكان الذي نصت عليه عروس النفس الإنسانية في هذه المدنية الحديثة، وهو الحافز وهو الغاية، ولذلك تجد هذه المدنية قد تبرجت لأبنائها تبرج الفن العبقري الحافل بأسباب التحكم المستمر في أعمال كل حي. ولما كانت هذه الحوافز على تعددها إنما هي في
الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس - لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد - ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضاً في سبيل هذا التفرد - وقع التضارب والتعادي والانتقاض في كل عمل، وصار ما يبني لا يكاد يتم حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك.
ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت ترشف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدِّماً مستعبداً مستأثراً باغياً، ولما تعاندت القوى الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عاماً، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ول يتألف ما تفرق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرّق.
إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعث الحرب الماضية كانت ترفه عن المكدودين بالعمل ترفيهها الحُلو الغني المتبرّج لتعطي القُوى العاملة نشاطاً جديداً من النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامَها الجريء فجلبت زينتها من كل خيال ومن كل فن ومن كل سحر، لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجوّ الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلت حبيبها، والبنت التي أضاعتْ قَيِّمها من أب أو أخٍ أو عمٍ،. . . وبقيت في موج الحياة حَيرى متلَدّدة، لم تجد بدَّاً من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعتْ في الطريق المجهول وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطالبها؛ فلم تجد بدّاً من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيدُ للصائد في كل وجه حتى اصطدام العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدري إلى أين ينتهي ولا كيف ينتهي.
وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضاً كثيرة فاتنة حائرة لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني!
أنقذني!! أنا وحدي، لا أجد من يعولني! وسينظر العالم الجديد إلى هذه المرأة بالرحمة والعطف والحنان، كما نظر للّواتي كنّ بعد الحرب الماضية. وستعمل المرأة يومئذ لتكتسب الرجل في كل وجه، ثم لا تلبث أن توجد من بقايا العالم المتحطم سحراً جديداً لمدنية ساحرة، وبذلك يرتد العالم إلى النظام الاقتصادي الفاجر المبني على اللذة وطلبها والبحث عنها، فتكون أنظمته كلها قائمة على الاستبداد والفجور في الاستبداد.
ويومئذ يبدأ تحقيق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة وما يكون في أعقاب الدهر، إذ (يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)، وحتى (ترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به). وما يكون ذلك إلا يوم يتحقق للحياة المعنى الفني المحض الذي لا يعرف قاعدة اجتماعية يحرص على تحقيقها للاجتماع، والذي يرى الحرية انطلاقاً من قيد الأخلاق التي تقسره على مصلحة الجامعة دون لذة الفرد، وتتبرج الحياة تبرجاً هائلاً يجعل العقل غريزة جديدة تشتهي، والروح خلقاً منبوذاً حائراً يطوف على هذه الفتن كما يطوف الصعلوك على مائدة ملكية. ويومئذ يرفع العلم لأنه سيُستعبَدُ في إيجاد اللذات، وتفارقه الروح النبيلة التي لا يكون العلم إلا بها علماً، ولا يبقى في الأرض إلا الجهل الأحمق الذي لا يعرف إلا السيطرة بحماقة، والأثرة بكلب، وتكون المرأة هـ علم الحياة الجديدة الذي يمزق الرجولة القليلة في جذب الشهوات العنيفة، ويغرق الفضيلة في طوفان المتعة الجميلة التي تبعث في الأعصاب المجهدة نشوة مسكرة.
محمود محمد شاكر
محل الحضارة العربية
للدكتور جواد علي
هل هنالك حضارة عالمية اشترك في تكوينها جميع أفراد البشر على اختلاف إشكالهم وأجناسهم؟ أم هل هنالك حضارات مختلفة لكل حضارة ميزة وعقلية تمثل عقلية الجيل أو الأمة؟ أم هل هنالك حضارة واحدة تغذي العالم كله وتشع عليه كما تشع الشمس على الأرض؟ تلك نظريات مختلفة تمثل نزعات علمية وسياسية متضاربة وغايات متباينة. غير أن الرأي السائد اليوم بيم جمهور المؤرخين ومنقبي تأريخ الحضارة هو أن هنالك تفاوتاً بين البشر، كما أن هنالك تفاوتاً بين الحيوان أو النبات، وأن الحضارة التي هي إنتاج البشر العقلي تختلف لذلك تبعاً لاختلاف المجموعات البشرية، وهذه النظرية على طرفي نقيض مع نظرية (1744 - 1803)، ونظرية التطور التاريخي للفيلسوف (1770 - 1831)، ونظرية (الإنسانيين) وأتباع الكنيسة من المؤرخين.
والمسألة لم تقف عند هذا الحد مع ذلك بين أصحاب نظرية تعدد الحضارات، إذ أن من بين هؤلاء من يدين بفكرة تأثر الحضارات بعضها ببعض، كما هي نظرية الفيلسوف الألماني - مؤسس (دار الحكمة) في مدينة الألمانية والمستشرق وجمهور من المستشرقين، كما أن هناك مثل الفيلسوف من يقول بتعدد الحضارات مع وجود نفسية خاصة لكل حضارة، أو استقلال تام كما هو رأي الفيلسوف
أما أصحاب فكرة وجود حضارة واحدة هي سبب هذا التطور العالمي والتقدم البشري المطرد فهم أصحاب العواطف المتطرفون من الأوربيين كالفرنسي رينان في محاضراته التي ألقاها في عام 1883 في كتابه تاريخ الحضارة السامية وكرافر كوبينو والنازيين الألمان وفاشست إيطاليا. ولكن معظم أصحاب هذه النظرية هم أناس ليسوا ذوي اختصاص في الموضوع ولا دراسة ناتجة عن استقراء علمي محدود، بل هم من ذوي الطريقة الفلسفية العامة التي تحاول الإلمام بكل شيء وتضع القوانين حسب وقواعد رأتها صالحة لذلك. والحضارة العربية في نظر هؤلاء حضارة سطحية ظاهرية أنتجتها عقلية آرية ومنابع يونانية فارسية هندية غوطية. وحيثما وجد الإنسان ظاهرة من ظواهر الحضارة في البلاد العربية فلا بد من إرجاعها على عقلية آرية وإنتاج غير سامي. ودوزنبرك الدكتاتور
النازي للشؤون الثقافية الذي لم يسلم إلا بالزخارف المعروفة باسم يحاول الحط من قدر هذه، فيجعلها تمثل عقلية ساذجة لا غير.
غير أن النظريات لا قيمة لها أبداً إن لم تدعم بالنصوص والبراهين، كما أن الاستشهاد بحادثة أو رواية لا يتخذ حجة للحكم به على أمة. وإني أستطيع أن أجعل من الأمة الجرمانية أمة همجية بربرية مادية خاملة لم تنهض إلا أخيراً، كان يحاول زعماؤها إيقاظها، بالاستناد إلى النصوص الجرمانية نفسها المجموعة في المصادر والمنابع عن التأريخ الجرماني. ويستطيع كل مؤرخ أن يفعل ذلك في تاريخ أي أمة كانت ولا سيما إن كانت أمة ضعيفة في وقته منحطة. وأستطيع أن أقول إن الأمة العربية لو كانت في الوقت الحاضر قوية لكانت النظرية على العكس تماماً. وفي المصادر والنقوش الأثرية ما يبرهن على أن وضع حدود وحواجز بين حضارة وحضارة ومحاولة عزل الحضارات بعضها عن بعض أمر غير ممكن. حتى في المسائل الروحية تتأثر الأمم بعضها ببعض. فمحاولة كتابة تاريخ أوربي فقط لا تنجح تماماً إن لم يتطرق المؤرخ في بحثه إلى الحضارة الإسلامية، كما أن محاولة كتابة تاريخ عربي مجرد عن ذكر أي تأثير للحضارة الغربية محاولة فاشلة غير علمية.
ولو درس التاريخ العربي كما يدرس التاريخ بجميع فروعه في الجامعات لأوربية، أو لو انصرف المؤرخون إلى دراسة النصوص الأوربية على العلاقات بين أوربا والشرق الأدنى لتغيرت نظرية أصحاب العزلة تماماً. وهناك مؤثرات أثرت تأثيراً شديداً من جانب العرب ليست في الحياة المادية بل في الحياة الروحية الأوربية التي هي من أصعب الأشياء لما بين العقليتين من فروق. ومن أمثلة ذلك الشعر في القرون الوسطى وظهور نوع جديد منه هو الشعر الغزلي على الطريقة الشرقية والروايات العربية والتصوف الذي أطلق عليه اسم (التصوف الألماني) وكان زعماؤه يجيدون اللغة العربية ودرسوا وترجموا الكتب إلى اللغة اللاتينية.
وقد غير كثير من أصحاب نظرية (الشرق شرق والغرب غرب) نظريتهم حين توغلوا في البلاد العربية وجابوا البلاد الأفريقية، وتوصل بعضهم إلى أن الحضارة العربية تعود إلى الحضارة الأوربية لا الحضارة الأسيوية، وأن السيد أمير علي المسلم الهندي أقرب جداً إلى
أوربا عقلاً وثقافة من الفيلسوف طاغور الأسيوي فكراً وعقلاً. كما لاحظ الأوربيون الذين ذهبوا إلى السودان وأعالي النيل أن التفاهم مع المصريين المسلمين كان يزداد يوماً فيوماً كلما تقرب هؤلاء من العالم الأسود، وكذلك كان الحال في نواحي أفريقية الأخرى. كما لاحظ المستشرقون أن اللغات الهندية الأوربية تتقارب مع السامية جداً بالنظر إلى اللغة السودانية أو لغة البانتو مثلاً. وقد ظهر أن الأتراك أقرب إلى أوربا عقلياً من اليابان، مع أن اليابان هي في مدنيتها أوربية محضة، ولكنها في حضارتها أسيوية محضة، وقد جعلوا سبب ذلك تأثير الحضارة الإسلامية. وأغرب من ذلك هو أن القبائل الأفريقية أو قبائل الهند الهولندية حينما تسلم تسرع إلى لبس الملابس وإلى التقرب من الأوربيين أكثر من الوثنيين الابتدائيين. وهذه المسألة كانت من أهم المسائل التي درستها الحكومة الألمانية قبل الحرب لتعيين سياستها تجاه الإسلام.
يرجع بيكر ذلك إلى الأصول التي تتألف منها كل من الحضارتين الأوربية والعربية، فبينما نجد الحضارة اليونانية الرومانية والحضارة المسيحية والحياة اليومية الأوربية هي الأسس التي تكون الحضارة الأوربية نرى الحضارة العربية متأثرة بالعاملين الأولين مضافاً إليهما العقلية السامية الخاصة، وهذا هو سبب التقارب الموجود بين الحضارتين ولكن ذلك لا يعني أن الحضارة العربية مشتقة أو هي جزء من الحضارة الأوربية، بل هي وسيلة بين الحضارة الأوربية والحضارة الأسيوية لها مميزاتها الخاصة ومثلها العليا، ونظرتها العالمية.
هنالك حضارة كما أن هنالك مدنية، ومن الخطأ عدم التفريق بينهما، كما أن من الخطأ تفضيل حضارة على حضارة بصورة مطلقة دون قيد أو شرط، إذ أن كل الحضارة تمثل نفسية خاصة هي وليدة عوامل مختلفة، ومن الخطأ كذلك أن تتكلم عن حضارة أوربية بصورة عامة، إذ أن بين شعوب أوربا من البون الشاسع كما في شعوب البلقان ما لا يسوغ لنا إطلاق هذا التعبير. كما أن من الخطأ نكران الحضارات الأخرى، ولدينا أمثلة من الحياة اليومية لا تنكر.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا
للنقد الخالص
من عجائب الفهم. . .؟!
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شؤون التمثيل بوزارة المعارف
للنقد الأدبي اليوم في مصر حركة ونشاط، وكأن الأدب في مصر، وقد تأثر بالهزة العنيفة التي أنزلتها الحرب القائمة بالنظم والأوضاع في حياة العالم بأسره. يختلج اليوم اختلاجات عنيفة ويتحوى وينقبض شأن كل كائن يتهيأ لحركة عنيفة، أو يتحفز لوثبة قادمة.
والحرب والنقد شيء واحد، فالحرب - كما قرر بعض علماء الاجتماع - وقفة تقفها الإنسانية تراجع فيها نظمها وما كانت عليه، لتتدارك ما (تضخم) من طفيلات المذاهب، وتفتح عروقها لتتفصد بما طغى عليها من الأوشاب والفضول، والنقد في طبيعته ووسائله ومقاصده لا يختلف عن هذا.
وقيام هذه الحركة النقدية في مصر اليوم جدير بالاهتمام حري بالتأمل، يبعث الارتياح في نفس كل تواق إلى أن يرى الأدب في مصر يقتحم مناطق جديدة من النشاط الذهني، ويعمل على أن يتخلص من علله وأمراضه. فالنقد شاهد على حيوية الأدب، وفيه ما ينهض دليلاً على أن الذهن يتطلع، ويؤمل، ويراجع، ويتبصر، وينصب الميزان الصحيح.
وآخر ما قرأناه في هذا الموضوع نقد بعنوان (من عجائب الاجتهاد) بإمضاء (ناقد أديب)، تناول في نقده هذا مسرحية (مفرق الطريق) للدكتور بشر فارس.
و (مفرق الطريق) مسرحية أخرجها مؤلفها إلى الناس منذ عامين قدوَّت في عالم التأليف المصري دوَّيا واسعاً، دفع الأقلام إلى تناولها بين مادح ومستغرب، وكانت (الرسالة) الغراء معرضاً لما دبجته هذه الأقلام، وقد كان لي سهم في الكتابة عن هذه المسرحية، فبسطت دقائقها، وكشفت عن مفاتنها الحفية، وبينت أصالتها في الرمزية المستحدثة، وقررت جدتها في عالم التأليف المصري للمسرحية.
