المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 371 - بتاريخ: 12 - 08 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٧١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 371

- بتاريخ: 12 - 08 - 1940

ص: -1

‌تأخر السنين

للأستاذ عباس محمود العقاد

أما تأخير السنين فهو الرجوع بها إلى الوراء

يكون الرجل مثلا في سنة أربعين. فيرجع إلى سنة عشر، أو يكون في القرن العشرين فيرجع إلى القرن الأول، أو يكون في أيام التاريخ فيرجع إلى ما قبل التاريخ.

ولذلك ثلاث وصفات على طريقة المعجزات، ووصفة واحدة على طريقة العجزة أبناء الفناء.

فالوصفة الأولى على طريقة المعجزات أن تقبض على دولاب الزمن فتديره إلى الأمام أو إلى الوراء حين تشاء وكيفما تشاء. ولا بد قبل ذلك من معركة فاصلة بين المرء وبين الزمن ينكسر فيها الزمن فيلقي بدواليبه ومقاليده ومفاتيحه ثم يلوذ بالفرار.

وأنا قد حاربت الزمن في معارك شتى، ولكني لم أصل معه إلى المعركة الحاسمة، ولا علمت بمستودع الدواليب والمفاتيح. فليس في الوصفة الأولى رجاء.

والوصفة الثانية على طريقة المعجزات هي وصفة أينشتين في بعض الفروض الرياضية والألغاز (النسبية)

وذلك أن أشعة الأرض تصل إلى بعض الكواكب في مائة سنة، وإلى بعضها في ألف أو ألوف.

فمن صعد إلى كوكب من تلك الكواكب، ورصد أشعة الأرض على أسلوب من أساليب الصور المتحركة، فهنالك يرى اليوم نابليون أو حروب فردريك الكبير أو حروب هنيبال لا تزال في البرامج ولا تزال تجري على حقيقتها كما كانت تجري في هذه الأرض منذ كذا من السنين.

وبيني وبين هذه الوصفة أن أصعد إلى الكواكب بأسرع من صعود الشعاع إليه، أو أن أصعد إلى الكواكب على جناح فرض من الفروض الرياضية في مثل لمح البصر أو خطرة الخيال.

فإذا جاء اليوم الذي يطير فيه الإنسان على أجنحة الفروض فهنالك نؤخر الزمان الأرضي كما نشاء، ولكننا نصعد إلى الكواكب فنجد فيها الحاضر حاضراً لا يقبل التأخير.

ص: 1

والوصفة الثالثة على طريقة المعجزات هي وصفة على لسان (أولاد البلد) فيما يتحدثون به عن فعل الحبوب والعقاقير

فقد زعموا أن حبوباً تعيد الشباب، وان الحبة منها ترد من يتناولها عشر سنين، وأن رجلاً بالغ في التصابي فتناول خمس حبات فعاد رضيعاً على كفوف بناته وأبنائه.

وصيدلية هذه الحبوب لا تدين بمذهب الأمريكان في حب الدعوة والإعلان، فما اهتديت إلى مكانها حتى الساعة، ولعلها تدين بتأخير المكان.

فدعونا إذن من الوصفات الثلاث على طريقة المعجزات وهلموا بنا إلى وصفة العجزة من أبناء الفناء

ووصفة العجزة من أبناء الفناء هي كتب التاريخ، أو هي الصحافة التاريخية على التعبير الصحيح فيما نحن فيه

فإذا رجعت إلى سجلات الصحف فأمامك حوادث الأيام يوماً بعد يوم، وخبر بعد خبر، وفي وسعك أن تقفز إلى الوراء مائة سنة أو اكثر من مائة حسب تواريخ الصحف التي تقرأها، دون أن تتجشم المرانة على براعة القفز إلى الوراء.

ومن سجلات الصحافة القيمة سجل يجمع فصول (التيمس) الافتتاحية في جلائل الأحداث من سنة ألف وثمانمائة إلى ما قبل اليوم بثلاث سنوات.

ففي أي يوم من أيام تلك الأحداث تريد أن تجلس إلى قهوتك وتفتح صحيفتك وتأتمر بأمر الفضول، فتستطلع الغيب عن الحادث المجهول؟

معركة ترافلجار أو الطرف الأغر؟ معركة واترلو؟ تسليم نابليون؟ موت نابليون؟ أحاديث العلماء والجهلاء عن الاختراع الجديد المسمى بالتلفون؟

أنت لا تعلم شيئاً من هذه الأشياء، ولكنك تفتح الصحيفة لتقرأ آخر الأنباء.

7 نوفمبر سنة 1805 - يوم ترافلجار

(في مكان آخر من عدد اليوم نص التقرير الرسمي عن المعركة البحرية التي انتهت بأحسم انتصار ظفرت به الفطنة والبسالة البريطانيتان. وهو انتصار على ما فيه من العظمة والمجد قد اشتريناه بثمن غال، وكفى دليلاً على شيوع هذه العقيدة ورسوخها في الأذهان ذلك الحزن البالغ العميم الذي قوبل به موت اللورد نلسون. فلم يكن للنصر صدى الحماسة

ص: 2

والطرب الذي تردد به كل نصر في معاركنا البحرية السابقة، وليس في البلاد فرد لا يرى أن حياة بطل النيل أنفس جداً من أن تقوم بعشرين سفينة فرنسية وإسبانية بين ضائعة ومأسورة، فلا مظاهرات فرح شعبي ولا أصداء نشوة قومية صحبت هذا الحادث الخطير. وإنما ظهر شعور الأمانة والرجولة في نفوس الأمة كما ينبغي أن يظهر: رضى عميق بانتصار سلاحهم المحبوب، وحزن خالص أليم كحزن المرء في أسرته على البطل الصريع وتقدم ثماني سنوات فأنت في انتظار الأخبار عن معركة (واترلو) وهي تتوالى متناقضة متفرقة، يقول بعضها بانتصار نابليون ويقول بعضها بانتصار الحلفاء. وتروي عن ولنجتون كلمته المشهورة:(ما رأيت كاليوم غباءً في سبيل النصر، ولا رأيت كاليوم اقتراباً من الهزيمة)

وتقدم أياماً أخرى فإذا بنابليون أسير لم تتحقق أنباء أسره، وإذا بالناس مختلفون هل يجوز الحكم عليه في محكمة دولية؟ هل يسلم إلى ملك فرنسا ليعقد له محكمة فرنسية؟ هل يحاسب على من قتل من الأسرى والسجناء في غير ميدان القتال؟

ثم تحقق نبأ الأسر وجيء بالأسير إلى الشواطئ الإنجليزية، وانعقد مجلس الوزراء للبحث في مصيره. فهل تعلم ماذا قرر مجلس الوزراء؟. . . كلا. . . أنت لا تعلم ذلك في أثناء انعقاده ولكنك تقلب الصفحة فتعلم بالقرار.

وتستمع فإذا الصبية في الطرقات ينادون ينفي نابليون إلى جزيرة القديسة هيلانة، وإذا بالتيمس تقول بعد السفر به إلى تلك الجزيرة:

(ألان نحسبنا على يقين أننا سنفرغ من شأن نابليون بونابرت فلا نعود إلى ذكره إلا أن نتخذ منه مثالاً لكل جريمة عبرة للآخرين. ولئن كانت يد الإنسان قد رفقت به في جزاء آثامه فلا يفهمن من هذا أنه نجا من كل عقاب غير هذا العقاب. وما ندري بأي عقيدة من العقائد يدين الآن. فقد جهر بالإلحاد مرة وبالإسلام مرة أخرى وبالكثلكة مرة ثالثة حسبما لاح له من بوادر المصلحة في كل حين، وكان على ما رزق من الملكات العظيمة والنشاط والدائب عريقاً في الخسة، تلك العراقة التي لا يبالي معها أي ضرب من ضروب الغش والرياء تزجيه لمآربه في غير خجل من افتضاح أمره أو عواقب خداعه ما دام قد نفذ إلى مراده. ولكنه - إن لم يكن إنساناً - فله لا محالة وقد أوى إلى العزلة والفراغ عقيدة يركن

ص: 3

إليها وتلعج في ضميره مضيض الألم ووجع الندم مما اقترف من المساوئ والشناعات)

وتقدم ست سنوات فأنت تقرأ نعي نابليون كما تقرأ الذكرى المنسية قد انبعثت من قبور النسيان.

وعلى هذا الشاكلة يرجع المدبرون إلى الماضي من طريق الصحافة، وهي طريق معبدة يهتدي إلى معالمها كل عابر سبيل

فإن لم تعجبك طريق الصحافة فللشعر والأدب طر يقمها إلى كل ماض وإن لم تكن بالطريق المعبدة لجميع العابرين.

ومن مصادفات الأيام أنهم احتفلوا في يونيو الماضي بانقضاء مائة عام على مولد الشاعر الإنجليزي الكبير توماس هاردي صاحب قصيدة (العواهل) أو قصيدة نابليون.

وظهرت الصحف الأدبية وفيها شذرات من تلك الملحمة الفخمة كأنما تقال في هذه الأيام، ومن أجل هذه الحرب، وعلى نغمات الحوادث العالمية التي تصلصل الآن في الآذان.

وأي وصاة في حروب نابليون لا يوصي بها في الحرب الحاضرة؟

قال هاردي على لسان ولنجتون وقد سئل في اليوم المرهوب بماذا توصي إذا وقعت في حومة الوغى؟

قال هاردي أو قال ولنجتون: (بالثبات إلى أقصى مداه. . . فحيثما بقي في الميدان رجل واحد على قدم عرجاء في حقيبته رصاصة واحدة فلينته في النهاية كما انتهيت)

ولكن نابليون هو الذي انتهى فوقف بلسان الشاعر يقول: (الآن كل شيء ضاع. . . فيا ساعات الأرض جميعاً دقي لسلطاني دقة الختام)

ووقف الزمن يقول لذلك السلطان المخذول: (ما أمثالك من الرجال الذين يخوضون غمار الدنيا محدثين فيها الأحداث مقلبين السعود والنحوس إلا حشرات على صفحة الأجيال كحشرات النبات على صفحة الأوراق، ينشرون ما تطوي أخاديد التراب)

أترانا على هذا النهج قد رجعنا في طريق الماضي، وأفلحنا في تأخير السنين؟

كلا، بل نحن فيما أرجو قد تقدمنا أمام الزمن، ونظرنا إلى المستقبل، ورأينا على صخور القديسة هيلانة مكان ضيف جديد!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

العمر الضائع بين المداراة والرياء - الأندية الصحفية - نادي المعارف - الإذاعة اللاسلكية - إذاعة وزارة المعارف.

العمر الضائع

هو عمري وأعمار أكثر الأدباء في الشرق، فأعمارنا تضيع بين المداراة والرياء، ومن أجل هذا يقل في أدبنا ذلك الجوهر النفيس: جوهر الصراحة والصدق. ومن أجل هذا أيضاً يقل السائلون عنا والراغبون فينا، لأنهم يعرفون أنهم لن يطلعوا على أفق جديد من آفاق القلوب والعقول حين يقرءون ما نطالعهم به من حين إلى حين.

أقول هذا وقد وأدت صفحتين كتبتهما بالأمس، صفحتين صورت بهما من عزفت من الوزراء وتصويراً يعين بعض الملامح من تاريخ العصر الحديث.

ومن أعجب العجب أن نعجز عن قول الصدق، حتى في الأحوال التي يكون فيها ذلك الصدق خيراً محضاً، لأن الجمهور الذي نعاصره يتأذى من الصدق الذي يسر أكثر مما يتأذى من الصدق الذي يسوء. وإنما كان الأمر كذلك لأن هذا الجمهور لا يرضيه أن يكون الصدق وسيلة لتوكيد بعض الحقوق التي غنمها بعض الناس بصدق الجهاد.

ويجب أن نسجل أن النوابغ في الشرق لهذا العهد لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل تشجيع الجمهور أو تشجيع الوزراء والأمراء، فما نبغ نابغٌ في الشرق لهذا العهد إلا بقوة ذاتية حَمَته وعصمتْه من كيد المخذِّلين والمعوِّقين، فهم كالأشجار التي تنبت في الصحراء ثم تصير بواسق برغم الظمأ والأعاصير.

وهنا تظهر العلل الأساسية لغضب الجمهور من الصدق الذي ينفع، هنا يظهر السبب في أن الفضل أصبح من أكبر الذنوب، لأنه من صور الانتصار على الجمهور، والمنتصر لا يقابَل بغير الموجِدة والغيظ. وهل كانت شماتة الناس بالمغلوبين إلا تعبيراً عن هواهم الدفين في أن تدول دولة القوة والتفوق؟

فالذين يغضبون من الصدق المؤذي لا يغضبون لمن آذيت، وإنما يغضبون عليك، لأنك ملكت من القدرة أكثر مما يملكون، وكانوا يتمنّون لو كان إليهم المرجع في القدرة على

ص: 6

الإيذاء. والذين يغضبون من الصدق النافع يُعبِّرون بغضبهم عن علة خفية هي بغض الخير للناس، ويزيد ألمهم كلما تذكروا أن جودك بالكلمة الطيبة قد ينفعك. وهذا يشرح أسباب حرصهم على تزييف المجاملات بحجة أنها من وسائل النفع، كأنه لا يجوز أن يقصد الرجل بمجاملة النافعين من الرجال غاية شريفة هي رفع العوائق من طريقه والاتسام بسمة التلطف والترفق والذوق.

وكنت قلت في حديث سلَف إنه يجب على الأديب أن يتعرف إلى من يعاصر من الوزراء والزعماء ليساعد على توجيه الحياة الاجتماعية وليكون له مكان في تسديد خطوات الجيل، فرأى بعض الصحفيين أن يقول إني أشرت إلى أسماء كان أكثرها من وزراء المعارف السابقين واللاحقين.

فما معنى ذلك؟ معناه أني أٌلاطف قوماً قد أحتاج إلى معونتهم في بعض الأحيان!

والذي قال هذا الكلام صديق، وقد نشره في جريدة هي أيضاً صديق. نسأل الله الحماية من الأصدقاء!

وأقول بعبارة صريحة إني غير راض عن نفسي، لأن جوانب الهجوم لها الحظ الأوفر من أدبي، وذلك باب من الشجاعة بالتأكيد، وهو يعرِّضني لكثير من ألوان المكاره والمتاعب، ولكن هناك شجاعة أعظم من هذه الشجاعة، وهي التي تنبعث عن القدرة على كلمة الإنصاف والتأييد في المواطن التي يحتاج فيها من نعاصرهم إلى الجهر بكلمة الإنصاف والتأييد.

فأنا حين أهجم على رجل أقيم الشاهد على الزهد في المنافع الشخصية، وقد تلقى كلمات الإعجاب بلا حساب. وهذا المذهب لا يضمن الخلوص من هوى النفس.

وأنا حين أتردد في إزجاء كلمة الصدق لمن تنفعهم كلمة الصدق إنما أخدم نفسي بإبعادها عن المواطن التي قد أُتهم فيها بالتزلف؛ وهذا رأيي جبن بشع لأنه من صور الخوف من تزيُّد الناس، ولا يخاف تقوُّل المرجفين إلا الجبان.

وخلاصة القول أنه يجب أن ندرس نفوسنا دراسة عميقة لنعرف إلى أي حد نتأثر بالجمهور في غضبه ورضاه، فهذا الجمهور كالطفل المدلل، ورأيه أضعف من هواه، ولا يخضع الرجل في تفكيره إلى هوى الجمهور إلا حين يكتب عليه الخذلان.

ص: 7

الأندية الصحفية

يظهر أن الحرب الحاضرة سيكون لها تأثير في مصاير الأندية الأدبية: ذلك بأن الظلام الذي يغمر شوارع القاهرة في هذه الليالي قد أضاع بهجة القهوات، وصرف روادها إلى أماكن جديدة هي إدارات الصحف والمجلات.

فقهوة نيويار بميدان إبراهيم لم تعد أمسياتها ملتقى السامرين من أهل العلم والأدب والذوق، وكذلك صارت قهوة السلام بذلك الميدان مجفوة من روادها بعض الجفاء، ومشرب سيسل جفاه أصدقاؤه الأقدمون، وقهوة ريجينا صد عنها من كانوا يجعلونها ندوة الصيف. . . وهكذا صار من العسير أن نجد الفرصة للأنس برؤية بعض الإخوان على غير ميعاد في تلك القهوات كلما جذبنا الشوق إلى أطايب الأسمار والأحاديث.

ومع ذلك عوضنا الله خيراً، فقد انتقلت تلك الأندية إلى إدارات الصحف، وصار من السهل أن نجد من نحب من الإخوان حين نريد، ولكن ما خصائص تلك الأندية الصحفية؟

أرجو أن تسنح فرصة قريبة لتفصيل الكلام عما يقع في إدارات الصحف والمجلات من العناية بتعقب أخبار الآداب والفنون.

نادي المعارف

وما أريد (نادي المعارف) في بغداد الذي يلتقي فيه جمهور المعلمين كل مساء، وإنما أريد النادي الذي أنشأناه بوزارة المعارف في المنطقة الشمالية من الديوان.

ونواة هذا النادي كانت بمكتب تفتيش اللغة العربية، وكان وقوده من المجادلات النحوية والصرفية واللغوية، ثم انتقل إلى البهو الفسيح الذي يجتمع فيه كاتمو أسرار الوزير والوكيلين، إن صح أن لوزارة المعارف أسراراً لا تذاع!

هو ناد مبعثر، ولكنه جذاب، لأنه يجمع أشتات الألوان ولأن أعضاءه جميعاً من أهل البصر بالأدب الرفيع، وإن كان فيهم من لا يقرأ المجلات الأدبية إلا بالمجان، وحجتهم أن وزارة المعارف لا تشترك في بعض المجلات الأدبية إلا لتوفر على موظفيها من الأدباء بضعة قروش في كل أسبوع، وهي حجة من الوجاهة بمكان!

