الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 373
- بتاريخ: 26 - 08 - 1940
الإصلاح.
. .!
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر في هذه الأيام حديث الريف وإصلاح الريف لكثرة الرائفين من الحضريين الذين رهبوا الغارات في المدن فالتمسوا الأمان في القرى، ثم هربوا من أمان القرية إلى مخاوف المدينة، وهم الرابحون!
ومنذ عام أو قرابة عام سمعنا من يسأل: (أليس الأجدى على الفلاح أن تطعمه وترفه عنه بهذه الأموال التي تنفقها على تعليمه إلزاماً وهو مفتقر إلى الطعام النافع والماء النظيف)؟
وقال لي زميل في مجلس النواب ممن يملكون عشرات الألوف من الأفدنة وقد رأى اهتمام فريق من النواب بنشر التعليم: (ما هذا التعليم الإلزامي الذي تحسبونه خيرا وبركة على الفلاحين؟ إن هؤلاء الفتيان الذين ينتشرون في القرى لتعليم أبنائها لا يعلمونهم إلا الحذلقة وفتنة البطالة. . . وأقسم ما عرفت أنا أن للجورب حمالة إلا من هؤلاء الفارغين المتبطلين الذين يقضون الساعات في التصدي للغاديات الرائحات. . . ثم تنظر إلى أبن الفلاح فلا تراه قد أفاد منهم إلا الشوق إلى اليوم الذي يغدو فيه مثلهم لابس رباط في الرقبة وحمالة في الساق)!
قال لي الفلاح الكبير ذلك وهو يرى أن حمالة الجورب هي رمز الفساد الذي ينقله (هؤلاء الأولاد إلى أهل البلاد)
وأنا لا أقول إن التعليم الإلزامي هو التعليم المنشود للفلاح، ولا أقول إنه هو التعليم الذي يفسده ويشغله من المصالح والصالحات، ولكني أقول إن الإصلاح كله عبث ما لم يبدأ بإصلاح العقول والأذواق، وإن إرادة المصلح وحدها لن تحقق له ما يريده من الخير ما لم تقترن بإرادة المحتاجين إلى الإصلاح
عرض لي ما دعاني إلى البحث الطويل من ماء الشرب في الريف: كم من المساقي المرشحة أقامتها الحكومات المتعاقبة هناك؟ وكم منها أفاد وماذا أفاد؟ وكم من الفلاحين تعود النظافة في العيش بما تعوده من شرب الماء النظيف والاستحمام بالماء النظيف؟
فعلمت المضحكات المبكيات
كان المظنون أن المسقى المرشح لا يقام في القرية حتى يتهافت عليه أهلها وتتسابق القرى
من أهل الجيرة القريبة إلى المطالبة بمثله فينتشر في أنحاء القرى قاطبة خلال أشهر معدودات، أو خلال سنوات على الأكثر إذا لم يسعف الماء
كان هذا هو المظنون وكان عجيباً ألا يكون
إلا أن العجيب هو الذي حدث ولم يعجب له أحد، وغير العجيب هو الذي دق عن الأفهام
شاع بين جمهرة من أهل الريف أن الماء النظيف ماء لا خير فيه ولا دسم فيه فهو مضعف للرجال. . .!
أما الماء الذي فيه الخير والدسم فهو الماء العكر الذي يجلب البركة إلى الأرض فتنبت ويجلب البركة إلى أصلاب الرجال فينبتون
وسألت غير واحد من الثقاة فأكدوا لي ما سمعت، وقال لي أحدهم إنه وقف بنفسه على طريق الماء المرشح فرأى الفتيات يتخطينه إلى مساقي الماء العكر وهي بعيدة من دورهن، وسألهن ما عيب هذا الماء النظيف؟ أليس أصلح للشرب وأسوغ في المذاق؟
قال: فتضاحكن وملن بعيونهن وهن يقلن: ولكنه رديء!
قال فسألتهن: وما رداءته؟
فلم يزدن على أن قالت إحداهن: أنا عارفة؟ كلهم يقولون إنه رديء وإنه يهد الحيل
ثم علم بعد الاستيضاح ما هذه الرداءة وما هذا الحيل الذي يهده ذلك الماء المسكين!
أيها المصلح الغيور دونك فأصلح!
ولكن قل لنا بحقك ماذا أنت مصلح في الريف: مضخات الماء أو تلك العقول في رؤوس الرجال والنساء؟!
وأرى أن سوء الفهم آفة يبتلى الفلاح من قبلها بأعظم البلاء، ولكنها دون الآفة الكبرى في الضرر والإيذاء، وهي فيما نعتقد سوء الظن والمبادرة إلى تصديق قالة السوء
يستقرئك الفلاح رسالة فتقرأها له بغير جزاء، ولا يخطر ببالك أن في الأمر ما يدعو إلى إساءة ظن أو تشكك في صواب القراءة
ثم ترقبه فتراه قد حمل الرسالة إلى ثان وثالث يستعيد قراءتها ليوقن أنك لم تخدعه ولم تهزأ به، وأن القراء جميعاً مخلصون لأنهم متفقون
ويسألك الطريق فتهديه، ثم يمضي خطوات فإذا هو قد أستوقف غيرك ليعيد عليه السؤال
وهكذا في كل ما يسمع من النصائح ويتلقى من الإرشاد ولو لم يكن ثمة قط سبب للريبة والتردد في التصديق
هذا الظن السيئ حائل دون الثقة بالمصلحين وحائل دون النجاح في الإصلاح. فليس من اليسير أن تدخل في روع فلاح جاهل أن إنساناً من الناس يعّني نفسه ويطيل همه بإسداء الخير إلى إنسان آخر، ولكنه يسير كل اليسر أن تقنعه بنية السوء واتهام المقاصد والسهر على الكيد والخديعة
فإذا قيل مثلاً إن الماء النظيف يضعف الرجال، وقيل بعد ذلك إن إضعاف الرجال مقصود في سياسة من السياسات الخفية التي يدبرها بعض الأجانب، فقد ضمنت للإشاعة سرعة السريان وسرعة الإصغاء والقبول. وإذا حاولت بعد ذلك أن تنفي هذا الهراء فها هنا الصعوبة جد الصعوبة في استرعاء الآذان والأذهان، مع الكائدين بأجر معلوم. . . وإلا فما يفيدك؟ وماذا يعود عليك؟ ولماذا تشغل بالك بتبرئة أولئك الكائدين الذين لا شك في أنهم كائدون؟ أليس للناس عقول؟ أليس التواطؤ بادياً لكل ذي عينين؟. . . بلى. . وما من حاجة بعد هذا الوضوح إلى دليل! ومن النقائض الظاهرة أن هذا الفلاح الذي يستريب هذا الريب بالمصلحين يقع فريسة هينة سهلة المقاد لكل دجال أو مشعوذ يدعي له من الدعاوى ما يوجب الاتهام ويثير الشكوك
لماذا؟
أفي الأمر تناقض بين ذلك الحذر وهذا الاستسلام؟
كلا. . . لا تناقض إلا في الظاهر دون الحقيقة، لأن الحرص هو العلة الغالبة في كلتا الحالتين
فالحرص الذي يشكك الفلاح الجاهل في المصلحين هو الحرص الذي يخيل إليه أن الدجال قادر على تعويذه وتعويذ أبنائه وماشيته وغلاته بالرقى والعزائم والطلاسم والدعوات
والحرص الذي يوحي إليه أن أحداً من الناس لا يعّني نفسه ولا يطيل همه من أجل أحد آخر لا قرابة بينهما ولا مودة، هو هو الحرص الذي يوحي إليه أن الدراويش ومصطنعي التقوى يفعلون الخير لأنهم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، وهي تجارة غير خاسرة ولا بائرة، وكثيرا ما يتفق أن (المتدروش) من هؤلاء يظهر له الزهد في ماله وما عسى أن
يكافئه به من زاد أو مؤنةً، ثم يتسلل إلى جيبه أو خزانته من سراديب الغش والملق والمراوغة بعد الظفر بطمأنينته والنفاذ إلى مكامن سره ومواطن ضعفه وجشعه
فالآفتان الكبريان الرابضتان في طريق الإصلاح هما سوء الظن وسوء الفهم، وكلاهما حجاب حائل بين الناصحين والمنصوحين
وليس العائق كله من جانب القادرين على النفع فإن العاجزين عن الانتفاع يقيمون في وجه الإصلاح عائقا لا يجدي فيه الإقناع ولا الإرغام؛ وماذا يصنع القادرون على النفع بمن لا يريدون نفعاً أو بمن يريدونه ولكنهم يخطئون السبيل إليه، ويصرون على الخطأ ولا يستمعون إلى من يعالج هذا الإصرار بالبيان والبرهان، بل يسرعون إلى اتهامه هو في أكثر الأحيان؟
وما نبغي بهذا أن نيأس أو أن ننفض الأيدي من هذا الواجب الذي لا يعفينا منه عذر ولا تعلة. فالإصلاح فرض لا يرفعه عن الكواهل أنه عسير، بل لعل هذا العسر مما يوجبه ويستحث العزائم على النهوض بتكاليفه وأوقاره
ولكننا نبغي الدلالة إلى مواضع الصعوبة ومواضع التقصير، ونعتقد أن المزيد من التفاهم والتقريب بين الحضريين والريفيين، والمزيد من المثابرة عل إزجاء الأمثلة المحسوسة والبينات المقنعة، والمزيد من الدقة في اختيار الوعاظ والمرشدين، والمزيد من التعليم والتهذيب - خليق كله أن يروض ما جمع ويذلل ما استعصى من العيوب والآفات، ويغرينا بالرجاء أننا صنعنا شيئا بما بذلنا من الجهود ولم نضيعها كلها سدى كما يلوح لبعض المتشائمين
وأصاب صديقنا الأستاذ صاحب الرسالة حين قال: (إن هذا الفلاح لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره. إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه)
نعم، فأنت إذا أنشأت فلاحاً سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري ورائك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه لتقصيه عن موارد الماء العكر (بدسمه وخيره) وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد
عباس محمود العقاد
بعض مآثر سعد زغلول
للدكتور زكي مبارك
أمتاز سعد باشا - طيب الله ثراه! - بميزات كثيرة جداً منها غزارة العلم وفصاحة اللسان وقوة الشخصية، وكانت له مآثر كثيرة جداً، منها المآثر الآتية:
أولاً - استطاع سعد بشخصيته العاتية أن يغزو ملايين القلوب بالحب والبغض، فأحبه ناس إلى حد الجنون وأبغضه ناس إلى حد الحمق: ومن عجيب أمره أن الذين أحبوه كانوا صادقين والذين أبغضوه كانوا صادقين، وكانت الوطنية الصحيحة مصدر العواطف التي تفجرت في قلوب أصدقائه وأعاديه. وما أذكر أني عرفت أحداً يبغض سعد باشا حسداً، لأن سعداً كان أهلاً للعظمة، وما كان يخطر في بال أحد أن سعداً ينال من سموّ المكانة ما لا يستحق، وإنما أبغضه مبغضوه وطنيةً كما أحبه محبوه وطنيةً، وقد جُنّ أحد أعدائه فأطلق عليه الرصاص، كما جُنّ أحد محبيه فودَّع العقل إلى غير رجعة يوم مات
وقد كنت في مطلع الحركة الوطنية من أنصار سعد، ثم تمردت عليه تمرداً عنيفاً، فكتبتُ، في الهجوم عليه ما كتبت وقلت ما قلت وأنا موقن بأني أخدم وطني بمحاربة ذلك الرجل المسيطر الجبار، ولم يصدني عنه إلا الإتلاف الذي نعمتْ به مصر في سنة 1926. فلما قضى نحبه بعد ذلك عرفت أني فقدت باباً من أبواب الثروة الروحية هو المعاداة في سبيل الوطن بلا ترفق ولا استبقاء
ماذا أريد أن أقول؟
أريد أن أقول إن سعداً قد استطاع إيقاظ الأفئدة المصرية فلم يعيش أحدٌ في عهده بلا روح ثائر أو قلبٍ خفّاق
كان المصريون لعهد سعد متحزِّبين بحماسة وصدق، ولم يكن فيهم رجلٌ واحد يواجه الشؤون الوطنية بلا اكتراث. فكان لأصدقائه جميعاً ولأعدائه جميعاً أقباس روحانية تشهد بأنهم لمبادئهم أوفياء. وأنصار الوفد وخصوم الوفد من الذين لهم في هذه الأيام قوة ذاتية قد تخرجوا جميعاً في مدرسة الحب ومدرسة البغض لعهد سعد، وكذلك نفع الرجل أعداءه كما نفع أصدقاءه، وبهذا صح القول بأنه أجج الجمرات التي صهرت أرواح الجيل الجديد.
ثانياً - اتفق لسعد أن يؤدي اللغة العربية خدمة عظيمة لا يتنبه لقيمتها إلا من يعرف ما
كانت تتعرض له لغة العرب بعد الحرب الماضية
كان الأدعياء كُثروا، وكانت بدعة القول بأن العناية بالأسلوب ليست إلا حذلقة لا تليق بأبناء العصر الحديث، وكانت هناك فتنة يَنجُم قَرنها من وقت إلى وقت، وهي فتنة الرجم بأن اللغة الفصيحة لغة أجنبية وأن اللغة العامّية هي لغة المصريين. وقد وُئدتْ تلك البلايا وهي في المهد بفضل سعد، ولكن كيف؟
كان سعد من أبناء الجيل الماضي، وهو جيل سليم، ويشهد بسلامته وعافيته ما نهض به من جلائل الأعمال، فذلك الجيل هو بطل الثورة على الظلم والاستبداد، وذلك الجيل هو الذي قاومَ طغيان الغرب على الشرق، وذلك الجيل هو الذي عاونَ على قوة الشخصية القومية، وذلك الجيل هو الذي خلق مُنشَئات عظيمة منها الجامعة المصرية
من ذلك الجيل السليم كان سعد، وكان ذلك الجيل يؤمن بأن اللغة العربية هي أكرم ذخائرنا الوطنية، وكان يرى أن متانة الأسلوب هي العنصر الأول من عناصر البيان
وكذلك يفهم من لم يكن يفهم كيف كان سعد يُعنِّى نفسه ويعذِّبها في سبيل الظفر بالأسلوب الرصين
هل تذكرون كيف كان سعد ينظم خطاباته الرسمية وهو يتوجه إلى جلالة ملك مصر أو إلى الأمة أو إلى النواب والشيوخ؟ لو صح القول بأن الجهد الشاقْ يقصِّر الأجل لقلت إن عناية سعد باشا بالأسلوب قد نهبت من عمره نحو عشر سنين، وإلا فكيف جاز أن يموت قبل أن يصل إلى السن التي يموت فيها رجلٌ في مثل هامته العالية وبُنيانه المتين؟
إن اهتمام سعد بالأسلوب خلق في القلوب فكرة الحرص على كرامة اللغة العربية، وكان ذلك بداية انهيار جيش الأدعياء، من الذين كانوا يرون أن من السهل أن يكون الشخص أديباً بدون أن ينفق من عمره سَنةً واحدة في الإطلاع على ذخائر اللغة العربية. ومن حظ مصر أنْ كان خصوم سعد باشا يرون هذا الرأي، فكانت جريدة السياسة وجريدة اللواء وجريدة الأخبار تحارب جرائد الوفد بأسلوب ظل أثرها باقيا إلى هذه الأيام
وماضي سعد باشا في صباه يوم كان محرراً في (الوقائع المصرية) يشهد بأنه كان من الذين يستهويهم القول الجزل والتعبير المصنوع، وقد لزمتْه هذه الخصلة طول حياته فكان يرى البلاغة ضرباً من الفن الجميل لا يصل إليه الرجل إلا بعد أن يتمرَّس بأساليب
الفطاحل من القدماء
وكان سعد خطيباً من الطراز الأول بشهادة الأكثرين، وقد حضرت له خطبتين إحداهما في بيت البكري بعد رجوعه من باريس عقب انفضاض مؤتمر الصلح، والثانية في مصر الجديدة أيام ثورته عل المرحوم عدلي يكن، ثم حضرت له خطبة ثالثة في مجلس الشيوخ يوم احتل الإنجليز الجمارك بعد مقتل السردار في سنة 1924، وفي هذه الخطب الثلاث لم أصدِّق أن منزلته الخطابية تساوي شهرته الشعبية، ومع هذا لا يمكن التغاضي عن سعد الخطيب، فقد كان أقدر الناس على خلق الانقلابات، وخطبته بشبرا أيام (وزارة الثقة) هي مصدر التقلبات السياسية التي ظلت تقلقل حياة مصر إلى هذا اليوم. وعلى الرغم من أنه لم يرضني خطيباً فما أزال أذكر كيف كان يخرج الحروف بأصوات ونبرات هي الشاهد على أنه كان في الخطابة من الفنانين
ثم حضرت خطبه مرة رابعة وخامسة فلم يتحسن رأيي فيه، فهل كان للعداوة السياسية تأثير في حكمي على ذلك الخطيب الذي بهر الجماهير زمناً غير قليل؟
المهمْ أن نسجل أن سعد باشا عاون معاونة جدية على صيانة اللغة العربية من عبث الجاهلين بأسلوب الأدب وأسرار البيان
ثالثاً - ترفق سعد بالتقاليد حتى ليمكن الحكم بأنه كان يكره الانقلابات الاجتماعية، وهو الذي صدنا عن لبس القبعات سنة 1927، ولولا مقاومته ومقاومة الأمير عمر طوسن لجرينا في الطريق الذي جرى فيه الأتراك. وهذه المسألة تبدو في صورة المسائل الشكلية، ولكن لها جذوراً أعمق من ذلك، فلو أننا كنا جارينا الأتراك في ترك الطرابيش لكان من الجائز أن نجاريهم في كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، ولكان من الجائز أن نسايرهم في اضطهاد رجال الدين، وهذا وذاك من الأغلاط التي وقع فيها الأتراك مجذوبين بتيار الانقلاب
كان سعد من المحافظين ولم يكن من الرجعيين، وكان على محافظته حر الفكر إلى أبعد الحدود، وهو الذي مَدَّ يده فنزع نقاب امرأة وقفت تخطب بين يديه، لأنه شعر بأن منطق العصر لا يقبل أن تُلقي المرأة خطبة وهي في حراسة النقاب
رابعاً - كان الجو في أيام سعد مشبَعاً بهواء ثقيل هو الدعوة إلى عزلة مصر عن الأقطار
العربية والإسلامية، وقد أنتبه سعد إلى خطر ذلك الهواء فصدَّه بحزم وعنف. ولما وقع الزلزال بفلسطين في صيف سنة 1927 تبرع سعد بمائة جنيه لمنكوبي الزلزال وتبرع المرحوم عوض بك عريان المهدي بتسعة وتسعين جنيهاً فكانت نكتة لطيفة من نكت الذوق. وعواطف سعد من الوجهة العربية والإسلامية كانت عواطف الزعيم الذي يؤمن بأن العروبة والإسلام هما سند مصر في الشرق
خامساً - كان سعد أقوى نصير للمواهب الأدبية، وكان ينظر إلى القلم نظر الخوف والرجاء، ولم يكن يجيد المتعة الروحية إلا في محاورة أهل الفكر والبيان
كان سعد يحب أنصاره من الكتّاب فيقرِّبهم ويشجِّعهم، وكان يبغض خصومه من الكتّاب بغضاً شديداً، فلا يأوي إلى فراشه إلا بعد أن يطمئن إلى أنه سيقرأ في غده ما ينقض تحاملهم عليه، وكان يتقدم بنفسه من حين إلى حين فيخوض غمار المعارك القلمية بإمضاء مستعار ليشفي صدره من المتطاولين على مقامه الجليل
سادساً - كان سعد من أرباب القلوب، وتتجلى عظمة سعد من هذه الناحية إذا تذكرنا كيف نسى ما كان بينه وبين خصومه من الأحقاد السُّود بعد إذ منّ الله بنعمة الائتلاف، فقد كان سعد يبكي لفراق عدلي يكن وعبد الخالق ثروت، وكان صدقه في مودة هذين الخصمين من أكرم ما صدر عن قلبه السليم
سابعاً - كان لسعد فضلٌ عظيم في تقوية الشخصية الحزبية، وهي أساسٌ لجميع الأعمال الوطنية، حين تَحسُن النيات، وتصفو الضمائر، وتطيب القلوب
كان سعد رئيس الأمة، ولكنه لم ينس أبداً أنه رئيس الوفد، فكان يجاهد في تقوية ذاتيته الحزبية بعزيمة قهَّارة وقلب صوَّال، وهو الذي رفض السماح لأحد أنصار الوفد بالاعتراض على الحكومة الوفدية في مجلس النواب
وهنا ندرك أن سعداً كان يعرف قيمة المبادئ، وما كانت تجوز عليه الحيلة الطريفة التي تقول بالتفرقة بين المبادئ والأشخاص، والتي تبيح للرجل أن يخرج على حزبه بحجة أنه من أنصار الحق! ومعنى هذا الكلام أن الرجل يجب عليه أن ينصر حزبه ظالماً أو مظلوماً، وأن يؤازره في جميع الأحوال، ولو أعتقد أنه على ضلال
وبهذا الحزم الصارم نجح سعد، ولعله كان يفهم جيداً أن العضو في الحزب كالجنديّ في
الكتيبة، فما يجوز له أن يتحدث في تعديل خطط القتال
أما بعد، فهذه لمحات من مآثر سعد، وما أريد بها التكفير عن الأعوام التي قضيتها في الهجوم عليه، فما كان لي من غاية ولا غرض في ذلك الهجوم شببتُ ناره في جريدة الأفكار وجريدة المحروسة وجريدة اللواء؛ وإنما كنت جندياً من جنود الحزب الوطني، وكنا نرى صادقين أن هدم سعد من أوجب الفروض
فإن قيل إن جهادنا في تحطيم سعد قد ذهب أدراج الرياح، فأنا أجيب بأن هذا من حظ مصر ومن حظ الحزب الوطني، لأن الحزب الوطني يسره أن يكون في مصر رجال ترضى عنهم الأمة وتقيم لهم التماثيل
الحزب الوطني ينتظر خصوماً من طراز سعد، خصوماً أقوياء لا تهدمهم معاول الحق، وما أعظم الرجل الذي تعجز عن هدمه معاول الحق!
