الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 376
- بتاريخ: 16 - 09 - 1940
درس ينفع أبناء هذا الجيل
للدكتور زكي مبارك
يختلف الناس اختلافاً شديداً في قوة الحس ويقظة الروح. والحس والروح جارحتان من أعظم الجوارح الإنسانية، وهما السناد الأعظم للكاتب والشاعر والمفكر والفيلسوف، وبقدر اختلاف هؤلاء في النصيب الموهوب أو المكسوب من هاتين الجارحتين تختلف حظوظهم في السيطرة على أهواء السامعين والقارئين. والذي يقرأ تراجم الأكابر من الكتاب والشعراء والوزراء يرى أنهم كانوا في الأغلب أصحاب شهوات. وهنا يشتبه الأمر على القارئ المبتدئ فيسأل: كيف تجتمع العظمة والشهوة؟ وهل تكون الشهوة من وسائل العظمة؟ ونجيب بأن الخضوع للشهوة عيبٌ نهي عنه الحكماء، والذي يقترف الفجور تشبهاً بما وقع فيه عظماء الرجال هو مخلوقٌ سخيف، ومَثَلهُ مَثَل (فلان) وهو شخصٌ جيّد الخطّ، وقد شهد له بذلك أساتذته يوم كان تلميذاً في المدارس الثانوية، فلما سمح له الدهر بأن يكون أستاذاً في أحد المعاهد العالية، صار يقبِّح خطه عامداً متعمداً ليندرج في زُمرة العلماء، فقد كان سمع أن خطوط العلماء مَضرِب المَثل في القبح والغموض والاعوجاج!
ولا مؤاخذة يا فلان، فأنت تعرف مبلغ حرصي على الجهر بكلمة الحق. ومن هنا أشفق أشد الإشفاق على الشبان الذين يستهينون بالآداب والتقاليد، لأنهم سمعوا أن أعظم الرجال لم يكونوا يقيمون وزناً لمأثور الآداب والتقاليد. والفرق بين الحالين كالفرق بين إناء تملأه فيفيض وإناء يغلي فيفيض. فالرجل العظيم لا يقع - حين يقع - في الخضوع لإحدى الشهوات إلا وهو مغلوب على أمره بقوة الإحساس، وهو لذلك يظل سليم الشخصية الخُلُقية، ولا كذلك الشاب السخيف الذي يخضع للشهوات تشبُّهاً بالعظماء، فإن شخصيته الخُلُقية تنحل أبشع انحلال، لأنه لم يخضع لهواه طاعةً لقوة قهارة من الحس المشبوب، وإنما يخضع لهواه طاعةً لنزعة مرذولة من نزعات التقليد الممقوت.
يضاف إلى ذلك أن الشهوات المنسوبة إلى العظماء يغلب عليها التزوير والاختلاق، لأن واضعيها يرجعون إلى فريقين: فريق الفجرة الذين يهمهم أن يشاع أن الخلُق السليم ليس حجراً أساسياً في بناء العظمة الذاتية، وفريق الحاقدين الذين لا يتورعون عن خَلْق التهم في التشهير بمن يعادون من العظماء. ولو صح أن الشهوات المنسوبة إلى بعض أكابر الرجال
حقيقية لوجب القول بأن الأخلاق ليست إلا كلاماً في كلام، وأن الشهرة والجاهُ ينالان بالتحكم والسيطرة كما تُنال بعض الثروات بالغش والتدليس، وذلك قولٌ مردود. والذي يقف في التعرف إلى شخصيات العظماء عند ظواهر الهنوات محكومٌ عليه بالخذلان، لأن العظماء لهم قوىً خُلقية لا يفطن إليها عوام الناس، وتلك القُوى الخفية هي السرّ في نجاح أولئك العظماء، وهي ليست قُوىً عادية من التي يتمدح بمثلها من لا يملكون من المواهب غير الاستقامة وضبط النفس في حدود المبتذل من الشهوات، وإنما هي قوىً عارمة تمكِّن أصحابها من الجهاد بأمن وعافية في مكافحة الضغائن والحقود، والشدائد والخطوب.
وأذكر في هذا المقام ثورة بعض الناس على السيد جمال الدين الأفغاني وقد عابوا عليه أن يجلس في القهوات يوم كان ذلك من العيوب، فأولئك القوم لم يكونوا يرون قوة الخُلُق في غير البعد عن مواطن الشبهات، وفاتهم أن الجلوس على القهوة بالرغم من استهجانه في ذلك الوقت لم يكن في نظر السيد جمال الدين الأفغاني إلا حسنة من الحسنات، لأنه كان فرصة لدرس أحوال الجمهور والوقوف على ما اختلف وائتلف من نوازع الناس.
وأين الجلوس على القهوة من الشمائل الحقيقية لجمال الدين الأفغاني؟ وهل عرف المتألبون عليه لذلك السبب الحقير كيف استطاع بقوته الذاتية أن يكون حديث الوزراء والملوك في الشرق والغرب؟ وكيف استطاع بعظمته الروحية أن يتغلب على مصاعب الفقر والاغتراب؟ وكيف فرض عليه روحه العظيم أن يرفض معونة رفيقيه العظيمين محمد عبده وسعد زغلول وهو خارج خروج الطريد من الديار المصرية؟؟؟
وأذكر أيضاً شيخ الشيوخ محمد عبده فقد ألحّ حاقدوه في اتهامه بترك الصلاة ليجوز لهم الرجم بأنه لا يصلح لتولي الإفتاء، ولو فطن الجمهور إلى أن قالة السوء هي التي منعت الشيخ محمد عبده من الصلاة في العلانية لأدركوا أنه كان يخشى الوقوع في هُوّة الرياء، ولعله كان يريد أن يعرف كيف ينصره علام الغيوب على من يغتابونه ظالمين.
ومن هم أعداء محمد عبده؟ هل كانوا حقيقة من أحلاس المساجد؟ وهل كانوا غاية في الحرص على الصلاة والزكاة والصيام والقيام؟ إنما كانوا طلاب صيد، وكانوا بتجريحه يتقربون إلى إحدى الجهات، فحل عليهم غضب الله، ولم يبق لهم من الغنيمة إلا الإشارة من وقت إلى وقت بأنهم قالوا في ذلك الإمام كيت وكيت. وبعض الناس ينحصر مجده في
الشهرة باتهام الأبرياء!
ولو سلَّمنا جدلاً بأن الشيخ محمد عبده كان تارك الصلاة - ورحمة الله على العهد الذي كان فيه ترك الصلاة من العيوب، فقد خفتُ أن تصبح فريضة الصلاة من المجهولات عند أبناء هذا الجيل - لو سلمنا بذلك لكان الأمر عجباً كل العجب، لأن الشيخ محمد عبده كان يملك من القدرة على أهواء النفس ما يمكنه من أن يجود بثلاثة أرباع مرتبه على المعوزين والبائسين من الذين يمنعهم الحياء من إعلان الاحتياج، ولولا شهامة الشاعر عبد المحسن الكاظمي لما تعرضت مكارم الشيخ محمد عبده إلى الافتضاح، فكيف يجوز لرجل يُذلّ ماله هذا الإذلال أن يضعف عن أداء الصلاة وهي من وسائل المرائين في كسب ثقة الجماهير، إلا أن تكون صلته بربه أعظم من أن تحتاج إلى إعلان؟
لقد كان المصلون من الأزهريين يعدون بالألوف في عصر الشيخ محمد عبده، ومع ذلك لم نسمع بأنهم تنازلوا عن شيء من أرغفتهم في مواساة المحتاجين، وإنما سمعنا أن الشيخ محمد عبده مات فقيراً وأن منافسيه ماتوا وهم أغنياء.
وهل فكر أحد في القيمة الصحيحة لرجل يتغلب على الجدب والإمحال في الحياة الأزهرية لعهد مضى عليه أكثر من نصف قرن فيكون الفيصل بين الهمجية والمدنية، ويكون صلة الوصل بين القديم والحديث، ويفسِّر جزأين من القرآن وهو في رياض سويسرا حيث يطيب لسواه أن يأنس بحياة اللهو والفتون؟
هل فكر أحد كيف جاز أن يسيطر محمد عبده على تلاميذه تلك السيطرة العاتية، فيقضي السيد رشيد رضا عمره في شرح آرائه العلمية، وينفق الشيخ مصطفى عبد الرزاق أطيب أوقاته في توضيح مذاهبه الاجتماعية، ويتأثر الشيخ محمد المراغي خطواته في الإصلاح الديني وفي سائر الشؤون حتى صار من العجب أن يكون خط الشيخ المراغي صورة من خط الشيخ محمد عبده مع صعوبة التشابه في الخطوط؟. . . كيف أمكن ذلك أيها الناس؟
ألا يكون ذلك دليلاً على أن الشيخ محمد عبده كان يعيش في حماية حصانة خُلقية لم يدرك أسرارها المتألبون عليه من الزملاء الأغبياء؟
وقد أشرت في الطبعة الثانية من كتاب (عبقرية الشريف الرضي) إلى ما صنع الشيخ المراغي مع علماء الأزهر الشريف، فقد شاع أن الشيخ المراغي نسى علوم الأزهر لبعد
عهده بالحياة الأزهرية، فرأى الرجل أن يلقي دروساً علنية في علم الأصول ليريهم أن الذهن الثاقب كالسيف لا يضرُّه طول العهد بالإضمار في غياهب القراب.
وما قيمة العلوم النقلية بجانب العلوم المكتسبة من فهم سرائر المجتمع؟. . . وأين الأزهري الذي يملك القدرة على محاورة مدير الجامعة المصرية في الحفلات كما يقدر الشيخ المراغي على ذلك بسهولة لا تعرف التكلف والافتعال؟
كنا مرة في المفوضية العراقية بالقاهرة، والتقى لطفي باشا بالشيخ المراغي، وأقبل الشيخ رشيد رضا يقول: هذا لطفي باشا مدير الجامعة المدنية، وهذا الشيخ المراغي مدير الجامعة الدينية، والدين فوق المدنية. فابتسم لطفي باشا وقال: هذا حق ما دام الشيخ هنالك. وأجاب الشيخ المراغي: ما دام لطفي باشا في الجامعة المصرية فهي الشقيقة الرءوم للجامعة الأزهرية، وما كان الدين إلا رسول الحضارة والفهم والعقل. ثم تواتر الحديث بين الرجلين في غاية من التلطف والترفق والعطف.
ومن مزايا هذا العصر في مصر أن تكون الجامعة الأزهرية - وهي على الضفة الشرقية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً نحو الغرب، وأن تكون الجامعة المصرية - وهي على الضفة الغربية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً إلى الشرق.
وبذلك لا يكون من الشر أن يقال إن مصر بلد الغرائب، لأن الغرائب لا تجتمع في مصر إلا وهي صورة من الانسجام المقبول في شرعة الأدب والذوق.
ماذا أريد أن أقول؟ أنا أريد القول بأن الأخلاق الحقيقية للعظماء هي أجل وأدق من أن يفهمها عوام الناس، وما تعلَّق متعلقٌ بهفوة صورية لرجل من الأكابر إلا وهو غافلٌ جهول، فما تسمح قوانين الحياة بأن يسود رجل إلا وهو على جانب من متانة الخُلُق، وسجاحة النفس، ورصانة الطبع، وطهارة القلب، ولو كره المتزلفون إلى المجد بالوصولية والضَّعة والاستخذاء.
دلوني على عظيم واحد أُثِر عنه الانقياد لهواه في صباه.
ما نبغ في الدنيا نابغٌ إلا بعد أن قدم شبابه قُرباناً للمجد. وكان أشياخنا يقولون: (أعط العلم كلك يعطك بعضه). فما بالُ بعض الشبان في مصر أو في غير مصر يعرفون مراتع اللهو قبل الأوان فتزدان بوجوههم مقاصير الملاعب والمراقص، ويكون لصباهم تاريخ في حياة
الفتون؟ وما بال بعض الشبان يعرفون سُكْر الخمر وهم على خطر من سكر الشباب؟
أنتم لا تعرفون نعمة الله عليكم، أيها الجهلاء، والجهل هو الشباب في لغة أهل العراق.
من ألفاظ مصر كلمة (الغندرة) والغندرة الحقيقية للشاب هي أن يكون بين الأوائل في الدراسة الابتدائية والثانوية والعالية. الغندرة الحقيقية للشاب هي أن يكون قرة عين لوطنه ولأبويه، ولن يكون كذلك إلا إذا تفوق في جميع الشؤون. الغندرة الحقيقية للشاب هي أن يفوز فوزاً مطلقاً بثقة أساتذته وزملائه بحيث يتقدم إلى معترك الحياة وهو مرفوع الرأس وضَّاح الجبين.
ما بال بعض الشبان يسابقوننا إلى المشارب والملاعب؟
نحن نغشى تلك الأماكن من حين إلى حين لندرس أخلاق الجيل، فلا تكونوا موضوع الدرس، ولا تعرِّضوا سمعتكم لسهام الأقلام، فما يبقى على نوشها أديم صحيح.
إن كان غرّكم أن يتظرف رجلٌ مثلي فيقول إنه دخل الملعب الفلاني أو الحانة الفلانية، فأنا أتحداكم أن تثبتوا أني شربت فنجان قهوة في غير داري قبل أن أظفر بإجازة الدكتوراه أو قبل أن أبلغ الثلاثين.
وما أقوله عن نفسي أقوله عن الأدباء الذين يسيطرون على عقولكم وإفهامكم في هذا العهد. فالدكتور طه حسين في صباه لم يعرف من النعيم غير كرع ماء التين. والأستاذ عباس العقاد لم يعرف في شبابه غير مقارعة الأحاديث في سهرات أسوان، وقد زرته قبل عشرين سنة في دار تواجه المقابر بحيث لا يجد الماء إلا بفضل السقاء. والأستاذ إبراهيم المازني قضى طلائع شبابه في دار جافية لا تعرف الأنس بغير سحالي الصحراء. والأستاذ عبد العزيز البشري شهد على نفسه بأنه كان يتغدى بخمسة ملاليم مع أن أباه كان عمدة حيّ البغالة وكانت إليه مشيخة الأزهر الشريف.
لا تخدعوا، أيها الشبان، بالأدباء الذين يتحدثون عن هواهم الأثيم في باريس، أو غير باريس، فلن يكونوا ألأم مني، ونحن لا نسمح لأحد بأن يكون أحرص منا على الواجب، ولو خطر في البال أن في الشبان من يحاول سبقنا إلى المجد بقوة الكفاح لقطعنا رأسه بلا ترفق، ولو كنت أتوهم أن في أبناء هذا الجيل من يسدّ المسالك في وجهي بالسباق في ميادين الدرس والبحث والتنقيب لطويت عنه هذا النصح، فما أحب أن يكون لي في هذه
الميادين خصم أو قريع.
في سنة 1927 خطر للدكتور طه أن يغمز أساتذة اللغة العربية في أحد دروسه بالجامعة المصرية فقال: كيف يجوز لهؤلاء أن يتولوا تدريس الأدب في المدارس الثانوية أو العالية وليس فيهم من تصفح ديوانين اثنين من دواوين الأدب العربي؟! فنهضتُ وقلت: (أرجو استثنائي من هؤلاء، فأنا أحفظ ثلاثين ألف بيت من الشعر العربي وأستطيع إنشادها جميعاً في أي وقت).
فابتسم الدكتور طه وقال: أنا لا أقصد أساتذة الجامعة المصرية. ولم يكن كلامي ضرباً من التحدي المؤقت، وإنما كان حقاً من الحق. وما اكتفيت بالثلاثين ألفا إلا إشفاقاً على طلبة الجامعة، فقد كانت مختارات البارودي من بعض محفوظاتي، وكنت أحفظ دواوين برمتها من الشعر الفرنسي، وقد حفظت معظم كتاب تليماك عن ظهر قلب في سنة 1919 وكان المسيو كليمان حدثني أن أسلوب فنلون هو المطمع بالممتنع. ولم أكن أعرف نظام الجذاذات عند الشروع في تأليف كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فكنت أرجع إلى الشواهد في مؤلفات الغزالي بغير احتياج إلى دليل، فقد كانت مؤلفاته مسطورة في ذهني بأبوابها وفصولها وصفحاتها بحيث أجد الشاهد حين أشاء، بلا عناء.
وما استطعت ذلك كله لأن ذاكرتي أقوى من سائر الذاكرات، أو لأني أذكى من سائر الناس، وإنما استطعت ذلك لأني لا أعرف المسامحات في صيف أو شتاء. وما أذكر أبداً أني انقطعت عن الدرس في يوم من أيام المواسم والأعياد، حتى أيام البواخر قرأت فيها أشياء وكتبت أشياء. وهذا بالتأكيد حال كثير من الأدباء في هذا العهد، وقد يكون فيهم من يفوقني في الصبر على مكاره الدرس والتأليف، فليست الحظوظ أو الظروف هي التي جعلت بعض أدبائنا أئمة مرموقين في الأقطار العربية والإسلامية، وإنما هو الكدح الدائم والكفاح الموصول.
أما بعد فبأي حق يجوز لطالب العلم أن يجلس في أحد المشارب وفي يده كأس؟
وبأي حق يتسامى الشبان الظرفاء إلى السيطرة الأدبية والعلمية وهم يدفعون مهرها من الكسل والخمود والاعتماد على وساطة الشفعاء؟
من حق كل إنسان أن يتخير مصيره كيف شاء، فلن يكون الناس جميعاً نوابغ وعبقريين.
أما طالب العلم فلا يملك هذا الحق، لأن الأمة تفرض عليه أن يكون مضرب المثل في الحرص على الفهم والاجتهاد والتحصيل، وهي لن ترضى منه بالقيمة الصغيرة في مغانمه العلمية، لأن مصر في هذا العهد لم يبق فيها مكان لغير المتفوقين، ولكن أين من يفهم هذه الحقيقة من أبناء هذا الجيل؟
لقد كثرت الشكاية من وقف صفحات الجرائد والمجلات على طائفة معروفة من الباحثين، وكثر تضجر الشباب من طغيان الكهول. وهذا حق، ولكنه سُنّةٌ طبيعية، والأحمق هو الذي يطمع في تبديل نواميس الوجود بالتوسل والرجاء.
