الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 377
- بتاريخ: 23 - 09 - 1940
القدوة والإصلاح
للأستاذ عباس محمود العقاد
رويت في عدد مضى من (الرسالة) كلمة الفلاح الكبير صاحب الأفدنة الكثيرة في (حمالة الجورب) التي عابها على بعض المعلمين الإلزاميين وقال إنه لم يسمع بها إلا من هؤلاء المعلمين.
وقد كتب أديب في (الرسالة) يعقب على تلك الكلمة، ويرى أنه كان الأجدر بكاتب هذه السطور (ألا يسوق إلينا فكرة صاحب الأفدنة التي ترمي إلى إصلاح المعلم الإلزامي، لأنه إذا سئل عن العيب الذي يراه لا يجد ما يقوله سوى أنه يعلم النشء التبطل والحذلقة، وكيفية وضع (حمالة الجورب)، وإحسان رباط الرقبة، وهلم جرا. . .)
وجاءتني رسائل شتى في هذا الصدد ينظر بعض كاتبيها إلى ملاحظة الوجيه الريفي نظرة الفكاهة والسهولة، ويشتد بعضهم في الإنحاء عليها كأنها خطر على التعليم
وعندي أن المعلم الإلزامي هو آخر من يحق له أن يكتم أمثال هذه الملاحظات أو يطلب كتمانها، لأن التعليم الإلزامي في اعتقادي مشتق من اللزوم قبل أن يشتق من الإلزام، فلا يضيره أن ينكره كبير أو صغير حنقاً على حمالة الجورب أو حمالة الحطب!. . . ولا يفهم من اختلاف الآراء في برامجه ومواده وأساليبه أن الخلاف على أصوله وأساسه، وإنما هو في نهاية الأمر خلاف على الفروع والتفصيلات
هذا سبب من الأسباب التي تأبى على المعلم الإلزامي خاصة أن يكتم ملاحظة تساق في معرض الرأي أو في معرض الفكاهة عن هذا التعليم
وسبب آخر أن المعلم الإلزامي مطالب قبل غيره باستطلاع (الحالة العقلية) أو الحالات العقلية التي تتصل بمعيشة الفلاح وأبناء الريف، وهو أحرى أن يستطلع ما يخصه ويخص عمله من تلك الحالات العقلية التي يتصدى لها في تعليمه، قبل أن يتصدى لتعليم الحروف والأرقام وسائر الدروس.
قيل فيما قيل عن التعليم الإلزامي وأشرنا إليه في مقالنا السابق: (أليس الأجدى على الفلاح أن تطعمه وترفه عنه بهذه الأموال التي تنفقها على تعليمه إلزاماً وهو مفتقر إلى الطعام النافع والماء النظيف؟)
وكان من رأينا في ذلك أنك إذا أعطيت الفلاح ماء نظيفاً وهو جاهل صدف عنه وعافه وآثر عليه الماء العكر لأنه ماء (دسم) يروي الأصلاب كما يروي التراب.
وقلنا (إنك إذا أنشأت فلاحاً سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري وراءك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه لتقصيه عن موارد الماء العكر (بدسمه وخيره) وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد).
ومقطع الرأي في كل إصلاح اجتماعي - كما أحسب - أن القدوة فيه خير أنواع التعليم.
ولكن ممن تأتي القدوة في الريف؟
بعض إخواننا المعنيين بالإصلاح يخيل إليهم أن إقامة الوجهاء الريفيين في قراهم وسيلة ناجعة لتعميم القدوة الحسنة في المعيشة، وتعويد الفلاح الصغير أن يحيا في كوخه حياة الفلاح الكبير في القصور.
وهذا حق لو كان الفلاح الكبير قدوة صالحة في جميع الأحوال، أو لو كان الوجيه في قريته مثلاً يحتذى في نظام المعيشة ومناهج السلوك
لكننا نعلم أن الأمر لا يستقيم على هذا التقدير
ونعلم أن كل فلاح كبير يصلح للقدوة ويتخذ مثالاً حسناً للسلوك فإلى جانبه عشرة يضلون من يقتدي بهم ويأبون أن يتمثل بهم المتمثلون من الفقراء والضعفاء فيما هو من مظاهر (الوجاهة) واليسار
قال لي أحد هؤلاء الوجهاء مرة: لقد فسد الزمان وتغير الناس!
قلت: ولم؟
قال: إنك لا تعرف الآن ابن فلان العظيم من ابن فلان الصعلوك، ولا تميز الفتاة التي يملك أبوها ألف فدان من الفتاة التي يعمل أبوها في دكان أو يعمل في ديوان بين صغار الموظفين الموقوتين. . . هذه تلبس كما تلبس تلك، وهذا يتأنق كما يتأنق ذاك، و (البركة) في التقسيط لا بارك الله فيه
قلت: وما يضيرك من ذاك؟ إن كان فيه ضرر فعلى جيب اللابس لا على جيبك، وإن لم يكن فيه ضرر فهو جمال ونظافة ورواج للقصارين والخائطين
فتأفف وأبى أن يقتنع، وظل يقول: إن الأصول أصول، والمقامات (محفوظة) لا ينبغي أن تزول أو تحول.
وسمعنا آخرين من الوجهاء لا يبالون أن يجهروا في غير خجل ولا حرج قائلين: من يخدمنا إذا لبس الفلاح الطربوش أو اغتر بما حصّل في المدرسة الإلزامية من دروس الكتابة والحساب؟ وإذا خدمنا هذا (الأفندي) الجديد فكم يطلب أجراً على الخدمة التي كان يؤديها وهو حاف قانع باللبدة والجلباب الأزرق راض بالخبز القفار
هؤلاء الأغبياء لا يعقلون ما ينفعهم وما يضرهم ولا يدرون عاقبة هذا التفكير الأثيم.
والأنكأ من هذا أن الفلاح الفقير قد يحجم عن الاقتداء بنظافة الأغنياء إذا كانوا من النظفاء، كما يحجم عن شراء السيارة والاستمتاع بالطعام الفاخر واللباس الأنيق.
فتمتنع القدوة من ثم لاعتقاد الغني والفقير معاً أن النظافة والمعيشة الصالحة حق لصاحب المال كحقه في ركوب السيارة الخاصة والإيواء إلى الدار القوراء.
وتقول له كن نظيفاً كفلان بك أو فلان باشا فيستكبر هذا الكلام منك ويقول لك في جد الواثق من صوابه وسداد رأيه: وأين أنا من هذا وذاك؟ ولو استرسل قليلاً لزعم أن النظافة منه أفتيات على حقوق الموسرين وخروج على الأدب الحميد!. . .
نعود إذن فنسأل: ممن تأتي القدوة الصالحة إذا علمنا كما أسلفنا أن القدوة (الشخصية) خير وسائل التعليم في الإصلاح الاجتماعي؟
تأتي من بعض الأغنياء الرحماء العارفين حين يقيمون في الريف إقامة يتصل فيها العطف والود الكريم بينهم وبين الفقراء.
وكم عدد هؤلاء الأغنياء الرحماء العارفين!؟
قليل ولا ريب، والرجاء في ارتقاء معيشة الفلاح الصغير أقرب من الرجاء في زيادة هؤلاء
فأفضل القدوة وأنفعها على هذا ما جاء من قبل المتعلمين الذين يشبهون الفلاح في نشأته فيعمد إلى التشبه بهم غير متحرج ولا معتقد في نفسه أنه يعدو طوره ويخرج من أفقه.
وهنا يأتي دور المعلم الإلزامي في الإصلاح، فيجمع بين الإصلاح بالتعليم والإصلاح بالقدوة السائغة في رأي الفلاح، ويروح في القرية وهو معلم الأبناء والآباء على السواء
كن أيها المعلم الإلزامي قدوة لمن حولك، وكن على حال ينظر إليها الفلاح فيحب أن يتشبه بها ويرى بعينه دلائل الخير في محاكاتها، ثم يأنس إلى نصحك بعد ما أنس إلى عملك، فيسمع منك القول ويحمد منك العمل. فأنت بما تهديه وتلقي في روعه مصلح جيل لا تفلح في إصلاحه المدرسة وحدها، ولا الكلام الذي يجري به اللسان أو تنطوي عليه الأوراق.
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
شاعر ينبغ فوق سرير المرض - الملك الشبل - وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها - لا خوف من المستقبل
مع صحة العزائم والقلوب
شاعر ينبغ فوق سرير المرض
مضت سبعة أعوام والأستاذ صالح جودت يحقد عليّ أبشع الحقد لسكوتي عن التنويه بمواهبه الشعرية، وما هدّأ نار الحقد في صدره إلا عرفانه بأني لا أخصه بذلك السكوت وإنما هو مبدأ ارتضيته ودرجت عليه، وذلك المبدأ هو الضن المطلق بتشجيع الناشئين، لأني أعتقد أن كل شيء يجوز فيه التشجيع إلا الأدب والبيان، فالتشجيع هنا مفسدة ولا يقع إلا من (الجماعة) الذين يحتاجون إلى أسندة من الهتاف والتصفيق، والتحدث عنهم بحق وبغير حق في الأندية والقهوات والجرائد والمجلات.
وهذا المبدأ هو الذي فرض على جمهور من شباب هذا الجيل أن ينفضوا من حولي، فما يهمهم أن يذكروني بالجميل في مجلة أو جريدة، لأنهم لا يذكرون أني طوقت أعناقهم بشيء من التشجيع، وأنا غير آسف على ما فاتني من ذلك الحظ الجزيل!
ولو أني استبحت التفريط في الحرص على هذا المبدأ مرة واحدة لاستبحته في معاملة الأستاذ صالح جودت، وهو صديق لا أذكر أنه قصّر في حفظ العهد إلا باتهامي بالسكوت عن التنويه بمواهبه الشعرية، وهو اتهام مردود، لأني لا أذكر أن أشعاره نقلت قلبي من مكان إلى مكان حتى أجشّم نفسي مشقة الدرس لشعره البليغ!
كان صالح جودت يتقاضاني الكلام عن شعره في كل لقاء، وكنت أجيب بأن ذلك سيكون يوم يظفر بدرجة من درجات الجامعة المصرية، لأني أخشى إن شجعته أن ينصرف عن الدرس وينقطع لقرض الشعر ومراسلة الجرائد والمجلات. فلما سمع صالح نصيحتي وظفر بالدرجة المنشودة جاء يذكرني بما كنت وعدت، فهل وفيت بما وعدت؟
حملني الزهد في اجتلاب المودّات على وصل السكوت بالسكوت، كما كنت صنعت في
معاملة صاحب (الجندول)
ثم شاءت الأيام أن أسمع أن صالحاً وقذه المرض فلم يعد بهجة الأندية الأدبية، ولم يبق رجاء في التحدث إليه إلا بعد استئذان الطبيب
فإن كنتم سمعتم أن الشعراء وصفوا الدنيا بالخيانة والغدر والعقوق فاعرفوا أن ذلك لم يحق على الدنيا إلا لبغيها الأثيم على مثل هذا الشاعر، وله قلب أطيب وأطهر من قطرات الندى فوق أزهار الربيع
ومرّت ثوانٍ ودقائق وساعات وأيام وليالٍ وأسابيع وأشهر ولم يخرج صالح من سجن المرض، فما أطول شقائي بمحنتك القاسية، أيها الصديق العزيز!
وعلى حين غفلة أسمع أن الفتى الذي لم يُرضني شعره قد نبغ فجأة فوق سرير المرض، فهو الذي يقول في تصوير ما بقي من أوطار هواه في دنياه:
فليرحم الله آمالي وأهوائي
…
إني قنعت بهذا المخدَع النائي
بقية العمر أيامٌ تدبٌ على
…
صدرٍ تهدَّم إلا بعض أشلاء
أعيشها ناسكاً في ركن صومعةٍ
…
قامت على صخرةٍ كالموت صمّاء
يبدو خيال الأماني لي فأطرده
…
حتى كأن الأماني بعض أعدائي
ثم يصف عُزلة المستشفى وأحوال ساكنيه فيقول:
أوّاه من عُزلٍة كالسجن مغلقةٍ
…
على جراحٍ وآلام وأرزاء
ما هذه اُلجثث الملقاة في سُرُر
…
أنصاف موتى على أنصاف أحياء
صُفر الوجوه كأن السقم عفَّرهم
…
بحفنةٍ من تراب القبر صفراء
للآه فيهم تراتيلٌ منغَّمةٌ
…
تنسابُ من قَصَباِت نصف خرساء
وما لهم من نهار فيه مرحمةٌ
…
ولا لهم ليلةٌ ليست بليلاء
ثم يلتفت إلى الممرضة الحسناء - ومن تقاليد المستشفيات أن تكون الممرضات صِباح الوجوه إلى حدّ الفتون ليغرسن بذور الأمل والحياة في صدور المكروبين - يتلفت إلى الممرضة فيقول:
مَن يا ممرَّضتي الحسناء قدَّر لي
…
أن ألتقيك بأرضٍ غير حسناء
ماذا أتى بي هنا؟ ما خَطْبُ عافيتي؟
…
وكيف غال شبابي غائل الداء
قد كان لي موعدٌ في الصيف مرتقبٌ
…
على الشواطئ بين (الرمل) والماء
فما لذا الصيف يمضي بي على جبل
…
جَهنّميِّ اللظى في جوف صحراء
وأنتِ. . . هل عطفك المبِقي على رمقي
…
عطف المحبين أم عطف الأطباء
إن كان ذاك فيا سعدي ويا فرحي
…
أو كان هذا فإني في الأذلاء
الحب يشهد أني يا ممرِّضتي
…
ما صدَّني عنك إلا فرط إعيائي
أما بعد فهذه الشاعرية ليست صحوة الموت، يا صالح، وإنما هي الفجر الصادق، وسترجع إلينا بعد أيام وأنت في غاية من عافية البدن والروح.
لم أسأل عنك في علتك، يا صالح، لأني شغلت بك عنك، ولو سألت قلبك لشهد بأن عطفي عليك وأنا بعيد كان أرفق من عطف طبيبك وهو قريب، وأصدق الحديث حديث القلوب.
سترجع إلينا يا صالح، بعد أيام، وسنعيد سهراتنا في أندية القاهرة، وسأسمع لجاجتك في العتاب، وسأقول إن البلبل لا يجيد السجع إلا وهو سجين، لأني عرفتُ شاعراً لم يُجد الشعر إلا وهو عليل.
الملك الشبل
لم أسمع أن جلالة الملك فيصل الثاني يوصف إلا بعبارة (الملك الطّفل) وهي عبارة جافية، فأرجو من الشعراء والكتاب أن يصفوه بعبارة (الملك الشبل) فهي بمقامه أنسب وأليق.
وأذكر بهذه المناسبة أن صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا تلطف فدعاني إلى مكتبه ليقدّم إليّ (وسام الرافدين) المهدي إلي من حكومة العراق
وقد وثب قلبي من الفرح والانشراح لقيمة الهدية ولقيمة من أتلقى من يده الهدية، فليس من الميسور في كل وقت أن تكون وزارة المعارف إلى أديب في مثل منزلة الدكتور هيكل باشا، الرجل الذي أفنى شبابه وعافيته في خدمة الدراسات الأدبية والتاريخية، والذي يُعدّ قلبه مثالاً في الطيبة والصفاء.
وقد نظرت في الوسام فرأيته متوّجاً بكلمة (فيصل الأول) فأهلاً وسهلاً ومرحباً بوسام يُحلّى باسم ملك هو الفيصل بين عهدين من عهود العراق: عهد العجمة وعهد الإفصاح، فقد كان فيصل الأول بمذاهبه ومسالكه هو التعبير الصحيح لعواطف العراق في التشوف إلى رجعة المجد العربي في أيام المنصور والرشيد.
ومع أن مكاره الأيام ومتاعب النضال لم تُبق في صدري بقية من التأهب للجذل والانشراح فقد سرني أن تشهد جريدة (الوقائع العراقية) بأني ذُكرت بالخير في (إرادة ملكية) يمضيها صاحب السمو الأمير عبد الإله ومعالي السيد صادق البصام وفخامة السيد رشيد عالي الكيلاني، جعلنا الله ممن يرعون العهد ويحفظون الجميل.
وإذا حييتم بتحية. . .
تفضل الزميل الكريم الأستاذ أبو بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف فأعدّ كلمة لمجلة الرسالة في رد التحية الجميلة التي وجهتها جريدة الهدف البغدادية إلى مصر بإصدار عدد خاص عن أديب مصري كان له نصيب في خدمة الحياة الأدبية في العراق.
ولم يكن بدّ من تلطف هذا الزميل الكريم بردّ هذه التحية الكريمة، فليس في مقدوري أن أرد تحية جريدة الهدف، فذلك امتحان لا أتقدم إليه وأنا طائع، لأني أشعر بالعجز عن وفاء هذا الدين النفيس.
في ذلك العدد الخاص تحدث الأساتذة عبد الحميد حسن الغزالي، وحميد مجيد الهلالي، وعبد المجيد لطفي، وعبد المحسن القصاب، وعبد السلام حلمي، وعبد الله محمد الطائي، وعبد الرحمن البناء، وروبين عوبديا، وصالح البدري، وعبد الرزاق الهلالي. تحدث هؤلاء الأماجد عن صديق العراق زكي مبارك حديثاً هو البرهان الساطع على أن الوداد لا يضيع عند أحرار الرجال.
وقد ذكرت كثيرا ً في الأسباب التي جعلت لي هذا الحظ المرموق في العراق؛ ثم رأيت أن الأسباب كلها تنتهي إلى سبب واحد: هو الصدق. فما تحدثت عن العراق بالجميل إلا وأنا صادق ولا ذكرته بالملام إلا وأنا صادق.
وكيف لا أصدق في حب وطن كاد ينسيني وطني؟
ولو عبّرت عن نفسي تعبيراً صحيحاً لقلت إني لم أستطع أن أتوهم أن مصر والعراق وطنان مختلفان، وما صح عندي أبداً أني كنت غريب الدار في بغداد. . . وكما كان الشريف الرضي يهدد خصومه في العراق بأن له في مصر أصدقاء يستنجد بهم حين يشاء، فأنا أشعر بأن لي في العراق أصدقاء أستنصر بهم حين أشاء، والله سبحانه هو المفزع لأبرار القلوب.
