الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 378
- بتاريخ: 30 - 09 - 1940
خواطر مهاجر
- 3 -
أخذت نوافح الخريف الأولى تتنفس منذ أسبوع على وجه المنصورة رخية ندية؛ وللخريف على شُطئان النيل الشرقي وهو في عنفوان الفيضان سحر لا يبلغ كنهه الشعور ولا تعبر عن تأثيره اللغة. فللسماء اللازوردية على صفحاته ألوان وأحوال، وللسحب الرقاق البيض على حواشيه أطياف وأظلال، ولشمس الأصيل على مويجاته المرتعشات الحمر انكسار يخطف البصر، كأنما ذاب قرص الشمس فهو يتدفق من السماء على الماء، أو انبجست على النهر من الأفق الغربي عين من ذائب الماس لم يدخل علمها في الكيمياء. وللأبكار والعشايا أنسام طيبة الشميم كأنما تنقل عن رياض الفردوس؛ والطبيعة الريفية عطار حاذق يعرف كيف يفتق الطيب من سنابل الرز وأمطار الذرة وأقناء النخيل ونوار التيل ولوز القطن ومما ينبت على حفافي الترع والطرق من أشتات الريحان والبقل. وللمنصوريين والدقهليين على الجملة صباحة ووداعة يزيدهما الخريف حلاوة وشاعرية. وإن بينهم وبين طبيعتهم المشرقة الجميلة من التآلف والتجاوب ما لا تجده بين الناس والطبيعة في مكان آخر. والناظر في أخلاق هذا الإقليم ومزاياه يرى أن مثله بين أقاليم مصر كمثل أوربا بين قارات الأرض: تميز كما تميزت بالنبوغ والمدنية والجمال، وتألف تاريخه القديم والحديث من فصول وضاءة في الوطنية والعبقرية والبطولة.
ففي الحروب الصليبية كان للمنصورة وإقليمها شرف القضاء على حملتها الأخيرة؛ وكان الجيش المصري قد ارتد إليها مهزوماً؛ وامتحنه القدر القاسي فمات ملكه الصالح وقتل قائده فخر الدين، فانتشر الأمر على جنوده، واستبهم الرأي على قواده؛ وكاد الرجاء من نجاة مصر ينقطع لولا أن نهض الظاهر بيبرس بالمماليك ونهض معه أهل المنصورة، فأقاموا المتاريس في الطرق وجعلوا من دورهم قلاعاً يرمون من نوافذها الفرنسيين بالأحجار والقذائف، حتى قتلوا الكنت القائد أرتوا، واستأصلوا فرقته ومزقوا الفرق الأخرى؛ ثم كانت الهزيمة الحاسمة في فارسكور حيث أبيد الجيش العدو وأسر الملك القديس سجينُ بيت ابن لقمان ومضروب الطواشي صبيح.
وفي الغزوة النابوليونية كان للمنصورة وإقليمها فضل الجهاد السابق الصادق، فقد ثاروا يوم
السوق على جنود القائد (دوجا)، وأعملوا فيهم السلاح حتى أفنوهم. وسجل التاريخ في ثبت الخلود من أسماء القادة في هذه الثورة: الأمير مصطفى كبير محلة دمنة، وعلي العديسي شيخ القباب، وحسن طوبار زعيم المنزلة.
وفي الثورة المصرية على الاحتلال كان للمنصورة وإقليمها في البطولة الوطنية مواقف سارت مُثلاً مضروبة في الإيثار والتضحية ولا تزال أسماء الشناوي والجيار وعبد النبي والأتربي عناوين لفصول خالدة من كتاب الجهاد الوطني المقدس.
على أن المزية الظاهرة للدقهلية هي انطباع أهلها على الأدب والفن حتى العامة والسوقة. وإنك لتتبين أثر ذلك في كل ما يصدر عنهم من ثمار العقل والقلب حتى في القانون والسياسة. وحسبك أن يكون من نوابغها في الأدب: علي مبارك، ولطفي السيد، وحسين هيكل، وعوض إبراهيم، ومحمد العشماوي، ومحمد عوض محمد، وإبراهيم رمزي، وعبد الله عنان، وصالح جودت الكبير. وفي الشعر: إسماعيل صبري، وعلي محمود طه، والهمشري، وكامل الشناوي، وصالح جودت الصغير، وعبد الغني حسن، والوكيل. وفي الغناء والموسيقى: أم كلثوم، ورياض السنباطي، ونجاة علي، وسعاد زكي، والدكتور الحفني. وما اقتصرت على من ذكرت إلا لأنهم عُرفوا بالأسماع في أقطار العروبة فلا يضعف بهم المثل. والواقع أن في كل بلد من بلاد هذا الإقليم الفنان هيكلاً لعطارد تفاديه نفثات الأولمب، وتراوحه نفحات عبقر!
أقامت جريدة الإصلاح في السنبلاوين لمجلة الرسالة حفلة تكريم وترحيب؛ وشاء زميلنا الكريم صاحب الجريدة أن تكون حفلته مظهراً من مظاهر الأدب الإقليمي في صورة من صور العطف الجميل؛ فدعا إليها جمهرة من أدباء البلد المختلفين في الجنس والزي والثقافة، فأسمعونا على موائد الشاي الحافلة أفانين من النثر المشرق الأسلوب، والشعر المحكم الأداء، والزجل البارع النكتة، فعجبنا أن نجتمع هذه الجملة المختارة في هذا البلد المغمور؛ ثم علمنا أن في كل بلد من بلاد الدقهلية عكاظاً يتبارى فيها صاغة القوافي وحاكة الفقر!