وليس لهذا النادي مواعيد، فأنا أذهب إليه حين يخف ضجيج الجدل بمكتب تفتيش اللغة

ص: 8

العربية، وعبد الرحمن صدقي يخف إليه حين يحتاج إلى استعارة جريدة أو مجلة من أحد الرفاق، وعلي أدهم يقر في مكانه إلى أن تنزل عليه نازلة من بعض من يسألون عن مصاير الأدب حين تصطلح الحيتان في بحر الشمال، وسيد نوفل يتلبث ويتمكث إلى أن يجئ من يحدثه عن مدارج البلاغة في غياهب التاريخ.

وسيقوى هذا النادي بعد البشاشة التي شاعت بوجه الأستاذ فريد أبو حديد، وقد تطيب الدنيا فينضم إلى نادينا فريق من الذين كانوا يظنون أن جو وزارة المعارف لا يساعد على خلق الروح الأدبي، لأن وزارة المعارف فيما يزعمون ليس لها أثر مذكور في تشجيع الأدباء.

وزارة المعارف؟ ذلك هو اسمها، والأسماء لا تعلل، كما كان يقال. وإلا فكيف جاز. . .

لقد إنساني الشيطان ما كنت احب أن أقول!

الإذاعة اللاسلكية

لا تنقطع أصوات الاعتراض على ضعف مناهج الإذاعة اللاسلكية، ولا يكون من المغالاة أن نقول إن في الناس من نسي أن في مصر إذاعة تواجه الجمهور بالطيبات من الأحاديث الأدبية والعلمية والاجتماعية، فصار من المألوف أن تلقى في محطة الإذاعة بعض المحاضرات الجيدة بدون أن يتنبه لها جمهور المتشوقين.

فما علة هذا النقص؟

لا ترجع العلة إلى ضعف من يسيطرون على محطة الإذاعة، وفيهم أدباء فضلاء، من أمثال فلان وفلان وفلان، وإنما ترجع العلة إلى كسل أولئك الأدباء الفضلاء.

ولكن كيف؟

لم يتفق للمشرفين على محطة الإذاعة أن يفكروا في الانتفاع بمواهب الأدباء الكبار انتفاعاً يشهد بأنهم يحرصون على تزويد الجمهور بأطيب ما في مصر من ثمرات العقول والقلوب والأذواق، وإنما يقبع المشرفون على المحطة في مكاتبهم لفحص ما يرد عليهم من طلبات الشادين والمبتدئين من الذين لا يعرفهم الجمهور أول مرة إلا عن طريق المذياع.

من حق محطة الإذاعة أن تشجع بعض المبتدئين، ومن حقها أن ترفع إصر الخمول عن بعض الخاملين، ولكن هذه النية الطيبة ستعود عليها بالضرر البليغ، وسيكون حالها كحال المجلات التي تسقط جدرانها فوق رءوس من تشجع من التلاميذ.

ص: 9

ويظهر أن محطة الإذاعة تنسى أن لها جماهير في أقطار الشرق، وأن تلك الجماهير لا تنظر بعيون الارتياح إلى عنايتها بتدريب المبتدئين، وتشجيع الخاملين.

أكتب هذا وقد سمعت أن المشرفين على محطة الإذاعة أقسموا بالله جهد أيمانهم ليغلقن آذانهم عن كلمات النصح، حتى لا يقال إنهم ضعفاء تخيفهم أسواط النقد الأدبي.

وأنا أحترم هذا النوع من الشجاعة، وأرجو أن يعرفوا أني يائس من آذانهم كل اليأس، وما حملني على تسطير هذه الكلمة إلا الرغبة في أن تعرف جماهير الأمم العربية أن مصر بخير وعافية، وأن محصول محطة الإذاعة لا يمثل ما في مصر من حيوات القلوب والعقول.

إذاعة وزارة المعارف

زعموا أن وزارة المعارف نظمت دروساً للراسبين في امتحانات الثقافة العامة وامتحانات القسم الخاص

وما يهمني إلا الدروس الخاصة باللغة العربية، لأنها تصور مواهب المدرسين بالمدارس الثانوية. وأنا أقترح أن تسجل تلك الدروس لنستطيع مؤاخذة أصحابها حين نشاء، فبعض من يلقون تلك الدروس يقعون في اللحن الفاحش، ويسقطون في تفسير النصوص سقطات لا يتردى فيها العلماء، فإن اعتذروا بأن بعض من يفسرون القرآن عن طريق المذياع يقعون في أغلاط أبشع من أغلاطهم فذلك هو العذر الذي قيل إنه أقبح من الذنب!

ولو تفضلت محطة الإذاعة فسجلت طوائف من الأحاديث لاستطاع النقد الأدبي أن يطوق بعض أصحابها بأطواق من حديد.

ولكن متى تصنع وهي تزعم أن ليس في الإمكان أبدع مما كان؟! ومع ذلك يعاب علينا أن نثور من وقت إلى وقت، كأن من الواجب أن نفرح بكل ما يصدر عن أبناء الوطن الغالي!

أيكون من حق بعض الناس أن يصدعونا باللحن والخطأ في جميع الأوقات، ولا يكون من حقنا أن نعرك آذانهم في بعض الأوقات؟

سنزجي أيام هذا الصيف بتعقب أولئك (الفضلاء) إلى أن يصدر الأمر بأن محطة الإذاعة محطة حكومية وأن توجيهها إلى السداد من الممنوعات. فمتى يصدر ذلك الأمر ليعرف الجمهور أن سكوت النقد الأدبي عن محطة الإذاعة ليس، إلا فنا من الطاعة لا ولي الأمر

ص: 10

منا؟

عفا الله عمن حرضوني على هذا النقد اللاذع من القارئين والقارئات والسامعين والسامعات، وإن كان تحريضهم شاهداً على أن في مصر ناساً يقرءون ويسمعون! وهل من القليل أن يكون في مصر من يرجو أن تفرض (الرقابة الأدبية) على من يكتبون ويخطبون؟

زكي مبارك

ص: 11

‌إلى الباكين على فرنسا

مقتول يبكي على قاتله!

وفي غير الحب. . .!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

عجيب هذا التفريق والتمييز بين فرنسا السياسية وفرنسا الأدبية والروحية - إن كان لها روح - من أقلام طائفة من كتابنا، بينما فرنسا لا تفرق بين الإسلام والعروبة السياسيين والإسلام والعروبة الروحيين!

أصحيح أنه في مواريثنا ولا في أفكارنا ولا في إنسانيتنا شيء ذو قيمة يستحق الإبقاء عليه والاحتفال به وإمداده بعوامل النمو والحياة؟

وإلا فما بال فرنسا في كل ديار العرب والإسلام التي وقعت تحت سلطانها السياسي أو الأدبي تكيد للإسلام والعروبة وتحاول تجريد أهلها من القوة والمقومات والجنسية واللغة والدين؟

لو فرقت فرنسا وهي القوية بين شخصيتنا السياسية وشخصيتنا الروحية والأدبية ما كان في ذلك خطر عليها مثل الخطر الذي على أممكم الضعيفة أيها الكاتب من هذا التفريق الذي تفرقون.

(إن أول الشر استظراف الأشرار) تلك مقالة صحيحة في علم الأخلاق. وانتم استظرفتم أعدائكم أعداء الحرية والحق الذين زعموا أنهم أول من أعلن حقوق الإنسان، ومددتم أعينكم إلى ما عندهم من زينة الحياة وأعجبتم بجمال اليد التي تضربكم بالسيف وتأخذ منكم أقواتكم وأرزاقكم وغلات أرضكم ومجهود عمالكم وجنودكم لتصنع من كل أولئك أدوات زينتها ووسائل ترفها، وتقيم بها أسواق فنونها وأنسها وبهجتها ومعارض قوتها، ثم لا تذكر هي فقركم وعيلتكم وحرمانكم وضعتكم وهوانكم وجهلكم حين تذكرون أنتم باريس التي قام بنيانها على أنقاضكم وفنونها على أطلال هداكم.

إنكم أخطأتم فهم وضع الإنسان في الحياة ونسيتم الوضع القدسي الذي وضعه فيه الإسلام، وكان هذا الخطأ وهذا النسيان السبب الأول في تنازلكم الكاملة عن حقوق حياتكم وحقوق

ص: 12

حياة الآخرين من عباد الله واغتفاركم لفرنسا جناياتها السياسية على صميم الحياة الإنسانية في ملايين عدة من أرواح الإنسان في مقابل تمتعكم بترفها العقلي والأدبي وألوان فنونها التي لم تغن عنها شيئاً غداة نكبتها الكبرى تحت أقدام الألمان.

لقد أنذرتكم الأقدار في سقوط فرنسا بأن هذا الترف العقلي والبدني الذي فتنتم به وأعجبتم بعدوكم له ونسيتم حقوق نفوسكم ونفوس أبناء عمومتكم ودينكم من أجله - إن هو إلا فقاقيع صابون جميلة براقة تنفجر لأقل نسمة تلامسها.

الأدب والفلسفة والفن في فرنسا زور وبهتان وهذيان، لأنه لم يرفع النفس الفرنسية إلى درجة الوصاية الرشيدة على ميراث الفضائل الإنسانية، ولم يجعلها نفساً رحيبة سمحة مع من اغتصبت حرياتهم وحقوقهم بل لم يجعلها نفساً سمحة مع ذاتها هي. وأكبر الدليل على ذلك تلك الأسس الاقتصادية الفاسدة والبراكين الداخلية والانحلال والتفكك الذي انتهى بها إلى نهايتها العجيبة.

لو حكموا الناس حكم الإبقاء والاستحياء لا الإبادة والإفناء والإهدار والتحقير والحرمان من نور العلم وهدى الدين لقلنا خلفاء في الأرض يعمرونها وينمون مواردها ويحترمون إنسانها كما يسمنون حيوانها، ولكنهم لم يفعلوا هذا بل جشعوا وهم الأغنياء، وحرموا المحكومين العلم وهم العلماء، ولم يحاولوا رفع النفوس الإنسانية، بل على الضد كادوا لها ودسوا سموم الضعف والفساد إليها، فليس لنا أن نقول إن لهم روحاً تحب وسياسة تكره لأن التفريق بين الفضيلة والسياسة إلى هذا الحد الفاحش لا يستقيم في معرض انتحال الأعذار وتلمس المنادح إلا إذا حرفنا القلب الإنساني عن موضعه الإلهي. . . ليس لنا أن نقول فيهم غير نتيجة أعمالهم.

إن هذا التفريق بين السلوك السياسي والسلوك الروحي قد صار أمره عجباً من أعاجيب الحياة الأوربية! وقد بات خطراً على الحياة الإنسانية الشخصية لأنه تسرب إلى موازين الحكم على الأفراد فهم يحترمون الذكي ويقدرونه ولو كان شيطاناً شريراً مفسداً ويقولون هناك حياة خاصة يحل للإنسان فيها ما يحرم عليه في الحياة العامة. . . حتى تعددت الشخصيات بين ازدواج وتثليث وتربيع إلى ما لا نهاية. . . وبات الإنسان بهذا متعدد النواحي تصطرع فيه الأضداد وتحترب المتناقضات.

ص: 13

هذا كذب وتدليس على الطبيعة والفطرة كما أرادهما الله فاحذروه! (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. . .) إن الحياة الشخصية إذا تكن بريئة نظيفة معتصمة بعروة الحق الواحد الذي لا يتعدد فهيهات أن تصفو لها وبها الحياة العامة. فإن النوازع النفسية هي الروافد للأفكار والأعمال. وأن الحق لا يعترف بسلطان الهوى (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض) فلا غفران من الحق لنسيانكم آلامكم وآلام أبناء جنسيتكم ودينكم في الجزائر وتونس ومراكش الذين جعلتهم فرنسا أمكم الروحية متخلفين عن قافلة الحياة العالمة العادلة بمائة وخمسين سنة. . .

إنهم ضربوا مدينتكم دمشق ظئر الإسلام الفاضلة الأصيلة العمرة بآثار مجدكم - بالمدافع في الثورة السورية الكبرى؛ ومع ذلك لم يبك عليها منهم باك، ولم يرث لها قلب راث. . فلماذا تبكون أنتم على باريس حينما جرعتها الأقدار غصص القصاص العادل والثأر لكم ولغيركم من عبيد الله المستضعفين؟!

ليست هذه شماتة، ولكنها أيضاً ليست صوفية بلهاء في الوطنية والجنسية، ترحم الجاني وتبكيه يوم ينزل به قصاص العدالة التي قامت بها السموات والأرض.

أجل، ليست ضعفاً وفسولة من (مقتول يبكي على قاتله. . .) وفي غير الحب!

إلا إذا تحررتم من أعدائكم، ولكن ما دمتم تحت النعال فلا تمسحوها وتجملوها بأيديكم. . . وما دامت النصال تنوشكم فلا تحدوها وتشحذوها وتسددوا السواعد التي تضربكم بها. . . وتسديدها هو أن تتغنوا بأي مجد لمن بها تجنوا عليكم ما داموا مصرين على تعذيبكم بمجدهم

ذلك هو منطق الطبيعة الصحيحة المزاح البريئة من التدليس وخديعة الضعف والعجز ونسيان القدر الضروري اللازم من الوحشية لكل إنسان يحرص على الكرامة الإنسانية التي لا تساوي الحياة تكاليفها إذا جردت منها. . .

هذا كلام يساق لمن يعتقد أن عالم الفكر والفن والأدب هو العالم الأصيل في حياة النفس الإنسانية، وأن ما عداه فهو على هامشها؛ وعلى هذا الأساس، إذا لم يؤثر هذا العالم الرفيع في النفس ويوجهها للخير، ويجعل حياتها وحدة متناسقة بريئة من التناقض، فلا جدال في أنه قد قام على أساس فاسد يجب تعديله وتصحيحه وعدم اللجاجة في الدفاع عنه.

ص: 14

أما من يظنون أن الأدب والفن حديث بدواة ونزوات وعربدات وألاعيب ذكاء مسجلة تسجيلاً جميلاً ببيان براق يسحر النفس ويخيل إليها أخيلة الأحلام المنفصلة عن حياة الواقع في السياسة والمعاملة. . . فهؤلاء سيظل الأدب والفن بهم في درجة متخلفة أمام جماهير الإنسانية الحكيمة الواقعية عن درجات صناعة الأحذية ودبغ الجلود وكنس الطرق. . .

وسيظلون عائشين على هامش الحياة منظوراً إليهم من الناس على أنهم يحيون في نطاق عالم آخر مملوء بالشذوذ والعقم والفراغ والحيرة والخيبة وعلك الكلام ومضغ الأحاديث والاكتفاء من الحياة بأيسر ما فيها وأهونه. . .

عبد المنعم خلاف

(القاهرة)

ص: 15

‌تعليق على:

(فائدة الأربعاء!)

للأستاذ علي الطنطاوي

هذه كلمة صغيرة من باب ما نشره الأستاذ في (فائدة الأربعاء)، وما أفتى فيها ذلك (العالم الكبير) الذي أولع - غفر الله له - بتبرير كل ما تفعل العامة، والاستدلال عليه، والدفاع عنه، ولو كان خطأ محضاً، ولو كان ظاهراً فيه الخروج على مبدأ التوحيد الذي جاء به الإسلام نقياً واضحاً، دأبه في ذلك دأب زميله الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله رحمة واسعة، فإنه كان على علمه وأدبه يذب عن عقائد العامة، ويسخر للدفاع عنها قلمه البليغ، ويناضل عنها ويهجو العلماء المصلحين بالقصائد الطوال، حتى أنه تطاول على علامة العصر السيد رشيد رضا، وعلى شيخه مربي الجيل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنهما.

وسبب ذلك كله ابتغاء الخطوة عند العامة، والرغبة في نيل احترامها وتقديرها، وإلا فكيف يخفى على مثل الشيخ يوسف النبهاني والشيخ يوسف الدجوي، وهما هما في سعة العلم، وبلاغة القلم، وحدة الخاطر، أن الذي يدعو إليه السلفيون من لدن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا والشيخ جمال القاسمي - أن الذي يدعون إليه إنما هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافات، وطرح الأحكام والاجتهادية التي لم يرد فيها نص ولم يبق إليها من حاجة، وليس على شيء من ذلك رد، ولا للجدال فيه مجال؟

وكيف يخفى على عالم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه ما كان يقاسي من آلام المرض الذي قبض فيه من أن يبين أن الله لعن قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وأن المسلمين أمسوا اليوم، وما مسجد من مساجدهم إلا وفيه قبر أو أقيم على قبر، وأكثر هذه القبور لم تصح نسبته إلى صاحبه. هذا مسجد دمشق الكبير، من يستطيع أن يثبت أن القبر الذي فيه هو قبر سيدنا يحيى عليه السلام، وقبر سيدنا الحسين في القاهرة من يثبت أنه فيه مع أن رأسه في المشهد المعروف باسمه في مسجد دمشق وجسده في كربلاء؟ وكيف يكون في بيروت مقام سيدنا يحيى وليس في هذا المقام قبر ولا شبهه؟ ولكنهم كرهوا أن يكونوا

ص: 16

بمنجاة من مخالفة الحديث، فأقاموا هذا المقام على غير شيء. . . وما الفرق بين وجود القبر وعدمه ونحن تعتقد أنه لا يضر ولا ينفع؟ وكيف يخفى على عالم أن في الحديث الصحيح الذي رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره ألا يدع صنماً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه بالأرض؟ فما بالهم أحرص الناس على تشييد القبور وتعظيمها والوقوف بأعتابها؟ وهل يفعلون ذلك إلا استرضاء للعامة وابتغاء الخطوة عندها؟ فأين إذن أمانة العلم وكرامة العالم، وأين إرث الرسول؟

وأغرب من ذلك وأبعده عن الحق أن من العلماء من يستدل على الخرافة بأحاديث لا أصل لها إرضاءً للعامة. حدث من أسابيع أن قدم دمشق عالم تركي من علماء إسكندرون، فدخل المسجد فرأى حلقة نبيلة فجلس فيها، وكان المدرس من علماء دمشق المعدودين الذين يقرؤون بين العشاءين، فسمعه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج كل ليلة من قبره بلحمه ودمه فيدور دورة في الأرض يرى فيها كل شيء ثم يعود إلى قبره. فقال له الشيخ التركي: من أين جئت بهذا؟ فأظهر المدرس الغضب وصرخ: ألمثلي يقال من أين؟ إذا شئت أن تتعلم فتعال إلي في داري أعلمك. فجاءه في داره، فبحث ونقب ثم أتاه بحديث ليس له سند معروف. فقال له: هذا حديث موضوع، فقال المدرس: لا بل هو صحيح، وصرفه من داره. فلما كان الغد دخل الشيخ التركي المسجد ومعه طائفة من الكتب المعتبرة التي تنص على أنه حديث موضوع، فكان جواب الشيخ أن صرخ: نحن ما عندنا وهابية. . نحن ما عندنا وهابية. . نحن من أحباء الرسول. وكرر ذلك حتى جمع عليه العامة فكادوا يبطشون به.