وفي اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمة يستعد فريق من الأساتذة المصريين للتوجه لخدمة العلم والأدب في العراق، فأرجو أن يذكروا جميعاً هذه الكلمة الصادقة:
(كما تكون للعراقيين يكونون لك)
فمن أراد أن يظفر بحب أهل العراق فليصدق في حب أهل العراق، وليعرف جيداً أن العلانية قليلة الأهمية، فالمعوّل عليه هو صدق القلوب، فقد كنتُ على جانب من جفاء الطبع حين كنت هناك فما ضرني ذلك بشيء لأن قلبي كان مأهول الجوانب بالصدق في حب أولئك الرجال الصادقين في الحب والبغض، وهم برغم قالة الحجاج أبعد الناس عن الرياء.
ما أذكر أني كلفت نفسي ما لا تطيق في التودد إلى العراقيين وإنما أرسلت نفسي على سجيتها، وعشت في بغداد كما كنت أعيش في القاهرة وفي باريس، وكنت أصادق وأعادي كما أصادق في بلدي وأعادي، فكانت العاقبة ما عرف إخواني في مصر من تواتر العطف عليّ من جميع أهل العراق. والصدق في النصح يستوجب النص على الحقيقة الآتية:
لم أفكر وأنا في العراق إلا في شيء واحد: هو أن أؤدي واجبي تأدية صحيحة لا يؤخذ عليها تقصير أو تفريط، وكنت أشعر في كل لحظة أني مسئول أمام حكومتين: حكومة القاهرة وحكومة بغداد، وأن التهاون في تأدية الواجب يضيّع على مصر مزية عظيمة، هي الثقة بكفاية أبنائها وقدرتهم على النهوض بما ينتدبون له من خدمة العلم والأدب في البلاد العربية.
ويجب أن أسجل أن إخواني العراقيين قد أعانوني على تحقيق هذا الغرض الشريف، فهم الذين خلطوني بأنفسهم، ودعوني إلى الاشتراك في أنديتهم الأدبية والعلمية، وحضوني على المشاركة في توجيه الرأي العام بالمقالات والمحاضرات، حتى استطعت في أشهر معدودات أن أدوّن ألوفاً من الصفحات لم يظهر منها غير ستة مجلدات.
وأعترف بأني كنت أشعر بالغيرة تحزّ في صدري من أربعة رجال سبقوني إلى كسب ثقة أهل العراق، وهم الأساتذة: محمد عبد العزيز سعيد وأحمد حسن الزيات وعبد الرزاق السنهوري وعبد الوهاب عزام، فكان من همي أن أزاحم أولئك الرجال مزاحمة جدية تجعل لي مقام صدق في بلاد الرافدين، وقد وصلت بحُسن النية وبرعاية الله إلى تحقيق ما أردت
بلا مشقة ولا عناء.
وأواجه الأمر بصراحة فأقول: إننا لم نصنع شيئاً يزيد على وضع الأساس للمودة الصحيحة بين مصر والعراق، فلست أنتظر من الأستاذة الذين يخلفوننا هنالك أن يحفظوا ما صنعناه؛ فذلك مطلب سهل المنال، وإنما أرجو أن يمضوا في رفع قواعد البناء بحيث لا تمر أعوام طوال قبل أن يصبح من القضايا المقررة أن لفظة الغربة لم يبق لها مدلول في ذهن عراقي يعيش في مصر، أو في ذهن مصري يعيش في العراق.
ولكن ما جزاء من ينتفع بهذا النصح؟ جزاؤه هو الشعور بأنه رجل نافع، والاطمئنان إلى أنه على جانب من قوة الأخلاق، فليس من القليل أن يستطيع الرجل كسب الثقة بوطنه في بلد مثل الحجاز أو فلسطين أو سورية أو لبنان، والثقة لا تنال في أمثال هذه البلاد إلا بالصدق في الوطنية والصدق في الجهاد.
وقد اتفق لي في بعض الأحايين أن أناوش فريقاً من السوريين واللبنانيين فما ضرني ذلك بشيء، لأن من ناوشتهم يعرفون في ضمائر قلوبهم أني سليم القلب، وأني لا أريد إلا جذبهم إلى الانضمام إلى القافلة العربية بلا تلفت إلى دسائس من يهمهم تقسيم الأقطار العربية إلى دويلات يذوق بعضها بأس بعض بلا موجب معقول.
ومن حسن الحظ أن تكون البلاد الشامية في طريق من يسافر من العراق إلى مصر، أو من مصر إلى العراق، فتلك فرصة ذهبية لتوكيد المودة بين الأقطار العربية، وبها نستطيع وأد الدسائس التي تحاك في أحلاك الليالي لتمزيق شمل العرب والمسلمين.
وقد شاءت الظروف أن ترى اليمن والمغرب من البلاد البعيدة لقلة رغبتنا في الهجرة والارتحال، فمتى يجيء اليوم الذي تقهرنا فيه المبادئ على التضحية بالأنفس والأموال في سبيل التعرف إلى الأقطار العربية؟
المصري لا ينتقل من وطنه إلا وهو موظف مطمئن إلى أنه سيجد وظيفته حين يرجع، فمتى يُخلق المصري المجاهد الذي يستهين بجميع المنافع في سبيل المبدأ والعقيدة والرأي؟
كنت أتمنى أن أكون ذلك المصري المنشود، ولكن ماذا أصنع وحولي (أكباد تمشي على الأرض) وليس في شريعة الوطنية أو الدين ما يسمح بهجر تلك الأكباد؟
أنا مقيد بقيود من حرير هي أقسى وأعنف من قيود الحديد، فإن تلطّف الله وقبل أن يكون
الجهاد بالقلم مما تنصب له الموازين فلن يكون ذلك أول نعمة يسديها رجل لم يُشرّق أو يغرّب إلا وهو متوكل عليه توكل الواثق بأن الأمر كله إليه وأن له حكمة عالية تجعل الشر على بشاعته لوناً من الخير المستطاب.
لا خوف من المستقبل مع صحة العزائم والقلوب
لم يبق ريب في أن الشرق مقبل على قلقلة تاريخية بسبب عدوان أهل الغرب بعضهم على بعض. وقد شاءت المقادير أن يتأثر الشرق بمصير الغرب لأسباب لا تخفى على اللبيب، وربما جاز القول بأن العالم كله قد ربط برباط وثيق يفرض على من في أقاصي بحر الهند أن يتأثر بما يقع لمن في أقاصي بحر الشمال، فليس من المستغرب أن يرتج الشرق للمجازر التي تقع بين الإنجليز والألمان.
فما واجبنا نحن إزاء هذه الظروف؟ واجبنا أن نذكر أن مبادئنا في تحرير الشرق لن ينالها تعديل ولا تبديل. واجبنا أن نذكر أن جهادنا في سبيل الحرية جهاد قديم، وأننا تسلمنا راية الكفاح من الآباء والأجداد. واجبنا أن نذكر أن الغرب الذي صنع ما صنع لم يفلح فيما تطاول إليه من وأد اللغة العربية والعقيدة الإسلامية.
واجبنا، واجبنا، واجبنا.
ذلك الواجب لا يحتاج إلى تعريف جديد، فهو مسطور الملامح في كل قلب، وله جذور في كل نفس، وله سلطان على كل ضمير، ولا خوف من غياهب المستقبل إذا صحت العزائم والقلوب.
فليقلقل التاريخ كيف شاءت الظروف، وليكن ما يكون بين الإنجليز والألمان، فنحن نحن، والعاقبة للصابرين في ميدان الجهاد. وسيعلم المعتدون على الشرق كيف تنهزم قوتهم المادية أمام قوته الروحية في أمد أقرب مما يظنون.
زكي مبارك
2 - أخلاق القرآن
العدل
للدكتور عبد الوهاب عزام
بينت قبلاً أن القرآن يريد بتعليمه الأخلاقي تحرير الإنسان من أهوائه وشهواته، وتزويد عقله بالمعرفة، ودفعه إلى العمل في معترك الحياة لخيره وخير الناس؛ ووعدت أن أتحدث عن أمهات الأخلاق في القرآن، فاليوم أبدأ الحديث بالعدل:
العدل القرآني هو العدل المطلق الشامل الذي لا يختلف بين زمان وزمان، ومكان ومكان، وأمة وأمة؛ والذي تستوي فيه نفس الإنسان وغيره، ويستوي فيه القريب والبعيد، والصديق والعدو، ويستوي فيه الرضا والغضب، والحب والبغض، والنفع والضرر. هو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه في كل حين وفي كل أرض، وعلى كل حال. يقضي على نفسه بالحق ويقضي لغيره بالحق، ويعطي من يكره بالحق، ويحرم من يحب بالحق، ويعمل العمل فيه ضره إيثاراً للعدل، ويكف عن العمل فيه نفعه إيثاراً للعدل. هو أن يعترف بإحسان غيره ولا يبخس الناس أشياءهم، ويعترف بإساءته، ولا يحب أن يحمد بما لم يفعل وأن ينقاد لرأي غيره حين يتبين له أن الحق، ويسرع الرجوع عن رأيه حين يعرف فيه الباطل.
العدل القرآني أن يصرّف الإنسان أمور نفسه وأمور الناس على قانون لا عوج فيه ولا زيغ ولا استثناء ولا ظلم ولا محاباة، أن يسيّر أعماله على قانون إلهي لا تبديل فيه ولا تحويل، كالقوانين التي تسيّر: الشمس والقمر والنجوم والرياح، وتصرّف العالم كله كما يشاء الله.
يقول القرآن الكريم: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام)، أليس في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن العدل الذي يأمر الله به هو قانون من قوانين الله بثّه في خليقته. فهو قد رفع السماء ووضع الميزان في خليقته، كل شيء مقدّر بقدره، وكل شيء محدود بحدوده، كما قال في آية أخرى:(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون). وكذلك أمر الله الناس أن تكون أعمالهم في هذه الأرض على هذه الشاكلة لتسقيم
أمورهم وتعتدل معايشهم، فليس عدل الله أمراً يسيراً تتصرف فيه الأهواء، وتتلاعب به الشهوات والعصبيات. ليس عدل الله أمراً مما يباع باليسير من متاع الحياة الدنيا، ويهجر للحقير من أهواء النفوس، ولكنه نظام في العالم وفي الاجتماع البشري لا يستقيم شيء فيهما بدونه كما جاء في الحديث الشريف: بالعدل قامت السموات والأرض.
وآية أخرى من القرآن تجعل العدل أول صفات الله التي يقوم بها على خلقه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولوا العلم، قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم). فقد شهد الله وشهد أولوا العلم من عباده أنه تفرد بالألوهية قائماً بالعدل في خلقه.
وآية أخرى تبين أن الله أوحى للناس علمه وشرائعه مع العدل، ليقوموا بالعدل في معايشهم وهو الغاية التي من أجلها أنزلت الشرائع. استمع هذه الآية الكريمة:
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
وأخرى من الآيات تبين أن أوامر الله وأحكامه قائمة بالصدق والعدل لا تتحول عنهما: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته).
يبين القرآن أن الله جعل العدل نظاماً للعالم، وقياماً للخلق، وأمر به في كثير من آياته، وحث المؤمنين على أن يكون ديدنهم القيام بالعدل بين الناس، والشهادة لله على الناس بالعدل، وأن ينزهوا العدل عن الهوى فلا يميلهم عنه حب ولا كره. قال في سورة النساء:(يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً.) وقال في سورة المائدة:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)
أمر في الآية الأولى أن يقوموا بالعدل ويشهدوا به الله. ولا يميلوا عنه لمحبة النفس أو الوالدين أو الأقربين. وأمر في الآية الأخرى ألا يميلوا عن العدل مع من يبغضونهم فقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) يعني لا يحملكم بغض قوم على أن تعاملوهم بغير العدل.
وقال في سورة الأنعام:
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا تكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
والآيات التي تأمر بالعدل كثيرة حسبنا منها الآية الجامعة: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)
ويشتد القرآن في النهي عن الظلم كما يشتد في الأمر بالعدل ويبين عاقبة الظلم في الأمم بأساليب شتى؛ والظلم في لغة القرآن وضع الأمر في غير موضعه أو الخروج عن الحق. فالمجرم ظالم، والكافر ظالم، والمشرك ظالم، والكاذب ظالم. يقول:(فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته). ويقول: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم). ويحكي القرآن عن آدم وحواء حين تابا: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). وما هذا الظلم إلا مخالفتهما ما أُمرا به.
وعاقبة الظلم هلاك ودمار للفرد والجماعة والأمة. قلّ أن يذكر القرآن هلاك أمة أو بلد إلا بيّن أنها هلكت بظلمها. يقول في سورة الأنبياء: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين). وفي سورة الحج: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها، وبئر معطلة وقصر مشيد). (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير). وفي سورة هود: (تلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
هذا العدل المطلق الذي بينه القرآن وأمر به يقتضي الجزاء الحتم. فكل إنسان مجزيّ بعمله خيراً أو شرّاً. العدل يقتضي أن يميّز الخير من الشر والمحسن من المسيء. يقول القرآن: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) ويقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون)(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون) بل يقرن القرآن الجزاء بخلق السموات والأرض (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
فالجزاء حتم على كل صغيرة وكبيرة وليس للإنسان إلا عمله، ليس في الناس مقربون إلى
الله ولا مبعدون عنه إلا بالعمل.
يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى) ويقول في الرد على من زعموا أن لهم مكانة عند الله تخرجهم من هذا القانون العام قانون الجزاء: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب؛ من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً). (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
ومن هذا العدل المطلق والجزاء الحتم أباح القرآن أن يقابل الشر بمثله من غير بغي. قال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله) ويقول: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله) وفي سورة الشورى يوضح هذا أتم إيضاح. يقول في مدح المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم). فمن حق الإنسان أن يردّ البغي عن نفسه في غير عدوان، وأن يلقى السيئة بمثلها وينتصر ممن ظلمه، وله أن يعفو ويصفح إن رأى في العفو خيراً.
ذلكم العدل الذي بثه الله في خليقته، وأمر به عباده، وجعل فيه صلاحهم، وفي تركه دمارهم. فمن شاء الخير لنفسه وللناس فليلزم العدل في كل صغيرة وكبيرة، وليكن كما أمر القرآن قائماً بالقسط شهيداً لله.
إن الأمم تتهافت في النار، وتعود على ما شيّدت بالخراب والدمار، بما فقدت العدل وكفرت به، واتخذت لأنفسها شريعة من الباطل والزور والبغي. يريد المغترون بقواهم أن يسيطروا على الأرض بالباطل، زاعمين أنهم يسيطرون عليها بالحق، لا يرون لغيرهم حقاً، ولا لأطماعهم حداً، ولو أنصف الناس فقاموا في خلق الله بالقسط، وجعلوا الحق شريعة بين الناس، ونبذوا العصبية للباطل، ورفعوا عن أعينهم غشاوة الهوى ما سُخرت عقولهم وعلومهم وصناعاتهم للإهلاك والتدمير، ولما قذفوا بأنفسهم في جهنم وهم يستطيعون أن
يعيشوا في جنة على هذه الأرض.
داء الأمم الظلم ودواؤها العدل - العدل الشامل المطلق الذي لا يختلف باختلاف الأزمان والأوطان والشعوب والأديان. إنما يأخذ الله الأمم بجرائرها عسى أن تثوب إلى رشدها وتتبين الطريقة المثلى التي حادت عنها، وإن في ذلك لعبرة.
ويقول القرآن الكريم:
(ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا يستهزئون. ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون). . . صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام
العلاقة بين الجسم والذكاء
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
يقول المثل السائر: (العقل السليم في الجسم السليم). والأمثال تقبل عادة من غير محاولة إثبات. ولكن إلى أي حد يطرد هذا المثل؟ إن الملاحظة تؤيد أن من بين أصحاء الأجسام كثيراً من الأغبياء وضعاف العقول، كما أن من بين ذوي العاهات والمرضى عدداً من العبقريين. وقد عرفت إنجلترا مصرياً كان قد أقعده المرض سنوات طويلة، فعطل من وظائف رجليه ويديه وظهره وأسنانه، ومع هذا كان نشط العقل، يفكر وينتج. كان يُقرأ له في الفراش، وكان يؤلف ويملي، ويقرض الشعر العربي والإنجليزي، ويملي مقالاته باللغتين. وكان لبق المنطق، حاضر الفكرة. وقد لا يكون من الصعب أن نعثر على آخرين أمثال صاحبنا هذا، ولكن الملاحظة العرضية لا تكفي لتحقيق القضايا العلمية. وسأعرض في هذا المقال نتيجة أبحاث العلماء في العلاقة بين الذكاء والجسم.
شغل العلماء من القرن الثامن عشر بمعرفة ما إذا كان من الممكن الحكم على صفات الفرد العقلية من صفاته الجسمية. وقد ظهرت عدة نظريات كانت كلها محاولات لكشف العلاقة بين العقل والجسم. وقد تناولت بحوث العلماء في هذا الصدد الموضوعات الآتية:
1 -
شكل الجمجمة وحجمها، وملامح الوجه، وعلاقة كل هذا بالعقل.
2 -
قدرة الرئة على التنفس وعلاقة هذه القدرة بالذكاء.
3 -
دقة تمييز الحواس المختلفة، ومقدار سرعة إدراكها وعلاقة ذلك بالذكاء.
4 -
زمن الرجع (أو رد الفعل) للمؤثرات الحسية الخارجية.
5 -
الإفرازات التي تخرج من الغدد الصماء وأثرها في الوظائف العقلية.
6 -
العلل الجسمية وأثرها في الإنتاج العقلي والذكاء.