يا لله للريف المسكين! لقد غبنته المدينة في كل ما ينتج من مادة وأدب: ففلاحه يكد ولا ينال القوت، وشاعره يغني ولا يجد السامع، وصحفيه يجاهد ولا يلقى الجزاء!
سحرتني مفاتن والخريف الريف في المنصورة فما ينفك ناظري وخاطري يسبحان في جو مشرق عبِق من حاضرها الجميل وماضيها المجيد. وكنت الساعة أنتبع بالخيال كتائب الصليبيين وهم يسيرون على ساحل النيل الأيمن من دمياط إلى المنصورة، يقود الحملة الأولى (جان دى بيريين)، ويقود الحملة الأخرى (لويس التاسع)، حتى رأيتهم على الثرى الخصيب الحبيب جزراً للسيوف وطعاماً للوحش. وسرعان ما انتقل ذهني إلى ساحل البحر الأبيض، فرأيت أحفاد أولئك الصليبيين يزحفون من السلوم إلى الإسكندرية في زي غير الزي وسلاح غير السلاح وعدد كأرجال الجراد! فقلت لنفسي وهي تضطرب بين الرجاء والخوف: إن رب الكنانة يا نفسُ عَسىٌّ أن يبعث (صلاح الدين) في هذا العصر، وأن يجعل في (السلوم) السلامة كما جعل في (المنصورة) النصر!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
جناية الجمال - ألفاظ صحيحة: الانسجام، الصنائع، النسائم،
مرير، البديه، الهناء، المساهمة، أبحاث - إلى المنصورة، إلى
المنصورة وطن الشعر والخيال.
جناية الجمال
أكتب هذه الكلمة في مساء اليوم الرابع عشر من شعبان بعد إذ نقل المذياع دعاء شيخ الأزهر الشريف بأن يكشف الله الغُمة عن الأمم الإسلامية، وهو دعاء أمّن عليه جمهور كبير بدعوة صاحب الجلالة الملك (ملك مصر بعون الله) أيد الله ملكه، واستجاب دعاءه، فدفع السوء عن بلاد العرب والمسلمين.
وفي هذا المساء يتحدث الناس عن المخاوف التي تساور مصر في الحدود الغربية وفي بعض أقاليم السودان. . . وتلك أحاديث تقبض الصدور، وتحزن القلوب، ثم تقهر النفس على التفكير في جناية الجمال على الجميل، فما تلقى مصرُ المكاره إلا بفضل ما تعد من خيرات وثمرات، وما تُمكّن للظاهرين عنها من السيطرة على الغرب والشرق، لأنها منذ الأزل إقليد الغرب والشرق، وإلا فكيف جاز أن تكون هدفاً أبدياً لكل من جن له الدهر في التاريخ القديم والتاريخ الحديث، بحيث يُمكن الحكم بأن جمالها لم يفارق خيال الطامعين في زمن من الأزمان؟
وهل مر على مصر عام واحد بلا ابتلاء بمكايد الطغاة والمسيطرين؟
من يصدّق أن مصر جشمت الناس المتاعب في التاريخ القديم يوم كانت صعوبة المواصلات لا تسمح بأن يصل إليها المغيرون إلا بعد التعرض للمخاطر والمعاطب في الشهور الطوال؟
وهل يعرف أحد كيف جاز أن تكون المعضلات الأخلاقية والاجتماعية في مصر هي أهم ما شُغلت به الكتب السماوية؟
ومن نحن حتى تكون بلادنا أخطر البلاد التي تحدّث عنها القرآن المجيد؟
من نحن؟ نحن الصابرون على مصاعب الإتقان والتجويد في العلوم والفنون منذ العهد الذي سبق التاريخ بأجيال وأجيال.
وهل لبلادٍ في الدنيا ماضٍ يشبه ماضي هذه البلاد في العناية بالعلوم والفنون؟ فإن سألتم عن الحاضر فإليكم أسوق الحديث بلا تزيّد ولا إسراف:
كانت بلادنا الغالية هي الهدف الأول للحروب الصليبية، وكانت تلك الحروب مبدأ اليقظة في الغرب، وبفضل اصطدام الصليبيين بمصر عرفوا أول مرة كيف تكون الحضارة والمدنية.
ومن أين عرف الصليبيون معنى الاستشهاد في سبيل النصرانية؟
إنما نقلوا ذلك عن مصر، فهي أول بلد تعصب لدين عيسى في القرون الخوالي، كما كانت أول بلد أذاع نظرية التوحيد، يوم كان العالم كله لا يعرف غير الارتطام في أوحال الوثنية، وذلك هو السر في حرصها على إعزاز الإسلام، لأن الإسلام هو التعبير الصحيح عن نزعتها القديمة في إيثار التوحيد.