وأنا أكشف الستار عن بعض الدسائس الأدبية فأقول:
في مصر اليوم إصرار عنيف على الاستبداد بمغانم الحياة الفكرية، وأولئك المستبدون يصلون النهار بالليل في تزويد عقولهم وإفهامهم بما يجدّ في عالم الآداب والفنون، ولا يمكن زحزحة هؤلاء المستبدين بالتشكي والتوجع، وإنما يزحزحون بمناكب أضخم من مناكبهم، وتلك المناكب هي العقول العاتية التي تأنف من الاكتفاء بالزاد القليل، وترى القناعة من صور الفناء، وقد علَّل أحد الشبان نفسه فقال: سيأتي يوم يموت فيه هؤلاء الكهول ويخلو الميدان.
وهذا أيضاً حق، ولكن خيبة مصر في أبنائها ستكون فظيعة حين يصح أن موت المتفوقين هو الفرصة لتقدم المتخلفين.
إن مصر تنتظر شباناً أقوياء لا يطيف بأذهانهم مثل ذلك الخيال السقيم. مصر تنتظر شباناً يعيشون عيش التبتل والتنسك والاعتكاف في زوايا المدارس والمكاتب. مصر تنتظر شباناً لا يعرفون من أدوات الزينة غير القلم والكتاب. مصر تنتظر شباناً يؤمنون بأن المجد الأدبي لا ينال بالتشهي والتمني، وإنما ينال بالصبر على أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تتأثر اللغة أيما تأثر بحضارة الأمة، ونظمها وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها العقلية، ودرجة ثقافتها، ونظرها إلى الحياة، وأحوال بيئتها الجغرافية، وشئونها الاجتماعية العامة وما إلى ذلك. فكل تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير. ولذلك تعد اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب: فبالوقوف على المراحل التي اجتازتها لغة ما، وعلى ضوء خصائصها في كل مرحلة منها، يمكن استخلاص الأدوار التي مرَّ بها أهلها في مختلف مظاهر حياتهم.
فكلما اتسعت حضارة الأمة وكثرت حاجاتها ومرافق حياتها ورقى تفكيرها، وتهذبت اتجاهاتها النفسية، نهضت لغتها، وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودقت معاني مفرداتها القديمة، ودخلت فيها مفردات أخرى عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، وهلم جرا. واللغة العربية أصدق شاهد على ما نقول، فقد كان لانتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام، ومن النطاق العربي الضيق الذي امتازت به مدنيتهم في عصر بين أمية إلى الأفق العالمي الواسع الذي تحولوا إليه في عصر بني العباس، كان لهذين الانتقاليين أجلّ الأثر في نهضة لغتهم ورقي أساليبها، واتساعها لمختلف فنون الأدب، وشتى مسائل العلوم.
وانتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة يهذب لغتها، ويسمو بأساليبها، ويوسع نطاقها، ويزيل ما عسى أن يكون بها من خشونة، ويكسبها مرونة في التعبير والدلالة. وإن موازنة بين حالة اللغة العربية في عهد بداوة العرب قبل الإسلام وحالتها في عهد حضارتهم الإسلامية، أو بين ما كانت عليه عند أهل البادية في عصر ما وما كانت عليه في الحضر في نفس هذا العصر لأصدق برهان على ذلك. وإن البدوي الذي لم يلهمه شيطانه في مدحه للأمير أحسن من قوله:
أنت كالكلب في حفاظك للعه
…
د وكالتيس في قراع الخطوب
قد استطاعت قريحته بعد أن هذبتها حضارة بغداد أن تجود بمثل قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر
…
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وما يحدث بين حضارة الأمة ولغتها من توافق وانسجام، يحدث مثله بين لغتها ومظاهر بيئتها الجغرافية. فجميع خصائص الإقليم الطبيعية تنطبع في لغة سكانه. ومن أجل ذلك نشأت فروق كبيرة في مختلف مظاهر اللغة بين سكان المناطق الجبلية وسكان الصحراء وسكان الأودية؛ وبين سكان المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية. ومن ثم كذلك نشأت فروق غير يسيرة بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، بل بين لهجات اللغة الواحدة.
ففي كل لغة من لغات الفصيلة السامية مثلاً، تتمثل حالة البيئة التي سكنها الناطقون بها. فالآرامية التي نشأت في الشمال جافة الألفاظ قليلة المفردات، ثقيلة التراكيب، مضطربة القواعد، لا تكاد تواتي الأساليب الشعرية الراقية. والعربية التي نشأت في الجنوب أعذب اللغات السامية ألفاظاً، وأغناها مفردات، وأدقها قواعد، وأكثرها مرونة واتساعاً لمختلف فنون القول. والعبرية التي نشأت في منطقة متوسطة بين هاتين المنطقتين تمثل في رقيها منزلة بين منزلتي الآرامية والعربية؛ فقد فاقت الأولى ولكنها قصرت عن أن تدرك شأو الثانية، فألفاظها وأساليبها تتسع لكثير من مناحي القول؛ ولكن العربية تفوقها في مرونة التعبير والترف اللغوي وسعة الثروة في المفردات، وقواعدها سهلة مضبوطة، ولكنها لا تبلغ في دقتها وتنوعها مبلغ قواعد اللغة العربية. وتظهر هذه الفروق حتى من ناحية الأصوات، فالآرامية حوشية الأصوات، صعبة النطق، تتلقى في كلماتها المقاطع المتنافرة والحروف الساكنة؛ والعربية عذبة الأصوات سهلة النطق خفيفة الوقع على السمع، تقل في كلماتها الحروف غير المتحركة، ولا يكاد يجتمع في مفرداتها ولا في تراكيبها مقاطع متنافرة، ولا يلتقي في ألفاظها ساكنان. والعبرية وسط بين هذه وتلك: فهي لم تصل في سهولة اللفظ إلى درجة العربية ولا في صعوبته إلى درجة الآرامية؛ يتخلل كلماتها حروف المد في نطاق أوسع من الآرامية، وبدرجة تذلّل كثيراً من ظواهر الصعوبة في النطق، ولكن بدون أن تصل في هذه الناحية إلى الشأو الذي وصلت إليه لغت القرآن.
ولهذا السبب نفسه اختلفت اللهجات الإغريقية القديمة. فعلى الرغم من أن بلاد الإغريق
كانت تشغل منطقة ضيقة فإن الاختلاف اليسير الذي كان بين أجزاء هذه المنطقة في طبيعتها الجغرافية قد أحدث بين لهجات سكانها فروقاً ذات بال. فاللهجة الدورية مثلاً خشنة الألفاظ، حوشية المخارج، صعبة النطق، ثقيلة الأصوات، على حين أن اللهجة اليونانية رخوة الكلمات، سهلة النطق، عذبة الأصوات، يتخلل كلماتها كثير من حروف المد وأصوات اللين.
ومظاهر النشاط الاقتصادي تطبع اللغة كذلك بطابع خاص في مفرداتها ومعانيها وأساليبها وتراكيبها. ومن ثم اختلفت مظاهر اللغة في الأمم والمناطق تبعاً لاختلافها في نوع الإنتاج، ونظم الاقتصاد، وشؤون الحياة المادية، والمهنة السائدة (الزراعة، الصناعة، التجارة، الصيد، رعي الأغنام. . . الخ). وقد تؤثر هذه المظاهر في أصوات اللغة نفسها. فقد يؤدي نوع العمل الذي يزاوله سكان منطقة ما إلى تشكيل أعضاء نطقهم في صورة خاصة تتأثر بها مخارج الحروف ونبرات الألفاظ ومناهج التطور الصوتي.
واللغة مرآة ينعكس فيها كذلك ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة، فعقائد الأمة، وتقاليدها، وما تخضع له من مبادئ في نواحي السياسة والتشريع والقضاء، والأخلاق والتربية وحياة الأسرة، وميلها إلى الحرب أو جنوحها إلى السلم، وما تعتنقه من نظم بصدد الموسيقى والنحت والرسم والتصوير والعمارة وسائر أنواع الفنون الجميلة. . . كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها في الأصوات والمفردات والدلالة والقواعد والأساليب. . . وهلم جرا.
وتتشكل اللغة كذلك بالشكل الذي يتفق مع اتجاهات الأمة العامة ومطامحها ونظرها إلى الحياة. فاتجاه الإنجليز مثلاً إلى الناحية العملية قد صبغ لغتهم بصبغة مادية في مفرداتها وتراكيبها؛ حتى إنه ليقال فيها: (دفع زيارة أو تحية أو انتباها) و (أنفق وقته في كيت وكيت) ، ،. . . . ' '. بدلاً من (أدى زيارة) و (قدم تحية) و (أبدى انتباهاً) و (قضى وقته في عمل ما).
وما يكون عليه الأفراد من حشمة وأدب في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينبعث صداه في لغتهم ألفاظها وتراكيبها، فاللغة اللاتينية لا تستحيي أن تعبر عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعبارات مكشوفة، ولا أن تسميها بأسمائها
الصريحة. على حين أن اللغة العربية بعد الإسلام تتلمس أحسن الحيل وأدناها إلى الحشمة والأدب في التعبير عن هذه الشؤون، فتلجأ إلى المجاز في اللفظ وتستبدل الكناية بصريح القول: القبل، الدبر، قارب النساء، لمس امرأته، قضى حاجته. . . الخ، ولقد كان لها بهذا الصدد في ألفاظ القرآن الكريم وعباراته أسوة حسنة:(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)؛ (واهجروهن في المضاجع)؛ (لمستم النساء)؛ (وقد أفضى بعضكم إلى بعض)؛ (فاعتزلوا النساء في المحيض)؛ (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة مؤمنة من قبل أن يتماسا). . . وما إلى ذلك من كريم العبارات ونبيل الألفاظ. وما يبدوا في اللغة العربية بهذا الصدد يبدو مثله في اللغات الأوربية الحديثة وخاصةً الشمالية منها، وأكثرها تحرجاً في هذه الناحية اللغة الإنجليزية، فالبطن مثلاً لا يعبر عنه باسمه الصريح بل يطلق عليه في الغالب (أي المعدة) وسراويل الرجل يطلق عليها (أي لا يمكن التعبير عنه)؛ وسراويل المرأة تطلق عليها كلمة معناها الأصلي (الجمع أو التركيب). . وهلم جراً.
وخصائص الأمة العقلية ومميزاتها في الإدراك والوجدان والنزوع، ومدى ثقافتها ومستوى تفكيرها ومنهجه، وتفسيرها لظواهر الكون، وفهمها لما وراء الطبيعة - كل ذلك وما إليه ينبعث كذلك صداه في لغتها. ففي الأمم الأولية الضعيفة التفكير، المنحطة المدارك، تغزر الكلمات الدالة على المحسات والأمور الجزئية، وتنعدم أو تقل الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، وتخلو دلالة المفردات من الدقة والضبط، فيكثر فيها الخلط واللبس والإبهام، وتعرو القواعد أو تكاد تعروا من ظواهر التصريف والاشتقاق وربط عناصر الجملة والعبارة بعضها ببعض، ويضيق متن اللغة فلا يتسع لأكثر من ضروريات الحياة. ومن هذا القبيل الشعوب الصينية: فلغاتها أولية ساذجة في نواحي الألفاظ والدلالة والقواعد، تكفي للتعبير عن ضروريات الحياة، وشئون الصناعة اليدوية، والأدب السهل، والتأمل الضحل؛ ولكنها لا تتسع لعلم ولا لفلسفة ولا لدين بالمعنى الصحيح لهذه الكلمات، حتى إنه لا يوجد فيها اسم للإله؛ ويعبر فيها عن مسائل ما وراء الطبيعة بعبارات ملتوية مبهمة مضطربة الدلالة في أذهان أهلها أنفسهم.
وفي الشعوب السامية القديمة، إذ كان يسود التفكير الديني، وتفسر شؤون الحياة تفسيراً
سهلاً، وتنسب جميع الظواهر الطبيعية إلى تدخل الأرواح والآلهة، ويسيطر على المدارك الكسل والخمول، وتنفر الأفكار من البحث العلمي، وترغب عن التأمل الفلسفي - في مثل هذه الشعوب ترى اللغات سهلة المأخذ، ساذجة الدلالة، ضحلة المعاني، قصيرة الجمل، قليلة الروابط: تضع أجزاء الجملة وفقرات العبارة بعضها بجانب بعض، معتمدة في بيان وظيفة الألفاظ والجمل وعلاقة كل منها بما عداه على الذكاء المخاطب وسياق الحديث وترتيب المفردات. . . وما إلى ذلك؛ والروابط التي تشتمل عليها قليلة العدد، غير متنوعة المعنى، يرجع معظمها إلى علامات تدل على العطف وما شاكله. وفي الشعوب الهندية الأوربية حيث ينشط التفكير، ويعمق الإدراك، ويدق البحث، وتتجه العقول إلى التأمل الفلسفي، وتميل إلى تفسير ظواهر الكون والمجتمع الإنساني تفسيراً علمياً يربطها بأسبابها وقوانينها العامة - في مثل هذه الشعوب تكثر في اللغات الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، والتراكيب المعبرة عن الحقائق العامة، وتغزر أزمنة الأفعال، وتطول الجمل وتتعدد أجزاؤها، وتتنوع الروابط وتختلف دلالاتها فتتسع للتعبير عن دقيق الوجدان، وعميق الإدراك، وحقائق الفلسفة والعلوم.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون
نحن وفرنسا
بين جنات الأرواح
وجحيم الأجساد
للأستاذ نجيب محمد البهبيتي
الصبح ينبلج في صمت عميق، وأعقاب الظلمة تذيبها تلك الأطياف المتهامسة من ضياء شمس لا تزال مختفية تحت الآفاق؛ والبحر من بعيد يهدر هديراً لا ينقطع، ويرغى إرغاء لا يلبث أن يزول بعد أن تزول العاصفة، وبعد أن يسكن اضطرابها. . . وهي لا بد أن تسكن. والنيل عن أيماننا يجري زاخراً عارماً في هدوء ووقار، موكب الدهر الجبار قد أثقلته السنون، وملأته الحكمة والتجربة. هذا النيل لا يزال يجري في نظام كأنه في فيضانه وانقباضه بقدر، أغنية خالدة منسقة قدسية تتجاوب فيها الفواصل، وتتردد في مقاطعها أنغام الحياة والبشر.
ما أشبه هذين بأسلوبين من أساليب التفكير والنظر إلى الأشياء. قوم يثورون وينفعلون وتصطخب نفوسهم بالحلو والمر، وتتأجج صدورهم بالعاطفة، وتفيض الكلمات على ألسنتهم تعبر عن قوة الثورة، وحدة الصخب. . . ولكن الانفعال لا يبقى، ولا يخلد، وهو لا بد زائل بزوال علته، وقد يتجدد مرة أخرى وغيرها كما تتجدد ثورة البحر حين تهتاجه العاصفة، ولكنه لابد أن يخمد. وأصحاب هذا الضرب من التفكير أشبه بالشعراء؛ ولكن الشعراء حين يفعلون ذلك يبينون عن خفية من خفايا النفس، ويكشفون عن صورة من صورها التي لا تتناهى، فهم يضيفون هذا إلى تراث النفس البشرية. ولا يجب أن نتناول قضاياهم على أنها حقائق، وإنما يجب أن ننظر فيها على أنها مرايا لحالات تمر بالنفس عابرة؛ فهي إنما تؤخذ ليستخرج منها علم، ولتوضع على مقتضاها الكليات كما يقول المناطقة.
وقوم آخرون يجرون في وزن الأشياء على قياس، يزنون الصغيرة والكبيرة، ويعرفون أن في وجود حقائق باقية خالدة، وأنها جديرة بالكشف، قمينة بالتنقيب والبحث، ينظرون إلى الأشياء من حيث قيمتها في الوجود، ومن حيث بقائها الحقيقي، ومن حيث خيرها الأبعد لا
من حيث خيرها القريب. وهؤلاء لا يأخذ بخناقهم الهوى، ولا يجيبون لداعي الانفعال، وقد يكونون أشد من الطائفة الأولى انفعالاً، وقد تكون نفوسهم أعرق في تأججها وثورتها، وقد يذوبون إشفاقاً وألماً، لما عسى أن يمر به الآخرون مرور العابرين. ولكنهم يعلمون أن الحقائق تطلب لذواتها في غير طويل وقوف عند الآلام والمسرات، ينظرون إلى الأشياء في وقار النيل وانتظام فيضه وانحساره، وفي سكون الصبح واستنارته، قد خلصوا نفوسهم من شوائب الحقد وأدران الشماتة، ونسوا ما لقيت أجسادهم، فسموا بنفوسهم إلى مسالك النجم، وترفعوا عن أوغار الضعة.
كل كائن يستطيع أن يفرح حين يرى عدوه صريعاً تحت أقدامه، فهذه أقرب العواطف وأرخص الأحاسيس، ولكن ليس كل إنسان يستطيع هنا أن يسد بقلبه تلك الثغرة من الفرح وأن يضع يده على موقع ذلك السهم ليخفيه فيه، ثم ينظر إلى عدوه في ألم حقيقي لأن إنساناً قد سقط، ولأن روحاً قد فاضت، ولأن نفساً قد تخلصت من سجون الجسد المغري شيطانه المهلكة شهواته.
هذان أسلوبان من التفكير البشري، ولم أشأ أن أصطنع أولهما، ولكني أصطنع ثانيهما، ولست بهذا متصوفاً، ولست بهذا مرتفعاً فوق الحياة أعيش في برج من العاج، وأحيا في فردوس الأحلام، وأكبر نفسي عن دنيا الواقع بأفراحها وآلامها، فإنما أحسست هذا كله، وعانيت من مره وزقومه أشد ما يعاني بشر، ولكني أدع دائماً في جانب من نفسي بقية من الاتزان والشرف، أضع فيه دائماً مثالاً من مدنيتنا الروحية التي حملها الشرق إلى الوجود أمانة تنوء تحتها نفوس أولي القوة. أضع دائماً نصب عيني ما بشرت به نفوس كرام من آبائنا في كل أطوار التاريخ، وأنابه وفيّ لأهلي وبني جلدتي، آخذ بيدهم إلى المحافظة على أعز ما ورثوه عن ماضيهم، وأقوم ما بشرت به كل الديانات التي نبعت في الشرق، وفاضت على الدنيا خيراً ونعيماً وسعادة. ليس في دين من الديانات التي انبعثت في الشرق دين يطالب بالثأر وإن أمرت كل هذه الأديان بالقصاص، وأجازت إلى جانبه العفو، ونهت عن التمثيل، وكان الغرض من هذا الإصلاح، ولم يكن الانتقام وإلا لما أجازت العفو. ولنا في أخلاقنا، بعد هذا، التي ورثناها عن هؤلاء الأمجاد ما يجعلنا نكبر فوق الضغينة، ونتناول الأشياء تناولاً رحيماً، فيه إباء العفو وكبرياء المتألم الكريم.