- 1 -
كتب لافاتير السويسري كتاباً عن (الفراسة الوجهية) في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، قال فيه بإمكان الحكم على ذكاء الفرد من تقاطيع وجهه، وشكل الجبهة والأنف وحجم الفك. ومع أن هذه النظرية لاقت أنصاراً حين ظهور الكتاب، ولا يزال لها في العصر الحاضر مؤيدون من عامة القراء؛ فمن المؤكد علمياً أنها نظرية باطلة، لأن مقاييس
الذكاء الحديثة المعتمدة لم تثبت وجود علاقة بين تقاطيع الوجه والذكاء، إلا عند البله والمعتوهين.
وفي سنة 1810 ظهرت رسالة لعالمين فرنسيين هما جال واسبورتزهيم تشرح نظرية القيافة الجمجمية وتشير إلى وجود عدد من الملكات العقلية المختلفة كملكة الإدراك، وملكة الحفظ، وملكة التذكر، وملكة العزم الخ، وحصرها في ست وعشرين. ولكل ملكة من هذه الملكات مركز خاص في الدماغ. ويقابل كل مركز من هذه المراكز الدماغية مساحة خاصة في الجمجمة. وكل نمو في مراكز هذه الملكات يقابله نمو في مساحاتها الجمجمية. أي أنه من الممكن معرفة قوى هذه الملكات العقلية بقياس بروز مساحتها الجمجمية. ولم تعمر هذه النظرية طويلاً
وفي أواخر القرن الماضي ظهرت في إيطاليا مدرسة تقول بوجود تلازم إيجابي مطرد بين الصفات الجسمية التشريحية وبين ذكاء الفرد وخُلقه، وزعيم هذه المدرسة هو البروفسور سيزاري الأخصائي في علم الإجرام. وتتلخص نظريته في أنه من الممكن معرفة ضعاف العقول، والبلهاء، وذوي الميول الإجرامية من خلق الرأس وحجمه وتركيبه. فعدم انتظام شكل الجمجمة، وبروز الجبهة، وضيقها، وانخفاضها، وانفطاح الأنف وعرضه، وضيق قوس الحنك وارتفاعه، وعرض الأذنين وكبرهما، وعدم انتظام شكلهما؛ كل هذه دلائل على ضعف عقل الفرد. وكان ممن عنوا بكشف العلاقة بين حجم الرأس والعقل جولتن في إنجلترا وبيتيه في فرنسا، وقد دلت تجاربهما على أن التلازم الإيجابي بين حجم الرأس وذكاء الفرد من القلة بحيث لا يعتمد عليه في معرفة الذكاء
كان لنظرية لمبروزو صدى شديد في المعاهد التي عنيت بدراسة الإجرام وصفات المجرمين؛ ففي سنة 1910 وسنة 1911 أجريت تجارب في السجون الإنجليزية لقياس جماجم المسجونين وبروز جباههم، وأنوفهم، وآذانهم الخ. ثم قورنت نتائج هذه المقاييس التي اتبعت فيها طريقة لمبروزو بسجلات المسجونين، ونتائج اختبار ذكائهم، فانهارت بهذه التجارب نظرية لمبروزو، وامحت من بين النظريات العلمية. وكانت هذه آخر المحاولات التي قصد بها إثبات تلازم بين شكل الجمجمة وحجمها وتقاطيع الوجه وبين الذكاء. وفي هذا يقول الأستاذ (كارل ببرسن) بعد أن أجرى اختبارات على ستة آلاف تلميذ مدرسي
وطالب جامعي: (إن التلازم الإيجابي بين مقاييس الجمجمة وبين الذكاء من القلة بحيث لا يعتمد عليه في الحكم على ذكاء الفرد)
- 2 -
وموضوع العلاقة بين القدرة على الشهيق وبين الذكاء قد يظهر غريباً. ولكن أحد الأطباء بمانشستر الدكتور (مامفورد) عنى بهذا الموضوع، فأجرى اختبارات على تلاميذ مدرسة ثانوية وعلى طلبة الجامعة ووجد تلازماً إيجابياً مطرداً بين القدرة على الشهيق العميق واتساع الرئتين، وبين ترتيب التلاميذ في الفصول. فالتلاميذ المتقدمون أقدر على الشهيق العميق والتنفس القوي من التلاميذ المتأخرين. وقد لاحظ الدكتور أيضاً من نتائج الاختبارات أن هذا التلازم الإيجابي يضعف كلما كبر التلاميذ في السن. وقد أبدت نتائج هذه الاختبارات اختبارات شبيهة بها أجريت في كاليفورنيا بواسطة الأستاذ ترمان.
- 3 -
أما دقة التمييز الحسي، وإدراك الفروق الحسية - لمسية أو ذوقية أو شمية أو سمعية أو بصرية - وعلاقة ذلك بالذكاء فيرجعان إلى نظرية البروفسور فنت الألماني، التي كانت تشير إلى أن الحواس هي منافذ العقل، والمدركات الحسية هي التي يتألف منها العقل. ومن الممكن إذاً قياس الذكاء بقياس قدرة الحواس، وقوتها على تمييز المحسوسات المتقاربة. فأجريت تجارب على الحواس استخدمت فيها أجهزة كأجهزة معامل الطبيعة والضوء، بعضها لقياس قوة قبضة اليد، وبعضها لقياس مقدار التمييز اللمسي، وبعضها لقياس القدرة على إدراك الفروق الصغيرة في الأنغام والألوان والظلال. وقد قام بهذه الاختبارات جولتن في إنجلترا وكاتل وثورنديك في أمريكا. وكانت نتيجة هذه الاختبارات أن قدرة التمييز الحسي في الملموسات والمذوقات والمشمومات لا تدل على ذكاء الفرد، وأن لا تلازم بين هذه القدرة والذكاء. فلا فرق في قوة التمييز هذه بين الأطفال والكبار، ولا بين الأغبياء والأذكياء، ولا بين المتحضرين وغيرهم.
والأستاذ اسبيرمان وآخرون يقولون بأن للقدرة على تمييز
النغمات الموسيقية المختلفة أو المتقاربة علاقة بذكاء الفرد،
وأن بينهما تلازماً إيجابياً قوياً، فكلما كان الفرد أكثر ذكاء كان
أقدر على تمييز النغمات. وهو يرى (أن الذكاء له109 من
نجاح الفرد في تمييز الأصوات ذات النغمات المتقاربة)
أما العلاقة بين الذكاء وبين حدة النظر والقدرة على تمييز المرئيات المتشابهة، فقد أثبت عدد كبير من الاختبارات بين تلاميذ المدارس أن الأغبياء وضعاف العقول يكثر فيهم ضعف البصر، ولو أن كثيراً ممن يشكون من (قصر النظر) أذكياء ونابغون. وإذا حكمنا بنتيجة الاختبارات التي أجريت قلنا إن بين القدرة على تمييز المرئيات قريبة الشبه وبين الذكاء علاقة قوية وتلازماً إيجابياً. وبهذا يقول أنصار اسبيرمان
- 4 -
من الملاحظ أن الإنسان إذا كان تعباً جسمياً فإن زمن الرجع للمؤثرات الحسية الخارجية عنده يكون أطول من زمن الرجع حين نشاطه. ونحن في أوقات الصباح أسرع رجعاً منا بعد القيام بعمل عضلي طويل. وقد تنبّه علماء النفس لهذه الظاهرة، وحاولوا أن يعرفوا إلى أي حد يرتبط الذكاء بزمن الرجع الحركي للمؤثرات الحسية. وقد اخترعت آلات خاصة تسجل الفرق بين زمن صدور المؤثر الخارجي - عن طريق اللمس أو البصر أو السمع أو الذوق - وزمن رد الفعل. وأجريت اختبارات لأفراد كثيرين لمعرفة ما إذا كانت سرعة الرجع دليلاً على شدة الذكاء، والنتائج التي أسفرت عنها الاختبارات متضاربة بحيث لا يصح الجزم بها نهائياً.
- 5 -
اهتم علماء النفس منذ أوائل القرن الحالي بدراسة الشخصية وعناصرها، والعوامل الفيزيولوجية التي تؤثر في تكوينها. ومن المدارس السيكلوجية التي لها رأي وجيه في دراسة الشخصية مدرسة أمريكية ترى أن للغدد الصماء أثراً هاماً في تكوين الشخصية بما تفرزه من عصارات تسمى الهرمونات والذكاء عامل من عوامل الشخصية
والهرمونات هذه عصارات ذرية تسير في الدم وتعمل على تنشيط وظائف الأجهزة
العضوية المختلفة أو أضعافها، كالجهاز الهضمي والتنفسي والتناسلي والعصبي؛ وبعض هذه الهرمونات يؤثر في المخ ونشاطه. ومن الغدد التي تفرز الهرمونات الغدة الدرقية وموضعها الرقبة. وهي تفرز هرموناً يحتوي على كميات من (اليود) ضرورية لنمو الجسم ونشاطه. ويولد بعض الأطفال وعندهم ضعف في هذه الغدة، ولذلك لا ينمون نمواً طبيعياً، فيظلون أقزام الجسم، ضعاف نمو المخ، أغبياء، بطيئين في أعمالهم. ومعنى هذا أن للهرمون الدرقي أثراً في ذكاء الفرد. وتوجد غدة أخرى اسمها الغدة النخاعية وموضعها قاعدة الدماغ، وتفرز هرموناً يشبه في أثره الهرمون الدرقي، أي أن له أثراً في نمو الجسم ونشاطه وفي نمو العقل ونشاطه.
من أجل هذه الصلة بين العقل والجسم وغدده كان من الضروري لطلبة علم النفس في الجامعات الأوربية والأمريكية أن يدرسوا علم وظائف الأعضاء، والعلاقة بين الوظائف العقلية والوظائف العضوية، كما أصبح من الضروري أن يدرس طلبة الطب قدراً من علم النفس، والحقيقة أن علم الطب وعلم النفس يكمل الواحد منهما الآخر، لأن موضوعهما واحد وهو الإنسان
- 6 -
ولمعرفة علاقة صحة الجسم أو مرضه بالذكاء يجب أن نفرق أولاً بين ما يسمى نسبة الذكاء الثابت عند الفرد وبين نوع الإنتاج وجودته، وقد أجريت عدة تجارب في هذا الموضوع، وكلها تقريباً يؤكد أنه ليس للمرض أو الصحة أثر في نسبة الذكاء الثابت إلا إذا حدثت العلة في سن مبكرة وأصبحت دائمة. وأما العلل الطارئة كتسويس الأسنان، والتهاب اللوزتين، والعمى، والصمم فإنها تضعف من كمية المنتج ونوعه، وإن كانت لا تؤثر في نسبة الذكاء الثابت. ويقول الأستاذ فريمان:(إنه ولو فرضنا أن مرض الجسم أو ضعف نموه لا يؤثر كثيراً في نمو العقل فإنه من الممكن أن يؤثر تأثيراً محسوساً في القدرة الإنتاجية للفرد وفي وظائف مواهبه العقلية، وعل كل حال يجب أن نذكر دائماً أثر المرض وضعف الجسم كلما حاولنا أن نحكم على ذكاء الفرد من مقدار إنتاجه)
أما صاحبنا الذي أشرت إلى ذكائه في طليعة هذا المقال فمن يدرينا لعله لو كان سليماً لكان إنتاجه أكثر وأكمل من إنتاجه أثناء المرض
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
بين مصر والهند
للأستاذ أبي الحسنات محمد محيي الدين
كلما درسنا تاريخ قدماء المصريين وتاريخ الهنود القدماء،
لاحظنا وجود التشابه بينهما ظاهرة وواضحة. لذلك نورد هذا
البحث عساه يكون موضع إمعان واهتمام لدى علماء مصر
والهند
الديانة المصرية القديمة
تعتمد العقيدة الرسمية عند قدماء المصريين على أسطورة قديمة ترجع إلى ما قبل التاريخ في نسبتها، وهي عقيدة الثالوث المقدس:(1) أوزيريس إله الإنبات والخصوبة أو إله النيل. (2) إيزيس إلهة الحكمة والتشريع. (3) توت إله العلم والتدبير.
ثم عرتها قوانين التحول والتدرج وانتقلت إلى عقيدة التاسوع المقدس بدل الثالوث المقدس وهي ترجع إلى القوى الطبيعية المؤثرة في الكون وهي: (1) الماء. (2) رع (الشمس)(3) سرا (الهواء). (4) تيفينة (القراغ). (5) جيب (الأرض). (6) توت (السماء). (7) أوزيريس (النيل). (8) إيزيس (الأرض الخصبة). (9) سيت (الأرض القاحلة) أو الصحراء (نيفتيس)
وقد أعطى المصريون لهذه الأشياء صفة الألوهية واعتقدوا أيضاً أن هناك ربّاً هو رب الأرباب وأطلقوا عليه اسم (توم)، واستمرت الحال على ذلك حتى جاء عهد (مينا) الأول فأعلن أن الإلهين (حوريس) خليفة (أوزيريس) في الألوهية و (سيت) عمه وخصمه في دعوى الألوهية قد حلاّ في جسده وابتدأ تأليه الملوك (الفراعنة). ولم يستمر الفراعنة موضع القداسة لحلول الإلهين فقط، بل ارتقى فرعون وصار يحل فيه (رع) كبير الآلهة.
ثم تحولت عقيدة الحلول من الملك إلى الأجسام التي تتصل بالخصب والإنتاج والبذر والأثمار والأحياء التي تمتاز بميزة يعرفها الفلاسفة والكهان، فأحلوا آلهتهم أحياناً في ثور (عجل أبيس) وأحياناً في قط وأحياناً في ثعبان وأحياناً في تمساح.
ولقد وصف بعض الكتاب هذه العبادة قال: (على هياكل المعابد سجف منسوجة بالحرير؛ فإذا تقدمت إلى نهاية المعابد لترى التمثال تقدم إليك كاهن في سكينة ووقار وهو يرتل مزاميره فيزيح قليلاً من الستار ليريك الإله، فلا ترى إلا قطاً أو تمساحاً أو ثعباناً أو حيواناً مؤذياً، فكان إله المصريين دابة ملونة على بساط أرجواني)
هذه هي الديانة المصرية القديمة في أدوارها المختلفة وتلك هي أهم عناصر تكوينها. وبجانب هذا نعرض على القارئين الكرام أهم نواحي الديانة الهندية القديمة لنقارن بين الديانتين فنقول:
الديانة الهندية القديمة
تدل الأسفار القديمة والآثار العتيقة التي ترجع نسبتها إلى ما قبل التاريخ على أن قوام الديانة الهندية القديمة هي القوى المؤثرة في الكون وهي الأقانيم الثلاثة المكونة من (1) براهما (الشمس) الإله الخالق للكائنات وهو إله العلم والتدبير، والحكمة والتشريع (2) سيفا (النار) إله القضاء والسحر والفناء (3) فشنو (الأرض) إله الرحمة والخصوبة والسقاية (الكنج وجمنا وبراهما بوترا وغيره من الأنهار المقدسة)، ثم لم يلبثوا أن جسدوها واعتقدوا حلولها في بعض الأجسام فأقاموا التماثيل وعبدوا الأصنام لحلولها فيها فتعددت آلهتهم حتى بلغت ستة وثلاثين من الماء (الأنهار) والهواء والسماء والشمس والأرض الخصبة والقاحلة والأشجار والأثمار وغيرها من الأجرام الأرضية والسماوية فأحلوا آلهتهم في الأحياء التي تتصل بالخصب والإنتاج والبذور والأثمار والأجسام التي لاحظوا فيها ميزة فعبدوا الحيوانات المخيفة المؤذية كتنين مفزع وتمساح هائل مخيف وعبدوا البقر والفيل وهلم جرا.
كل هذه الأشياء قد بلغت إلى درجة الألوهية في نظرهم، لهذا أقاموا لعبادتها معابد وصوامع وزينوها على النمط المبين في وصف الكاتب المؤرخ للمعابد المصرية وهياكلها. واستمرت الحال على ذلك حتى اعتقدوا أن بعض آلهتهم حلت في جسم الإنسان وهو الملك، ومن ثم ابتدأت عقيدة تقديس الملوك أو حلول اللاهوت في الناسوت، ولا تزال هذه العقيدة باقية في كثير من نواحي الهند كبلاد الأراكن وجزيرة برما وتيبارا في شرق البنغال وآسام وغيرها من المناطق التي يدين سكانها بتأليه الملوك. واعتقدوا أيضاً أن هناك إله
الآلهة وسموه (آتما)، أي الإله الأكبر
هذه إلمامة موجزة لما في الديانتين القديمتين من التشابه، وهو من الوجهة الدينية، وكذلك الحال من الوجهة الاجتماعية العامة من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد، كما لا يخفى على الباحث المدقق والدارس المحقق
يتساءل الباحث ما هو وجه التشابه بين الديانتين القديمتين؟ وهل كانت هناك بين الأمتين علاقة دينية أو ثقافية أو اجتماعية؟ وهل كانت أسباب المواصلات بينهما متوافرة؟ أم كانت هناك جماعة رحالة طاب لها المقام فاستقرت أم ضاق بها المعاش فانتشرت؟ أم طردها العدو فالتجأت؟ وحملت معها الديانة والمدنية والحضارة والثقافة والتقاليد والعادات وغيرها من المقومات الضرورية للحياة، فعلى هذا أين كان موطنها الأصلي؟ مصر، أم الهند؟ وما الذي دفعها للنزوح إلى ما وراء البحار؟
كل هذه الأسئلة تمر بخاطر الدارس من غير شك، ومفتاحها تصفح التواريخ السيكولوجية للأمتين للبحث عن نفسيتهما وعقليتهما وميزاتهما التي تمثل أصل حضارتهما، وتتبع النقوش في المعابد التي لم يؤثر فيها كر الغداة ومر العشى، وكل ذلك يشير إلى أن في طيات ذلك الدفين لم ينشر بعد من قبره حضارة زاهية اشتركت في تكوينها جميع أفراد هاتين الأمتين بيد أن أكثر تلك الآثار لا تزال مبهمة ولم يبين كنهها، ولا يزال البحث جارياً لكشف ذلك، وقد أخذت الأسباب تتوافر ومادة الاستقراء تتكون بفضل الأجهزة العلمية الحديثة. وهانحن أولاء ندعو علماء مصر والهند للتعاون على هذا الموضوع التاريخي. فهل من مجيب؟
أبو الحسنات محمد محيي الدين
(طاغور) الهندي
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
أخير هذه الحرب القائمة أم شر؟ إن هذا السؤال يبدو غريباً، إذ كيف يمتري أحد في أن هذه الحرب جمعت الرزايا والنكبات ما تقشعر من هوله الأبدان؟ هذه دماء سفكت، وبيوت دمرت، ومئات الآلاف من السكان أصبحوا لا يجدون مأوى يأوون إليه، وهذه أقوات وأرزاق قد سلطت عليها النيران فالتهمتها، وأصبح فريق عظيم لا يجد الطعام. هذه شعوب كانت حرة فاستعبدت، ومن هذه الشعوب شعوب كان في إطلاقها وحريتها مجال فسيح لابتكار ما يفيد المدنية، وفي استعبادها وقيودها الفكرية ما يعطل هذا الإنتاج.