وجو مصر له فضل عظيم على الإنسانية. وأين من يعرف أن جو مصر هو الذي هدى الناس إلى الطيران؟
فوق جبل المقطّم شرقي القاهرة وقف رجل فرنسي فقير يكسب قوته من العمل بأحد متاجر القاهرة، وقف يرقب حركات الطير فوق ذلك الجبل قُبيل الشروق وبُعيد الغروب، وما زال يصوّب ويصعّد حتى اهتدى إلى سر الطيران.
فهل يذكر الألمان المغيرون بطائراتهم على لندن أو الإنجليز المغيرون بطائراتهم على برلين أن (جو مصر) هو الذي أمدّهم بذلك السلاح؟ وهل يذكر الطليان الذين يهددون (مصر الجديدة) بغاراتهم الجوية أن (مصر الجديدة) فيها تمثال (مويار) الذي نقل عن (جو مصر) سر الطيران؟
ما سمعتُ صفارات الإنذار بالغارات الجوية وأنا قارٌّ بداري في (مصر الجديدة) إلا عجبتُ من إمعان بني آدم في العقوق، فكل بلد يجوز الهجوم عليه بقاذفات القنابل إلا البلد الذي يقوم فيه تمثال الرجل الذي هداه (جو مصر) إلى سر الطيران.
ولكن أين من يحفظ لمصر الجميل؟
وجو مصر صنع ما صنع في تقدم الطب الحديث، فأهل الصين على بعد الدار، وشط المزار، يعرفون أنهم أصبحوا في أمان من أمراض لم تكتشف جراثيمها إلا في البلاد التي أنجبت البارودي وشوقي وحافظ ومحمد عبده وعبد العزيز جاويش ومصطفى كامل وسعد زغلول، كما أنجبت الفلكي والبقلي وعثمان غالب.
وما استوطن أجنبي مصر إلا خلعت عليه أثواب القوة والبهاء، وما دخل غريب مصر إلا نسي بلده الأصيل أبد الآبدين.
فإن قيل إن بلدنا موطن الأخياف فهذا حق، لأن حوض الزهر هو الوطن لجميع أمم النحل.
وهنا أذكر أن النحل المصري تفرّد بالشراسة والحمق، لأنه يعرف أنه معدوٌّ عليه، ويعرف أن أسراب النحل تأتي لمنافسته من جميع بقاع الأرض، وكذلك يُسهمُ المصري بالثورة على (الأجانب) من حين إلى حين.
وطني! إن جمالك هو الذي يجني عليك.
أما رأيت كيف تباح حرية الإضاءة في جميع الشواطئ ولا تقيد إلا في الإسكندرية وبور سعيد؟ وهل كان ذلك إلا لأن هذين البلدين هما أجمل ما تملك فوق شواطئ البحر المحيط؟
وطني! لهذا اليوم ما بعده، وسوف تلقاني وألقاك، وإن أرجف المرجفون بأن لا لقاء بعد اليوم المخُوف.
وطني! إن لم أحمل السيف في حمايتك فقد حملتُ قلمي في الدفاع عنك، والقلمُ أبقى من السيف، وفضلُك في الدنيا هو فضل القلم قبل فضل السيف، وقد أقسم الله بالقلم لا بالسيف، فعِش إلى الأبد حجة العالم وبرهان الزمان.
وطني! أنت تذكر أنه ما استطاع أمير ولا وزير أن يأجرني في العصبية لك، لأنك وطني وحدي، ولأني لا أسمح لأحد بأن يسبقني في الوصول إلى مواقع هواك.
وطني! وطني! إن عشتُ لك فسأحمل رايتك في المشرقين والمغربين، وسأكون سفيرك في كل أرض يصل إلى أسماع أهلها قلمي، فإن مت قبل أن أدرك في خدمتك ما أريد فسأكون برغم الحوادث بطل الوطنية والإخلاص.
وسلامُ الله على أبرار الشهداء!
ألفاظ صحيحة
قلت في بعض المناسبات إني سريع الإنشاء، فظن كثير من الناس أن هذه السرعة قد تعطّل العناية بالأسلوب، وقد تفوّت الفرصة في تخيُّر الألفاظ الصحاح.
وأقول إن السرعة في الكتابة لا ترجع إلى التحرر من قيود الألفاظ والأساليب، وإنما السرعة في الكتابة ملكة من الملكات النفسية يُكسب منها ما يُكسب، ويُوهب منها ما يوهب، وقد ترجع إلى ما يتصف به الفكر في بعض الأحيان من القوة والمضاء. . . فإن رأى أحد القراء في مقالاتي أو مؤلفاتي كلمات أنكرها النقاد فليعرف جيداً أن وجه الصواب لم يغب عني، وإنما أثبت تلك الكلمات وأنا أعرف ما وُجه إليها من التجريح والتزييف، لأني أدرك من أحوالها ما لم يدرك أولئك الناقدون الفضلاء. وإليكم بعض الشواهد:
تلطّف كاتب كبير فأوصى أحد الأصدقاء أن يبلغني أني أخطأت في استعمال كلمة انسجام بمعنى وأقول إنها وردت بهذا المعنى في رسائل إخوان الصفاء.
وأنكر أديب آخر أن أجمع صناعة على صنائع، وأقول إنه جمع صحيح وله نظائر مثل رسالة ورسائل وبضاعة وبضائع.