وهل كان عبد العزيز جاويش على خطأ في محاربة سعد زغلول؟
وهل كان مصطفى الشوربجي آثماً في تفنيد المطالب الوفدية؟
إن انتصار الوفد في عهد سعد وفي عهد النحاس لن ينسينا مبادئنا، ونحن مع ذلك نرحب بانتصار الوفد ونرجو أن يطول بيننا النزاع والشقاق، لأننا نؤمن بأن السلام ضرب من الموت
كانت لنا مبادئ وكانت لنا ميادين قتال
فمتى يرجع ذلك العهد، العهد الذي كنا نشتجر فيه حول المقاصد الوطنية ونحن في غياهب الاعتقال؟
أيقضَى علينا أن نعيش في أمان فلا نعرف غير مصاولة الكاتبين والباحثين؟
ولكن لا بأس، فما كان النقد الأدبي إلا خدمة وطنية، لأن الأدب هو سفير مصر في الشرق
وسلام الله عل شهداء الوطنية في جميع الصفوف.
زكي مبارك
خواطر في الحرب
عبرة الزمن
للأستاذ محمد عرفة
انجحْ في الحياة ولا تفشل، وتوخَّ أسباب النجاح، وتوقَّ أسباب الفشل، فإنك إن تنجح عدَّ الناس ذنوبك حسنات، وإن تفشل عدَّ الناس محاسنك مساوئ
هذه فرنسا كانت في رأي كثير من الناس أم المدنيات، وما من حضارة إلا وهي مقتبسة منها، وما من خير إلا إليها مرجعة؛ فلما أجتاحها الألمان، وسقطت تحت كلكل القوة، انقلب مدح الناس ذماً؛ والفضائل التي كانوا يعدونها لها صارت رذائل. . .
كانت ترى أن يربي الفرد لنفسه، ولا يرون أن يربي الفرد ولا يعطي للدولة إلا ما فضل عنه، فكانوا يرون ذلك معها، ولا يرون أن يربي الفرد للأمة كما يرى الألمان
وكانت ترى الحرية في أوج مداها، فكانوا يرون ذلك معها ولا يرون أن أناساً قد تفسدهم الحرية كما تصلح قوماً آخرين
وكانت ترى إشباع الشهوات، والأخذ بأكبر قسط من ملذات الحياة، فكانوا يرددون هذا، ويرون أن الأخذ بضد ذلك سجن للحرية، وشقاء للنفس والمجتمع
وكانت ترى تضييق حدود النسل، فكانوا يرون أن الحق معها وأن المرء لم يخلق ليكون عاملاً غير مأجور لأولاده وأسرته
وكانت وكانوا إلى ما شاء الله من هذه الآراء. فلما هزمت في الحياة صار هذا الجلال صغاراً، وذلك النور ظلاماً، وانقلبت كل هذه المحاسن والمحامد آثاماً وعيوباً في أقل من طرفة عين.
ما هذا الذي بدَّل الحسن، وشوّه ذاك الجمال، وأحال الأمور إلى أضدادها؟. . . إنه الفشل، وقاتل الله الفشل
والناس من يلق خيراً قائلون له
…
ما يشتهي ولأمّ المخطئ الهبل
محمد عرفة
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤئها
تأثير اللغة باللغات الأخرى: تبادل المفردات بين اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب
عالجنا في المقال السابق عاملاً من عوامل تطور اللغة، وهو انتقالها من السلف إلى الخلف، وسندرس في هذا المقال عاملاً آخر من هذه العوامل وهو تأثر اللغة باللغات الأخرى
من المقرر أن أي احتكاك يحدث بين لغتين أو بين لهجتين - أيَّا كان سبب هذا الاحتكاك، ومهما كانت درجته، وكيفما كانت نتائجه الأخيرة - يؤدي لا محالة إلى تأثر كل منهما بالأخرى
ولما كان من المتعذر أن تظل لغة بمأمنٍ من الاحتكاك بلغة أخرى، لذلك كانت كل لغة من لغات العالم عرضة للتطور المطرد عن هذا الطريق
وأهم ناحية يظهر فيها هذا التأثر هي الناحية المتعلقة بالمفردات. ففي هذه الناحية على الأخص تنشط حركة التبادل بين اللغات، ويكثر اقتباسها بعضها من بعض: وقد تذهب بعض اللغات بعيداً في هذا السبيل، فتقتبس معظم مفرداتها أو قسماً كبيراً منها عن غيرها: كما فعلت التركية مع الفارسية والعربية، والسريانية مع اليونانية، والفارسية مع العربية. . . وهلم جرا.
وأما القواعد وأساليب الصوت فلا تنتقل في الغالب من لغة إلى أخرى إلا بعد صراع طويل بين اللغتين؛ ويكون انتقالها إيذاناً بقرب زوال اللغة التي انتقلت إليها واندماجها في اللغة التي انتقلت منها
ولهذا تخضع في الغالب الكلمات المقتبسة للأساليب الصوتية في اللغة التي اقتبستها، فينالها كثير من التحريف في أصواتها وطريقة نطقها، وتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة. فالكلمات التي أخذتها العربية مثلاً عن الفارسية واليونانية قد صبغ معظمها بصبغة
اللسان العربي حتى بعد كثيراً عن أصله. ومن ثم نرى الكلمة الواحدة قد تنتقل من لغة إلى عدة لغات، فتتشكل في كل لغة بالشكل الذي يتفق مع أساليبها الصوتية ومناهج نطقها، حتى لتبدو في كل لغة منها غريبة عن نظائرها في اللغات الأخرى. فالكلمات العربية مثلاً التي انتقلت إلى اللغات الأوربية قد تمثلت في كل لغة منها بصورة تختلف اختلافاً غير يسير عن صورتها في غيرها
وكثيراً ما ينال معنى الكلمة نفسه تغيير أو تحريف عند انتقالها من لغة إلى لغة أو من لهجة إلى أخرى: فقد يخصص معناها العام ويقصر على بعض ما يدل عليه؛ وقد يعمم مدلولها الخاص؛ وقد تستعمل في غير ما وضعت له العلاقة ما بين المعنيين؛ وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره؛ وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . وهلم جرا
ويختلف مبلغ ما تأخذه لغة عن أخرى باختلاف العلاقات التي تربط الشعبين وما يتاح لهما من فرص الاحتكاك المادي والثقافي. فكلما قويت العلاقات التي تربط أحدهما بالآخر، وكثرت فرص احتكاكهما، نشطت بينهما حرمة التبادل اللغوي ولذلك تبلغ هذه الحركة أقصى شدتها حينما يسكن الشعبان منطقة واحدة أو منطقتين متجاورتين؛ فالإنجليزية قد أخذت عن النورماندية أكثر مما أخذته عن أية لغة أخرى؛ لأن الغزاة من النورمانديين قد أستقر بهم المقام في نفس بلاد الإنجليز المغلوبين. واللاتينية قد اقتبست من الإغريقية أكثر مما اقتبسته من أية لغة أخرى؛ وذلك لتجاور منطقتيهما وشدة الامتزاج بين الشعبين الناطقين بهما. ولهذا السبب نفسه بلغت حركة التبادل اللغوي أقصى شدتها بين العربية والفارسية والتركية. وما اقتبسته ألمانية سويسرا من اللغة الفرنسية لا يذكر بجانبه ما اقتبسته منها ألمانية النمسا مثلاً؛ وذلك لأن القسم الألماني اللغة في سويسرا متاخم للقسم الفرنسي اللغة ولشدة الاحتكاك بين سكان القسمين، على حين أن النمسا غير متاخمة لمنطقة فرنسية اللسان. وقد تسرب إلى لغة رومانيا عدد كبير من مفردات الشعبتين الصقلبية والمجرية، على حين أن أخواتها اللاتينية الأصل (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية) لم تكد تتأثر بهذين اللسانين؛ وذلك لأن رومانيا قد انعزلت عن أخواتها اللاتينية وأحاط بها من جميع جهاتها أمم صقلبية اللسان أو مجرية
والمفردات التي تقتبسها لغة عن غيرها من اللغات يتصل معظمها بأمور قد اختص بها أهل هذه اللغات، أو برّزوا فيها، أو امتازوا بإنتاجها أو كثرة استخدامها. . . وهلم جرا. فمعظم ما انتقل إلى العربية من المفردات الفارسية واليونانية يتصل بنواح مادية أو فكرية امتاز بها الفرس واليونان وأخذها عنهم العرب. ويتألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية عن النورماندية من كلمات دالة على معان كلية وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام؛ وذلك لأن النورمانديين كانوا يفوقون الإنجليز كثيراً في هاتين الناحيتين، فغزرت مفرداتهما في لغتهم بينما قل ورودها في لغة الإنجليز القديمة. وقد انتقل إلى اليونانية، ومنها إلى اللاتينية، كثير من الكلمات الفينيقية المتصلة بشئون الملاحة والبحرية؛ وذلك لأن الفينيقيين قد سبقوا غيرهم من الشعوب في هذا المضمار. وانتقل إلى اللاتينية كثير من الكلمات الإغريقية المتعلقة بالمصطلحات الفلسفية والدينية؛ وذلك لبراعة الإغريق في ميدان الفلسفة، ولأن الدين المسيحي قد أنتشر بفضلهم في شرق الإمبراطورية الرومانية ووسطها. وقد أخذت اللغات الجرمانية عن اللاتينية كثيراً من المفردات المتصلة بالقضاء والتشريع ونظم الاجتماع والسياسة. . . وما إليها، وذلك لأن الرومان كانوا مبرزين في جميع هذه الشئون، ولهذا السبب نفسه انتقل إلى الفرنسية كثير من الكلمات الجرمانية المتصلة بشئون الحرب نفسها، ومنها كلمة الحرب من الكلمات الإيطالية المتعلقة بالموسيقى وآلاتها والفنون الجميلة؛ وانتقل إلى معظم اللغات الأوربية وغيرها المفردات الإنجليزية المتصلة بالألعاب الرياضية، والمفردات الفرنسية المتعلقة بالأزياء وألوان الطعام
ومن أجل ذلك تنتقل مع المنتجات الزراعية والصناعية أسماؤها في لغة المناطق التي ظهرت فيها لأول مرة أو اشتهرت بإنتاجها أو تصدر منها في الغالب، فتنتشر عن هذا الطريق في لغات البلاد الأخرى. فكلمة الشاي قد انتقلت إلى معظم لغات العالم من لغة جزر ماليزيا التي كانت المصدر الأول لهذه المادة ((شاي) في العربية في الفرنسية في الإنجليزية. . . الخ)، وكذلك كلمة الطباق؛ فقد انتقلت إلى معظم اللغات الإنسانية من لغة السكان الأصليين لأمريكا حيث كشفت هذه المادة لأول مرة ((طباق) في العربية في الفرنسية في الإنجليزية. . . الخ).
وعن هذا الطريق انتقل إلى اللغات الأوربية كثير من الكلمات العربية الدالة على منتجات
زراعية أو صناعية: كالليمون الموصلي (وهو نسيج خاص ينسب إلى الموصل)، الزعفران، الشراب، السكر، الكافور، القنوة (عسل قصب السكر المجمد)، القهوة، القطن، القرمزي، الكمون، الدمشقي (نسيج ينسب إلى دمشق)
في الإنجليزية ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ،
وفي الفرنسية ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ،
علي عبد الواحد وافي
دكتور في الآداب من جامعة السربون
أوراق مبعثرة
من ظلال الهوى
(مهداة إلى الدكتور زكي مبارك)
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . قلت لها ونحن نمشي على رَوْدٍ بين الكروم: (ماذا تريدين يا نشْوى. . . وماذا تودين؟ أتريدين ثوباً مذهباً يلمع، أم طيباً ناعشاً يسطع، أم تودين سماع الأقاصيص الناعمة التي ترقص لها البطولة، ويغني في ثناياها الحب. . . أم يهفو قلبك إلى أحاديث الغزل، وتتلمظ شفتاك لخمر القبل. . .؟)
قالت: (لا. . . ولكني أريد فتى يكون لي وحدي؛ يموج قلبه بحبي، وتصفقُ روحه لجمالي. . . ولا يرى في الوجود سواي
ما نفعُ الثوبِ اللامع إذا كان الحبيب الذي يراه لا يسكر لمرآه. . .
وما غناءُ الأقاصيص والأحاديث إذا كان القلب الذي ينظمها لا يتدفق بالحنين ولا يغني للحياة. . .
نعم متى جاء الحبيبُ. . . جاء كل شيء. . .!
ثم انعطفت تقطف أوراق كرمة نعسى. . . فقلت لها:
ألستُ فتاك الذي تودين. . .؟
قالت: لا. . .
قلت: بلى. . . أنت تحبينني يا نشوى. . . اذكري الدمعَ الذي ذرفته من أجلي، إذ مستني الحمى فأصبحت ساهماً واجماً. . . واذكري الفرحَ الذي يطل من نظراتك، ويلهبُ أعطافكِ وقسماتك إذا ما لقيتني. لا تنكري يا نشوى. . . أرأيت تهيامي بكِ وتحناني إليك فجئت تدلين وتعبثين. . .؟ أرودي في مشيتك. . . وتعالي إلى أحضان هذه الأعشاب، أسمعك النشيد الذي نظمته أصيل الأمس.