في هذا ذلك المعنى الخلقي السامي، وفيه أيضاً محاولة للوصول إلى الحقيقة عن طريق العدل، على طريقة الفلاسفة التي لم ترضك؛ وفيه بعد هذا تطهير للنفس من آلام تخلقها الأحقاد، لا يصلى نارها الجيل الحاضر وحده، ولكن يتلظى بها بعد أجيال تأتي، وتقوم بها في النفس قياماً دائماً مثارات الخلاف، ولا يتحقق بها أبداً بين الشرق والغرب وفاق أو لقاء.
تضرب لي يا عبد المنعم مثلاً بما في أوربا اليوم من صراع تتداعى فيه أركان أقدس ما وقر في النفس الإنسانية من مُثُل وأخلاق حاسباً أن من الخير لنا أن نتبعه فنقول: (إننا نشاهد أمماً حرة مثقفة تحطم حياة أمم أخرى عالمة مثقفة حرة في سبيل إرضاء ما تعتقده كرامتها). . . إلى آخر ما قلت.
إن هذا قائم حقاً يا عبد المنعم، ولكن هل تعتقد أن ما تفعله أوربا الآن يجب أن نفعله، وأن ندعو إليه، وأن نعمل في سبيله؟ هل تعتقد أن هذه الأجيال تعيش ربع قرن تحمل بين جنباتها بذور الحقد، وتنميها وتعمل للانتقام من جارتها، تفكر في هذا الليل والنهار، وتقف عليه كل جهودها وتراحي نشاطها، تصوم لتبني آلة الخراب، ثم تدفع بعد هذا بزهرة شبابها ليحطموا غيرهم وليتحطموا، ولتشقى بهم بعدهم أجيال وأجيال - هل تعتقد أن هذه القطعان البشرية التي تساق إلى الجحيم سوقاً في غير رحمة قد عاشت العيشة التي تطمح إليها الدنيا، وأن هذه النفوس قد نالت من احترام أساتذتها وقادتها ما ترضاه أنت لقومك وبني جلدتك؟ وهل يعوض هذه الضحايا التي لا تنتهي أن يستمتع بالحياة من بعدهم قوم آخرون إن صح أن هذا سيكون؟
إن أمماً كثيرة في التاريخ قد نالت مكانتها في الدنيا عن طريق تحقيق المثل العليا، وهذه قد احتفظ لها التاريخ بأمجد الذكر؛ وأمماً أخرى قد أقامت نفسها على حد تعبيرك - على بركان من نوازع الفطرة الأولى فلم تلبث أن انهارت كما ينهار القصر يبنى على الرمل. ذلك أن تلك المثل الأخلاقية لم تأخذ مكانتها في وجودنا إلى الآن إلا لأن التجربة قد خلصتها واصطفتها، وأثبتت أنها كالحجر الكريم انكشفت للباحث بعد طويل العناء، ومكابدة الآلام، من بين أكداس ضخمة لا تحصى من سقطات الناس وإصاباتهم.
فإن أردنا أن نأخذ صفوف الدعاة فلندع إلى الخير، ولننس الانتقام، أما أن تكون فينا
الوحشية اللازمة لكل حياة كريمة فذلك ما أخالفك فيه إن كنت تريد الوحشية امتلاء النفس بالحقد على عدوك، والتهليل إذا سقط أو أصيب لأن هذه ليست من شيمنا، وأما إن كانت الرجولة والقوة الجسدية، والابتعاد عن النعومة الناشئة عن الترف، ورد المعتدي فذلك ما أوافقك فيه ولا أوافقك على غيره. ذلك أن رد الباغي شيء، والدعوة إلى الحقد عليه والشماتة به شيء آخر، كما أن تقدير سيئات عدوك لا يجب أن تعرف مواضع قواه كما تعرف مواضع ضعفه؛ أما تصويرك إياه كما يحلو لك، وكما تتمناه، وكما يزينه لك هواك ورغبات نفسك فأمور لم تكن في يوم من الأيام سنة من سنن الشرق، ولا تقليداً من تقاليده.
وإذا كنا الآن نقف نفوسنا موقف المؤرخين من هذه الأمة الجليلة فيجب أن ننتحل صفة الإنصاف، ويجب ألا ننسى أولاً أن الناس إخوان، ويجب ألا ننسى المبدأ الذي سبقنا إلى وضعه الغربيين: وهو أن العقاب ليس معناه الانتقام ولكن غايته الإصلاح؛ وسيكون من هذا لأعدائنا درس إن صح وصفهم بهذا الوصف.
إن لمدنية أوربا وجهين ككل مدنية: وجه مادي ووجه معنوي. أما المادي فهو تلك الصور الظاهرة التي تتكيف فيها سبل العيش ووسائله. وأما الوجه المعنوي فهو الخلاصة المجردة لتلك المبادئ التي تنتظم على مقاييسها العلاقات بين الأمم والأفراد. وهذا الوجه الأخير تجده في تاريخ كل أمة شاملاً لكل مثلها في الأخلاق والشرع ولكل ما عسى أن يكون قد استخلصته عقول أبنائها من أصول علومها وفنونها ومختلف صور حضارتها. وتجد هذا دائماً في عصور اتزان النفس البشرية، وفي فترات اطمئنانها، وفي الأيام التي لا تهتز فيها لحادث جلل: تجده دائماً بحيث يرمي إلى تحقيق الخير المطلق للناس على السواء، في غير نظر إلى أمة دون أخرى؛ أي أنه ينتفي فيه حب الذات والأثرة الفردية أو القومية. فلا تكاد تحس فيه تلك النعرة العنصرية التي إنما تكون دائماً رد فعل لحس الضعف الطارئ على أمة من الأمم لنكبة أصابتها، ونازلة حلت بها فزعزعت من إيمانها بنفسها فهي تحاول التغلب على هذا الضعف، وتقوية نفسها بتلك النفخة تصطنعها وتدعو إليها، وقد تنخدع بصوابها، فتؤمن بأنها حق، وتغلو في الإيمان بها حتى لترفع بها نفسها على هام الشموس. وقد يكون الداعون إلى هذا في الأمة المقهورة الباحثة عن التعويض أتفه الناس ولكنها تستجيب لهم، وتهتدي بهديهم لأن دعوتهم صدى لذلك الحس الفطري الذي يدفع إليه قانون
الحياة وحماية الذات.
ولذلك يجب إهمال هذا الوجه الشاذ لأنه عابر في حياة الأمم وإن ترك أثراً إيجابياً في حياة بعض الأجيال، فتبقى الصورة الإنسانية التي تحدثت عنها، وهذه تكون نظرياً سليمة لا غبار عليها، ولكن يأتي دور التطبيق فتتعرض هذه المثل لغوايات الأفراد، وتضطرب بها الأهواء، ويعمل فيها قرب الفرد وبعده من الحيوانية التي لا تزال عنصراً أساسياً في كيانه.
ولقد ضربت لهذا مثلاً في كلمتي السابقة باستيقاظ العصبيات في الإسلام مع نهيه عنها ومع ما حاوله من قتلها ولما يكد يمر على بدء الدعوة نصف قرن، وقلت إن الأمم في هذا سواء، إلا أنها تفترق في ذلك القدر الباقي في نفوس أبنائها من أثر تهذيب تتركه التعاليم، أو يسطره عليها قدم عهد بالحضارة المادية. فإذا كان بعض أبناء الأمة الإسلامية قد أثاروا العصبية فتركت هذه مضاعفاتها في حياة المسلمين وتاريخهم فليس ذلك ذنب الإسلام، ولا ذنب تلك الطبقات منهم التي دعت إلى أسمى المبادئ، وحاولت بها أن ترتفع بالإنسان عن مرتبته الحيوانية فأباه عليه طبعه وارتد إلى حيث كان. ولكننا في الحكم على المسلمين ننسى دائماً سيئات الأجيال التي لم تحسن لنذكر ذلك الإرث الخالد في تاريخ الإنسان (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فالشر عابر والخير باقٍ دائماً، لأنه حقيقة منتزعة من صميم النفس عن طريق التجربة والامتحان.
لهذا قلت لك يا عبد المنعم إننا إن حكمنا على فرنسا فيجب أن نحكم عليها على أساس ما سيبقى من عملها للناس، وما عسى أن تكون تركته من أثر في خطوات الإنسانية في السير إلى غايتها البعيدة. كما أني قلت لك قولاً أساسه الحق يوم فرقت بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، وفعلت هذا بناءً على تجربتي، فقد عشت بين هؤلاء الناس في بلادهم وبلوتهم، فعرفت فيهم سلامة الطوية وحسن المعاملة، والمساواة في عدل اجتماعي لم يكد يتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلا في هذه الأرض التي نكبت. إن مستوى الفرد في فرنسا من كل نواحي حياته كان أرفع منه في أي أمة أخرى. فالتعليم كان إجبارياً حتى السادسة عشرة، والتعليم العالي بالمجان بحيث يقدر عليه كل إنسان أراده، والمحاضرات العلمية في كل مكان وفي كل وقت من أوقات الليل والنهار حتى تصبح ملكاً مباحاً لكل طالب علم أو باحث عن حقيقة، حتى أصبحت فرنسا كلها متعلمة. وكانت بعد هذا حريصة
على كل لون من ألوان الحرية. وأنت تعلم أن العلم مع الحرية يترك السبيل دائماً لوضوح الشخصية وحس الذات. ومن هنا تعددت المذاهب وكثرت الآراء حتى لكأن في كل فرد أمة، فكان من طريق الخير نوع من الانفصالية أساسها وضوح النظر واستنارة التفكير. وكان من هذا انهيار فرنسا لا لشيء إلا لأنها تمسكت بمُثُلها وأبت أن تتخلى عنها.
ولست أعرف حتى الآن هل كان الخير في هذا أم أن الخير في ذلك التكتل الحديدي للأمة بحيث لا يحسب فيها حساب لحياة الفرد ولا لحريته ولا لسعادته ولا لعقله. وعندي أنه ما لهذا خلق الناس.
ليس انهيار فرنسا يا عبد المنعم لأنها كانت قائمة على (بركان من التفسخ العائلي) الخ. . . فإنني كنت أعرف في صميم باريس عائلات من المحافظة، بحيث لا تستطيع أنت ولا أستطيع أنا إلا أن نرميها بالرجعية. وما كان عليك لتدرك معنى العائلة الفرنسية إلا أن تعرج قليلاً على بلد من ريف هذه البلاد لتفهم حقاً هل تهدمت العائلة في فرنسا أم لم تتهدم. إن بعض الدعاوى القائمة على الجهل تنتشر أحياناً لسوء الحظ حتى لتصبح أشبه بالمسلَّمات، لأن الجمهور كما قلت لك لا يستطيع تحقيق كل ما يلقى إليه.
إن فرنسا قد هدمت نفسها من حيث أرادت أن تبنيها، فقد أعطت كل ابن من أبنائها حق الحياة كاملاً، وحق القول والفكر كاملاً، والمسئولية الاجتماعية عبء ثقيل على الأفراد. فأصبح دفع الضرائب عندهم ثقيلاً، وأصبح إنفاق مليم واحد على الحرب ومعداتها أمراً يتشاجر من أجله النواب، ويضج منه الشعب، لأن كارثة الحرب الماضية كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ولم يكن أشق على الفرنسي من التفكير في الحرب. كانوا يؤثرون أن تنفق هذه الأموال على التعليم، وعلى رفع مستوى الحياة، على أن تنفق على المدافع. وهذا هو الذي حدا برجال الحرب كبيتان أن يقولوا:(إن الفرنسيين كانوا يطالبون الدولة بأكثر مما يعطونها). ففرنسا هدمت نفسها مؤقتاً لتبني مثلها، وأقول مؤقتاً لأني لا أشك في أنها ستهب في القريب العاجل جداً، فإني لا أعرف أمة يكمن فيها من الحياة ما يكمن في هذه الأمة، ولا أعرف فرداً قد ربي فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربي في الرجل الفرنسي. ولا أعرف جنديَّاً قد ربي على خشونة العيش فهيئ لتقبل طعم الحياة في خيرها وشرها مثل الفرنسي.
إن السير في تربية الأمم على هدى المثل الأعلى قد لا يحقق النصر العاجل، ولكنه من غير شك يخلق الصلاحية الحقيقية التي تكفل السيطرة على المستقبل.
أما أن تقول أن بيتان وفيجان قد انقلبا بين عشية وضحاها بوقاً من أبواق هتلر فتلك دعوى قد ينخدع بها البسطاء، ولكن لا ينخدع بها ذوو العقول الذين يدركون أن الكرامة الإنسانية قيمة، وأن الإنسان مهما كان تافهاً لا يسهل عليه أن ينتزع نفسه من ماضيه انتزاعاً، وأن يجرد نفسه من كيانه تجريداً. إن بيتان وفيجان رأيا أن إنقاذ فرنسا وإقالتها من عثرتها سيتحققان عن طريق ما ينتهجان وليس يمنع هذا عمل عامل لإنقاذ فرنسا على طريقته. فبيتان وفيجان يعملان، وديجول يعمل، وكل هذا في سبيل فرنسا.
إن فرنسا قد أصابت وأخطأت، شأن كل عمل إنساني، فليس أقل من أن نلومها على الخطأ ونذكر لها بالشكر والرثاء فضلها ونكبتها، ونحن إذ نفعل هذا نرسخ تقاليدنا، ونتخلق بأخلاقنا ونصطنع مثلنا، ولا نتخلى عن ميراثنا الروحي والحضاري، فضلاً عن أننا نحاول به تهذيب تلك الغرائز الأولية التي تدفع بالإنسان عملياً إلى الانتقام، فهي ليست بحاجة إلى إذكاء ولا تأريث. هذه الدعوة - كما ترى - ليست سهلة، لأنها محاولة للحد من اندفاعات الفطرة الحيوانية، وهذا الحد يغضب الجماهير ويضيق صدورها ويرغمها على السخط. أما مسايرة هذه الغرائز فيها ومجاراة التيار، فمحاولة هينة لاستغلال براءة الجمهور والضحك من أذقانه. وقد يقوى عليها الساسة الذين يحاولون الفائدة العاجلة ولكن لا يقوى عليها أصحاب الخلق الراسخ والإيمان بالحق وهداة الأمم إلى الخير والمثل المحققة للقوة
أما رثاؤك لمثقفينا الذين لم تقدم إليهم أوربا من العلم إلا ما هو بمثابة السروج واللجم فإني أمر به مرور الضاحك ملء شدقيه وآخذه على أنه جهل بأمر جدير بأن يصحح لمدعي علمه. فنحن يا عبد المنعم لم نذهب إلى هناك فتقدم إلينا أنواع من العلم وتمنع عنا أخرى، وإنما الأمر كان كما قلت لك مورداً مباحاً تختار فيه ما تشاء، فتذهب من الأساتذة إلى من تشاء، وتجتنب منهم من تشاء، تتلقى العلم في مدرستك إلى جانب الفرنسي والبولوني والألماني لا يصدك صاد، ولا يمنعك قيد من القيود. ولذلك عدنا لم نسرج ولم نلجم وإن كنا نوشك أن نحس أن هذه السروج واللجم إنما تلزمنا إياها أمتنا العزيزة، بل الصفوة من أبناء هذه الأمة
قد يكون هناك ما أريد أن أقوله، ولكني سأتركه لفرصة أخرى؛ وأني ليسري عني أننا جميعاً في هذا نبني حقاً، ونتلمس هدى، وأحرى بنا أن نتلمس هذا من نور القلوب، وصفو النفس، وخلوص السريرة.
(رأس البر)
نجيب محمد البهبيتي
عراك في غير معترك
للأستاذ محمد متولي
إن هذا الشجار العنيف الذي يؤلف به صديقانا الدكتور بشر فارس والأستاذ زكي طليمات جبهة تتناحر مع جبهة الشاعر المهندس على محمود طه، هو في نظرنا مما ينطبق عليه المثل المصري:(خناقة على اللحاف).
كتب بشر عن ديوان الشاعر، فغضب الشاعر لبنات قلبه وراح ينظر في ماض الدكتور الأديب حتى وقع على مسرحيته (مفرق الطريق) التي أخرجها منذ ثلاثة أعوام وبعض عام. ثم أخذ يكيل له صاعاً بصاع، ويعدد له من السرقات كما عدد هو له من قبل؛ وحينئذ انبرى رجل المسرح الأستاذ طليمات، ليقوم بنصيبه المعلوم، كما قام بأنصبتهم في هذه المعركة غيره كثيرون.
والحق أن بطلينا كليهما شريفان - لم يسرق بشر فارس، ولا سرق علي محمود طه، فحكاية السرقة غير معقولة إذا نحن تأملنا ماهية الفن وعرفناها.
وقبل أن نبين هذه الماهية، يجب أن نخرج من موضوعنا تلك الفلسفات التي يحكونها عن (كانت) و (برجسون) ومن إليهما، لأنها هنا لا لزوم لها. وأغلب الظن أنهم يحكونها تفلسفاً على القراء.
كأنكم فهمتم يا سادتي أن الفن (فكرة) والحق أن الفن (صورة) أولاً وأخيراً.
إن الأفكار من الأشياء المجردة التي تكون هي بعينها في جميع العقول والإفهام. أما الفن فهو (أسلوب) الفنان في (تصوير) عاطفته (الشخصية) بأدواته الخاصة المختلفة باختلاف الفنون السبعة. الفن هو (الإنسان مضافاً إلى الطبيعة) كما يقول الفيلسوف الإنجليزي بيكون وإذن فكيف يأخذ العقاد الكبير عن (كانت) العظيم - مثلاً - ما دمنا نعتبره شاعراً!؟ والدكتور بشر، كيف يمكن أن (يسرق) من أحدهما إذا كنا نعتقده أنه قدم لنا أثراً فنياً صحيحاً في حدوده؟! ثم الشاعر علي محمود طه الذي غنى له عبد الوهاب فأطرب الناس جميعاً، كيف يمكن أن (يشعر) لغيره؟!