وأخطأ المتحذلقون بوزارة المعارف حين غيروا اسم (مدرسة الفنون والصنائع) ليصيروها (مدرسة الفنون والصناعات)، ولو نظروا لعرفوا أن الناس يقولون:(فلان رجل صنايعي) بالنسبة إلى الجمع وهو صحيح، ولو كان في أولئك المتحذلقين من ساير كتب العرب في أبواب الاقتصاد لعرف أن العرب في مؤلفاتهم لا يجمعون صناعة إلا على صنائع. والقول بأن (صنائع) ليس إلا جمع صنيعة لا يخلو من التحكم البغيض.
وأنكروا أن ترد (النسائم) في كلامي جمعاً للنسيم، وأقول إنها وردت كذلك في نثر الشريف الرضي. وأنا راض بأن أخطئ مع الشريف!
وأنكروا أن أقول المساهمة بمعنى المقاسمة، وقد طربت أشد الطرب حين وجدت لها شاهداً في نثر الشريف، ثم عجبت كل العجب من غفلة بعض النقاد حين رأيت الزمخشري نص عليها في الأساس فقال: وتساهموا الشيء، تقاسموه، ثم أنشد:
تساهم ثوباها ففي الدرع رأدةٌ
…
وفي المِرطلفّاوان ردقهما عبْلُ
وأنكروا أن أقول المرير بمعنى المر، وقد استأنست بقول الشريف:
وما كل أيام الشباب مريرةٌ
…
ولا كل أيام الشباب عِذابُ
ثم عجبت أيضاً من غفلة بعض النقاد حين رأيت الزمخشري ينص عليها في الأساس فيقول: وشيء مُرٌّ ومَرِير ومُمِرّ، ثم أنشد:
إني إذا حذّرتني حَذُورُ
…
حُلْوٌ على حلاوتي مَرِيرُ
وأنكر الشاعر حسن بك حمدي أن يقول الأستاذ العقاد (البديه) في مكان (البديهة) أو البديهي، وأقول إن المعاجم نصت على البديهة لغرض واضح هو القول بوجود المؤنث، وكذلك الحال في (الهناء) وهي كلمة يمحوها أساتذة اللغة العربية كل يوم من دفاتر التلاميذ بحجة أن القاموس المحيط لم يذكر غير (الهناءة) وهم ينسون أن النص على المؤنث مقصود. . . والشريف الرضي يقول:
وما أوفتْ على العشرين سني
…
وقد أوفى على الدنيا عزيمي
والعزيم مذكّر العزيمة وإن لم تنص عليه المعاجم.
فإن قيل إن كلمة الشريف هي (غريمي) بالغين المعجمة فأنا أجيب بأن ذلك تحريف لا يخفى على أهل الذوق. وأنكر قوم أن أجمع بحثاً على أبحاث فأقول في صدر كتاب (الموازنة بين الشعراء) إنه (أبحاث في أصول النقد وأسرار البيان) وأقول إن البحث يُجمع على أبحاث كما يُجمع على بُحوث، وقد نص على ذلك بعض اللغويين.
إلى المنصورة، إلى المنصورة
بعد ساعة واحدة من الشروع في كتابة هذه السطور آخذ طريقي إلى المنصورة وطن الشعر والخيال، فهل تلقاني المنصورة بالضم والعناق وهي كناس الحُور العين؟
ما أذكر أبداً أن المنصورة داينت قلبي بشيء، فما سر ذلك؟ ما سر ذلك وما كنت أغلف القلب ولا أصم الفؤاد؟
يرجع السر إلى أني قضيتُ دهري مُثقلاً بفوادح الأعباء فما دخلتُ بلداً شرقياً أو غربياً إلا وفوق كاهلي واجب مفروض وما ظهرت بمظهر المتلهي والمتفرج إلا لأكايد خصومي فأزعم أني أعاقر من صهباء الحياة ما يُعاقرون.
فإن كنت زرت المنصورة قبل اليوم مرة أو مرتين أو مرات فما كان ذلك إلا تأدية لواجب أسأل عنه مرة أو مرتين أو مرات، لأن قلبي يحدثني في كل وقت بأني مضطهد، وبأن خصومي يسرهم أن يعلموا ولو من طريق الوهم أني قصرت في أحد الواجبات. . . وإذا
كان الدكتور طه حسين لم ينس كلمة جافية سمعها من أبيه منذ أكثر من أربعين سنة فأنا لم أنس أن أحد الرؤساء بوزارة المعارف واجهني بالكلمة الآتية:
(في كل موسم لك كتاب جديد، ولك في أكثر الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية مقالات وبحوث، فمتى تشتغل لنا؟)
وكذلك كان الأمر في زيارة المنصورة فلم أدخلها إلا مُثقلاً بواجب تأبى فَداحتُه أن أتلفت إلى ما في رياض المنصورة من غرائب الأزهار والرياحين.
إلى المنصورة، إلى المنصورة.
ولكن كيف؟
كان في مقدوري أن أسير إليها على نفقة الدولة لتأدية بعض الواجبات هناك، ولكني رأيت أن تكون الزيارة على جيبي الخاصّ ليعرف القلب أن له حقوقاً تُذال من أجلها نفائس الأحوال.