قرأت نقد (الناقد الأديب) وكان أول ما عجبت له أن يخرج ذلك المقال متأخراً، بعد أن مضى على ظهور المسرحية أكثر من عامين، وبعد أن خبت النار التي اشتعلت حولها.
عجبت لهذا ثم عجبت لما هو آخذ من هذا. . . مما يصح أن يقف القارئ عليه خلال مطالعة مقالي هذا ليشاطرني عجبي، ولينتهي إلى ما انتهيت إليه.
يزعم (الناقد الأديب) أن الفكرة التي تقوم عليها (مفرق الطريق) توافق في جوهرها فكرة فلسفية أوردها (الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد) في قصيدة له عنوانها (القمة الباردة) ويحاول تأييد زعمه هذا بإيراد جمل وألفاظ غير مفهومة، مقتطعة عمداً من المقدمة التي قدم بها الأستاذ العقاد قصيدته، ومن التوطئة التي مهَّد بها الدكتور بشر فارس لمسرحيته، عبارات ملتقطة في تعسف واقتضاب يجعلها تحتمل وجوهاً من التأويل اللفظي فقط، قد ينغلق معها المعنى الصريح، فتنبعث شكوك القارئ. وكأن (الناقد الأديب) ينسى أو هو يتناسى أنه لا يجوز الحكم في قضية بإيراد بعض ألفاظها المنسلخة عن قصد مرسوم.
ما هي الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها قصيدة القمة الباردة؟
إلى القارئ نص تقديم القصيدة كما أورده الأستاذ العقاد:
(للجبال قمة باردة تعلوها الثلوج، وللمعرفة كذلك قمة باردة تفتر عندها الحياة. فإذا نظر الإنسان إلى حقائق الأشياء لم ير شيئاً ولم يشعر بشيء، لأن حقيقتها كلها ذرات ترجع إلى حركة متشابهة في كل ذرة، فخير له ألا ينظر إلى الحقائق كل النظر، ولا يعرض عن الظواهر كل الإعراض، لأن الحيَّ لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة، فإذا تجاوز ذلك فقد ارتفع من المعرفة إلى قمتها الباردة التي لا يشعر فيها بحياة)
وجاءت القصيدة بعد ذلك، وأبياتها في وصف هذه القمة:
هنالك لا الشمسُ دوّارَةٌ
…
ولا الأرض ناقصةٌ زائدة
ويا بؤس فانٍ يرى ما بدا
…
من الكون بالنظرة الخالدة
فذلك رب بلا قدرة
…
وحَيٌّ له جثة هامدة
إلى الغور، أمّا ثلوج الذري
…
فلا خير فيها ولا فائدة
والمقصود بثلوج الذرى: حياة الفكر المجرد، والمقصود بالغور حياة الفكر العملي
وهكذا نرى أن القصيدة، تقديماً وشعراً، ما هي إلا عرض وتحليل لمذهب من مذاهب المعرفة. ومسألة المعرفة تتعلق بالفلسفة العامة أو ما وراء الطبيعة، بل إن هذا المذهب
الفلسفي بالذات هو مذهب مشهور وصاحبه الفيلسوف الألماني (كانت الذي قيد الوصول إلى اليقين بنظرية (النسبية أو (المقيسة) القائمة على تحديد إدراك العالم الخارجي، وهو ينفي أن تستطيع الحواس إدراك العالم الخارجي، وهو ينفي أن تستطيع الحواس إدراك الأمور المطلقة أو الحقائق في ذاتها، فالمعرفة في نظر (كانت نسبية وظاهرة، قوامها الفهم أو البديهة، وأدواتها الحواس؛ فالفكر يُلبس المعرفة شكلها دون المادة، وأما المادة نفسها فهي فوق إدراكنا وإن كانت موجودة حقاً.
وهذا ما فسره الأستاذ العقاد بالذات في مقدمته بقوله: (لأن الحي لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة)!
وأما ما وراء ذلك من طلب المعرفة - وطريقة الكفر المجرد الخالص من فعل الحواس - فيلقي بالمرء في قمة لا متسع فيها لعمل الفكر، خارجة عن الحياة (لا الشمس هنالك دوَّارة، ولا الأرض ناقصة زائدة) فإذا المرء: (ربٌ بلا قدرة، وحيّ له جثة هامدة)
وخير للمرء أن ينزل إلى الغور، أي إلى الأخذ بظواهر الدنيا ليستطيع أن يلمسها ويدركها، فيحيا على قدر ما ركب فيه من إدراك وفهم.
هذا ما أراد قوله أستاذنا الكبير العقاد، وهو من أحسن الشعر وأجوده وأبعده معنى.
وبين هذا المذهب وما نزع إليه في بعض مسرحياته (هنريك إبسن) زعيم المسرحية الحديثة وشائج قربى ونسب، ومن درس (إبسن) يعرف (قممه المثلوجة) أو قممه الباردة.
ولا لوم ولا تثريب على أستاذنا العقاد أن يورد قصيدة من شعره تحمل في طياتها نزعات فلسفيه لمدرسة معروفة. فليس كل شاعر أو أديب مهما نبه ذكره وعلا شأنه بصاحب مدرسة في الفلسفة والأدب الذي تجفوه لمسات المذاهب الفلسفية الرفيعة هزيل في كيانه قريب في معانيه. وإنه لأمر مقبول - بل وواجب - أن يعتنق الكاتب والفنان مذهباً من المذاهب الفلسفية الرفيعة؛ وهذه هي حالة كبار الأدباء في أوربا، فالكاتب ويلز من الآخذين بفلسفة النشوء والارتقاء كما بيِّن ذلك الأستاذ (على أدهم) في عدد قريب من أعداد (الثقافة)؛ و (بيراندللو) متأثر بأعمال (فرويد) وكذلك (ليوتورمان) و (أندريه جيد)
ولنر الآن ماذا أراد أن يقرره بشر فارس في مسرحية: (مفرق الطريق)
تقوم هذه المسرحية على معالجة حالة نفسية غامضة، أو على تعقيد نفس كما يقول علماء
النفس اليوم، مُفادُها: المرأة التي يجذبها الحب وتخاف منه، والرجل الذي يريد الحب ولا يعرف قدره، ثم الرجل الذي يريده ولا يستحقه. وهذه قضية من قضايا النفس البشرية، لا علاقة لها بالمسائل الفلسفية الصرفة اللاحقة بنظرية المعرفة واليقين، وما يدخل في باب ما وراء الطبيعة الذي أورده الأستاذ العقاد في قصيدته، ومرده إلى فلسفة (كانت)
والمذهب الذي نزع إليه بشر فارس في مسرحيته، قد بسطه في توطئة مسرحيته بسطاً محكماً، إذ قرر أنه آخذ بالطريقة الرمزية فلسفة وأدباً وفناً، فقال في صحيفة 6:(وليست الرمزية ههنا بموقوفة على الرمز بشيء إلى شيء آخر، ولكنها فوق هذا استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر، وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم المتناسق، المتواضع عليه، المختلق اختلافاً يكد أذهاننا، طلباً للعالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، رضينا أو لم نرض، عالم الوجدان المشرق والنشاط الكامن والجماد المتأهب للتحرك، إلى ما يجري بينها من العلاقات الغريبة والإضافات التائهة في منعطفات الروح ومثاني المادة، يشترك في كشفها الإحساس الدفين والإدراك الصرف والتخيل المنسرح)
فالمذهب الفلسفي عند بشر فارس غير المذهب الفلسفي عند الأستاذ العقاد.
(العقاد) مذهبه النزول إلى ظواهر الدنيا والاطمئنان إليها من غير أن يهمل الحقائق كل الإهمال، و (بشر فارس) مذهبه الاعتماد على البصيرة والإحساس الدقيق والإدراك الصرف مع إهمال ظواهر العالم وطلب خفاياه وبواطنه، وهذا من المذهب الباطني أو التصوفي، وهو مذهب معروف عند أفلاطون وبلوطنيوس والمتصوفة على أشكالها، وقد أحكم أمره أخيراً الفيلسوف الفرنسي (برجسون وأيدته تجارب عدد من العلماء والأطباء فيما يتعلق بالعقل الباطن. وقد أسهبت في تبين هذا المذهب في المناقشة التي دارت بيني وبين بشر فارس نفسه في (الرسالة) منذ عامين.
وقد أحدثت آراء (برجسون) بدورها تيارات واسعة تأثر بها كثير من الكتاب، وأحدثت نوعاً من أنواع الشعر الرمزي في فرنسا.
فأين بصيرة (برجسون) التي أخذ عنها بشر فارس في معالجته قضية من قضايا النفس البشرية، وذلك في مسرحية (مفرق الطريق)، من المسائل الفلسفية الصرفة اللاحقة بنظرية المعرفة واليقين للفيلسوف (كانت التي تأثر بها الأستاذ العقاد في قصيدته (القمة الباردة)؟
إذن يكون حقاً من عجائب الفهم أن يتهم (الناقد الأديب) بشر فارس بأنه أخذ مسرحيته هذه من تلك القصيدة.
ويكون أيضاً من عجائب الفهم ومدهشاته أن يلج (الناقد الأديب) في اتهامه هذا، محاولاً أن يقيم الشواهد على ما ذهب إليه، فإذا هو يتعسف، بل هو يغالط ولا يبالي أن يحرف المسائل عن مواضعها، فقال إن في قصيدة العقاد يعيش العقل متجرداً من الشعور في عالم ثلجي لا يشعر فيه بحياة. فأين ورد هذا في قصيدة العقاد وتقديمها؟؟
كذلك أورد (الناقد الأديب) ألفاظاً كالعقل والشعور والثلج، وقد غاب عن ذهنه أن الثلج عند (العقاد) رمز إلى ابتعاد المرء عن ظواهر الدنيا وتقربه من الحقائق وتمسكه بالفكر المجرد. هذا في حين أن (الثلج) عند بشر فارس، رمز إلى خلاص النفس من ألم الإحساس البشري.
وتورط (الناقد الأديب) فيما هو أدهى من هذا، وهو يحاول أن يقرب مسرحية (مفرق الطريق) من قصيدة (القمة الباردة) للعقاد فنسب تصميم رسم غلاف المسرحية إلى بشر فارس نفسه، والواقع أن صاحبة الرسم فنانة باريسية اسمها (سوزان جوفروا) كما هو موضح في الصفحة الأولى من المسرحية المطبوعة. وقد شرح المؤلف وضع المسرح في (التبيين) الذي صنعه للمسرحية (ص 140) مشيراً إلى رمز الغلاف، ولم ترد في تبيينه كلمة (قمة) ولا (غور)
بعد هذا يأتي اتهام آخر له وزن فيقول (الأديب الناقد) إن الصراع (بين العقل والشعور) وهو مما ورد في مسرحية بشر فارس، منقول بإطاره من قصيدة للشاعر علي محمود طه المهندس عنوانها (قلبي)
والرد على هذا أن الصراع بين العقل والشعور حقيقة من حقائق النفس البشرية، فهي عامة ومبذولة لكل كاتب، وما نعرف كاتباً أو شاعراً - إلا فيما ندر - لم يبن على هذه الفكر بعض مؤلفاته. وإلى القارئ أعمال (راسين) الفرنسي و (شكسبير) مثلاً شاهدة على ذلك. وما (الشاعر المهندس) إلا واحد ممن أخذوا بهذه الفكرة العامة. وستبقى هذه الفكرة، كما كانت دائماً، معيناً بأخذ منه الكتاب ما دامت النفس البشرية لم تتغير، وما دام الكتاب يعنون بتسجيل خفايا هذه النفس.
وإن صح ما ذهب إليه (الناقد الأديب) في هذا الصدد، يكون الأستاذ الكبير توفيق الحكيم الذي أقام مسرحيته الرفيعة (شهرزاد) على فكرة الصراع بين المادة والروح قد سلخ هذه الفكرة ممن سبقه إليها في الأدب العالمي ويكون الحال كذلك في مسرحيات (إبسن وشكسبير وبيراندللو) الذي أقاموا مؤلفاتهم على حقائق النفس البشرية.
إن المعاني والفكر والمتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس فهي دوارة في نفس الجاهل والسوقي، والمتعلم والأديب، وإنما العبرة بطرائق معالجتها وبالكسى التي تضفي عليها من حيث حسن التأليف وجودة التركيب والابتداع، والنفس المبتكرة الخلاق، وهنا مجال التفاوت بإبراز الشخصية الكاملة المستقلة؟ ومن هنا يتأتى الخلود الذي يتوج أعمال الشعراء والكتاب والفنانين.
زكي طليمات
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
البلقان
تجتاز الحرب الآن فترة هدنة قصيرة، تنتظر فيها الأداة الحربية نتيجة المباحثات السياسية، فهي فترة صراع عقلي قاس، يتناول خريطة العالم بأجمعها، فالمباحثات السياسية دائرة في روما وبرلين وطوكيو ولندن وموسكو ووشنجطن، وتتناول موضوعاتها مستقبل الدول في العالم القديم والجديد.
ولكن أبرز هذه المباحثات وأكثرها جذباً لأنظار العالم ما يدور حول البلقان، تلك البقعة التي تنبأ لها العالم قبل أن تنشب الحرب بأنها ستكون مسرح نضال عنيف؛ ودامت الحرب عشرة شهور والبلقان تترقب ما تكشف عنه الأيام والحوادث. فهل تكشف الحوادث الأخيرة عن مصير (نصف دستة) من الدول؟ وهل ينتقل ميدان الحرب إليها أم تتولاها يد الاتفاقات السياسية بالبتر والترقيع؟
هذه أسئلة لا تسهل الإجابة عنها، فالسياسة تلد كل غريب، والمناورات الحربية تخلق المتناقضات، ولا نستطيع أن نجزم إذا كانت المناورات السياسية الحالية مناورات عسكرية يقصد بها شغل الرأي العام عن حركة عسكرية تعد، أم أنها مباحثات سياسية فعلاً؛ فالحرب الآن لا تقتصر على البندقية والمدفع ولكنها تمتد إلى الحالة المعنوية للشعوب.