أخرجوا السرقة من حساب الفن، لأنها (سيكولوجيا) لا يمكن أن تكون. وإذا أردتم أن تقدروا صورة فنية فاقصروا القول على نصيبها من (الصدق أو (التعبير) أو - في كلمة
واحدة - اقصروه على تقدير نصيبها من (الإيحاء).
إن الأستاذ علي محمود طه رجل فنان بلا شك، لأنه قال (الجندول) فكان (كذوباً). إنه يمثل ذلك الفنان الذي يشعر بالشيء ولا يستطيعه فيتغنى به. هو نفسه يعلم أنه لم يركب تلك (الجندول) التي أرانا إياها في عرض القناة في ذلك الجو السحري في (فينسيا)، ويعلم أنه إن كان رأى تلك السمات الشرقية والشعور الذهبية، فهو لم يذق شيئاً منها، ولم يقل لأحد (خذ) ولا أحد قال له (هات).
هكذا نرى شاعرنا واحداً من أصحاب (بولان) الفنانين الكذابين الذين يصفهم في كتابه (كذب الفن) ' وعلى هذا الأساس يمكن أن ننظر في أشعاره إذا أردنا أن ننقده ونبين قيمته كفنان.
أما صاحبنا الدكتور، فبيننا وبينه حساب قد يكون عليه عسيراً، إذا لم ير حبنا وانعطافنا، وبالتالي صدقنا؛ وقد يراه يسيراً، بل ولطيفاً، إذا هو أدرك سعينا للحق الممكن، وكان ممن تهفو فطرهم السليمة إلى جمال هذا الحق، وهو من أولئك فيما يخيل إلينا.
وعلى أي حال، فالطريق الصحيح عندنا هو أن نسأل: ما قيمة مسرحية (مفرق الطريق) من الناحية الفنية؟
إن الدكتور بشر يقدمها إلينا بصورة صادرة عن (نفسه) ويقدم لها، فيذكر أنه عمد في تأليفها إلى أسلوب الرمزيين في الفن، ثم يحاول أن يضمِّن تقديمه تفسيراً لمذهب هؤلاء الرمزيين، فهل بلغ في هذا غاية تستدعي الرضا؟!
لقد ندعي أنه لم يبلغ غاية يمكن الوقوف عندها، بل يبدو لنا أنه أراد أن يفسر الرموز الفنية فطمسها، وأراد أن يطبق ما (تعلمه) منها فجاءت مسرحيته شيئاً مصنوعاً وناقصاً معاً. أنظر يا دكتور؟
ألست تحدثنا في تقديمك عن (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم المتناسق المتواضع عليه المختلق اختلاقاً بكد أذهاننا طلباً للعالم الحقيقي. . . عالم الوجدان المشرق)؟! ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي كما يقول (ريبو) في كتابه '
أولم تحدثنا يا دكتور بشيء لا شعوري يطويه الإنسان (في المكان القصيّ من سريرته. . . لا يفصّل ولا يعلل ولكنه يعرض خطفاً. فكأن المنشئ يتوجس كيف تجاوب نفسه جرس الأشياء الخارجية من دون أن يتحمل ترتيبها ولا تأويلها فتعدل عن البسط والتبيين إلى إثبات البرق الذي التوى في السحاب. . .) نقول ألم تحدثنا بهذا أيضاً، مع أنه وصف للتخيل الصوفي الذي يؤلف بين الصور الباطنة المبهجة ويستخرج منها رموزاً يستعملها كما هي، بعكس الرمز في الفن الذي يحصل من تحليل الصور والحركات والألوان؟!
ثم ما رأيك في أن (ريبو) يقصد بالرموز في الفن: (أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد) بينما أنت تقرر في توطئتك أنه بعيد أن يكون الرمز لوناً من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك؟ ما رأيك في هذا، وعلى الأخص، بعد أن خالفت أنت نفسك، فأشعت الكثير من هذه الرموز في مسرحيتك، كقول سميرة (مثلك يحرق ولا يدفئ) وكقولها (بيني وبين الدفء رائحة حريق)؟!
الحق أنه ليس يلزم أن يعرف الأديب فلسفة الفن لكي ينفحنا آثاراً جميلة، بل نحن لا نعرف من الفنانين من كان يعرف هذه الفلسفة غير قليلين من أمثال (تولستوي)، ولهذا نغفر للأستاذ بشر تلك الكبائر التي ساقها في مقدمة مسرحيته، لأننا لم نعرفه فيلسوفاً وإنما عرفناه أديباً.
وإذن فكيف تجد (مفرق الطريق)؟ ما قيمتها الفنية كقطعة رمزية؟
إن (ريبو) فيلسوفنا نفسه، يقرر أن الرمزية في الفن (تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء تمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما ندري أين حصلت ولا متى، فلا هي تمت بصلة لأي بلد، ولا هي تمثل عصراً بذاته. . . وقد تمعن في الإبهام فتقول: هو - أو - هي - أو - أحدهم). هذا ما يقرره (ريبو) فهل هو مستوفي في مسرحية بشر؟
(مفرق الطريق) تجري حوادثها في مصر، في أحد شوارعها (أمام صفّ من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تصاب الآن في الأحياء القديمة). والمؤلف مع أنه يستغرق في الرمزية بتسمية (الأبله) و (هو) إلا أنه لا يلبث أن يضيع هذا التأثير باستعمال اسم (سميرة). وما كان عليه لو سماها (هي) رمزاً كصاحبيها وإبهاماً؟!
أولئك الهنود مثلاً. . . تأمل كيف صوروا الذكاء العبقري والقوة البارعة في شكل شخص ذي رءوس كثيرة وأذرع وأرجل عديدة؟ وهؤلاء المصريون أيضاً، تأمل كيف جعلوا لأبي الهول رأس إنسان رمزاً للحكمة إلى جسم أسد رمزاً للبطش؟! حتى إذا تخيلت سميرة والأبله و (هو) وجدتهم ناساً يمثلون ألواناً محلية محددة بزمان ومكان!!
وبعد فيا دكتور؟ ألا ترى الآن مسرحيتك (مطبوخة. . . ولكنها غير ناضجة. . .)؟ وهلا ترى أن المعركة كانت على اللحاف في الواقع؟
مهما يكن رأيك، ومهما تكن آراء أصحابنا، فنحن يسرنا أن نلاقي من يشاء منكم بشرط أن يكون كلامنا (موضوعياً)
محمد متولي
ماجستير في الفلسفة
ومفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف
على هامش النقد:
بمناسبة ذكرى حافظ
للأستاذ سيد قطب
كان مقدراً أن تنشر هذه الكلمة بمجلة الثقافة، وكنت أعتبر هذا
من جانبي مراعاة للياقة، لأن المقال نقد لبعض آراء الأستاذ
الكبير أحمد أمين في الأدب، فأولى أن ينشر في مجلته.
ولكن (الثقافة) رأت غير هذا الرأي، فلعلي لا أكون مسئولاً عما في نشر هذه الكلمة هنا من مجانبة المجاملة الواجبة.
سيد قطب
منذ أيام قابلني أحد المتأدبين فبادرني بقوله: (أين قصائدك في الحرب وأهوالها؟) فلم أرد أن أجيب الجواب الجدي على هذا السؤال، واكتفيت أن أقول: إنما يتكلم اليوم المدفع والدبابة، فلا حاجة إلى ألسنة الشعراء!
ومنذ سنوات، وأنا أقرأ في الصحف أو أسمع في المجالس، أن الشعر قد مات بموت شوقي وحافظ، لأن شعراء مصر الحاليين لا ينظمون في أحداث مصر ولا يسجلون مناسباتها الهامة في قصائدهم، ولا ينوبون عن الجماهير في تصوير عواطف الجماهير!
وأذكر أنني لم أحفل كثيراً بما قرأته وسمعته من هذا القبيل لأنه - لحسن الحظ - لم يكن يصدر من أناس لهم صفة الإمامة أو سلطة التوجيه، فلم يكن له من الخطر ما يحفز إلى دفعه أو تصحيح الرأي فيه.
وكنت مطمئناً إلى أن المدرسة الحديثة - وعلى رأسها الناقد الكبير الأستاذ العقاد - قد أفلحت في تصحيح الأفكار عن الشعر والشاعر في خلال ثلاثين عاماً لم تفتر فيها عن بذر بذور جديدة لتقدير الأدب والأدباء.
ولكني استمعت إلى كلمة الأستاذ الكبير أحمد أمين عميد كلية الآداب مساء الأمس في ذكرى المرحوم حافظ بك إبراهيم، فأحسست حقيقة بالخطر. وعلى رغم أنني في هذه الأيام
مريض مرضاً يقتضي الراحة التامة لم أجد أن خطر المضاعفات المرضية أشد من خطر الفكرة التي بدت في ثنايا كلمة الأستاذ، والدعوة الضمنية التي دعاها لشعراء الجيل، فجعلت أكتب هذه الكلمة على عجل!
ليست أمامي نصوص خطبة الأستاذ الكبير، وإنما أنا على ذكر من فحواها بعد السماع، وهي تتمنى فيما أعتقد أن يقوم بيننا من يخلف شوقي وحافظ في تسجيل أحداث مصر والهتاف بما في نفوس جمهورها، وبلورة أحاسيسه وصياغتها. ولم ينس الأستاذ أن يكون من هذه الأحداث التي لو رآها حافظ لقال فيها: توزيع البترول بالبطاقات. وبدا في كلام الأستاذ ونبرة الأسى على موت حافظ دون أن يخلفه أحد في منزلته هذه، أن هذه المزية تقتضي الأفضلية، وأنها أهم أدوات الشاعر وأفضل اتجاهاته، ولهذا تمنى أن يخلفه في مصر خلف من الشعراء.
وهذه دعوة خطرة. ومنشأ خطرها أن الهاتف بها هو الأستاذ أحمد أمين مؤرخ الأدب وعميد كلية الآداب ورئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر وصاحب مجلة (الثقافة) وهو بهذه الصفات وبماضيه الأدبي وحاضره يملك سلطة التوجيه وله صفة القدوة.
ولا يمنعنا مقام الأستاذ الكبير واحترامنا العميق لشخصه وعلمه، أن نبدي الرأي الذي يقابل رأيه، وأن نرسل بهذا الرأي إلى مجلة الثقافة التي يشرف عليها!
ونحن نقول في جملة واحدة، وفي نفس واحد كذلك: إن هذه دعوة إلى نكسة من نكسات الشعر بعد ما تجاوز مرحلتها في مصر وفي العالم منذ أزمان، ونتمنى على الله ألا خلف شوقي ولا يخلف حافظ - مع احترامنا لذكراهما - خلف من الشعراء في خلة التعبير عن شعور الجماهير وبلورة هذا الشعور، ورصد الشعر للأحداث القومية والعالمية على طريقتهما وطريقة من يقلدونهما في هذا الزمان!
وأحب أن أبادر هنا بالتنبيه إلى أن شخص شوقي وشخص حافظ في ذمة التاريخ وبين يدي الله، أما شعرهما ففي ذمة النقد وبين أيدينا نحن! فليس من العقوق وليس من عدم اللياقة أن نتناول طريقتهما وشعرهما بالنقد، لأننا بحمد الله لا نؤمن بلياقة العوام! ولا بآداب الصالونات!
وعلى وجود الفرق بين حافظ وشوقي في تسجيلهما للأحداث إذا كان حافظ يسجلها لأنه
واحد من الجماهير التي تحس بها، ولأن شعور الجماهير كان يتبلور في حسه فينطق به. أما شوقي فكان يسجلها تمشياً مع اتجاه الجماهير، وتوخياً لمهاب الرياح، وتيقظاً لما تتطلبه الأحاسيس العامة.
على وجود الفرق بينهما في هذا، وأفضلية حافظ ولا ريب بالقياس إلى بواعث القول في نفسيهما، وإن فضله شوقي في الأداء واتساع الآفاق في هذا المجال - على وجود هذا الفرق فان كليهما كان يمثل شاعر القبيلة على وضع من الأوضاع.
وشاعر القبيلة الهاتف بأحاسيسها العامة، المسجل لأحداثها الهامة، الذي تفزع إليه في الملمات ليقول، وتتطلع إلى شفتيه لتتلقف منهما ما تحس به ولا تطيق التعبير عنه.
هذا الشاعر على عظم فضله، وجلال (منفعته) لأمته ليس هو الشاعر المثالي الذي تتطلع إليه الآداب الرفيعة ويحفل به تاريخ الفنون.
وإنما هو حلقة بين الشاعر البدائي وشاعر الشخصية المستقلة هذا الذي يرى الكون من خلال نفسه الخاصة ويعرضه علينا فنتلقاه كأنه نموذج منفرد لكون جديد، ونعرضه في متحف الفنون مع زملائه؛ فإذا لدينا أكوان جديدة بعداد الفنانين الذين نستعرضهم، لا صوراً متشابهة من أحاسيس الجمهور في فترة من الفترات.
وشاعر الشخصية هذا قد يعرض لأحداث أمة أو لا يعرض، وقد يتلاقى إحساسه مرة مع إحساس الجماهير أو لا يتلاقى أبداً، ولكنه يبقى مع هذا شاعراً أصيلاً للحياة، في شاعريته غرض مقصود، وللفن في ديوانه نموذج من النماذج النفسية المرموقة. ويبقى في أسوأ حالاته أرفع وأخلد من شاعر القبيلة الذي تلتقي في نفسه وتتبلور أحاسيس الجمهور.
وقد لا ينتفع جيل هذا الشاعر به كما ينتفع بشاعر القبيلة ولكن يجب أن نفهم أن نظرية المنفعة ليست هي المحكمة في أقدار الفنون، وأن الشاعر ليس مطالباً أن (ينفع) جيلاً بذاته من الناس، وشاعر الشخصية لابد نافع ونافع في دائرة أسمى وأوسع وأبعد أثراً من شاعر القبيلة، بما يجلوه من نماذج رفيعة قد لا تطرق أي حدث واضح من الأحداث العامة.
ويجب أن لا ننسى أن شاعراً واحداً من شعراء الشخصية يعلم أمته حب الجمال في أنماطه العالية، إنما يعلمها من معاني الحرية والثورة على الاستعباد أضعاف ما يعلمها شاعر من شعراء القبيلة يناديها كل يوم بتحطيم القيود ورفض الاستعباد.
فالنفس الإنسانية لا تتسامى لحب الجمال الطليق، ولا تحس حقيقة هذا الإحساس الرفيع، ثم يبقى فيها ظل للاستعباد أو صبر على بقاء الأغلال، وهي وشيكة حينئذ أن تخلص من الاستعباد الخارجي ومن مساوئ الحكم والاجتماع الداخلي في آن لأنها تسامت بإحساسها وذوقها وكل عنصر داخلي فيها عن مهاوي الذل والفساد.
وقصارى ما يقال في شوقي أو في حافظ - يرحمهما الله - أنهما شاعران ممتازان بالقياس إلى عصرهما، وأنهما أديا الواجب عليهما في حلقات النهضة الأدبية لأنهما شاعران ممتازان بالقياس إلى الشعر في جميع الأزمان.
وإنك لتجردهما من زمانهما وظروفهما فتجردهما من خير ميزاتهما الفنية؛ وليس كذلك شعراء كالمتنبي وابن الرومي والمعري وإضرابهم في الشرق والغرب، لأن هؤلاء من شعراء الشخصية النموذجية، وهذان من شعراء القبيلة العامة.
وليس أدل عندي من اطراد النهضة الأدبية في مصر - مع قلة الأدلة على هذا مع الأسف - من أن أحداً لم يخلف شوقي ولم يخلف حافظ في طريقتهما، لأننا بهذا توقينا النكسة إلى شعراء القبيلة، وإن لم نرتق إلى شعراء الشخصية إلا في عدد نادر جداً من بين شعراء هذا الجيل.
(حلوان)
سيد قطب
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
المنافقون
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 5 -
مواقفهم من حروب الرسول: في أحد. في الأحزاب. في
تبوك. إشاعاتهم السيئة عن جيوش المؤمنين. إمهال النبي لهم
عسى الله أن يتوب عليهم. عاقبة المصرين.
وقف المنافقون من حروب النبي موقف المُخذِّل المثبِّط، الجبان الرعديد، الناقض لما عاهد الله عليه، الطامع في المغنم، المقصر عن نصرة الدين. ولقد كان شرهم مستطيراً حقاً. لأن المؤمنين كانوا يركنون إليهم، ويعدونهم من أنصارهم، فإذا الشر أبدى ناجذيه للمؤمنين قعد هؤلاء عن نصرتهم، وشمتوا عند هزيمتهم، وقبضوا أيديهم عن إعانتهم، واعتلوا لذلك بعلل سخيفة مزيفة فَنَصَّ الله على أنها كاذبة، وبين أنهم دعاة الهزيمة، وأنصار العدو، بل زاد على ذلك فاعتبرهم عدواً وقال للرسول فيهم وفي جبنهم (يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.)
وأي طابور خامس أشد خطراً من المنافقين الذين أحسن المسلمون عشرتهم، وأتمنوهم على أسرارهم وأخلصوهم الود، واتخذوهم بطانة، وأمنوا جانبهم، ولم يحسبوا حساباً لخيانتهم وغدرهم، ولم يضعوا خطة لتوقي شرورهم، فاستعانوا بذلك على إيذائهم، وإنزال الضر بهم، وطعنهم وقت الحرج والانتقاض عليهم عند المحن والشدائد؟
وفي قصصهم يوم أحد، وفي وقعة الأحزاب وتبوك ما يبرهن على أنهم كانوا أَضرَّ على المؤمنين من العدو الخارجي، وأنهم خانوا الله والرسول، ونقضوا الأيمان، رغبة في إبادة المؤمنين، وطمعاً في إزاحة الدين الجديد من بلادهم.