هذه أمور ظاهرة لا تجعل مجالاً للشك في أن الحرب نكبة عالمية، ولكن على الرغم من ذلك أتساءل أخير هي أم شر؟ وأزيد فأقول إنها ربما تكون خيراً، وربما تكون شراً: تكون خيراً إذا رأى المتحاربون ويلات ما صنعت الحرب، وأنه يمكن التخلص منها، إذا علم أسبابها واجتنبت، وأن سببها هو إحلال قانون القوة في الأمم محل قانون العدل.
إذا علم المتحاربون ما في قانون القوة من قدرة على إضرام الحرب وسعوا للتخلص منه، كانت هذه الحرب التي أثمرت هذه الثمرة بركة على الناس. إن من الشعوب التي غلبت على أمرها في هذه الحرب شعوباً كانت تعامل شعوباً أخرى بهذا القانون، فكانت تغزوها، فإذا تغلبت عليها فرضت عليها إرادتها، ثم تمنعها أسباب الرقي العقلي والخلقي، لأنها تخاف إذا هي ترقت في هاتين استنارت وطلبت الخلاص، وربما نالته، وكانت لا تشعر بجرم ما تعمل، لأنها تعمل ذلك في غيرها. وقد دار دولاب الأيام، ووقعت هذه الأمم في قبضة غيرها، وعوملت بقانون القوة، وسقيت بالكأس التي كانت تسقى بها، فوجدت لذلك ألمه، وعندها ربما تدرك سوء ما كانت تفعل مع الأمم الأخرى وتستنكره، فتنكر قانون القوة، وتعرف قانون العدل فيخسر قانون القوة بعض الأنصار، ويكسب قانون العدل ناصراً جديداً. وفي هذا الاحتمال أيضاً خير عظيم، لأنه خطوة واسعة في سبيل السلام.
محمد عرفة
مطالعات عابرة
العقل عند المعتزلة
للأستاذ صلاح الدين شريف
المعتزلة من أعلى الفرق الإسلامية تفكيراً وأخصبها إنتاجاً وأبعدها أثراً في فسح آماد الفقه وتقعيده على قواعد من المنطق لم تكن لجدتها مألوفة ولا مقبولة من جمهور فقهاء الإسلام. وهي إلى التزامها جانب الطرافة في التفكير وأخذها النفس بتحكيم العقل الإنساني في تفسير ما تبهّم من معميات الوجود وألاغيز النفس وأسرار العمران البشري، ليست تنجو من إغراق وتطرّف لعلهما كانا لازمة من لوازم النفاح عن العقيدة والوثوق بما يرتئيه العقل من رأي، وما يتأدى إليه التفكير العميق من مبدأ، وما يرتصد له من فكرة. وليس بعجيب البتة أن يسبق رجالها إلى استنباط فكرة (القانون الطبيعي) الذي يستلهم دستوره في التشريع واستنباط الأحكام من وحي العقل الخالص من لوثة الهوى، المصون من نزوة الغريزة؛ وهم الذين تطلّقوا في النظر والبحث من قيود التقليد وتحرروا من اندفاع المجاراة، فلا جرم تتبدى ثمرات قرائحهم في مسوح من الغرابة، ولا يقبل على تناولها جمهور الأمة الإسلامية وقتئذ إلا في كثير من الحذر والشك والتحرج والارتياب!
كانت الحركة الفقهية في مطالع النهضة العامة للمجتمع الإسلامي وفي أواخر عهد الراشدين وطيلة خلافة الأمويين فالعصر الأول من دولة العباسيين، قد اتخذت أسلوباً من النشاط ولوناً من النماء لم يعهده هذا المجتمع من قبل، فكان طبيعياً أن يتأدى بالفقهاء نشاطهم إلى ولوج أحرج مشاكل الفقه، وأكثر موضوعاته جفافاً وعمقاً. وكان حتماً أن تقودهم عقولهم المتلهفة العطشى إلى النظر في فلسفة التشريع والبحث في حقيقة المبادئ والقواعد التي تسير عليها أحكام الله وأحكام الإنسان، ليتخذوا من هذه وتلك دستوراً لا يخطئ في فهم المشيئة الإلهية والحكم على حُسن أو قبح ما يتهدى إليه تفكير الإنسان، وما يطوعه له كسبه الاختياري المركوز في طبيعته من أقوال وأفعال.
فلما اتفق جمهور الأمة الإسلامية على أن مُعرّف حكم الله بعد مجيء الرسل هو الرسول نفسه الذي يتلقى عن طريق الوحي شرع السماء، ويبلغه إلى من بعث إليهم ليؤدي رسالته، ظهر فريقان كبيران من المسلمين حاول كل منهما أن ينفذ بالنظر العميق والذوق السليم إلى
مظهر الوحي الإلهي من أمر أو نهي ليرده إلى أصله الذي صدر عنه ومبدئه الذي درج منه. فقال فريق (الأشاعرة): إن الله تعالى في أمره ونهيه وجماع تعاليمه التي يلقنها الأنبياء بالوحي، ليس يفعل سبحانه إلا ما يشاء ولا يشرع إلا ما يريد، فهو تعالى رب العالمين ومالك الملك كله لا يسأل عما يفعل؛ وينبني على هذا دستور الأشاعرة في التشريع السماوي، وهو أن ما يأمر به الله العلي القدير حسن جميل، وما ينهى عنه هو القبيح الرديء.
وأما المعتزلة فمال فقهاؤهم إلى النظر في صفات الله تعالى من لطف وحكمة ورحمة وعلم، وفضلوا أن يجعلوا منها مصدراً بدهياً لما يوحي به الله إلى رسله من نهج ومن شرعة. فهو على قدرته تعالى في تحريم ما شاء والأمر بما شاء، لا يخالف منطق العقل فيما نهى أو أمر؛ أي أنه تعالى لا يأمر إلا بما يراه العقل حسناً من قبل، ولا ينهى إلا عما يراه العقل قبيحاً من قبل.
والعقل أيضاً عند هذه الطائفة، هو المنظم لأحوال المجتمع الإسلامي قبل مجيء الرسل وبعث الأنبياء، فهو الذي يهدي الأفراد والجماعات إلى فعل ما يدركون أنه حسن بالفطرة، وهو دافعهم إلى أن ينتهوا عما بان قبحه وظهر ضلاله وخبثه وخالف حكم العقل مخالفة صريحة. وإذا كانت الجنة مثوى من أطاع شرع الله ونفذ أحكامه وانتهى بنواهيه، وإذا كانت النار قراراً لمن عصوا ربهم فارتكبوا محارمه وقارفوا مناكر ما نهوا عنه وصدوا عن سبيله، فإن العقل أيضاً هو المجيز المثيب وهو المعاقب المؤاخذ. فقدرة العقل على أن يستقل بإدراك الحسن والقبح في الأفعال، وعلى تقدير ما يترتب على فعل الحسن من استحقاق الثواب وما ينجم عن فعل القبيح من استحقاق العقاب، يصح أن يعد مصدراً لتعريف حكم الله تعالى ودستوراً، من باب أولى، لتشريع السماء، بله أحكام الفقهاء.
فالتشريع، سواء أكان من وحي السماء أم من وضع البشر في عصور ما قبل الرسل، يراه فقهاء المعتزلة كاشفاً ومقرراً لما أدركه العقل من قبل. فهو كما ذكرنا لا يستنكر إلا ما يراه قبيحاً، ولا يرضى إلا بما يراه حسناً. وفي كلا الحكمين يعتمد على فطرته الهادية وذوقه المرهف وإدراكه السليم. ولما كانت أحكام الله عند تشريعها قد قصد بها أن تحكم مصالح العباد وتنظم الروابط الاجتماعية بين الأفراد، وبالجملة تهدي الناس إلى التي هي أقوم،
ولما اقتضت حكمته تعالى ورحمته بعباده أن تجيء شرائعه معقولة مفهومة من أولئك المطالبين بالأخذ بها والتسليم لها، كان (واجباً) على الله سبحانه أن يشترع لعباده الأصلح الذي يغني والأقوم الذي يهدي، وكان (حراماً) عليه أن يترك هذا الأمر لا ضابط له!. . .
ولعلنا لا يتداخلنا العجب بعد هذا الذي قدمناه، إذا رأينا المعتزلة يؤمنون بمبدأ (القدرية) حتى يغلب عليهم اسمه ويصير كنية لطائفتهم تمتاز به عن غيرها من الطوائف المتفرعة عنها. فهي ما دامت تقول بالعقل حاكما مطلقاً للحسن والقبيح من الأفعال، وما دامت تجعل منه دستوراً لا يخطئ في تفسير شرائع الله، وتنظيم مصالح العباد، واستنباط الأحكام للناس في دائرة المعاملة ومحيط المعاش، فإنها لن ينقطع بها تفكيرها عن درك هذه النتيجة المنطقية، وهي أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة، وأن الله تعالى منزّه عن أن يضاف إليه شر أو ينسب إليه سبحانه ظلم، لأنه لو خلق الظلم لكان ظالماً، وبالتالي لو خلق العدل كان عادلاً. فالحكيم عند المعتزلة هو من يفعل الخير لأنه الخير، ويتنكب سبيل الشر لأن شره واضح له، أو بمعنى آخر تتقاضاه الحكمة الراشدة والمعرفة الهادية أن يعتنق الحسن ليثاب عليه، ويصدف عن القبح خشية أن يجازى به، لأنه يحفظ بالأول أمر دينه ودنياه، ويخرج بالثاني على أمر عقله فيعصف بحياته ويكون خاسراً لدينه ودنياه.
ومن ثم كانت تكاليف الله التي أمر رسله أن يأخذوا بها العباد، هي بمثابة ابتلاء صادق للصالح والطالح من عباده. فمن هلك في الدنيا أو الآخرة لأنه صد عنها، فإنما يهلك عن (بينة) أي عن تعقل وتدبر، ومن صلح وزكا وحقق له مرافه العيش الدنيوي ومناعم الآخرة، فإنما كان ذلك عن بينة أيضاً، لأن أصول المعرفة وإن كانت مستمدة من العالم الخارجي الذي يتكنفنا وتقع عليه حواسنا، إلا أن إدراك مدلولاتها الحسنة أو القبيحة وشكران النعمة على هذا الإدراك إنما مصدرها العقل، فالإدراك الصحيح والشكران الحق واجبان على كل مكلف لأنه رزق العقل ووهب الاختيار في الكسب
وبعد فهل أصاب المعتزلة في فلسفتهم هذه، وهل هي تصلح بذاتها لتعريف حكم الله وتقعيد التشريع والفقه على العقل الذي يستقل بالقدرة على تنظيم العباد تنظيماً معقولاً مفهوماً يقربون به من الحسن ويبعدون به عن القبيح؟
قلنا إن الأشعرية يرون أن الحاكم على الأفعال بالحسن والقبح هو الله الذي لا سبيل للعقل في الحكم عليه لأنه سبحانه متعال عن أن يحكم عليه أحد من العباد فهو خالق أفعالهم وجاعل بعضها حسناً وبعضها قبيحاً، ويلاحظ أن في هذا أخذاً - إلى حدٍ ما - بمذهب الجبرية الذي يقول إن الله قدر الأفعال حسنها وقبيحها، على الناس أزلاً، فلا مجال لهم في كسب أو اختيار ما دام أن العبد لم يقدّر فعله، فضلاً عن أن الثواب والعقاب هما لله وحده وليس في طوق العبد أن يعلم بهما إلا منه تعالى.
والواقع أن الحسن والقبيح إذا تأملنا فيهما تأملاً تجريدياً حكمنا بحق أنهما ليسا صفة ذاتية في الفعل وليسا أمراً ثابتاً مستقراً فيه حتى يصح حكم العقل على حسن الفعل أو قبحه. والعقول بجانب هذا مختلفة متفاوتة لا تتفق في حكمها، بل إن عقل الشخص الواحد لا يثبت في حكمه على شيء من الأشياء على حالة واحدة، تبعاً لاختلاف المؤثرات الزمانية والمكانية وتفاوت التفكير قوة وضعفاً.
ونخلص من هذا إلى أن المعتزلة قالت بنظرية القانون الطبيعي قبل الغربيين بزمن مديد، وهي النظرية التي تجعل العقل البشري مصدراً للقانون يعلو على التشريع سواء كان صادراً من سلطة غير منظورة كالله، أو من سلطة منظورة كالسلطان (الإمام). فالعقل - كما يقولون - هو الذي يستقل بكشف قواعد هذا القانون ومبادئه الخالدة معتمداً في هذا على الإدراك الصحيح والذوق السليم.
صلاح الدين الشريف
المحامي
إلى معالي وزير المعارف
التعليم الزراعي
- 2 -
دعوتك لما يراني البلاء
…
وأوهن رجلي ثقل الحديد
وقد كان مشيهما في النعال
…
فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل
…
فها أنا في محفل من قرود
فلا تسمعن من الكاشحين
…
ولا تعبأت بعجل اليهود
وكن فارقاً بين دعوى أردت
…
ودعوى فعلت بشأو بعيد
(المتنبي)
المستقبل:
وهكذا تتكبد الدولة ستين وخمسمائة جنيه في السنة للمكتب الزراعي الواحد، أي حوالي خمسين جنيهاً للتلميذ الواحد في السنة، أي خمسين ومائة في السنوات الثلاث لينتهي بعدها إلى جهل مسطور في شهادة يسمونها (الدبلوم)، ثم يُلفظ إلى الشوارع والطرقات يتسكع يطلب الوظيفة كدأب أي طالب تخرج في مدرسته ليزداد به عدد العاطلين عاطلاً آخر.
وقد تنفرج شفتا الحياة لواحد منهم عن ابتسامة فيجد عملاً فما يلبث أن يبدو جهله، وكثير منهم طردوا من الدوائر والضياع وشرّدوا ولم يبق منهم إلا من أصاب عملاً في مدارس الزراعة المتوسطة.
والآن حين أسفرت التجربة عن إخفاق يندى له الجبين، قام ناس ينافحون عنها، ويريدون أن ينشروا الفكرة وينشئوا مكاتب أخر إشفاقاً على أنفسهم أن تجتاحهم العاصفة.
مشروع جديد:
إلى هنا هوى المشروع بين يدي النقد الصريح، وما كان لي أن أهدم مشروعاً دون أن ألتمس له طريقاً يسلكه صوب النجاح. وبينا أنا أفتش عن طريق الإصلاح إذا بالجرائد تطلع علينا تقول:
(أشرنا من قبل إلى رغبة وزارة المعارف في تيسير التعليم الزراعي لتلاميذ المدارس الإلزامية وقد انتهت إلى وضع النظام التالي على أن يعمل به ابتداء من السنة الدراسية القادمة.
أولاً: يلحق تلاميذ المدارس الإلزامية بالمدارس الزراعية المتوسطة ليتمرنوا تمريناً عملياً في أقسامها المختلفة كالحقل ومعامل الصناعات الزراعية ومعامل اللبن.
ثانياً: أن تكون مدة الدراسة خمس سنوات: اثنتان إعداديتان والسنوات الثلاث الباقية يوزع فيها التلاميذ للتخصص بأحد القسمين وهما: قسم الحقل ويشمل معمل الألبان وتربية الحيوانات. وقسم البساتين ويشمل الصناعات الزراعية وتربية النحل ودودة القز.
ثالثاً: ألا تقل سن التلميذ عند الدخول عن 13 سنة ولا تزيد على 15 سنة وبشرط أن ينجح في كشف الهيئة والكشف الطبي).
(الأهرام، 381940)
فقلت: لا جرم، فقد تكسر المكتب الزراعي القديم ليكون هذا المشروع مكتباً زراعياً أخراً من نوع جديد، وهالني أن (يلحق تلاميذ المدارس الإلزامية بالمدارس الزراعية المتوسطة) لأمور أفصلها فيما يأتي:
أولاً: لأن التعليم الإلزامي يعم القطر المصري كله، والمدارس الزراعية المتوسطة في دمنهور وشبين الكوم ومشتهر والمنيا فحسب؛ فكيف يستطيع التلميذ الإلزامي في قنا أو جرجا أو كفر الشيخ أو كوم حمادة - مثلاً - أن يأخذ قسطه من التعليم الزراعي الجديد ونحن نعلم أن تلامذة الإلزام فقراء لا يستطيع الواحد منهم أن ينأى عن أهله، وإن استطاع هو فلن يرضى أبوه وهو في حاجة إليه شديدة، وإذن لا يمكن أن ينتشر هذا التعليم بين تلامذة الإلزام في سهولة وبتكاليف قليلة. وإذا قيل إن هذا المشروع ستغذيه فئة قليلة ممن يستطيعون. . . فقد ضاعت الفائدة المرجوة؛ وانمحى مبدأ (التيسير) الذي تنشده الوزارة.