نصيب الأسد
وعلى أية حال، فالبلقان الآن في كفه القدر، تتطاحن من أجلها دول أوربا الدكتاتورية علناً، وإن كانت تذيع في الوقت نفسه أنها متفقة كل الاتفاق، وقد تتفق سياسياً كما قالت الأنباء البرقية ولكنه سيكون اتفاق الإكراه، لأن الروسيا سواء اتفقت أم لم تتفق ستخرج من الغنيمة (بنصيب الأسد)، وستضطر إيطاليا إلى ابتلاع أمانيها والتخلي عن أطماعها التي طالما رددها موسوليني، وسترغم ألمانيا على نسيان وعودها. فالموقف الآن غير ما كان من سنة، فقد رق الآن قناع ستالين وبانت من خلفه أنياب أقسى مما كان موسوليني وهتلر يظنان، وأصبح لروسيا وحدها تقرير مصير تلك الدول.
أما إنجلترا فيبدو للناس أنها تتفرج، وربما كان هذا صحيحاً، فالانتظار في مثل هذه الأحوال أصلح من التسرع، لتكشف كل من هذه الدول عن نياتها، حتى يتاح لإنجلترا أن تعمل، وعندئذ تضرب ضربتها في الصميم؛ فقد تأخرت دول البلقان في العمل، وكما نادى ساسة الإنجليز باتحاد تلك الدول، ولكنها ظنت سلامها في الحياد وتمسكت به، إلى أن حانت اللحظة التي صار الحياد فيها انتحاراً، وأصبح اتحادها قليل القيمة، بعد زوال القوة العسكرية الفرنسية من الميدان، وبعدما فرغ الجيش الألماني من أعمال البرية، واستتب له الأمر في ميدان أوربا الغربي، فأصبح جزء كبير من وحداته مطلق السراح.
وبرغم الأحداث الأخيرة ما زالت مصالح إنجلترا في البلقان راجحة، وما زالت تركيا واليونان مواليتين لها، ووقفت يوجوسلافيا صامتة.
رنين النقود
وما كادت الروسيا تستولي على بسارابيا وشمال بكوفينيا حتى هبت (بلغاريا) و (هنغاريا) تطالبان بنصيبهما؛ الأولى تطالب بترانسلفانيا، والثانية تطالب بدوبروجة؛ فقد صبرتا طويلاً وضحتها كثيراً، وهما في معاملاتهما تحدوهما غاية واحدة تنطبق على مثل بلغاري يقول:(إن أحب الموسيقى إليَّ هو رنين النقود التي تملأ كيسي)
فهل ملأت معاملات ألمانيا مع هاتين الدولتين في الفترة الماضية كيسهما نقوداً؟ الحقيقة أن الفترة الماضية كانت فترة تضحية من جانب الدولتين، فكانتا تقدمان لألمانيا محصولات بلادهما مقابل بعض المنتجات الألمانية الناقصة أو القليلة القيمة، وكانتا ترسلان إليها المواد الغذائية وتستوردان مدافع تنقصها الذخيرة، وآلات كاتبة أو أدوات تصوير، فقد تحفظت ألمانيا في تسليح هاتين الدولتين حتى لا تكونا خطراً يهددها إذا حانت ساعة الفصل.
وهاهما تان الآن تطالبان بالثمن، ولا شك أن الفترة الحالية أحسن فترة تتاح لهاتين الدولتين لمواجهة ألمانيا التي من مصلحتها أن يستقر السلام في مخزن مئونتها في البلقان، فرومانيا متأثرة بصدمة الروسيا وألمانيا تريد التفرغ لإنجلترا ولا تريد شغل نفسها في ميدانين، والروسيا متحفزة لتنفيذ خططها غير مقيدة باتفاق أو تعهد إلا مصلحتها الخاصة.
وتنتهز الروسيا - كما شاهدنا حتى الآن - الفرص للعمل فتترك الدول تتطاحن حتى إذا قررت عملاً سبقتها إلى الحصول على ما تريد وتضعها أمام الأمر الواقع، وأهم أغراض
الروسيا في البلقان أولاً: الاستيلاء على آبار البترول في رومانيا، وثانياً: الوصول إلى مضيقي البوسفور والدردنيل كما قلنا من قبل، ونجاحها في الحصول على هذه الأغراض رهن بالظروف التي تعدها الدول المتطاحنة.
نصيب إيطاليا
وانحط مركز إيطاليا في التطاحن الحالي، فبعد أن كان لها صوت مسموع ومركز محترم في البلقان أصبحت كلمتها ثانوية ومن قبيل الاستشارة فحسب، إذ أصبحت تابعة لهتلر تستمد من خططه خطهها، واضطرتها ظروف الحرب الحالية إلى الخضوع للخطط الألمانية خضوعاً تاماً.
وقبل أن تنغمر إيطاليا في سياسة المحور كانت ذات أطماع كبيرة، ولم يكن استيلاؤها على ألبانيا إلا خطوة لاعتبارها هي من دول البلقان، فمن ألبانيا فتح أمامها الطريق إلى بلاد اليونان ويوجوسلافيا، فضلاً عن أنها أتمت سيطرتها على بحر الأديارتيك ووضعت منافذ يوجوسلافيا البحرية تحت سطلتها، فإن مضيق أترنتو لا يتجاوز طوله40 ميلاً يسهل أقفاله بالألغام أو السيطرة على منبع مائه بالمدافع الساحلية.
ويرجع اهتمام إيطاليا بالبلقان على ما قبل الحرب الماضية، فكانت المنافسة بينها وبين الإمبراطورية على أشدها في البلقان وخصوصاً في ألبانيا؛ فأنشأت كل منهما عدة مدارس لنشر ثقافتها في تلك البلاد، وكانتا تتنافسان في جذب الطلبة إلى معاهدهما فتقدمان لهما الملابس والغذاء مجاناً، وكانت كل منهما تحرص على عدم إغضاب الطلبة وتوقيع العقوبة القاسية عليهم حتى لا ينتقلوا إلى مدارس الأخرى.
ولسياسة إيطاليا القديمة يفضلها البلقانيون على ألمانيا ولكن ضعف إيطاليا الحالي واعتمادها على ألمانيا دفعا بالدول البلقانية إلى الارتماء في أحضان ألمانيا لحمايتهم من أطماع الروسيين.
ولا نستطيع أن نجزم الآن بما سينتج من المحادثات الدبلوماسية التي تدور الآن، ولكنه من الواضح أن الدولتين اللتين تسعيان لسيطرتهما على دول البلقان هما الروسيا وألمانيا، فرومانيا تستغيث بألمانيا وتقدم لها فروض الطاعة، وتسير لها التجارة أملاً في حمايتها، ولإيجاد مصالح قوية تحتم على ألمانيا الدفاع عنها.
ولا نعتقد أن أنباء الاتفاق الأخير بين رومانيا من ناحية والمجر وبلغاريا من الناحية الأخرى على إعطاء الدولتين الأخيرتين بعض ما تطمعان فيه في رومانيا اتفاقاً نهائياً، فهو كما يبدو لنا مجرد تهدئة أعصاب لا يلبث أن يمحى عندما تضع الحرب أوزارها، لأن معناه أن تخرج ألمانيا من البلقان صفر اليدين وهذا ما لا ترضاه، إذ من الراجح أن تكون يوجوسلافيا من نصيب إيطاليا بحكم قربها منها ولطول سواحلها على بحر الإدرياتيك مما يهدد سيادة إيطاليا البحرية في الصميم؛ والغالب أن تنقض ألمانيا هذه الاتفاقات عندما تسنح لها الفرصة لتحقق أطماعها في البلقان سواء بالسيطرة التجارية أو العسكرية.
فرنسا تعتنق الهتلرية
نعم فرنسا التي كانت تدين منذ عهد الثورة الفرنسية بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، تقبر الآن الحرية والمساواة والإخاء لتقلد الهتلرية، فينادي قادتها بالديكتاتورية ويدعون إلى ترك المبادئ التي طالما كانت تضئ للعالم سبل المدينة والتقدم، لترجع إلى مبادئ القبيلة، لتقدس الأسرة بعدما كانت تقدس العالمية، وتعمل للفرد بعدما كانت تعمل للعالم، فتنكمش مثلها العليا من التعميم إلى التخصيص، وتنحصر أفكارها فبعد ما كانت تقود العالم بآراء مفكريها، ومبادئ أهلها، تزول عنها الصبغة الدولية لتحل محلها صبغة الأسرة.
وسبقتها ألمانيا في هذا السبيل من قبل، وفي مثل ظروف الهزيمة واليأس التي تعانيها فرنسا الآن، ولكن ألمانيا في عهد غليوم الثاني كانت أقرب إلى الدكتاتورية منها إلى الديمقراطية؛ تكونت في عهد ولهلم الأول وبسمارك دولة حديثة العهد لم تتم وحدتها إلا بعد حرب الأمم، فلم يتعاقب على وحدتها جيلان حينما حلت بها كارثة الحرب العظمى، ولم يشعر أهلها حتى ذلك الوقت بثقل وطأة النظام الفردي، فلم يقدموا المبادئ الديمقراطية ما قدمت فرنسا من ضحايا، ولم يحطموا من مظاهر الظلم والجور ما حطم الفرنسيون في سجن الباستيل، ولم تمر بهم خطوات التقلب من الملكية المطلقة، إلى حكومة الإدارة، إلى الإمبراطورية إلى الجمهورية.
لم تتقلب ألمانيا المتحدة في تجارب أنوع الحكم من جمهورية وإمبراطورية كما تقلبت فرنسا، فلم يتول حكم ألمانيا إلا عاهلان فتيسر لو لهلم الأول بناء وحدتها، وجاء غليوم الثاني فكان نكبة عليها، وظل الاتحاد الجرماني طول عهده بالحياة في ظل الحرب
وللاحتفاظ بالوحدة، ولم يفكر أهله تفكيراً جدياً في نظام الحكم الملائم.
تقليد غير موفق
فهل ينطبق هذا على فرنسا التي عاشت القرون الطويلة متحدة تجرب ألوان الحكم من فردية مطلقة، إلى فردية مقيدة، إلى حكومة شعبية؟ وهل يستطيع الفرنسي أن ينزع من قلبه حب الحرية ليعيش مقيد الحرية، محصور التفكير، تعد عليه أنفاسه وتفرض عليه تصرفاته كما يريد هتلر ونصيره بتان؟
كلا. إن حب الحرية في دم كل فرنسي، فإذا شغلته النكبة الحالية عن مبادئه، فلن يلبث أن يعود إلى رشده ويذكر حريته عندما تستقر الحال، فالصدمة الحالية لن تسلب الفرنسي الحقوق التي سطرها بدمه، فهو الآن في نوبة من الغيبوبة التي تزول عندما تزول الصدمة.
وهذه المظاهر التي أعلنها المارشال بتان إنما هي تقليد أعمى يخالف الثقافة الفرنسية، ويتنافر مع طريقة المعيشة الفرنسية، ولعل الدافع للمارشال بتان على هذا التقليد ما يراه من تشابه بين حال فرنسا الآن وحال ألمانيا عقب الحرب الكبرى، من انهيار استقلال أمته وتغير أقيسة المعيشة فيها؛ فإذا كانت هذه نظرته، فقد فاته ما بين الشعبين من اختلاف في التقدير والحالة العامة.
فقد خرجت ألمانيا من الحرب الكبرى بعد نضال دام أربع سنوات أكل الأخضر واليابس؛ فأنهكت موارد البلاد حتى عم الجوع وتضخم النقد حتى فقد قيمته الشرائية، وأصبحت ألمانيا في حالة إفلاس، وانتشرت البطالة والشيوعية بين الشعب، فلم يجد الناس عملاً يكتسبون الرزق من ورائه، وظهرت الفتن والثورات.
تشغيل العاطلين
في هذه الظروف برز هتلر فوزع الوعود ما وسعه الكلام، وما سمحت به الاستعارات؛ وكان الشعب في حالة اضطراب، لا يصدق أنه خسر الحرب بعدما بذل من جهد ومال، فقال لهم: ما جذبهم إليه إذ اتهم اليهود بأنهم سبب خسارة الحرب بما نسجوا من دسائس ومؤامرات.
وزاد على ذلك أن استدرج الشعب فجعل من حزبه مكتباً لتشغيل العاطلين، وعلى هذا الأساس بنى حزبه، متوسلاً إلى تحقيق برنامجه باضطهاد اليهود وفصلهم وإحلال الألمان محلهم، وبتكوين فرق مقاتلة تحمي المصانع الكبيرة من جهة، وتكره أصحاب الأعمال على إطاعته من جهة ثانية.
فهل هذه حال فرنسا الآن؟ هل عمت البطالة فرنسا وانهار نقدها وجاع أهلها؟ إن فترة الحرب كانت قصيرة فلم تمهد لهذه الأحداث؛ وفرنسا دولة قليلة السكان لم يشك أهلها كما شكى العالم من أزمة البطالة الحادة في السنوات الماضية.
استقرار الحكم
فليس للشعب الفرنسي من الأسباب ما يدفعه إلى كره مبادئه والسخط عليها، وإذا كانت هناك أخطاء فهي أخطاء القادة من أمثال بتان؛ أضف إلى ذلك أن نصر ألمانيا لم يتم، وما زالت إنجلترا في الميدان، وما زال دي جول يمثل الشعب الفرنسي، وفي نصر إنجلترا خلاص فرنسا من كارثتها الحالية.
فتجربة بيتان تجربة وقتية لن تلبث أن تزول، لأنها لا تقوم على أسس صحيحة، ولم يبلغ يأس الشعب الفرنسي حده ليترك مبادئه السامية ويشايع الهتلرية؛ وإن كانت هناك أخطاء في عدم استقرار الحكم.
فليحاول هتلر أن يقلب رجال الحكم ويضع مكانهم رجالاً نازيين، وليحاول بيتان أن يجاريه في تنفيذ هذه السياسة ما وسعته المجاراة فإن فرنسا لم تصدم الصدمات التي تنسي شعبها حبه للحرية والمبادئ التي ضحى من أجلها.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة
من نار الوطن
يا (مصر). . .