وأشد غرابة من هذه القصة ما أسمعه كل جمعة على كثير من منابر دمشق، من التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره. وما أدري كيف يكون حياً في قبره الحي عندنا هو الذي يأكل ويشرب ويتنفس؟ فهل هو صلى الله عليه وسلم حي في قبره بهذا المعنى؟ وإذا كان حياً فكيف نعتقد أنه مات سنة كذا، وكيف قام من بعده أبو بكر وعمر ومئات الخلفاء؟ وإذا ثبت أنه قد عاش كما يعيش الناس ومات كما يموتون فكيف يكون حياً في قبره إلا أن تكون حياة روحية برزخية لا نفهم ما هي؟ ولا ندرك صلتها بحياتنا الأرضية؟

ص: 17

أما إنه لا بد من تصحيح عقيدة المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم. والصحيح أنه ليس بشراً كسائر البشر أو فيلسوفاً أو مصلحاً فحسب، كما يريد أن يصوره بعض المستشرقين وأذيالهم من الملاحدة الذين تخرجوا على أيديهم فجاءوا منكرين للوحي، لا يرون فرقاً بين النبي وبين العلماء المصلحين، ويزعمون أن الإسلام إنما خرج من رأس محمد وقلبه.

وليس فوق البشر، كما يتصوره بعض المسلمين القائلين بخرافة حياته في قبره، وعلمه بكل شيء، وقدرته بعد موته على النفع والضرر.

ولكنه بشر مثلنا بنص القرآن، وإنما يمتاز بالعصمة وبالوحي، وبقيامه بالتبليغ عن الله، وقد انقطع الوحي والتبليغ بموته، فمن ادعى أنه رآه صلى الله عليه وآله وسلم في نومه فأمره بكذا أو نهاه عن كذا، يكون إما مجنوناً أو معتقداً نقص الشريعة، أو متلاعباً بالدين. . ومن حسب أنه يمدحه بمثل قوله:

يا أكرم الرسل مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحوادث العمم

فهو على ضلال، لأنه يمدحه بما يهدم التوحيد من أساسه. وإذا كان كفار قريش الذين سماهم الله مشركين وأوجب قتالهم، يدعون الله مخلصين إذا ركبوا في الفلك، ورأوا الشدة، فماذا يكون هذا الرجل الذي يحيق به الحادث العمم فلا يجد من يلوذ به إلا الرسول؟ وينسى الله؟ ونحن نعلم أن النفي والاستثناء من طرق القصر ولذلك كانت كلمة التوحيد لا إله إلا الله؟

وماذا نقول للعلماء الذين يفهمون هذا الأمر الواضح، ثم يقرؤون هذا البيت عند سماعه لأن العامة تعتقد به وتقدسه؟

وماذا نقول للعلماء الذين يحضرون الموالد وأشباهها فيسمعون المغني يتغزل بالرسول، ويذكر الوصال، أي والله، والعين والفم وهاتيك الوقاحات، ويسكتون خوفاً من العامة؟

والذين يجلسون في حفلات الرقص التي تسمى ذكراً، ولا ينكرونها وهم يعرفون بطلانها خوفاً من العامة؟

يا سادتنا العلماء الأعلام، إننا لا نحتاج إلى علم، فإن عندكم منه ما يزيد على الحاجة، ولكنا نحتاج (ولا مؤاخذة) إلى إخلاص وإلى جرأة، وإلى تحرر من التعبد لجماهير الناس، وتخلص من الخضوع للعامة، فإذا وصلتم إلى ذلك لم نختلف ولم نتجادل، لأن المسألة ترد

ص: 18

إلى الدليل وأنتم أعرف به منا.

إننا نشكو أموراً كثيرة، وأنتم تعرفون دواءها ولكنكم تخافون العامة. . .

منها العقيدة بالقبور، وسؤال أهلها، والتوجه إليها، وهي عقيدة لا يعرفها الإسلام، بل يعرفها اليونان الأقدمون ويسمونها عبادة الأبطال. ومن شاء فليرجع إلى كتاب تاريخ الحضارة لشارل سينوبوس الذي عربه أستاذنا كرد علي بك وليقابل بين العقيدتين وليقل لي: أماهما من جنس واحد؟

ومنها مسألة السفور، هذه المسألة الاجتماعية الخطرة، التي تعد من الأدواء المعضلة، والعلماء واقفون منها شر موقف، وبيان ذلك أن النساء يمشين نحو السفور بل الحسور والتهتك والعلماء ساكتون لا يعالجون المسألة ولا يحسنون علاجها، فإن تصدي لها مصلح فأحب أن يجد لها دواء، كالسفور الشرعي المحتشم مثلاً - أثاروا عليه العامة، وخطبوا به على المنابر، واتهموه بأنه سفوري مفسد، فإذا كف عن بحثه الإصلاحي عادوا إلى نومهم وتركوا حبل التهتك على غاربه. . . فلا هم يصلحون ولا هم يتركون الناس يصلحون، وأظنهم لا يفكرون في الإصلاح تفكيراً جدياً، وإنما يبتغون الخطوة عند العامة.

ومنها مسألة الطرق الصوفية وما فيها من منكرات.

ومنها خرافات المتصوفة وضلالاتهم كالقول بوحدة الوجود، والقطبانية، وأهل الديوان.

ومنها مسألة المذاهب الفقهية والاجتهاد، والكلام فيها يحتاج إلى فصل بل إلى فصول طوال.

ومنها الرد على الشبه التي يوردها المستشرقون وأمثالهم.

فمن لهذا المسائل إلا أنتم يا سادتنا العلماء؟ من يعالجها؟ من يدرسها؟ كيف تدرسونها وأنتم تحرصون على رضا العامة أكثر من الحقيقة؟

هذه هي المسألة يأيها الأستاذ المدني، ليست محصورة في فائدة الأربعاء ولا فائدة الخميس! فسل إخوانك علماء الأزهر ما هو جوابهم عليها وقل لي، ولك الشكر وعليك السلام.

علي الطنطاوي

ص: 19

‌من وحي الحرب

يا سيدي. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

(تلقى أحدهم أبيض بضاً، يملخ في الباطل ملخا، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه؛ يقول: هاأنذا فأمروني. قد عرفناك فمقتك الله ومقتك الصالحون) الحسن البصري

أهلاً بك، ياسيدي، وسهلاً!

الآن أشرق ظلام القرية بنور وجهك البهي، فافتح أمامي بابك المغلق وقلبك الموصد، ودعني أجلس إليك ساعة أبثك هماً من همي، وأشكو إليك شجناً من شجوني؛ فأنا عبدك وخادمك منذ أن كان أبوك وأبي. . .

دعني أجتلي طلعتك الوضاحة علها تزحزح عن صدري بعض ما قدحه

لطالما طلبت إليك أن تسكن إلينا يوماً أو بعض يوم لتنفث فينا الحياة، فرميتني بالنظرة الشزراء والكلمة القاسية، تشعرني خيبة الرجاء وضيعة الأمل.

وتصرمت سنوات، يا سيدي. والآن، جزى الله الشدائد كل خير، فهي أرسلتك إلينا لتسكن القرية وترى. . فأهلاً بك، يا سيدي، وسهلاً.

ماذا، يا سيدي، ماذا؟

ماذا وراء هذه السحابة السوداء التي تظلل وجهك الصبوح؟

وماذا وراء هذا الفتور الذي يفعم جنبات حياتك؟ وماذا وراء هذه النظرة الفاترة الحائرة وهذه الإطراقة الطويلة الصامتة؟

إنك تأخذ وتذر في صمت، وتجادل وتناقش في ملل، وتأمر وتنهي في تكسر، وتعمل وتدع في ضيق؛ فماذا. . . ماذاأصابك يا سيدي؟

أفتضيق نفسك بهذا الفضاء المنفسح وهو مسرح القلب ومراحه، وتنزعج أذنك من خرير ماء الغدير المنساب خلال الوادي وهو النغم الساحر توقعه الطبيعة على قيثارتها الإلهية؛ ويرتد طرفك دون هذا البساط السندسي الجميل في ضجر وهو روح الجنة على الأرض؛ وينغلق صدرك دون هذا الهواء النقي وهو معنى من معاني الشباب الدائم؛ وتتململ وأنت في ثوبك الفضفاض وهو يشعرك بحلاوة الحرية؟

ص: 20

لا جرم، فأنت لا تجد هنا بهجة الروح، ولا هوى النفس ولا نور العين، ولا. . . ولا شفاء القلب.

غير أنك، يا سيدي، حللت أهلاً

برغمك هبطت بيننا لتعيش عمراً من عمرك، فهل ترسل نفسك على سجيتها لتشعر ببعض ما أقاسي؛ فأنا الفلاح الصغير الفقير، أكابد شدة الحياة، وشظف العيش، وذلة الإهمال وحيرة الضياع.

منذ سنوات، وأنت تقسو علي، فتنتزع مني قوت عيالي ومساك روحي في غير رحمة ولا شفقة، لتشبع رغبات المدينة الجامحة وحاجات الحضارة المزورة، وأنا أحمل ثقل ظلمك في صبر لأنك أنت سيدي.

منذ سنوات، وأنا أقف بباب قصرك ساعات (كالشحاذ) أطمع أن أفوز بكلمة، فلا أجد السبيل إليك، لأن حاجزاً من الرفاق يحول بينك وبيني.

واندفعت في سبيلك، فركبك الدين؛ وأنا أنادي، فلا يبلغك صوتي الضئيل، لأن فنوناً من الشهوات تشغلك عني

ومرت الأيام، وقصر أبيك المشيد في الضيعة يتداعى رويدا رويداً، وأنا أناشدك أن تمنحه فضل مالك، فأعرضت عني في أنفة وكبرياء؛ وشمخت بأنفك، فقلت: يا سيدي، إن الغيب مستور، ومن يدري، لعلك تحتاج إليه في وقت ما. فقلت: هيه، أيها الغبي، أفتبتغي أن أسكن القرية وأنا هو أنا. . . فسكت وفي قلبي حسرات على أن ينهد هذا الجمال الرائع.

لقد تأنق أبوك فيه، فكان فناً من الفن، وكان مشرق العز ومهبط النعيم؛ فلما سيطرت عليه اطرحته، وطرت إلى بلاد تسميها أنت بلاد النور، تضيف إلى جهلك جهلاً آخر، وتركتنا هنا نتكفأ في بلاد الظلام والفاقة.

إن الذي دفعك إلى هناك هو العلم الذي يعلم الجهل، وهو العقل الذي يعلم الجنون.

والآن جئت، يا ابن القرية، برغمك لتتردى في قرار مكين وثارت بك سورة السلطان فرحت تتسخط على هذا الجهل الشامل، ونسيت يوم أن ذهبت أستجدي جاهك عل ابني يجد مكاناً في المدرسة، فهررت في وأنت تقول: حتى انتم. . . حتى أنتم أيها الفلاحون، تريدون أن تتعلموا. . .؟ فرجعت والخيبة تشيع في جنبات نفسي.

ص: 21

فهل يسرك الآن هذا الجهل الذي تفهق به القرية؟

أتحس في قرارة نفسك أنني إنسان مثلك؟ كلا

بل أنت كنت خاوياً ونفخت في إهابك الرتبة وسما بك اللقب هذا اللقب غرسته بد الكبرياء، وسقته نزوة الخنزوانة، وتعهدته ثورة النعرة.

هو النبتة اللئيمة التي خلقتها أيام الاستعباد، وترعرعت في حضن الاستبداد.

هو القيد البغيض والغل القمل.

هو العصا السحرية التي تخضع لها الأعناق، وتتملقها الألسن، وتهفو نحوها الرغبات، وترنو إليها الأبصار، وينفتح أمامها الباب المغلق، ويذل لها القلب المتغطرس، و. . .

واللقب هو سيما الخسف والهوان، وعلامة الغشم والحيف، فمتى. . . متى الخلاص؟

لا تلمني، يا سيدي، فاللقب هو عدوي الذي أفرق منه: لأنه بعث فيك العظمة والكبر، وعلمني الصغار والضعة، ونفث فيك الغطرسة والعجب، وأوحى إلي بالاستكانة والاستخذاء، وسما بك إلى الخيلاء والصلف، وانحط بي إلى التصاغر والخنوع. وهو فتح أمامك مغاليق الحكومة وأوصدها في وجهي، وهون عليك أمر الرزق وأعضله عليّ، والآن لك الحياة ورماني منها في مهمة حزن.

فلا تلمني إن أنا مقته من جماع قلبي.

ولكنك أنت، يا سيدي، حللت بيننا أهلاً.

تعال معي، يا سيدي، نجلس هناك على الحصباء تحت الظل الوارف، إلى جانب الساقية. تعال علك تجد في نواح الساقية وأنين الثور وشكواي أنا الفلاح برداً يطفئ ثورتك.

تعال واشهدني وأنا بين الطين والماء، بين الفأس والمحصدة، بين الساقية والطنبور، بين أرجاء أرضك التي تسعد بمحصولها، أسهر الليل وأقوم النهار، أعني النفس لتجد أنت لذتك. تعال عل قلبك يتفتح لي فألمس بعض عطفك.

تعال واقترب مني. لا تخش جسمي القذر ولا ثيابي الرثة الوضيعة.

تعال، انزل عن كبريائك ساعة واجلس إلي وذق طعامي ونم إلى جانبي، ولا تأنف ولا تمتعض ولا تدع الحسرة تنسرب إلى قلبك فأنت رجل عظيم تستطيع أن تصنع شيئاً.

ثم تعال إلى داري وتأمل أهي خير أم حظيرة البهائم؟

ص: 22

إن شيئاً من هذا لا يؤلمني بقدر ما آلمني أن أراك تشكو الريف وتضيق بالقرية وتفزع عن ضيعتك التي تغل عليك الآلاف

ولكنك الآن، يا سيدي، حللت هنا أهلاً.

هذا هو وطن الشدة فاحبه بعض رعايتك، وهيئ منه في شتائك لصيفك، ولا تدع صعرك يطغى على عقلك.

إن الريف يمرح بك ويبسم لمقدمك ويتلقاك بين ذراعيه في فرحة، فليكن له منك حسن الجزاء.

لقد تفتق ذهنك، وأنت بيننا، عن ألف مشروع ومشروع، ورأيتك تمسك بالقلم - تارة - ترسم على القرطاس، وتمسك بالعصا - تارة أخرى - تخط على الثرى، فهل تعمل أم هو الرخاء يمحو آثار الشدة، فتنطلق - بعد - على سننك يجرفك الترف الذي أفسدك وأفسدنا.

وأنت - أيتها الحرب - وعاك الله وأدامك لأنك علمت سيدي أن له داراً وأهلاً وضيعة يطمئن إليهم ساعة من زمان، وأنت أزحت الغشاوة التي كانت تحجب بصره عني، وأنت. . . وأنت. . .

فرعاك الله - أيتها الحرب - وأدامك

(مشتهر)

كامل محمود حبيب

ص: 23

‌على هامش الحرب

الطابور الخامس في القرآن

للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة

- 2 -

أهل الكتاب

أعمالهم في السلم: التشكيك في الدين، محاولة فتنة المؤمنين، تحريف كتابهم إذا كان فيه ما ينفع المؤمنين، محاولة التفريق بين الأوس والخزرج.

قدمنا في المقال السابق كيف اضطر الرسول الكريم إلى الهجرة من مكة إلى المدينة، وكيف يسر الله له أسباب هذه الهجرة الشريفة بدخول كثير من أهل المدينة، وبخاصة أشرافها، في دين الله، فكانوا عزاً للإسلام، ولمن هاجر إليهم من مسلمي مكة، وعندهم استراح المسلمون المهاجرون من أذى قريش، وتهيأت لهم الفرصة في يثرب ليقتصوا من الذين أخرجوهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. واستمر النضال بين المسلمين ومن تخلف عن الدين الجديد إلى أن ظهر الإسلام في جزيرة العرب على الدين كله.