وما حق القلب هناك؟ أيكون هو الشوق إلى الصديق أحمد حسن الزيات الذي اتهمه أحد كتاب جريدة الهدف بالفزع إلى المنصورة خوفاً من المعاطب؟
هو ذلك، مع إضافة واجب بسيط سأؤديه للدولة بالمجان.
ولكن هل يخف الزيات لاستقبالي بالمنصورة النجلاء؟
سألقاه مشغولاً بتصحيح تجارب (الرسالة) وسيدعوني إلى معاونته على تصحيح تلك التجارب، وسيرى حُضوري فرصة ترفع بها عن عينيه متاعب الإجهاد.
فإن كان في بلاد المشرق أو بلاد المغرب من يحسُد أدباء مصر على ما وصلوا إليه من نعمة السيطرة الأدبية فليذكر أننا وصلنا إلى تلك النعمة بجهادٍ شاق لم نقدم له من ناضج الوقود غير أقباس العزائم وألفاف القلوب، ونحن مع ذلك نؤمن بأننا لم نصنع غير حفر الأساس، فمتى نرى بأعيننا طلائع الجيل الجديد؟
ومتى نطمئن إلى أن كتّاب اللغة العربية لا يُعدّون بالعشرات وإنما يعدون بالمئات والألوف؟ متى؟ متى؟ الجواب عند أبناء اللغة العربية وهم يزيدون على مائة مليون.
وقد رجعتُ من المنصورة بعافية، لأني لم أبت فيها غير ليلة واحدة، فلم يتسع الوقت لعقابيل الوجد حتى تجرّب حظها في القدرة على تجريح قلب تكسّرت فيه النصال على
النصال.
لم ألق أحداً في انتظاري على محطة المنصورة، فأين الزيات؟ وهل يشق عليه أن يُغبر قدميه بخطوات قصار لاستقبال صديق قضى في الطريق ثلاث ساعات، وإن مرت كومضة البرق في صحبة الأستاذ عبد العزيز صقر شاهين؟
وأتلفتُ فأرى الأستاذ محمود البشبيشي، الصديق العزيز الذي لم أر منه غير كرم الأخوّة وصدق الوداد، ثم أنظر فأرى الأستاذ عبد اللطيف علي، وهو مدرس فاضل قد مكنه التنقل من التعرف إلى ملامح البلاد المصرية.
هذه القهوة المنشودة، وتلك الكافورة الغيناء، وذلك الأستاذ محمود زناتي، فأين الزيات؟
لقد ذهب الشقيُّ إلى (رأس البر) وخلاّني، فهل أعود إلى القاهرة قبل أن أنفض عن ثيابي غبار الطريق؟
وما هي إلا لحظة حتى طاب المجلس وحلا الحديث، وأقبل المنصوريون فأحاطوني بوداد يذكّر بوداد أهل بغداد، حتى كدت أتوهم أني بين الرُّصافة والجسر، أو فوق الجزرة في مواجهة كلواذ. على ليلتي بالجزرة أطيب التحية، وأزكى السلام!
وأنظر في الساعة من ثانية إلى ثانية ومن دقيقة إلى دقيقة لأرى كيف أفرّ إلى دار تعودت المضي إليها بلا دليل غير وحي القلب، ولكن شيطانين منصوريين يصدّان عن سبيل القلب ويأبيان إلا مرافقتي حيثما توجهت، ونعوذ بالله من كيد الشياطين.
فإن كان حظي في تقبيل تلك الجدران قد ضاع فحسبي من العزاء أن أطمئن إلى أن هواي لم يزل من السر المصون.
أنا في المنصورة في صحبة القمر والنيل والنسيم، وفي ضيافة الأستاذ محمود زناتي وبرفقة جماعة من أفاضل الأدباء والمدرسين، فإن كان في الدنيا من يصدّق أن الحديث الجذّاب قد يكون أطيب الطيبات وقد يُنسى القلب لواعج هواه فليعرف أن سهرتنا كانت من تلك الطيبات العِذاب. ألم أسهر حتى يبلل الندى ثيابي على نحو ما كان يصنع معي في سهرات بيروت؟
ثم أستيقظ على صفير القطار، وهو يزفر زفرة الشوق إلى القاهرة فأهب لأداء بعض الواجبات، ثم أتجه إلى القاهرة قبل أن تصل الشمس إلى كبد السماء.
فإن بدا للزيات أن يعضّ بنان الندم على ضياع حظه من لقائي بالمنصورة فليفعل، فقد كانت معي أطايب من الحديث لا تذاع إلا هناك، وكان في نيتي أن أدله على أشياء وأشياء من أسرار المنصورة الفيحاء، وكان وكان، ولكنه قليل الحظ من الطيبات.
كان الزيات يهدد ويهدد: كان يقول إن زيارة المنصورة قد تكفّ شر المنصوريين في التزيد على (ليلى المريضة في العراق).
وذلك والله هو السر في زيارة المنصورة بعد موسم الصيد: صيد الأسماك.
أما بعد فللمنصورة حقوق تعرفها القلوب، فإن قضى الدهر بألا أبيت فيها غير ليلة واحدة فقديماً صنع الدهر ما صنع في حرمان أرباب القلوب.