. . . يا أنشودة الدنيا!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ناداكِ مَجْدُكِ فاسْتَجيبي!
…
واْمشي لهُ فَوْقَ اللَّهيبِ!
وَتَجَشَّمِي لِعُلَاهُ نِيرانَ الشَّدَائِدِ والْخُطوبِ
وَثِبي لَهُ أَيَّانَ شَا
…
َء، وَلَوْ عَلَى كَبِدِ الْغُيُوبِ
صَفَّا مِنَ الأَبْطالِ يَزْ
…
حَفُ تَحْتَ أَلْوِيَةِ الْقُلُوبِ
نَشْوَانَ يَهْزَاُ بالْمَنا
…
يا الْحُمْرِ في الْيَوْمِ الْعصِيبِ
وَيُزَلْزِلُ الْأيام إِنْ
…
لَقِيْتَهُ عَادِيَةُ الْكُرُوبِ. . .
هُبِّي كَطَاِغَية الرِّيا
…
حِ، وَثَوْرَة الْبَحْرِ الْغَضُوبِ
يا (مِصْرُ) قَدْ دَوَّى النَّفِي
…
رُعَلَى ضِفاَقِكِ فاسْتَجِيبي
واسْتَنْهِضي النُّوَّامَ في
…
زَمَنِ التَّحَفُّزِ والوُثوبِ
زَمَنٍ نَرَى الدُّنيا بهِ
…
سَبَّاحَةً بِدَمٍ صَبيبِ
والدَّهْرَ مِثْلَ سَريرَةٍ
…
نَاَءتْ بِأَعْبَاءِ الذُّنوبِ
غَشِّتْ عَلَى أَرْجَائِها
…
ظُلمُ التَّشَكُّكِ والرُّيوبِ
والشَّرُّ، والْقَلَقُ المُفَزِّ
…
عُ لِلْمَضَاجَعَ وَالْجُنُوبِ!
والأرْضَ مِثْلَ سفِينَةٍ
…
رَعْنَاَء في يَمٍْ قَطوبِ
حَيْرَى تَضَلِّلها الرِّيا
…
حُ عن الْمَسَالِكِ والدُّرُوبِ
في الشَّرْق، في الْغَرب الْمُرَوَّ
…
ع، في الشَّمال، وفي الْجَنوبِ
لَيْلٌ تَرصَّدَ أُفْقَها الدَّا
…
جِي بإِعْصارٍ رَهِيبِ
ورَديً يَقولُ لها: أَثِمْ
…
تِ فأَقْبِلي عِنْدِي وَتُوبي
هاتي الدَّمَ الْمَسْفُوكَ مِ
…
نْكِ وَأَتْرِعي قَدَحي وَكُوبي!
فَمضَتْ تَحبَّطُ في الْقَتا
…
مِ بِحَيْرِة الطَّفْل الْغَريبِ
رُبَّانُها (عِزْريلُ) فان
…
ظرْ هَوْلَ مَصْرَعِها الْعَجِيبِ!
يا (مِصْرُ) حَوْلَكٍ مِرْجَلٌ ال
…
آفَاقِ مُضْطرِمُ الشُّبوبِ
ريحُ الحُروب عليه في الدُّن
…
يَا مُجَلْجلَةُ الْهُبوبِ
مَعْتُوهَةُ الْخُطواتِ تَعْ
…
صِفُ بالخَصيبِ وَبالْجَديبِ
هَبَّتْ وَشَمْسُ الْعَصْرِ في
…
سِرْبالِ بَهْجَتْها القَشيبِ
فإذا بها أَشْلَاءُ لَ
…
يْل فاجِعِ الرُّؤْيا كَئِيبِ
حَفَرَتْ له قبْرَ الحضا
…
رَةِ فِتْنَةُ الْعَقل الْمَريبِ!!
يا (مِصْرُ) يا أُنشودَةَ الدُّ
…
نيا وَأُغْنِيَةَ الشُّعوبِ
يا أم أبطال الفُتُو
…
نِ وَأُمَّ أَبْطال الْحُروبِ
يا أَرْغُنَ التَّارِيخِ، يا
…
نَغَما مِنَ السِّحْرِ الْمَهِيبِ
يا جَنَّةً تَهْتَزُّ بال
…
أسْرار بَيْنَ شَذىً وَطِيبِ
مَنْ كلِّ مُعْجِزَةٍ يَنُو
…
ءُ بَوحْيَها قَلَمُ الْغُيُوبِ
وَتَمِيلُ عَنْها حَكْمَةُ الْكُ
…
هَّانِ شَلَاَّء الدَّبيبِ. . .
وَالسَّحْرَ تُفْزِعُهُ طَلا
…
سِمُها فَيُمْعِنُ في الْهُروبٍ
وَالشَّمْسُ تخْشَعُ في ثَرا
…
ها في الشُّروقِ وفي الغُروبِ
آثارُ قَوْمِ أذهلوا الدُّ
…
نيا بفَنِّهِمُ العَجِيبِ
وَبما أَفاءُوا من ظِلا
…
لِ الْمُلْكِ وَالْمَجْدِ الرَّحِيبِ
وَبما بَنَوْا لِلنِّيل مِنْ
…
عِزٍّ بِمَوْجَتِهِ خَضيبِ. . .
النِّيلُ! مِرْآةُ النُّجو
…
مِ وَكهْفُ عَالَمِها الرَّهِيبِ!
بَلْ قِصَّةُ الشَّمْسِ التي
…
تَسْلُو بها شَجَنَ الْمَشِيبِ
وَتُذيبُ أَحْزان الأشَّع
…
ةِ فَوْقَها عِنْدَ الْمَغِيبِ. . .
وَقَصِيدةُ الشَّرْقِ الْمُعَطَّ
…
رَةُ المطَهِّرَةُ الطُّيوبِ
جَمعَتْ عَلَى أَنْغامِها
…
شَتَّى مُنَّى وَأَسَى قُلُوبِ
وَتَنَفَّسَتْ بالحُبِّ بَيْ
…
نَ شَذَى رُبىً وَهَوَى شُعُوبِ
النِّيلُ! غَابُ الفاتِحي
…
نَ الصَّيدِ غِيلانِ الحُروبِ!
يا خَيْلَ (رَمْسيسَ) اصْهَلِي
…
وَبِجَيْشِكِ العاتي أَهِيبِي
قُومِي اذكُري أَهْوَالَ جُنْ
…
دِكِ فَوْقَ نيرانَ السُّهوُبِ. . .
يا سَيْف (إبراهيم) عَدْ
…
فَوْقَ الْحِمَى أَمْضَي خَطِيبِ
فالْيَوْم يَوْمُكَ يا حَدِ
…
يدُ، وَيَوْمُ فُرْسَانْ اللَّهيبِ
يَوْمُ الْجِبَالْ الزَّاحِفا
…
تِ مِنَ المَنَاياَ وَالْكُرَوبِ
يَوْمٌ جَهَنَّمُ لَوْ رَأَتْ
…
هُ لَرَاعَها هَوْلُ الْوَجِيبِ. . .
فَقَفِي لَهُ يا (مِصْرُ) واصْ
…
طَرِعي بِأَْرزَاءِ الْخُطُوبِ
ضُمِّي يَدَيْكِ عَلَى الْجِرَا
…
حِ وَأَلِّفِي بَيْنَ الْقُلُوبِ!
وامْشي عَلَى الْبَأُسَاءِ سَا
…
خِرَةً بِأَهْوالِ الْحُرُوبِ
وامْضي. . . فَتَاجُكِ في السَّم
…
اءِ مَنَارَةُ الْوَطَنِ الْحَبيبِ
يا كَعْبَةَ الأَحْرَارِ رَنَّ
…
هُتّافُ شَاعِرِكِ الطَّرُوبِ
(وَدَعَاكِ مَجْدُكِ فاسْتَجِيبي
…
وامْشي لَهُ فَوْقَ اللَّهيبِ)
(يا (مِصْرُ) يا أُنْشوُدَةَ الدُّنْ
…
ياَ وَأُغْنِيَةَ الشُّعُوبِ!!)
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل
مراقبة الثقافة - بالمعارف
هذا العالم المجنون
للأستاذ يوسف أسعد
إلى السَّلم يُدعى فلا يسمعُ
…
ويُعطي الكثير فلا يقنعُ
وتأبى سياستُه أن تعفَّ
…
ففي كل غنمٍ لها مطمع
تدبُّ دبيب الكرى في الجفون
…
ومن خلفها عقرب تلسع
وتصحو على الدَّم ظمأى إليه
…
وبالدَّم تحلم إذ تهجع
فلا قيمة عندها للعهود
…
ولا رحمة بالورى تشفع
ومن ألفِت نفسه الموبقات
…
فهيهات عن غيّه يرجع
لذا كان عدّته في الحياة
…
وشاغلَه (التنك) والمِدفع
فللحرب أزواجها الأمهات
…
وأرحامهنَّ وما تدفَع
وللحرب ما يُنتج الزارعون
…
وللحرب ما يُخرج المصنع
ومن بعدُ فليُنكب الأبرياء
…
وتُنتزَع الهامُ والأذرع
ويكتسح الخوف دُور الأمان
…
فلا يستقرُّ بها مضجع
علا الأرضَ في الجوّ فوق الخضم
…
ومن تحت أسلحةٌ شُرَّع
جنونٌ فشا في جميع الجهات
…
فلم يخلُ من شرِّهِ موضع
وما ضاقت الأرض بالساكنين
…
ولا غاض من رزقها منبع
ولو سبر الناس غور الأمور
…
لما فاتهم أيُّها الأنفع
ولكنها نزوةُ الفاتحين
…
طغى جارفاً سيلُها المترَع
فظيع من الناس سفك الدماء
…
وإصرارهم حدَث أفظع
وشرُّ الخلائق حوت يعبُّ
…
من البحر عبِّا ولا ينقع
وأفقدهم للشعور بصير
…
يمرُّ على الدَّم لا يخشع
فيا مذكياً نارها في الضلوع
…
وما لك في نارها إصبع
إذا شَبع الوَحشُ عفَّت يداه
…
وبالضدِّ وحشك إذ يشبع
ستدري فظاعة ما قد جنيت
…
متى سكن العاصف الزعزع
(المنصورة)
يوسف أسعد
البلبل
(مهداة إلى نجيّ (البلبل) الأستاذ حسين عفيف)
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
بَلُبُلَ الوادي اسْتَفِقْ فالدِّ
…
يكُ قد نَبَّهَ فَجْرَكْ
الربيعُ الطّلْقُ قد آ
…
بِ وما بارَحْتَ وَكْرَك
والرِّياضُ الغِينُ قد أطْ
…
لَعْنَ للفِتنةِ زَهْرَك
وحَمامَاتُ الحِمَى ين
…
قلْنَ للأَنسامِ شِعْرَك
والنسيمُ العَذْبُ قد أف
…
شى إلى العالَمِ سِرَّك
عِطْرُكَ الحُبُّ. . . فَصُبَّ ال
…
آن في الأرواحِ عِطْرَك!
بلبلَ الوادي تنَبَّهْ. . .!
…
لِمَ لا تُطْرِبُ صُبْحَك؟
قُمْ إلى الدَّوْحِ وَغَرِّدْ
…
فَلَكَمْ هَدْهَدْتَ دَوْحَك
قمْ إليه فَخُيوطُ الشم
…
سِ قد داهَمْنَ صَرْحَك
غَرِّد الآن فقد أَسْ
…
لَمْتَ للأَصداءِ نَوْحَك
بَلَسَمُ الأيام يا بل
…
بلُ قد مَرْهَمَ جُرْحَك
فعَلَامَ الصمتُ والحزْ
…
نُ ووجهُ الأرضِ يَضْحَك؟
الربيعُ الطّلْقُ قد آ
…
بَ، ولَكِنِّي مَهِيضُ
لم يَضِقْ وَكْرِي وقد ضا
…
ق بيَ الكَوْنُ العريض
جَدْوَلً الرحمةِ فيه
…
أَوْشَكَ الآن يَغيض
نَضَبَتْ فيه الأماني
…
بعد أن كانت تَفيض
إنَّ في الوَكْرِ هَناءا
…
تٍ يُلاشيها النُّهوض
أنا إن غَرَّدْتُ أو نَوَّ
…
حْتَ لن يَغْنَي القَريض
الربيعُ الطّلْقُ قد آ
…
بَ فَمَنْ لي بربيعي؟!
بَسَماَتُ النُّورِ في عَيْ
…
نَيَّ وارَتْها دموعي
وظِلَالُ الراحةِ السَّمْ
…
حَةِ مالت عن رُبوعي
وَنَهاة الطير قد غَصَّ
…
تْ بِمُهْرَاقِ النَّجيعِ
فدعوني صامتاً أَدْ
…
فِنُ فِي الصَّمْتِ نزوعي
ما الربيعُ الحقُّ إلاّ
…
جَفَقاَتٌ فِي الضُّلوعِ!
حسن كامل الصيرفي
رسالة الفن
متفرقات
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
من أيام الفاروق
احتفلت مصر يوم الاثنين الماضي بالعيد الدستوري للملك فاروق
وللملك فارق فضل على الفنون الجميلة فيما له من أفضال على سائر نواحي الحياة في مصر. ومن أنصع أياديه البيض على الفن تشجيعه للتمثيل والشعر تشجيعاً ملحوظاً رائعاً.
وإني أسجل بالفخر لجلالته عدة حوادث لها دلالاتها المسعدة التي تنتعش بها نفوس الفنانين.
أما الحادثة الأولى فقد كانت يوم وقف الفاروق في مقصورته بعد ختام الفصل الأخير من رواية (لو كنت حيلوة) التي مثلتها أمام جلالته فرقة الريحاني في دار الأوبرا، فقال جلالته لشعب الريحاني الذي هو من شعبه:(أرجو أن تكونوا جميعاً قد أفدتم من هذه الرواية ما يجب أن يفاد منها). . .