ثانياً: لأن إجازات التعليم الإلزامي - ولاسيما في القرى -
مرتبطة بمواسم الزراعة فالتلميذ هو عضد أبيه. . . ولقد جاء
في أهرام 2771940 ما يأتي: (وافق معالي وزير المعارف
على تعديل نظام الإجازات بمدارس الزراعة المتوسطة ابتداء
من أول السنة القادمة بحيث لا تقع هذه الإجازات أثناء
المواسم الزراعية المهمة فيفوت على الطلبة ما يمكن أن
يفيدوه من خبرة ودربة على الزراعة العملية تحت إشراف
أساتذتهم). ولا ريب فهذا قانون يسري على كل طالب وتلميذ
في المدارس الزراعية ومن بينهم تلميذ الإلزام، فهل يا ترى،
يضحي الأب بقوته، أم تضحي الوزارة بالفائدة؟
ثالثاً: لأن تلاميذ التعليم الإلزامي سيخلقون في المدارس الزراعية فوضى يحق لي أن اسميها (فوضى الاضطراب) أو (فوضى التوسع). ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يقوموا بما يقوم به الطالب الزراعي في حين أنهم يقفون معاً جنباً إلى جنب فالطالب الزراعي يستطيع أن ينهض بأعباء الدراسة في سهولة لأنه نال حظاً من الثقافة المتوسطة، وأن ينتظم في الدراسة في غير عنت لأنه كرس حياته لهذا النوع من التعليم، وأن يدفع المصروفات لأنه غني. أشياء تعضل كلها على التلميذ الإلزامي.
ولعل إنساناً يقول: إن التلميذ الإلزامي سيتعلم مجاناً. لا بأس وإذن يجب أن يتعلم الطالب الزراعي بالمجان أيضاً، وإلا فعلى أي أساس تكون التفرقة بين هذين التلميذين. فإن اعترض إنسان بقوله إن لكل منهما عملاً. قلت: وكيف يضمهما بناء واحد يشعر أحدهما بالكبرياء والترفع ويشعر الآخر بالضعة والذلة؟ وكيف يضم بناء واحد فئتين من التلاميذ يدرسان فناً واحداً غير أن إحداهما دون الأخرى. لا مرية، فهذا عمل تأباه الإنسانية وإذن لابد أن ينفصل أحدهما عن الآخر.
وهنا ينهد هذا المشروع الجديد قبل أن يبدأ.
رابعاً - لأن (فوضى الاضطراب) أو (فوضى التوسع) تبدو للعين واضحة جلية حين نرى أن ناظر مدرسة الزراعة المتوسطة سيشرف على المدرسة الجديدة والمدرسة القديمة
وتلامذة الإلزام ولكل فئة من هؤلاء منهج ونظام، ثم الحقل والعمال والمخازن والآلات و. . . مما ينوء بالعصبة أولي القوة. ولكن الشغف بالشيء يعمي عن الحقيقة البينة.
الإصلاح:
إن نشر التعليم الزراعي بأقل التكاليف وأبسط الطرق هو المبدأ الذي وضعته أمام عيني حين أخذت نفسي - بادئ ذي بدء - بنقد هذا التعليم. وهذا المبدأ يستطاع تحقيقه بتنفيذ عملين معاً.
العمل الأول: أن تصير سنوات الدراسة في المدارس الإلزامية خمساً وتلحق بكل مدرسة قطعة أرض صغيرة تقسم إلى خمسة أقسام لكل فصل قسم يزرعه نوعاً أو أنواعاً من المحاصيل الزراعية أو الخضراوات حسب تقسيم المنهاج. وهذه القطعة يزرعها التلاميذ بأنفسهم لا يساعدهم أحد إلا أن يكون للتدريب والتوجيه ليشهدوا ويعملوا بأيديهم تحت إشراف مدرس من خريجي المدارس المتوسطة. أما الماشية التي يحتاجون إليها فيستطيعون الحصول عليها من أحد أعيان الناحية أو من عمدة البلدة. ويقوم التلاميذ على حساب الإيرادات والمصروفات، ويكلفون بجمع الحشرات المختلفة ويتعلمون (سورة الفدان). وهكذا يستطيع التلميذ أن يتعلم فن الزراعة وفلاحة البساتين ومبادئ الكيمياء الزراعية وعلوم الحيوان والنبات والحشرات ومساحة الأراضي في صورة بسيطة. ولا ريب عندي أن التلاميذ يستطيعون بجدهم أن يسددوا إيجار قطعة الأرض الملحقة بالمدرسة، وبذلك لا تخسر الوزارة شيئاً في حين قد كسب الوطن أشياء كثيرة.
وهذا عمل تقوم به مراقبة التعليم الإلزامي في سهولة، وفي غير إرهاق.
ولتمام فائدة هذا العمل ينشأ في كل مركز معمل ألبان وآخر للصناعات الزراعية يقوم عليه طائفة ممن أتموا مرحلة التعليم الإلزامي ويبتغون الزيادة: يشترون المواد الخام، ويبيعون المنتجات، ويحسبون الأرباح والخسائر بأنفسهم.
العمل الثاني: أن ينشأ في كل قرية أو عدد من القرى المتجاورة مكتب إرشاد يشرف عليه أحد خريجي كلية الزراعة.
ويكون رئيس هذا المكتب هو رئيس مدرس الزراعة بالمدرسة الإلزامية، وحلقة الاتصال بينه وبين المباحث الحديثة، فهو يبلغه النشرات الجديدة، وما يطرأ على فن الزراعة من
تجديد وتغيير، ويفتش على عمله بالمدرسة وبالحقل، ويكتب التقارير إلى جهة الاختصاص و. . .
وهذا العمل تقوم به وزارة الزراعة أو وزارة الشئون الاجتماعية.
هذا. . . وللمدارس المتوسطة جولة أخرى إن شاء الله.
(للموضوع تكملة)
(*)
وداع الشاطئ
من الفردوس إلى الجحيم
للأستاذ سيد قطب
اُحْلُ يا شطُّ ما تشاءُ فإنّي
…
رغمَ سحرِ الجمالِ والموجِ راحلْ
راحلٌ حَشْدُ نفْسِه لفَتاَتْ
…
ليس عن فتنةِ الجمالِ بغافلْ
قدَ دَعَتْهُ إلى الرَّحيلِ ديارٌ
…
في صميمِ الجحيمِ تُدْعى الشواغلْ
هي قبرُ الآمالِ والفنِّ والحبْ
…
بِ وقيدٌ عن كلِّ ما شاقَ شاغلْ
وهي داري التي دَرَجْتُ عليها
…
وإليها المآبُ مَهْما أحاولْ!
اُحْلُ يا شطُّ بالجمالِ طليقاً
…
من قُيوِد الزمانِ نشوانَ وَاهِلْ
أسْكَرَتْهُ الأمواجُ وهي تُزَجِّى
…
دَفَعاتِ الحياةِ في كلِّ نازلْ
فيرَى نفْسَهُ خفيفاً غَرِيراً
…
قاهراً قادراً يجوزُ الحوائِلْ
دَفَعاتُ الحياةِ في الموجِ أَسْنَى
…
من بَريقِ الآمالِ في نفْس آمِلْ
اُحْلُ يا شطُّ بالعَرائِسِ حُوراً
…
سابحاتٍ والموجُ ظمآنُ ناَهِلُ
كانْفِتاَلِ الحِيتانِ في البحرِ وَثْباً
…
وانثناءِ الغِزْلانِ والشطُّ ذاهلْ
فتنةٌ تسكبُ الحياةُ عليها
…
سِحْرَها والعيونُ حُورٌ قَوَاتِلْ
واندفاعُ الأمواجِ يُوقِظُ في النَّفْ
…
سِ ظَماءً مُرَقْرَقاً في الدَّخائِلْ
وانطلاقاً من التَّزَمُّتِ والْعُرْ
…
فِ وشوْقاً إلى المباهِجِ واغِلْ
اُحْلُ يا شطُّ لن نُطيقَ انْفِلَاتاً
…
من رَحيلٍ إلى جحيمِ الشواغلْ
القبلة
للأستاذ خليل شيبوب
يَا حَبِيبي قد أَمُوتُ غَدَا
…
ذَائِباً في حَسْرَتِي كَمَدَا
آهٍ لوْ تَشْفِي غَلِيلَيِ في
…
قُبْلَةٍ مَا تَنْتَهي أَبَدَا
أتَملاَّهَا فَماً لِفمٍ
…
لِتُذِيبَ الرُّوحَ وَالْجَسَدَا
ناَهِلاً أنفَاسَهَا عَبَقاً
…
نشْرُهُ يَسْتَرْوح الْخُلَدا
شَارِباً مِنْ طِيبِ رَشْفَتِهَا
…
خَمرَةَ الموْتِ الذِي عُهِدَا
حَافِظاً مِنْ طَعْمِهَا بَفَمِي
…
لَهَباً يَشْتَدُّ مُتَّقِدَا
عَلْقَماً تَحلو مَرَارَتُهُ
…
وَتَشُقُّ الْقَلْبَ وَالْكَبِدَا
سَكْرَةٌ مَخْمُورُهَا تَعِسٌ
…
لَنْ يُلاُقِي بَعْدَهَا رَشَدَا
إيهِ يَا شَمْسَ حَيَاتي التي
…
نُورُهَا قَدْ شَعَّ مُنْفَرِدَا
أنْتِ رُوحِي لَيْسَ عَنْكِ غِنىً
…
أوْ تُضَحَّى الرُّوحُ عَنْكِ فِدَى
أنْتِ آمَالِي مُجَسَّمَةٌ
…
تَزْدَهِي ألْوَانُهَا جُدُدَا
وَحَيَاتي أنْتِ زِينَتهَا
…
جُزْتِ فِيهَا المالَ وَالوَلَدَا
أنْتِ سِرُّ العُمرِ أفْهَمُهُ
…
أنْتِ مَعْنَاهُ يَفِيضُ هُدَى
إنَّهُ قَدْ صَارَ لَحْنَ هَوَى
…
وَغَدَا قَلْبِي بِهِ غَرِدَا
كاَنَ لِي عِقلٌ يُدَبِّرُني
…
وَهْوَ فِي حُبِّيكِ قَدْ شَرَدَا
كاَنَ لِي عزمٌ أعِيشُ بهِ
…
وَهْوَ مِنِّي اليومَ قَدْ فُقِدَا
كلُّ مَا فِي العَيْشِ مِنْ فِتنٍ
…
ذَهَبَتْ غَيْرَ الغَرامِ سُدَى
أنَا مُسْتَغْنٍ بِحبِّيَ عَنْ
…
كلِّ مَا في الكاَئِناَتِ بَدَا
آهِ يَا شَمْسَ حَيَاتي ألَا
…
قُبْلَةٌ أحْيَا بها أبَدَا
أتَمَلاَّهَا فَماً لِفَمٍ
…
لِتُذِيِبَ الرُّوحَ وَالْجَسَدَا
عيد ميلاد سعيد
للأستاذ العوضي الوكيل
يَومُكِ يَوْمي، وعِيدُكِ العيدُ
…
وَفيهِ تَحلُو لِي الأناشيدُ
يا رَوضَةً قدْ زَهتْ مطالعُها
…
هَأنَذَا في رُباكِ غِرِّيدُ
أشدُو بأحْلامِ مُهجَتي أبداً
…
شِعْراً تَعي سِحْرهُ الْجَلاميدُ
تألَّقَ الحُبُّ في جَوَانبهِ
…
وازدانَ بالفنِّ وهو مَنضُودُ
وسَلْسلتهُ عواطفٌ سَلسَتْ
…
فما بشعرِ الجمالِ تَعقِيدُ
يا زَوْجَتي، يا هَوَايَ، يا أمَلي
…
قلبي بمعنَى سَنَاكِ مَحْشُودُ
بَقِيَّتِي أنتِ في الحياةِ وَمَا
…
مَحْيايَ إلا إليكِ مَردُودُ
من مُنذ عشرينَ غَيرَ وَاحِدةٍ
…
وَمَعدنُ الفَنّ فيكِ مَوجُودُ
وَقَدْ سَخَا الكونُ حِين أخْرَجَهُ
…
وهو شحيحُ اليَدَينِ مَنكُودُ!
خُذي، خُذي الشعرَ من مَصادِرِه
…
وَرَدِّديهِ إن لذِّ تَرْديدُ
ورَجعي لحنَهُ عَلَى خَلَدِي
…
فإنّ هذا للحُسنِ تَمْجيدُ
إن حَدّدته الحروفُ في كلمٍ
…
فما لهُ في الضميرِ تَحْديدُ
يومُكِ يومي، وتلكَ تَهْنِئَتي
…
تزُفُّهَا نَحوَكِ الأغَاريدُ
تَبَلْبَلَ القَلبُ في مَقَاطِعهِا
…
يَهتفُ: عُمرٌ كالدَّهرِ ممدُودُ
نداء.
. .
للأديب عبد الرحمن الخميسي
(يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني
وجهك، أسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف، ووجهك جميل)
(التوراة)
وجهها
سَواهُ رَبِّي فِتنةَ الأحْياءِ
…
من سَرْمَدِي الحُسنِ وَالألاءِ
ما وَجهُ أفرُودِيت إلا صُورة
…
منه، كَظِلِّ الوَرْد فوْق الماءِ
خَطَّ الإلهُ السحْرَ في قَسَماتِهِ
…
ونَماهُ في جَنّاتِهِ الفيحاء
وَسَقاهُ أرْوَاحَ الجمالِ فكله
…
كلُّ الجمال مُفَصَّلُ الآلاء
فيه الربيعُ وفيه طيرٌ ما شدتْ
…
لكنها تشدو بغيرِ غِناء
فيهِ من الليْلِ الوَدِيعِ قدَاسةٌ
…
تُلقى بُذورَ الخيرِ في أطوَائي
فيه مِنَ الألَقِ المُصفَّى لُمعَةٌ
…
خمريةٌ مَشْبُوبةُ الإغرَاءِ
فيه خُفُوتٌ شاعريٌّ، تحتَهُ
…
نارُ الشباب تسيرُ في اسْتِخذَاء
فيه النَّقاوَةُ وَالْبراءِةُ جُمعتْ
…
وتَحدَّرَتْ منهُ إلى البُرآءِ
هو مَعبدٌ تَعتاشُ في مْحِرابهِ
…
صَلوَاتُ عُشاقٍ، ونُسكُ سَمَاء
ضَحيتُ فيهِ تقرُّباً من خَالقي
…
بزهور عُمرِي والتِماعِ هَنَائي
ونفضتُ عَنِّي المجدَ، مجداً زائفاً
…
ونشدتُ فيهِ رفَعتي وَعلائي
وَعَبَدتُ فيه الله لا مَحبُوبَتي
…
فالله مُبدعُ تلكُم العَذرَاءِ
وَنَسَجتُ من أنْوارِهِ غَيبُوبَتي
…
فوجدتُها أنقَي مِن الأضْواءِ
يا شَعرَها الغِريبَ لَيتَ أنا الذي
…
أهْتَز فَوقَ جَبِينهَا الوَضّاء
فأمُدُّ مِنْ ذَاتي قناَعاً حَالِكاً
…
يخْفي ابِتسَامَتَها عن الأحْياءِ
فَأنا أغَارُ، وَغيرَتي مَجنُونةٌ
…
هَدَّتْ بنائي، آه أيْنَ بنائي؟
ما حَرَّكتْ أجْفانَها إلا وَقدْ
…
لَطَمَتْ فُؤَادِي غمرةُ الإعْياءِ
والسهدُ في العينين كَبَّل مَنَطِقي
…
وَأصَابَني بالرعْشَةِ الحَمقاءِ
صوتها
ينسابُ كالصهباءِ في حسِّي إلى
…
أنْ تحتويه نشوةُ الصهباء
فتميد بي الدنيا وأنسى صرفها
…
وتُفَكُّ روحي من إسار بقائي
وأهيمُ في أفقِ الذهول معانقاً
…
وَهْمي إلى عُشٍ من الأضواء
تختالُ فيه القُشبُ من أحلامنا
…
وتَرفُّ حولي عَذبةَ اللألاء
هو ذُخرُ وجداني إذا ما فَرقَتْ
…
بيني وبينكِ رِجفةُ الأنواء
فيرنّ في غوري صداهُ مرقرقاً
…
شوقَ الحبيبِ إلي الحبيب النائي
ويُفيحُ حرَّ الوجدِ من أنغامِه
…
في حَبَّتي وعلى هدير دمائي
فَيلُفني الإعصارُ إعصارُ الجوى
…
وتُذيبُ نفسي غُربةُ الشعراء
إني أحِسُّ لرَجعِ صوتك في دمي
…
لهباً وبرداً يُترِعان ذِمائي
وأودّ لو أني هواءً عاطراً
…
ثَملاً بموسيقاه في أحنائي
أطوي عليه النفسَ خشيةَ سامعٍ
…
وأغارُ يا دنيايَ من أحشائي
يا ليتَ أني في لهاتِكِ غُنوَةً
…
علوية التلحين والإلقاء
لَسَكنتُ في الألباب أخلدَ منزلٍ
…
ما دمتِ أنتِ ترنمتْ بغنائي
إني الشحيحُ وجَرسُ صَوتُك في دمي
…
وسواسُ تِبرٍ نافذُ الأصْداءِ
حول الرنينِ يطوفُ عُمري مثلماً
…
يَتَطَوَّفُ الحَرَّانُ بالأفْياءِ
ولسانُكِ الذّهبيُّ قيثارٌ سَرتْ
…
من قَلبهِ أغْرُودةُ الجوزاء
وكأنها فجرٌ، أنا في نُورِهِ
…
جسمُ الدجُنَّةِ ذائبُ الأعضاء
وكأنها عِطرٌ يُضمِّخُ مهجتي
…
وأنا النسيمُ مُطهَّر الأرُجاء
وكأنها طلٌّ يغيثُ حَشَاشَتي
…
وأنا البَنَفسجُ في الربى القَحْلاء
وكأنها جَمرٌ يُحرِّقُ معْدني
…
وَيُحيلني رُوحاً مِنَ العلياء
وكأنها كلُّ الحَيَاة تدُبُّ في
…
جَسَدِي دَبيبَ النور في الظلْمَاء
رسالة الفن
لابد من حل
الفن. الخبز. الروح
(الرجاء في معالي وزير المعارف الفنان الكبير (الدكتور
هيكل باشا))
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يذكر القراء أن مدرسة الفنون الجميلة العليا تورطت في العام الماضي مع نفسها تورطاً عجيباً إذ حكمت على طلبة قسم النحت فيها بأن يرسبوا جميعاً وأن يعيد كل منهم دراسته في سنته نفسها.