ولكن انتصار المسلمين على قريش خاصة وعلى بقية المشركين عامة، لم يكن أمراً سهلاً؛ فقد كان العدو الخارجي قوياً، وكانت جماعة الطابور الخامس في المدينة وما حولها خطراً شديداً، إذ كانت تخفي عداوتها وتبدي مودتها وتتربص بالمؤمنين الدوائر وتعين عليهم إن سرا وإن جهرا كل من يغير على المدينة أو يريد بالإسلام سوءاً.

ولما كان عدد المسلمين كثيراً بالمدينة، وكان النبي الكريم أكبر عامل في حياة يثرب، وله الرأي الأعلى في إدارتها وحربها وسلمها ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كان لا بد من استخفاء جماعة الطابور الخامس في المدينة، وكان لا بد لها من إظهار الإسلام، أو الارتباط بالرسول بعهود وثيقة أن تنصره وتشد أزره ولا تعين عليه مغيراً، حتى تسنح الفرصة لإظهار الكفر أو لتقض العهد، وحينئذ تسارع هذه الجماعة في الكفر وتخلف النبي ما وعدته.

وأهم طوائف هذه الجماعة - جماعة الطابور الخامس - هم أهل الكتاب والمنافقون من

ص: 24

أهل المدينة وممن حولها من الأعراب، ويكاد اليهود يكونون وحدهم دعامة الطابور الخامس من أهل الكتاب، ولنبدأ بحديثهم:

اليهود

كان اليهود في بدء الإسلام ينزلون بالمدينة وما حولها، وكانت لهم سيطرة ونفوذ في المدينة قبل الإسلام، وبخاصة من الناحية الروحية، وكانوا يتلون كتابهم ويرون فيه أن رسولاً من غيرهم قرب ظهوره. وكانت صفاته عندهم تدل على أن (النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأُمرُهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطيباتِ ويُحَرِّمُ عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم) هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، العربي القرشي، الذي ظهر بمكة وأخرجه قومه منها، وهاجر إلى المدينة؛ (فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين). وكان الذي دفعهم إلى الكفر به هو حسدهم له وغيرتهم من أن يكون خاتم الرسل رجلاً من غير اليهود، فقال الله فيهم:(بِئسمَا اشترَوْا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزلَ اللهُ بَغْياً أن يُنزَّلَ اللهُ من فضله على من يشاءُ من عباده، فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذابٌ مهين)

موقف اليهود من الرسول في السلم

كانت لليهود مواقف بعد الهجرة لا تمت إلى الشرف بسبب سواء ذلك في السلم أو الحرب، والذي يعنينا اليوم هو موقفهم في السلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد وصوله إلى المدينة وأذهب الله به ما كان بين الأوس والخزرج من عداوة، وكان من أول ما عمله أن عاهد اليهود على أن يعيش وإياهم في أمن لا ينصر أحدهم عدواً على الآخر، ومن عهده لهم:(وإن من تبعنا من يهود فله النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم) ولكن الحوادث التي سنقدمها تدل على أنهم لم يوفوا بعهدهم، بل أخذوا يحاربون الرسول الذي أقرهم على دينهم وأموالهم، وأخذوا يحاربون دينه بوسائل شتى.

ومن تلك الوسائل التي اتبعوها طريقة التشكيك في الدين، وذلك أنهم كانوا يؤمنون حتى يطمئن إليهم المسلمون ثم يرتدون كفاراً، كي يظن المسلمون بدين الرسول ظنونا، ويقولوا

ص: 25

ما كفر هؤلاء وهم على بينة من أمر الأديان إلا لعلة. ففضح الله هذه اللعبة الخطرة إذ يقول: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)

وكانوا (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا) عاتبين على من يخبر المؤمنين منهم بصفات الرسول في التوراة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليُحاجُّوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟)

وكانوا يرسلون طائفة منهم إلى الرسول بعد أن يسمعوها أحكام التوراة محرفة، ويوصون تلك الطائفة ألا تقبل من التعاليم والأحكام إلا ما يوافق أهواء مرسليهم سواء وافقت الحق أو خالفته.

وكانوا يتحاكمون إليه، لا رغبة في حكومته العادلة، ولكن رجاء أن يحابيهم فيحكم بما يوافق هواهم، ثم ينقلبون عليه، ويشيعون عنه السوء من أجل هذه الحكومة: روى أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر، وهما محصنان، وحدهما الرجم في التوراة. فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقالوا لهم: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. فأمرهم بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فنزل قوله تعالى:(ومن الذين هادوا سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا) وأمر الله نبيه الكريم أن يحكم بينهم بالقسط أو يعرض عنهم، وبين له أنهم احتكموا إليه هرباً من حكم كتابهم، فقال له:(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله؟ ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين) ثم حذره أمرهم فقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهوائهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)

وكان علمهم بدين موسى سبباً في مغالطات منطقية سخيفة يريدون بها أن يبطلوا دين محمد، وأن يصرفوا العرب عنه؛ فمحمد يقول لقومه عن الإسلام:(مِلّة أبيكم إبراهيم) وهم يقولون إن إبراهيم كان يهودياً، وهو أبو العرب فواجب على أتباع محمد أن يتبعوا اليهودية التي هي دين إبراهيم، لا أن يتبعوا الإسلام، فنفى الله وصفهم لإبراهيم باليهودية في قوله:(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين) ثم

ص: 26

وبخهم على هذه المغالطة بقوله: (يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، أفلا تعقلون؟)

وبلغت بهم الجرأة أنهم أرادوا تهويد جماعة من كبار الصحابة منهم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل، ولكن الله عصمهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يُضُّلونكم وما يُضلُّون إلا أنفسهم وما يشعرون)

وكان في التوراة آيات تدل على صفات محمد وفضله، وكان فيها أحكام توافق القرآن ولا توافق هواهم، فعمدوا إلى تحريفها ليبطلوا حجة المسلمين وبرهانهم على رسالة محمد من هذه الناحية، وكان على رأس هذه الطائفة المحرفة كعب بن الأشرف، ومالك ابن الصيف، وحيي بن أخطب، وهم الذين قال الله فيهم: وإن منهم لفريقاً يَلوُون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وكانوا يحاولون التفريق بين الأنصار من الأوس والخزرج بتذكيرهم بحروب الجاهلية، والعداوة التي كانت بين القبيلتين ومحاها الإسلام: قيل مَرَّ شاس بن قيس اليهودي على نفر من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه تحدثهم وتألفهم، فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، ففعل الشاب ما أمر به، فتنازع القوم عند ذلك، وقالوا: السلاح السلاح. فبلغ النبي عليه السلام، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين. فنزل قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هُدىَ إلى صراط مستقيم، يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوناً)

تلك خلاصة أعمالهم في السلم وتتجلى في أنهم كانوا يريدون فتنة المسلمين عن دينهم بطريق التشكيك أو المغالطة أو التحريف، وكانوا يودون التفريق بين المؤمنين بإثارة أحقاد

ص: 27

الجاهلية، فكان الله لهم بالمرصاد يكشف حيلهم، يفضح أسرارهم، وينهى عن مودتهم، ويبين مبلغ عداوتهم، فقال فيهم: لنجدَنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. وقال تهديداً لهم: (يأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فتردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً)

أما موقفهم في الحرب، ومحاولتهم هدم الإسلام بالسيف والقتل فهو موضوع الحديث التالي إن شاء الله.

(القاهرة)

عبد الرزاق إبراهيم حميدة

ص: 28

‌نجوى!

في غدير السُّكون. . .

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

تَعَاَليْ تَذبْ في غَديرِ السُّكونِ

وَنَخْرِقْ أَسانا عَلَى ضِفَّتِهْ

تَعَاَليْ نَكُنْ صَمْتَةً في دُجاهُ

وَذِكْرَى هَديرٍ على مَوْجَتِه

تَعَاَليْ نَسِرْ في جِنازِ الغُروبِ

شُعاعاتِ ثُكْلٍ على صَفْحَتِه

تَعَاَليْ. . . فَإنا بَقايا لهيبٍ

حَشا الدَّهْرِ يَفزَعُ منْ وَقْدَتِه

فما نَبْتَغي مِنْ رَمادِ الزَّمانِ؟

ومِنْ لَغَطِ النَّاسِ في ضَجَّتِه؟

حَضِيضٌ حَياةُ الوَرَى كُلُّها

وإثْمٌ يَهيمُونَ في لوثَتِه

فطيرِي بِنا عَنْ سَماواتِهم

إلى أُفُقٍ هِمْتُ في عُزْلَتِه

بَرِي الحَواشِي كقَلْب النُّجُوم

وكالمَلكِ الطفِّل فيِ غَفْوَتِه

عَفِيفُ اَلْخَيالِ كأَني بهِ

تَهادَيْتِ وَالفَجْر في رَبْوَتهِ

تَعَاَليْ فَإنِّي سئمتُ الحَياةَ

وَعِفْتُ الشَّبابَ على نَضْرَتهِ

تُطِلُّ بِعُشِّي نُجُومُ السَّماء

جِرَاحَا توَلْوِلُ في ظُلمَتِهِ

وَيُلقي حَوَالَيْهِ لَيْلُ الوْجودِ

خُطَا مَارِدٍ لَجَّ في ثَورَتِه

وَقَلبِي بِهِ وَتَرَدٌ وَتَرٌ أَشْعَلَتْ

خَيَالَ السُّكُونِ رُؤَى نَغْمَتِه

تَعالَيْ نَعِبْ في تَهاوِيِلِهِ

وَنَفْنَى مَعَ الصَّمْتِ في نَشوَتِه

محمود حسن إسماعيل

مراقبة الثقافة - بالمعارف

ص: 29

‌الحرب في أسبوع

للأستاذ فوزي الشتوي

اضطراب سياسي

أبرز بقاع النشاط السياسي الآن الشرق الأقصى والبلقان، فهما المنطقتان الوحيدتان التي لألمانيا فيهما مجال للمناورات، فهي تحاول في البقعة الأولى أن تضم اليابان إلى صفها لتربك بريطانيا العظمى في الميدان الشرقي، ولتوزع أسطولها للدفاع عن ممتلكاتها في آسيا والمحيط الهادي، وتحاول في البلقان أن يستتب السلام مؤقتاً بأي ثمن.

أما أمريكا فمعروف أمرها، ومعروف أن تأييدها لبريطانيا العظمى أقوى من أن تضعفه المناورات السياسية؛ فأمريكا تعتبر إنجلترا وأسطولها خط دفاعها الأول، فانهيارها يعرض أمريكا للخطر، وإذا كانت تحرص على حفظ قوة إنجلترا البحرية في المحيط الأطلنطي، فإنها تحرص أيضاً على ألا تنتقص هذه القوة بانتقالها إلى المحيط الهادي لتواجه اليابان.

وحاولت إنجلترا بقفل طريق بورما، ومنع توريد الأسلحة إلى الصين أن ترضي اليابان وتضع حد لنزاعهما، ولكن الحزب العسكري في اليابان ثار فأعلن رؤساؤه عدم رضاهم عن الحكومة فاستقالت ليشكل غيرها على هواه، وكانت باكورة أعمال تلك الوزارة أن قبضت على بعض الرعايا الإنجليز مما أثار الحكومة البريطانية، ووقف عقبة في سبيل مفاوضات إنجلترا واليابان.

انقلاب عسكري

ولعل السر في هذا الانقلاب الياباني عقلية حزبها العسكري الذي يصبو إلى السيطرة على جميع آسيا، فهو يريد التخلص من منافسة إنجلترا لليابان اعتماداً على قوته، وقد أنبأتنا البرقيات أن حركة الحزب العسكري لا يقرها قادة اليابان البحريون الذين يعرفون مدى قوة الأسطولين البريطاني والأمريكي، وهم يعرفون أن الحرب مع إنجلترا وأمريكا صدام بين قوات بحرية أكثر منه بين قوات برية، فإن تردد أمريكا في دخول الحرب ينتهي بمجرد أن تدخلها اليابان، ويتولى أسطولها وقواتها العبء الأكبر من الحرب في الشرق الأقصى.

وتدل حركة اليابان الأخيرة على الوسائل التي تلجأ إليها ألمانيا لتحبط حركات إنجلترا

ص: 30

وخصوصاً إذا أضفنا إليها ما أذاعه مدير قسم الأبحاث السرية في أمريكا عن عمل الجواسيس ومحاولتهم إفساد خطط الدفاع الأمريكية بتدمير الطائرات بوضع الرمل في محركاتها، أو بنسف المنشآت العامة وتسميم المياه، وغير ذلك من الوسائل التي يرتكبها الجواسيس.

الروح الوطنية

أما في البلقان فقد تطورت الحوادث الأخيرة تطوراً كبيراُ نشك إذا كان هتلر نفسه توقعه، فإنه كان يعتمد اعتماداً كبيراً على تأييد رجال الحرس الحديدي لمشروعاته، فلما ظهرت نياته بالموافقة على ضم جزء من ترانسلفانيا إلى المجر تمرد رجال الحرس الحديدي وتكاتفت طبقات الشعب وزعماؤه، فأعلنوا توحيد صفوفهم بزعامة مانيو زعيم الفلاحين، وقالوا إنهم يفضلون أن تضم بلادهم إلى الروسيا على أن تقتطعها المجر أو بلغاريا.

فإذا لم يتمكن النازيون من إيجاد صدع بين أحزاب رومانيا فإن ضم أحد أجزائها إلى دولة أخرى يتعذر حتى إذا وافقت الحكومة الرومانية على هذا الضم بإكراه ألمانيا، لأن الشعب في هذه الحالة يثور، وتجد الحكومة الرومانية نفسها في مركز ضعيف، وكل حكومة تفضل في مثل هذه الحالات أن تقاتل على أن تسلم، ولا سيما أن المجر وبلغاريا ليستا من القوة حتى تتمكنا من إكراه رومانيا على تلبية طلباتهما، فرومانيا هي أقوى دولة في البلطيق فلديها أقوى جيش، وأقوى سلاح طيران، وكانت تعرف أطماع هذه الدول من قبل فأعدت العدة لصد عدوانها.

واتحاد كلمة زعمائها وتمسك شعوبها وخصوصاً سكان الأجزاء التي يراد ضمها إلى الدولتين الأخريين - عقبة كبيرة في سبيل تحقيق السلام الذي ينشده هتلر في البلقان ويضع خططه في مركز حرج؛ أضف إلى ذلك ظهور الخلاف بين ألمانيا والروسيا على ألسنة الساسة الرومانيين بعد رجوعهم من مقابلة هتلر؛ فقد كثر الكلام أخيراً عن الخطر الشيوعي وعن مساعي ألمانيا لوقفه؛ فهل تكشف حوادث البلقان الأخيرة نقاب الزعيمين اللذين يتظاهران بالصفاء والاتفاق رغم تنافر طباعهما واختلاف ميولهما وأطماعهما؟ هذا ما تكشف عنه الأيام قريباً.

دروس الحرب

ص: 31

ولا يقتصر الاضطراب على أوربا والدول المتحاربة وحدها بل يشمل الأرض بأجمعها، فمهما تباعدت حدود الدول عن ميدان الخطر فهي تشعر به في مناورات جاراتها للاستيلاء على بعض أجزائها حرصاً على فائدة عسكرية، وهي تحمسه فيما أصاب تجارتها من كساد، وما أصاب أهلها من ضيق في العيش تبعاً للرقابة على الصادر والوارد.

فلا يقتصر الحصر الإنجليزي البحري على الدول المتحاربة، بل يتعداها إلى الدول المحايدة البعيدة؛ فلكيلا تحصل ألمانيا على الواردات يجب أن تمنع الدول الأخرى من تصدير منتجاتها إلى ألمانيا؛ وهذه الفترة من الفترات التي يشعر فيها العالم أجمع بما بين دولة من رباط وثيق؛ وهي ليست التجربة الأولى من نوعها ولكن لها أشباهاً في الحروب الماضية، وإن كان العالم قد خبر أقسى تلك الدروس في الحرب الماضية عندما فرض نفس الحصر على تجارة ألمانيا.

وتكرار هذا الدرس من شانه أن يوحد بين أمم العالم، ويجعلها تتنازل عن عصبيتها، فتوحد قانونها وتجعل له من القوة ما للقوانين المحلية التي تقيد مطامع الأفراد وتنظم معاملاتهم على أساس العدل والمنفعة المتبادلة في ظل السلام، وإذا كان الأفراد قد شعروا بوجوب احترام قوانين الدولة فإن أمثال النضال الحالي والنضال السابق هي خير معلم للدول لتشعر نفس الشعور وتحترم القوانين الدولية؛ وقد فشلت عصبة الأمم في العهد الماضي في تحقيق هذه الوحدة لأن الدول لم تكن أعدت الإعداد الكافي من الناحية العقلية، ولأن بقايا النظم القديمة وأطماعها أثرت في نفسية الشعوب.

ولسنا نعني أن هذه الحرب ستكون الحد الفاصل للمنازعات الدولية، وأن العالم سيصبح إذا انتهت دولة واحدة ينظم معاملاتها قانون واحد، ولكننا نرى النضال الحالي وما جره من مصائب يضع أحد أحجار ذلك الاتحاد؛ ففكرة اتحاد دولي عالمي ليست بنت اليوم نودي بها من زمن طويل وكان أول حاكم دولي أراد إحياءها بصورة جدية اسكندر قيصر الروسيا فوضع في سبتمبر سنة 1851 أسس اتحاد مقدس يحكم الدول على ضوء التعاليم المسيحية ولكن مشروعه قبر لأسباب كثيرة.

جغرافية الحرب

ص: 32

وكما تعطينا هذه الحرب فكرة واضحة عن ارتباط مصالح العالم بعضها ببعض، فإنها تعطينا دروساً أخرى في الجغرافيا، فقارن بين معلوماتك عن بلدان العالم الآن وبين معلوماتك عنها قبل الحرب، تجد أنها تضاعفت عدة مرات، دون أن يكرهك أستاذ على دراستها، ودون أن يضطرك امتحان إلى مذاكرتها.