وقد كانت هذه الرواية تصور أخلاق نظار الأوقاف، وبلايا المستحقين في الأوقاف، كما كانت تعرض إلى جانب هذا ألواناً من الدس الشنيع والتآمر الخاطئ في ثوب مكروه بغيض. . .
فكان لكلام جلالته على أثر هذه الرواية معنى، وكان من هذا المعنى أن جلالته يحب من شعبه أن يعدل إذا حكم، وأن يزن الحق بقسطاس الله، وألا يطلب الحق إلا طلباً صريحاً لأن الحق لا يطلب إلا صراحة، والدس والتآمر للزور.
وكان لهذه الحادثة بعد ذلك معنى آخر، وهو إعجاب جلالته بفرقة الريحاني، وهي الفرقة التي ظلت تعمل السنوات الطوال في صبر واجتهاد كانت تنتزع يهما صفوة المصريين نفراً نفراً وهم متحرجون من الاعتراف بالتفوق الفني (لكشكش) لا لشيء يحرجهم إلا أنه (كشكش) وليس (عطيلا) ولا (هملت)
ولكن بعد كلمة الملك رفع (كشكش) رأسه بالحق
وأما الحادثة الثانية فقد كانت تمثل فيها فرقة أنصار التمثيل والسينما رواية نسيت اسمها ولكن أذكر أن موضوعها كان يدور حول الصدق، وأن أبطالها التزموا الصدق فيها يوماً من أيام المسرح. . . وبين فصلين من فصول هذه الرواية تشرف الأستاذ سليمان نجيب بالمثول بين يدي الملك فسأله جلالته:(هل تستطيع أن تقول لي وأنت بطل من أبطال الصدق اليوم من هو الذي يصلح لأن يحكم مصر؟) فأجاب الأستاذ سليمان نجيب بقوله: (هو الرجل الذي تختارونه جلالتكم). . . وهي إجابة مؤدبة من الأستاذ سليمان نجيب، ولكن جلالة الملك كان غير شك يريد في ساعة الصدق هذه أن يسمع رأي رجل من الرجال المنتسبين إلى الفن، والفن هو أصدق الصادقين، وقد شرفه الملك بتوجيه هذا السؤال إليه ولكن ممثل الفن الذي تلقى هذا السؤال كان مؤدباً.
وأما الحادثة الثالثة فقد كانت في حفلة من حفلات الجمعية الخيرية، وقد ألقى في هذه الحفلة الشاعر النابغة محمود حسن إسماعيل قصيدة، فدعاه جلالته إلى مقصورته وحياه ولاطفه، وكان محمود إذ ذاك لا يزال يتسلق المجد بمشقة وتعب، فلما ظهر بإعجاب المليك به قفز إلى القمة ولم يعد شاعر في مصر يستطيع اليوم أن يطاوله.
من هذه الحوادث تستطيع أن نقول إن لجلالة الفاروق فضلاً على الفن فيما له من أفضال، فهو راعيه وهو موئله.
الدكتور أدهم
اللهم ارحم الدكتور أدهم، فقد كان يريد أن يعرفك، وكان يريد أن يصل إليك، ولكنه ضل الطريق، وكفاه شقاء أنه قتل نفسه حين ضل.
وقصة الدكتور أدهم مأساة قد يحسن عندها الصمت الحزين ولكني أوثر أن أقول فيها كلمة لأنها فرصة مناسبة - وإن كانت مؤلمة - يمكن أن تقال فيها كلمة من كلمات الإيمان والرضا.
مما هو ملحوظ أن أغلب الذين ينتحرون علماء ومفكرون يجرهم العلم والتفكير إلى الإلحاد.
ومما هو ملحوظ كذلك أن أغلب الفنانين يشقون في حياتهم شقاء مريراً ومع هذا فهم لا ينتحرون وإنما يصبرون، ويعيشون، ويحتملون ولا يشكون.
ومما هو معروف ثابت إلى جانب هذا وذاك أن الموت ضد الحياة، وأنه لا حي يطلب لنفسه الموت.
هذه الحقائق كل منها مرئي على انفراد، فإذا أطلقنا بعضها على بعض استطعنا أن نقول إن الفن يورث الإيمان والحياة، وإن من العلم ما قتل كما يقول الأستاذ بشارة الخوري.
فلماذا؟
الواقع أن هذا يرجع إلى أن الفنان يرى بالتجربة أنه لا ينتج شيئاً يروقه هو ويعجبه إلا على عجز منه، لا تدبير له فيه ولا إرادة. ومن هذا يتعلم الفنان أنه في هذه الدنيا مرزوق يعطيه الله ما يريد، ومحروم يمنع الله عنه ما يشاء. وبهذا العلم يعيش الفنان ويصبر ويشيخ وهو يرجو السعادة وينتظرها، بل إنه لينعمن بالسعادة في أرذل أوقات الشقاء، تلك الأوقات التي يراها الناس شقاء، والتي يستشف الفنان فيها من لطف الله وكرمه وإحسانه ما لا يستشف غيره ممن ربطوا عقولهم على صنوف خاصة من الحاجات والنعم فهم لا يرون غيرها، ولا يرضون من غيرها، بينما الحياة المجردة نعمة.
أما رجال العقل والفكر - العقل الأوربي والفكر الأمريكاني - فأولئك الذين يكرهون الحياة لأنهم يحرصون تفكيرهم في نوع خاص من الحقائق المجردة يريدون أن يعوها وعياً منطقياً معقولاً بينما هي أعز من أن ينالها هذا الوعي، وبينما هي تتطلب ممن يحب أن يصل إليها أن يعزز عقله إذا ارتقى بخلق مرتق، وبأفعال مرتقية، وبحياة ينسجم فيها الارتقاء الإنساني من كل نواحيه. وبهذا فقط تستطيع النفس أن تصل إلى الحقائق العليا.
والعجيب أننا حين نحدث أصحاب العقل والفكر هؤلاء بمثل هذا الحديث يقولون لنا: وما دخل الأخلاق والعبادات التي لا نعدها إلا شعوذات في الوصول إلى الحقائق المجردة؛ وأذكى ذكي منهم يسألنا قائلاً: هل يلزم أن أكون رجلاً فاضلاً كي أعرف أن المغناطيس يجذب الحديد، وأن الأرض تدور دورة كاملة في اليوم، وأن لها قمراً واحداً بينما لزحل أو عطارد أكثر من قمر. . .؟!
وجوابنا على هذا الذكي الأذكى هو أن الشر إذا لم يكن يؤذي نفس صانعه فإنه يؤذي نفس من يقع عليه، فهو إذن شيء تكرهه النفس، وهو إذن عدو لها، فيجب على النفس التي تريد أن تعرف نفسها أن تتخلص أولاً من هذا الذي تكرهه، عدوها الكامن فيها. . .
وبعدئذ حين تعرف النفس نفسها. . . وترى نفسها. . . تستطيع أن تسأل: من أين هي؟ وإلى أين هي؟ وستعرف أنها من الله وأنها إليه راجعة، كما عرف ذلك كل مؤمن، وكل فنان ألهمه الله فنه. وبعد أن تعرف النفس نفسها تستطيع أن تعرف غيرها. . .
رحم الله الدكتور أدهم مرة أخرى
وإني أعود فأنتهز هذه الفرصة لأنصح شبابنا الحائر وراء المعرفة بألا يغتر بعقله، وبأن يعتمد في المعرفة على خلقه كما يعتمد على تفكيره.
اللهم وفقنا جميعاً، واللهم ارحمنا جميعاً. . . يا أرحم الراحمين يا رب. . . هداك
هل هو انتقام؟
الأستاذ عزيز عيد من أشد الناس صبراً على المكاره، فهو في أوقات المحنة لا يشكو، ولا يكفر بالله، ولا يتملق أحداً، وإنما ينتظر، ويظل ينتظر حتى يأتيه فرج الله من حيت لا يحتسب أو من حيث يحتسب.
ولكن ليس معنى هذا أننا إذا كنا نملك إسعاد الأستاذ عزيز عيد أن نمسك عنه ما نستطيع أن نقدمه إليه لا لشيء إلا لأنه قوي النفس صلب الكرامة.
لقد سمعت أن الأستاذ عزيزاً يفكر في أن يؤلف فرقة صغيرة يمثل بها في الاستراحات التي تتخلل الروايات في دور السينما.
وهذا عمل كان يقوم به الفقير حسن بك، كما كانت تقوم به فرقة الحلو البهلوانية وغيرها، وإذا أقبل الأستاذ عزيز عيد على عمل كهذا فإنه لن يقوم به إلا لأنه رأى مجال الفن قد ضاق عنه.
فهل صحيح أن مجال الفن قد ضاق في مصر عن عزيز عيد، وفي مصر فرقة قومية ترعاها الحكومة وتنفق عليها؟
إن هذا يكون صحيحاً إذا كان أقل فرد من أفراد هذه الفرقة له دراية فنية، وتجربة مسرحية تفوق ما للأستاذ عيد
فهل تستطيع الفرقة القوية أن تدعي هذا؟
إن كل ما يعيب الأستاذ عزيز عيد هو شدة طموحه الفني، فهو لم يخرج من الفرقة القومية في هذه المرة إلا لأنهم عهدوا إليه بإخراج (مجنون ليلى) فأراد أن يكرمها، وطلب من
الفرقة أن تنفق عليها نفقات رأتها هي باهظة فأمسكت عن إنفاقها.
ولقد كان من الممكن أن تقف المسألة عند هذا الحد، ولكنهم شاءوا في الفرقة القومية أن يشعلوا عزيزاً فلم يعتذروا له بالفقر وإنما سخفوا فكرته، فتحمس هو لها، فاتسعت شقة الخلاف بينهما، فانفصل الأستاذ عن عمله
وإني أتجه الآن بهذه الكلمة للشاعر الفنان الأستاذ خليل بك مطران. ولا أريد أن أزيد. . .
عزيز أحمد فهمي
-
رسالة العلم
الوضع الحقيقي لمشكلة
جابر بن حيان
للأستاذ أحمد زكي صالح
تقرير الأستاذ رسكا
يتساءل الأستاذ رسكا: كيف وأين نظمت وألفت هذه الكتب المنسوبة إلى جابر؟ هل هي أعمال فرد واحد أم من أعمال مدرسة؟ هل حدث تأليفها وتطوره وتقدمها في مدى وقت قصير أم انتشر على بساط قرن كامل؟ كل هذه أسئلة لا زالت أجوبتها غامضة، بل قل لا زالت غارقة في بحر من الغموض والإبهام.
وتلك النصوص التي نشرت بإشراف الأستاذ هوداس لا تكفي تماماً كي نصدر حكما صحيحاً على مميزات أدب جابر بن حيان الكيميائي.
ويجب أن أعترف أن (كتاب الرحمة) بمحاوراته المضحكة بين جابر بم حيان وجعفر الصادق ما هو في الحقيقة إلا قصة ملفقة، و (كتاب الملك) يفشي سر نفسه بنفسه حينما يرجع أصله إلى جعفر الصادق، وبعض النتائج يمكن استنتاجها في شأن (كتاب الموازين) لأنه عنوانات بعض أعمال أرسطو في المنطق التي ابتدأت معرفة العالم الإسلامي لها بعد أواخر القرن التاسع من الميلاد. ولكن إذا سلمنا بصحة نقد هذه الكتب الثلاثة، فهل يؤثر هذا بقليل أو كثير في المشكلة ككل؟ وبالأحرى هل يمكن أن نفصل المؤلفات الكيميائية مسلمين بأنها من عمل جابر عن قائمة الفهرست الثانية؟ أليس من المعقول أن مؤلف الكتب الكيميائية ينتمي إلى زمن وإلى بيئة مدرسية يختلفان كل الاختلاف عن هؤلاء الذين ألفوا الكتب الطبية والفنية والرياضية والإلهية؟
من الجلي الواضح أن ذلك الذي يستطيع الأخذ بيدنا إنما هو البحث خلال المخطوطات التي عثر عليها أخيراً، وإني لموفق إذ استطعت الحصول بمساعدة الأستاذ ماكس مايرهف لا على صورة للنصوص العربية للسبعين كتاباً التي ذكرها ابن النديم فحسب، بل أيضاً على بعض النصوص غير المعروفة ككتاب (السموم) و (الملك النوعي) وغيرها من
المؤلفات التي جمعت لأجل (مجمع برلين للدراسات الطبيعية)
وهذه المؤلفات قد فتحت مدى أوسع في الأبحاث في هذا الموضوع لم يتحقق من قبل، فكتاب السموم أصبح اليوم أمنع من أن ينال هجوم، وهو يبين مقدار معرفة جابر الطبية، أما الفصول المتعددة من كتاب (الخواص النوعية) فيمكن النظر إليها على أنها مقتطفات من كتب مختلفة المقرر أن جابر كتبها في هذا الموضوع، ويمكن أن نقول إن كثيراً من البحث والاجتهاد يحتاج إليه ذلك الذي يريد الكشف عن حقيقة هذه المؤلفات والإجابة على السؤال الآتي: كيف جاءت مؤلفي هذه الكتب فكرة نسبة هذه المؤلفات إلى الإمام جعفر الصادق أو تلميذه المدعى جابر. . . نقول إن الإجابة على هذا السؤال تقهقرت كثيراً. . .
وأولى الملاحظات التي يمكن استفادتها من نتائج أبحاث مجمع برلين في النصوص العديدة هي: أن ارتباط الحقائق المختصة بالكيمياء وعلم البحث عن الصنائع والطب لازم كما هو نفسه ولكنه لا يعين ولا يقدر الغرض الأخير لهذا الأدب؛ إذ أن كل التفاصيل العلمية إنما تتحرك في اتجاه مذهبي واحد، وأن المتأخرين هم الذين أعطوها المعنى والتحقيق. والسبب الفلسفي هو نقطة البدء في هذه المؤلفات كلها، وهذا السبب الفلسفي إنما ترجع إليه قيمتها، وكثيراً ما كان يتكرر بشكل يقيني في هذه الأعمال أن العلم لا يمكن أن يكون إلا إذا كانت هناك نظرية خاصة يضعها نصب عينيه. وهذه المشكلة تمت لأول وهلة لمشكلة السببية. وتبعاً لذلك فإن مفهوم (الميزان) الذي يعد من أهم مميزات مؤلفات جابر بن حيان، ونظرية الخصائص النوعية للأشياء المتعلقة بمدى التحول الكيميائي يعتمدان على أسس عددية دقيقة.