ويذكر القراء أن إشاعات كثيرة راجت حول هذا التورط العجيب، كما يذكر القراء أن الرسالة تناولت هذا الحادث الخارق للعادة بكلمة حدث على أثرها - ولا نقول بتأثيرها - أن نقل الدكتور ناجي مدير المدرسة السابق منها، وأن عهد بإدارة المدرسة للأستاذ محمد حسن المراقب المساعد للفنون الجميلة بوزارة المعارف.
والأستاذ محمد حسن رجل له خطط يرسمها وينفذها مستعيناً عليها بجماعة من أساتذة الفنون في مدرستي الفنون الجميلة العليا والفنون التطبيقية. وهم كلهم من الشبان المتطلعين إلى فوق، والذين يؤمنون بأنه قد آن للمصري الفنان - كما آن لكل مصري - أن يزيح عن مناصب الحكومة وعن ميادين الأعمال الحرة أيضاً كل أجنبي دخيل جاء إلى مصر ليربح المال، وليجمع المال، وليكسب المال.
وأنا وإن كنت بعيداً عن كل تعصب، وإن كنت أكره التفريق بين الناس لأي سبب من الأسباب، فإني لا أملك أن أصد الأستاذ محمد حسن عن المضي في اتجاهه، لأنه قد تم له فعلاً التخلص من كل الأساتذة الأجانب في مدرسة الفنون الجميلة، وقد أحل بدلاً منهم فعلاً فريقاً من الأساتذة الشبان المصريين، وهؤلاء هم الذين نرجو اليوم على أيديهم الخير للمدرسة، والله الموفق.
وكما دبر الأستاذ محمد حسن مسألة الأساتذة على هذا النحو الذي أرتآه، فقد فكر أيضاً في
مسألة الطلبة والمتخرجين، ورسم لهم هم أيضاً خطة قال لي إنه عرضها على معالي الدكتور هيكل باشا في وزارته السابقة، كما قال لي إن معاليه وافق عليها، ورصد لها مبلغاً من المال ليبدأ تنفيذها به، ثم حلت الظروف القاسية التي نعانيها اليوم فبطل الإنفاق وبطل التنفيذ.
وهذه الخطة هي موضوع حديثنا اليوم، لأننا لا نزال نرى أن هذه الظروف القاسية لا يمكن أن تكون حائلاً دون تنفيذها، بل إننا نرى أن هذه الظروف القاسية نفسها دافع قوي يحفزنا إلى التعجيل بها.
تخرج مدرسة الفنون الجميلة العليا كل عام جماعة من الشبان الفنانين، بعضهم يلتحق بوظائف الحكومة، وبعضهم يظل يسعى وراء وظائف الحكومة إلى أن يلتحق بها، لأنه لا سوق للفن في مصر.
فإذا كانت الحكومة تنوي أن تستبقي مدرسة الفنون الجميلة العليا مفتوحة للطلاب تستقبلهم وتخرجهم، فإن عليها أن تفكر في أمرهم، فهي المسئولة عنهم، كما أنها المسئولة عن كل عبد من عباد الله الذين تتولى أمورهم.
ونحن لا نجرؤ على مطالبة الحكومة بتوظيف كل متخرج من هذه المدرسة، فنحن نعرف أن وظائف الحكومة محدودة، وأن الحكومة متخمة بالموظفين، كما أننا نعرف أن الفن لا يحيا مرتاحاً، ولا ينمو مزدهراً في الدواوين والمصالح.
فالباقي على الحكومة أن تفكر فيه إذن، هو أن تنشئ للفن في مصر سوقاً، أو أسواقاً؛ فإذا هي فعلت ذلك، تفتحت أبواب الحياة أمام الفنانين، وتفتحت عيون الناس على الفنون، وتابع الجمهور الحكومة في الاهتمام بالفن وفي الإقبال عليه.
وإذا كانت الحكومة قد آمنت بأن التمثيل فن جدير بالرعاية والتشجيع لما يهذب النفوس ويرقيها، فأنشأت الفرقة القومية، وفتحت بها للمثلين باباً مطمئناً من أبواب الرزق، وإذا كانت الحكومة قد آمنت بأن الغناء والموسيقى فنان جديران بالرعاية والتشجيع لما يصقلان النفوس ويرفهان عنها، فرعت محطة الإذاعة، ورصدت لها إعانة سنوية تنفق على المغنين والمطربين، وتضمن لهم باباً مطمئناً من أبواب الرزق أيضاً، فإن على الحكومة كذلك أن تؤمن بأن النحت والتصوير فنان لهما أثرهما في النفوس كغيرهما من الفنون، وعليها بعد
ذلك أن تفتح للنحاتين والمصورين الذين تربيهم باباً مطمئناً من أبواب الرزق كما فعلت ذلك مع غيرهم.
فما هي هذه السوق التي تستطيع الحكومة أن تنشئها للنحاتين والمصورين؟
(المتاحف)، فهي أول ما يرد إلى الذهن، ولكن التجربة أثبتت أن الجمهور المصري منصرف عن المتاحف انصرافاً تاماً، وأن كل ما ينفق عليها عبث لا يجدي ولا يعود بالنفع، فهي بعيدة عن الجمهور، لا يقصد إليها أحد، ولا يستمتع بها أحد، ولا يتأثر بها أحد. والذي نريده نحن أن نضع الفن تحت أعين الناس حتى يروه ويتأثروا به، ثم يحبوه، ويقبلوا عليه.
وقد ألهم الله الأستاذ محمد حسن فكرة ضمنها تقريره الذي رفعه لمعالي الدكتور هيكل باشا فوافق عليه ولكنه توقف عنه للأزمة الطارئة. . .
وتلك الفكرة هي أن تقرر الحكومة تزيين معاهدها ودورها العامة، وحدائقها ومتنزهاتها، وشوارعها وميادينها بالصور والتماثيل. . .
وتستطيع الحكومة أن توفر آلاف الجنيهات من ثمن السجاجيد التي تفرشها على الأرض في دورها ومعاهدها، وأن تعطى هذه الآلاف للفنانين المصريين الذين يشكون اليوم أزمة البوار بينما اليوم هو يومهم الذي تلطب البلاد فيه نفثات أرواحهم.
ومعالي الدكتور هيكل باشا أول من يعرف أن نفوس الجماهير لا يؤثر فيها شيء مثلما يؤثر فيها الفن، وأنه لا يملؤها عزماً وحباً للحياة إلا الفن، وإني أخجل من التحدث إليه في هذا الموضوع لأني واحد من أبنائه فيه، فقد تعلمت من كتابته كما تعلم غيري أن تباشير النهضات دائماً لا تكون إلا فنوناً يتلوها العلم، ثم يتلوه العمل.
فإذا قيل لنا إن الظروف القاسية التي نعانيها اليوم تمنعنا من التبذير ومن الإنفاق على الفنون الجميلة في الوقت الذي تحتاج فيه إلى الإنفاق على ما هو أهم منها وأكثر ضرورة ووجوباً في هذه الظروف، قلنا إنه لا شيء أهم من الفن في هذه الظروف ولا شيء أكثر منه ضرورة ولا شيء أكثر منه وجوباً.
وإن نظرة واحدة نلقيها على الدول المتصارعة في العالم اليوم تثبت هذا الذي ندعيه، فألمانيا وإيطاليا استعانتا بالفنون على تهييج شعبيهما، فما في برلين ولا في روما ميدان إلا
وفيه تمثال، وما في برلين ولا في روما شارع إلا وفيه صور وخرائط ورموز تشعل الحقد والغرور في نفوس الناظرين إليها من أهلها، وإن بريطانيا العظمى اليوم لتستعين بالأدباء والخطباء على إثبات حقها في الدفاع عن الديمقراطية التي تتحدى بها الديكتاتورية وتناصرها عليها. وكل من ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا العظمى تنفق على التصوير والنحت والأدب والخطابة ملايين الجنيهات غير آسفة، لأنها تعرف أن هذه الفنون غذاء لازم للأرواح لا تستطيع الأرواح الإقبال على الكفاح أو الثبوت فيه إلا إذا شبعت وارتوت منها. وإذا كانت هذه الدول تؤمن بفوائد الفنون هذه الإيمان، وإذا كانت هذه الفنون قد أحدثت في هذه الدول هذه الآثار التي نراها من اختبال العقل في الألمان والطليان والصبر الجبار عند البريطان، فإنه جدير بنا أن هرع إلى هذه الفنون لنشبع أنفسنا ونرويها منها، فلسنا نعيش في دنيا غير الدنيا التي تعيش فيها هذه الدول، وإنما نحن في مركز الدائرة، وإذا نحن فوتنا هذه الفرصة وقعدنا فيها عن استغلال الفنون في إثارة الروح الوطنية في نفوس المصريين، فإننا قد لا نحتاج بعد اليوم إلى الفن يحيينا، لأننا قد نحتاج بعد اليوم إلى أدوية وضروب أخرى من العلاج.
هذه الظروف القاسية إذن هي أنسب الظروف لإنعاش الفنون الجميلة وإحيائها وتفتيح الأسواق للفنانين، وتستطيع الحكومة أن تبدأ منذ اليوم بإنشاء مكتب جديد في وزارة المعارف لشراء الصور والتماثيل من الفنانين لتوزيعها على الدور العامة والمعاهد الحكومية والميادين والمتنزهات والشوارع، وأظن أن تاريخنا الطويل مملوء بالموضوعات الوطنية الجبارة التي تفعل في النفوس فعل السحر، كما أظن أنه كان من آبائنا وأجدادنا أبطال من حقهم علينا، ومن حقنا على أنفسنا أن نخلد صورهم أمام أعيننا لننظر إليها دائماً ولنستقي من معانيها آيات المجد والحرية والإيمان.
ولعله مما يضيق به صدر الحق والفن أن تكون كليات الأزهر خالية من تماثيل أبطال الأزهر وصورهم، وأن تكون الكلية الحربية خالية من صور زيتية تخلد البطولات المصرية والانتصارات المصرية في تاريخنا القديم وفي تاريخنا الجديد، وأن تكون كليات الجامعة خالية من تماثيل رجال العلم ورجال الأدب المصريين والأجانب الذين لا نزال نتتلمذ عليهم ونأخذ عنهم، وأن تكون دار البرلمان المصري مزدانة بصور فوتغرافية ملونة
صنعتها آلات جامدة فهي لا تجسد للعين ولا للقلب المزايا التي استحق أصحاب هذه الصور أن يحتفظ البرلمان المصري بصورهم لها وأن يزين جدرانها بها من أجلها. ولعله مما يزور عنه الذوق أن تكون دور الأوبرا المصرية خالية من صورة أو تمثال لسيد درويش وسلامة حجازي، وعبده الحامولي، ومحمد عثمان وغيرهم من الفنانين المصريين. . . ولعل. . . ولعل. . . ولست أريد أن أمضي في تعداد نواحي النقص هذه البارزة في حياتنا فنحن نعرفها، وليس فينا من يجهلها. . . والذي يهمنا اليوم هو أن نبدأ بعلاجها لأننا قد شبعنا كلاماً فيها.
بقيت بعد ذلك فكرة طريفة، قال لي الأستاذ محمد حسن: إن بعض الدول في أوربا تنفذها بالفعل، وهي أنها تلزم أصحاب العمارات والبنايات الكبيرة بأن يخصصوا اثنين في المائة على الأقل من تكاليف بناياتهم وعماراتهم بزخرفة هذه العمارات والبنايات وتزيينها بالرسوم والتماثيل والصور. ولا شك أن تنفيذ هذه الفكرة يفتح الميدان واسعاً جداً أمام الفنانين، وهو في الوقت نفسه لا يضر أصحاب العمارات والبنايات في شيء.
والآن: الطريق أمامنا ممهدة معبدة. ونحن إذا آمنا بفائدة الفن وفعله في النفوس وأردنا أن نستغله لترقية أنفسنا فإننا من غير شك سنجد أنفسنا حيال أزمة هي عكس الأزمة التي تشكو منها اليوم. . . فنحن اليوم نبحث عن عمل للفنانين. ولكننا عندما نبدأ بتنفيذ هذه الفكرة سنجد أنفسنا مشغولين بالبحث عن الفنانين لكثرة العمل.
وعلينا أن نذكر أخيراً أن الحكومة إذا بدأت بتقدير الفن والفنانين المصريين، فإن كثيرين من عظمائنا وأغنيائنا وفقرائنا سيتبعونها في هذا التقدير، لأننا شعب تعود أن يتأثر (الميري) دائماً. ويا حبذا أن نتأثر (الميري) في الخير.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
قصة الفيتامين
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 3 -
عاد البحث ثانياً عن (الفيتامينات) عقب سني الحرب في سنة 1919، بعدما انطفأت شعلة الحرب واتجهت الإنسانية تسعى وجهة علمية مدنية، وعاد شغف البحاثين وولع العلماء في جميع المعامل بمتابعة التوسع في دراسة مبهمات هذه المادة الغذائية اللازمة للحياة، والتي دلت عن طريق التجارب الغذائية على وجودها في كثير من الأطعمة مثل الخميرة والزبدة وكبد الحوت والبيض والقشدة وبذور الحبوب والكرنب والكرنبيت والخس والطماطم وغيرها، كما اتضح أنه يستحيل نسبتها جميعاً إلى أصل مادة واحدة، فهي إذن تنتمي إلى مجموعات عضوية مركبة مختلفة التركيب.
ومن المشاهد أنه في حالة غياب أي نوع واحد من الطعام يحمل الفيتامين تظهر أعراض مرضية تختلف عن تلك التي تظهر عادة عند نقصان نوع ما من الغذاء. فالحالة الأخيرة تتلاشى فيها الأعراض عند إكمال النقص بعكس الحالة الأولى التي تستدعي لزوال أعراضها مصادر عديدة مختلفة من الفيتامينات.
وبتوالي استنباط وتجديد تراكيب غذائية مختلفة لا توجد فيها الفيتامينات إما من الأصل أو سلبت منها قسراً، وإجراء هذه التراكيب على الحيوانات كالفيران، وملاحظة ما يطرأ من الأعراض ويجد، ثم معالجة هذه الأعراض بالدقة والترتيب اللازمين، وذلك باجتناب المواد المسببة لتلك الأعراض. من تلك المشاهدات، ومع ما تستوجبه من الحرص والكفاية أمكن العثور بادئ ذي بدء على أربعة أنواع من الفيتامينات. ومع ضياع كل الجهود التي ذهبت حينذاك هباء للتدليل على الفيتامينات من الناحية الكيميائية، أو لتكييفها طبيعياً، فقد وضحت طريقها ووضعت لهذه المواد الحيوية المبهمة غير المحدودة المعالم الرموز: ، ، ،
لم يثن هذا من عزم الباحثين ولم يقف الجمود أمام سر تركيب الفيتامينات حجر عثرة في طريق البحث والتطلع من الستار الحاجبة أخذت تتهتك وتشف، وأخذ في تطبيق النتائج
التي وصل إليها عن طريق تغذية الحيوان - على الإنسان. وقد أدى هذا إلى معرفة وتشخيص كثير من الأمراض كانت مجهولة الأسباب حينذاك مثل: البري بري والأسخربوط والبلاجرا (الطفح الجلدي اللومباردي - نسبة إلى لومبارديا في إيطاليا) والراخيتيس فعرفت بعدئذ بأمراض نقص الفيتامين أو الفيتامينوزات.
وكان من أثر هذه النتائج وشيوعها، واستغلال بعض الصناعيين لها في ترويج مستحضراتهم بعد ما عرف أن الأمراض سابقة الذكر غير مستعصية العلاج - أن ظهر ما سمي حينذاك (بشبح الفيتامين) أو (حمى الفيتامينات) الذي يُذكّر من جديد (بشبح البكتريا) لعشرين سنة خالية قبل هذا التاريخ إذ قيل عند اكتشافها بأن كائنات دقيقة حية هي التي تنقل المرض وتسبب العدوى، لذا وجب الإغلاء والتعقيم كي تموت هذه المسببات، بينما قيل العكس في الحالة الجديدة التي يشار فيها بعدم الإغلاء أو الطهي إن أمكن حتى لا تؤذي الفيتامينات أو تتعرض حيويتها للهلاك.
وقد أدى هذا إلى كثير من الخلط والالتباس، تعرضت له حالة الفيتامين الجديدة إبان نشوئها إلى كثير من الشبهة، وليس فقط في مستهلها بل وفي أثناء إتمام بحثها مما سنراه.
ولقد أسيء كثيراً إلى كلمة الفيتامين نظراً لاستعمالها في أوضاع خاطئة ولتشعب النواحي والأفكار بخصوص ما ينتظر منها ومن أثرها ومدى عملها في منع أو شفاء كثير من الأمراض، ومع هذا فقد بلغ علم دراسة الفيتامينات شوطاً كبيراً في السنين الأخيرة حتى يومنا هذا - شوطاً ذا أهمية عملية بالنسبة لحياة الإنسان اليومية، مما لا يمكن أبداً الإقلال من قيمته بل على العكس إكباره وتقديره. وليس هذا فقط لما جدّ من اكتشاف أنواع أخرى من الفيتامين ولا لما عرف من عديد الأمراض التي كانت مجهولة الأسباب فأضحت أسبابها بيّنة ممكنة العلاج ولا لما أمكن تحضيره من هذه الفيتامينات صناعياً وما يجري العمل لإتمام تحضيره، بل لقد تهيأت الأسباب حديثاً لمعرفة طبيعة الفيتامين ومهمتها وعملها في الجسم وقصر ما بين حجابها وبين الإنسان.