لما انهزم المشركون ببدر فكروا في الثأر من المسلمين، وفي السنة الثالثة للهجرة خرج أبو
سفيان في ثلاثة آلاف مقاتل يريد غزو المدينة، فسمع النبي بقدومه، فاستشار أصحابه، فأشار عليه عبد الله بن أبي - وكان رأساً في الأنصار إلا أنه كان يضمر نفاقاً - أن يبقى بالمدينة، وقال له: ما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم. وكان رأي النبي البقاء، لكن قوماً ممن لم يشهدوا بدراً ودُّوا الخروج لينالوا شرفاً مثل شرف الذين شهدوا بدراً. فنزل النبي عند رأيهم ودخل بيته ولبس لامته. فندم هؤلاء على إلحاحهم، وقالوا النبي: إن شئت خرجنا وإن شئت بقينا. فقال: ما كان لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه. وخرج جيش المسلمين، وعلى مقربة من أحد أنخذل ابن أبي بثلث الناس ورجع إلى المدينة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ وهمَّ بنو سلمة من الخروج وبنو حارثة من الأوس أن يفشلوا كذلك تقليداً للعمل السيئ الذين قام به ابن أبي، ولكن الله عصمهم وقال فيهم: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون. والتقى الجمعان بأحد، ودارت الدائرة على قريش أولاً. فلما شغل المؤمنون بجمع الغنائم، وخالف بعض الرماة أمر النبي، وتركوا مكانهم الذي وقفهم فيه، انكشف ظهر المسلمين للعدوّ، وكان على فرسان المشركين خالد بن الوليد، فأتى بفرسانه، وأعمل السيف في رقاب المؤمنين، فاختلط أمرهم، وفر كثير منهم، وثبت النبي وصفوة أصحابه، ونادى في المنهزمين: إلى عباد الله! فعادوا وكشفوا عنه جيش المشركين، ثم تحاجز الفريقان، بعد أن قتل من المسلمين سبعون، منهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب.
كان في الجيش قوم من المنافقين لم ينخذلوا مع ابن أبي، فلما رأوا ما حل بالمسلمين ظنوا بالله الظنون، وقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. أما الذين لم يشهدوا الحرب، فقد شمتوا بالمؤمنين، وظنوا أن الهزيمة كانت بسبب مخالفة المؤمنين لرأي ابن أبي، وهم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، لو أطاعونا ما قتلوا، قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. ثم بيّن الله أن سبب الهزيمة هو إرادته أن يميز الخبيث من الطيب، وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا. ونهى الله المؤمنين عن اتخاذهم بطانة، وحذرهم أمرهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتُّم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما
تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون.
ولما أخرج الرسول يهود بني النضير من المدينة لم تهدأ لهؤلاء ثائرة حتى جمعوا الأحزاب من قريش ومن أطاعها من الأحابيش، ومعهم أسد وغطفان، وساروا إلى المدينة في عشرة آلاف مقاتل يريدون استئصال المؤمنين ودينهم. واستطاع اليهود أن يضموا إلى جانب الأحزاب بني قريظة ويجعلوهم ينقضون عهدهم للنبي، واتقى النبي الأحزاب بالخندق الذي حفره ليحجز الغزاة الفاتحين. أما بنو قريظة فقد حفظ الله المؤمنين من شرهم على الرغم من شدة خطرهم في ذلك الوقت، وأما المنافقون الذين ظنوا أن هزيمة يوم أحد كانت لخروجهم من المدينة إلى عدوهم، فقد قالوا هم والذين في قلوبهم مرض يوم الأحزاب:(ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) وحاولوا أن يصدوا المدافعين ويضعفوا إيمانهم بالنصر لأن العدو كثير العدد، واعتذروا عن الدفاع، وأستأذن بعضهم النبي في الانسحاب إلى بيوتهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:(وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، ولو دخلت عليهم من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً. ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، وكان عهد الله مسئولاً. قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمنعون إلا قليلاً. قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً. قد يعلم الله المعوَّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا). أولئك هم المنافقون الجبناء الذين كانوا يحاولون إضعاف جيش المؤمنين، وتثبيط الجند عن الدفاع والاعتذار بأعذار واهية كاذبة. وهم الذين يقول الله فيهم بعد:(فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حداد) من أجل طمعهم في الغنائم بما لا يتفق مع جبنهم وقعودهم وتثبيطهم غيرهم (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً).
وكان هناك المرجفون في المدينة يؤلفون أخبار السوء عن سرايا رسول الله، فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فأي خطر أشد من هذا؟ أليس ذلك قتلاً للروح المعنوية وتنفيراً للناس من الجهاد، وقضَّاً للمستضعفين من حول النبي؟ من أجل هذا هددهم
الله وخوفهم، وقال لرسوله الكريم:(لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً).
فهل انتهى المنافقون بعد هذا التخويف؟ وهل انتهى الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة؟ سنرى من موقفهم في تبوك أنهم لم ينتهوا. وإن كثيراً منهم أخلفوا الله ما وعدوه. وزادهم حلم النبي الكريم ومعاملته لهم على حسب ظاهرهم، وإمهال الله لهم، إمعاناً في النفاق، وكيداً لنبيهم ودينه وأصحابه، واستمر ذلك حتى فتحت مكة، ودانت ثقيف وخضعت الجزيرة العربية، ووجه الرسول جهاده إلى خارجها.
ففي السنة الثامنة وجه جيشه إلى الروم في الشمال، وأمر على الجيش ثلاثة من كبار الصحابة، وأحس النبي الكريم بأنهم قد يقتلون جميعاً، فلما التقت جيوش الروم بالمسلمين عند (مؤتة) قتل قواده الثلاثة كما عينهم، واختار المسلمون بعدهم خالد بن الوليد فأفلح في الانسحاب، ولم يتبعه الروم داخل الجزيرة خشية أن يكون انسحابه مكيدة حربية يجر بها الروم إلى داخل الصحراء ثم يضربهم.
وفي السنة التاسعة للهجرة أراد النبي أن يجهز جيشاً للثأر من الروم، وإتمام ما بدأه في مؤتة. وكان الوقت الذي اختاره للخروج وقتاً شديد الحر، والمسلمون في عسرة من الظهر، وقد طابت الثمار، والناس يحبون البقاء في ثمارهم وظلالهم، وتجهز الجيش، وساهم الصحابة بما يستطيعون لتجهيزه وخرج النبي بجيشهم وركائبهم قليلة حتى كان يعتقب العشرة منهم على بعير، وزادهم قليل حتى اقتسم الثمرة منهم اثنان. وماؤهم أقل حتى نحروا الإبل وشربوا ما في كرشها. وكان العدو كثير العدد، والشُّقة بينهم وبينه بعيدة، والحاجة شديدة إلى كل مساعدة مهما قلَّت. فماذا فعل المنافقون لنجاحها؟
الله يشهد أنهم عملوا جهدهم لإحباطها سواء منهم من خرج في جيش المؤمنين، ومن رضي بالقعود والتخلف عن رسول الله؛ أما الذين رضوا بالقعود فقد رغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله واستبعدوا أن يفلح محمد في هذه المغامرة، وتحدثوا بذلك، وأغروا غيرهم بالقعود، وقالوا لا تنفروا في الحر، وأستاذنوه صلى الله عليه وسلم في التخلف معتذرين بأعذار كاذبة، والحق أنهم جبنوا وبخلوا وكان أملهم ضعيفاً في انتصار المسلمين والفوز
بالغنائم، وقد بين الله ذلك في قوله:(لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصِداً لاتبعوك ولكن بَعُدت عليهم الشقَّة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم. يُهلكون أنفسهم، والله يشهد إنهم لكاذبون) وكان استئذانهم في القعود لارتيابهم وحرصهم على حياتهم وعد اهتمامهم بنصرة دين الله: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم) لعلمه بما في نفوسهم من غلّ وما يدبرون من فتن، وما يحدثون من اضطراب وتفريق في جيش المؤمنين) فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين)، ثم بين الله نوع الضرر الذي يصيب المسلمين من خروجهم معهم فقال:(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأّوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ولأسرعوا بالوشاية والإفساد بينكم، ومع ذلك فقد خرج قوم منهم يتجسسون لمن قعد وهم الذين عناهم الله بقوله:(وفيكم سمَّاعون لهم).
سار الركب في طريقه إلى تبوك (في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق) وفيه بعض المنافقين وصار هؤلاء يسخرون في الطريق من الفكرة التي خرج النبي من أجل تحقيقها، وقال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا الرجل! يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها. هيهات هيهات! أليس في هذا القول ما يزلزل قلوب المستضعفين من الجند، ويذهب حرارة الإيمان والثقة بالنصر من قلوب المؤمنين؟ ومتى شاع مثل هذا الضعف، وعدم الثقة في جيش فعليه العفاء. ثم أليس ذلك مصداق قوله تعالى:(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة)؟
أطلع الله النبي على ما تهامس به أولئك المنافقون الذين خرجوا معه، فقال: احبسوا علي الركب. وأخبرهم بما قالوا، فحلفوا إنهم ما كانوا في شيء من أمره ولا من أمر أصحابه، وأنهم كانوا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصروا على أنفسهم الطريق، وذلك قول الله تعالى:(لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا، قد كفرتم بعد إيمانكم، إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين).
وقد فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، ولمزوا الذين تطوعوا من فقراء المؤمنين بما يملكون لقلة ما قدَّموا، فتكفل القرآن بالاستهزاء منهم وألحقهم بالنساء، لأنهم هم الذين وضعوا أنفسهم هذا الوضع، و (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع على قلوبهم فهم لا
يفقهون).
وكان لابد بعد هذا الإمهال وفتح باب التوبة زمناً طويلاً من أن يكشف الله أمرهم ويهتك سترهم، وأن يعاملهم المؤمنون بما يستحقون؛ فنهى الله النبي عن قبولهم في جيشه مرة ثانية. ونهاه عن الصلاة على من يموت منهم والدعاء له فقال:(فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فأستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدوَّاً؛ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين. ولا تُصل على أحدٍ مات منهم أبداً ولا تُقم على قبره؛ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون).
ولم يكن النفاق مقصوراً على المدينة وحدها، بل كان من الأعراب منافقون هم أشجع وأسلم وجهينة وغفار، وهم بحكم بيئتهم وغلظة قلوبهم وبعدهم عن متنزل الوحي (أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله). وكان منهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله مغرما، ويتربص بالمؤمنين الدوائر، عليهم دائرة السوء. لم يخرجوا إلى تبوك وجاءوا إلى المدينة ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا على الله ورسوله، ولكن منهم من اتخذ (ما يُنفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربةٌ لهم سيدخلهم الله في رحمته)
وما ظن القارئ الكريم بالنادي السياسي الذي بناه بنو غنم ابن عوف لخدمة الدين ظاهراً، ومأوى الخارجين على الرسول، والمدبرين للفتن، والمعادين للمسلمين باطناً، ليضروهم ويفرقوا بينهم، وليأوي إليه من حارب الله ورسوله؟ بئس هذا البناء وبئس بانوه، إنهم ساء ما كانوا يعملون.
أما هذا البناء فهو مسجد الضرار، والذين بنوه هم بنو غنم ابن عوف. يروى أن بني عامر بن عوف لما بنوا مسجد قباء، وهو مسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم - بعثوا إلى رسول الله أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم ابن عوف وقالوا نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام - وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد:(لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلت معهم) فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين - فبنوا مسجداً إلى جانب مسجد قباء. وقالوا للنبي: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه. فقال:(إني على جناح سفر، وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه). فلما قدم من غزوة تبوك سألوه الصلاة في المسجد،
أو بعبارة حديثة، سألوه أن يفتتح هذا النادي السياسي المستور الغرض ليكون ذلك أستر لغرضهم وأدهى إلى تقوية مركزهم، وأكثر جاذبية للمسلمين، فنزل قوله تعالى فضيحةً لهم، وبياناً لغايتهم الخفية، إنهم اتخذوا هذا المسجد (ضِراراً وكفرا وتفريقاً بين المؤمنين، وأرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبداً. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه). وهذا هو مسجد قباء؛ فأمر النبي أن يهدم المسجد الجديد وأن يتخذ مكانه كُناسة تلقى فيها القمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام، وفسدت الخطة التي دبرها بنو غنم بن عوف (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
وكانت غزوة تبوك حداً فاصلاً بين سياسة المسالمة وسياسة العداوة الصريحة من المسلمين للمنافقين بعد أن هيأ الله لهم الفرصة زمناً طويلاً ليتوبوا، فمنهم من تاب فعفا الله عنه، ومنهم من أصر على كفره، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له جهنم وساءت مصيرا وانتهى عملهم بعد ذلك، واستراح النبي من شرهم وضرهم.
ومن كل ما كتبناه في الموضوع يتبين أن الطابور الخامس في القرآن هم اليهود والمنافقون، وكانت سياستهم ترمي إلى التشكيك في الدين، والطعن في النبي وآله ومحاولة صرف الناس عنه بتجريحه، والأمل في القضاء على دعوته سراً وجهراً بمعاهدته حتى يأمن لهم، ثم نقض هذه العهود وقت الشدة، فكان جزاؤهم ما حل بهم من قتل وتشريد، وما أنزل الله فيهم من طعن وإهانة، وما أعده لهم من عذاب أليم، ثم نصر الله رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وكان حقاً عليه نصر المؤمنين.
عبد الرزاق إبراهيم حميدة
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
لقد لعب قانونا الترف والخشونة أعظم دور في هذه الحرب. فمن عرف فتك الترف بالشعوب، وتقويم الخشونة للأخلاق، وساعدته ظروفه على التخلص من الترف، والأخذ بالخشونة، كان له النصر على من لم يوفق لذلك.
هذه ألمانيا ألقت سلاحها في سنة 1919، فشرطت عليها شروط، وفرضت عليها مغارم، ظنت في هذه وتلك أنها مجحفة بها، فأرادت أن تدفع هذا الإجحاف، فلم يكن ما يسعفها إلا قانون الخشونة فلجأت إليه وفرضته على الناس فرضاً.
كان كل كسبها موجهاً إلى تعزيز قوتها، لا إلى رفاهية أبنائها، حتى شاعت فيهم هذه الكلمة: المدفع قبل الزبدة، وكان المرء فيهم يعمل ولا يمل العمل. وكان عليه أن يكسب ما يسد منه بعض الغرامة، وما يعول أسرته، وما يكون منه شراء السلاح وإنماء قوة ألمانيا.
ما كان يستطيع أن يأتي بهذه المعجزات إلا قانون التقشف، فبه وفرت المال الذي أوجد هذه الأسلحة التي لا تنفد، ولو سلط على هذا المال الترف لابتلعه. وبه استطاعت أن تصبر في ميادين الحرب المختلفة حتى كان الجندي يمكث أياماً محاربا لا يذوق فيها النوم ولا الراحة.
وهذه فرنسا لم توفق إلى ما وفقت إليه ألمانيا في الاستعداد لهذه الحرب والأخذ بالخشونة فسلمت في أول مراحلها.
وهذه إنجلترا وإن كانت قد تمتعت بثمر انتصارها في الحرب الماضية، وتباطأت لذلك في الاستعداد عن ألمانيا، ولكنها قد بدأت، ودعت أخلاقها الموروثة التي ولدتها فيها الروح الرياضية المبنية على التقشف، فاستجابت إليها، فلما وقع حمل الحرب على كاهل بريطانيا وحدها لم تنوء به، ووجدت فيها ألمانيا خصماً يساجلها ثباتاً بثبات، ومقاومة بمقاومة.
ولم أسرد ما تقدم للمتعة، ولذة القصص، فما بي لذلك، وإنما بي أن أضع يد قومي على موضع العظة، وأدلهم على موضع العبرة، وأبين لهم الترف، وهدمه للأمم، والخشونة وبناءها للشعوب، فلعلهم تجديهم الموعظة، ويكون منهم الاعتبار.