وربما لا يبدو هذا في الكيمياء الحديثة شيئاً يذكر، ولكن العجيب حقاً هو ذلك التيار الذي واظب عليه العقل البشري، واجتهاده في تبيان أن القانون الطبيعي إنما يعتمد في أساسه على أسس عددية ثابتة. ونحن أصبحنا اليوم، بعد هذه الأبحاث، نعتقد أنه نجح تماماً فيما كان يصبو إليه؛ فإن قانون الأعداد هذا في نظر جابر بن حيان يضع كل شيء في الوضع الحقيقي له في العالم.
ودراسة بعض النصوص التي ذكرت آنفاً تقودنا خطوة أخرى نحو الغرض الفلسفي للبحث لهذه الأعمال. أقول إن هذه الدراسة تقودنا خطوة أخرى حين تطلعنا على الصلات
والعلاقات بين هذا الغرض الفلسفي وبين النظريات الجابرية في العلم الإلهي التي هي الغرض الفلسفي وبين النظريات الحقيقية لهذا الأدب الجابري.
فالنظريات العلمية التي احتوت عليها هذه المؤلفات قيل إنها ليست شيئاً آخر غير معلومات محمد صلى الله عليه وسلم و (علي ابن أبي طالب) وأستاذ جابر (جعفر الصادق)، وهذه الخرافة تذهب إلى حد أنها تفسر بعض نصوص القرآن على ضوء الكيمياء كما ينسب لعلي بعض المحاضرات في موضوعات كيميائية، وفي بعض هذه النصوص يظهر بعض المذاهب التي تتفق تماماً وما تقول به فرقة الإسماعيلية من الناحيتين الفلسفية والعملية، ومن ثنايا أفكار هذه المدرسة الدينية التي رئيسها وإمامها وأستاذها الإمام جعفر، يمكن أن يفهم المعنى الكامن في نظريات جابر ابن حيان، وهذه الحقيقة تثبت عرضاً أي في كل هذه المؤلفات إنما ترجع أصولها إلى النصف الأخير من القرن التاسع أو النصف الأول من القرن العاشر للميلاد أي القرنين الثالث والرابع من الهجرة، أو قل في ذلك بلغ فيه الإسلام الذروة في هضم الفكر اليوناني، وهكذا يمكن أن ترد تلك الثروة العلمية والفكرية التي توجد في مؤلفات جابر بن حيان.
مناقشة رأي الأستاذ رسكا
الأستاذ رسكا في نقده لكتب جابر الثلاثة: الرحمة، الملك، الموازين، لا يحتاج لكثير عناية لتنفيذه، إذ أن رسكا يتناول الموضوع من ناحية سلبية بحتة، مثل الأستاذ رسكا في ذلك كمثل اثنين يتحاوران، بعد أن عرض أحدهما رأيه قال له الآخر كلا إنك مخطئ وتركه ومضى في طريقه، فهو لم يبين له لماذا هو مخطئ وما هو صواب هذا الخطأ، كذا الحال في نقد رسكا لهذه المؤلفات الثلاثة، فهو يقول إنها ليست لجابر بن حيان، فهل ينتظر منا الأستاذ رسكا أن نحني هاماتنا لرأيه سامعين طائعين مختارين؟ وحتى هبني سلّمت بصحة هذا النقد الضعيف فأي قيمة تكون له في إخراج هذه الكتب الثلاثة عن دائرة مؤلفات جابر الكيميائية وهي تبلغ سبعين مؤلفاً؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأستاذ رسكا في القسم الثاني من كلامه ينحو نحو الجدليين، إذ أنه يلتجئ إلى أسلوبهم وأعني بذلك أسلوب (المعقول وغير المعقول).
إن الأستاذ رسكا عالم له أسلوب العلماء وطبعهم وروحهم ونحن لذلك نسمو به عن أسلوب
الجدل، إذ أن العلم ليس أمامه معقول وغير معقول، إنما أمامه حقائق يسلم بها، أو لا يسلم بها، حقائق يبرهن على وجودها أو يبرهن على عدم وجودها، فالقول بأنه من المعقول أن تفصل كتب جابر الكيميائية عن غيرها قضية كاذبة علمياً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: هل نسى الأستاذ رسكا أن التفكير الإسلامي كان في هذه المرحلة الزمانية أو الفكرية تفكيراً عاماً شاملاً أي تفكير وأن التخصص في التفكير وفي البحث لم يعرف في الإسلام إلا بعد ذلك بقرن من الزمان على الأقل؟؟
أما القسم الثالث من رأيه وهو تفسير الانتحال لجابر بن حيان فهو تستعيره من أبحاث مجمع برلين، وسنتركه الآن ونعرض هذه الصورة بشكل أوسع لدى الأستاذ ب كراوس الذي كان مساعداً بهذا المجمع إذ ذاك.
رأي الأستاذ كرواس
يرى الأستاذ كراوس أن هذا الأدب العظيم يبين لنا كل ما درس في الإسلام من العلم اليوناني لا يمكن أن يكون بأية حال من عمل مؤلف واحد، ولا يمكن كذلك أن يصعد إلى النصف الثاني من القرن الثاني من الهجرة، إذ أن جميع الظواهر التاريخية تدلنا على أن هذا الشكل كان من إنتاج أخريات القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع.
وإن كتابات جابر بن حيان لتضع لنا بادئ ذي بدء أساس مشكلة دينية تاريخية، فكما أن الكيميائين القدماء قد اتجهوا إلى الأجنوزية المسيحية كذلك جابر يقدم في مؤلفاته العلمية أجنوزية الإسلام، ولم تكن آراء جابر ابن حيان كتلك الآراء الساذجة الأولية التي وجدت في محيط الشيعة في القرن الثاني من الهجرة، إنما كانت أقرب إلى تلك التي كان يتردد صداها في محيط غلاة الشيعة في القرن الثالث من هجرة الرسول. وهذه الآراء كانت ذات صبغة سياسية وثورية خطيرة عرضت الإسلام نفسه للخطر، إذ أن جابراً أعلن قرب قيام الإمام المنتظر الذي سيبطل حكم الإسلام ويحل محل القرآن نور العلم والفلسفة الإغريقيين، وكان محل عرض هذه الآراء هو نظريات جابر في مؤلفاته حيث عرض هذا الوحي الروحي الخالص الجديد والذي أوحى به الأئمة العلويون.
ووجهة نظر جابر بن حيان في العلم الإلهي تقترب من القرامطة الذين ابتدءوا يلعبون دورهم في العالم الإسلامي منذ سنة 260 هـ. ودرجات العلم مقسمة عنده نفس التقسيم
الموجود عند القرامطة والإسماعيلية.
ونظرية امتداد الأمامية قد تقدمت بنفس الخطوات التي تقدمت بها الأمامية، فالأماميون يقسمون تاريخ العالم من حيث الوحي إلى مراحل سبع يكون آخرها بعث الإمام الجابري، وعلى ذلك فإن الأئمة الذي تبعوا علياً، حتى الإمام القائم الجديد يكون عددهن سبعة وعلى التوالي: الحسن والحسين ومحمد بين الحنفية وعلى بن الحسين بن محمد الباقر وجعفر الصادق وإسماعيل الإمام المنتظر أو القائم. ونحن نلاحظ أن جابراً في تعداده للائمة على عكس القرامطة والإسماعيلية لم يعتبر علياً إماماً من هؤلاء السبعة، وأن هذا السانيت، الذي يسمو عن الناتيك هو الذي يكون به تجسد الأئمة السبعة الأرضي، وفي هذه النظرية يقترب جابر من تلك التي يقول بها النصيرية الذين يعتقدون أن هناك ثلاثة أقانيم:(ع) أي علي، (م) أي محمد (س) أي سليمان، والسين في نظر جابر سابقة ومتقدمة على الميم، وفي هذا المذهب يسمى الإمام جعفر (بالإمام المجيد) أو (اليتيم) الذي له تفضيل على مباشر علي (ع) كما أن له الحظوة على (م)، (س). وهنا يقبل جابر القول بنظرية التجسد والتناسخ والأدوار، والإكرار، والنسخ، والفسخ، والمسخ.
وإن جابراً ليعلن على رؤس الأشهاد أن عمله إنما هو وحي أستاذه جعفر الصادق، وإلى هذا (المنبع من الحكمة) ترجع كل معرفة جابر، وما هو إلا جامع ومعلق على مؤلفات أستاذه. وربما كان ذلك راجعاً إلى أن جابراً نفسه يأتي في التسلسل الديني في مرتبة تلي مرتبة جعفر الصادق مباشرة، أضف إلى ذلك بعض أساتذته مثل حاربي حميرات، أرهون الحمار، جعفر البرمكي،. ولكن نحن نرى أن كل هذه التأكيدات ما هي إلا افتراءات باطلة إذ أنها متناقضة تماماً مع ما كتبه جابر نفسه في مؤلفاته. وعلى ذلك فإن تلميذ جعفر الصادق المسمى جابر بن حيان يظهر أنه محض اختراع، ونحن ندرك تماماً لماذا تنسب كتب كهذه إلى الإمام جعفر الصادق الذي يعتبر في الأدب الشيعي خير مصدر للعلم اليوناني وخاصة للعلوم السحرية ولعلم الفلك، أضف إلى هذا كله أن جعفر هذا والد الإمام السابع إسماعيل الذي نص على ظهوره في هذه المؤلفات.
ويشير الفهرست إلى بعض الشك الذي يخالج نفراً من الشيعة المعاصرين لأحد أصحابه في صحة نسب هذه الكتب لمؤلفها، وثمة رجل آخر هو أبو سليمان السجستاني المنطقي، يذكر
في كتابه (التعليقات) ملاحظة يستنتج منها أنه هو نسفه يعرف المؤلف الحقيقي للكتب التي تنسب لجابر بن حيان، ويسمى أبو سليمان باسم الحسن بن النقاد الموصلي، ولكن على رغم هذه الرواية فإننا نعتقد أن مؤلفات جابر لا يمكن أن تكون من إنتاج رجل واحد رغم تطور التفكير المنسجم فيها. ونحن نعتقد كذلك أن هذا التفكير لم يصل إلى هذا الحد الذي وصل إليه إلا في سنة 330هـ.
(البقية في العدد القادم)
أحمد زكي صالح
البريد الأدبي
1 -
اقتطف!
قرأت سؤال الأخ الفاضل (رشاد عبد المطلب)، وكنت أرجو أن أكون مخطئاً، كي أقرَّ له بخطأ ما جاء في قولي:(وجعل يقتطف منها حيث أراد)، وذلك لحسن أدبه، ولطف سياقه.
والقول في (اقتطف) إنها خطأ، وإنها لم ترد في كتب اللغة: كاللسان والأساس والقاموس والنهاية والمصباح. . . إلى آخر هذه الجملة - قول قديم، قد ذهب إليه المتأخرون من فضلاء المشتغلين باللغة في عصرنا وما قبله بقليل.
ولو لم يرد هذا الحرف في اللغة لوجب أن يوجد للغة وجوباً بيانياً من عدة وجوه، وليس هذا موضع تفصيل ذلك ولا هذا أوانه. وأنا لا أستطيع الآن أن أقف في الطريق لأتلفت إلى ما ورائي مما قد مضى زمنه. وإذ كان لابد من إقامة الدليل على صواب هذا الحرف، من شاهد عربي، فنحن نأتي به، وذلك من قول نابغة بني شيبان (عبد الله بن مخارق):
تسبي القلوب بوجه لا كِفاء له
…
كالبدر تَمَّ جمالاً حين ينتصف
تحت الخمار لها جَثْل تعكِّفه
…
مثل العثاكيل سوداً حين تقتطف
لها صحيفة وجه يستضاء به
…
لم يعل ظاهرها بثر ولا كلف
وفي قديم الشِّعر من الرجز ما أحفظه ولا أُثبت موضعه: (يقتطِفْنَ الهاما) يصف السيوفَ. وبيت النابغة كافٍ في الدلالة والشهادة، وأدع ما وراء ذلك لمن يجعل همِّه اقتناص الكلمات الهاربة من معاجم اللغة.
وما دمنا في ذكر شاهد من شعر نابغة بني شيبان، نقول: إن أبا الفرج الأصفهاني زعم أنه نصرانيٌّ، لأنه زعم أنه وجده في شعره يحلف بالإنجيل والرهبان وبالأيمان التي يحلف بها النصارى، وذلك كله وهمٌ فاسدٌ، استغرّ به صاحب شعراء النصرانية لويس شيخو اليسوعيّ، فاحتمله فيمن احتمل من شعراء العربية، وشعر النابغة ليس فيه حرفٌ واحدٌ مما زعم أبو الفرج.
هذا، وأبوه (مخارق بن مسليم الشيبانيّ) صحابيٌّ جليلٌ روى له أحمد بن حنبل في مسنده ج 5 ص 29، والنسائي ج 7 ص 113، وروى عبد الله (هذا الشاعر) وأخوه (قابوس بن مخارق) عن أبيهما. وكان عبد الله يكثر رواية الحديث، ثم انصرف إلى الشِّعر، وله في
انصرافه إلى الشِّعر خبرٌ.
2 -
باريس!
قرأت في عدد الرسالة الماضي كلمة يذكرني فيها صديقنا الأخ (زكي مبارك) ويزعم أنه قرأ في (الدستور) كلمة بإمضائي، عدها هو تعقيباً على المقال الذي نشره في (الرسالة) بعد سقوط باريس تحت أيدي الألمان.