وإذا ما أردنا بكلمات قليلة أن نحصر أو نعرف أهم ما عرف عنها إلى اليوم وجدنا أن الفيتامينات عبارة عن مجموعات أو مخلوطات عضوية مختلفة التركيب هي نتيجة تطورات (تعقيد) لعوامل مساعدة في التمثيل (التحول الغذائي) وعليه تكون الحاجة إلى
وجود الفيتامين في الخلية الحية من أوجب الضرورات. وبما أن الفيتامينات قد وجدت في أصل البحث في النبات فيغلب على الظن أنها تقوم فيها مقام المواد الفعالة (الهرمونات) في جسم الإنسان والحيوان، كما وجد أن بعض النباتات قد تصيبها بعض أمراض نقص الفيتامين وهذا ما وصل إليه حديثاً العالم النباتي بورجيف إذا أثبت أن نبات يموت تدريجياً إذا لم يحصل أثناء نموه على الفيتامين (ب) عن طريق نبات فطري يعيش عليه معيشة اتحادية، وذلك لأن النبات نفسه غير قادر ولا مهيأ لعمل الفيتامين. وكما أن الفيتامينات ضرورية جداً في جسم الإنسان والحيوان ولا معدى عن وجودها فيه فهي كذلك (ضرورية) حتى عند الحيوانات الدنيئة - فقد تصيب الحشرات مثل الصراصير (صراصير المطبخ) والنحل ويرقة السوس أمراض نقص الفيتامينات.
يجب إذن تموين جسم الإنسان والحيوان دائماً بتلك المواد الحيوية، إما بفيتامينات كاملة أو أولية التركيب (بروفيتامين) وذلك لتسهيل عمل الخلية الحية أو مجموعة الخلايا وبالتالي لتنظيم سير الجهاز الحيوي (دورة الحياة)، وتكفي منها كميات صغيرة جداً وتعتبر كمصادر قوة أو كمواد البناء أو التشغيل في عملية التمثيل الغذائي وقد تعمل بين بعضها وبعض بطريق التبادل أو يحتل جزئياً بعضها أماكن بعض كمساعدة أو مسبب للأدوار المعقدة التي تقوم بها الخلية في عملية التمثيل.
فكما أن أي رئيس لأية فرقة موسيقية لا يشترك كباقي الأفراد في إدماج أو إدخال أي صوت آلي من عنده له أثر ما في النغم أو اللحن النهائي ولكنه كمشجع أو مهدئ أو ضابط للإيقاع أو موجه للعمل الآلي لبقية الموسيقيين فكذلك يمكن تشبيه الفيتامينات بضابط للإيقاع في فرقة متنوعة الأصوات، هي تشبه في مجموعها وعملها المتداخل بعضه في بعض التفاعلات الكيميائية في الجسم؛ فإذا انعدمت هذه القوة الدافعة المشجعة تداعت بالتالي القوات الأخرى أو ثبطت همتها أو تراخت ثم يقف التعاون بينها ويضطرب التجانس، ثم لا يلبث أن يظهر هنا وهناك أعراض تسترعي الانتباه.
وفي سبيل معرفة ميكانيكية أو تاكتيك المهام الدقيقة التي تقوم بها الفيتامينات بدأ العلم يجني أول ثمار بحثه وجهوده لاسيما بعد أن أصبح من المحقق الثابت أن عمل الفيتامين في الصميم يستقر هناك وراء كل دور أو عمل حيوي، فهو بهذا هناك حيث تجري عملية
تحويل المواد في الخلية أي حيث يكمن سر الحياة.
ويقوم عمل الفيتامين في الخلية على ثلاثة أمور: أولها تأثير تلك المواد الحيوية في شكل وصفات الخلية - في نموها وفي بنائها وتكاثرها وتجددها. وثانياً تأثيرها في قوة أسطح وجدر الخلية مما يفرق مسامية وشعرية (نفاذية) بعض الخلايا عن بعضها كالحال في خلايا الأمعاء الماصة. وأخيراً وأهم أمر - هو قيادة وتوجيه التحليل الغذائي في الخلية، كما تعمل على ترتيب تنفس الخلية ومباشرة تحويل المواد نتيجة الاحتراق إلى حامض كربونيك وماء في الخلية مستخدمة في ذلك ذرات دقيقة من المعادن الثقيلة كالحديد والنحاس والمنجان وغيرها كوقود لتدفئة وتسخين أفران الاحتراق - ويتعين على كل نوع من الفيتامين بدوره تقديم مساعدته الخاصة به في الجهة الخاصة من الخلية للمساهمة في ناتج العمل الحيوي الكبير، ولكنه لم يتهيأ للآن إكمال هذه النقطة الأخيرة بحثاً وقد يقف بعض الفيتامينات والهرمونات قريباً من بعض في التعاون والعمل لدرجة يصعب معها أحياناً تمييز بعض أمراض نقص الفيتامين عن الاضطرابات الهرمونية.
وكما تعمل المواد البوتينية في الغدد الفارزة كذلك لا يعدو عمل الفيتامين أن يدير أو ينظم التحويلات الغذائية المعقدة التي يرتكز عليها سير ونظام الحياة؛ ولبلوغ مهمتها هذه حد الضبط والإنجاز هيأت الطبيعة ترتيبات ومعدات عظيمة ما زال الإنسان يتخيلها ويضرب في التعرف عليها.
وليس للفيتامينات ككميات مجتمعة (متكورة) أي تأثير، ولكنه - لكي تقوم بعملها - يجب أن تكون دقائق منتشرة في كل تيارات العصارة؛ ولكن إذا بلغت هذه الدقائق مبلغاً متناهياً في الدقة والصغر تراجع تأثيرها. ولتشبيه هذا العمل نتمثل لعبة من لعب الأطفال تتكون من كور ذات أحجام مختلفة تقابلها حفر (فتحات) معينة ذات اتساع كاتساع الكرات ولكن تضيق عنها قليلاً، ثم زد على الكرات الأصلية كرات أخرى أكبر منها وأخرى أصغر منها، فالكور الكبيرة لا تدخل الفتحات ولا تستقر فيها، والصغيرة تنفذ فيها ولا تستقر كذلك، والكور ذات الحجم الخاص هي التي تستقر وتملأ مواضعها. ولهذا قامت الطبيعة تبعاً لاختلاف انقسام جزيئات الكلوريد بعمل طريقة فذة لتنظيم سرعة الوظائف والأدوار الحيوية، وهذا من أهم ما تم معرفته للآن عن التأثير الميكانيكي الدقيق للفيتامينات.
وتبعاً لنداء فيتامين ما - سرعان ما تلبي النداء الخلايا التي في انتظار تغييرات هامة يجب حدوثها فيها. وهكذا يتعين بحضور الفيتامين في خلايا الجسم قيام الوظائف الحيوية التي منها: اطراد النمو، المناعة ضد الأمراض الناقلة وغيرها، بناء العظام، منع النزيف الدموي، حفظ نشاط مركز الجهاز العصبي، قوة التوالد والنسل.
ويبلغ عدد الفيتامينات التي عرفت للآن أو على الأقل عرفت مصادرها ومدى عملها وتأثيرها أربعة عشر فيتاميناً، وهذا في مدى ربع قرن من الزمان، وسنكتفي هنا بالفيتامينات الهامة ذات الأثر الفعال في حياة الإنسان وهي المواد الحيوية ، ، ، ، ونبدأ أولاً بالفيتامين الذي كان سبباً في البحث وراء المواد الشافية الموجودة في الغذاء، وبه بُدئ درس هذه المواد الحيوية، ألا وهو الفيتامين
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي
مهندس
البريد الأدبي
سؤال وجواب!
توهم أحد القراء أني وقعت في غلطة إعرابية مكشوفة بنصب كلمة (سجية) في هذا البيت:
فلا تحسبوا هنداً لها الغدر وحدها
…
سجية نفس، كل غانيةٍ هندُ
ولو كان هذا القارئ يعرف أني في الإنشاء أسرع من أقدر الناسخين، لفهم أن من الجائز أن يندّ القلم فيرسم الضمة فتحة أو بالعكس، على فرض أن ما وقع لم يكن غلطة مطبعية.
وإني أوجّه الأسئلة الآتية إلى ذلك القارئ المُتحذلق:
أولاً: من قائل هذا البيت؟
ثانياً: من أي شاعر سُرق هذا البيت؟
ثالثاً: من هم النقاد الذين نصوا على أن هذا البيت مسروق؟
رابعاً: ورد هذا البيت في رسالة لأحد كتّاب الأندلس، فمن هو ذلك الكاتب؟
خامساً: في هذا البيت دقيقة نحوية ودقيقة بلاغية، فما هاتان الدقيقتان؟
سادساً: في هذا البيت كلمة اختلفت فيها الروايات، فما هي تلك الكلمة؟ وما هو الكتاب الذي نص على ذلك الاختلاف؟
سابعاً: أخطأ أحد الخطباء المشاهير في هذا البيت، فجعل (الصدّ) مكان (الغدر)، فمن هو ذلك الخطيب؟ ومن هو الناقد الذي استدرك عليه؟ وفي أي مجلة نشر ذلك الاستدراك؟
ثامناً: نقل أحد الصوفية هذا البيت إلى معنى من المعاني الروحية، فمن هو ذلك الصوفي؟ وفي أي بلد طُبع كتابه أول مرة؟ وما اسم ذلك الكتاب؟
تاسعاً: لو قال قائل: إن نصب (سجية) هو الصواب، فما وجهه عندك؟ وما نظائره في كتب العربية؟ وما وجه الإشكال فيه على التدقيق؟
عاشراً: هل تعرف الشاعر الذي يقول:
وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ
…
لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
هذه عشرة أسئلة، فيها ما تعرف، وفيها ما تجهل، وفيها ما تذوق. فإن أجبت فلك الحق في أن أشير إلى اسمك بعبارة كريمة، وإن سكت فعذرك مقبول، لأنك بالتأكيد من أبناء الجيل الجديد، وهم من أعرف وتعرف في قلة الصبر على متاعب الجهاد.
وإليك التحية من الباحث الذي يرجو ألا تضطره إلى التكبر والازدهاء، والذي يود أن تذكره بالخير حين تخرج بعافية من هذه الرياضة الذهنية.
زكي مبارك
وفاة أمين الريحاني
نعت أخبار (بيروت) الكاتب الفيلسوف الأستاذ (أمين الريحاني). قضى أجله بالفريكة، بعد أن طوّف في بلاد الشرق والغرب، واستخدم قلميه العربي والإنجليزي في التعريف بملوك العرب وآدابهم، وله في ذلك آثار باقية. وهو أحد ثلاثة أقاموا الأدب اللبناني المعاصر على أسس جديدة من الفن الحديث: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وهو. ومن أشهر مؤلفاته (ملوك العرب) في ثلاثة مجلدات بالعربية والإنجليزية، و (تاريخ نجد الحديث)، و (كتاب المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية)، و (كتاب الريحانيات) في أربعة أجزاء، ضمنه مقالاته وخطبه، ورسالته عن الثورة الفرنسية، و (المكارى والكاهن) وديوان شعر سماه (سبيل الرؤيا) وليس من شك في أن رجلاً كأمين الريحاني لا يستطيع الموت أن يحجب عن الناس منه غير وجهه، ولكن آثاره الخالدة ستنشره في الوجود كتاباً تقرأه الأجيال، فترى فيه مثلاً رائعاً للجهاد الصادق، والفكر السليم، والأدب اللباب.
ثقافة الدكتور أدهم
إن نوع الأسئلة التي طرحها الأديب إبراهيم حسنين البريدي مما يباح في حياة الأفراد ليدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم، ولكنه مما لا يُباح إطلاقاً في أي أمة راقية بعد وفاتهم وقد عجزوا عن البيان والدفاع. ولا أدري أين كان صاحبنا الفاضل هذه السنوات التي ملأت فيها بحوث أدهم ونقداته ونقاشه أشهر الصحف والمجلات؟!
وواضح مما ذكره أحد الأدباء المعروفين الدكتور أبو شادي وردّدته (الرسالة) الغراء أنه لم يفته في حياة أدهم تبليغ القنصلية التركية في الإسكندرية عنه، بل تبليغ النيابة كذلك، فكان ردّ الفعل الوحيد لذلك زيادة تقديره وحمايته.
والأسئلة التي ردّدها أديبنا (البريدي)، أجاب عليها سلفاً في كتاباته المرحوم الدكتور أدهم نفسه، فهو أولى بالرجوع إليه والاعتماد عليه، إلا إذا كان الغرض إثارة الغبار حول الميت
ودعوة أخي الفقيد للمساهمة عن غير وعي في ذلك!
وإن لمن العجيب أن يقال: إن الفقيد لم يكن يعرف الألمانية ولا الروسية، وقد كانتا بين وسائل مراجعه كما يعلم كل من اختلط به وعرفه من أصدقائه الأدباء؛ ولو قيل: إنه لم يكن واسع التضلع في الأخيرة، لكان هذا معقولاً. كذلك من العجائب أن يقال: إن كتاب (لماذا أنا ملحد؟) مترجم. مع أن ثلاثة أرباعه ذات صلات شخصية، وقد انتقده الدكتور أبو شادي في كتاب عنوانه (لماذا أنا مؤمن؟)، فردّ عليه الفقيد ردّاً مطوّلاً بليغاً. فهل كان ناقلاً ذلك الرد عن لغة أجنبية أيضاً؟! يا سبحان الله! أتحارب العبقرية في بلادنا إلى هذه الدرجة؟!
ليقل الشائنون والحاسدون في هذا الألمعي الفذ ما طاب لهم أن يقولوا، فإن العبقرية غريبة دائماً في هذا الشرق، وقد اعتدنا جميعاً ذلك، ولكن العديدين الذين حضروا مجالس أدهم ومحاضراته شهود أحياء على ذكائه النادر وثقافته المدهشة البعيدة عن كل ادعاء، وآثاره التي ستُطبع - بالرغم مما ضاع منها - شهود عدول.
(مؤرخ)
حول مقال (أضرار التشجيع)
قرأت في عدد مضى من الرسالة الغراء للسيد سعيد الأفغاني مقالة عنوانها (أضرار التشجيع) حمل فيها حملة طائشة عليّ ملأها كلمات كان ينبغي أن ينزه لسانه عنها، وما كنت أبيح لنفسي أن أهبط للرد عليه لولا أنه تعرض لكتاب (سر الصناعة) الذي أريد نشره والذي يشهد أستاذي الجليل إبراهيم مصطفى أنني كنت عاكفاً على دراسته وتصحيحه عن نسخة دار الكتب المصرية منذ عام 1932 حينما كنت أقرأ عليه العربية في كلية الآداب. ولما أتممت دراستي في مصر ورجعت إلى الشام ظفرت في المكتبة الظاهرية بنسخة ناقصة الجزء الثالث ولكنها جيدة الخط مضبوطة فاستنسختها، ثم أردت مقابلتها على الأصل فاستعنت بالأفغاني في ثلاث أو أربع جلسات في الغرفة التي كان يجلس فيها الأستاذ فوزي العاني أحد موظفي المكتبة، فكنت أقرأ عليه من المستنسخة وهو يقابل ذلك على الأصل، ولما اعتذر عن العمل طلبت من الأستاذ العاني أن يتم العمل في أوقات فراغه ففعل وله الشكر. ثم ذهبت إلى باريس فقابلت نسختي على نسخة المكتبة
الوطنية فيها، وكان يعينني في ذلك الأستاذ الأديب عبد الوهاب حومد، ثم عدت إلى الشام وفي نيتي الذهاب إلى استنبول للمقابلة أيضاً، ولكن الظروف الحاضرة منعتني من السفر وأنا أرجو الله أن تزول هذه العقبات حتى أذهب فأتم الكتاب الذي عاهدت الله أن أخرجه خير إخراج ممكن.
هذا تاريخ قصة (سر الصناعة)، فما هي دعوى السيد سعيد؟ إنه يزعم أنني قرأت الكتاب كله أو أكثره عليه، وأنه أملى عليّ تعليقات وشروحاً من فيض خاطره فتبنيتها. . . الخ ما جاء في مقال الأديب الأفغاني. وردي على ذلك منحصر في النقاط الآتية:
1 -
ليس في النسخة المراد نشرها تعليقات ولا شروح، وإنما فيها ذكر لما في النسخ (نسخ باريس ومصر ودمشق واستنبول) من اختلاف ليس غير.
2 -
شهادة الأستاذ العاني التي أداها بمحضر من الأساتذة يوسف العش محافظ المكتبة، ويسن الخانجي أمين سر المجمع العلمي، والمحامي طاهر خياط. وهي تؤيد ما قلت من أن اجتماعي بالسيد سعيد لم يتجاوز ثلاث أو أربع جلسات، وأنه هو - أي العاني - الذي أتم المقابلة.
3 -
تخلفه عن الحضور إلى الاجتماع الذي دعانا إليه الأستاذ الكبير خليل بك مردم لبحث القضية والتحقيق فيها.
هذا ما أقوله وهذا ما أريد أن تطلع الناس عليه ليروا ضرباً من خلقنا العلمي والاجتماعي. وأنا أسأل الله أن يلهمنا الأدب ويوفقني إلى نشر الكتاب.
أسعد طلس
خريج الجامعة المصرية ودكتور في الآداب
إكمال بيت في المخصص وتصحيح إحدى حواشيه
إن من شرائط نشر المخطوطات اقتناء الناشر لما يستطيع جمعه من نسخ الكتاب مخطوطة ومصورة واتخاذ أصح نسخة منها قطباً يرجع بسائر النسخ إليه ويديرها عليه بالعرض والمقابلة وقد لا يوجد من هذا الكتاب إلا مخطوطة واحدة. فإن كانت صحيحة مضبوطة بقراءة العلماء ومعارضتها بالأصل، وكان الخط جلياً متقناً، عدّ ذلك من بركة النسخة ويمن
طائر النشر، وقد تكون بذلك أصح من المنشورة بعد المعارضة على كثير من المخطوطات غير المضبوطات، ومن أشباه هذه النسخ الوحيدة المخدومة كتاب (المثنى والإبدال) لأبي الطيب اللغوي صاحب مراتب النحويين، وصديق أبي الطيب المتنبي، وتلميذ الإمام المطرزي غلام ثعلب؛ فإني قد ظفرت بدمشق في مكتبة العلامة أبي اليسر عابدين (حفيد صاحب حاشية ابن عابدين المشهورة) بنسخة تغلب عليها الصحة، وعلمت بعد طول البحث والتنقيب أنها يتيمة في العالم فلم أتمكن من مقابلتها على مخطوطات أخرى، وإنما هوّن عليّ خطب نشرها غلبة الصحة كما ذكرت عليها، وسأصفها وصفاً علمياً ببحث خاص في مجلتنا هذه الممتعة قريباً.