رباه! متى تعود أيامي؟
متى أرجع إلى تدوين الملاحة في البلاد التي يسقيها النيلُ الوفيُّ الأمين؟
متى يتسع الوقت لدرس ما في مرابع الوطن الغالي من غرائب السحر والفُتُون؟
ما هَلّ بلدٌ في وجه القطار إلا وثب القلب، فما في وادينا بلدٌ خَلَت أرباضه من آثار الحروب بين العيون والقلوب، حتى كدت أومن بأن كل بلدٍ في مصر هو صورة من صور سنتريس أو بغداد أو باريس.
وطني! أنا أحبك، أنا أحبك.
ولو أنني أستغفر الله كلما
…
ذكرتك لم تُكتَبْ عليّ ذُنوبُ
زكي مبارك
3 - أخلاق القرآن
الوفاء بالعهد
للدكتور عبد الوهاب عزام
الوفاء بالعهد خُلق يقتضيه الإنصاف والصدق، وتوجبه المروءة وكرم النفس، وتحتمه الرجولة والنبل. ما أصغر وما أذل وما أخس النفس التي تتخذ عهدها وسيلة إلى التغرير بمن تعاهده، وتجعل يمينها سبيلاً إلى أن تفجئه وهو آمن مطمئن. الغادر كاذب حانث خادع، قد جعل كلامه وعهده حبالة لمآربه، حبالة واهية ذليلة كحبالة العنكبوت يصيد بها الذباب، ودبّ من وراء الأمن إلى خصمه كما تدب الثعالب والذئاب. أين هذا من الإنسانية في أخلاقها العالية، والرجولة في سجاياها الحرة؟ وأين هذا من أخلاق القرآن كتاب الإنسانية الكاملة؟
القرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعهد، ويؤكد الأمر به، ويعظم شأنه، ويكبر الموفين، وينهى عن الغدر، ويشتد في النهي عنه، ويقبحه، ويلعن الغادرين.
ومن يتدبّر آيات القرآن يجد العهد فيها ضربين: العهد العام، والعهد الخاص؛ فأما العهد العام فهو أداء الواجب الذي يقتضيه عمل الإنسان، فمن تولى عملاً فقد عاهد أن يبقى به على الوجه الأكمل. فإذا لم يفعل فقد خالف العهد، ومن آمن بدين فقد عاهد أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه فإن لم يفعل فقد نقض العهد. ومن دخل في جماعة فقد عاهدها على أن ينفعها ولا يضرها، فإن ضرّها أو قصّر في نفعها فقد غدر. ومن تصدى للدفاع عن أرض أو جماعة أو عقيدة فقد عاهد ألا يألو جهداً في الدفاع. فإن نكص فقد خان. ومن أوتي علماً أو عرف حقاً فكأنه عاهد أن يبينه للناس ليهتدوا به، فإن كتمه فقد خاس بعهده. وهكذا.
نقرأ في الكتاب الكريم: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبينُنّه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون)(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال أأقررتم وأخذتم على ذلك أصري؟ قالوا أقررنا. قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.)
(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم. وأخذنا
منكم ميثاقاً غليظاً. ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً.)
فهذه مواثيق عامة تضمنتها رسالة الأنبياء وعلم الذين أوتوا الكتاب، كأن النبوة عهد على الوفاء بما تقتضيه الرسالة من الدعوة والإصلاح والنصب واحتمال الأذى والصبر وكأنها عهد على أن ينصر النبيون الحق وينصروا من جاء به.
وكذلك العلم الذي حمل أهل الكتاب أمانته. هو عهد عليهم أن يعلّموه للناس ويظهروه غير مبالين ما ينفعهم وما يضرهم في إظهاره، وكذلك كل من عرف حقاً وهُدي إلى معرفة، وكل من ولى ولاية للناس، وكل من وكل إليه عمل، كل هؤلاء كأنهم عاهدوا الله والناس على أن يُعرّفوا الناس ما عرفوا وأن يؤدوا أعمالهم على الوجه الأحسن.
ومن ذلك قول القرآن الكريم في وقعة الأحزاب:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ليجزي الله الصادقين بصدقهم.)
فهذا العهد هو ما ألتزمه المسلمون حين قبلوا الإسلام من القيام بفروضه ونصرته والدفاع عنه والاستماتة في تأييده.
والقسم الثاني من العهد الخامس: معاهدة رجلين أو فريقين على أن يسالم بعضهم بعضاً وأن يجتنبوا الضر فيما بينهم، أو تحالف فريقين على أن يتعاونوا على عمل، وهكذا؛ وهذه العهود شائعة بين الناس منذ اجتمعوا واحتاج بعضهم إلى بعض وخشي بعضهم بعضا
وقد حث القرآن على الوفاء بالعهد كله وبالغ في الأمر به. يقول في سورة الأنعام: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى. وبعهد الله أوفوا. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). وفي سورة الإسراء: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً). وفي سورة النحل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. إن الله يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به، ولَيُبَيّننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون. ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعملون).
يأمر الله سبحانه في هذه الآيات الجامعة بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، وينهى عن الفحشاء وكل منكر، وعن البغي على الناس. وهذا أمر بكل خير ونهي عن كل شر.