فقفزت فوق كرمة متراخية، وارتمت بين أوراقها، وجلست أنا أمامها، وأنشدتها قصيدتي التي أولها:
يا سادراً هيمان
…
يبكي ولا يصحو
وكان الدمُّ الدفّاق في خديها، والفرحُ الراقص على وجْنتْيها، يكسبانها وضاءة ونضارة، فاقتربتْ مني، واستراح رأسُها على صدري، وسرحت بصرها في جنبات السهل الساجي تحت أقدامنا فحنوت عليها، وضممتها إلى صدري، كما تضم الأم وليدها، وراحت شفتاي تسكبان على سحرها حنيناً لازعاً وحباً ناعماً، وشعوراً مُترعاً بالحماسة واللذة والفرح
ما أروعَ لياليك أيها الحب!
لقد كانت ليلة نديانة بالقُبل نشوانة بالغزل، وكان يخيل إلينا أن الحبَّ الذي جمعَ قلبيْنا بالمودّة، ورُوحينا بالوئام، يجوبُ السفوح، ويرف في أشعة القمر الصبوح، ويخلع على الدنيا السناء والبهاء. وكان القمرُ كالأمير الغُرانق الجميل، حفُّت به الغيومُ البيضُ لترقصَ أمامه عرايا بدلال وفتور. . . وكان بريق أشعته على قمم الجبل فتنير تلك السنديانات الهاربة نحو السماء، ثم تزحف نحونا بهدوء لتسمعَ أناشيدَ الهوى وترى جنون الصبا؛ حتى غمرتنا، وطفَتْ على المحاني والرُّبى فحسبنا أننا في بحيرة من الأنوار السُّمر والفاترة، وأن الكرمات زوارق سكرى، وأننا غريقان في الّلجج، تائهان فوقَ الثبج، نتلمسُ الشاطئ فلا نجده، ونتقرّبُ من الضفَّة فلا نلقاها. . .!
وسمعنا الشلاَّلَ يغني لنا، وانتشر العبيرُ حولنا، وضحك السهلُ والجبلُ لمرآنا، ورفعتْ الصخورُ رؤوسَها لترانا. . . وسكرنا سكرَيْن: سكرَ هوى وسكرَ جمال. . .
بوركتَ أيُّها الجبلُ القائمُ كالفارسِ الأسمرِ الجميل. . .!
لقد قال لي بالأمس وأنا أرتو إليه في شحوب الأصيل: (لقد حفظت ذكرى الحبيبة بين صخوري، وجاء البشر يرتع فوق جذوري، وتمايلت الأعاشيب على صدري، وتزاحمت الأزاهير لتطرز سفوحي، وغنت الرعاة باسم فتاتك في متوع الأصابيح وسجوّ الأماسيّ
لقد حفظت ذكراها. . . لأن تلك الدموع التي ذرفتها أصبحت منبت الأزاهير، ولأن تلك القبلات التي غنت برنينها النسيمات أضحت ينبوعاً للأغاريد، ولأن حنين الشفاه ونجوى القلوب عادت أناشيد الرعاة!)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
قصة كتاب الديارات
للشابشتي
للأستاذ كوركيس عواد
إن كان لكل شيء قصة، فلكتاب الديارات للشابشتي قصة، أرويها فيما يلي، وذلك على أثر المقال الذي نشره عنه الأستاذ صلاح الدين المنجد، في العدد 368 من الرسالة الغراء: لقد رغبت في نشر (كتاب الديارات) للشابشتي، منذ سبع سنوات، حينما أخرجت للناس في سنة 1934 كتابي المسمى (أثر قديم في العراق: دير الربان هرمزد) القائم بجوار الموصل. فقد كان صاحب المعالي (يوسف غنيمة)، نبهني حينذاك إلى أهمية كتاب الشابشتي، بالمقدمة التي وضعها لكتابي المذكور. فازدادت رغبتي فيه يوماً بعد يوم، وقد مضت سنة ونصف سنة منذ اختمرت عندي فكرة نشره. فأقدمت على العمل بعد أن أعددت له عدته، ليكون ما أقوم به على الوجه العلمي الذي يستحقه هذا الكتاب الجليل، ويرتضيه أرباب البحث من الأدباء والمؤرخين
وكتاب الديارات للشابشتي لم يبقَ منه اليوم سوى نسخة وحيدة في خزانة برلين برقم (8321). وأن تحرينا وجه التدقيق قلنا أن هذه النسخة البرلينية ما هي إلا قسم من الكتاب الأصلي، فهي مخرومة من أولها بمقدار لا يمكن معه معرفة عدد أوراقه الذاهبة، كما أنها ناقصة من وسطها بعض النقصان. على أن كافة النسخ المعروفة اليوم لكتاب الديارات، سواء المصورة منها والمخطوطة، مصدرها هذه النسخة الفريدة التي كتبت سنة 631 هـ. فهي، ولا مراء، أمهن جميعاً، ولولاها لكانت خسارة الأدب فادحة
أما حصولي على نسخة هذا الكتاب، فكان على يد العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، فإنه في إحدى كينُوناته في مصر وذلك في سنة 1938، حصل على النسخة المصورة التي كانت بيد المستشرق الدكتور أ. فيشر وكان قد صورها قبل حرب سنة 1914 ليتولى طبعها هو بنفسه، لكن لما تعددت أشغاله وأحب أن يقدِّم على طبع كتاب الديارات معجمه الملحق بمعاجم لغويي العرب، دفع النسخة المصورة إلى الأب المذكور، لعلمه أنه قد عزم على طبعه. وبعد ذلك نقل الأب نفسه وبقلمه نسخة ثانية معتمدة، فصارت النسخة بهذا نسختين. ثم لما توافرت شغالة ناط بي نشر الكتاب بعد أن علم مبلغ رغبتي في ذلك، فدفع
إلي نسختيه المذكورتين، قبل سنة ونصف سنة، فاعتمدت عليها في كتابة نسخة ثالثة بيدي، كانت عنايتي بنقلها وضبطها تفوق حدود الوصف، ثم أعدت مع الشكر النسختين المصوَّرة والخطية إلى صاحبهما. وأكببت بعد ذلك على دراسة نسختي، واجتهدت بروية دقيقة في ضبط ألفاظها وتحقيق ما فيها من أعلام الأشخاص والمواقع والشؤون العمرانية والأخبار التاريخية والروايات الأدبية والأشعار وما إلى ذلك. وأفرغتُ كنانة وسعي في الرجوع إلى عشرات من الكتب العربية وكنت قد خصصت بضع ساعات من كل يوم، مدة سنة وبعض أخرى، لخدمة هذا الكتاب، وتصحيحه، والتعليق عليه بما لا مزيد عليه من العناية به
وقد وجدت من الخير لهذا الكتاب أن أعود إلى المؤلفات الأرمَنية أيضاً، وقد مكنتني معرفتي لهذه اللغة من الوقوف على عدد منها أربى على الثلاثين، وكلها ذات مساس بموضوع الديارات؛ والحق أنني خرجت منها بفوائد جليلة. ورأيت من الضروري الرجوع إلى طائفة صالحة من المؤلفات الإفرنجية فضلاً عن المؤلفات العربية الحديثة
وكان الأب أنستاس، قد سّلم نسخته المكتوبة، بعد انتساخي عليها نسخة، إلى صديقنا المحقِّق الدكتور مصطفى جواد، ليطَّلع على هذا الكتاب، ويقّيد في أثناء مطالعته له ما يعنّ له من الملاحظات والتصويبات على هوامش النسخة. فطالعها الدكتور مطالعة مدققة، وذلك شأنه في كل ما يطالع، فصحح في أغلاطها، وكشف وجه الصواب عن تحريفاتها، وقوَّم ما أناد منها على أيدي النسَّاخ، كما حقق أموراً جمَّة من أعلامها، وحل كثيراً من مغلقاتها. وقد سمح لي كل منهما بنقل هذه الملاحظات الثمينة، لأنهما يرقبان الكتاب ويأملان أن يخرج في أتم ما يمكن من الإتقان. وقد نقلت تلك الملاحظات شاكراً فضلهما، وأدخلت كل واحدة منها مقرونة باسم صاحبها الدكتور مصطفى، في محلها من حواشي الكتاب
فأنت راء أن كتاب الديارات للشابشتي، قد انتقل بعد كل هذه الجهود من عالم إلى عالم، وأضحت أخباره ومروياته مدعومة بما يؤيدها من الأسانيد الواردة في المراجع القديمة الأخرى، وقد أضفتُ إلى الكتاب ملحقات جمّة، في أحدها معلومات طريفة بتلك الديارات الساقطة تراجمها من مخطوطة برلين، وذلك بعد أن ثبت لي لزوم اشتمال الأصل عليها. كما وضعتُ ملحقاً ثانياً مطولاً، يكون (مستدركاً) على الشابشتي، وفيه أخبار الديارات التي لم يتطرق إلى ذكرها، وبينها ما هو من الخطورة الأثرية والتاريخية والأدبية بمكان رفيع.
ويلي ذلك ملحقات أخرى عمرانية وتاريخية وبلدانية أضرب عن ذكرها الآن صفحاً قصداً إلى الاختصار. وأخيراً جعلت (الفهارس) المتنوعة، وكلها في غاية الضبط، بحيث تكشف عن مكونات الكتاب المختلفة، وتيسِّر للقارئ مراجعة مضموناته. وكان قصدي من كل ذلك، أن يكون كتاب الشابشتي، مع المستدرك الذي وضعتُهُ عليه وسائر الملحقات والتعاليق، أتمّ وأوفى كتاب للديارات
وقد أنهيتُ عملي قبل أشهر، ونويتُ إذ ذاك عرض الكتاب على الطبع؛ غير أنه قد صدمني غلاء الورق وكثرة النفقات، وهما أمران ناشئان عن قسوة الأحوال الحاضرة، فاضطررت إلى تأجيل نشره إلى فرصة ثانية
هذا ولعل من القراء من يتذكرون أنه مرت في هذه المجلة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر (أنظر الرسالة (العدد360) حاشية 3 من الصفحة 895 ب) إشارة صريحة تذكر أنني عازم على إخراج هذا الكنز من مدفنه. ثم إن عندنا في العراق عدداً كبيراً من المؤرخين والأدباء وأولى البحث يعلمون الشيء الكثير من أمر اشتغالي بتحقيقه والعناية به
وفي هذا اليوم وصل إليّ العدد 368 من الرسالة الغراء، وإذا فيه مقالة وجيزة للأستاذ صلاح الدين المنجد، وعنوانها (كتاب الديارات) للشابشتي. فاستبشرتُ بها واندفعت إلى مطالعتها حرصاً مني على الوقوف على كل ما من شأنه أن يكشف لي شيئاً جديداً من أمر هذا الكتاب أو مؤلفه. غير أنني وإن لم أخرج منها بما كنت أنتظر ولا بأقل من ذلك، قد سرني منها أن كاتبها ينوي نشر هذا الكتاب بعد أن ظلَّ مدفونا في زوايا الخزائن، كما سرني أنه سينشر منه نبذة في العدد القادم من الرسالة الغراء
وأن من طريف الاتفاقات أن يُقدم باحثان عل نشر كتاب واحد، دون أن يعلم أحدهما بما يعمله الآخر، وهذا سيكون من مصلحة الثقافة، وهل ذلك إلا دليل واضح عل خطورة ذلك الصنف الجليل وأهميته البالغة، التي أغرت أثنين بخدمته وإعداده للنشر؟ فإن كان الأمر على ما ذكر، فما عسى أن يمنعني عن نشر الكتاب بالوجه الذي رسمتُهُ لنفسي، سواء أعَمِلَ غيري على نشره أم لا. هذا وأني موقن أن ما بذلته من العناية وطول البحث في سبيل هذا المؤلف يتطلب مني ألا أهمل نشره، بل لا أتردد في ذلك مهما كان من الأمر، ما دامت غايتي من ذلك كله خدمة العلم لذاته. ثم إن ملاحظات عنَّت لي في أثناء مطالعتي
لمقال الأستاذ المنجد، أرجو أن يتغاضى عن بياني لها هنا، جلاء للحقيقة وحباً للفائدة
أولاً: ذكر أن نسخة المجمع العلمي العربي بدمشق مصورة على نسخة أحمد تيمور باشا، المصورة على نسخة خطية فريدة في خزانة برلين برقم 1100، والصواب أنها برقم 8321 كما يلاحظ في قائمة مخطوطات برلين العربية
ثانياً: وقال أيضاً: (وأول من نقل عن هذا الكتاب (يقصد كتاب الديارات)، ونوه به هو السيد حبيب الزيات، فقد أخرج للناس في تموز من عام 1935 (كذا، والصواب عام 1938) عدداً خاصاً من مجلة الشرق الكاثوليكية في بيروت عن الديارات النصرانية في الإسلام، فنقل عنه نقولاً كثيرة.) قلنا: الذي نعلمه يخالف ذلك كثيراً؛ فقد تتبعنا من نَقَلَ عن هذا الكتاب من المعاصرين، وتعقبنا نقولهم، فوجدنا أن أقدمهم في النقل المستشرق السويسري متز المتوفى سنة 1917؛ فقد اقتبس فقرات عديدة منه في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، ولقد أحصينا في الجزء الأول فقط الذي نقله إلى العربية الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة تسعة عشر موضعا اقتبس فيها من كتاب الديارات
وتلاه المستشرق الألماني سخاو فنشر سنة 1919 بالألمانية رسالة ثمينة تقع في 43 صفحة من القطع الكبير، عنوانها (كتاب الديارات للشابشتي). فيها هذا الكتاب، كما أتى على خلاصة بحوثه، ثم ترجم منه نبذاً مختلفة، بينها تلك الحفلة العباسية الرائعة التي جرت في قصر بركوارا في سامراء في عهد المتوكل الخليفة العباسي
وتلاهما الأستاذ المحقق حبيب زيات فنقل من كتاب الديارات هذا، سنة 1927، فقرتين في بحثه المعنون (السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) المنشور في مجلة لغة العرب (5 (1927) ص461 - 465). ثم نقل عنه ثانية سنة 1928 نقولاً كثيرة في بحثه النفيس (نقد كتاب الديارات الوارد في الجزء الأول من مسالك الأبصار) المنشور في لغة العرب أيضاً (6 (1928) ص322 - 342). وفعل ثالثة سنة 1935، فنقل منه كتابه (الصليب في الإسلام) مرتين، وكان آخر نقوله عن الشابشتي ما أورده في كتابه القيم (الديارات النصرانية في الإسلام) وهي التي أشار إليها الأديب المنجد بكونها أقدم النقول التي وقف عليها!
ولنا أن نضيف إلى ما ذكرنا، تلك الفقرات الكثيرة التي نقلها الأستاذ محمد كامل حسين في كتابه (في الأدب المصري الإسلامي)
إن كان الشيء بالشيء يذكر، فنقول إن هناك جهوداً مختلفةُ بذلتْ في سبيل إخراج هذا الكتاب إلى حيز النشر. أقدمها يعود إلى همة المستشرق هير حسبما أشار إلى ذلك البحاثة لسترنج في حاشية الصفحة 211 في كتابه وكان قد سبق له في سنة 1899 أن وصف هذا الكنز الثمين في بحث له في الخطورة التاريخية والبلدانية لمعجم ياقوت الحموي. وعلى ما يظهر لنا لم يوفق المذكور لنشره حينذاك، لأسباب لا أعلمها
ثم تلتها جهود المستشرق سخاو في نشر رسالته المنوه بها آنفاً. فقد عرف بها كتاب الديارات للعلماء ومتتبعي الآثار القديمة العربية، ووقفهم على خلاصة مضموناته، غير أنه لم ينشر الأصل بكماله
وكان المستشرق فيشر قد عزم - على ما أخبرني به الأب أنستاس - على نشر هذا الكتاب أيضاً وسبقتْ منا الإشارة إلى ذلك؛ غير أنه عدل عن ذلك للأسباب التي ذكرناها في صدر كلامنا
هذا ولدينا في هذا الشأن تفاصيل أخرى كثيرة نرجئ نشرها إلى المقدمة المسهب فيها التي صدّرنا بها هذا المؤلَّف النفيس
ثالثاً: قال الأستاذ المنجد ما نصه: (ووضعتُ للأديار مخططاً يبين مكان كل منها. . .)
قلنا: إن في هذا القول شيئاً كثيراً من التجوّز، إن لم نقل من الإدعاء! فإن كتاب الديارات للشابشتي يتناول - بحسب النسخة الوحيدة البرلينية - أخبار خمسة وخمسين ديراً. منها: ثمانية وثلاثون في العراق، وثلاثة في سوريا ومثلها في فلسطين، وثلاثة أخرى في تركية، والباقي وهو ثمانية في مصر. ومعلوم أن أغلب هذه الديارات عراقية
فأنا مع تتبعي لموضوع الديارات، منذ أكثر من عشر سنين، وكوني امرأً عراقياً لا يدع الفرصة تفوته دون الوقوف على ما يتعلق بشؤون بلاده من الوجهات الأثرية والتاريخية والبلدانية. . . أزيد على ذلك أني أحد موظفي دار الآثار القديمة في العراق، وهذه الدار أولى من غيرها بتعقب أمثال هذه المواقع الأثرية، بل هي صاحبة الدراية بها. . . نعم، مع كل ذلك، لم أستطع بعد الجهد تعيين (المواقع الحقيقية) إلا لعشر ديارات عراقية من تلك
الثماني والثلاثين التي تكلم عليها الشابشتي! أما ما تبقى منها، فلا أثر لها البتة اليوم، كما لا يمكن الاهتداء إلى مواقعها وتعيينها بصورة علمية خططية مضبوطة يصح الركون إليها. وبعد هذا لا ندري كيف أمكن للأستاذ المنجد أن يضع (مخططا يبين مكان كل منها)؟
رابعاً: لم يشر البتة إلى الاختلاف الواقع في تعيين سنة وفاة الشابشتي. فبينما نرى أن ابن خلكان (وفيات الأعيان 1: 481 بولاق) يقول أن وفاته كانت سنة 388هـ إذ نجد ياقوتاً الحموي (معجم الأدباء 6: 407 طبعة مرجليوث) يقول أنه مات سنة 399 هـ. والفرق، كما لا يخفى، ظاهر بين هذين التاريخين ولا يصح السكوت عنه
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقني في القريب العاجل إلى إخراج هذا المصنف الجليل، الذي هو جدير بكل عناية وأهل لكل خدمة علمية، ومن الله الفلاح.