محمد عرفة
رسالة الشعر
من أدب الحرب
محنة فرنسا
للأستاذ محمود غنيم
رحماكَ ربِّ إلام تصلى نارَها؟
…
فنَى العباد ولم تضع أوزارَها
غابت ملائكة السلام وأصبحت
…
تذرو أبالسة الجحيم غبارها
قبضت على سكانها يدُ مارد
…
جعل الصبيب من الدماء بحارها
رقطاء حول الكون لفَّتْ جسمَها
…
فقضت عليه وما قضت أوطارها
في كل وادٍ ثورة مشبوبة
…
لا يطفئ البحرُ الخضم شرارها
حتى كأن الأرض من إعيائها
…
سكنت وأخطأت النجوم مدارها
كتب الفناء على البرية ويحهم
…
ما بالهم يستعجلون دمارها؟
زمر من الأسماك ناطقة إذا
…
ما جاعت ازدرد الكبار صغارها
حرب رأيت الجوع بعض سهامها
…
فرضت على المتراشقين حصارها
غدت الجبال الشامخات سفينها
…
والزاحفات من الحديد مهارها
الزيت والبترول من آلاتها
…
والعلم ينفخ إن خبت أكوارها
قد سيَّرت فوق الثرى دبَّابها
…
وإلى الكواكب صعَّدت طيارها
ملأت قذائفها المحيط فعكرت
…
زبد البحار وكدرت أغوارها
يا بحر ما فعلت مياهك ويحها
…
برفات قوم يسكنون قرارها؟
كم لابن آدم في المحيط عجائبا
…
قلَّتْ عجائبه الكثيرة جارها
ضجت بنات الماء منه وأوشكت
…
تجفو الطيور لأجله أوكارها
يا رُبَّ شعب في حماه وادعٍ
…
جرفته لجتها فخاض غمارها
ومحاربين لغيرهم أسلابها
…
لكنهم يتحملون خسارها
وذوى عروش طوحت بعروشهم
…
وتخطفت من حولها أمصارها
تتطاير التيجان عن أربابها
…
كالقِدر ترسل في الفضاء بخارها
عبر على مر القرون تشابهت
…
حتى أجاد العالم استظهارها
ورواية من عهد ذي القرنين ما
…
برح الزمان مردِّداً أدوارها
أو كلما كادت تتم فصولها
…
منيت بشيطان يزيح ستارها؟
سائل ضفاف السين كيف استهدفت
…
للغزو واقتحم العدا أسوارها؟
خط حسبنا الجن لو طافت به
…
ولت أمام حصونه أدبارها
أتُرى فرنسا أطبقت أجفانها
…
من خلفه وتجاهلت أخطارها؟
هيهات لا الحصن المنيع أقالها
…
كلا ولا الأدب الرفيع أجارها
لا تعدم المرآة كسر زجاجها
…
يوماً وإن كان الحديد إطارها
إن المعاقل لا تحصن أهلها
…
ما لم تحاكِ طباعُهم أحجارها
قالوا: مهادنة. فقلنا: حبذا
…
لو أن هدنتها تقيل عثارها
هيهات ما أرضت بذاك خصومها
…
كلا ولا استبقت به أنصارها
ماذا تقول إذا الجدود تعثرت
…
وإذا المشيئة أنفذت أقدارها؟
وإذا قضاء الله أحدق بالشرى
…
لم تلق آساد الشرى أظفارها
كالوا الملام لها فقلت: تريثوا
…
يا قوم والتمسوا لها أعذارها
أو ما كفاها أنها ما سلمت
…
حتى روت بدمائها أنهارها؟
إن قيل عار أن تسلم أمة
…
نهض الدم المسفوح يغسل عارها
إني لأشفق أن يكون مصيرها
…
أزرى بجوهرها وشاب نضارها
ومحا محاسنها فعدن مساوئاً
…
وأحال لؤلؤها فصار محارها
من يكبُ لم تعذِره عثرتُه ومن
…
ينهضْ تقلدْه الأعادي غارها
والنفس تُعجب بالقوي وإن يكن
…
جلادَ تلك النفس أو جزارها
أسألت باريس الجريحةَ ما لها؟
…
سل أهلها هل قوموا منهارها؟
سلها بربك كيف ذل عزيزها
…
وتحملت أسد العرين إسارها؟
كيف الغواني والمغاني بعد ما
…
طمس المغير بجيشه آثارها؟
بالله هل عاث العدو بأرضها
…
وهل استرقَّ ببأسه أحرارها؟
ماذا أصاب مدينة الأزياء هل
…
أبلى القتال المستحرُّ إزارها؟
هل أظلمت آرادُها ولطالما
…
حسد النهار وشمسه أسحارها؟
وهل المخابئ أصبحت مأوى لمن
…
كانت مقاصير المسارح دارها؟
راعت أراملها الحروبُ وخلفت
…
في حسرة لا تنقضي أبكارَها
من كل نافرة يدق فؤادها
…
لم يتقر الظبي الغرير نفارها
نفرت من الحرب الضروس وربما
…
كان النفار من الدلال شعارها
ما للتي ألف المزاهر سمعها
…
وزئير آلات الوغى وخُوارها؟
حملت هموم الحرب في باريس مَن
…
كانت يداها تشكوان سُوارها
كم غبَّرت بدخانها وجهاً إذا
…
بصرت به شمس السماء أغارها
سائل عن القبلات أهليها أما
…
زالت تحس شفاههم تيارها؟
كيف القلوب الخافقات صبابة
…
تفشي مواعيد الدجى أسرارها؟
شهدت خمائلُها مواقع الهوى
…
ما حركت من خيفة أطيارها
شتان بين مواقعٍ ومواقعٍ
…
كلتاهما تشكو الضلوعُ أوارها
ما كنت يا باريس إلا روضة
…
منيت بسائمة رعت أزهارها
أصمى الحضارةَ من رماك فإنما
…
قد كان شعبك للبلاد أعارها
وجنت يداه على علوم طالما
…
أجريتِ شرعتها وشدتِ جدارها
ما ضرني إن لم أزرها طالباً
…
وقد اقتبست ممن زارها؟
باريس أين دمشق أم بغداد هل
…
قصَّت عليك رواتها أخبارها؟
المدن مثل الناس في آجالها
…
تفنى البلاد إذا قضت أعمارها
محمود غنيم
مدرس بمدرسة فؤاد الأول الثانوية
ذكرى الهمشري
للأستاذ مختار الوكيل
طوِيتْ بموتكَ صفحةُ الأحلامِ
…
وخبت بفقدكَ شعلة الإلهامِ
لا النهرُ عند الفجرِ يرقصُ عابثاً
…
نَزِقا يُسِرُّ خوافتَ الأنغامِ
كلاَّ ولا البدرُ العظيمُ بمسعدٍ
…
في الليل مهجةَ حاملِ الآلامِ!
مُنذُ انطلقتَ مع الصباحِ مُسارِعاً
…
بجناحِ مشتاقٍ، صريعِ غرام
ونَزعتَ قَيدَ الآدميةِ ساخراً
…
مع نِيرهِ، ونَأيتَ دون سلام
عَلمتَني أنَّ الحياةَ رخيصةٌ
…
مادام عُقباها شرابُ حمام!
والمجدَ والآمالَ عُلةُ ظامئٍ
…
في البيدِ ما يَحظى بِبلِّ أوام!
قد أجدبَ الروضُ النضيرُ وصَوحتْ
…
أزهارُهُ وذَوتْ على الأكمام!
والطيرُ شالتْ عنهُ إلا بومةً
…
قَبعتْ هناكَ حليفةَ الإظلام
تُحي الأماسي بالنعيبِ فيالها
…
من بومةٍ تشدُو بلحنٍ دام!
فَلَعَلَها تبكَيكَ في غَسقِ الدُجى
…
وتصوغُ مرثيةً من الأوْهامِ!
ولعلها تأتي بلحنٍ صادقٍ
…
وتَفَي بِدَمعٍ في الخُطُوبِ سِجَام
ولرُبَّ لحنٍ عاثرٍ مُتجهمٍ
…
يَذرُ النهى نشوى بِغيْر مُدام!
لبَقيتَ حتى في خَفِّي سرائري
…
وخَلدتَ حتى في نُهى الأيام
فإذا هَجعتُ فأنتَ في أحْلامِي
…
وإذا مَشيتُ فأنتَ أنْتَ أمَامِي!
عَجَبي مِنَ الدُّنيَا! أأنْتَ مع البِلَى
…
أمْسَيتَ كَوْمةً أعظُمٍ وحُطَام؟
وَيلُمِّها! ما إن جَلتكَ يَتيمَةً
…
في الناس حتى عَاجَلتكَ بِجَام
أسَفي لِفَقدِكَ لا يُعادلُهُ سوى
…
سُخرِي من الدُّنيا وَمِن آلآمي!
لا تَجْزعنَّ فَعَن قَريبٍ نَلْتَقي
…
في عالمِ النِّسيَانِ والأحْلام!
وهناك أُصْغي للقريض تَصُوغه
…
في نَسْجكَ الحُرِّ الرفيعِ السامي
ونَقرُّ لا همٌّ هُناكَ يَؤمُّنا
…
مِن عَالمِ الوَيْلاتِ والإجْرَام!
مختار الوكيل
رسالة الفن
بالفن إلى الله:
(هاللويا) كما قال داود!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
روح قوية جارفة، وجسم قوي حديد، الروح نزاعة إلى لذتها وسعادتها في أعلى عليين، والجسم نزاع إلى راحته ومتعته في أسفل سافلين، وصاحبهما بهما مسكين، يرتفع وينخفض، و (ينشال) وينحط، ولا يملك أن يستقر، لا في الأرض ولا في السماء، فهو في تخبط دائم ما بين مسمى روحه وما بين مهبط بدنه كأنه مجنون، أو هو مجنون، والفنون جنون. . .
مني على الدنيا السلام
آخر ما غنى في حياته دور (أنا هويت)، وآخر بيت في هذا الدور هو:
ما دمت أنا بهجره ارتضيت
…
مني على الدنيا السلام
وراج دور الوداع هذا في الناس، وسمعه أولئك الذين كان يحبهم سيد درويش، ومن بينهم تلك التي ظل يغني لها طول حياته على البعد منها وعلى القرب، فلم يشعر الناس ولم تشعر هي بشيء وراء هذا الكلام، لأنه لم يكن أحد يتوقع الموت السريع لهذا المغني الشاب المملوء صحة والمملوء حياة. . .
إلا هو. . . فقد كان يتوقع الموت وينتظره ويهيئ له نفسه. . . دعا صديقه الأستاذ بديع خيري إلى بيته بعد هذا الدور وقبل وفاته بأيام، وجلس معه في حجرة علقت على أحد جدرانها صورة من صوره، وفيما هما يتحادثان سقطت الصورة المعلقة، فالتفت إليها سيد، ثم التفت إلى صديقه بديع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له صديقه بديع: إن هذا حق، ولكن ما الذي أجرى بهذا الحق لسانك، فقال له سيد: ليس لسقوط هذه الصورة معنى إلا أني سأموت. فقال له بديع: إنك مجنون، وكان بديع يقصد بقوله هذا أن ما جال في ذهن سيد ليس إلا وهماً خيله له الجنون، بينما الحق أن الذي جال في ذهن سيد ليس إلا علماً يكشفه الجنون.
آمن سيد بأنه ذاهب، إيمان الجنون، فخف من القاهرة إلى الإسكندرية ليودع ليلاه، وإن كان قد أعلن لنفسه وللناس عزمه على السفر إلى إيطاليا، فهو لم يكن يعرف عن نفسه أنه يعلم الغيب وما كان أحد يعلم الغيب، وإنما هو اضطراب يتلاطم فيه إحساسه بتفكيره، فهو يقول القول أو يعمل العمل منطلقاً وراء شعور كامن في نفسه قد يميزه وقد لا يميزه، فإذا ميزه اطمأن عقله إلى تبريره، وإلا اضطر عقله إلى السعي وراء تبرير ما يطمئن إن حقاً وإن زوراً. . .
بينه وبينها
سيموت وسيسافر إلى إيطاليا. . .
زارها، أو استدعاها، أو التقى بها
- بأي شيء جئت لنا من القاهرة؟ مانجة؟
- لا. . . بل (بأنا هويت)
- سمعته
- وما رأيك؟
- (أنا عشقت) أحسن
- أحسن أو غير أحسن. . . إني انتهيت
- وكيف؟
- سأموت. . . قريباً جداً. وبعدها ستدركين أنك قد خسرت شيئاً كان يجب عليك أن تكرميه عندما كان بين يديك. . . أعوذ بالله منك. . . كل الناس يهتزون ويرتجون لهذه الأغاني التي أذيعها فيهم إلا إياك. . . جامدة كأنك الحجرة، ومع أني أعلم أنك حجرة فإني لا أغني إلا لك أنت وحدك. حقاً هو قضاء الله وقدره، وليس لقضاء الله وقدره رد ولا دافع.
- الكوكايين أفقدك عقلك. . .
- الكوكايين هجرته. . .
- ولكن بعد أن قضى عليك. . .
لم يقض عليّ أحد غيرك. . . إن مت فدمي في يديك، وإنه يتساقط من بين شفتيك. . . لقد
شربت منه حتى ارتويت وحتى جفت الحياة فيّ. . .
- مجنون
- ولم أجن إلا بك. . . لو أنك أعطيتني من روحك مثل الذي أخذت من روحي لكنت عشت غير ما عشت، ولكنت غنيت غير ما غنيت. . . ولكن الحمد لله. . . فما في روحك خير، وما كانت مثلك لتلهمني شيئاً. . .
- ولكني ألهمتك
- كلا. . . وإنما ألهمني البعد عنك، والحرمان منك. . . قد كنت أستطيع أن أستبدل بك صنماً، قد كنت أستطيع أن أعشق عوضاً عنك سلحفاة أو ثعباناً. . .
- هل تقول (ثعباناً) يا سيد. . . إنني لم أضرك مع أني كنت أستطيع أن أضرك، وأنت تعرف أني أستطيع أن أضرك يا سيد. . . فهل هذا جزاء الرحمة مني
- إنك لم تكوني تستطيعين لي ضراً، كما أنك لم تكوني تستطيعين لي نفعاً، وربما كنت تستطيعين لي ضراً لو أنك كنت رأيت غيري أحبك. . . ولكن أحداً غيري لم يحبك. . . وإن كان أحد غيري قد أحبك فكما تعرفين الحب عند الناس. . . كلام يقولونه هو التغرير والغش. . . هو الخداع يرمون من ورائه إلى اللهو بك والعبث بجسدك. . . أنت تعرفين هذا، وأنت تعرفين أني وحدي الذي تحدى شرك بخيره، وكذبك بصدقه، وخيانتك بوفائه، ودعارتك بطهره: إن حبي لك كان تكفيراً عما أسأت إلى أهلي ونفسي. سأقف به أمام الله وأقول له يا رب يا من أودعت هذه الأفعى من فنك سحراً غلفته بالموت والسم. . . أنا وحدي من خلقك الذي رأى هذا الحسن وتغنى به. . . فاغفر لي يا رب كل ما ارتكبت من سوء وشر فما هما إلا آثار السم في نفسي.
- يا سيد. . . يا سيد. . . ليست هذه المسرحيات بجائزة عليَّ أنا جازت على الناس طراً. . .
لست (أتمسرح) عليك، وإنما هذه هي روحي. . . هذه هي نفسي. . . ولو لم أكن هكذا طلقاً حياً فيضاً لما استطعت أن أجرف من جرفت من أهل الفن العتاة على رسوخ أقدامهم في الميدان الذي جندلتهم فيه، وعلى ثبوت أشباحهم في الحلبة التي صرعتهم فيها. . . خبريني. . . من منهم استطاع أن يتماسك أمامي. . . من منهم قاومني ولم يفر من
طريقي. . . من منهم ارتفع له صوت منذ ارتفع بالغناء صوتي. . . كلهم ذابوا. . . لأنهم هم الذين كانوا يمثلون ويتكلفون ويتصنعون، أما أنا فإن غنيت فإنما أغني من قلبي، وإن تحدثت فإنما أتحدث بروحي. . . أنا الأصل الذي يمثله أولئك وغيرهم. . . وأنت تقولين عني إني أمثل. . . أنا يا هذه سابق جيلي. . . أنا يا هذه ستقدرينني بعد موتي. . . وإني لأشعر بأن الغيب يضمر كاتباً صغيراً سيطرق هذا الدرب الذي طرقته، وسيذوق هذا المر الذي ذقته، وأنه سينصفني منك. . . أنصفه الله من ثعبانه هو أيضاً. . .
- هو؟ من هو؟
- لا أدري!
- مجنون!. . . هل لك في كأس؟!
- هات كأساً وكأساً وهات العود. . . وهات شمة إذا كان عندك. . .
- أما قلت إنك هجرته. . .
- والآن بفضل عطفك وحنانك رددته. . .
. . . وجاءت له بالعود، وبالخمر، وبالكوكايين. . . ودعت له أتباعه وأصدقاءه. . . وجلست إليه وراح هو يغني. . .
وظل يغني. . . ويغني. . . وليلتها مات!
هاللويا
فأي شيء غنى ليلتئذ. . .
غنى (أنا هويت). . .
ولكن كيف غناها؟. . .
غناها كما كان داود يرتل مزاميره. . . كانت روحه تتقلص من بدنه في كل شهقة وفي كل زفرة. . . كان ينتفض فزعاً من دنياه إلى بارئه شكاية، وتسبيحاً. . .
كانت نفسه تصغي إلى النداء الآتي من الغيب في خفوت لا تسمعه الأذن وإن استجابت له الروح. . .
كان يقول لربه: لبيك لبيك يا رب. . . قالها معنى وإحساساً ونغماً وإن لم يفصلها لسانه لفظاً وحرفاً. . .
لقد بكته
وبعد أن رحل سيد أدركت الظالمة أنها كانت ظالمة، وأخذت تراجع نفسها وتسائلها: لماذا ظلمته؟ ولماذا حرمته مما كان يطلبه منها على أنها كانت تعطي غيره ممن هم دونه حلاوة وبهاء وروعة ما كان يسعده بعضه لو أنها أعطته بعضه. . .
وأخيراً أدركت السر.
عرفت أنها كانت تغار منه.
قد كانت هي غانية، وقد احترفت العبث بالنفوس وأتقنت هذا العبث، وقد استهوته أول ما استهوته بدمعة ذرفتها من عينها عمداً، وشكوى مدبرة باحت له بها قصداً، لما رأته يتردد على مجلسها مغنياً تتعالى روحه عليها، فما ينظر إليها نظرة الإعجاب المغرضة المتعجلة التي كان يوجهها إليها الناس جميعاً، وإنما كان يراها كما يرى الإنسان الإنسان، ويفتح لها نفسه كما يفتح الصديق نفسه لصديقه. . . وقد رأت في نفسه صورة قديمة لغرام قديم علمت أنه الذي يشغله عنها. . . ورأت هذه الصورة القديمة أحاطها بإطار من الإخلاص والإجلال اشتهت لنفسها مثلهما. . .
فزحفت إليه. . . ولكنها فشلت معه في كل محاولة حاولتها. . . وأخيراً صرعت هذا الجبار بالدمع. . . والدمع آخر سلاح تلجأ إليه المرأة، وهي إن لجأت إليه لم تنس فيه مرارة الذل الذي دفعها إلى حمله. . . فإن أفلحت به في اقتناص فريستها، فالويل بعدئذ لهذه الفريسة فلن ترضى المرأة منها إلا بدمع ودمع ودمع ودمع. . . ولن تعطي هي بهذا الدمع شيئاً لأنها تذكر دائماً أنها سبقت وسفكت قبله دمعاً. . .
هو ثأر!
والجبار يحتمله لأنه يذكر دائماً أن الذي صاده ذل، وكل جبار شديد العطف على كل ملوع بائس. . .
استدرجته إذن بهذا. . . ثم راحت تجمع الناس عليه، فإذا بالناس ينفضون عنها إليه، مع ما كانت تتفنن في لفت الأنظار أو الأسماع إليها في حضور سيد، فإن الأنظار والأسماع والأفئدة كانت تنفر منها إليه فقد وجدت فيه غذاء للأرواح ومتعة. . .
وهكذا أصبح الثأر ثأرين. . .
وبعد موته. . . نسبت هي هذين الثأرين، وحز الأسى في نفسها حزاً إذ فقدت الذي آمنت أخيراً بأنه كان خيراً منها ألف مرة وأنه مع هذا كان يحبها كما قال قضاء وقدراً. . .
لـ الفاتحة
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. إهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم. ولا الضالين. آمين. . .)
. . . آية من فن الله الأسمى. هي خير ما يهدي إلى روح الملهم الذي غنى، فأطرب وأشجى، وأضحك وأبكى، وسبح بالهدى فناً، نغماً ولحناً، ما أجهده الفن وما أضنى، وإنما كان وحياً يوحى. تبارك الذي أوحى.
عزيز أحمد فهمي
البريد الأدبي
غذاء العواطف والعقول
نشرت الرسالة كلمة للآنسة فوقية كامل في الاعتراض على ما عقَّبنا به على كلمة الدكتور مشرّفة بك: (العواطف من القُوى الأساسية في حياة الإنسانية، وهي تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول) فقد نهينا القراء عن تصديق هذا الكلام، ودعوناهم إلى متابعة أخبار الحرب بين الإنجليز والألمان، فأخبار الحرب هي زاد العواطف والعقول في هذه الأيام العجاف!