ثم يخص الوفاء بالعهد فيأمر به ويسميه عهد الله، وكل عهد بين اثنين يسمى عهد الله، لأن الله رقيب على أعمال الناس، وقد أمرهم بأن يصدقوا ويحسنوا ويفوا بالعهود، ولأن العهد قسم بالله وشهادة لله على الوفاء. وأكد الأمر بقوله: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. فالإنسان حين يعاهد يشهد الله على عهده ويجعل الله كفيلاً عليه بالوفاء، فكيف تنقض صفقة تكفّل بها الله؟ إن الإنسان ليتخذ كفيلاً من وجهاء الناس فيحرص على الوفاء بعهده إكراماً لهذا الكفيل وحياء منه، فكيف بمن جعل كفيله الله؟ ثم نهاهم أن تكون أمورهم لعباً وعبثاً، يبذلون وعودهم وعهودهم وأيمانهم ثم ينقضونها، كالمرأة الحمقاء التي غزلت ثم نقضت غزلها؛ ذلك عبث وصغار لا ترضى به النفوس الكريمة الكبيرة الحرة. نهاهم أن يفعلوا ذلك وأن يتخذوا أيمانهم غشاً وفساداً إذا لاح لهم نفع في نقض العهد، إذا وجدوا أن جماعة عاهدوها هي أقل عدداً وقوة من جماعة لم يعاهدوها، فهم يريدون أن ينقضوا عهد الضعيف ليرضوا القوي أو يحالفوه. وهذا معنى قوله:(أن تكون أمة هي أربى من أمة). ثم قال: (ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً). يعني: لا يحملكم على نقض العهد نفع تنالونه من وراء نقضه، فإن كل ما تنالون بنقض العهود هو ثمن قليل في جانب هذا الأمر العظيم. وكل ربح تتوهمونه في ذلك خسران كبير.
وقد أثنى القرآن كثيراً على الموفين بالعهد، قال في وصف المؤمنين المفلحين:(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). وقال في وصف الخيرين البررة: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا). وقال: (إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق). وقال: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين).
هذه إشادة القرآن بالموفين بالعهد، وثناؤه عليهم بكل خير تعظيماً لهذا الأمر العظيم.
وأما الذين لا يوفون بعهودهم فقد ذمهم القرآن وشنع عليهم فقال: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون). وقال في موضع آخر: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار). وقال في
جماعة من أهل الكتاب نقضوا العهد: (فيما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية). واستمع إلى هذه الآية الهائلة التي تبين غضب الله على من ينقض العهد ابتغاء منفعة: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.)
وقد أخرج القرآن ناقضي العهود من الإنسانية وجعلهم من الدواب بل جعلهم شر الدواب في قوله:
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).
ألا ترى أنه جعل الذين كفروا شر الدواب ثم وصفهم وصفاً يلائم هذه الحال فأخبر أنهم لا يثبتون على عهد كلما عاهدوا نقضوا عهدهم. كما قال في آية أخرى: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟)
راعى القرآن العهود وأعظم شأنها حتى أوجب الدية في قتل غير المسلم من قوم معاهدين، ولم يوجبها في قتل المسلم من قوم غير معاهدين.
تلكم شرعة الإسلام في رعاية العهود، وهي التي سار عليها المسلمون في سلمهم وحربهم فكانوا أوفى ذمة وأثبت عهداً. . . تنطق بذلك سيرهم منذ جاءهم الإسلام حتى اليوم. كان للعهد عندهم حرمة لا تمتهن، في السراء والضراء، والشدة والرخاء. كان العهد الذي يعطيه أقل رجل من المسلمين ولو عبداً - نافذاً على المسلمين جميعاً لا يقبل تأويلاً ولا تبديلاً.
إن حفظ العهود ليلقى الأمن والطمأنينة في نفوس الأفراد والأمم ويقيم أمور الناس على شريعة من المودة والإنصاف والتعاون. وإن العالم ليزلزل اليوم بما استخف بالعهود واتخذها وسيلة إلى المطامع؛ فلم يركن الناس إلى معاهدة، ولم يأمنوا الغدر والمفاجأة، فصاروا في ريبة وحيرة، وزال ما كان يثبت الأمم من مواثيق تؤمن بها وتركن إليها وتسير في تدبيرها عليها. صار الوعد لا يدل على الوفاء، والعهد لا يؤمن من الغدر، فاضطرب الناس فهم في أمر مريج.
وقد حدثنا القرآن عن بلاد أهلكت وأخبرنا أن مما أهلكوا به استخفافهم بالعهد فقال: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم
فهم لا يسمعون. تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك نطبع على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين). . . صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: الرسم
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تشمل هذه الطائفة من العوامل جميع ما يبذله الأفراد والهيئات من جهود مقصودة في سبيل حفظ اللغة وتعليمها، وتوسيع نطاقها، وتكملة نقصها، وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب، وتدوين آثارها، واستخدامها في الترجمة والتأليف الأدبي والعلمي. . . وهلم جرا
وتمتاز هذه الطائفة من العوامل عن الطوائف الثلاث التي تكلمنا عنها في المقالات السابقة بأنها أمور مقصودة، تسيرها الإرادة الإنسانية؛ على حين أن الطوائف السابقة تتمثل مظاهرها في أمور غير مقصودة تحدث من تلقاء نفسها، وتبدو آثارها في صورة جبرية لا اختيار للإنسان فيها ولا يد له على وقفها أو تغيير ما تؤدي إليه، وتمتاز عنها كذلك بأن هدفها الأصلي هو لغة الكتابة، بينما تتجه آثار الطوائف السابقة بشكل مباشر إلى لغات المحادثة.