(بغداد)
كوركيس عواد
بين الفهم والاجتهاد
المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كتب ناقد أديب في الرسالة الغراء مقالاً عنوانه من عجائب الاجتهاد، يسجل فيها بعض المعاني التي أخذها الدكتور بشر فارس لمسرحيته من ديوان الأستاذ العقاد، وديوان الشاعر الأستاذ علي محمود طه المهندس
وهذا الاتهام - وأعني اتهام الشعراء بالسرقة والأخذ - قديم منذ اللحظة التي نشأت فيها حركة النقد الأدبي. وهي حركة ترجع إلى العصر العباسي حينما استطاع الذوق الأدبي أن يتكون. ومن أبطال هذه الحركة الآمدي صاحب الموازنة وأبن رشيق صاحب العمدة وقدامة بن جعفر نقد النثر ونقد الشعر وغيرهم
ولما استوت عوم البلاغة ووضعت لها قواعد والأصول، استطاع النقد الأدبي أن يجد فيها مستنداً يستند إليه. وأفردت فصول خاصة بالمعاني والسرقات الشعرية
والواقع أنه من الصعب أن يستقصى المعنى الواحد ويُتتبع ويرد إلى مخترعه أو مفتض عذرته. وقد حاول هذه المحاولة أبو هلال العسكري في كتابه ديوان المعاني، ونجح - إلى حد ما - في جمع المعاني الواحدة في سمط واحد مع التدرج في استعمالها، ووجوه الحسن في هذا الاستعمال وهل كان الآخذُ مفضِلاً على المأخوذ منه أم مساوياً أم مقصراً عن بلوغ شأوه
واشتط بعض البلاغيين في هذا الباب فوضعوا للسرقات الشعرية أسماء كثيرة كالمسخ والسلخ والسلخ والنسخ وغيرها. وكأنهم - سامحهم الله - جعلوا أسبقية الزمان سببا في الاتهام. فالشاعر التالي يعد في نظرهم آخذاً أو سارقاً إذا اتفق له معنى مما يكون قد اتفق لشاعر سابق. وقد يكون الشاعر المتهم بالأخذ أو السرقة أو السطو - أو ما شئت أن تسميه - بريئاً من ذلك كله. وقد يكون للمصادفة وحدها فضل اتفاق الخاطرين وورودهما على معنى واحد
ومثل الذي يقال في الشعر يقال في النثر؛ فمن الظلم أن يتهم دانتي صاحب الكوميديا الإلهية بالسطو على رسالة الغفران للمعري لاتفاقهما في كثير من الأفكار وأسلوب التحليق
في السماوات، كما أنه من الظلم أن يتهم قصصي بالسرقة من قصصي آخر لمجرد اتفاق الفكر بين الكاتبين
نعم في الأدب العربي كما في أدب كل أمة جماعة من اللصوص الذين يحبون أن ينسب دائماً فضل غيرهم إليهم. وهذا النوع من اللصوصية جريء كل الجرأة، لأنه لا يستحي ولا يخشى النقد إذا ما ضبط. . . ولكن الغالب في هذا النوع أنه يتوارى متى كشف الناس أمره وتبين للناقدين زيفه
وهذا النوع لا يعنينا أن نكتب عنه لأنه لا يستحق الكتابة قدر استحقاقه العقاب. أما ما نقصد إليه فهو هذه المعاني الزاخرة المشتركة بين النفوس الإنسانية التي تعد بالملايين. . . هذه المعاني التي تدور على بعض النفوس، وتشترك في بعض الخواطر، ويعتلج بها بعض الصدور، فإذا ما سجلها بعضهم بالكتابة سمعت صيحات عالية تنادي أن هذه سرقة، وأن هذا المعنى لفلان دون فلان
وليس غريباً أن يتفق الشاعران أو الكاتبان في الفكرة الواحدة أو أن يقع في بعض النفوس ما يقع في البعض الآخر. وهذا النبع العظيم من التفكير الإنساني لابد أن يجد له مسيلاً في نفوس كثيرة متشابهة. فكثيراً ما نرى بعض الناس في أحاديثهم الخاصة تتفق أفكارهم الخاصة في لحظة معينة بذاتها. كأنما ألهم كل منهما الرأي إلهاماً
وكثيراً ما نسمع بين المتحادثين هذه العبارة المألوفة (عمرك أطول من عمري) وهي عبارة لا نحاول أن نثبت بها قضية نذهب إليها؛ وإنما نسوقها فقط لنبرهن بها على ما يجري بين المتخاطبين من توافق في الأفكار أو الألفاظ، كما يقع في كثير من الأحيان
والسرقة هنا أمر عظيم وحادث جليل؛ والاتهام بها ليس من السهولة بحيث يستطيع توافق الأفكار أن يؤيده. أما سرقة الماديات فمن السهل إثباتها وإقامة الدليل عليها، لأنها في أبسط تعبير انتقال شيء من يد مالكه إلى يد مغتصبه. فملكية المالك هنا ظاهرة واضحة مشهود عليها بألف دليل ودليل. . . واغتصاب السارق لها واضح ظاهر مشهود عليه بألف دليل ودليل
أما ملكية الأفكار فمن الصعب إثباتها لوقوع الفكر دائماً على الشيوع لا على الاختصاص. والذين يضيقون علينا سبل التفكير والإنتاج والاجتهاد إنما يضيقون على أنفسهم، لأنهم في
كثير من الأحوال غرضٌ يُرمَى كما يَرمْون. والواقع أن السرقة - بمعنى اتفاق الأفكار - موجود في كل نفس، لأن كل نفس بشرية يجري عليها الإحساس والعواطف والانفعالات وهي أمور مشتركة في الإنسانية جميعاً
وقد يكون وقع في مسرحية بشر فارس من الأفكار ما وقع في إحدى قصائد العقاد، وليس في ذلك مطعن على بشر ولا مفخر للعقاد
وقد وقع أكثر من هذا للفحول من كتاب الغرب فلم ينقص ذلك من مقامهم العلمي أو الأدبي، ولم يحجم التاريخ عن وضعهم في أماكنهم الصحيحة من سجل الخالدين. ولعلك تعجب إذا علمت أن موليير القصصي الفرنسي العظيم اتُّهم - في حياته - بالسطو على قصص غيره من المعاصرين والسابقين، فكان رده اعترافاً منه بالسرقة إذ يقول:(أنني وجدت شيئاً نافعاً فلا أحجم عن أخذه للانتفاع به). كما كان (تشسترتون) زعيم الحركة الرجعية في إنجلترا في العصر الحديث يُتَّهَم من برنارد شو وويلز بالسطو عل معاني الصغار من كتاب الصحافة البريطانية
والعقاد في شعره وفي كتابته غني بالمعاني، إلا أن هذا الغنى لم يكن ميراثاً خاصاً به؛ فهو ولا شك قرأ كثيراً وأفاد كثيراً مما قرأ. ولا شك أن رأسه يزدحم بكثير من المعاني التي تعرض له في مطالعته.
فليس ينقص من قدر العقاد أنه يشترك في كثير من معانيه مع كثير غيره من كتاب الإنسانية الذين يحسون إحساسه، ويتأثرون تأثيره
وعبد الرحمن شكري يعترف في مقال له بمقتطف مايو 1939 بأنه كان يحتذي شعراء الصنعة العباسية. فما قال منصف إنه سارق، ولكن قال المنصفون إنه متأثر. ولم يعب عليه المرحوم حافظ إبراهيم هذا التأثر (الاحتذاء) وهذه المعارضة بل أثنى عليهما. ولما سافر شكري إلى إنجلترا كان احتذاؤه الشعر الإنكليزي في توليد الموضوعات الجديدة لا في أساليبه
على أن الشاعر أو الكاتب لا يستغني في إنتاجه عن التأثر - المقصود وغير المقصود - بما يقرؤه، ولا يسلم من ذلك التأثر فحل من الشعراء أو مبرز من الكتاب. فالأستاذ أحمد حسن الزيات قد تأثر في مقاله (بين المهاجرين والأنصار)(الرسالة عدد 368) بفكرة
الأستاذ أحمد أمين في مقال سابق بالثقافة. فأحمد أمين يصرح بأن الموت بالقنابل في القاهرة أفضل من الموت بالمكروبات في الريف، والزيات يجري على لسان المهاجرين هذه العبارة (إن الموت بالشظايا على دفعة، أخف من الموت بالجراثيم على دفعات)
وقد يكون - والعلم عند علام الغيوب - أن الزيات لم يطلع على مقال أحمد أمين المنشور بالثقافة.
والشاعر علي محمود طه قد تأثر في قصيدته محنة باريس المنشورة بالرسالة عدد (369) بمقال للدكتور طه حسين بك في الثقافة عنوانه باريس (عدد 77) فالدكتور طه حسين بك يقول: (ليست باريس رقعة من الأرض)، والشاعر علي محمود طه يقول مخاطباً باريس:
لست بنياناً ولا أرضاً ولا
…
غاب آساد ولا جنة غيد
هذه كلمة أحببت أن أقولها بمناسبة كلمتين نشرتا في الرسالة بعنوانين هما (من عجائب الاجتهاد) و (من عجائب الفهم). وما أود أن أغمط بها فضل ذي فضل؛ وإنما هي كلمة حق لعلها تضع حدّاً لأمور ليس من مصلحة الأدب كتمانها والسلام.
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
السيد محمد رشيد رضا
بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته
للأستاذ محمود أبو رية
من حق شيخنا الإمام السيد محمد رشيد رضا علينا أن نؤدي بعض ما يجب له من التنويه بفضله، والإشادة بذكره ما أتيحت لنا الفرص وما واتتنا المناسبات. وكذلك من الحق على الرسالة الغراء وقد حملت علم العربية في لغتها ودينها أن تتحفى بهذا الإمام الجليل فتخصه بجانب من عنايتها، وتجعل لآرائه نصيباً من صفحاتها، ومن أولى بهذه الحفاوة منها وهي أحق بها وأهلها؟
هذا ما يجب علينا وعلى الرسالة، لأن هذا الحجة الثبت ليس من كبار علماء عصره فحسب، وإنما هو ولا ريب من كبار أئمة الإسلام على مد عصره، خدم دينه وأمته بما لم يخدمها أحد قبله منذ قرون طويلة، وخلف آثاراً خالدة في دراسة الدين الإسلامي لم يكتب قلم عالم من قبل مثلها - ونحن نعرف ما نقول - وفسر كتاب الله تفسيراً هو معجزته في هذا العصر. إذ لكل عصر تفسير يكشف لأهله عما فيه من أسرار رائعة وآيات بينة حتى تظل حجة الله قائمة ومعجزة رسوله دائمة؛ ونحن فيما نكتب عنه اليوم لا نحاول أن تترجم له ترجمة تحليلية مفصلة تحيط بنواحي عبقريته وتنفذ إلى أقطار إمامته؛ فإن ذلك يحتاج إلى مؤلف كبير برأسه نرجو أن نوفق فيه ويعيننا الله عليه؛ وإنما ننشر بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته صفحة من تاريخه تصور ناحية من فضله وتظهر قبساً من أعماله يضيء جانباً من عمله
نبت شيخنا الجليل ونشأ في قرية (القلمون) من قرى الشام؛ ولما قرأ القرآن والخط وقواعد الحساب أُدخل معاهد العلم بمدينة (طرابلس)، وبعد أن أتم الدراسة فيها على ما يجري عليه نظام التدريب في هذه المعاهد واستوفى كل العلوم الدينية والأدبية على أكابر شيوخ الدين والأدب فيها هاجر إلى مصر فجاءها في رجب سنة 1315عالماً دارساً. وكان الذي ساقه إلى الهجرة إلى مصر أن آنس في نفسه أنه يستطيع خدمة دينه وأمته بما أوتي من حدة الفؤاد واستقامة الفكر وما وهب من قوة الإرادة وكمال الاستعداد، وأن ذلك غير مستطاع في بلاده إذ كانت يومئذ بين ماضغي الظلم التركي، وقال رحمه الله في ذلك:
(فعزمت على الاتصال بالسيد جمال الدين لتكميل نفسي بالحكمة والجهاد في خدمة الملة، فلما توفاه الله تعالى إليه وأشتهر أن السياسة الحميدية هي التي قضت عليه ضاقت عليّ المملكة العثمانية بما رحبت وعزمت على الهجرة إلى مصر لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، وكان أعظم ما أرجوه من الاستفادة في مصر الوقوف على ما استفاده الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن أعمل معه وبإرشاده في هذا الجو الحر)
وقد أتصل بالأستاذ الإمام محمد عبده من أول يوم هبط فيه مصر وكان معه كما قال رحمه الله: (كاللازم والملزوم اللذين لا ينفك أحدهما عن الآخر) يستزيد من علمه، ويستضيء بحكمته إلى أن صار ترجمان أفكاره والمعبر عن آرائه، ولم يلبث قليلاً في حياته الجديدة حتى أخذ نفسه بما جاء من أجله، فأنشأ مجلة (المنار) وصدر أول عدد منها في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال سنة 1315 وقد جعل غرضها الأول:
(الحث على تربية البنات والبنين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطرق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شهدت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفراً وإلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذل والمهانة تواضعاً، والخشوع للظلم والاستسلام للضم رضى وتسليماً، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً الخ)
كان الذي يرمي إليه شيخنا المحدث الفقيه ويدأب عليه في عمله هو (الإصلاح الديني والاجتماعي وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل وموافقته لمصالح البشر في كل قطر وفي كل عصر)
وكان رأيه الذي لا ينفك يجاهر به من يوم أن أنشأ فيه مجلته أن الدعوة إلى هذا الإصلاح لا تكون إلا (بهداية الكتاب والسنة، لأنهما مشتملان على كل ما نحتاج إليه لأجل الهداية
والنهضة الاجتماعية)
وهذه الطريقة في الإصلاح هي التي وضع أساسها موقظ الشرق السيد جمال الدين، وعممها تلميذه الأكبر الأستاذ الإمام محمد عبده رحمهما الله؛ ثم جاء شيخ الإسلام السيد رشيد فرفع قوائمها وأتم بنائها، ولولاه لأندك هذا الأساس وغطاه تراب النسيان. . .
ولم يكن ما دعا إليه شيخنا رحمه الله سهلاً ولا طريقة ميسرة، وبخاصة في مثل الزمن الذي ظهرت فيه دعوته، فقد وجد في سبيله ما يجده المصلحون في أممهم من العنت والأذى، فحورب من نواح متعددة لا يصمد لمثلها إلا كل مصلح قوي، وشجاع كمي. وقد بيّن رحمه الله تلك النواحي التي عادت المنار فقال:
(عاداه المرتزقون بالخرافات والبدع من أهل الطريق وغيرهم، وعاداه علماء الجمود، وعاداه النفوذ الاستعماري الدولي، وعاداه دعاة التغير والتفريج الإلحادي) وقبل ذلك عادته الدولة العثمانية من أول ظهوره وآذته في أهله ببلاده
وكان الذي أثار عليه أعاصير هذه العداوات لتزعزع من أركانه، وتهدم من بنيانه، أن كان لا يألو جهداً في الدعوة إلى حرية الفكر، والاستقلال في فهم العلم الذي لا ينال العلم الصحيح بدونه، وترك التقليد وعدم التقيد بمذهب من المذاهب لأن التقيد بالمذاهب يدعو إلى التعصب لها؛ والتعصب، هو مفض إلى التباغض، ينافي الوحدة الإسلامية، ويخالف نصوص القرآن. وكان هو العالم الوحيد بعد عصر الأئمة المجتهدين الذي يجاهر بأنه لا يقلد في عقائده ولا في عبادته أحداً من الأئمة، فكان لا يعبد إلا الله ولا يعبده إلا بما أمر، وإذا تنازع مع أحد في شيء لا يرد التنازع إلى أحد من الأئمة والمشايخ وإنما كان يرده إلى الله والرسول أي إلى الكتاب والسنة. ولقد كان أشد الناس عداوة له دجاجلة القبوريين من الشيوخ الرسميين الجامدين ومن يتبع نعيقهم من الإمعات الجاهلين الذين هم بلاء الأمم وأرزاء الشعوب
وإذا كان الكلام عن نواحي الإصلاح التي ضرب فيها شيخنا السيد رشيد متعددة والحديث عنها يحتاج إلى مقالات طويلة ودراسة مستفيضة كما أبنَّا من قبل، فإنا نقصر كلامنا اليوم من ترجمته على ما سعى في سبيل إصلاح الأزهر وتجديد الدين الإسلامي. وما انتحينا هذا النحو إلا لمناسبة حركة الإصلاح القائمة بهذا المعهد اليوم، ولأن مجلة الرسالة الغراء
قد جعلت تجديد الدين من أهم أغراضها، وجرت الأقلام بهذا الأمر على صفحاتها لعل فيما نذكره تبصرة للمصلحين ومعيناً للمجددين
ولا يفوتنا أن نذكر أن الذي دعا شيخنا رحمه الله إلى ذلك أن وجد هذا المعهد الكبير لا يدرس فيه الدين وعلومه كما يجب أن تكون الدراسة الحق بل كان (التقصير في دراسة الإسلام فيه أمر ظاهر) كما بين ذلك أبلغ بيان أديب العربية الكبير (محمد إسعاف النشاشيبي) في كتابه النفيس الممتع (الإسلام الصحيح)
ولقد كان أول نقد صريح وجهه (المنار) إلى علماء الأزهر الذي صدر في شهر شعبان سنة 1316 عن بدعة احتفالهم بمولد الإمام الشافعي الذي يسمونه (الكنسة) إذ كانوا يكنسون قبة الضريح ويقسمون كناستها بينهم للتبرك بها ويكون نصيب كل واحد منهم في هذه الكناسة بمقدار درجته العلمية، وكذلك كانوا ينقلون العمامة التي على المقام من رأس عالم إلى رأس آخر ليستزيدوا من البركات ويستكثروا من النفحات. ورحم الله شيخنا المحدث اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي فقد سحت قريحته بقصيدة رائعة في هاتين العبادتين الوثنيتين اللتين يقترفهما علماؤنا مصابيح الظلام، وأئمة الهدى الأعلام؛ ولو كان المجال ذا سعة لأوردنا هنا هذه القصيدة العصماء، ليعجب القراء بها، ويتندروا بما جاء فيها وكان أول انتقاد على علماء الأزهر أن أحد أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهو الشيخ أحمد الرفاعي كان يجادل يوماً الأستاذ الإمام محمد عبده في أمر علم السنة وتعليمها، فكان مما قال هذا الشيخ:(إن علم السنة لا حاجة إليه، ولا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، بل (الواجب) الأخذ بكلام الفقهاء، ومن يترك فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف فهو زنديق)!