وعلمتك هذه الحرب كثيراً من المميزات الإقليمية للبلاد من جبال وأنهار وسهول، وما تضمه أرضها من ثروة معدنية وزراعية، وما أتصف به أهلها من قدرة على تحمل شظف العيش ومرارة القتال، كما عرفت مدى حاجات الدول بعضها إلى بعض.

ثورة صناعية

والحرب ثورة صناعية تحفز الحكومات والمخترعين على ابتكار معدات جديدة في الميدانين المدني والعسكري، فكلاهما مكمل للآخر، ولا نستطيع أن نضع حداً فاصلاً بينهما، فالجندي يحتاج إلى وسائل مدنية وعسكرية، فيجب العناية بطعامه وصحته وملابسه ووسائل راحته، كما يجب العناية بإعداده وإمداده بأدوات القتال.

ومن أمثلة تقدم المخترعات (الطيران) فإن ما وصل إليه من طول مدى الطيران وقوة الحمولة يدلان على ما فعلته فيه الحرب، فلم نعرف من قبل أن الطائرة تحمل أربعين جندياً بمعداتهم كما هي الحال الآن، ورحلات سلاح الطيران في إغاراتها على ألمانيا وعودتها دون توقف؛ هذا تقدم كبير يربحه العالم من الحرب عندما تضع أوزارها، ومثله كثير في الطب والصناعة والزراعة.

وليس معنى هذا أننا من مؤيدي الحروب فإن المصائب التي تحل بالعالم من قتل الأنفس وتدمير البلاد وانتشار الأمراض، تفوق بمراحل هذه المكاسب الزهيدة التي يصل إليها العلم أثناء السلم بعد فترة أطول من الزمن، فتقدم العالم مطرد سواء في السلم أو في الحرب إلا أن فترة الحرب انقلاب وسرعة.

الخسائر والأرباح

وهي فترة انقلاب ضرورية إلى أن تصفو الضمائر وتقتنع العقول بأن الحرب مهما أكسبت من أسلاب وغنائم، فلن توازي ما يخسر العالم من أموال ومن أروح، وبلغ عدد القتلى

ص: 33

والجرحى في الحرب الماضية 21 مليون نفس، وتكلفت 67. 598 مليون جنيه؛ وبديهي أن هذه الأنفس والأموال لو وضعت تحت تصرف العلماء والمخترعين لأنتجوا أضعاف ما أنتجت الحرب من تقدم.

وهاهي ذي الحرب الحالية تنفق عليها إنجلترا وحدها 52 مليون جنيه في الأسبوع الواحد؛ فإذا قلنا إن ألمانيا نتفق نصف هذا المبلغ عرفنا كم تتكلف الحرب من أموال تضاف إليها خسارة الأرواح وكساد بعض نواحي الحياة المدنية مما لا تتلائم طبيعته وطبيعة الحرب.

ولا يسعنا أن نقول إن الفنون والعلوم توقف تماماً، ولكنها تتحول إلى الناحية العسكرية، فيشتغل القصصيون بالقصص العسكرية، ويرسم الفنانون الصور العسكرية، وتتحول العقول الهادئة إلى عقول مدمرة عملها شحذ عزائم أهلها؛ فكل أديب أو فنان لا يعمل الآن من أجل الحرب يموت جوعاً، ولا يتيسر له إبراز إنتاجه لأنه يعيش في وادي غير وادي الناس ويفكر فيما لا يفكر فيه الناس، ويبتدع ما لا يقره الناس.

فالقتال إحدى الغرائز الإنسانية، صقلتها القوانين والنظم، وكبتت في الفرد، ولكنها ما زالت بارزة في الجماعة، فإلى أن يتاح للجماعة أن تكبت هذه الغريزة وتحولها إلى غريزة أصلح، فإن الحرب لن تزول.

وإذا كانت الحكومات وفقت في ضبطها عند الأفراد، فمصيرها غامض عند الأمم لاختلاف أمزجتها وميولها اختلافاً بيناً وإن كانت نهايتها المحتومة عندما تعقل الدول.

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 34

‌خواطر في الحرب

للأستاذ محمد عرفة

لم يبق ريب في أن من أعظم الأسباب في سقوط الدولة الفرنسية الترف.

اعترف بذلك الباحثون والكتاب ورجال السياسة، قال بيتان رئيس الوزارة الفرنسية:

(لقد دمرت روح الانغماس في الملذات ما شيدته روح التضحية، أصلحوا من أخلاقكم ودعوا الترف والملذات، وأقبلوا على العمل بصبر وتضحية)

ليس في ذلك كله شك، إنما الشك فيما أعرضه على نظر القراء: أيمكن للأمة تجنب الترف، أم أن الترف أمر لازم يتبع الغنى والثروة، والزهد والحرمان يتبع الفقر والإملاق، فالأمم الغنية حتما تنغمس في الترف والنعيم، والأمم الفقيرة تكون بمنجاة منهما، ولذلك لا يفل حدها، وتبقى لها قوة الصبر والمجالدة؟

حوادث التاريخ تنبئنا أن المذهب الثاني هو الحق فإذا صح هذا كان الوجود مقسماً قسمة عادلة؛ فما خسره الفرد من ذات يده ربحه من ذات نفسه، وما ربحه من نفسه خسره من ذات يده، أي أن الفقير المعدم وإن خسر المال يربح قوة العزم والقدرة على المقاومة، فهو يخسر الكنوز في المال، ويربح الكنوز في الأخلاق والقوى، والغني القادر - وإن كسب المال - يخسر القوة والقدرة على المقاومة فهو يكسب كنوز المال ويخسر كنوز الخلق والقوة والنفس.

عدل في القسمة، وكنوز بدل كنوز، بل ربما كان حظ الفقراء أوفر من هذه القسمة، فإن الكنوز النفسية أثمن من كنوز الذهب والفضة بما لا يقدر.

وإذا صح ذلك أيضاً كان التاريخ متشابهاً، وهو يتكون من دورات رحوية، لا تبدأ حتى تنتهي، ولا تنتهي حتى تبدأ

فأمة تتغلب على أمة، فتغصبها خيراتها، وتتمتع بهذه الخيرات دونها، فإذا فتحت عليها كنوز الأرض، وانغمست في النعيم، ضعفت شوكتها، ولانت قناتها، وتغلب عليها من هم أقوى منها، ممن لم يفسدهم الغنى والترف والنعيم، وممن ازدادوا حصانة بالفقر والإقلال.

محمد عرفة

ص: 35

‌يا شاعر.

. .!

أيها الشاعر قُمْ وال

عَبْ على تلك الحقولِ

وتنقَّلْ بين هاتي

كَ السَّواقي والنخيل

طَلَعَ الفجرُ على الوا

دي طروباً والسهول

فلماذا. . . لا تغِّني

غنوةَ الفجرِ الجميل؟!

أتْرك الغرْفةَ يا

شاعرُ واسبح في الفضاء

نَسَجَ الفجرُ على الكوْ

نِِ جَلَابيبَ الصفاء

والشعاعُ السَّمْحُ صلَّي

في خشوع للسماء

فلماذا. . . أنتَ لا تخ

لعُ أشجانَ المساء؟!

أََذَّنَ الفجرُ. . . فقمْ يا

شاعر الحبِّ وغَنِّ

صوتُك المطرابُ يا

شاعرُ فنٌّ أي فن

شد أوْتارَك واسْكب

ها أغاريدَ تهنَّي

واجمع الطيرَ حوالَي

كَ وأَسعِدْها بلحن

جئتَ يا شاعرُ للري

ف فلِمْ لَا نتهنَّي؟!

هذه التُّرعة كانتْ

في صباكَ الحلوِ لحنا

طالما سرْتَ عليها

في صفاءٍ تتغنى

والعذارى رائحاتٍ

غادياتٍ تتثنى

ذلك الجدولُ يا

شاعر كم غنَّى طروبا

والأزاهيرُ عَلَيهِ

تملأ الوَادي طيوبا

وصَبَايا الحقلِ يرْقصْ

ن صباحاً وغروبا

شاديات غْنوةَ القط

ن فيطربْن القلوبا

هذه يا شَاعِرَ الحبِّ

مغانيكَ الحبيَبهْ

عصرَ الله عَليْها

حسْنه الباهي وطيَبه

وكسَاها بُرْدَةً سح

ريَّة النُّور عجيبه

كم تنعْمتَ عليها

والمنى منكَ قريبه

أيها الشاعرُ قمْ وامر

حْ على تلك القناةِ

ص: 36

أنت كم نحتَ وفجَّر

تَ ينابيعَ الشكاة!

فرصَةٌ حانتْ فخْذها

طرباً قبل الفوات

إن للشَّاعِرِ دون النا

سِ بخساً في الحياة!

عبد العليم عيسى

ص: 37

‌على قيثارتي.

. .

لحن اليأس. . .!

اتركوني. . . . لشجوني!

وليأسى المظلم!

ودعوني. . . . وسفيني!

لرياح العدم!

قد شربت الكأس ما أبقيت في كأسيَ شيا!

وطويت الأمل المجروح في صدريَ طيا!

وبعثت اليأس في قلبي فعاد اليوم حيا!

آه! قد أصبحت في دنياي حيرانَ شقيا!

زورقي ضلله الليلُ وأعشى ناظريا!

ورياح الموت تدنو، توسع الخطو إليا!

فاتركوني. . . . لشجوني!

وليأسي المظلم!

ودعوني. . . . وسفيني!

لرياح العدم!

إنني أحيا كما يحيا الشريد الهائم!

لست أدري أين أمضي؟ كل أفق مظلم!

عصر اليأس فؤادي والحنين المبهم!

فهو في خديّ - واقلباه! - دمع ودم!

وهو في أنفاسيَ الحرَّى لهيب مضرم!

وهو في القيثار لحن شاع فيه الألم!

فاتركوني. . . . لشجوني!

وليأسي المظلم!

ودعوني. . . . وسفيني!

لرياح العدم!

ها أنا أطفأت مصباحي، وحطمت قناتي!

ها أنا شيعت أحلامي إلى وادي الممات!

ها أنا ألقيت قيثاريَ في تلك الفلاة!

ها أنا أمضي إلى قبري سريع الخطوات!

لا تقولوا: واهن القلب ضعيف العزمات!

ص: 38

ماتت الآمال في قلبي فما معنى حياتي!

فاتركوني. . . . لشجوني!

وليأسي المظلم!

ودعوني. . . . وسفيني!

لرياح العدم!

(دمنهور)

إبراهيم محمد نجا

الشاعر الحائر

ص: 39

‌رسالة الفن

كأنها ذكرى:

أستاذها يوحي لها

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

في المرقص، جئن يتبارين، لتفوز المجيدة منهن بالعمل. فقد كن راقصات معطلات، وقد أعلن المرقص عن يوم قريب حدده ليبدأ فيه العمل بأبطال وبطلات جدد.

وكان يومنا هذا اليوم المختار لانتقاء الراقصات المتهافتات على هذا المجال الجديد الطلى.

وراحت كل واحدة منهن تعرض أبهى ما عندها، وأحيي ما عندها، وأشد ما عندها أخذاً، وأقواه أسراً، وأحلاه فجوراً، وأشهاه فتكا.

وكلما كانت واحدة منهن تفزع من جولتها كانت تجلس إلى جانب أخواتها اللائي فرغن لتشاهد أخواتها اللائي يتتابعن على الحلبة يذوبن أنفسهن حركات ونظرات وتشععاً. فمن أساءت حيينها، ومن أحسنت حيينها أيضاً.

وكانت صاحبة المرقص هي والأستاذ جالسين في ركن يتذوقان كل راقصة من هؤلاء كما يمضغ الأهتم التفاحة، يمصها مصاً في تريث وفي تأن، فما تفوته من حلاوتها ولا من نكهتها نسمة.

حتى انطلقت عذراء لترقص

كان الرقص ملهاتها في المدرسة، وكانت تتشرف به، وكانت تمنح عليه الجوائز دون أن تفكر في أنها ستستنجده العيش، ولكن أباها لما مات، وأمها المنهوكة ترملت، وأخوتها الصغار تيتموا، لم تجد مفراً من أن تعرض في السوق نفسها في أفضح ما تكون نفسها، ألماً وفرحاً، راحة وتعباً، رغبة وإعراضاً، تماسكا وتحطما. . . لتكون راقصة.

عذراء، لا يزال منها الحياء، انطلقت بين الأستار والأنوار، ونهشات الأنظار، فانعقدت، عقلها راح. انصدمت فوقفت، وتدلت، فتساقطت، ولو أنها عصرت ألمها دمعاً لما اختنقت، ولكنها ضعفت فلم تقو حتى على أن تبكي.

هذه. . . تريد أن تكون راقصة. من الذين رأوها من تألم، ومنهم من ضحك، ولكنهم جميعاً

ص: 40

أسرعوا إليها، وحملها بعضهم، وأمرت صاحبة المرقص أن يذهب بها إلى حجرة ما تسعف فيها ثم تأخذ ملابسها وتمضي، فذهبوا بها، وعادوا عنها إلى ما كانوا فيه، ولكن صاحبة المرقص ألفت نفسها في ركنها قد طال مكثها وحدها، لم يرجع الأستاذ لها فسألت عنه فعلمت أنه لا يزال عند البنت التي أغمي عليها.

وكان وقت الراحة قد جاء فقامت السيدة إلى الأستاذ لتراه ماذا يصنع عند تلك البنت.

فلما جاءتهما وجدته يقول لها: (هذه الأنوار أنوار، فإذا كنت تكرهينها أطفأناها، وهذه الأستار أستار قطع من القماش مدلاة بحبال ومرسوم عليها صور وأشكال، فإذا لم تكن تعجبك رفعناها، وهؤلاء الناس الذين ينظرون إليك ناس مثلي أنا ومثلك أنت ومثل كل الذين عرفتهم وعرفوك، فإذا كنت تبغضينهم طردناهم. . . أيرضيك هذا؟ ولكن لماذا يرضيك؟ أما كنت ترقصين في المدرسة أمام أنوار وأستار وأنظار؟ هذه كتلك، فلم التخاذل هنا والشيطنة هناك؟ قومي. . . أعيدي الكرة. . . فإني أضمن لك في الرقص مستقبلاً قريباً ربما لم يكن أتيح مثله لراقصة من قبل. . . يا لله يا ماما. . . وهاك الشوكولاته!. . .)

ومصت العجوز المتصابية صاحبة المرقص شفتيها عجباً واستهزاء وقالت: اسمعي الكلام يا روحي وقومي أرينا البشائر وأشهدينا الفتح. . . يا لله يا ماما، وهاك أيضاً من عندي شوكولاته.

وأصرت الصغيرة على أنها تكره الرقص، وتنفر منه وتخشاه وتضرب عنه. . . وجمعت أشياءها في حقيبتها وتمتمت بكلمات شكر مما تحفظه وترويه بدون أن تتدبره أو تفكر فيه، واستأذنت لنمضي، ولكن الأستاذ وقف في طريقها وأقسم ليحبسنها، فلا تخرج إلا إلى الأنوار والأستار والأنظار.

الرجل أحبها، هذا المغمور في متابع الهوى، المنغمس ليله ونهاره بين أذرع الغيد، المنطبق بروحه على أرواحهن، المتقبل بحواسه نفثاتهن وصرخاتهن وهمهماتهن وغليانهن. . . هذا العليم الخبير، الغني الوفير الصيد إذا أراد صيداً، كان يزهد في كل ما كان يرى، لأنه لم يكن يرى إلا صنعة هو أستاذها. . . أما هذه فقد رأى فيها أشياء أخرى، ولم يكن ينقصها إلا هذه الصنعة الني هو أستاذها، رآها الراقصة التي ظل يحلم بها ليحبها وليعلمها

ص: 41

ولترقص له فتلهبه، وتلهمه، فيعود يوحي لها. . . الأخريات لم يقبلن على الرقص إلا حين أردن أن يسفكنه ذهباً، وهذه حين أرادت العيش من الرقص استعصى عليها واستعصت عليه. . . الأخريات عيونهن مفتحة وأرواحهن غائبة، وهذه عيناها محتشمتان مغضوضتان، وروحها هي العاصفة. . .

هذه هي الفنانة الراقصة

قالت صاحبة المرقص للأستاذ (ما دامت الآنسة مصرة على الذهاب فدعها تذهب، وإني أصدقها النصح وأؤكد لها أنها غير مخلوقة لهذه الحياة الصاخبة التي نحياها، وأنه من الخير لها أن تعمل في متجر أو مصنع فهو أليق بها وأوفق لها). . .

فما عارضت هذا الآنسة وإنما هزت رأسها. وقالت: (شكراً، وإن هذا ما اعتزمته، ثم شكراً للأستاذ فقد كان رؤوفاً رقيقاً)

فضحك الأستاذ وقال: (إذا خرجت فأنا معك)

وترك عمله وخرج معها، وصحبها إلى بيتها، فاستقبلته أمها وإخوتها وكانوا ينتظرون عودتها في اشتياق وإشفاق، وكانوا يرجحون أن تزف إليه خبر فوزها في المباراة واضطلاعها بالعمل، فلما دخلت هي والأستاذ أسرعت إليها وسألتها:(ما الخبر؟) فأسرع الأستاذ بالإجابة قائلاً: (إن هي إلا سنة، إن لم تكن بعدها ابنتكم هذه سيدة الراقصات فإني لست إياي). . . فقالت الأم: (على الله، ولكن أما اتفقتم معها لتعمل عندكم هذه السنة؟) فقال الأستاذ: (سأعمل معها أنا). . .