والآنسة فوقية كامل تسأل عن معنى ذلك النهي ومدلول هذه الوصية.
وأجيب بأن ذلك متصل بأحاديث مرّت في الرسالة منذ أسابيع في الرد على من يتوهمون أن الحوادث العمومية تصرف الناس عن شواغلهم الخصوصية، ومن تلك الشواغل نوازع القلب والوجدان.
وعلى ذلك يكون الكلام ورد مورد السخرية من الذين لا يرضيهم إلا أن تكون أيام الحرب ملاطم ومناحات، فلا يهفو قلب في إثر قلب، ولا يظمأ روح إلى روح.
وبهذا يُحلّ الإشكال، والسلام!
زكي مبارك
سرقة أدبية قبيحة
لسنوات مضت كتب الأستاذ الجليل خليل جمعة الطوال من مثقفي شرق الأردن بحثاً على صفحات مجلة الشباب التي كان يصدرها الأستاذ محمود عزمي عن (الشاعر الفارسي والفيلسوف الرياضي عمر بن إبراهيم الخيام) - وقد قدم لبحثه (بتوطئة) استعرض فيها تواريخ الآداب العربية تخلص منها إلى (حياته) و (تاريخ ولادته) و (تصانيفه) و (رباعياته ومن قام على ترجمتها) - وختم بحثه بذكر أسانيد البحث ذاكراً أنه استمده من المصنفات الآتية:
1 -
موسوعة العلوم البريطانية ج16 ص786 طبعة 14.
2 -
فيتز جرالد
3 -
نزهة الأرواح للشهرزوري.
4 -
تاريخ الحكماء للقفطي.
5 -
جامعة التواريخ لرشيد الدين.
6 -
'
7 -
ديوان عمر الخيام لأحمد صافي النجفي.
8 -
ديوان عمر الخيام تعريب أحمد رامي.
ومن العجب العاجب أن هذا البحث الذي عالج فيه كاتبه مصاعب الاطلاع على المصادر السالفة مستنداً كل جملة إلى المصدر الذي استقاها منه يسطو عليه الأستاذ عبد الحميد سامي بيومي كما تنعته مجلة الثقافة فينقله إلى مجلة الثقافة فتنشره له بعددها 86 الصادر في 30 أغسطس سنة 1940 بعنوان عمر بن إبراهيم الخيام حياته وفلسفته!!!. . .
(جرجا)
محمود عساف أبو الشباب
الغناء المصري
سيدي الأستاذ رئيس تحرير الرسالة
بعد التحية. إنني أعتقد أن الأستاذ سيد قطب في مقاله عن الغناء المصري قد ظلم المؤلفين خصوصاً بعد أن نزل إلى ميدان التأليف الغنائي كثير من أقطاب الأدب المصري أمثال شوقي بك والأستاذ رامي وغيرهما. ونظرة واحدة في أغنية (في الليل) من شعر شوقي وفيها البكاء والأنين والنوح والشوق الخ، ترينا أن الذنب في الضعف ليس ذنب المؤلفين. وما يقال عن شوقي بك يقال عن رامي وغيره. وقد أحصيت أكثر من خمسمائة أغنية مصرية قديمة وحديثة ووجدتها إما أنها تحتوي على الضعف الذي ينعيه الأستاذ سيد قطب، أو على إغراء رخيص للميول الجنسية، وقد سبق أن تألفت لجنة من أفاضل الأدباء للعمل على ترقية الأغاني المصرية والسمو بها عن هذا الضعف، وكان من بين أعضائها شاعر اشتهر بميوعة أغانيه التي تنشرها له الصحف الأسبوعية، ولم أجد فيمن ألف من اقترب من شكسبير الذي تعتبر أغاريده المقياس الحي للأغاني ولو أن من القسوة أن نقارن شعراءنا بشكسبير، إلا أن النهوض بالأغاني يجعلنا ننظر النظرة السامية لهذا الشاعر الذي
كان إذا اضطرمت عواطفه لا يلجأ للبكاء والنحيب بل كان يخرج من أزماته النفسية رجلاً كامل الرجولة، مما كتب لأغاريده الخلود
إن العلة إذن ليست في التأليف ولا في التلحين، بل هي تتجه لنفسيتنا الخاصة، فقد حتمت الظروف الطبيعية أن تتجاوب النفس المصرية بعاطفتي الفرح والحزن في آن واحد لمسبب واحد، وتأصلت هذه النفسية فينا من أقدم العصور وورثناها عن أسلافنا فأصبحنا مثلهم نجد اللذة فيما يحزن كما في أغانينا المريضة، وقد كشفتُ أثناء إقامتي في صعيد مصر عن سر هذه النفسية المعقدة ونشرت ملخصاً عنها في البلاغ يوم 15 مايو سنة 1933 بعنوان:(ندب النساء في مصر وما يعرف عندنا بالعديد)، وقد ذكرت في هذا البحث أن نغمة الصبا محببة إلى قلوبنا لأنها تميل إلى الحزن، وقد أيد الأستاذ الكبير العقاد هذا الرأي بعد ذلك بسنوات في مقال له عن الجهاد عن (أغاني الزفاف والأفراح) وعلى ذلك يجب ألا نلوم التأليف أو التلحين، لأن هذا الضعف عنصر من عناصر طبيعتنا المصرية، وأرجو أن أتمكن قريباً من نشر بحثي الخاص بهذا الموضوع كاملاً.
(كوم حمادة. بحيرة)
كامل يوسف
عضو بالمعهد البريطاني الفلسفي بلندن
المعاني شائعة، ولا تجوز الملكية فيها
تحت هذا العنوان في عدد من الرسالة مضى كتب الأستاذ محمد عبد الغني حسن مقالاً طريفاً ضمنه دفاعاً حاراً عن طائفة الشاعرين والناثرين ضد غارة جماعة الناقدين الذين يعطلون بنقدهم المواهب المتوثبة والاجتهاد المطرد. فعنده أن المعاني شائعة ولا يجوز أن نعد من يهتدي إلى تسجيل معنى قد سجله من سبقه، ناقلاً، أو سارقاً، أو لصاً؛ بل إن المعاني الإنسانية زاخرة تضطرم بها كل نفس، ويجيش بها كل صدر، وليست وقفاً على طائفة دون أخرى. وهذا حق، فما المعاني إلا وليدة مؤثرات تكاد تتشابه في كل الأعصر والأزمان، والناس هم الناس في كل مكان، فلا مبرر إذن لهذه الغارات إلا إذا كانت السرقات بينات. . .
ولكن اقرأ معي هذين البيتين لكبيرين من الشعراء قيلا لغرض واحد ثم انظر ماذا ترى
قال المرحوم أحمد شوقي على لسان (أتوبيس) الكاهن في رواية (كيلوبترا) يخاطب غزاة مصر من الرومان:
قسما ما فتحتمو مصر لكن
…
قد فتحتم بها لرومة قبرا
وقال الأستاذ حسن القاياتي يخاطب حفدة الرومان الذين يبغون فتح لوبيا:
وما ملكوها غير نزلة ساعة
…
وما القبر مملوكا لمن فيه ينزل
ألا ترى معي يا سيدي أن المعنى واحد في البيتين، وأوشك أن أقول إن أحدهما مأخوذ من الثاني؛ فلمن تعطى الأفضلية في الاهتداء إلى هذا المعنى النبيل، أم تقول إن المعاني شائعة ولا يجوز فيها الملكية والاختصاص وكفى؟
محمود المرسي خميس
حول (الجندول)
سمعنا أغنية (الجندول) مرة أخرى مسجلة على اسطوانات بعدما سمعناها على شريط ماركوني، وكنا نود من الأستاذ عبد الوهاب أن يتلافى - في هذه المرة - الأخطاء التي وقعت منه في المرة الأولى، حتى يعيد إلى هذه القصيدة الجميلة ما أضاعه من معانيها الرائعة. فهاهي ذي الأخطاء تعاد علينا ثانياً كما هي (فسُرى الجندول) كما في ديوان الشاعر بضم السين، يقولها (فسَرى) بالفتح، و (ذهبي الشَّعر) بفتح الشين يقولها (الشِّعر) بالكسر، والمعنى كما هو مفهوم الشَّعر لا الشِّعر، (ويوم أن قابلتَه) بفتح التاء يقولها (قابلتُه) بالضم. ونحن هنا نريد أن نسأل الأستاذ عبد الوهاب عن السبب في تكرير هذه الأخطاء مع أنها ظاهرة، وقد أشار إليها كثير من النقاد؟
محمد السيد شوش
غلطة!
أستاذنا (الدكتور مبارك) مولع بتعقب الأخطاء اللغوية التي يقع فيها كبار الأدباء والكتاب؛ حتى إنه تمنى أن تسجل دروس اللغة العربية التي يلقيها المدرسون المختصون على طلاب المدارس الثانوية بواسطة المذياع. . . حتى يتسنى له أن يحاسب هؤلاء المدرسين على ما
يقعون فيه من أخطاء محاسبة المفتش المختص. فلعله أن يكفكف من حدته، ويلتمس لهم العذر إذا نحن نبهناه إلى غلطة مكشوفة وقع فيها وهو من هو، أجل، فقد أورد في كلمته المنشورة بالعدد الفائت من (الرسالة) الغراء هذا البيت:
فلا تحسبوا هنداً لها الغدر وحدها
…
سجيةَ نفس، كلُّ غانية هندُ
بفتح تاء سجية! ولا شك أن هذا خطأ والصواب ضمها، وسبب ذلك لا يخفى على مثل الدكتور الفاضل.
إبراهيم محمد نجا
استدراك
سقطت من مقال (من عجائب الفهم أيضاً) للأستاذ زكي طليمات، وذلك في العدد 374 صفحة 1389 فيما بين السطرين السابع والثامن من العمود الثاني، الفقرة الآتية:
(والمسرحية لا تنهض بناحيتها الفلسفية فحسب، بل هناك عناصر أخرى تستند إليها وتستمد منها رونقها وبهاءها. وأهم هذه العناصر بلاغة العرض لحوادثها، وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار، ومبلغ توفيق الكاتب في تقدير المعلوم واستكناه الغامض مما يجول في أقطار النفس البشرية، وذلك عن طريق شخوص مسرحيته. وأعتقد - وأنا رجل مسرح - أن في مسرحية (مفرق الطريق) لبشر فارس شيئاً كثيراً من هذا).
إلى الأستاذ إبراهيم أدهم
كان لوفاة المرحوم شقيقكم الدكتور إسماعيل أدهم وقع شديد في نفوسنا لما له من اليد الطولى على الأدب العربي.
وإني أرجو من الأخ أن يسمح لي أن أسأله عدة أسئلة إظهاراً لما غمض علينا من حياة الفقيد:
أولاً: هل صحيح أن الدكتور إسماعيل أدهم ذهب إلى روسيا ونال درجة الدكتوراه؟ وإذا كان قد مكث في روسيا فكيف أذنت له الحكومة المصرية بدخول الأراضي المصرية؟ وما هي المدة التي مكثها في الأراضي الروسية؟
ثانياً: هل صحيح أن الدكتور أدهم كان ملماً باللغة الألمانية؛ ولقد أخبرني من أثق به أنه
أثناء التحقيق معه بصدد كتابه (لماذا أنا ملحد) تبين أن لم يكن يعرف الألمانية بل ولا الروسية أيضاً، وما هي المدة التي قضاها الفقيد في تركيا؟
ثالثاً: هل ألف الفقيد كتاب (لماذا أنا ملحد) أم ترجمه وعن أي لغة ترجمه؟
هذا ونرجو من الأستاذ الفاضل أن يظهر لنا الحقيقة على صفحات الرسالة الغراء
إبراهيم حسنين البريدي
نؤت بالحمل وناء بي
قرأت ما جاء في عددي الرسالة الغراء 371و373 خاصاً بهذا التركيب (نؤت بالحمل وناء بي) وما أثير حوله. ولقد أحسن الأستاذ أبو الفضل السباعي حين ساق الآية الكريمة: (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) سناداً قوياً يدعم به رأيه في أرجحية التعبير بالشطر الثاني من التركيب (ناء بي الحمل) ومؤيداً بذلك رأي الأستاذ علي الطنطاوي.
وقد رأيت خدمة للعربية أن أورد بعد التقري والجهد ما ذكره (المبرد) خاصاً بهذا التركيب وأمثاله. قال رحمه الله معلقاً على معنى في بيت الفرزدق:
وأطلس عسال وما كان صاحباً
…
رفعت لناري موهناً فأناتي
هكذا الرواية. قال: (رفعت لناري من (المقلوب)، وإنما المراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبس جاز القلب للاختصار. قال الله عز وجل:(وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة). ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزتها. والمعنى لتنوء بعجيزتها.
وقد سبق إلى هذا القلب كثير من شعراء العرب. أنشد أبو عبيدة للأخطل:
مثل القنافذ هدّاُجون قد بلغت
…
نجرانُ أو بلغت سوآتِهم هجرُ
فجعل الفعل للبلدتين على السعة. وأنشد الفرزدق:
غداةَ أحلَّت لابن أصرمَ طعنةً
…
حصين عبيطات السدائف والخمر
بنصب طعنة ورفع عبيطات والخمر على ما وصفنا من القلب، غير أن الكسائي أنشده عكس ما أسلفنا، فرفع طعنة ونصب عبيطات رائياً بعدم القلب
وعليه فالرواية بكلا الشطرين صحيحة في محض العربية.
محمود مصطفى بدوي
الكتب
على هامش التاريخ المصري
لمؤلفه الأستاذ عبد القادر حمزة باشا
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا حكم القارئ على هذا الكتاب من عنوانه ظلمه كما ظلمه مؤلفه الكبير بهذه التسمية.
لأنه يتوهمه شذرات عرضية تعوم حول حواشي التاريخ المصري القديم، ولا تنفذ إلى صميمه أو تخلص إلى متنه، وهو على نقيض ذلك أحرى أن يسمى (من عناصر التاريخ) أو من أسسه، لأنه يلخص الأغراض التي من أجلها يدرس تاريخنا في أدواره المختلفة، ولا يمنع ذلك أن الكتاب لم يسلسل الأدوار من بدايتها المجهولة إلى نهايتها المعروفة، ولم يفصل تراجم الملوك والأسر ملكاً بعد ملك وأسرة بعد أسرة. فهذه كلها أرقام وأقسام، والعبرة بما وراء تلك الأرقام والأقسام
وفي الكتاب فصول عن نشأة الحضارة المصرية وعلاقة الكلدان واليونان بها، وعقائد المصريين في الآلهة والحساب بعد الموت، وما نسميه اليوم البروتوكول أو الآداب السلطانية عند الملوك الأقدمين، ومقتبسات هومير والأدباء الإغريق من الأساطير الفرعونية، وبحث عن التقويم المصري وعن المعارك الحامية التي نشبت بين رجال العلم ورجال الكنيسة في القرن الثامن عشر من جراء الكشوف والآثار التي دلت على قدم وجود الإنسان في وادي النيل وسبقه للأزمان المقررة في عرف رجال الكنيسة ومفسري التوراة بما سنح لهم من وجوه التفسير؛ وكل بحث من هذه البحوث شاف في موضوعه مغن عن مراجعة الأسفار الكثيرة نافذة إلى اللباب المختار.
وللكتاب مزيتان قيمتان بين كتب التاريخ: إحداهما أسلوب رائق بلغ من صفائه وإحكامه وسلاسته أنه يمتع القارئ بالأدب إلى جانب المعرفة التاريخية، وأنه يرسل النضرة في أوراق البردي اليابسة فإذا هو مخضوضر رفاف
والمزية الثانية أن الطريقة التي تناول بها الكاتب القدير موضوعاته طريقة موحية تفتح أمام الفكر أبواب التأمل والنظر ولا تقصره على ما يراه أمامه ماثلاً في الكلمات والسطور.
كنت أقرأ فصله عن الخلاف بين رجال العلم ورجال الكنيسة على تاريخ نشأة الإنسان فتحضرني أمثال هذه الخلافات وأسأل هل يعادي هؤلاء الناس العلم أو يعادون الدين وهم يزعمون أنهم نصراؤه والغيورون عليه؟ ففي الحقيقة هم يضيرون الأديان عامة ولا يضيرون العلوم أقل ضير، فلو صدق الناس ما كان رجال الدين يفرضون عليهم تصديقه لشك الناس فيما يفرض عليهم ولم يشكوا في الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل ولا تصبر عليه إلا إلى حين.
وكنت أقرأ تارةً في هذا الفصل وتارةً في ذاك شيئاً عن عادات المصريين في تسجيل المحفوظات أو في التحنيط أو في تدوين المعارف والملاحظات أو في إحصاء السنين والأزمان، فيوحي إليّ ذلك كله معنى جديداً من معاني الفوارق العجيبة بين ثقافة المصريين وثقافة الإغريق
فهاهنا حاسة تاريخية تثبت في النقوش مظاهر الحياة لأنها تثبت كل شيء للحفظ والتذكار والبقاء
وهاهنا حاسة علمية تثبت المظاهر لتنظمها في سلسلة المعارف والمشاهدات الملحوظة
وما سر هذا الفارق بين الثقافتين؟ هل سره امتياز في عقول اليونان أو عجز في عقول المصريين كما يحب الأوربيون أن يقولوا أو كما قالوا في دراسة الحضارات والأجناس؟
كلا. . . بل سره أن المصريين أصحاب تاريخ وولع بالتخليد راجع إلى قدم الكهانة وسيطرتها على المعارف والأفكار، وأن الإغريق لم يشعروا بضرورة التخليد ولا بأعباء الكهانة الموروثة فالتفتوا إلى مظاهر الحياة للعلم، ولم يذهبوا بها مذهب الحفظ والتقديس. ويؤيد هذا أن الأوربيين غلبت فيهم صبغة الكهانة على صبغة المعرفة حين استقر للكهانة بينهم تاريخ طويل.
وتقرأ الكلام عن معاملة الأسرى أو عن عروس النيل أو عن دساتير الحكم فإذا أنت مسترسل مع إيحاء الخواطر إلى حوادث هذه الأيام، وإذا بالزمن الدابر قد دبت في عيدانه اليابسة نضرة الحياة.