ثم اخذ المنار يبين لشيوخ الدين أنهم أبعد الناس عن معرفة فن التعليم، وأنهم لا يقرنون العلم بالعمل، وكان يحثهم دائماً على العناية بعلم الأخلاق. ولما وجدهم يصدون عن تعليم العلوم الرياضية والطبيعية، وأن كبارهم يفتون بأن هذه العلوم لا لزوم لها، صاح فيهم:(إن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية التي محور الثروة والقوة لازمة لا مندوحة عنها، ويجب أن تعلم مع الدين) ومما عابه عليهم وآخذهم به أنهم يشاركون العامة في الخرافات والبدع ولا يكتفون بذلك بل يدعون الناس إليها ويحضونهم عليها بما جعلنا ضحكة بين الأمم وسخرية بين
الشعوب، ولأن هذه الكلمة لا تحتمل تفصيل القول في جهوده لهذا الإصلاح فإنا نأتي بها مجملة وهي:
1 -
استقلال الفكر وحرية العقل في العلم واجتناب تقليد العلماء والكتب فيه
2 -
إبطال البدع والخرافات، والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال وروَّجت في المسلمين أسواق الدجل والخرافات. . . ولا سيما بدع الموالد وعبادة القبور والمشاهد وأكبر مفاسدها اشتراك علماء الأزهر فيها وسكوت غير المشتركين فيها عن إنكارها فكانوا بذلك قدوة سيئة للعوام، وفتنة منفرة للمتعلمين عن الإسلام، وحجة للكافرين على المسلمين
3 -
الرجوع إلى هداية القرآن العليا وهدى السنة النبوية المثلى في تصحيح العقائد وتزكية الأنفس وتهذيب الأخلاق، والاتباع المحض في العبادات على منهاج السلف الصالح وهو يتوقف على إحياء علوم التفسير والسنة وآثار السلف
4 -
إصلاح نظام التربية والتعليم والتصنيف بالأساليب العصرية
5 -
إدخال علوم البشر في الجامع الأزهر ومعاهد التعليم التابعة له
6 -
إتباع سنة التخصص (أو الاخصاء) في العلوم والفنون
7 -
إعادة ثقة الأمة بالعلماء إلى ما كانت عليه في عصور الإسلام الحية
8 -
الدفاع عن الإسلام بالرد على الملاحدة ودعاة النصرانية ودحض شبهاتهم
9 -
الوعظ والإرشاد العام للمسلمين
10 -
الدعوة إلى الإسلام في الشرق والغرب بعد الاستعداد لها
هذه هي خلاصة جهاده رحمه الله في سبيل إصلاح الأزهر وإذا كان رحمه الله قد ذكر في آخر حياته أن كليات الأزهر قد اقتنعت بأكثر ما دعا إليه وأنها ستأخذ به كله واطمأن بذلك فإنا إن شاء الله لمطمئنون كذلك بأن الأزهر سيبلغ المنزلة التي يستأهلها في العالم كله على مد أقطاره ما دام الذي يقبض على زمامه اليوم هو الإمام المراغي وما دام شبابه من حوله يؤيدونه ويتبعون سبيله
وإلى هنا نقف في القول في ترجمة شيخنا المحدث الفقيه السيد محمد رشيد رضا، ولكيلا يرمينا أحد بالغلو فيما تحدثنا به عنه نطرز ما قلنا بعبارة رائعة في وصفه للأستاذ الأكبر
شيخ الجامع الأزهر، ذلك الإمام الجليل الموصوف بسعة العلم وبعد النظر ودقة التعبير، نجعلها مسك الختام
قال حفظه الله في خطاب بليغ ألقاه في حفلة تأبينه:
(كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطاً بعلوم القرآن، وقد رزقه الله عقلا راجحاً في فهمه، ومعرفة أسراره وحكمه، واسع الاطلاع على السنة وأقضية الصحابة وآراء العلماء عارفاً بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملماً بما في العالم من بحوث جديدة، وبما يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة ورزق الخير الكثير
وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها، فني في خدمة دينه وجاهد في الله حق جهاده وأوذي في سبيل مبادئه وصبر وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه
كان مبدؤه مبدأ جمع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً بقوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)
وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضاً: تخيَّر الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم في مواضع الاجتهاد
وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر؛ فهو رجل سني سلفي يكره التقليد وينادي بالاجتهاد ويراه فرضاً على نفسه وعلى كل من قدر عليه
من الحق أن نعد السيد رشيد من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في إحياء السنة، ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث والقراءة، والتأليف والفتوى والمناظرة؛ ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال الصالحة قام بها احتساباً وأدّاها في سبيل الله
فرحمة الله على السيد رشيد وجزاه الله في الإسلام أحسن ما يجازى به رجل وهب حياته للعلم والدين). ونحن نكرر طلب الرحمة والرضوان من الله تعالى عليه، إنه سميع الدعاء.
(المنصورة)
محمود أبو رية
ما أشبه الحال هناك بالحال هنا!
الرجوع إلى القرية
للأستاذ بشارة الخوري
أبني أبينا طال نومكمُ
…
تشقى النفوس وينعم البدن
لا الحقل يبسم عن معاولكم
…
فيه ولا تترنم المهن
ذوت الرياض وماؤكم عَمَمٌ
…
وتعطلت من حَليها القنن
وخوت زرائبكم وكان على
…
جنباتها يتدفق اللبن
محراثكم صدئ الحديد به
…
والفأس ملء عيونها الوسن
عودوا إلى تلك القرى فلقد
…
سلختكم عن قلبها المدن
الذكريات على مقادسها
…
الأم والأخوات والسكن
قبل الطفولة في ترائبها
…
ليت الحياة لبعضها ثمن
تحت الدوالي ملعب بهج
…
عند الظهيرة والربى وُكن
فدت العيونُ النجل أجمعها
…
عينا تدفق ماؤها الهتن
تأوي الطيور إلى أظلتها
…
ويظل يلثم كفها الغصُن
تَرِد الصبايا بالجرار وقد
…
عادت على أكتافها المزن
تلك اللبؤات التي عمرت
…
بشبولها الأجمات والعُرُن
لبنان لبنان الحبيب خوى
…
لا البيت لا البستان لا العطن
خلت المرابط من سوابقها
…
وتثاءبت بحبالها الأُنن
الجانيان القاسيان على
…
(شيخ الربى) بيروت والسفن
قالوا السياسة قلت هل نبتت
…
إلا على لهواتها المحن
قالوا الوظائف قلت هل نحرت
…
إلا بها الأخلاق والفطن
قالوا المدارس قلت ثابتة
…
خضراء إلا أنها دمن
أين الألوف من الشباب وما
…
قبسوه من علم وما خزنوا
ماتوا بعلمهمُ فما طبخوا
…
منه ولا طحنوا ولا عجنوا
الأرض أطهر والمحارث من
…
عيش على أدرانه الدرن
عودوا إلى تلك القرى فعلى
…
بسماتها يتمرغ الحَزن
لبنان ما فعل الزمان بنا
…
سله أما لحروبه هدن
يغدو عليه بأوجهٍ كلحت
…
فمتى ينوّر وجهك الحسنِ
يا حبيبي.
. .!
للأستاذ أنور خليل
لم تَزلْ فيَّ لِجة الغي
…
بِ خيالاً يَتدفَّقْ
لم تزلْ حُلماً على مَه
…
دِ شبابي يترَفَّق
لم تزلْ في جانبِ الاف
…
قِ سراباً يَترقرَق
فمتى فجرُك ينسا
…
بُ وحلمي يَتَحَقَّق؟
من وراءِ الغيبِ نادي
…
تُكَ: أَقبلْ وتألَّق!
يا حبيبي أنتَ في رو
…
حي وقلبي ودمائي
أنتَ أنشودةُ أشوا
…
قي ودنيا كبريائي
أنتَ نايٌ أَبَديُّ الش
…
دوِ سحريُّ الغناءِ
نفحةٌ أنتَ من اللّ
…
هِ ومن عطرِ السماءِ
يا حبيبي! كم أُنادي
…
ك فهل يجدي ندائي؟
صورةٌ منكَ تناجي
…
ني على طول الليالي
ومُحيَّا رائعُ الفت
…
نةِ وَضّاء الجمالِ
يا حبيبي قد تَعَشَّق
…
تُكَ لكن في الخيالِ
لٍيتني ألقاكَ في الأر
…
ض على أبهى ِمثالِ!
ليتني. . . أوّهُ لا. . . بل
…
إنني أخشى انخذالي!
أنا في أمواج حِرما
…
ني، وأَشجاني غَريقُ
في حياةٍ لم يُهَوِّن
…
ها خليلٌ أو رَفيق
أنا في دنَيا بها للش
…
رِّ سلطانٌ عريق
وبنو الدنيا قطيعٌ
…
لِهُوَى الموتِ مَسوق
ضَلَّ راعيهِ وغامَ ال
…
أفقُ والتاثَ الطريقُ!
يا حبيبي قيلَ عنِّي:
…
بالخيالاتِ غنائي. . .
صَدَقوا إذ لَستُ بدعاً
…
بَينَ رَهطِ الشعراءِ
كلنا نَهتِفُ بالْحُبِّ
…
ونشدو بالإخَاءِ
قد بعثنا مَزامِي
…
رَ سلامٍ وصَفاءِ. . .
لَهَفتا!! ضاعَ صَداها
…
في ضجيج وازدراءِ!
يا حبيبي آهِ لو أل
…
قاكَ إنساناً سَوِياً!
تَتَخَطَّى حُجُبَ الغي
…
بِ وتَنْصَبُّ عَليّا. . .
فأرى فيكَ الأماني
…
والنعيمَ الأَبديَّا
وَحَياتي تكتَسي من
…
كَ جمالا عبقريَّا
يا حبيبي آهِ لو أل
…
قاكَ إنساناً سَوِيَّا!
الجندي المجهول
(المدرس)
للأستاذ علي شرف الدين
صَلَى حَرَّهَا وَالمْوتُ يَقْظَانُ جَاثِمُ
…
وَخَاضَ رَحَاهَا وَالْمَنَايَا حَوَائِمُ
وَكَمْ رَكَزَ الراياتِ في رأْسِ شَامخٍ
…
مِنَ المجدِ لم تَنْهَضْ إِلَيْهِ الْقشَاعِم
وَسَجَّلَ ِمنْ خُضْرِ الفُتُوحِ لِسَانُه
…
بما قَصَّرتْ عَنْهُ السُّيوفُ الصَّوَارِم
يَرَاعَتُهُ فِيها سِنَانُ قَنَاتِهِ
…
وَأَسْفَارُهُ الْغُرُّ الْجِيَادُ الكَرَائِم
وكم فَكَّ عَنْ أَعْنَاقِ جيلٍ مَذَلَّةً
…
وَحَرَّرَ شَعْباً أَرْهَقَتْهُ المظَالم
فلمَّا أَفَاَء اللهُ ضَنُّوا بِحَظِّهِ
…
وِلَوُّوْا رُءُوساً أَشْرَعَتْها الأَرَاقِم
يقُوُمُ عَلَى أَكتَافِهِ النَّصْرُ بَاهَراً
…
وتُخْطِئُهُ أَسْلابُها والْغَنائم
وَيَمْضِي بِحِمْلِ الطَّوْدِ فِي كلِّ أُمَّةٍ
…
وَمَا أَحَدٌ مِمَّا يُعَانِيهِ رَاحِم
وَيَهْدِمُ مِنْ أَعْصَابِه لِبنَائِها
…
فتَسْمُو به أَرْكانُهَا وَالدَّعَائم
وَيَدْفَعُ عَنْ أَكبَادِهَا جهْدَ نَفْسِهِ
…
كما دَافَعَتْ دُونَ الْعَرِينُ الضَّراغِم
وَيُنْشِى لَها الْجِيلَ الأَغَرَّ جَبِينُهُ
…
عَلَى مِثْلِهِ في الدَّهْرِ تُبْنَى العَظَائم
فَتىً أَنْشَأَ الأجْيَالَ غَيْرَ مُدَافَعٍ
…
وفي كلِّ شَعْبٍ فَضْلُهُ لا يُزَاحَم
تَسيرُ بهِ الأيَّامُ تَرْثِي لِحَظِّهِ
…
وَتَنْدُبُهُ في شَجْوِهِنَّ الْحَمَائِم
يُسَاقُ إلى الأِرْهَاقِ والسَّوْطُ خَلْفَه
…
وَيَحْمِلُ مُرَّ العَسْفِ والأنْفُ رَاغِم
إذَا ما بكى كَفَّ الوعِيدُ بُكاَءهُ
…
وَإِمَّا شكا شدَتْ بِفيِه الشَكائم
جِهادٌ وَلَا مَجْدٌ وَسْعيٌ كما سَعَى
…
إلي الماءِ مَخْدُوعٌ بصَحْرَاَء هَائم
ولوْ أَنَّ عَدْلاً يَشمَلُ الأرْضَ ظِلُّهُ
…
لَما باتَ مَظلومٌ عَليْهاَ وظالِم
حَلَفْتُ لأَطْوِي عَهْدهَا غَيْرَ نَادِمٍ
…
فما تَرْكُها فيهِ تُعَضُّ الأباهِمُ
وَأَخْلَعُها خَطْماً لأَنفيِ وَمِقْوَداً
…
فَلَا يَقْبَل الأرْسَانَ إلا الْبَهَائم
تَعَاَلى شَبَابي أَن يُرَاضَ إِباؤُهُ
…
عَلَى شِرْعَةٍ فيها تُصَكُّ اللَّهازِم
وَإنّا وَإنْ لَمْ تَكتَنِفْنَا نَبَاهَةٌ
…
لَتَشْغَلُ بُرْدَيْناَ المُلوكُ الخَضْاَرِم
فَيَا أَيُّهَا المَغْبُونُ والْعَدْلُ شَامِلٌ
…
وَياَ أَيُّهَا المَحْرُومُ والخَيْرُ زَاحِم
وَمَنْ بَاتَ يُخْفِي في حَنَاياهُ صَارِخاً
…
مِنَ الْيَأسِ تَطْوِيه الْحَشَا والْحَيازِم
أَيَاديِكَ بيض يبْهَرُ الشَّمْسَ نُوُرهَا
…
وَحَظُّكَ مُسْوَدُّ الْجَوانِبِ قاَتِم
وتَشْقَى بِعَيْشٍ ضيِّقُ الكَفِّ مُجْدِبِ
…
وَغَيْرُكَ مُخْضَرُّ الْعَطِيَّةِ نَاعِم
وَنَبْذُل مِنْ نُورِ الْعُيُونِ مُسَهَّدَاً
…
وَغَيْرُكَ مِلْء الْجْفنِ وَسْنَان نائم
وَمَا فَاِئزٌ إلاّ الْغَصُوبُ لِحَقِّهِ
…
وَمَا خَائِبٌ إلاّ الوَدِيعُ المسَالم
وَمَا شَجَنِي أَنْ كاَنَ حَظُّكَ تاَفِهاً
…
فما كلُّ شَيْءٍ في الحياةِ الدَّرَاهِم
وَلكِنْ عُقُوقٌ وَاضطهادٌ حَمَلْتَهُ
…
وَإنكاَرُ مَجْهُودٍ وَبؤسٌ مُلَازِمُ
رسالة الفن
ذكريات:
لن أنسى. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لست أدري ما الذي ذكرني الآن بهذا الموقف لشارلي شابلن في رواية البحث عن الذهب تضرب المحبوبة لشارلي موعداً، فيعد العدة له ويزين البيت له بالزهر والورق الملون، ويهيئ مائدة يقدم عليها كل ما يمكن أن يقدمه عاشق فقير مثله لمحبوبة صغيرة مثلها، في صحراء الآسكا التي أرضها ثلج وسمائها ثلج وهوائها ثلج
ولم يكن شارلي يشك مقدار ذرة من الشك في أن محبوبته موافيته راغبة مشوقة كما أنه انتظرها راغباً مشوقاً، ولكن ميعادها أزف، ثم فات، ثم بعد، فيئس شارلي، فاعترته لوثة، فأخذ يقفز في الحجرة ويرقص كما يرقص الطير المذبوح، ولكنه مع هذا كانت تصدر منه حركات تضحك إلى جانب ما تثير في النفس من الوجع
والذي لا أنساه هو أني كنت وأنا أشاهد شارلي في هذا الموقف المضحك وأبكى معاً
وليس هذا الموقف وحده هو الذي استطاع شارلي فيه أن يخبلني هذه الخبلة، وأن يوقظ في نفسي مالا يتفق بعضه مع بعض من الاحساسات والعواطف، وإنما كان له موقف آخر يشبه في رواية أنوار المدينة، فقد كان اعتاد أن يعين صغيرة فقيرة ضريرة تبيع الورد، بأن يشتري منها في كل حين زهرة، وما كان شارلي يحصل على ثمن الزهرة إلا عفواً، أو بعد عسر يطول، ومحرجات تتراكم بعضها فوق بعض، وما كان شارلي يقنع بأن يشتري الزهرة من هذه الفقيرة بالثمن الذي يدفع الناس مثله، وإنما كان قد عوّد صغيرته على أن تأخذ من يده التي عرفتها نفحة تسد الكثير من حاجتها. . .