وأخذ الأستاذ بعد ذلك يهرج مع الصغار ويعابثهم ويضحك معهم ويلعب، ثم أولم لنفسه وليمة عندهم فآكلهم وشاربهم ومازحهم، وما غادرهم حتى كان قد أشاع في نفوسهم جميعاً الفرح، والأمل، والإيمان بأن رضواناً من الله قد انساق إليهم. . . .

إلا الراقصة فقد كانت تسايرهم بما يبدو فرحاً وأملاً وإيماناً، ولكن نفسها كان فيها غير هذا يأس وقنوط وظلمات ووحشة. وكان الأستاذ يحس هذا كله ولكنه لم يكن يعبأ به ولا يخاف منه على صغيرته فقد كان يعد هذا كله من علامات التوفيق الذي كان يتوقعه.

وانتهت زيارة اليوم، وعاد إلى الزيارة في الغد وقال لها:(أما رأيت فروجاً يخرج من بيضة؟) فقالت: (رأيت) فقال لها: (وكيف رأيته؟) فقالت له: (هكذا رأيته، بمنقاره ينقب

ص: 42

البيضة وهو فيها، فإذا انفتحت فيها ثغرة أطل برأسه منها، فإذا رأى الدنيا أمامه نظر إليها عن يمينه وعن يساره، ثم إذا حلت له الدنيا عاد إلى البيضة، فإذا كره الحبسة فيها عاد فنقبها، حتى يتسع له فيها مخرجه منها، فينطلق من محبسه، جرياً، وقفزاً، لا ينظر إلى مثواه القديم، وإنما ينساه، وينجذب إلى أمه، يعرف أنها أمه، وهكذا يخرج الكتكوت من البيضة) فقال لها الأستاذ: (لو أنك انتبهت إلى نفسك وأنت تقصين عليَّ هذه القصة، لعلمت أنك قد ابتدعت رقصة، هي رقصة بريئة طاهرة ترضيك وتوافقك، وقد أخذتها أنا الآن عنك، وسأعود إليك بها غداً، مقسمة، منظمة، منغمة، مزيداً عليها تزاويق من عندي على الأصل الذي كان عندك، فإلى اللقاء غداً. . .

وفي الغد عاد الأستاذ بالراقصة. . . وليس في البيت أنوار ولا أستار ولا أنظار إلا أمها وإخوتها، وهؤلاء جميعاً يفيض من أعينهم الحب والإعجاب والتشجيع. . . فرقصت وأحسنت

فلما رآها أحسنت قال لها: (الآن تستطيعين أن تقصدي المرقص، وأن تتحدي الراقصات فيه بهذه الرقصة، فإذا كنت ستشعرين بشيء من التهيب أو شيء من الوجل فإني سأقف على قرب منك تجاه عينيك، فانظري إلي، وأرقصي لي، ولا ينشغل بالك بمن هم حولك، وانسيهم، وازعمي لنفسك أني سألتك ثانية كيف يخرج الكتكوت من البيضة وأنك تجيبين عن سؤالي هذا رقصاً. . . يا لله يا ماما. . . وهاك الشكوكولاته. . .

اضطربت قليلاً، ولكنها قامت معه.

ولم يكن باقياً على موعد البدء في العمل إلا يوم، ولم يكن عند صاحبة المرقص من الصبر ما تحتمل به اختبار راقصة جديدة بعد ما أعدت برنامجها واطمأنت لم نظمت به عملها. . . ولكن تحمس الأستاذ، وإصراره، وأيمانه التي كان يقسم يؤكد بها نجاح راقصته. . . كل هذا حمل العجوز على أن ترضخ وأن تصبر وأن ترى. . . فرأت عجباً. . . فناً رشيقاً بريئاً حلواً مبعوثاً من نفس بكر خالصة صادقة ساذجة ذكية ناصعة، موشى بحلي صاغتها روح هذا الأستاذ العارف المدرك الدقيق المتأنق. . .

فرضخت العجوز واعترفت. . .

وبدأت الراقصة العمل. . . ونجحت في الليلة الثانية، وواصلت النجاح بعد النجاح، وبدلت

ص: 43

الرقصات رقصة بعد رقصة، وتفتحت نفسها بعد ما كانت مظلمة معتمة وبارحها اليأس، وتبدل قنوطها فرحاً ومرحاً وبهجة وإيمانا ورضى. . .

ولكنها لم تنتبه إلى الأستاذ، لم يكن تطلق إليه روحها إلا وقتما كان يعلمها، ووقتما كان يقف لها على بعد أو قرب لترقص له. . . أما في غير هذين الوقتين فقد كانت تنشغل بالدنيا، وبما فيها، وبمن فيها. . . كلما قال لها واحد من الناس كلمة إعجاب صدقت أنها كلمة إعجاب، وما بالها لا تصدقها والأستاذ نفسه معجب بها. . . كان عليها أن تسأل نفسها: هل هؤلاء الذين يبدون الإعجاب بها يعرفون أين موطن الحسن فيها، وما مبلغ هذا الحسن وما مبعثه. . . ولكنها لم تفكر في شيء من هذا، ولكنها تلقت إعجاب الأستاذ، وحسبت أن الناس كلهم مثله، ثم راحت تحسب بعد ذلك فيهم ميزات ليست فيه هو، فهذا غني، وهذا وجيه، وهذا شباب، وهذا صحة، وهذا اسم، وهذا مجد، وهذا ظرف، وهذا تودد، وهذا هدايا، وهذا ولائم. . . وهذا وهذا. . .

أما الأستاذ فإنه لم يزد عندها على أن يكون معلمها وهدف فنها. . .

لم تفكر في أنه يحبها. انفرد بها يوماً وقال لها كلاماً كثيراً دس فيه أنه يحبها فسمعتها منه كما كانت تسمع منه كل شيء: حقيقة تتلقاها خالصة، وتستغلها. فلم يعد يعيدها

ومرت السنة.

وكان اسمها قد لمع. ولم يعد أحد يجهلها. الجمهور يتهافت عليها، والصحافة تتلقف أخبارها، ولمراقص تتنافس لتتعاقد معها. وهي ناعمة راضية. . .

والأستاذ عاشق يكتم العشق، وصار راض بأن تكون تلميذته الموفقة إن لم تكن له أكثر من ذلك.

وأقاموا لها حفلة يكرمونها. وانحشدت الدنيا في هذا الحفلة: العشاق، والهواة، والمعجبون، والمتطفلون، والزملاء، والأستاذ. . .

وألقيت الخطب، والقصائد، ونثرت الزهور والرياحين، وطالبوها برقصة (الكتكوت) فقال لها الأستاذ:(لا ترقصي) فقالت: (عجباً! ولماذا؟ لا بد أن أرقص، هؤلاء جميعاً جاءوا ليكرموني فلا أقل من أن أكرمهم برقصة. . . وهي بعد ذلك وقبل ذلك رقصتك التي علمتني إياها، ثم إني أريد أن أرقص)

ص: 44

- إذا كنت تريدين أن ترقصي فهيا إلى البيت أرقصيها بين أمك وأخوتك، وإني أذهب معك.

- وهؤلاء الناس؟

- هؤلاء الناس ليسوا شيئاً. إنهم ناس! بشر لا أكثر ولا أقل.

- وأنت ألست من الناس؟ ألست من هؤلاء البشر. . . هذه غيرة وغرور.

- قد تكون غيرة، ولكن أين منها الغرور؟ أنسيت أنك حتى الأمس لم ترقصي إلا لي. . .

- ومنذ اليوم سأرقص للناس لا أريدك أن تقف في طريقي.

-. . . أوروفوار!

. . . ولم تستغرق هذا التهامس إلا دقائق قليلة مرت بسرعة. . . ثم أشارت بعدها إلى العزاف فبدءوا اللحن، واعتدلت الرقص. . . وبدأت. . . وأخذت تطرد من مخيلتها صورة هاتين العينين اللتين اعتادت أن تسيل بفنها فيهما. . . وأخذت تسفك فنها في الفضاء وتنثره على عيون منها البلهاء، ومنها المتلصصة، ومنها السفاحة الخاطئة. . .

اضطربت المسكينة. وعاودتها تلك الرجفة التي دهمتها في ليلة المباراة الأولى، فسقطت كما سقطت إذ ذاك. وانقلبت حفلة التكريم إلى مأساة حملوها إلى البيت، وأرقدوها في الفراش، وتسللوا وتركوها بين أمها وإخوتها، ومعها مندوب من المرقص ليقف على خدمتها ريثما يطمئن على صحتها. . . ولكنها ظلت في غيبوبة تائهة. . . ولم تفق وإن كانت تردد نداءها للأستاذ.

ولم يكن أحد قد علم بشيء مما دار بينهما، فلم تر أمها إلا عجباً في انقطاع أستاذها عنها، فأرسلت إليه تستدعيه، ولكن الرسول عاد يقول لها أن الأستاذ مريض هو أيضاً وإن لم يكن طريح الفراش. فعادت وأرسلت إليه فجاءها. . .

دخل إلى تلميذته المريضة متثاقلاً من تعبه، محطماً من تلك اللطمة التي تلقاها إذ اعتبرته واحداً من الناس، من هؤلاء الناس.

جلس إلى جانبها، ومد يده فأمسك بيدها، ففتحت عينيها فلما رأته قالت له بصوت متكسر:

- سامحني يا أستاذ

- إنك لم تسيئي إلي، فليس ما حدث إلا قضاء الله، وأنا الذي أرجو أن تسامحيني أنت.

ص: 45

- إذن فقبلني. . .

فقبلها. . . ولكن في جبينها، ومكث عندها ما مكث ثم مضى ولكنه لم يمض إلى بيته، ولم يعرف بعد ذلك أحد إلى أين مضى ثم أذيع أنه مات.

أما هي. . . فقد انهارت بعد ذلك وأصبحت راقصة كبقية الراقصات. . .

غير أنها كانت تسكر أحياناً، وتمعن في السكر، وعندئذ كانت إذا رقصت نظرت إلى فضاء ما.

وعندئذ كانت تلم بها أطياف من المجد القديم، وعندئذ كان يتهامس المقربون منها والذين عرفوا قصتها قائلين:(أستاذها يوحي لها)

عزيز أحمد فهمي

ص: 46

‌رسالة العلم

الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيان

للأستاذ أحمد زكي صالح

(تتمة)

مناقشة رأي الأستاذ كراوس

الأستاذ كراوس حيران بين أمرين: أولهما أنه يريد أن يثبت أن جابراً إنما عاش في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع من الهجرة، والأمر الثاني هو البرهنة على عدم وجود هذه الشخصية العلمية الإسلامية التي تسمى جابر بن حيان؛ ولكن هل تأنى له أن يصل إلى نتيجة أحسن مما وصل إليه أساتذته وغيره من المستشرقين؟

هذا ما نرى الجواب عليه فيما يلي:

يريد الأستاذ كراوس أن يبين أولاً أن جابراً إن كان له وجود فهو إنما عاش في النصف الثاني من القرن الثالث وأوائل الرابع الهجري، معتمداً في ذلك على الدراسة المقارنة، فهو أولاً يقارن آراء جابر الكلامية الشيعية بآراء غيره من رجال الفرق الشيعية الأخرى، ويخرج من هذه الدراسة المقارنة بأن آراء جابر بن حيان إنما تشابه وتماثل آراء القرامطة والإسماعيلية اللتين ابتدأتا تلعبان دورهما منذ سنة 260هـ أي في النصف الثاني من القرن الثالث، ولكن نحن نسلم بكل ما جاء في هذه الدراسة المقارنة بين الآراء الكلامية والفلسفية لجابر بن حيان، وبين تلك التي قالت بها فرقتا الإسماعيلية والقرامطة، ولكن الذي لا يمكن التسليم به هو أن وجود هذا التشابه بين الآراء يصح دليلاً على أن جابر معاصراً لهما، بل الأقرب إلى العقل أن جابراً وضع أسس النظريات الكلامية والفلسفية والإلهية التي توسعت فيها فيما بعد الإسماعيلية والقرامطة.

ومن الجلي الواضح لدى كل من درس علم الكلام أن فرق الشيعة كانت أنشط الفرق الإسلامية حركة، وكانت أولى من أسس المذاهب الدينية على أسس فلسفية، حتى أن البعض ينسب فلسفة خاصة لعلي بن أبي طالب.

وعلى هذا فنحن لا نسلم برأي الأستاذ كراوس، وهو أن جابراً عاش في أواخر القرن

ص: 47

الثالث وأوائل الرابع من الهجرة، وعلى ذلك فنحن ننتقل إلى مناقشة رأيه الثاني، وهو عدم وجود شخصية جابر بن حيان، وأن المؤلفات المنحولة لجابر بن حيان، إنما هي من أعمال مدرسة في القرن الرابع للهجرة.

يقول الأستاذ رسكا: (إن المسألة لا يمكن أن تفسر هذا التفسير البسيط الساذج وهو أنها أعمال مدرسة استمرت عدة قرون). ولكن يظهر أن الأستاذ كراوس أخذ بشطر من هذا التفسير على الأقل، إذا أنه فسرها على أنها من أعمال مدرسة وجدت في القرن الرابع، ولكن هذا التفسير كذلك ينطبق عليه قول رسكا من أنه تفسير بسيط ساذج، ونحن نسأل الأستاذ كراوس: هل يمكن لهذا التفكير المنسجم المطرد أن يكون تفكير أفراد كثيرين؟

نحن نفهم من المدرسة عدة أشخاص معتنقين مذهباً واحداً واضعين نصب أعينهم أغراضاً واحدة يعلمون على تحقيقها، يقسمون العمل فيما بينهم فلا يخرجون كتاباً إلا إذا بحث ومحص من كل الوجوه كما هو حال (إخوان الصفاء)، ولكن هل نلاحظ هذا في أعمال جابر بن حيان؟؟ كلا فكثيراً ما عاد جابر في مؤلفاته يشرح بعض النظريات التي سبق أن قال بها ويكمل بعض الآراء التي وصل إليها. أضف إلى هذا أن تفكير جابر بن حيان لا يدل على تفكير مدرسي ولا يمكن بأية حال أن يدل على ذلك، إذا أن شخصية جابر تظهر في جميع مؤلفاته على السواء بنفس الروح وبمظهر واحد وأسلوب فذ. على عكس التفكير المدرسي فإنه إما أن يكون خلواً من الروح المميزة له على الإطلاق أي يتلاشى الفرد في الجماعة، وهذا بعيد جداً عن مؤلفات جابر، أو أن تظهر فيه شخصية الأفراد المؤلفين فتختلف روح العمل والإنتاج تبعاً لكل كاتب، وهذا ما لا نجده في مؤلفات جابر.

جابر الحقيقي

بعد ذلك تخرج بالنتائج الآتية:

أولاً: إن كلمة في الكتب اللاتينية قد استعملت ترجمة لاسم جابر العربي.

ثانياً: إنه وجد فعلاً شخص عربي كيميائي مسلم هو جابر ابن حيان.

ثالثاً: إن الكتب الكيميائية العربية لهذا المؤلف قد نقلت إلى اللاتينية في القرنين الثاني والثالث عشر من الميلاد.

رابعاً: كثير ما كان المترجم اللاتيني يستعيض عن الترجمة الحرفية للكتب العربية بترجمة

ص: 48

مع تصرف.

خامساً: قسطاس الأصل العربي للكتب المفقودة، يحب أن يكون عن طريق البحث في المحتويات أولاً وفي الأسلوب ثانياً.

من هو جابر أذن؟

قال ابن النديم: (هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي، واختلف الناس في أمره: فقالت الشيعة إنه من كبارهم وأحد الأبواب، وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه، وكان من أهل الكوفة. وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم. وله في المنطق والفلسفة مصنفات. وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره وأن أمره كان مكتوماً، وزعموا أنه كان يتنقل في البلدان ولا يستقر في بلد خوفاً من السلطان على نفسه، وقيل إنه من جملة البرامكة وكان منقطعاً إلى جعفر بن يحيى، فمن زعم هذا قال إنه عني بسيده جعفر بن يحيى البرمكي وقالت الشيعة إنما عني جعفر الصادق. . .

(وقال جماعة من أهل العلم وأكابر الوراقين إن هذا الرجل يعني جابراً، لا أصل له ولا حقيقية، وبعضهم قال إنه ما صنف، إن كان له حقيقية، إلا كتاب الرحمة وإن هذه المصنفات صنفها الناس ونحلوه إياها، وأنا أقول إن رجلاً فاضلاً يجلس ويتعب فيصنف كتاباً يحتوي على ألفي ورقة، يتعب قريحته وفكره لإخراجه ويتعب يده وجسمه لنسخه ثم يخلد لغيره إما موجوداً أو معدوماً ضرب من الجهل، وإن ذلك لا يستمر على أحد، ولا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا وأي عائدة؟ والرجل له حقيقة وأمره أظهر وأشهر وتصنيفاته أعظم وأكثر، ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة أنا أوردها في مواضعها، وكتب في معاني شتى من العلوم قد ذكرتها في مواضع من الكتاب، وقد قيل إن أصله من خراسان والرازي يقول في كتبه المؤلفة في الصنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان)

وقال القفطي: (جابر بن حيان الصوفي الكوفي كان متقدماً في العلوم الطبيعية بارعاً في صناعة الكيمياء وله تآليف كثيرة ومصنفات مشهورة، وكان مع هذا مشرفاً على كثير من علوم الفلسفة ومتقلداً للعلم المعروف بعلم الباطن وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام.