أما مخطوطة المخصص لابن سيده المعروف بصاحب المحكم فإنها تشبه مخطوطة المثنى بكونها وحيدة يتيمة، ولكنها (قد ركض فيها البلى ولعب، وأكل منها الزمان وشرب، حتى أبلى ثوبها القشيب وأذوى غصنها الرطيب) - كما ذكر ذلك الأستاذ طه محمود رئيس التصحيح بدار الطباعة الأميرية في خاتمة المخصص؛ وبذا كثر في المطبوعة البياض والنقص والتصحيف، ولولا مرجع اللغة والأدب في عصره محمد محمود التركزي الشنقيطي وجميل عنايته بالمخطوطة لكثرت أغلاطها واستشرى فسادها، ولكنها مع ذلك لم تخل من نقص، والكمال الرباني معوز، فوقعت في المتن والحواشي الشنقطية أغلاط لا يحسن السكوت عليها ولا سيما في أصول اللغة، مثال ذلك ما جاء في السفر العاشر من المخصص (ص 167 س4)، وما نصه ورسمه:
(1)
وكنا ما اعتفت=طلاب الترات مطلب
فقد علّق عليه إمامنا الشنقيطي رحمه الله التعليقات التالية بنصها:
(1)
قوله: (وكنا ما اعتفت) هكذا وقع في الأصل، وهي عبارة لا يدري أهي شعر أم نثر، وليس لها معنى، وقوله (طلاب الترات مطلب) هو بعض بيت من الطويل ورد في قول الخنساء:
تطير حواليّ البلادُ براقشاً
…
بأروعَ طلابِ الترات مطلَّب
والشاهد في (براقش)، لأن من معانيه الأرض المجدبة الخلاء، ولكنه ضاع من الأصل مع ما ضاع منه هنا، وكتبه محرره محمد محمود لطف الله تعالى به آمين. اهـ).
بعد التأمل في هذا التعليق وجدنا مصحّح المخصص ومحرره لم تكشف له عبارة الأصل فجعلها قولين، وهي قول أو بيت من الشعر واحد، ولذا لم يدر هل القول الأول (وكنا ما اعتفت) شعر أم نثر مع أن ابن سيده ذكر قبله كلمة (وأنشد)، ثم جعل القول الثاني (طلاب الترات مطلب) بعض بيت الخنساء، مع أنها خاتمة أبيات جاهلية كثيرة، وأخطأ في الشاهد إذ جعله (براقش) وهو (الاغتفاف) أي تناول الغُفّة من العلف، وهي الشيء اليسير منه؛ والعبارة الأصلية الواردة قبل البيت لا يوقف عليها إلا بنسخة ثانية كاملة من المخصص، ولعل التعبير التالي لا يبعد عنها كثيراً، وقد ألّفته بعد مراجعة نصوص اللسان والتاج وهو:(وإذا كان الربيع (مقارباً قيل اغتفّ المال اغتفافاً أي أصاب غفة منه) أي شيئاً يسيراً وأنشد:
وكنا إذا ما اغتفَّتِ الخيل غُفَّة
…
تجرّدَ طَلابُ التراتِ مُطَلَّبُ)
وهذا هو البيت عينه الذي استشهد به ابن سيده، وهو لطفيل
الغنوي لا للخنساء، وإنما استشهد به للاغتفاف لا ليراقش كما
فعل مثل ذلك صاحبا اللسان والتاج في مادتي (غفف وأغتف)؛
وهو في ديوان طفيل الغنوي ص26، ونسبه إليه صاحب
الأمالي (234)، وذكره الزمخشري في أساسه (غفف) وعزاه
إلى طفيل أيضاً، وآخره (يُطلَّب) بدل (مطلَّب) ولعله تصحيف
أو رواية أخرى، واستشهد به صاحب تهذيب إصلاح المنطق
(ص71) وغيره من أئمة اللغة، فليست القضية إذن من
الشكائك الجدلية، ولولا ما في مخطوطة المخصص من
التصحيف والنقص لما وقع كما بينّت إمامنا الشنقيطي في مثل
هذا السهو اللغويّ، وسجدة السهو واجبة في العلم والدين معاً،
وقد سجدتها بهذا التصحيح عنه، وعسى أن يسجدها معي أيضاً
من يصحح من المخصص نسخته، ويغتفر للإنسان الضعيف
زلته.
(دمشق)
التنوخي
إلى الدكتور زكي
بدا لي أن ألفت نظرك إلى خطأ لا أشك في أنك وقعت فيه في كلمتك التي جعلتها افتتاحية الرسالة في العدد الماضي، وهو قولك:(والحس والروح جارحتان من أعظم الجوارح الإنسانية)! وأنا وأنت والناس جميعاً يعرفون أن الحس والروح ليسا من الجوارح كما تقول!! فهل تتفضل بأن تدلنا من أين جئت بهذا؟
(ع. ع)
كلمة منصفة
كتب الأستاذ محمد متولي مقالاً في العدد 376 من الرسالة الغراء عرض فيه لحديث السرقات الذي جرى على قلم كل من الأستاذين علي محمود طه وزكي طليمات. فسماه عراكاً في غير معترك، أو (خناقة على اللحاف)، لأن الفن كما يقول (صورة) وليس (فكرة). والحق أن الفن ليس فكرة فحسب ولا صورة فقط، ولكنه مجموع الأمرين، أو هو (فكرة مصورة)؛ وليست الفكرة من الأشياء المجردة التي تكون بعينها في جميع العقول والإفهام؛ لأنها قد تكون فكرة خاصة لنفس خاصة ممتازة، وقد تكون شائعة في بعض النفوس، ولكنها حتى في هذه الحالة لا يمكن أن تكون على درجة واحدة من القوة أو العمق أو الاتساع، وهل يمكن أن تتشابه النفوس جميعاً إلى هذا الحد الذي تصبح فيه قوالب مصبوبة على هيئة واحدة من مادة واحدة؟ وهل يمكن أن تكون الأفكار التي جالت في ذهن
شكسبير، مثلاً هي بعينها الأفكار التي جالت في ذهن رجل الشارع، ولكن هذا الأخير لم يتح له أن يعبر عنها كما أتيح لشكسبير؟ على أن هذه النظرية ليست من المستحدثات كما يخيل إلينا الأستاذ متولي؛ وإنما هي في لبابها لا تخرج عن قول بعض الأقدمين: إن الشعر هو الأسلوب، وإن المعاني على (قوارع الطريق) وهي نظرية كانت منذ بعيد.
ويقول الأستاذ متولي بعد ذلك: (إن الأستاذ علي محمود طه رجل فنان بلا شك، لأنه قال (الجندول) فكان (كذوباً)! إنه يمثل ذلك الفنان الذي يشعر بالشيء ولا يستطيعه، فيتغنى به وهو نفسه يعلم أنه لم يركب تلك (الجندول) التي أرانا إياها في عرض القناة في ذلك الجو الساحر في فينيسيا) فهل يكون الأستاذ علي محمود (كذوباً) إذا صح أنه مثل ذلك الفنان الذي يشعر بالشيء ولا يستطيعه فيتغنى به؟ كلا! إنه يكون صادقاً كل الصدق، لأنه يصور لنا حالة نفسية من حالات نفسه الممتازة التي تحلم وتتمنى، وهل يكون الذي يحلم في نومه برغبات نفسه المكبوتة كاذباً، على أن أستاذنا (الزيات) قد قال كلمته النبيلة، وإذن فقد (قطعت جهيزة قول كل خطيب). نعرض بعد ذلك لزعم الأستاذ متولي في أول مقاله إن الناقد الأديب هو نفس الأستاذ علي محمود طه وأنه إنما نقد مسرحية بشر فارس تشفياً منه. فنقول له كيف اكتشف هذا الاكتشاف؟ إننا نعرف أن اسم (الناقد الأديب) لا يعرفه إلا الناقد الأديب نفسه، والأستاذ الزيات، فمن أيهما عرف الأستاذ اسم الناقد الأديب؟ أمن الناقد الأديب نفسه، أم من الأستاذ الزيات - وهذا مستحيل - الحق أنه لا هذا ولا ذاك، ولكن الأستاذ متولي أراد أن (يمثل دور) البوليس السري في هذه القضية الأدبية.
أما بعد فقد قرأنا حديث السرقة في شعر الأستاذ علي محمود فابتسمنا لصاحبه ابتسامة الرثاء والإشفاق، ثم قرأنا المقال الذي ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب، فابتسمنا لصاحبه ابتسامة الرثاء والإشفاق أيضاً، وأنا أنصح لهؤلاء السادة أن يحاولوا بلوغ شأو الأستاذ علي محمود طه من طريق غير هذا الطريق. أما هذه المناورات التي يقومون بها على اختلاف أساليبها، وتعدد صورها، فقد انتهت - والحمد لله - إلى الفشل والإخفاق، وبقي الأستاذ علي محمود طه عند جمهرة الأدباء (شاعر الحب والجمال)، بلا جدال.
إبراهيم محمد نجا
القصص
ثمن الأمومة
للأستاذ محمد سعيد العريان
في الطابق الرابع من الدار القائمة على حدود الصحراء من ضاحية حلوان، كانت تعيش (سنية) وحيدة: لا أم ولا أب، وزوج ولا ولد. لقد فارقها أبوها ولم تزل طفلة بعد، إلى حيث لا يرجع من يمضي؛ وفارقت هي أمها العجوز وأخاها، إلى حيث فرضت عليها (الوظيفة) أن تعيش غريبة منقطعة لتجد ما تعيش به. وما كان المرتب المحدود الذي تمنحها (وزارة المعارف) في كل شهر ليُسعد فتاة في مثل سنها، ولكنها كانت به راضية سعيدة. وقد استطاعت على امتداد الزمن أن تزيد دخلها بضعة جنيهات في كل شهر، مما تحصل عليه من أجرة الإشراف على بعض تلميذاتها في دراستهن المنزلية؛ فتهيأ لها بذلك أن تنظم ميزانيتها الصغيرة تنظيماً يكفل لها أن تستمر على إعانة أمها العجوز بما ترسل إليها في كل شهر، وأن تدّخر لنفسها شيئاً إلى شيء، ارتقاباً ليوم تأمله. . .
منذ بضع سنوات لم تغيّر سنية شيئاً من نظام حياتها ولم تحاول؛ هذا منزلها الذي تسكنه منذ هبطت المدينة، لم يتبدّل شيء منه ولم يتبدّل شيء منها؛ هنا الغرفة التي تأوي إليها إذا جنّ الليل؛ وهنا الثّوى الذي أعدته لاستقبال من يزورها فلم يطرقه زائر قط منذ كان؛ وهنا الشرفة التي ترتفق إليها بذراعها كل مساء ساعة أو ساعات قبل أن تنام، تسرّح النظر في الفضاء الغارق في ضوء القمر، أو تنقل الطّرف بين النوافذ المضيئة قانعة في وحدتها الموحشة من سعادة الاجتماع بأنس النظر!. . . وهناك، على مد البصر، طفل يقفز ويثب؛ هذا هو حيث تراه كل مساء في مجلسها من الشرفة، جالساً بين أبويه أو عابثاً لاهياً يتوثب؛ إن بينها وبينه لسبباً قوياً؛ إنها لتحبه كأنها ولدته، وإنها لتفتقده إذا غاب كأنها بعض أهله، وإنها لتتحدث إليه على البعد كأنه منها بمرأى ومسمع. . . ذلك صديقها الوحيد في بلد لم تأنس فيه إلى صديق؛ أتراه يعرفها ويعرف أين هو من نفسها؟. . . أما هي فتعرفه عرفان الأخ والولد؛ وتعرف تاريخه وماضيه منذ كان وقبل أن يكون. . .
من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام، أبصرت أمّه عروساً في جلوتها، وأبصرت أباه؛ ومن هذه الشرفة نفسها رأته جنيناً في بطن أمّه تخيط له قمصه ولفائفه؛ ومن هذه الشرفة
جاءها البشير بمولده والناس نيام؛ ثم أبصرت ذات صباح طفلاً يحبو؛ ورأته من بعدُ غلاماً يقفز ويثب. . . ولكنه هو لم يعرفها بعد. . .
هذه هي حياة سنية: أما نهارها فجهاد ودأب بلا ونى، تغادر بيتها في الصباح الباكر إلى مدرستها، وتغادر مدرستها إلى بيوت تلميذاتها، فإذا جن الليل عادت؛ وأما ليلها فهذه الشرفة وهذا الفضاء وهذا الغلام؛ فإذا أوى الغلام إلى فراشه، واختفى القمر وراء السحاب، وأسدلت الستائر على النوافذ المضيئة - نهضت سنية من مجلسها في الشرفة، فتفتح صندوقها وتحصي ما فيه ثم تأوي إلى أحلامها.
ومضت بضع سنين قبل أن يجتمع في صندوق سنية ما كانت تؤمّل أن يجتمع؛ وأيقنت - بعد صبر طويل - أنها من اليوم الذي كانت ترقب على مقربة. . .
. . . وغربت الشمس ذات مساء ولم تعد سنية إلى دارها؛ ثم عادت بعد العشية، واتخذت مجلسها من الشرفة وسرحت النظر، ولم يكن الطفل ثمة ولكنها لم تفتقده في غيبته؛ وأوت إلى فراشها ولكنها لم تنم حتى انتصف الليل؛ وتراءى لها الطفل في منامها وكان معه أبوه، ثم أصبحت. . .
وراحت تُعد عدة السفر إلى أمها تطلب مشورتها في أمر ذي بال. . .
وابتسمت أمها فرحانة، ثم غشيتها كآبة وهتف بها هاتف؛ ثم عادت فابتسمت ونهضت إلى مصلاها تناجي ربها وتدعوه لابنتها العزيزة أن يتم لها ما تأمل. . .
وتغيرت سنية منذ اليوم وتبدّلت وحشتها أنساً ومسرة، وهجرت الشرفة فلم تكن تغشاها إلا حين تكون على موعد ترقب له الطريق؛ وأنست غرفة الاستقبال بعد وحشة وطرقها الزائر المنتظر منذ سنين، وتعددت زيارته؛ وقالت له سنية ذات مساء وقد جلسا جنباً إلى جنب في الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام وأشارت إلى بعيد -: أنظر يا رشاد؛ إنه طفل ظريف!
ونظر (رشاد) حيث أشارت سنية، وقال: نعم، وأظرف منه أن تكوني أمه!
وطأطأت الفتاة رأسها وتضرّجت وجنتاها وسبحت في حلم لذيذ، وتراءى لها غلام يقفز ويثب بين أبيه وأمه، في مثل مجلسهما من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام!
وجلست سنية ورشاد يتبادلان الرأي ذات مساء؛ وقال لها:. . . وإني لأتمنى ألا توافق
الحكومة على بقائك في العمل بعد الزواج؛ لتكوني لي وحدي!
وقالت: ولكن أمي يا رشاد. . .!
وأجابها: وعليّ أن تكون أمك راضية سعيدة!
واطمأنت سنية وسُرّى عنها ما كان يقلقها منذ أيام؛ وجلست إلى مكتبها تكتب إلى الحكومة تلتمس الإذن في الزواج.
ولم يطل بهما الانتظار، ولم يقلقهما جواب الحكومة؛ فقد كانت سنية متوقعة من قبل ألا يؤذن لها؛ وكانت مطمئنة إلى وعد خطيبها بأن يرضي أمها!
وراح الفتى والفتاة يعدان العدة ليوم قريب.
وانتقلت سنية إلى بيت زوجها، وشهدها صواحبها عروساً في جلوتها، وشهدت نفسها؛ وكانت النوافذ المضيئة ترمي أشعتها إلى بعيد؛ وكان في الشرفات العالية التي يكتنفها الظلام عيون تنظر. . . . . .
. . . ومضت أشهر، ونظر الجيران فإذا سنية جالسة إلى جانب النافذة تخيط قمصاناً ولفائف؛ وفي هدأة الليل والناس نيام حل على الأسرة ضيف جديد، وارتفع صوته يعلن البشرى بمقدمه. . . . . . . . . . . .
ثم استيقظت سنية من الحلم الذي ضرب على آذانها عاماً وبعض عام؛ ونظرت، فإذ هي وطفلها وحطام الذكريات؛ ولم يكن الرجل ثمة ولم يكن الصندوق. . .!
وقبّلت فتاها في جبينه وقالت وفي عينيها دموع: لا عليك يا بنيّ؛ لقد خسرت الرجل ولكني كسبتك؛ فليذهب أبوك حيث يشاء، ولتبق لي أنت!
وخرجت تلتمس الرزق، واتخذت طريقها إلى المدرسة، ولكن المدرسة كانت قد أغلقت أبوابها!
وسعت إلى رئيس الديوان تلتمس الشفعاء إليه ليردّها إلى عملها، فأغلق دونها بابه؛ ووقفت في مفترق الطريقين تنظر، ثم سلكت إحداهما. . .
وعاد الرئيس من الديوان إلى داره، وانفتح باب السيارة ونزل، وسبقته إلى الباب امرأة؛ وهمّ حاجبه أن يمنعها ثم كف.
وهتفت المرأة في ضراعة: سيدي بحقّ ولدك. . .!
قال: ولكنك خُيّرت من قبل فاخترت أن تكوني أمّاً؛ فهيهات. . .
وبرّقت المرأة وصرخت في غيظ: ولكنك أنت رضيت أن تكون أباً. . . فلم لا خُيّرت أنت؟. . . كن أباً، أو كن رئيساً في الديوان، إن صح ألا يجتمعا. . .!
وسكت الرجل وهتف هاتف من وراء حجاب: (ولكن ثمن الأمومة أغلى. . .!)
. . . ودخل (الرجل) داره وأغلق بابه ليجلس بين زوجه وولده فيقص قصته؛ ومضت (المرأة) على وجهها يائسة ذليلة، لتدفع وحدها ثمن الأمومة الغالي!
محمد سعيد العريان