وفي مرة من المرات التي كان شارلي يطير فيها إلى صغيرته طيراناً ليضع في يدها ما رزقه الله ليأخذ الزهرة - وقعت له واقعة من هذه الوقائع التي تتوالى عليه، فأبكاني أيضاً عندئذ وأضحكني. . .
وبهذين الموقفين آمنت بأن شارلي شابلن هو أعظم الفنانين في الأرض، ولا أقول أعظم
الممثلين فقط، وأني أعتقد أنه قد شاهد بنفسه موقفه الأول في (البحث عن الذهب) ثم درسه ثم استخرج منه موقفه الثاني في (أنوار المدينة) فدبره تدبيراً ونسجه نسجاً، ثم حققه تحقيقاً نجح فيه إلى أقصى حدود النجاح. . .
وشارلي شابلن يمتاز بإطلاعه على أسرار النفوس وتمكنه من قوانينها. فهو يضع مواقفه التمثيلية ويعرف ما سيفعله كل منها في نفوس النظارة لا تفوته في ذلك فائتة، وإذا كانت عبقريته هي التي تساعده في غربلة رواياته وتنقيتها من المواقف الباردة المتكلفة وإذا كانت هي التي تهيئ له كمال الدقة في تصوير النزعات الإنسانية وحركات العقل الإنساني في المواقف المختلفة تصويراً يكون مؤلماً أحياناً ويكون مضحكاً في أغلب الأحايين، وإن كان هذا لا يبرئها من معاني الألم والشقاء. . . إذا كانت عبقريته هي التي تهيئ له هذا الكمال وهذه الدقة في تصوير كل عاطفة وكل نزعة وكل حركة من حركات العقل. . . فأي شيء هو الذي يمكنه من أن يصل إلى الكمال والدقة في خلط العواطف المتناقضة بعضها ببعض حتى ليخلط في نفوس الناس البكاء بالضحك فإذا بهم يجنون وهم يشاهدونه
أعبقرية هذه هي أيضاً؟
كلا. وإنما هو الجنون. فشارلي شابلن لابد أن يكون قد جن في حالة من حالات حياته جنوناً ربما لم يكن استغرق إلا ومضة من ومضات الروح تشععت فيها نفس شارلي من ناحيتين متضادتين، فاختبل، إذ أحب وكره في آن واحد، وإذ غضب ورضى في آن واحد، وإذ أحسن وأساء في آن واحد، وإذ حزن وفرح، وإذ تقدم وتأخر، وإذ شبع وجاع، وإذ ثار وهو منهد. . .
وأمثال هذه المواقف والأحوال لا تحدث للناس عامة وإنما هي تحدث للأرهف منهم حساً، وللأذكى منهم عقلاً، ولأشدهم انطلاقاً نحو الحق. وحتى هؤلاء فإنه لا يحدث لهم هذا إلا قليلاً. ولو أنه كثير عليهم أو أطال بهم لفقدوا توازنهم ولاختلط عليهم أمرهم، ولاختل تكييفهم لأنفسهم بحسب الظروف العارضة لهم، ولقعد الجنون بهم عن تذليل المواقف العسرة التي تعترض حياتهم كما يقعد بهم عن الاستمتاع بالمواقف الحلوة التي تتفق لهم.
ويظهر أن هذين الموقفين أغريا نجيب الريحاني بأن يكون له موقف يشبههما. فقد عرض في رواية (حكم قراقوش) نفسه وهو محكوم عليه بالإعدام، ووقت التنفيذ لم يبق عليه إلا
دقائق فهو مشفق على نفسه جزع الموت، ولكنه مع هذا يضطر إلى أن يدافع عن نفسه بسرد حقائق مضحكة يعرف النظارة أنها لفقت على هذا المسكين تلفيقاً، وأنه كان يجب عليه أن يدرك هذا من قبل أن تفوت عليه فرصة النجاة
بهذا الموقف أراد الريحاني أن يضحك الجمهور وأن يبكيه في آن واحد، ولكن الذي حدث هو أن الجمهور كان يضحك فقط، ولم يبك منه أحد. ففات على الريحاني بهذا مأربه الفني السامي الذي كان ينشده، ولست أظن الريحاني كان عاجزاً عن الوصول إلى ما وصل إليه شارلي، فإن فيه من صفاء النفس وذكاء العقل وطواعية الروح ما يستطيع أن يحقق به كل الذي يحققه شارلي شابلن، أو أغلبه على الأقل؛ وإني أعتقد أن الريحاني فشل في إدراك هذه الغاية البعيدة لأنه لم يوفق إلى التمهيد الكيس الذي كان يجب عليه أن يأخذ به نفوس النظارة قبل أن يعرض عليهم الموقف، فالذي أذكره هو أن هذا الموقف قد جاء في (حكم قراقوش) عقب موقف آخر كان النظارة فيه منطلقين ضحكاً ومعربدين مرحاً، فلم يكن من السهل بعد ذلك أن ينقلوا من هذا الضحك وهذا المرح ليستقبلوا هذا الموقف المعقد المؤلم المضحك في آن واحد
وعندي أن الريحاني لو أنه نثر في المواقف السابقة لهذا الموقف بعض المؤلمات المتميزة الواضحة ليتخذ منها بعد ذلك قواعد يقيم عليها أعمدة الألم في الموقف المعقد الذي قصد إلى إبرازه. . . أقول لو أن الريحاني فعل هذا، فإنه كان من غير شك يصل إلى ما وصل إليه شارلي، ولو في بعض الليالي التي يمثل فيها (حكم قراقوش) إن لم يكن فيها كلها، فالواقع أن موقفاً معقداً كهذا يرتاح ممثل السينما بعد تسجيله، ويشقى ممثل المسرح كل ليلة في تحقيقه، وهو دائماً معرض للفشل فيه كما معرض للنجاح. . .
ثم إن الكلام نفسه في هذه المواقف مما يدعو إلى تبريدها وتخفيف حدتها والتهوين من عنفها، ولا ريب في أن صمت شارلي هو الذي ساعده على النجاح في هذين الموقفين، كما أن ثرثرة الريحاني في موقف قراقوش هي التي عطلته
ذلك لأنه ليس من السهل أن يهتدي الكاتب أو المؤلف إلى كلمة مجنونة يعبر بها عن حالة مجنونة فيها الألم والراحة معاً إلا أن يكون ذلك الكاتب مجنوناً، أو يكون قد جن في حالة من الأحوال، وروايات الريحاني يكتبها اثنان: الريحاني نفسه وهو يكتفي برسم معانيها لأنه
أميل إلى الصمت والتعبير بإطلاق الحس كما يفعل شارلي شابلن. . . ويعاونه الأستاذ بديع خيري وهو الذي يصوغ الكلام له، وهو رجل عاقل جداً لا أظنه جن يوماً حتى يستطيع أن يؤدي مع الكلام وثقله ما يريد الريحاني أن يؤديه على نحو الذي أداه شارلي بالصمت
على أني لم أيأس من أن تتاح للأستاذين المصريين فرصة قريبة في رواية قريبة يقدمان فيها مثل هذه الدرة الفنية العاتية الجبارة، فأنا أعرفهما يهيمان بكل ما هو عات من الفن جبار، وما دمت في معرض الذكريات فإني أسجل مع التقدير ليوسف وهبي دوره في كرسي الاعتراف، فقد كان عليه في هذا الدور أن يتصنع الجنون، وكان أشق ما عليه هو أن يوحي إلى النظارة أنه يتصنع الجنون من غير أن يكون في هذا الوحي شيء يصح أن يقول فيه أحد إنه كان من الممكن أن يلتفت إليه بطل من أبطال الرواية أو بطلة من بطلاتها
وما كان يوسف وهبي إلا لينجح في مثل هذه الرحلة المعقدة من هذا الدور، فهو أقدر ما يكون على الأدوار المعقدة لا الأدوار السهلة. . .
وذلك لأنه في حياته الخاصة لا يحب أن يترك نفسه على سجيته، لكثرة ما لاقى من متاعب في حياته، ولكثرة ما تعرض لأذى الناس وهجماتهم، فهو دائماً منكمش فيما بينه وبين نفسه، مطل على كل إنسان بناحية يعتقد يوسف أنها هي الصالحة لمواجهة هذا الإنسان، وهو بهذا يمثل دائماً، فإذا كان له دور سهل يراد منه فيه أن ينطلق على سجيته لم يجد سجيته، فهو مضطر بعد ذلك إلى أن يبحث عن سجية ما يتظاهر بها، وعندئذ ينكشف يوسف وهبي للعين النافذة ويظهر كأنه ممثل ضعيف، بينما هو يتقمص الأدوار المعقدة التي يعجز عنها كثير من فحول الممثلين ينطلق فيها متدفقاً كأنما يوحي إليه وحي، وكأنما يلهم التمثيل إلهاماً.
والذين شاهدوه في أدواره الأولى التي ظهرت بها فرقة رمسيس أول ما ظهرت لا يستطيعون إلا أن يشهدوا له بأنه ممثل مجيد ممتاز، وإذا كان النقاد في ذلك الحين قد اتهموه بالتهويش فإن هذا (التهويش) لم يكن مطلقاً إلا مبالغة فنية مقبولة استساغها الجمهور وأقبل عليها إقبالاً شديداً
وإني انتهز هذه الفرصة لأسأل يوسف وهبي عن هذه الأدوار لماذا تركها؟
يخيل إليّ أن الجواب عندي. وهو أن هذه الأدوار ورواياتها تحتاج إلى تشجيع ورعاية، وإن الحكومة قد خصت بتشجيعها ورعايتها للفرقة القومية وهي مجموعة الممثلين الذين تتلمذوا على يوسف وهبي، أو عاونوه لزمن طويل. . .
وهذه حالة عجيبة فلم تكن تحدث إلا في مصر. فلم يكن معقولاً أن تأخذ الحكومة فرقة من صاحبها ثم تتركه في الميدان يعتمد على الهواة والممثلين المبتدئين، ثم تتركه بعد ذلك من غير تشجيع مادي يعوض عليه ما بذله في تدريب فرقته التي أُخذت منه.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
الحياة على الكواكب
للدكتور محمد محمود غالي
من طرق التفكير الحديث - أهل المريخ وهندسة إقليدس - حساب الاحتمال والحياة على غير الأرض - سكان الأرض وجرام الراديوم - العثور على شيء يشمل العثور على غيره - من الفيزيقا إلى النجموفيزيقا - ومن الاحتمال إلى التحتيم
لا يعتقدن القارئ وهو يطالع عنوان هذا المقال أننا نخرج بكتاباتنا من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا فليس هذا الذي قد يتبادر إلى ذهنه بصحيح، فإن ما نكتب لا يمكن أن يخرج عما تعلمناه أو تأثرنا به، وعلاجنا لما يَعِنُّ لنا من مسائل يستند إلى العلم التجريبي الذي لا يعتمد إلا على التجارب العلمية التي يستطيع أن يقوم بها الإنسان، أو العلم النظري الصحيح الذي يقبله المنطق السليم، والذي يتفق والعلم التجريبي أو يقترب منه. فإذا أراد أن يُقنعنا باحث بوجود إنسان مماثل لنا في القمر، فإننا نميل إلى مطالبته بأن يرينا في المنظار الفلكي أثراً من عمل هذا المخلوق القمري ما دام قد فرض أنه مماثل لنا، كمنشأة له مثلاً، وإننا نميل إلى ذلك ما دمنا نعرف أن منظارنا الفلكي بلغ حداً من الإتقان يمكن معه أن نرى المنشآت التي من حجم الجامع الأقصى في القدس أو الرفاعي في القاهرة. وإذا أراد باحث آخر أن يقنعنا أن هذه المنشأة التي تصادف أن رأيناها هي صدفة من عمل الطبيعة، وأن القمر، وهو يتقلص تحت عامل البرودة خلال الملايين من السنين التي يبرد فيها، تكيف على سطحه ذلك الشكل الذي يختلط في المنظار بإحدى منشآتنا، وأضاف هذا الباحث أمراً جديداً يدل عليه التحليل الطيفي الذي يثبت خلو أجواء القمر من الهواء ومن الأوكسجين مثلاً، هذا الخلو الذي يقوم دليلاً على عدم إمكان وجود مخلوق شبيه بنا على سطحه، فإن هذا دليل عندنا يرجح الرأي الثاني.