ص: 49

وذكر محمد سعيد السرقسطي المعروف بابن المشاط الإصطرلابي الأندلسي أنه رأى لجابر بن حيان بمدينة مصر تأليفاً في عمل الإسطرلاب يتضمن ألف مسألة لا نظير لها)

ونحن إذا سلمنا بوجهة نظر ابن النديم؛ فإننا نستطيع أن ننسق من جديد ما يقوله (الفهرست)، وأن نعيد مبنى هيكل حياة جابر بن حيان؛ فإذا كان جعفر الصادق الذي عاش من 699 - 765م أي 89 - 155هـ هو أول أصدقاء جابر ومعلميه، فإن تاريخ ميلاد هذا الأخير حوالي سنة 730م أي حولي 120هـ وهكذا يمكن أن يكون قد ارتبط، وهو في سن الستين أو السبعين، بعلاقة ما مع البرامكة. ولا يجد الجلداكي ثمة غرابة في أن يكون لجابر نشاط أدبي عظيم لأغراض علمية وفلسفية وإلهية.

والبرهان على حياة جابر وتنظيمها أثبت في كتاب الجلداكي (البرهان في أسرار علم الميزان). جاء في هذا المخطوط: الأستاذ الكبير جابر بن حيان ولد في الكوفة، وهو من قبيلة أسد فهو طوسي الأصل صوفي المذهب، تتلمذ في صباه على حرابي حميرات أحد المعمرين. ويذكر لنا جابر أن حميرات هذا قد عاش أربعمائة سنة؛ أي أنه ولد في سنة 200 قبل الهجرة وعاش حتى حكم هارون الرشيد، أي أنه مات سنة 170هـ تقريباً. وعن هذا المعمر أخذ جابر العلم في صباه؛ ثم رحل إلى حيث يوجد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وتتلمذ عليه وصار بعده إماماً. ثم اتصل بعد ذلك بالبرامكة ومارس تحت ظلهم الكثير من التجارب، وعن طريق جعفر البرمكي اتصل اتصالاً مباشراً بهارون الرشيد وأهدي إليه الكثير من كتبه.

وعلى هذا الأساس فإن جابراً بعد أستاذاً للكيمياء. ومما ساعده على ذلك أنه أحضر في أيامه الكثير من المؤلفات الكيميائية اليونانية من بيزنطة إلى بلاط الخليفة في بغداد. أضف إلى ذلك أن جابراً نفسه قد انهمك في الفلسفة حيناً من الزمن ثم مات وله من العمر تسعون عاماً أي حوالي سنة 210هـ أي 820م. بعد تصنيفه لثلاث آلاف رسالة وكتاب.

الخواص العلمية لكيمياء جابر

كان بن حيان أول من فطن إلى الناحية التجريبية الخالصة في الكيمياء، وبهذه الوسيلة تيسر له أن يأخذ بيد هذا العلم الناشئ في ناحيتيه النظرية والعلمية، ويمكن أن نتتبع أثر جابر هذا في الكيمياء وكيميائي أوربا.

ص: 50

فمن الناحية العلمية يصف لنا جابر طرق التبخير، والتكوير والترشيح، والذوبان والتعطير والتبلور! كما وصف أيضاً الكثير من طرق التحضير الكيميائي، كالزنجفر وأكسيد الخارصين، كما عرف تماماً كيف يحضر حامضا الكبريتيك والأزوتيك، وحجر السنب، والقلوي والسلمونيك وملح اليارود.

ولقد اقتبست اللاتينية عن العربية بفضل مؤلفات جابر ابن حيان الكيميائية بعض الاصطلاحات الكيميائية التي لا زالت تستعمل في اللغة الأوربية مثل البوتقة والأنييق والتوتيا التي هي أكسيد الخارصين، والقلوي والرجار الذي هو كبريت الخارصين.

الأسس العامة التي قامت عليها كيمياء جابر

بينا كيف أن كيمياء جابر إنما تقوم على أسس تجريبية؛ ويرى الأستاذ كراوس أن كيمياء جابر مؤسسة كذلك على أسس فلسفية، ويقرر أن هذه النظرية الفلسفية قد اقتبست إلى حد كبير من طبيعة أرسطو، وجابر نفسه يعيد ذكر الكثير من عبارات أرسطو كما يذكر بعض فقرات وتعليقات على: الإسكندر الأفروديسي، وطيمسطس وسمبليكيوس ونورفوريوس وغيرهم. وكذلك ترى في مؤلفات جابر ذكراً لمؤلفات أفلاطون وبقراط وجالينوس وأقليدس وبطليموس وأرشميدس، وبين هؤلاء المؤلفين الكثيرون ممن لم تفقد أصول مؤلفاتهم اليونانية، وبالدراسة المقارنة أثبت أنه ليس هناك مؤلف كيميائي في الإسلام على معرفة واسعة النطاق بالأدب العلمي القديم، ومؤلفاته لها صبغة دوائر المعارف إلا جابر بن حيان ومؤلفاته، هذه المؤلفات التي تقرب من أن تكون دائرة معارف إسلامية تعبر عن معارف عصره تماماً. وأساس العلم الجابري هو الميزان، وهو في نفس الوقت الذي يبين لنا وحدة العلم الجابري، ونحن كي نستطيع فهم هذا الأساس وهذه الوحدة، يجب أن نعدد المعاني المختلفة لهذا الميزان:

أولاُ - الوزن النوعي.

ثانياً - وزن الكيميائيين القدماء الذي يحدد امتزاج العناصر بعضها ببعض.

ثالثاً - ميزان الحروف: كان يرى أن حروف اللغة العربية على صلة بالخواص الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف، وهو يرى أن ميزان الحروف هذا لا ينطبق على عالم ما تحت القمر فقط إنما كذلك على الكائنات الميتافيزيقية مثل العقل الروح والمادة

ص: 51

والمكان والزمان.

رابعاً: والميزان هو المبدأ الميتافيزيقي للواحدية العلمية ويظهر هنا أن تصور أفلاطون للواحد لا يمكن أن يكون إلا ذا أثر.

خامساً: وأخيراً فإن الميزان يتفرع عن تفسير مجازي طويل لآيات القران عن ميزان الحكم في العالم الآخر، وهذا هو ما يوجد إجنوزية الإسلام التي حاول جابر أن يربط بها مذهبه في الدين.

أثر جابر في الدراسات الكيميائية

جابر في نظر كيميائي الإسلام أستاذ الصنعة الأكبر، ولقد ترك جابر أثراً ليس من السهل الإقلال من شأنه، ونكتفي بأن نشير إلى أنه من خيرة تلاميذ مدرسة جابر بن حيان في الكيمياء: الخرقي، ابن عياض المصري الإخميمي، وذو النون المصري، وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ومسيلمة بن أحمد الماجريطي، والطغرائي وأبن وحشية، والإكميمي المصري، وأبو القردان النصيبي (؟)

أما في العالم الأوربي فأغلب أعمال جابر الكيميائية إن لم تكن كلها مترجمة إلى اللاتينية مطبوعة في المجموعات التالية:

1.

2.

3.

4.

وهذه التراجم اللاتينية تنقسم إلى قسمين:

قسم أخذ بمنهج الترجمة الحرفية فخرج غير متين الأسلوب ولا قوي التركيب. وقسم أخذ فيه بمنهج الترجمة مع تصرف فجمع فيه بين دقة التعبير العلمي وبين متانة الأسلوب الأدبي، وبين وضوح الفكر ورونق التنسيق وجمال التقسيم.

وهذه التراجم اللاتينية لكيمياء جابر إنما سادت التفكير الأوربي العلمي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر حينما عرفت كتب جابر العلمية، وإن كان بعض المغرضين قد انتهزوا فرصة فقد الأصول العربية لهذه التراجم اللاتينية وضياعها، فحاولوا أن يخرجوا بهذه

ص: 52

التراجم عن دائرة الفكر العربي الإسلامي، فإن هذه المحاولات مقضي عليها بالفشل، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على قيمة هذه المؤلفات وعظيم تأثيرها على الفكر اللاتيني في القرون الوسطى.

وإني لا أعدو أن أكون مقرراً للواقع حين أقول إن كيمياء جابر يمكن أن نعدها إلى حد ما أساساً للكيمياء الحديثة؛ وذلك لأن التراجم اللاتينية لأعمال جابر بن حيان طبعت في القرن السادس عشر، ثم أعيد طبعها في القرن الثامن عشر، ولا بد لهذه الأعمال العظيمة أن تؤثر في عقليات المفكرين سواء أكان هذا التأثير من ناحية سلبية أم من ناحية إيجابية أم هو بين السلب والإيجاب.

هذه هي مشكلة جابر بن حيان في وضعها الصحيح، وبهذا تكون قد أزحنا بعض العبء الثقيل الذي يبهظ أعناقنا نحن دارسي التراث الإسلامي، وفقنا الله جميعاً لإحياء هذا التراث الخالد.

(تم البحث)

أحمد زكي صالح

-

ص: 53

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ الشاعر علي محمود طه

قرأنا بإعجاب كبير ديوان (ليالي الملاح التائه)، وفي مطالعتنا لمقدمات القصائد مررنا بمقدمة القصيدة التي عنوانها (خمرة نهر الرين) وقد جاء فيها:

(يتفرد نهر الرين بجنات أعنابه، وأشجاره الباسقة، وقصوره التاريخية، ذلك النهر الذي ينبع من سويسرا ويمر بين فرنسا وألمانيا ويخترق هولندة حتى مصبه في بحر الشمال. وقد تغنى بجماله وفتنته شعراء مبدعون، احتفل الأدب بآثارهم ومنهم الشاعر الإنجليزي جون كيتس الذي أودع قصائده الأخيرة إلى محبوبته أرخم ما غناه عشاق نهر الرين. . .)

واعتماداً على ما نعلمه من دراستنا لأخبار الشاعر المبدع جون كيتس وأشعاره لا نجد في ديوانه كله أية قطعة تغنى فيها بنهر الرين مباشرة أو عرضاً، وليس في قصائده المعروفة إلى محبوبته (فاني براون) أي تغن بنهر الرين.

وزيادة في الإيضاح نذكر أن الشاعر المذكور لم يترك إنجلترا في حياته إلا مرة واحدة، وذلك في عام 1820 تلبية لدعوة الشاعر (شلي) الذي كان في إيطاليا في تلك السنة. وكانت الطريق التي سلكها (كيتس) بحرية. ومنذ اليوم الذي ترك فيه إنكلترا حتى وفاته بعد ذلك بزمن يسير لم يقل غير قصيدة واحدة وهي مشهورة في الأدب الإنكليزي بعنوان (النجم الساطع) إلى (فاني براون)، وليس فيها إشارة إلى النهر المذكور الذي لم تقدر له رؤيته في حياته.

أما الشاعر الإنكليزي الذي تغنى بنهر الرين فهو (اللورد بيرون) في قصيدته الطويلة وذلك في المقاطع (46 - 55) من الفصل الثالث؛ وهي من أجمل ما قيل في التغني بجمال نهر الرين وعظمته.

وختاماً تقبل أستاذي هذه الملاحظة، وليس يقل من شأن شاعر الحب والجمال (جون كيتس) ألا يتغنى بجمال نهر الرين وكفاه ما تغنى به. ودم للمعجب.

علي كمال

حول أخي إسماعيل أدهم

ص: 54

قرأت جل ما كتب في المجلات والجرائد المصرية خاصاً بأخي المرحوم (إسماعيل أحمد أدهم) وقد رأيت أن بعض الكتاب قد وقعوا في بعض الأخطاء، ورأيت من الواجب أن أنبه إلى تلك الأخطاء إحقاقاً للحقيقة، وخدمة للتاريخ.

ولقد كتب صديقي الأستاذ (عبد الحفيظ نصار) مقالاً في العدد الأخير من مجلة (الرسالة) فوقع في بعض الأخطاء منها أنه ذكر أخي إسماعيل حفيد أدهم باشا كان وزير المعارف التركية سابقاً. والحق أن إبراهيم أدهم باشا كان وزيراً للمعارف المصرية - أي مدير المدارس المصرية - على عهد ساكن الجنان المغفور له (محمد علي الكبير) وخلفه العظيم الخديو (إسماعيل)

وقد أشار إلى هذا الأستاذ الأديب (صديق شيبوب) في المقال المنشور له في جريدة البصير بتاريخ (2 أغسطس 940) نقلاً عما كتبه المرحوم علي باشا مبارك في خططه.

وذكر الأستاذ نصار أن أخي نشر أبحاثاً متفرقة في الرسالة كان آخرها بحثه عن (عام الفيل) والحقيقة أن آخر مقال له فيها هو (الذرة وبناؤها الكهربائي)

وذكر أيضاً أن أول كتاب صدر له في مصر (مصادر التاريخ الإسلامي) والصواب (من مصادر التاريخ الإسلامي) وقد صودر - كما أذكر - بقرار من مجلس الوزراء وليس بمرسوم ملكي كما قال الأستاذ.

وقال أيضاً إن له كتاباً اسمه (الأنساب العربية) والصواب (علم الأنساب العربية) وقد نشرته مجلة (الحديث) الحلبية

هذا، ولي عودة - إن شاء الله - لتصحيح أخطاء بعض الكتاب.

(الإسكندرية)

إبراهيم أحمد أدهم

مأخذ طائش

قال الأديب أحمد جمعة الشرباصي: لما أخرجت وزارة المعارف ديوان المرحوم حافظ إبراهيم لم تنشر به عدة قصائد له، وذكر مقطوعة من شعره في وصف الطيارة لم تنشر بديوانه وهي:

ص: 55

يجري بسابحة تشق

سبيلها شق الإزار

والحقيقة أنها موجودة بالجزء الثاني صفحة 77 في استقبال الطيار العثماني فتحي بك، وكانت طائرته قد سقطت به ومات قبل إتمام رحلته إلى مصر، فرأى حافظ من الوفاء نشر هذه القصيدة بعد موته لتكون له حياً وميتاً. فهل اطلع الأديب الشرباصي على الديوان؟

أحمد حسين حسنين

تصحيح بيت في ديوان (حافظ) بمناسبة ذكراه

إلى حضرات الأساتذة المحترمين الذين ضبطوا وصححوا ديوان شاعر النيل (أحمد حافظ إبراهيم) رحمه الله

جاء في الجزء الثاني من الديوان مطلع قصيدة (تصريح 28 فبراير):

مالي أرى الأكمامَ لا تُفَتِّحُ

والروضُ لا يزهو ولا يُنفِّحُ

وذلك بتشديد الكلمة الأخيرة من صدر البيت ومثلها من عجز البيت، وعلى هذا فوزن البيت لا يستقيم مطلقاً مع وزن القصيدة. إذا فالأصح أن يكون بيت المطلع بلا تشديد هكذا:

مالي أرى الأكمامَ لا تَفتَحُ

والروض لا يزهو ولا يَنفَحُ

هذا ما خطر لي لدى مطالعتي ديوان حافظ بجزئيه منذ أمد بعيد، وقد سجلت هذا الخاطر. . . والآن بمناسبة ذكرى هذا الشاعر العربي العظيم أعرض ملاحظتي المتواضعة على البيت المذكور أمام الأساتذة المصححين للديوان ليقولوا كلمتهم، وكذلك أعرضها لقراء الرسالة ليتدبروها جيداً ويُبدوا آراءهم فيها، ولله أسأل أن يهدينا إلى الصواب.

(العراق - العمارة)

أنور خليل

نؤت بالحمل وناء بي

نشر الأستاذ الطنطاوي في العدد (362) مقالاً جاء فيه تلك العبارة:

(. . . وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل. . .). وقد أشار في الهامش إلى أن هذا هو التعبير الصحيح رغم شيوع عكسه، وهذه الإشارة إن أفادت شيئاً،

ص: 56

فإنما هي تفيد أن تعكس خطأ.

وقد قرأت في كتاب الأمالي ما نصه: (يقال: نؤت بالحمل أنوء به نوْءا، إذا نهضت به، وناء بي الحمل ينوء بي نوءا، إذا جعلني أنهض به) اهـ

وقد دفعني ما قرأته في الأمالي إلى أن أرجع إلى القاموس، فأدهشني أن كلا الكتابين متفق، وذلك بعد أن أرجعت البصر فيهما مرات، وهاك الدليل: يقول القاموس في مادة (ناءَ): (ناء نوْءَا وتنْواءَ): نهض بجهد ومشقة، و (ناء بالجمل) نهض به مثقلاً، و (ناء به الحمل): أثقله وأماله كأناءه) اهـ

ولو تلمسنا وجاهة كل من التعبيرين، لوجدنا أن قولنا نؤت بالحمل أوجه بكثير من قولنا ناء بي الحمل، والتعبير نفسه ينطق بذلك فما رأي الأستاذ الطنطاوي؟؟

(كفر المياسرة)

عوض عوض الدحة

مغالطات

أستاذي الكبير الزيات

قرأت للأخ الأديب أحمد جمعة كلمة في الثقافة عدد 83 حول ترجمة لابن الفارض في كتاب (تاريخ الأدب العربي) إذ نقل منه هذه العبارة:

ومن أشهر شعره - يعني ابن الفارض - تائيتاه الكبرى والصغرى، تبلغ الأولى 600 بيت، والثانية 103 أبيات، وقد استوعبتا أغراض الصوفيين وأسرارهم ولا يقرأهما إلا من رزق الصبر والجلد إلى حل تلك الرموز، يقول في مطلع الكبرى:

نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي

فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت

تذكرني العهد القديم لأنها

حديثة عهد من أهَيل مودتي

نقل هذه العبارة، وقال إن فيها عدة أخطاء:

1 -

في عدد أبيات التائية الكبرى، فهي ليست 600 بل 779 بيتاً كما عدها بنفسه مراراً.