مجلدان آخران من قبيل هذا المجلد الأول كفيلان بنقل الزمن القديم في مصر إلى عالم الحياة الحاضرة، فقد كفانا من التاريخ ما يخرجنا من الحياة الحاضرة إلى الزمن القديم.
عباس محمود العقاد
من الأدب الفرنسي
قصائد وأقاصيص
لصاحب الرسالة
بقلم الأستاذ (عابر سبيل)
تفضل المحرر الأدبي بجريدة الدستور فكتب هذه الكلمة الكريمة:
لم يكد ينقطع الحديث بعد عن كتاب (وحي الرسالة) الذي قدمه لقراء العربية الأديب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات، حتى طلع علينا قلمه الزاخر بفيض جديد من أدبه الرفيع في كتابه الجديد (من الأدب الفرنسي)، وهو مجموعة من فرائد الأدب الفرنسي لأمراء الشعر والنثر في فرنسا الخالدة:(لامرتين، وهوجو، وشاتوبريان، وجي دي موباسان). نقلها الأستاذ من مكانها في قمة الأدب الفرنسي إلى نظيره في قمة الأدب العربي، بأسلوب عربي لا حاجة به إلى التقريظ والإشادة، ولا حاجة لصاحبه إلى كلمة ثناء بعد إذ شهدت كل آثاره الأدبية موضوعة ومعربة، منذ أن عرب (آلام فرتر) إلى اليوم، بأنه يختص في عالم البيان بطريقة لا يشركه فيها كاتب، وطابع لا أثر فيه للتكلف والاجتهاد، وإنما هو طبع أدبي مستوعب لأسرار البلاغة العربية، وذوق موهوب في صياغة الجملة العربية من نثار لفظي متخير بحيث لا تند كلمة في المعنى عن أختها، ولا ينحرف جرسها عن الموسيقى المنسابة في سائر الجمل والتراكيب، وبحيث لا يصدم سمعك نبو في الجرس، ولا يرهق لسانك جسوء في المخرج، ولا يتعب يدك بحث في القاموس عن معنى نافر غريب لكلمة وحشية جافية. وتتضافر كل هذه القوى البيانية لإبراز معنى من المعاني يتلبس بها جميعاً تلبس العطر النافج لأكمام الزهرة الندية، من أية ناحية تلمستها يدهك منها العبير المشبوب. ومعاني (الزيات) في أغلب موضوعاته ومترجماته تهدف دائماً إلى نور الحق والخير، وجمال الحب والرحمة، وسحر الآلام الإنسانية الرفيعة التي تتموج بها قلوب الشعراء والعشاق والبائسين من بني الأرض. ومن يقرأ طرفاً من شجن (رفائيل) وحيرة (فرتر) في معرباته لهاتين القصتين العالميتين، ويجري وراء قلم الزيات في فصوله المتعاقبة منذ أنشأ (الرسالة) وأشرف على تحريرها إلى اليوم يدرك مدى هذه الحقيقة في أدبه سواء في ذلك
الموضوع والمعرب. ويكفي أيضاً لإدراكها أن تطالع فصول الكاتب الجديد وتقف على عظمة اتجاه المعرب في اختيار الموضوعات الإنسانية الرائعة التي عالجها الشعراء والكتاب الفرنسيون الذين عرب لهم؛ فالذي يطالع منها قصيدة (الشاعر المحتضر) للامرتين يتمنى من أعماق روحه أن لو كان هو ذلك الشاعر الفاني الذي يودع الدنيا وعلى قيثاره آخر نغم من أنغام الحب والجمال، وعلى قمة عظة السخرية الهائلة بالمجد الذي يفنى العالم جيلاً بعد جيل في سبيله، وما هو إلا لفظة جوفاء مجرودة من كل هذه المعاني الزائفة التي خلعها عليه الإنسان. وقصيدة (المستقبل التي وجهها فيكتور هوجو إلى نابليون عقيب اندحاره في (واترلو) حافلة بأخلد المعاني الإنسانية التي تتفجر بها قلوب الأحرار من الشعراء حيال الطغيان البشري الذي يجره المغترون بالبطولة والعنفوان، المتحكمون في رقاب العالم إشباعاً لشهواتهم وأنانيتهم. . . إلى آخر ما في هذه النفحة الجديدة التي يشاء القدر أن تطلع على الناس في وقت نرى فيه فرنسا مهد الشعر والفن والجمال والحرية أصبحت ميداناً لأكبر صراع في تاريخ البشرية بين الحرية والاستعباد، وفي لحظة يعتكر فيها ضباب الطغيان على أعظم منار في العصر الحديث للفنون والحضارة.
فلا أقل من أن تؤول ظهور هذا القبس الأدبي في ظلام المحن تحية صامتة لفرنسا وصوتاً جديداً يذكر الشرق بفضلها على الأدب الإنساني كله وعلى الأدب العربي بوجه خاص. . . نسأل الله هداية كتابنا إلى مثل هذا المجهود الأدبي العظيم الذي يضم به الزيات يداً جديدة من أياديه الخالدة على الثقافة المصرية والأدب العربي الحديث.
(عابر سبيل)
القصص
القديس لا يحار
للأستاذ يحيى حقي
تحلل القديس من قيود الوطن والأهل والأصدقاء ورحل يبلِّغ رسالته للناس، يبين لهم باطل الدنيا ودنس المال، ويدعوهم إلى اللحاق به في هجرته إلى الله وحده، لا يملك شيئاً ولا يستقر بمكان.
وسار وراءه نفر من أتباعه. رجال جاوزوا سن الثورة والاستهتار، خشنوا الجلد والملبس، إذا نزلوا بلداً سهل إيواؤهم وإطعامهم. . . وتشييعهم؛ ولو لم يتبعوه لظلوا أمام بيوتهم يصطلون الشمس طول النهار. ولكن من هذا الشاب الجميل الذي يسير في مؤخرة الموكب مديد القامة عليه سمة النبل، متئد الخطوة كأنه متبوع لا تابع. ما أصفى بياض يديه ورخوصة أنامله، يشد بها حافتي مسوحه فكأنها مشبك من الأحجار الكريمة. . . من يكون؟ ولماذا يسير مطرق الرأس؟
إنه النبيل (ع)، الابن الأصغر لسيد مقاطعة نائية، تربى في كنف العز وعاشر السعداء ولم تقع عينه على بؤس. ولما مات الأب، وورث الابن الأكبر لقبه وضياعه، دعا أخاه المدلّل وقال له:
- لا أطيق أن أصبح مميزاً عنك فأنفرد بالخير كله، ومقامك في قلب أبي الكريم كان فوق مقامي، فإن شئت عشنا سوياً لك مالي، وإن شئت اقتسمنا التركة بالتساوي.
فأطرق النبيل (ع) برأسه، ولم يجب؛ ثم غادر القصر واعتكف في كوخ صغير أياماً طويلة خرج بعدها يعلن لمن حوله أن هاتفاً هتف به بين اليقظة والمنام يدعوه أن التحق بالقديس. فلما ترامى الخبر للناس عدّوها كبرى معجزاته، وأكبروا في النبيل نزوله عن الغنى الواسع والعز العريض، واختياره التكفف وسؤال الناس كسرة الخبز في سبيل الله.
طارت شهرة النبيل بين الناس وتزاحموا حول الموكب لا ليروا القديس، فهم لا يجهلونه، بل ليتطلعوا إلى النبيل الوسيم كيف يبدو في ثياب الراهب. ينصرف الرجال عن الموكب وهم أرضى نفساً وأهنأ بطعامهم وشرابهم. أما الأمهات والجدات فكن يسبحن لله الذي سبقت إرادته فاختار هذا الوليد لحياة كلها حرمان وقسوة وما كان أجدر شبابه بالتمتع
واللعب. أما الفتيات فكن إذا رأين يده الناعمة الرخصة فوق المسوح الخشن، وتطلعن إلى وجه الشاب الذي أصبح مناله صعباً بل حراماً، شعرن بقشعريرة تسري في أجسادهن وركعن على الأرض يتمتمن بصلاتهن، ولكن أحداً لم يفلح في أن يرى عينيه. . . لماذا هو مطرق، ولماذا يسير في مؤخرة الموكب ولو شاء لكان في أول الصفوف؟ ليس بينه وبين القديس إلا خطوة واحدة
وفي يوم مر القديس وحاشيته على قصر منيف، فسأل عن صاحبه فقيل له إنه لثري عظيم لا هم له إلا اكتناز المال ولم يسمع عنه في يوم أنه أحسن بدرهم. فعدل القديس عن مواصلة سيره ودخل القصر ليهدم منه للشيطان معقلاً ويظفر بتخليص أرواح ساكنيه. فوجد الثري جالساً أمام مائدته تتكدس عليها الأطباق والأقداح، عن يمينه زوجه، وعن يساره ابنته، وأمامه أولاده، ومن حواليه أتباع وحشم يتطلعون لشفتيه لعلهما تنبسان بأمر
امتلأت الردهة بالأصوات، ولكن الضجة لم تمنع النبيل - ولعل إطراقه ساعده على إجادة السمع - من أن ينتبه لضحكة رقيقة تحاول صاحبتها كتمانها فلا تقوى. . . هل مبعثها سرور أو دهشة؟ أم هي سخرية؟ رفع رأسه فوجد ابنة الثري تتطلع إليه بعيون ندية كلها أضواء. . . ورأى كيف تحتال حتى جاء مقعده إلى جوارها.
وتفجر القديس يلوم، وكأن روحه ترمي بالشرر، ثم يعظ، فكأن قلبه يفيض بالغيث المنهمر، وسحرت بلاغته الحاضرين فتقاربت الوجوه وتشابهت السحن فما يُميز بين السادة والخدم.
واختلت الفتاة بالنبيل وجرى بينهما حديث خافت:
- لو أنك مررت علينا من قبل لخطت لك هذا المسوح على قدّك فإنني أشفق عليك وأنت تتعثر في أذياله، وتتيه ذراعاك في أكمامه، فقل لي بالله عليك كيف تحتمله؟
- لا يكربك الأمر؛ فلست دالفاً إلى مرقص، بل ساعياً إلى رب ينظر إلى القلوب لا إلى الأثواب.
- ويلي إذن! لقد كنت أظن الرقص عبادة؛ فما رقصت مرة إلا شعرت أنني أقرب إلى الله مني في أوقات الفراغ والسأم.
وهنا وجد الشاب نفسه أسير نظرة فاحصة ماكرة، هازئة كلها عطف وفهم، فيها بريق عين النهم وهو جائع مقبل على أشهى أطعمة.
جرحه نفوذ النظرة إلى قلبه فانقبض، ولكنه استراح لعلمه أنه لو شاء لكان سلطانه على الفتاة أقوى من سلطانها عليه.
فأجابها قاصداً هدايتها كأنه لم يغضب ولم يبال:
- وما بعد الرقص؟ ألا تفكرين أن كل هذا سراب. وأن هناك موسيقى غير موسيقاكم. اللهم إن كلي آذن لسماع أناشيد التماسيح بحمدك، الصاعدة من الكون، المدوية في الفضاء، فأسألك اللهم أن تجعل من قسمتي سماعها!
- إن الله قد أغدق نعماءه على الكون ولم يحرم منها إنساناً له قلب وبصر، فذهابك الآن تقرع باب الله دليل على أنك عشت إلى اليوم غافلاً عن جماله. وهذا ماضٍ سيقعد لك في مستقبلك وإن جاهدت. خذها عني: إن الله لا يحب من عباده السائل اللحوح اللجوج، ولا من يستعين للوصول إليه بمسبحة طولها أمتار. . .
ثم مالت الفتاة على أذنه تقول:
- هلّم اعترف أنك فهمت أنني أعلم لماذا ارتديت المسوح. أنت طموح، مبدؤك إما الكل وإما العدم. تركت الثروة لأنها نصف. والدنيا لأن كل لذة لك فيها تنقضي، فإذا هي تقصر عن حد تتخيله. وتسير في مؤخرة الصفوف لأنك لست على رأسها. ولو وقفت بين يدي الله لسألته: ما وراءك؟ فتواضعك هو الكبرياء. وزهدك هو غاية الطموح. إنني أعلم أنك نشأت يتيم الأم، ولو عاشت لوجدت في عطفها ما يرطب قلبك، وما أشبهه الآن بصخرة في أعلى الجبل. . . ومع ذلك لم يُفقد الأمل فيك. لقد اخترتك لنفسي، فابق، أنظر إلي، وتمتع بجمالي. ستعلمك قوة حبي كيف تؤمن أولاً بإنسانيتك ليصح إيمانك بعدها بالله. إن لأبي جماعة من مهرة الموسيقيين إذا وقعوا على آلاتهم أرقصوا الجماد، سأجعلهم يعزفون إذا أذن رئيسكم ولا أظنه يرفض وإلا لما كان قديساً - فماذا عليك لو خلعت المسوح وارتديت أبهى الأثواب؛ فقمت إليّ وانحنيت أمامي وتناولت يدي ودار ذراعك حول وسطي وضممتني إلى صدرك، ورقصنا فتمثّلت النغمة في حركاتنا، ثم انفلت عنك وأنا أخبر بك وأنت أدرى بي. . . وسترى أنه لا يزال هناك أمل.
انهد كل شيء من حوله. لو أنه أطاع وسواسه لهوت يده عليها يشدها من شعرها، ويجرها على الأرض. ولداسها بقدميه أو لمال عليها يغمرها بقبلاته. ولكنه خطا خطوة ليس عنها
نكوص. ولو نكث لما صدقه من بعد ذلك أحد، ولا صدق هو نفسه. ولقد بقى في أذنه من كلام الفتاة لفظ (الأمل). إنه سيظل حيث هو، جاهداً في طريقه متحملاً ما لا تقوى على تحمله الجبال، آملاً أنه في النهاية سيرى بارقة الرضا في وجه ربه الكريم. . . ولكن الآن! الآن! الحياة كلها أمامه في متناول يده. آلاف الأصوات في تناديه: أقبل! اشرب! إنني عطشى.
وكان القديس لا يزال يعظ، ورويداً رويداً طأطأت الرؤوس على الصدور، وتصاعدت الآهات، وانفجرت الدموع، وركع الجميع أمام القديس، يلثم رداءه من لم يستطع الوصول إلى يديه المرفوعتين نحو السماء.
وترك الثري مائدته ووقف يقول للقديس بصوت يغالبه البكاء:
- أسلمت قيادي إليك. فأنا منذ اليوم من أتباعك، سأترك القصر وما فيه من متاع وما حوله من ضياع، سأترك مخازني، بعتيق شرابها، والحقل بعجيج دوابه سأتبعك كظلك، ولن أكون وحدي، بل سيتبعني أيضاً كل هؤلاء: زوجي وأبنائي وزوجاتهم وبناتي وأزواجهن والأصهار وأبناء العمومة والخؤولة وكل من انتسب إليّ من خدم وحشم وأتباع. أرنا الطريق ونحن في أثرك.
لم يحر القديس جواباً، لم يتعقد جبينه، فهو وضاء منير. ولم يزم شفتيه؛ فابتسامته الجميلة هي هي، ولكنه غائب عن الجمع، نظرته تائهة، لعله يستمع إلى وحي خفي يقول:
- لو تبعوك لخرب القصر وبارت الأرض ونفقت الدواب ومن أين لك إطعامهم وإيواؤهم وإيجاد عمل لهذا الجيش العرمرم. هل سيتكففون الناس مثلك؟
لم ينقص إيمان القديس ذرة، ولم يهتز لحظة، فكيف يكون قديساً إذا بدت له المسائل كما تبدو لبقية الناس متناقضة مضطربة، مضحكة مبكية، لهؤلاء القديسين نظرة تشمل الكون وتفهم الأسرار، فما يبدو عجيباً هو ذات الحكمة، وما يبدو متناقضاً هو عين الاتساق.
قال القديس بصوت كأنه يخرج من كهف عميق:
- يا بنيّ! أحمد الله أن هداك أنت ومن معك للحق. . . على يديّ! إن الطريق الذي تريد أن تسلكه وعر، لا يقوى عليه إلا القديسون أمثالي. فامكث مكانك وأقبل على عملك، واسكن إلى زوجك، وداعب أولادك وبناتك، وأشرف على شؤون خدمك وحشمك، وحقولك
وضياعك، وتمتع بأكلك وشربك، على أن تعدني أن تفعل الخير وتذكر الله. تمثله لنفسك في كل لحظة حتى تعلم أن كل ما حولك زائل وأنك ملاق ربك فمحاسبك حساباً لا يضيع فيه مثقال ذرة من خير أو شر.
بدا الوجوم على وجه النبيل وكأنه لم يفهم شيئاً. فاستمر القديس يقول:
- لا تحزن. إنك ستمكث في القصر - في نظرك - ولكنك ستكون مع ذلك من أتباعي. ما قيمة التمسك بالذيل واقتفاء الخطوة، في حين أن الروح متبلد والذهن غائب؟ ستتبعني بروحك. بإيمانك. . . ولك عليّ أنني لن أنساك في يوم. فلن يغيب عنك ندائي بل سأحمل شخصك في قرار قلبي. سأنشئ لك ولأمثالك طريقة خاصة بكم تلتحقون بها فتربطني وإياكم.
وعادت الردهة إلى هرجها ومرجها ودبت فيها روح البهجة ودارت الأطباق والأكواب، وسكن الثري إلى زوجه وداعب أولاده وبناته، ونادى كلبه الأمين فأقعى تحت قدميه.
والتفت النبيل (ع) فوجد الفتاة عن يمينه، والقديس يهم بالانصراف عن يساره. . . ولكن هاتفاً هتف به فإذا هو يتمتم لنفسه:
- نعم! لا تيأس من رحمة الله.
فجمع أطراف مسوحه، وجرى إلى الجمع واتخذ مكانه بينهم، لا في آخر الصفوف هذه المرة، بل وراء القديس كأنه يلوذ به. وتحرك الجمع يرددون وراء القديس قوله:
اتركوا الباطل الزائل واتبعوني!
ووقفت الفتاة صامتة برهة، ثم همست تقول:
- يا له من غر مسكين لم يفهم الوحي. لما نادته رحمة الله أن ابق، فإذا به يولي عنها وينصرف.
ثم ضربت الأرض بقدمها وصفقت تقول:
- موسيقى! رقص!
يحيى حقي