بهذا الروح نتعرض لمثل هذا الموضوع الخاص بمناقشة الحياة على الكواكب، فليس من عملنا أن نشغل صحيفة العلم بغير العلم؛ والعلم عندنا هو البحث عن الحقائق بالطرق العلمية. ومع ذلك فإننا نسخر من هؤلاء الذين فكروا في التعرف على أهل المريخ بأن يرسموا في إحدى صحراواتنا باللهب وبالحجم الكبير البرهان على نظرية فيثاغورس
المعروفة التي يبرهنون فيها على أن مساحة المربع المقام على وتر المثلث القائم الزاوية تساوي مجموع مساحتي المربعين المقامين على ضلعيه، بحيث إذا أبصروا بالمنظار الفلكي وبعد فترة كافية، على سطح المريخ الرسم ذاته، كان ذلك برهاناً على أن المريخ مسكون بمخلوقات شبيهة بنا على الأقل في صفة الذكاء، مخلوقات تدرجت بدورها في العلم فعرفت هي أيضاً هندسة إقليدس
إنما نسخر من مثل هذه الوسيلة القاسية، فقد يكون هناك مريخيون، ولكنهم لم يتجهوا في فهم الكون اتجاهنا، ولم يفكروا فيه على طريقتنا، مما قد يجعل فلسفتهم في الحياة لا تتسق مع فلسفتنا، وأغراضهم لا تمت بأية صلة إلى أغراضنا
إنما نذهب في افتراض وجود هؤلاء أو غيرهم مذاهب أخرى متأثرين في ذلك بما يفرضه (حساب الاحتمال) من إمكان وجود مخلوقات غيرنا، وليس عدم وجود أهل للمريخ، إذا قام يوماً برهان على ذلك، بدليل عندنا على عدم وجود أجناس حية أخرى في مجموع الكون، وما المريخ فيه إلا حبة رمل من رمال الصحراوات العديدة؛ إنما تستمد عقيدتنا في وجود الحياة على غير الأرض قوتها من وجودنا وغرابة أمرنا ثم من حساب الاحتمال السالف الذكر، وهو رياضة لا يدل اسمها على ما تعنيه اليوم ولا على ما تقوم به للعلم من خدمات، رياضة يتحتم بواسطتها وقوع مسائل معينة إذا توافرت اشتراطات معينة، ومع ذلك فلسنا في حاجة هنا إلى استعراض علم من أهم العلوم الحديثة، وكل ما نرغب فيه أن يدرك القارئ أننا نقصد من احتمال التعيين؛ وإننا لنستعين في ذلك بمثال سبق أن تقدمنا به في مناسبة أخرى، عندما ذكرنا للقارئ أنه يتحتم أن يموت من أهل القاهرة في كل أسبوع عدد يتراوح بين الخمسمائة والألف مثلاً. هذا حساب محتمل من أرصاد ماضية وطويلة يصبح حساباً حتمياً للشهر الذي نعيش فيه. إن حياتنا وما يكتنفها من غموض، وعظمة الكون واتساعه وعدم استقرار، ووجود الكواكب العديدة، لا حول شمسنا فحسب بل حول ملايين غيرها من الشموس، ووجود جميع الأقدار في المسافات، ثم أتساع نطاق العلم في معرفة خواص الكون ودرجة انتشاره وعظم مسافاته وطول زمنه وعرفة قوة شموسه وكثرتها، والوقوف على حقارة أرضنا التي نلعب فيها دوراً غير ملحوظ، دوراً لا يُؤثر في هذه المجموعة الكبيرة التي تحيط بنا، كل هذا يجعل وجود الحياة على النحو الذي ألفناه أو
على نحو آخر في أماكن أخرى في غياب الكون المنتشر - من الأمور الحتمية لا من المسائل الاحتمالية
وأود لو أطمئن إلى أن القارئ قد أدرك غايتنا على النحو الذي قصدناه، ففهم كيف يصبح الاحتمال أمراً حتمياً إذا لم نتعمد الوصول به إلى تعيين دقيق في الموضوع الذي يتناوله الاحتمال؛ ونعيد القول بأننا نستطيع أن نعرف العدد التقريبي لمن سيقضون نحبهم من سكان القاهرة في شهر سبتمبر القادم بمقارنته بشهور سبتمبر من السنين الماضية، وذلك بعمل امتداد رياضي لهذه المسألة البسيطة ولكننا لا نستطيع أن نكتب لوحة عليها أسماء الذين سيموتون. ومهما يكن من الأسباب فإنه من المحال أن يمر شهر سبتمبر القادم ولا يحدث في القاهرة هذا العدد المحتمل من الوفيات
كذلك لو وضعنا جراماً من الراديوم في صندوق متروك في المعمل، فإننا على ثقة بأنه ستخرج منه، بالتفتت الذري والإشعاع الذاتي، آلاف معينة من ملايين الحُبَيبات الراديومية في كل ثانية تمر من الزمن، وإننا على ثقة بتناقص هذا الجرام إلى نصف وزنه بعد مرور ألف وخمسمائة سنة، كما أننا نستطيع أن نعين مقدار ما يخرج يومياً من هذه الوحدات التي لا تعود بحال إلى جسمها الأصلي، ونعرف كيف يتغير هذا المقدار بعد ذلك العهد الطويل وبعد أن يكون قد فقد نصف وزنه أي نصف سكانه، ولكننا لا نستطيع أن نُعيِّن بالذات الوحدات التي شاء لها القدر أن تخرج اليوم من بين بلايين الوحدات التي يحتويها هذا الجرام
هذا الجرام من المادة المشعة يشبه في الواقع الألفي المليون نسمة الذين يسكنون الأرض. إننا واثقون بأن نصفهم سينقرض بعد نصف قرن مثلاً، ولكننا لا نستطيع أن نعين أسماء هؤلاء الذين يشاء لهم القدر أن ينقرضوا في النصف الأول من هذه الحقبة. كذلك الكون، كل شيء يدل على ضرورة وجود الحياة في بعض أنحائه المترامية، ولكننا لا نستطيع أن نعين الأمكنة أو الكواكب بالذات التي عليها الحياة، وعندي أن الذين يريدون أن ينكروا وجود الحياة بأية صورة في الكون المنتشر، الكون الذي عرَّفناه للقارئ وفق (إينشتاين) ووفق (دي ستير) الكون الذي له شكل كرة زائدة ذات حدود مختلفة في المكان والزمان، الكون الذي يكبر وينتفخ يوماً بعد يوم - لا يختلفون عن هؤلاء الذين يحاولون
إقناعنا بمرور شهر سبتمبر القادم دون حدوث وفاة شخص واحد في القاهرة. إننا نرد على هؤلاء بقولنا أننا واثقون بوفاة عدد كبير في الشهر القادم لا يمكن أن ينقص عن حد معين، وأننا في هذا ننتقل من مسألة احتماليه إلى مسألة حتمية. إننا واثقون من العدد التقريبي للذين سيفارقوننا، ولكننا عاجزون عن إدراك أسمائهم، ونحن في ذلك نتبع الطريقة ذاتها التي نثق فيها بوجود الحياة على كثير من الكواكب دون أن نعين هذه الكواكب بالذات بين حدوده الفسيحة
ولا تحسَبَّن إذن أنك قد تميزت بحياة تعتقد أنها الوحيدة في الوجود، وأن كل ماعداها موت في موت وجمود في جمود، ولا تعتقدن فيما تعتقد أنك الوحيد في الكون العظيم، تمرح على هذه الأرض بين أشجارها الفيحاء وورودها الجميلة، تتغذى من مملكة نباتية بديعة، وتستمتع بأخرى حيوانية رائعة. إن هذه الحياة لا يمكن أن تختص بها حبة الرمل الحقيرة التي نعيش عليها، وليس ما يمنع أن تتكرر عملية الحياة في غيرها من الحبات العديدة المتناثرة في الكون على هذه الصورة أو على غيرها
ولو خلت الأرض من الإنسان الفخور بذاته المعجب بذكائه لظلت الأشجار والورود والحيوان باقية ما بقيت الشمس؛ فهي تعيش عليها بقدر ما نعيش نحن، وتنعم بفعلها بقدر ما ننعم، وليس ما يمنع أن يكون حول الشموس الأخرى حياة كحياتنا أو تختلف عنها، بل إن كثرة هذه الشموس في الكون المغلق على نفسه تحتم وجود هذه الحياة
ولو أنك دخلت حديقة متسعة بدأ نضوج نوع من الفاكهة فيها، وليكن البرقوق مثلاً، فإنه من غير الممكن أن يكون قد نضج في اللحظة التي تتجول فيها برقوقة واحدة بين ملايين البرقوق الموجود على الشجر، بحيث لو عثرتَ على برقوقة ناضجة فإننا واثقون أنك إذا تجولت كثيراً وجدت غيرها من البرقوق الناضج، ولو أنك بادرتني بقولك إنك وجدت برقوقة واحدة ناضجة لم تجد غيرها فإنني لا أميل إلى تصديقك، أو أعتقد أن حديقتك صغيرة، وأنها لا تحوي سوى بضع شجرات من البرقوق، ولو أنك بادرتني أنك على العكس تمتلك حديقة فسيحة الأرجاء متسعة بحيث لا تكفي أيام عديدة للتجول في أنحائها المختلفة، فإنني واثق إذن أن هذا النضوج قد حدث في أماكن عديدة، وأنك حتما ستعثر على كثير من البرقوق الناضج كلما تجولت في الحديقة
كذلك الكون ننظر إلى الحياة فيه لا كعملية محتملة، بل كواقع موجود
وهانحن أولاء ننتقل بالقارئ قليلاً قليلاً، لا من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا، وإنما من الفيزيقا إلى النجموفيزيقا، وهي من الموضوعات العلمية الصحيحة التي تتصل بحقائق الكون
وفي هذا نقترب من المخلوق العجيب الذي لا يرى من الترام إلا مستطيلا ومن (الكمساري) إلا دائرة تنتقل على حافة المستطيل، ونقترب من بعض الفروض التي نريد بها أن نضع أنفسنا وجنسنا البشري في جدول المخلوقات في الكون العجيب، وبهذا نقترب من مسائل بدأت في ذهننا كمسائل احتمالية وانتهينا فيها بعد طول التأمل إلى أنها حوادث حتمية. وفي مقالنا القادم نصف كوناً حياً مقفلاً على نفسه، وما نحن في ذلك إلا محاولون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
البَريدُ الأدَبيّ
الحركة الأدبية في العاصمة السورية - تعليق ونقد
منذ أسابيع خمسة، قرأنا في بريد الرسالة الأدبي كلمة العتب والبيان التي أطل بها علينا الأستاذ الأديب الشيخ علي الطنطاوي وبها يعتب على أدباء مصر ونقادها لإهمالهم واجب النقد والتقريظ لعشرات المؤلفات التي صدرت في العاصمة الأموية
وبقدر ما سرنا عتب الأستاذ وتذكيره، كان عجبنا بالغاً أشده، ذلك أن الأستاذ غاب عن باله - فيما أعتقد - أنه أنكر على دمشق العزيزة وجود حركة أدبية فيها لذا فنحن نقف اليوم تجاه رأيين متضادين لكاتب فاضل واحد، لا ندري أيهما نصدق، ولا بأيهما نأخذ، فإذا كان الأستاذ ينكر وجود الحركة الأدبية في دمشق، فقد نقض (بعتبه وبيانه) رأيه الأول، إذ كيف يصح أن تنشر دمشق الحبيبة هذا العدد الضخم من الكتب والمؤلفات، ثم يُنكر عليها الأدب؟. . .
بين يديّ الآن عدد الرسالة الأخير ذو الرقم 369 وبه تناقش الأديبةُ الكبيرةُ السيدة وداد سكاكيني بعضَ أقوال الأستاذ الطنطاوي في (عتابه وبيانه).
والسيدة وداد من أديباتنا النوابغ ذوات العواطف الوطنية المرهفة، يدل على ذلك كتابها (الخطرات)، وهي بحكم هذه العاطفة الوطنية المستمرة تأبى أن يقول الطنطاوي عن دمشق إنها (أنها مُتَّبِعة في أدبها لا مُتَّبَعة، مقلدة لا مبدعة) وتقول السيدة وداد:
(إن دمشق الشام لها كيان أدبي مرموق، وفيها أهل معرفة وثقافة، فينبغي أن تفرض أدبها فرضاً، وأن تسم آثاره بمياسم خاصة تميزها من غيرها وتكون دليلاً عليها)، ودمشق العزيزة سيدتي، كما يشاء الواقع والحقيقة، مقلدة متبعة - وأقولها بكثير من الأسف والألم - تتقفى خطوات المصريين، وأبناؤها يقرءون على الدوام آثارهم وينهجون نهجهم. ونحن وإن كنا نعجب بالثقافة المصرية، وبكثير من الأدباء المصريين، ونقر لمصر بالزعامة والتفوق، ولكننا - إلى ذلك - نرغب في استقلال أدبنا وثقافتنا، ونحب أن يكون أدبنا ذا كيان خاص، ومياسم تميزه من غيره، أما أن نفرض أدبنا فرضاً - ولا ندري على أي قطر تريد السيدة أن نفرضه! - فهذا أمر يحتاج يا سيدتي إلى عشرات من السنين، إذ ليس فرض الأدب والثقافة من الأمور الهينة السهلة كما تخالين، ولا سيما لبلد له شأن كشأن
دمشق. وبالرغم من ذلك كله فما أعفانا من هذا (الغرض!). ولقد ذكرت يا سيدتي، وذكر الأستاذ الطنطاوي قبلك عددا من الكتب كبيراً، أهمله كتاب مصر ونقادها. ولكن (التواضع) أبى عليكما أن تشيرا إلى مؤلفاتكما!. وإذا كان الطنطاوي قد أشار إلى كتابين من تأليفه بصورة خاطفة. . . فقد أهمل كتابين آخرين ربما كانا من أحسن ما أنتج وهما:(في بلاد العرب) و (من التاريخ الإسلامي) والأول كتاب ثمين ضمنه صاحبه قطعاً بارعة من أدبه، وبه صور ومشاهد طيبة لكثير من بلاد العرب، والثاني مجموعة من القصص، قبس الكاتب موضوعها من التاريخ الإسلامي المجيد؛ وقد أجاد في كثير منها، وهناك كتاب (الخطرات) للسيدة وداد سكاكيني وقد حوى موضوعات في الأدب والاجتماع قيمة، وكما خجلت السيدة وداد من الإشارة إلى (خطراتها) فقد أبت الإشارة إلى مؤلَّف زوجها الصديق الأستاذ زكي المحاسن وهو (النواسي شاعر من عبقر) درس فيه أدب الشاعر الماجن أبو نؤاس وأخرجه للناس في حلة قشيبة وشكل حسن.
وأما كتاب (آرائي ومشاعري) للأديبة النابهة الآنسة فلك طرزي الذي ذكرته السيدة وداد في معرِض التذكير، فقد سبق لكاتب مصري معروف أن نقده وقرَّظه في حينه على صفحات الرسالة الزهراء، فلم تكن ثمة حاجة لذكره، إلا أن تكون الذاكرة قد خانت السيدة وداد في هذه المرة.
هذا ما أردت أن أقوله في معرض التصحيح والتذكير، وللأستاذ الطنطاوي والسيدة وداد أذكى التحية وأطيب السلام.
(دمشق)
عبد الغني العطري
مواعيد البناء المخضوب
قرأت في جريدة الدستور كلمة كريمة لأديب كريم أسمه (إبراهيم) وهو كاتبٌ لم أعرفه من قبلُ، ولكن شمائله تنمّ عليه كما ينمّ الدُّخَان على الجمر المشبوب.
وهذا الكاتب يتوجع للنعيم الذي ضاع بين سَدَّة الهندية والقناطر الخيرية، ثم يُغلَبُ على وقاره فيذكر أن له نعيماً ضاع في ظلال (الجيزة الفيحاء) وأنه تأسَّى بقول أحد المتيمين:
(تلك يا قلبي مواعيد البنان المخضوب)
ذلك عزاؤك، أيها الزميل، فأين عزائي؟
هل تظن أن (خواطر مهاجر) التي قرأتها في الطريق مرتين حتى كدتُ أصطدم بالجدران ُتلهيني عن (خواطر مهجور) التي أدرتها في خاطري مئات المرات ولم أجرؤ على صبها فوق صفحات القرطاس؟
وهل ترى أن أداوي همومي بالتفكير في بلايا المجتمع كما يصنع جليس (الكافورة الغيناء)؟
وكيف وما حملتُ القلم إلا وثبَ القلم وثبة المسعور وقد تألق أمامه السراب وهو يظن ويتوهم ويخال أني سأكتب إلى الذين لا يصل إليهم خطابي إلا بعد أن يمرّ بثلاثة رقباء، أولهم في القاهرة وثانيهم في فلسطين وثالثهم في. . . (؟)
إن سمح الدهر بيوم العتاب فسأقول وأقول وأقول
وإن ضنّ الدهر بيوم العتاب فسأرسل إلى الغادرين جذوة من جَذَوات قلبي ليعرفوا أن دمي لا يذهب هدَراً في دنيا النفوس الغوادر والقلوب الشِّحاح
بتذكِرة بريد تكاليفُها أربعة فلوس تداوَي جراح
قلبي فهل رأى الناس أبخل من الذين يستكثرون أربعة فلوس على من جاد في هواهم بالعافية والأمان؟
ويزيد بلائي كلما تذكرت أن الخلاص من أسرهم هو رابع المستحيلات، وكانوا أوهموني أن دنيا الوجد لا تعرف المستحيل، يوم كنا نتناجى بنبرات أرقّ وألطف من وسوسة الأزهار في أسحار آذار
ولا تحسبوني نسيت العهد، يا أصفياء روحي، فما الدنيا بدون هواكم إلا هجيرٌ تموت في وقدته رياحين القلوب، كما تموت أعشاب (الموصل) عند قدوم حُزَيران
وآه ثم آه من القلب الذي تعجز الخطوب والصُّروف عن وَأْد ضلاله القديم!
زكي مبارك
حول ارتجال المصادر
قرأت الكلمة التي وجهها إليَّ الأستاذ صلاح الدين المنجد في العدد 369 من الرسالة الغراء، تلك الكلمة التي يزعم فيها أنني ارتجلت مصدراً أوردت ذكره في مقالي المعنون (العروب في العراق) المنشور في العدد 360 من الرسالة
إن المصدر المنوّه به هو: (السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) للأستاذ حبيب زيّات. وقد رجعت إلى المجلة، فوجدت ما ذكرته في مقالي صحيحاً لا شبهة فيه. وعليه أعود الآن ثانية فأؤكد ما ذكرته هناك من أن المقال منشور في مجلة (لغة العرب)، التي كانت تصدر في بغداد:(5 (1927) 461 - 465)
وإذا كان الأديب المنجد لم يجد تلك الأرقام فإننا نفيده أن الرقم (5) يعني المجلد الخامس من مجلة (لغة العرب) والرقم (1927) يشير إلى سنة صدور ذلك المجلد، والرقمين (461 - 465) يشيران إلى الصحائف التي نشر فيها مقال (السفن والمراكب) المشار إليه في نفس المجلد والسلام.
(بغداد)
ميخائيل عواد
كتاب الشعور بالعور
إلى الأستاذ محمود حسن الزناتي
قرأت الكلمة التي تفضل الأستاذ الزناتي أمين الخزانة الزكية ومحقق كتاب (الفصول والغايات) لأبي العلاء المعري فكتبها عن كتاب (الشعور بالعور) لصلاح الدين خليل أبن أبيك الصفدي الذي جمع فيه أخبار العور من صحابة وتابعين وعلماء وأدباء، وقد طلبناه في مكاتب دمشق الخاصة والعامة فلم نعثر عليه؛ فنحن نشكر للأستاذ إشارته هذه، ونود لو تكرم بتلخيص طرف من ملح الكتاب ونوادره لنقف على بعض ما تضمنه الكتاب
صلاح الدين المنجد
مولد الدكتور إسماعيل أدهم ونسبه
اقتصر الأديب إبراهيم أدهم أخو الدكتور إسماعيل أدهم على أن يخطئ ما قيل عن نسب
أخيه من جهة أمه دون أن يذكر الحقيقة. فرأينا أن ننقل في ذلك ما كتبه الدكتور زكي أبو شادي صديق الفقيد عنه في مجلة (أدبي):
(ولد إسماعيل أحمد أدهم في 17 فبراير سنة 1911 بمدينة الإسكندرية من أب تركي وأم ألمانية. أما والده فهو أحمد بك أدهم الأميرالاي في الجيش التركي سابقاً، وجده إسماعيل بك أدهم أستاذ الأدب التركي بجامعة برلين، وجدُّ أبيه إبراهيم أدهم باشا ناظر المعارف المصرية على عهد ساكن الجنان محمد علي باشا، وقد شغل أيضاً من المناصب منصب محافظ القاهرة وناظر الأوقاف وناظر الحربية في مصر. وأما والدته فهي السيدة أيلين فانتهوف كريمة البروفيسور فانتهوف الشهير عضو أكاديمية العلوم البروسية).
نؤت بالحمل وناء بي
بهذا العنوان نشرت الرسالة للأستاذ عوض عوض الدحة كلمة يناقش فيها الأستاذ الطنطاوي حول تعبيرين هما (نؤت بالحمل، ناء بي الحمل) فالأستاذ الطنطاوي يرجح الأخير ويومئ إلى أنه هو الأصح رغم شيوع عكسه، بينما الأستاذ عوض يستملح التعبير الأول ويستدل على هذا بما عثر عليه في بطون المعاجم وأسفار الأدب
وليسمح حضرة الناقد بالانتقال معي إلى خير حَكم، وهو الكتاب المبين فقد ورد فيه حكاية عن قارون في سورة القصص (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي لتُنيء العصبة بثقلها، ومن الواضح أن هذا التعبير أنسب وأوجه ليتحقق المعنى المقصود.