ولو أحسن الدكتور زكي مبارك فأخرجني من عداد من ذكر لكفى نفسه مؤونة الفكر في أني أتعقب كلامه. ولو كان ما قاله الدكتور زكي صحيحاً لكان للسان مقال غير الذي قلت. والذي كتبته كان حديثاً عاماً لم أرد به أحداً يعينه وخاصته، وكثير غير الدكتور بكى باريس وناح، فكيف يريد أن يخص نفسه دون سائر من أعول على هذه المدينة؟
وإذن فسائر ما جاء في كلمة الدكتور زكي ليس يعنيني، ولا هو مما أستطيع أن أشتغل به، والمذهب الذي يجري فيه الدكتور غير مذهبنا، وبينهما من الفرق ما يوجب عليَّ أن أصرف خطابه - في هذا المكان من الرسالة - إلى من شاء غيري. وللدكتور مني تحية، وعليه سلام.
محمود محمد شاكر
ملاحظات علمية
1 -
كثيراً ما أجد فيما أقرأ من المباحث التاريخية مطاعن في بني أمية منقولة عن المسعودي، وينسى هؤلاء الباحثون (ومنهم من هو عميد كلية أو أستاذ في جامعة) أن المسعودي على جلالة قدره ورفعة مكانه بين المؤرخين لا يحتج به في مثل ذلك، لأنه شيعي متهم ببغض الأمويين والطعن فيهم. وقد نص على شيعيته الأستاذ الكبير آل كاشف الغطاء في رسالته أصل الشيعة وأصولها؛ كما أنه لا تقبل رواية السني المتصعب في الطعن على الشيعة، وهذا معروف عند العلماء.
2 -
ذكر الأستاذ أحمد أمين في فجر الإسلام (ص 248) دليلاً على كثرة الوضع في الحديث أن البخاري اختار كتابه الصحيح وفيه سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مكررة من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره.
وهذا الدليل مردود من وجوه:
أولها - أن البخاري لم يستوعب الصحيح كله في كتابه، وروى عنه أنه قال: ما أدخلت في كتابي إلا ما صح وتركت من الصحاح لملال الطول، وقد استدرك الحاكم أبو عبد الله على الصحيحين شيئاً كثيراً تكلم في بعضه وسلم أكثره.
ثانيها - أنهم كانوا يعدون الحديث الواحد حديثين إذا كان له سندان وروى من طريقين؛ ومن هنا جاءت هذه الأعداد الكبيرة. ذكر ذلك ابن الصلاح.
ثالثها - أنهم كانوا يدرجون تحت أسم الحديث آثار الصحابة والتابعين. ذكره أبن الصلاح أيضاً.
علي الطنطاوي
رأي الأستاذ أحمد أمين في واضع علم النحو
المعروف بين جمهور النحاة أن واضع النحو هو أبو الأسود الدؤلي، ولكن دائرة المعارف الإسلامية تخالف جمهور النحاة في ذلك، وترى أنه ليس حقاً ما يقال من أن أبا السود الدؤلي واضع أصول النحو العربي (دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 307) وقد ذكر صديقي الأستاذ محمد طنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية في كتابه نشأة النحو (ص 11) أن الأستاذ أحمد أمين أراد أن يوفق بين الرأيين، وأن يلتمس وجهاً لنسبة وضع النحو إلى أبي الأسود الدؤلي، فقال في كتابه ضحى الإسلام (ج 3 ص 286 وما بعدها): ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وهو أنه ابتكر شكل المصحف، وواضح أن هذه خطوة أولية في سبيل النحو، تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو فعمل أبي الأسود يسلم إلى التفكير في الإعراب، ووضع القواعد له. . . وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد، وسموا كلامهم نحواً، سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا إنه واضع النحو، للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا وربما لم يكن هو يعرف النحو بتاتاً، ثم رأى بعد كلام طويل أن واضع النحو الذي نعرفه إنما هو الخليل بن أحمد.
وكأني بالأستاذ أحمد أمين قد خيل إليه أنه أتى في هذا الرأي الأخير بالقول الفصل في واضع علم النحو، مع أن الأمر قد اشتبه عليه في ذلك اشتباهاً ظاهراً، لأن أصل الخلاف في واضع علم النحو إنما هو في أصوله الأولى، لا في هذا النحو الذي نعرفه؛ لأنه لا يمكن أن يختلف أحد في أن هذا النحو الذي نعرفه يرجع إلى كتاب سيبويه، وقد أخذ سيبويه كتابه عن الخليل ابن أحمد، بل قيل إن هذا الكتاب للخليل لا لسيبويه، فليس بشيء بعد هذا أن يقال إن الخليل واضع هذا النحو.
وقد ذكر الأستاذ محمد طنطاوي في كتبه نشأة النحو (ص 20) أن عيسى بن عمر الثقفي - وهو من الطبقة الثانية والخليل من الطبقة الثالثة - ألف كتابين في النحو: أحدهما مبسوط سماه الجامع، والآخر مختصر سماه الإكمال، وأن الخليل قال في إطرائهما:
ذهب النحو جميعاً كله
…
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
…
فهما للناس شمس وقمر
ويؤخذ من هذا أن اسم النحو كان معروفاً قبل الخليل، وأن كتباً جامعة ألفت فيه قبله، فكيف يقتضب الأستاذ أحمد أمين ذلك كله؟
(عالم)
قصتان والفكرة واحدة
قرأت في العدد الماضي من الرسالة كلمة بهذا العنوان الأديب حسين الحوفي بدمنهور، يقول فيها: إن فكرة قصتي (من أدباء الجيل) المنشورة بالعدد 345 من الرسالة تشبه قصة الأستاذ محمد أبو طائلة عنوانها (الشهرة) نشرت بالعدد 498 من مجلة كل شيء والدنيا (وإن اختلف الأسلوب والعنوان وبعض الحوادث الثانوية)
وأحسب أنه مما يهم قراء الرسالة أن يعرفوا أنني لم يكن لي حظ قراءة تلك القصة المشار إليها حتى اليوم، وقد تكون الفكرة في القصتين واحدة - كما يقول الكاتب - أو لا تكون؛ ولكن ذلك لا يطعن في عمل أدبيٍّ لم أستلهمه إلا من وجداني الخاص لحادثة بعينها قد يكون مثلها مما مر على الأستاذ أبو طائلة في بعض أيامه، فألهمه فكرة قصته وألهمني. وإذ كان الأمر على ما زعمتُ - وعلى ما يؤكد الكاتب من احترامه لأدبي وتنزيهه عن الانتحال -
فإني أحسب أن ذلك خارجٌ عن نطاق ما يسميه (الرقابة الأدبية)، ولا معنى معه للحديث عن السابق والمسبوق.
وثمة بديهية أخرى يعرفها كل من عالج فن القصة دراسةً أو عملاً، هي أن الفكرة الواقعية في القصة غيرُ القصة نفسِها؛ وخاصة حين تكون فكرتها منتزعة من الحياة العامة التي يحسها كل من يتصل بها من أبناء الجيل. ولا حاجة بي إلى تعداد الحوادث التي تقع كل يوم في حياتنا الأدبية العامة مما يصلح أن يكون كل منها موضوعاً لمثل قصة (من أدباء الجيل). وأدع تفصيل ذلك لموضعه من كتاب (الأدب المنحول) الذي أُرجئ نشره حتى تأذن الرقابة الأدبية العامة!
محمد سعيد العريان
من الشعر المنسي لحافظ
(لما أخرجت وزارة المعارف ديوان المرحوم حافظ إبراهيم، لاحظ كثير من الأدباء أن قصائد عدة للشاعر الكبير نسيت فلم تدرج في هذا الديوان؛ وقد نشر بعضهم شيئاً من هذه القصائد في الرسالة الغراء، ويسرني ونحن في الذكرى الثامنة لحافظ أن أذكر للقراء مقطوعة من شعره في وصف الطيارة لم تنشر في ديوانه)
قال رحمه الله:
يجري بسايحة تش
…
قُّ سبيلها شقَّ الإزار
وتكاد تقدح في الأثي
…
ر فيستحيل إلى شرار
مثل الشهاب انقضًّ في
…
آثار عفريت وطار
فإذا علت فكدعوة المُ
…
ضْطَر تخترق السِّتار
وإذا هَوَتْ فكما هَوَتْ
…
أنثى العُقاب على الهزار
وتُسِفُّ آنة، وآ
…
ونة يحيد بها ازورار
فيخالها الرائون قد
…
قرَّت، وليس بها قرار
لَعِبَ الجواد أقلَّ لَيْ
…
ثاً من قُضاعة، أو نزار
أو كالقَلوب من الحما
…
ئم فوق ملعبه استطار
وكأنها في الأفق حي
…
ن يميل ميزان النهار
والشمس تلقي فوقها
…
حلل اصفرار واحمرار
مَلَك تَمثله لنا السي
…
ما فيأخذنا انبهار
(البجلات)
أحمد جمعة الشرباصي
الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
روت الصحف المصرية - كخبر تافه - موت فقيد العلم والأدب الدكتور إسماعيل أدهم الكاتب الناقد المعروف نجل أحمد بك أدهم الضابط التركي وحفيد أدهم باشا وزير المعارف التركية سابقاً.
وقد عرفه قراء (الرسالة) شارحاً لنظرية النسبية لأينشتين، ومساجلاً للمرحوم فليكس فارس عن الشرق والغرب، وأخيراً مناقشاً للدكتور بشر فارس في كتابه (أبحاث عربية) كما طالع له قراء (الرسالة) بعض أبحاث متفرقة آخرها (عام الفيل) الذي اشتغل بالرد عليه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي.
ويغلب على أبحاثه الصبغة العلمية الجافة، فإذا أضيف إلى ذلك ضعف بيانه العربي عرفنا جهل الكثيرين بعلمه وأدبه، لأنه لم يكن له أسلوب جزل يخلق المحبين، إذ أن الناس بطبيعتهم يصدقون عن الحقائق الجافة التي لا يموهها الخيال، لذلك كان محرر مجلة المقتطف يراجعه راجياً فيما يكتبه لها زيادة الإيضاح، وكان يشكو لي من ذلك الدكتور أدهم. ومن هذه الناحية أيضاً حيث موطن ضعفه، كان يغزوه الأستاذان فليكس وبشر في مساجلاتهما معه.
وعرفه قراء المقتطف من أبحاثه المتوالية التي كان يوالي نشرها فيها، آخرها دراسته طيلة هذا العام لخليل بك مطران. وهي دراسة لا يسلك فيها طريقة التراجم المعروفة، بل الدراسة التمحيصية الاستقرائية على الطريقة الاستشراقية، لذلك كانت فريدة في العربية، وعدها بعض المستشرقين ثروة أدبية، وقال فيها الرافعي:(دراسة لا اشك لحظة في أنها لو وجهت وجهة صحيحة لقومت النقد العربي) وقال فيها بشر فارس (دراسة تعتمد على
الاستقراء والتثبت أكثر مما تعتمد على الظن والتخمين) وقال فيها سلامه موسى. (لو أردنا أن نجازي فناناً لحق لنا أن نجازي الدكتور أدهم بأكرم مما يجازي به عالم فنان) ومما أذكره أن الدكتور أدهم كتب غير مرة في المجلة الجديدة التي كان يصدرها الأستاذ سلامه موسى، وعرَّفه الدكتور أبو شادي بأنه أكثر من شخصية، ومما أعرفه أنه كان من أول المكتشفين لشخصيته العظيمة، فشجعه على المضي في أبحاثه وأفسح له صدر مجلاته التي كان يصدرها، رغم تطرف رأيه وحرية فكره حرية غير معهودة في حياتنا الأدبية، ومن أهم ما نشره رسالته (لماذا أنا ملحد) التي رد عليها الدكتور أبو شادي برسالته (لماذا أنا مؤمن)، والتي شغلت الكثيرين من رجال الدين وقتاً غير يسير. ونشرت لأول مرة في مجلة (الإمام)، قم أفردت في كتاب، وذلك عمل ينطوي على جرأة كبيرة من المؤلف والناشر، لأن الرسالة صودرت عقب تداولها. وأول كتاب أصدره في مصر هو كتابه (مصادر التاريخ الإسلامي) الذي صودر بمرسوم ملكي من جلالة الملك فؤاد، وهو آخر مرسوم صدر من جلالته قبل وفاته. ومن هنا يعرف أن حياته الأدبية كانت قصيرة إلا أنها كانت ملأى بنشاط جدير بالإكبار والتقدير، فقد كان يعتكف الأيام المتوالية حتى ينتهي من وضع كتاب، أو إخراج بحث، أو يستوعب عدة مؤلفات قراءة ودراسة؛ ومن نتاج ذلك الاعتكاف كتابه (الأنساب العربية)، وكتابه (الزهاوي الشاعر). وقد اهتم الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة (الحديث) السورية بدراسات أدهم فرحب بها واصدر بها أعداداً ممتازة، كدراسته للدكتور طه حسين، والشاعر التركي عبد الحق حامد، وأخيراً الأستاذ توفيق الحكيم، ومن أظرف ما يروى بهذه المناسبة أنه كان مختلفاً مع صاحب الترجمة على مولده، إذ كان توفيق الحكيم يذكر أن مولده في عام 1898، ولكن أدهم يصر على أنه ولد في عام 1903؛ ومما يدهش القارئ إيراد أدهم لأدلة منطقية لا يملك الإنسان معها إلا أن يسلم بخطأ توفيق الحكيم نفسه في معرفة مولده.