2 -

إن التائية الكبرى ليست مبدوءة بما ذكرتم من قول ابن الفارض:

(نعم بالصبا قلبي صبا. . .) البيتين

ص: 57

3 -

في إتيانكم بالبيتين متعاقبين والحقيقة أن البيت الثاني (تذكرني العهد القديم. . .) الخ جاء في التائية الصغرى - لا الكبرى - بعد أربعة أبيات. . . الخ، وأنا أعجب للأخ أحمد جمعة، كيف جشم نفسه هذا الجهد الكبير، والأمر أسهل مما يعتقد؟؟

أما عن عدد الأبيات فقد صدق أستاذنا الزيات، فلقد رجعت إلى طبعات ديوان ابن الفارض المختلفة، فوجدت اختلافاً كبيراً في عدد الأبيات، أبيات هذه القصيدة. فبعض الطبعات ذكرت هذه القصيدة في نحو 600 بيت، وعلى هذه الطبعة اعتمد أستاذنا الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي) صفحة 229 من الطبعة الخامسة كما ذكرت، وصفحة 352 من الطبعة السادسة وكذلك اعتمد عليها أيضاً الدكتور زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي جـ 1 ص130 حيث يقول:(ولا يسع من يهتم بدرس ابن الفارض أن يغفل التائية الكبرى، وهي نحو ستمائة بيت، وقد نظمها تحت وحي صوفي. الخ). وطبعة أخرى ذكرت هذه القصيدة نفسها في 758 بيت، وطبعة ثالثة ذكرت هذه القصيدة أيضاً في 762 بيت، وأحمد جمعة يقول إنها تبلغ 779 بيتاً كما عدها بنفسه مرات فلا يصح له بعد ذلك أن يخطئ الأستاذ في عدد الأبيات قبل التثبت في حين أنه أخذ بأكثر هذه الطبعات دقة وعناية.

هذه واحدة. وأما الثانية: فأنا معه فيها، إذ أن التائية الكبرى مبدوءة بقول ابن الفارض:

سقتني حُميَّا الحب مقلتي

وكأسي محيا من عن الحسن جلَّت

فأوهمت صحبي أن شرب شرابهم

به سُرَّ سرىِّ في انتشائي بنظرة

ولعله يرى معي أن هذا لا يعد خطأ، وإنما هو سهو، وكان الأجدر به أن يعطيه اسمه الصحيح. . .! وأما الثالثة: فهي مغالطة صريحة ولا تجدر بطالب الحقيقة والناقد المنصف.

ألم يقل أستاذنا: (يقول في مطلع الكبرى: (نعم بالصبا قلبي صبا. . .) البيتين؟ أليس البيت الثاني: (تذكرني العهد القديم. . .) الخ خامس أبيات القصيدة؟ وهل أن الإتيان ببيتين متعاقبين يدل على أنهما كذلك في أصل القصيدة؟؟

اسمع يا أخي كلمة الحق: كان يكفيك أن تقول: (وقع سهو في كتاب (تاريخ الأدب العربي) حين ذكر مطلع التائية الصغرى، على أنها الكبرى.). إنك لو فعلت ذلك لكنت من

ص: 58

المقسطين.

عبد الحفيظ أبو السعود

إلى الدكتور زكي مبارك

لا ضَيْرَ أن يلحق التأخير تهنئتي

ما العِبرةُ إلا بالخواتيمِ

كمثل فعلك: مجهودٌ وتضحيةٌ

يتوَّجان بتقدير وتكريم

أن الوسام الذي أُعطيته ثقةٌ

للرافدين وحقٌ غير مهضوم

سفارةٌ لك في الأقطار يحمدها

ساعٍ يؤلف ما بين الأقاليم

مِزاج أكؤسها من كوثرٍ شَبِمٍ

ووِرد أنهارها من عذب تسنيم

الفكر والقلم المفتول ساعِدُهُ

قد أولياها بمشبوبٍ ومضروم

فانهض (مباركُ) للجُلَّى بلا وَهَنٍ

ما كان مقتحِم الجُلَّى بمهزوم

واقبل كأصدق ما هُنِّئتَ تَهنئةً

ممن قصائدُه وحي الحواميم

عامر محمد بحيري

استدارك

سقطت عبارة من مقال (من عجائب الفهم. . .؟) المنشورة بالعدد 370 صفحة 1259 عند السطر 26، وهاهي ذي:

(وقد بينت أن الحياة عن الأستاذ العقاد في قصيدته هي النزول إلى ظواهر الدنيا للاتصال بها وإدراكها، وليست الحساسية النفسية كالتألم والفرح وسائر حركات النفس)

الإمام أبو هريرة في كتاب (فجر الإسلام)

تحدث الأستاذ أحمد أمين في كتاب فجر الإسلام عن أبي هريرة كما تحدث عنه (جولدزيهر) وأمثاله، ومما قاله:(والحنفية يتركون حديثه أحياناً إذا عارض القياس كما فعلوا في حديث المصراة، فقد روي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم من ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) قالوا: (أبو هريرة غير فقيه، وهذا الحديث

ص: 59

مخالف للأقيسة بأسرها، فإن حلب اللبن تعد وضمان التعدي يكون بالمثل أو القيمة والصاع من التمر ليس بواحد منهما)، اهـ (ص269)

كلامه هذا يفهم شيئين: الأول أن الحنفية يقدمون القياس على حديث أبي هريرة إذا عارضه. الثاني أنهم يرونه غير فقيه؛ ونسبة الأمرين إليهم نسبة غير صحيحة. أما في تعارض الخبر والقياس فالإمام وصاحباه وجمهور الحنفية على أن الخبر مقدم على القياس مطلقاً سواء كان الراوي فقيهاً أو لا، وذهب فجر الإسلام - واختاره ابن أبان وأبو زيد - إلى أن الراوي إن كان فقيهاً قدِّم خبره على القياس مطلقاً، وإن كان غير فقيه قدم خبره أيضاً على القياس إلا إذا خالف جميع الأقيسة وانسد باب الرأي؛ وبهذا تبين أن الحنفية لا يقولون بتقديم القياس على الخبر ومن ذهب منهم إلى تقديمه عند انسداد باب الرأي يعممه في كل خبر راوية غير فقيه لا بخصوص أبي هريرة وأما أن أبا هريرة غير فقيه، فهذا لم يقل به غير فجر الإسلام وصاحبيه المذكورين، وقد شنع الحنفية عليهم قولهم هذا وردوه أبلغ رد كما هو معلوم لمن يطالع أصولهم، فنسبه القول بذلك إليهم نسبة باطلة.

ولك أن تتساءل كيف نسل الأستاذ إلى الحنفية كل هذا وهم منه براء؟ والجواب أنه قد اعتمد في كتابه فصل الحديث في فجر الإسلام على (مسلم الثبوت وشرحه)، أكثر من أي كتاب آخر، وشارح المسلم لما تعرض لقول فخر الإسلام موافقيه وأبان عن وجهة نظرهم قال:(ومثلوا لذلك بحديث المصراة، وهو ما روى أن رسول الله الخ الحديث. قالوا أبو هريرة غير فقيه وهذا الحديث مخالف للأقيسة كلها إلى أن قال: وفيه تأمل ظاهر فإن أبا هريرة فقيه مجتهد لا شك في فقاهته الخ. . .). ولا يخفى أن الضمير في قالوا راجع إلى فخر الإسلام ومن وافقه، ولكن الأستاذ أحمد أمين حول الضمير إلى الحنفية، ونسب قول فخر الإسلام إليهم، ولا أدي كيف تغاضى عن سياق الكلام، وكيف تغاضى عن اعتراض الشارح على القول بعدم فقاهة أبي هريرة، وكيف تغاضى عما في كتب الأصول من النص على فقه أبي هريرة والرد على فخر الإسلام ومن تابعه في قولهم ذاك؟

وصفوة القول أن ما نسبه الأستاذ إلى الحنفية في هذه المسألة غير صحيح وإنما هو لفخر الإسلام لم يوافقه عليه غير اثنين، وهو قول مردود من الحنفية أنفسهم.

مصطفى حسني السباعي

ص: 60

‌القصص

عقيدة الشيطان

عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار

في العهد الذي كان فيه السيد المسيح والقديس بطرس يمشيان على الأرض مرّا بحداد اتفق مع الشيطان على أن يكون عبداً له إذا استطاع الشيطان أن يجعله في مدى سبعة أعوام سيداً على جميع الحدادين. وقد وقع الحداد والشيطان على وثيقة بهذا المعنى، ومن أجل هذا السبب علق الحداد على باب حانوته لوحة كتب عليها (سيد الحدادين)

ولما رأى المسيح هذه اللوحة ذهب إلى الرجل وسأله: (من أنت؟) فأجابه الحداد: (اقرأ اللوحة التي على الباب وإذا كنت لا تستطيع القراءة فانتظر حتى يمر بك من يعينك على فهمها. وقبل أن يجيبه المسيح جاء رجل على ظهر جواد وطلب إلى الحداد أن يضع حدوة في رجل جواده فقال المسيح للحداد: (أتأذن لي في أن أقوم بهذا العمل بالنيابة عنك؟)

قال الحداد: (جرب وإذا أسأت وضع الحدوة فإني سأعيد وضعها). فوضع المسيح قدمي الجواد فوق الفرن ونفخ في النار. وبدلاً من أن تحترق أقدام الجواد أصبحت مسكوة بطبقة لامعة معدنية وانتعلت بحدوات متينة، فدهش الحداد وقال للمسيح:(أنت حداد بارع)

وفي هذا الحين جاءت أم الحداد لتخبر أبنها بأن الطعام الغداء قد أعد ولتدعوه إلى تناوله، فتأهب الحداد للذهاب معها. وطلب إلى المسيح أن ينتظره وهو وصاحبه بالحانوت حتى يعود. فأذن له بذلك. ونظر المسيح إلى وجه أم الحداد فألفاها مجعدة الجلد عجوزاً شوهاء، فحملها ووضعها في الفرن فأصبحت فتاة جميلة. وأخذها ابنها وذهب معها إلى المنزل وهو ضاحك مسرور. وكانت كلمته للمسيح:(على الرغم من أني كتبت على لوحة حانوتي أن سيد الحدادين، فإن المرء ما عاش قابل للتعليم ولم أر قبلك حداداً يعيد العجائز فتيات)

ولما عاد الحداد بعد الغداء كان المسيح والقديس بطرس ينتظرانه. وجاء رجل على ظهر جواد ليطمر أقدام جواده فأراد الحداد أن يجرب الطريقة التي رأى المسيح يعمل بها ووضع أقدام الجواد على الفرن؛ فكانت النتيجة كما ينتظرها كل إنسان، واحترقت أرجل الجواد.

ص: 62

وفي الحال مرت عجوز فقال الحداد: (إذا أنا لم أفلح في إحدى الأعجوبتين فقد افلح في الأخرى) وقاد العجوز إلى النار وهي تستغيث وهو يقول: (سأعيدك فتاة جميلة ولن أطلب منك أجراً على ذلك. تعالي إلى الموقد)

وحملها إلى الموقد وهي تصرخ من الألم فنظر الحداد إلى المسيح وقال: (ليس في العالم ما هو أدعى إلى الخجل) فقال المسيح: (ما هو الذي يخجلك؟)

قال الحداد: (الشيطان هو الذي من حقه أن يخجل فإنه لم يف بوعده لي ولم يجعلني سيداً للحدادين مع أنه هو الذي كتب اللوحة التي على الباب)

فقال المسيح: (هبني أستطيع أن أحقق لك ثلاث أمان فماذا تريد تحقيقه من أمانيك؟)

قال الحداد: (أريد أن يكون لي نفوذ على كل من آمره بأن تسلق شجرة الكمثرى التي أمام الحانوت، فلا يستطيع أن يخالفني ولا يستطيع أن ينزل إلا إذا أمرته، فهذه أمنية؛ والأمنية الثانية أنني كلما أمرت إنساناً بأن يجلس في حانوتي فلا يستطيع الامتناع ولا يستطيع القيام إلا إذا أمرته، والأمنية الثالثة أن من آمره بالجلوس في كيس نقودي يضمر حتى أضعه في الكيس ولا يخرج إلا إذا أخرجته)

قال القديس بطرس: (هذه أمان حمقاء وقد كان عليك أن تتمنى محبة الله ورحمته)

فقال الحداد: (إنني لا أجرؤ على تمني أمنية كبيرة مثل هذه)

وعند ذلك ودعه المسيح والقديس بطرس وانصرفا، وأجابه المسيح إلى أمانيه

وانقضت الأيام سراعاً فتمت السنوات السبع المتفق عليها بين الحداد وبين الشيطان، وجاء الشيطان يتقاضاه الشرط وبدأ بأن سلم إليه مسماراً مكسوراً ليصنع له رأساً. فقال الحداد:(سأفعل ولكنك على ما يظهر متعب من طول المسافة التي قطعتها إليّ ومن الجوع، فتسلق هذه الشجرة ريثما تأكل من ثمرها وتستريح وأكون في هذه الفترة قد صنعت رأس المسمار)

فتسلق الشيطان الشجرة والكنه وجد نفسه عاجزاً عن النزول؛ وأخذ الحداد يضحك منه ويقول: (إن رأس المسمار ستستغرق منه أربعة أعوام). فتوسل إليه الشيطان أن يأذن له فلم يقبل إلا عندما وعده الشيطان بأن يذهب عنه فلا يعود إلا بعد أربعة أعوام. فأذن له على هذا الشرط. وانطلق الشيطان وبعد أربعة أعوام أخرى عاد الشيطان فقال: (لقد غبت

ص: 63

أربعة أعوام ولابد أن تكون قد فرغت من رأس المسمار)

فأجابه الحداد: (لقد صنعته ولكنك مع ذلك أتيت مبكراً فهو لا يزال محتاجاً إلى السن، فاجلس في هذا المقعد حتى أفرغ من سنها)

فجلس الشيطان، ولكنه عاد فأدرك أنه لا يستطيع القيام، وأخذ يتوسل إلى الحداد، وهذا يختلق له المعاذير، وأخيراً وعده بألا يعود قبل أربعة أعوام أخرى يكون الحداد في أثنائها قد فرغ من سنه المسمار

مضت أربعة أعوام أخرى وجاء الشيطان فقال له الحداد: سأذهب معك الآن حيث تريد، ولكني أريد أن ألقي عليك سؤالاً واحداً وهو: هل صحيح ما يقولون من أن الشيطان يستطيع أن يضمر جسمه إلى أي حجم يريد؟ فقال الشيطان: هذه حقيقة لا تحتمل الشك.

فطلب إليه الحداد أن يضمر حتى يدخل كيس نقوده، وأن يستمر في الكيس حتى لا تسرق أمواله مدة السفر، ففعل الشيطان ذلك.

وما صار الشيطان في داخل الكيس، ألقى الحداد بالكيس في الفرن، فصاح الشيطان: هل أنت مجنون؟ لماذا تلقي بالكيس في النار وأنا فيه؟

قال الحداد: إنني أريد أن أعيد صنعه بحيث تضيق فتحاته، وهاهو ذا قد احمارَّ والمثل يقول: لا تضرب الضربة إلا إذا حمى حديدك، ثم أهوى بالمطرقة فوق الكيس، فتوسل إليه الشيطان أن يتركه على ألا يعود إليه مدى الحياة.

وتركه الشيطان، ولكن الحداد ندم وقال:(إذا فاتتني الجنة الآن وقد سدت دوني أبواب النار بما فعلته مع الشيطان؛ فسوف أصير في الآخرة بغير مأوى. وكان الأفضل أن أظل مصاحباً للشيطان ليكون لي مسكن في النار إن فاتني في الجنة المسكن). وعزم على أن يتابع السير حتى يعثر على الشيطان فيسترضيه، حتى لا يكون في الآخرة من المتشردين. فلما صار في مفترق الطرق بين الحنة وبين النار. لقي خياطاً وسأله إلى أين يريد الذهاب، فقال الخياط:(إنني أبحث عن الجنة)

قال الحداد: (إذن فطريقي غير طريقك وسأذهب لأبحث عن النار وذلك لأني عرفت صاحب الأمر فيها منذ عهد الشباب)

وتفرقا فذهب كل في طريقه، وكان الحداد سريع المشية طويل الخطوة، فوصل بعد مدة

ص: 64

وجيزة إلى باب النار، وطلب إلى بوابها أن يخبر الشيطان بأن رجلاً ينتظر بالباب.

وقال الشيطان للبواب: (اذهب فاسأله من هو؟) فقال الحداد: (قل له إني صاحب الكيس وسيعرفني. وتوسل إليه أن يأمر بدخولي لأني في تعب شديد فقد ظللت أشتغل إلى الظهر وبدأت السير بعد ذلك)

فلما عرف الشيطان من هو الزائر أمر البواب بأن يغلق أبواب الجحيم التسعة ويحكم الرتاج (فإن هذا الرجل إن دخل الجحيم فسيزيد أهلها شقاء)

قال الحداد في نفسه: (لا فائدة من التسكع هنا فسأذهب وأجرب الجنة)

وعاد إلى المكان الذي ترك عنده الخياط وتبع الطريق الذي سار فيه فلحق به ساعة كان القديس بطرس يفتح أبواب الجنة ولكن أبواب الجنة ضيقة لا تسمح إلا بدخول الرجل الهزيل الجسم فتردد الحداد ثم قال في نفسه: (لا ينبغي أن أضيع الوقت)

وفي اللحظة التي كان الخياط فيها يدخل من الباب ضرب الحداد بمطرقته الدلفة المتحركة من ذلك الباب

ولست أعرف إذا كان الحداد لم يدخل من الفرجة التي أنشأها بمطرقته في سور الجنة ففي أي طريق سلك. . .

عبد اللطيف النشار

ص: 65