أبو الفضل السباعي ناصف
القصص
قصيدة غرام. . .
للقصصي الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ عبد الغني العطري
غادر القطار مدينة جنوا متجها نحو مرسيليا، ومتقفياً تعرجات الشاطئ الصخري الطويلة، وأخذ يسلك سبيله - بخفة وسرعة ونشاط، كثعبان أسود مخيف - بين اليم والجبل، زاحفاً فوق الشواطئ ذات الرمال الصفر التي تدغدغها الأمواج الصغيرة بخيوط دقيقة لجينية، ثم يدخل - دون تمهل - فوهة النفق الأسود، كما تدخل البهائم في أجحارها، أو الطيور الغَردة في أوكارها
وكان في العربة الأخيرة من القطار، شاب في ريعان صباه، وامرأة أُوتيت من السمن حظاً وفيراً. جلسا متقابلين وجهاً لوجه، دون أن ينطقا بحرف، أو ينبسا ببنت شفة. وكان كلاهما يختلس من صاحبه النظر، بين الفينة والفينة. أما المرأة فكان لها من العمر نحو خمس وعشرين ربيعاً، وكانت جالسة قرب النافذة تمتع ناظريها بمناظر الطبيعة المُرَنِّية وهي إلى ذلك امرأة قروية صلبة العود، قوية البنية، من مقاطعة بييمون الإيطالية، ذات عينين سوداوين، وصدر ناهد جسيم، ووجنتين مكتنزتين باللحم والشحم، وقد ألقت تحت مقعدها الخشبي عدة حُزم ورِزم، واحتفظت فيما بين ركبتيها بسلة
أما هو. . . فقد كان على النحو العشرين من عمره، وكان نحيلاً مهزولاً مسقَّماً بصبغة سمراء قاتمة، وهي من علامات الرجال الذين يعملون في الأرض، خلال فصل الصيف، وفي حر الهاجرة وكان إلى جانبه منديل حوى كل ما ملكت يمينه من (ثروة!) ونشب: حذاء وقميص، وسروال وصدار. وقد أخفى عدا ذلك تحت المقعد أشياء أخرى: مِجرفة ومعولاً، ُربط بعضها إلى بعض بحبل. لقد كان ذاهباً إلى فرنسا ليبحث فيها عن عمل يعتاش من ورائه
أخذت الشمس تتسلق القبة الزرقاء، بخطوات مبتدئة رزينة، وأخذت تقذف من برجها العاجي البعيد وابلاً من أشعتها النارية المستمرة على الشاطئ الهادئ الوديع.
كان ذلك في أواخر شهر أيار، وأريج الزهر العطري يعبق في الجو، ويدخل العربات، التي ظلت نوافذها مفتحة، وكان شجر البرتقال والليمون في إبان إزهاره، وأريج زهره الناضر يعبق في الجو ويتطاير مع النسيم برقة وعذوبة وقوة، فيفعم الأنوف، ويملأ الخياشم، ويمتزج برائحة الورد الفواحة العطرة التي كانت تنبت على طول الطريق بكثرة مفرطة كما ينبت العشب أو الكلأ في البساتين وأمام الخرائب المتهدمة، وفي الحقول والمزارع أيضاً.
لقد كانت هذه الورود والأزاهير في المكان الملائم لها على هذا الشاطئ الوديع، وكانت تملأ جو البلدةَ بشذاها الفواح، وأريجها التضوع، حتى أنها تجعل النسيم حلو طيباً كقطعة من حلوى! وليس ذلك ما تصنعه فحسب بل كانت تجعل النسيم شيئاً ألذ من الخمر، ولكنه مسكر كالخمر!
أما القطار فكان يسير الهوينى، كما لو أنه يبغي عامداً أن يطيل مشيته في هذه الحديقة الحالمة؛ وكان يقف بين الآونة والأخرى في المحطات الصغيرة أمام بعض المنازل البيض، ثم يستأنف مسيره الهادئ الواني ثانية بعد أن يصفَّر طويلاً، لم يكن أحد يركب القطار من تلك المحطات، ولم يكن يُرى أحد أيضاً؛ حتى إن المرء ليحسب أن الخليقة ناعسة بأسرها، وأن أحداً لا يجد القوة والنشاط لتغيير موضعه في ذلك الصباح اللاهب من فصل الربيع
وكانت المرأة البدينة تسبل جفنيها بين الآونة والأخرى ثم تفتحها على حين غرة، عندما تشعر بأن السلة التي وضعتها بين قدميها على وشك السقوط، فتمسكها بحركة سريعة نشيطة، وتمد رأسها إلى النافذة، وتمتع ناظريها بمشاهد الكون المرئية، ثم تعود إلى إغماض جفنيها من جديد، وكانت بعض قطرات من العرق تلتمع فوق جبهتها، ثم تتنفس بجهد وعناءٍ، كما لو كانت تعاني ضغطاً شديداً
أما الفتى القروي فقد أحنى رأسه، وأستسلم لنوم عميق لذيذ وعندما كان القطار يغادر محطة صغيرة، استيقظت المرأة على حين غرة ثم أخرجت من سلتها رغيفاً من الخبز وبيضاً مسلوقاً وقارورة من الخمر وأجاصاً جيداً مورَّد الخد وشرعت تأكل
وأستيقظ الشاب فجأة أيضاً على صوت حركاتها الأخيرات وأخذ يرنو إليها ويطيل النظر
إلى لقمة تَطعَمها وتذهب بها من بين ركبتيها إلى فمها. ومكث كذلك: مشبك الذراعين، محملق العينين، بارز العارضتين، مغلق الشفتين
وكانت المرأة تَطْعَم غداءها رغبة ملحة ونهَم شديد، وتحسو مع كل لقمة جرعة من صهبائها كي يسوغ طعامها ويسهل عليها ابتلاعه. وكانت تمتنع هنيهة عن طعامها بين الفينة والفينة لتستجم أولاً وترسل نَفَساً طويلاً ثانياً
لقد أتت على كل ما لديها من طعام وشراب، فلم تُبقي شيئاً من الخبز أو البيض أو الأجاص أو الخمر. وما أن انتهت القروية البدينة من غدائها حتى أغمض الفتى جفنيه. ولما شعرت المرأة بالشبع، وامتلاء المعدة، نزعت أزرار ثوبها من عراها، كي تصيب بعض الراحة بعد هذا الشبع المفرط. ونظر إليها الفتى من جديد، ولكنها لم تضطرب من نظراته ولم تقلق، بل ثابرت على فك أزرارها، وكان ضغط نهديها المتوثبين الشديد، يبعد القماش بعضه عن بعض، ويظهر من الفرجة - التي أخذت تتسع - شيئاً من قميصها القطني الأبيض، وقليلاً من بشرتها، ولما وجدت القروية البدنية. ولما وجدت القروية البدينة نفسها أقر عيناً، وأهدأ بالاً، وأكثر راحة وسروراً، رفعت رأسها للفتى، وقالت له تحدثه بالإيطالية:
- لقد بلغت شدة الحر حداً تعسر معه التنفس وضاق
فأجابها الشاب، باللغة نفسها، واللهجة ذاتها:
- إن الطقس حسن، ملائم للسفر والسياحة كل الملائمة والتفتت إليه فسألته:
- أأنت من مدينة بيمون؟
- بل من آستى
- أما أنا فمن كازال
لقد كانا من بلدتين متجاورتين، فآلف ذلك بين قلبيهما، وجمع بين روحيهما، فأخذا يتجاذبان أطراف الأحاديث. تحدثنا طويلاً. . . وطويلاً جداً، عن أمور وأشياء مبتذلة، لا قيمة لها وشأن يذكر؛ أشياء تعيد العامة ذكرها، وتكررها في كل ظرف أو مناسبة. وهي في الحق أقصى ما يصل إليه تفكير هذه الطبقة الضيق. تحدثنا عن البلدة، وعن أخبارها وظرائفها. لقد كان لديهما معلومات مشتركة غزيرة، يعرفها كلاهما بالتفاصيل والدقائق. وأخذا يذكران
الأشخاص، ويعددان الأسماء التي يعرفان أصحابها. وكانت أواصر الصداقة والمودة تزداد توثقاً بينهما كلما ذكرا شخصاً جديداً رأياه، أو صحباه، أو عرفاه. وكانت الكلمات تنطلق من ثغريهما بقوة وحماس، وسرعة ونشاط، مع نهاياتها الموسيقية الرنانة، ونغماتها الإيطالية الحلوة. ثم أخذ كلاهما يعرف صاحبه إلى نفسه:
أما المرأة فقد كانت متزوجة ولها من الأولاد ثلاثة تركتهم إلى أختها لترعاهم، وتقوم على خدمتهم، لأنها أخذت تشغل منصب مرضع وفير الربح، لدى سيدة فرنسية في مرسيليا
وأما الفتى الشاب فقد كان يبحث عن شغل، وقد قيل له: إنه سيجد - دون ريب - عملاً في مرسيليا لأنهم يكثرون من البناء والعمار هناك
وما أن بلغا هذا الحد من الحديث حتى اعتصما بالسكوت وأخذت الحرارة تزداد والنهار يَرْمض، وذكاء يشتد سعيرها كلما غذَّت الخطا في تسلق القبة الزرقاء، وكانت أشعة الشمس اللاهبة تسقط على عربات القطار فتزيد في شدة الحر، وتضاعف أواره المتسعر، وأخذت غمامة من الغبار الكثيف تتطاير خلف القطار، وتدخل العربات. وكان أريج زهر البرتقال والورود يزداد تضوعاً وانتشاراً، فيملأ الخياشيم ويفعم الأنوف واستولت على المسافرْين الفتَّيْين من جديد رغبة ملحة في الرقاد، فاستسلما طائعين لسلطان الكرى القاهر
وعدا بعد حين، فنفضا عن عيونهما بقايا النوم، في وقت يوشك أن يكون واحداً. وتضيقت الشمس أخيراً، وأخذت تدنو من البحر، وهي تنير صفحة الماء الأزرق بأشعتها الأرجوانية اللألاءة، فيزداد بريقه ويشتد تألقه والتماعه. وبدأ الهواء الطريُّ الرطب، أخف وطأة، وأقل ضغطاً.
وأخذت المرضع تلهث وكان صدارها مفتوحاً، وخداها مسترخيين، وعيناها كامدتين. . . ثم قالت بصوت ينم عن الإعياء البالغ، وألاين الشديد:
- منذ نهار أمس لم أُدن ثدي من طفل، وهاأنا ذا بسبب ذلك مضطربة الفكر، مشتتة القلب، موزعة الفؤاد، كما لو كنت مقدمة على إغماء شديد
ولم يحر الشاب جواباً، لأنه لم يدر ما يقول، ولا بماذا يجيب واستمرت المرضع في حديثها فقالت:
عندما تملك المرأة لبناً بالقدر الذي أملك، من الواجب عليها أن ترضع ثلاث مرات في
النهار، فإن لم تفعل أصيبت بضيق عظيم، وغم شديد، إنني أشعر بعبء ثقيل يرزح فوق صدري، ويكاد يحبس عني الأنفاس، ويحطم مني الضلوع. من الشقاء والتعاسة أن تملك المرأة لبناً بهذه الغزارة والكثرة
فأجابها الفتى بنغمة الموافق الآسف:
- حقاً إنه من الشقاء يا سيدتي. . . إن هذا اللبن يقض مضجعك ويزعجك دون ريب. . .
وفي الحق كانت تبدو على محياها إمارات المرض، ويظهر في عينيها بريق التعب والإعياء. ثم جمجمت في صوت خفيض:
- يكفي أن يضغط المرء ثديي قليلاً كي يتفجر منه اللبن، كما لو كان ماء ينبجس من نبع، حقاً إن هذا منظر مروع، حتى أن المرء لا يكاد يصدقه لمجرد السماع، وفي (كازال) يتقاطر الناس عليّ كي يروا ثدييّ
- أحقاً ذلك؟
- أجل، إن هذا حق، لا غبار عليه، ولا لبس فيه، وسأريكهما، غير إن هذا لا يفيدني في شيء، لأني لن أستطيع أن أفرغ شيئاً من محتوياتهما على هذه الصورة
قالت ذلك وسكتت من جديد
ووصل القطار بعد حين من الوقت، إلى إحدى المحطات، فوقف عن المسير. وكان في المحطة - خلف الحاجز القائم بين القطار والجمهور - امرأة هزيلة الجسم، رثة اللبوس، تحمل بين ذراعيها طفل يبكي
ووقع نظر المرضع على المرأة؛ فقالت بصوت تمثل فيه اللطف والإشفاق والرحمة:
- هذه امرأة يمكنني أن أخفف عنها ما تعاني من ضيق، كما أن الطفل بإمكانه أن يخفف عني هذه الأثقال التي ينوء بها صدري. اسمع يا صديقي لست غنية - لأني أترك منزلي وذوي وابني الأصغر، كي أعمل كمرضع، بعيدة عن الوطن والأهل - ولكني على استعداد لدفع خمسة فرنكات في سبيل الحصول على هذا الطفل وإرضاعه مدة عشر دقائق؛ إن هذا دون ريب بعيد الهدوء والسرور إلى نفسينا. يخيل إلي أني سأبعث من جديد حين أفعل ذلك، وإن الحياة ستسري في عروقي
قالت ذلك، ولجأت إلى أحضان الصمت تعتصم به من جديد وأخذت تمسح بيدها اللاهبة -
حيناً بعد حين - جبهتها فيسيل العرق منها ويندى
- ثم قالت بصوت موجع حزين:
- لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك. . . لم أعد أستطيع. . . يخيل إليَّ أني أوشك أن أموت
وبحركة لا شعورية أطلقت الأزرار ثوبها العنان فتفتح كله!
وبدأ ثديها الأيمن للعيان، فكان ضخماً كبيراً ينتهي بحَلَمة سمراء. . . شديدة السمرة. وقالت المرضع المسكينة شاكية متألمة:
- آه يا إلهي! ماذا أصنع؟ ماذا أفعل؟ لم أعد أستطيع!. . . وكان القطار قد عاد لاستئناف المسير بين الأزاهير الفواحة التي تنشر شذاها العبق الذي يشتد تضوعه في الأمسيات الدافئة. وفي بعض الأوقات كان يخيل إلى المرء أن زورق صيد وقف هادئاً فوق صفحة الماء الأزرق الساجي بشراعه الأبيض الساكن، وكانت صورته تنعكس في الأمواج، كما لو أن زورقاً آخر كان في المكان نفسه ولكن باتجاه معاكس، أي رأسه إلى أسفل. . .
ورفع الفتى القروي رأسه إلى المرضع وقال مضطرباً مغمغماً:
- ولكن يا سيدتي. . . يمكنني أن. . . أن أريحك مما تعانين!. . .
فنظرت إليه المرضع بطرف مريض كليل؛ وأجابته بصوت خفيض ذليل:
- أجل. . . إن أردت يا سيدي. إنك تسدي إلي يداً لا أنساها. لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك! لم أعد أستطيع. . .
وجثا الفتى على ركبتيه أمامها، وانحنت المرضع نحوه مقدمة إلى فمه، بحركة من حركات المرضعات المألوفة لديهن، حَلَمَة ثديها الدكناء. وخلال الحركة التي قامت بها المرضع، والتي أمسكت بها ثديها بيديها، كي تدنيه من الرجل الشاب، ظهر على الحلمة نقطة من اللبن، فأمتصها هذا بسرعة ورغبة ونهَم، وهو يقبض بشفتيه على الثدي الثقيل المنتفخ، كما لو كان يقبض على ثمر شهي!. أو فاكهة طيبة لذيذة. وأخذ الرجل يرضع لبن هذا الثدي بشره ورغبة، ونظام ودقة.
وطوق الشاب بذراعيه خصر المرأة، وأخذ يضغطها كي يدنيها منه أكثر، وكان يتناول لبنه بجرعات متباطئة متزنة ويميل برقبته يمنة ويسرة، كما يفعل الأطفال الرضع على التمام!
وفاجأته المرأة بعد حين بقولها:
- يكفي هذا المقدار من هذا الثدي، خذ الآخر الآن وتناول الثدي الآخر بإذعان وطاعة وخضوع. ووضعت المرأة يديها على الشاب، وأخذت ترسل أنفاسها، بهدوء نفس، وانشراح صدر، وهي تنشق عبير الورود والأزهار الممتزج بنسمات الهواء الرقيقة التي كانت حركات القطار تقذف بها إلى العربات. وقالت على حين غرة:
- أعتقد أنه يكفي هذا المقدار الذي ارتضعته
فلم يحر الشاب جواباً، وأستمر يحسو من هذا النبع الذي لا ينضب، مسبلاً جفنيه، كي يشعر بلذة أكبر، وسعادة أعظم
ولكنها أبعدته برفق وهي تقول:
- كفى. . . كفى. . . أشعر بتحسن شديد. إن صنيعك يا سيدي قد أعاد روحي إلى الجسد، وبعثني بعثاً جديداً
وأنتصب الفتى واقفاً، وهو يمسح شفتيه بظاهر كفه. فقالت له المرأة حينذاك، وهي تدخل في ثوبها، ثدييها الكبيرين اللذين ينفخان صدرها:
- حقاً لقد أسديت إلي يا سيدي يداً لن أنساها، أنني أشكر لك هذه المنة، وأحفظ لك هذا الفضل
فأجابها الشاب بغنة فيها امتنان وشكر وعرفان للجميل:
- ولكن عفوك يا سيدتي وغفرانك!. . . أنا الذي يجب علي أن أشكرك من صميم الفؤاد، وسويداء القلب. لقد انقضى علي يومان، يا سيدتي، لم أطعم خلالها شيئاً. . .
(دمشق)
عبد الغني العطري