وكانت إدارة (الحديث) تستعد لإخراج عدد خاص بدراسته لميخائيل نعيمة، كما كانت تستعد إدارة المقتطف لإخراج دراسته لخليل مطران لتهديها إلى مشتركيها هذا العام، ولا أدري ماذا تم فيها، وإن كنت أعرف أن المؤلف كان يستعجلها في إخراج كتابه قبل وفاته، لأنه كان يريد أخذ نسخة معه إلى أوربا، إذ كان يعتزم السفر بعد تغير الموقف الدولي؛
واشتدت الرقابة عليه لشبهات لا محل لها من الصحة، إذ أنه كان في أيام السلم يرسل بعض أبحاثه لتذاع من محطة باري العربية، كما أنه كان ينشر بعض أبحاثه في مجلة (المستشرقين الألمانية) منها نقده لكتاب حياة محمد، وقد أشار إلى ذلك النقد الدكتور هيكل في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه بعد أن أغفل اسمه.
ولما لم يتمكن من السفر والهروب من قفص الرقابة ضاقت به الحياة فودعها ومضى.
(لنا عودة)
عبد الحفيظ نصار
القصص
رجلان وامرأتان
للأستاذ محمد سعيد العريان
لم يكن من طبيعتها الزهو والمباهاة، ولكنها تشعر الليلةَ بين لِداتها وصواحبها أنها قد بلغت مرتبةً من حقها أن تُزْهي بها وتفتخر؛ إنها خطيبة (سامي)، وهذا خاتم الخطبة في إصبعها يزهو ويتألَّق شعاعه؛ وأي صواحبها لم تعرف (سامي) أو تسمح به، وإنه من الشهرة وذيوع الصيت حديثُ كل فتىً ونجوى كل فتاة!
وراحت (رشيدة) تخطر بين رفيقاتها تتقبل التهاني وتوزّع الابتسامات مغتبطةً سعيدة، لا تكاد تستقر على مقعد من خفة الفرح ونشوة المسرة. . .
. . . ثم انفضَّ السامر وخلت (رشيدة) إلى نفسها تحلم بما كان وبما يكون، وتتهيأ لليوم السعيد المنتظَر!
فتى في ربيع العمر، لم يفتنه الشباب ولم يبطره الغنى، تنوَّر أملاً بعيداً فمضى يشق الطريق إليه في عزم وقوة، وبلغ؛ وبرز اسمه في الطليعة من أدباء الجيل ولم يزل في أول الطريق، وذاع اسمه كما ينفذ شعاع الصبح فتكتحل كلُّ عين من نوره ويصحو كل نعسان؛ وشدَت القمارِيّ بأغانيه في الرياض، وهتفتْ بها العذاري، وتغنَّى الفِتيان. . .
. . . ودُق الجرس ذات مساء في دار رشيدة، وجاء سامي يخطبها. . .، وتوافد لِداتها وصواحبها يهنئنها ويتمَّنين لها. . .
. . . وراحتْ تتخيَّل نفسها إلى جانبه يمشيان ذراعاً إلى ذراع تحدِّثه ويصغي لها، والناس تهتف باسمها واسمه، والعيون تتبعهما حيث يتنقلان من روضٍ إلى روضٍ في طريق مفروش بالزهر، والأصابع تشير إليهما في همس: أئنه لَهُوَ، وإنها. . .
ولذَّها الحُلمُ السعيد، فطارت بغير جناح تحلّق في وادي المنى سكرَى!
وتابعتْ على عينيها صُور؛ وأفاقتْ من سكرتها مذعورة لصورةٍ عَرَضَتْ؛ وتخيَّلتْه يحفّ به فتياتٌ يسألْنه ويجيب وفي عيونهن معانٍ وفي عينيه معنى؛ ولذعتها نار الغيرة وساورها القلق، وراحت تسأل نفسها: أتُراه - وهو مَن هو - لم يفتح قلبَه لفتاة قبلها ولن يفتحه؟ فكيف، ومِن أين لها، وإن اسمه لحديثٌ على الشفاه ونجوى في القلوب!. . . أم تراه يخلص
لها فلا يغلبها على قلبه أحد؟
وابيضّتْ ذؤابة الليل وما تزال أحلامُ اليقظة تُراوح بيم جنبيها في الفراش!
ومضت ليال، وأَنِستْ رشيدةُ إلى فتاها وأَنِس بها؛ وتتابع اللقاء بينهما في الحلم حيناً وفي اليقظة؛ وتكاشفَا نفساً لنفس فاطمأنَّت وزال ما كان يساورها مِن هم، واسترسلت في أحلام السعادة والمجد، وهي تحصي ما بقي من أيامها حتى يكون لها.
وجاء اليوم الموعود وزُفَّتْ رشيدةُ إلى سامي. . .
(يا هَنَاها!)
ذاك حديث كل صواحبها؛ أفتراها كانت تسمع ما يتحدَّثن؟
أما هو فكان من شأنه في شغل عما يتحدث الناس؛ لقد وجد الاستقرار والراحة منذ وجد رشيدة؛ فانصرف إلى غايته دائباً لا يشغله من شئون الحياة إلا فنُّه والأمل الذي يتتوّره على مبعدة.
وأما هي. . . أين هي من أحلامها التي كانت تداعبها في اليقظة وُتِلمُّ بها في المنام؟
هذا عام مضى منذ دخل سامي في حياتها وشاركته في داره؛ فماذا تحقق من أمانيها وماذا بقي؟ وماذا يجدي عليها صيتُه ومجدُه وشهرته وإنها لحبيسة الدار لا تتحدث إلى أحد ولا يتحدث إليها أحد؛ وزوجها الذي خلق لها دنيا عريضة من الأوهام والأماني حبيسٌ في غرفته مكبٌّ على أوراقه ودفاتره!
هذه الصحف التي تتحدث عنه، وهذه الكتب التي تصدر باسمه، وهذه الجماعات التي تدعو دعوته وتُشيد به. . . كل هذه أوهام وخداع وتلبيس على الحقيقة. لقد حسبتْ يوماً أنها ستكون أسعدَ زوجةٍ فيمن تعرف من صواحبها؛ لأن هذه أوهام المكتوبة كانت تُخيَّل لها وتخدعها عن الحقيقة؛ أما اليوم، وا أسفا!
إنه ليحبها وإنها. . . نعم، لقد كانت تحبه؛ ما في ذلك شك؛ أما اليوم. . . آه! ليتها تستطيع أن تقول. . . ليتها تستطيع أن تعرف. . .!
إنها لتحس في بعض الأحايين أنها تكرهه، شوقاً إليه!. . . ليت شعري، ما الحب؟ وما البغض؟. . . أهُما معنيان متناقضان أم هما اسمان لمعنى؟
وما الحقيقة؟ أهي شيء واحدٌ أم شيئان، ولونٌ واحدٌ أم ألوان؟
إنه هو هو، وإنها هي هي؛ لم يتغيَّر شيءٌ منها ولم يتغيَّر شيءٌ منه؛ ولم يَزَلْ هو كلَّ شيء في حياتها ولم تزَلْ؛ وهذه الأشياء التي كانت تحببه إليها يوماً هي هي التي تيغَّضه إليها اليوم.
إن الباطل الصُّراح أحبُّ إلى النفس من الحقيقة المتلوِّنة!
واحتوشتها الأفكار فلم تعرف ماذا تأخذ وماذا تدع؛ فأطرقت، وأرسلت عينيها؛ وكان سامي في غرفتي يكتب ويؤلف!
. . . وفرغ من موضوعه بعد هدأة من الليل، فرفع أوراقه بين عينيه والمصباح وراح يقرأ، وأعجبه عمله؛ فهتف: رشيدة، تعالي اسمعي!
وماذا يجدي عليه رضا الناس إن لم ترض رشيدة؟ ولكن رشيدة كانت مطوية على نفسها في الفراش تبكي؛ ودنا منها، فجفَّفتْ دموعها واعتلًّتْ؛ وجلس على حافة الفراش محزوناً أسوان يسألها عن علتها؛ وما كانت علتها غيره!
وطوى أوراقه صامتاً، وأوى إلى الفراش منكسراً ذليلاً؛ وأصبح كما يصبح كل يوم وكما أمسى؛ وأصبحت كما أمستْ!
وجاءت صديقتها (سعاد) لزيارتها؛ وما زارتها في بيت زوجها قط؛ وخلت رشيدة إلى صديقة صباها تحدثها وتستمع إليها، وخلا سامي إلى نفسه يعمل. . .
وقالت سعاد: وإني لأسمع عنك وأعرف، فيسرني هناؤك. . . وإنك لحقيقة أن تسعدي بسامي. . .!
وابتسمت رشيدة وسكتت!
ونهضت الزائرةُ فشيَّعتها صديقتها على ميعاد
وذهبتْ رشيدة لتردَ الزيارة لصاحبتها؛ ولقيتْها سعادُ في غلائلَ وشفوفٍ وَجلْوةِ عروس، وأحسنتْ استقبالها؛ ثم وَدَعَتْها لحظة لتِسرَّ إلى زوجها حديثاً وعادت، وأحست رشيدة أن صديقتها في شغل؛ فأوجزت، وسألتها: أرجو ألا يكون في زيارتي ما يشغلك عن شيء!
وابتسمت سعاد وأجابت: ليس شيئاً ذا بال؛ كنا علي أن نشاهد رواية في السينما، فطلبتُ إليه أن يذهب وحده إذا أراد! لقد شاهدناها مرة منذ يومين!
وغمغمت رشيدة بكلام، ثم أطرقت؛ أتراها كانت تحدَّث نفسها أو تحدِّثُ مضيفتها، وماذا
همَّتْ أن تقول؟
وخفَّفتْ فنهضتْ، وفي قلبها حسرة، وفي صدرها غيرة، وفي رأسها فكر!
وقالت سعاد لزوجها وقد ذهبت رشيدة: (زوجة ساميّ!)
واستطردت: (إنها صديقتي منذ الطفولة! ألا تقرأ له؟ قل لي: لماذا لا تحاول أنت. . .؟ إن له مستقبلاً عظيما! لقد بَلغ. . . هل سمعْت. . وله جاهٌ وشفاعة. . . إنني ورشيدة صديقتان، لم نفترق منذ كنا، حتى تزوَّجتْ، وخطبّها على غفلة. . .!)
. . . وأدارتْ رشيدةُ مفتاح المذياع وجلستْ مرتفقةَ إليه تنتظر؛ إن زوجها هناك؛ وما بها شوق إلى أن تستمع إليه، لولا أن صوته في المذياع يردُّها لحظاتٍ إلى ماضيها، أيام كانت في بيت أبيها مُسَّماة عليه؛ تلك أيام خَلَتْ؛ وكان صوته يلذها ويبعث فيها نشوة. . . أوه! أين اليقظة من الحلم؟ أَكُتِبَ علينا ألا نرى السعادة إلا طيفاً في المنام أو حُلماً في اليقظة؟
وتَسرِّحت رشيدةُ في أوهامها. . .
. . . وكأنما أحسّ سامي من رشيدة فتوراً وانقباضاً، فأهمَّه ما أحسّ، وراح يحاول أن يصلح ما بينه وبينها، وعطف عليها يسألها في رقة: ماذا بك يا رشيدة؟
وانفجرت رشيدة غاضبة ضاخبة، وكشفت الحجاب، ونفضت عليه ما تكظم من الغيظ منذ عام؛ وطأطأ رأسه يوازن ويقدّر ويحكم؛ وبدت له الحقيقة سافرة وانكشف عنها غطاؤها؛ وآثرها بالرَّضا فقدَّم لها معاذيرَه!
وتغيَّر سامي منذ اليوم، فأغلق دار كتبه واقبل على زوجته؛ وفي المساء كانا يمشيان ذراعاً إلى ذارع في الطريق على أعين الناس؛ وصحبها إلى السيما، وسهرا معاً في الأوبرا، وتعشَّى معها في مطعم؛ وراقصها على نغمات الموسيقى في الحديقة، وعاد معها إلى الدار مخمورا قبيل الصباح!
وعرف سامي منذ الليلة أن في الحياة ألواناً من اللذة لم يذقها بعدُ وقد أوشك شبابهُ؛ فاشتهى وتمنَّى. . .
وفاءت رشيدةُ إلى الرضا وسَرَّتها حياتها الجديدة فطلبت المزيد!
وكانا يمشيان على ضفاف النيل حين اعترض سبيلهما سربُ من الحسان. وقالت إحداهنّ وأومأت إلى سامي: أئنه لَهُو!
فأحنى رأسه مبتسما وأتبعها عينيه؛ وأغضتْ زوجتُه!
ولم تجد رشيدة من نفسها في الليلة التالية رغبة في الخروج؛ فخلفها في الدار ومضى وحده؛ وأشرقت الشمس قبل أن يعود، وهَّمت زوجته أن تتكلم فتركها وما تريد ومضى إلى فراشه. . .
وعرف عنوانَه من لم يكن يعرف من عشاق أدبه؛ فكثر زائروه وزائراته؛ وراح يقتضي الناسَ ثمنَ إعجابهم بفنه لذائذَ وشهوات. . .
وتدحرجت الكرةُ على المنحدر المائل واستمرتْ تهوي. . .
. . . وجاءت سعاد لتزور صديقتها، وقالت: أين سامي؟ منذ بعيد لم نسمع ولم نقرأ. . .!
وابتسمت رشيدةُ وسكتتْ؛ شأنها في يوم مضى؛ ثم أطرقت وعضت على شفتيها تحاول أن تحبس زفرة ألم!
ونهضتْ الزائرة وخلت رشيدة إلى نفسها تبكي؛ وَخيِّلتْ لما أمانيها أنه هناك، في غرفته، يكتب ويؤلف، وأنه يوشك أن يفرع من موضوعه فيهتف بها: رشيدة! تعالي اسمعي! كما كان في ليلة منذ ليال!. . . ولكنه لم يفعل، لأنه ليس هناك!. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . ثم استيقظت وهي مرتفقة إلى المذياع، ورنّ صوته في مسمعيها قادماً من بعيد، صوت ندي رطب، يتحدث في وداعة ولين. لم يكن حديثه إليها، ولكنها وجدت بَرْدَه على قلبها، فدمعتْ عيناها فرحانة؛ وهتفت: سامي! عُدْ إليْ!
ولم يسمع نداءها، ولكن خاتمة حديثه في المذياع كان جواب النداء. . .
محمد سعيد العريان