ولهذه الطائفة مظاهر كثيرة من أهمها: الرسم، والتجديد في اللغة، والبحوث اللغوية، وحركة التأليف والترجمة، ووسائل تعليم اللغة. وسنعرض في هذا المقال لبعض نواحي الرسم، مرجئين التكلم عن نواحيه الأخرى وعن بقية العوامل الأدبية إلى المقالات التالية.
لم يتح الرسم إلا لعدد قليل من اللغات الإنسانية، أما معظمها فقد اعتمدت حياته على مجرد التناقل الشفوي، فالشرط الأساسي في حياة اللغة هو التكلم بها لا رسمها، فكثيراً ما تعيش اللغة بدون أن يكون لها سند تحريري، ولكن من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهر صوتي. ويصدق هذا حتى على اللغات الصناعية نفسها كالإسبرنتو وما إليها، فمن المتعذر أن تتاح الحياة للغة من هذا النوع ما لم تتناولها الألسنة وتصبح أداة للكلام، ولذلك كان أول ما يتجه إليه المفكرون في هذا النوع من اللغات هو وضع أصواته
وأسلوب نطقه والبحث في وسائل انتشار التحدث به.
وعلى الرغم من ذلك، فللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر. فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان. وهو قوام اللغات الفصحى أو لغات الكتابة ودعامة بقائها. وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة كالسنسكريتية، والمصرية القديمة، والإغريقية، واللاتينية، والقوطية؛ فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي.
وترجع أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات إلى أسلوبين اثنين:
(أحدهما) أسلوب الرسم المعنوي ، وهو الذي يضع لكل معنى صورة خطية خاصة وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة، منها الصينية والمصرية القديمة ولا نعلم على وجه اليقين أول أمة استخدمته ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني.
وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين، فأحياناً تكون صوراً حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها، أو لأجزاء من هذه الأشياء؛ كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاثة فروع من شجرته في طرف كل منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفاً. . . وهلم جرا. وأحياناً تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبير عن الأشياء والمعاني كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجمة، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة؛ وكما يشير الرسم الصيني لمعنى الإنسانية بخطين يتكون منهما شكل يشبه رقم 8.
ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة. فهو أسلوب بطيء يقتضي للكاتب إسرافاً كبيراً في الوقت والجهود. ولكثرة صوره ورموزه تبعاً لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهوداً شاقة وزمناً طويلاً. ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني، وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلا في صورة ناقصة مبتورة؛ إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه، أن ينتظم جميع ما يخطر
بالذهن الإنساني من معان وأفكار وجميع ما ينطق به اللسان من ألفاظ وعبارات. هذا إلى أنه بمقتضاه لا يوجد للمعنى الواحد أكثر من صورة واحدة، مع أنه في معظم اللغات الإنسانية كثيراً ما يوجد للمعنى الواحد عدة ألفاظ مترادفة. فاستخدامه في حالات كهذه يوقع في اللبس ويؤدي إلى الاضطراب.
(وثانيهما) أسلوب الرسم الصوتي ، الذي يضع لكل صوت صورة خاصة. وقد استخدم هذا الأسلوب من الرسم في كثير من اللغات القديمة، ويستخدم الآن في معظم الشعوب المتمدينة.
وترجع الصور الخطية التي استخدمت في هذا الرسم إلى طائفتين: إحداهما الصور المقطعية وهي التي ترمز إلى مقاطع كاملة كما يرمز في الهيروغليفي بشكل الشفتين إلى مقطع را والأخرى الصور الهجائية وهي التي ترمز إلى أصوات ساكنة، كما يرمز في الرسم العربي بهذا الحرف (ل) إلى صوت اللام مجرداً من جميع الحركات.
ويظهر أن قدماء المصريين كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب بنوعيه (المقطعي والهجائي) منذ أكثر من ثلاثين قرناً قبل الميلاد. فمن بين صور الخط الهيروغليفي ما يرمز إلى مقاطع صوتية (صورة الشفتين مثلاً التي تعبر عن مقطع (را)) بل من بينها ما يرمز إلى مجرد أصوات ساكنة (صورة الشفتين مثلاً التي أصبحت ترمز فيما بعد إلى صوت الراء غير المتبوع بأي حركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية). غير أن قدماء المصريين لم يستخدموا هذا الأسلوب وحده، بل مزجوه بالأسلوب الأول. فالرسم الهيروغليفي خليط من الرسم الصوتي والرسم المعنوي؛ يستخدم بجانب الصور المقطعية والهجائية صوراً حقيقية ورمزية.
ومن الراجح أن الفينيقيين هم أول من استخدم الأسلوب الهجائي وحده. وقد اضطرهم إلى ذلك نشاطهم التجاري وكثرة تنقلهم وتعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب. فقد كانت هذه الشئون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة، والاقتصاد في المجهود، وتحري وجوه الدقة. والأسلوب الهجائي هو أسرع أساليب الرسم، وأيسرها وأدناها إلى الكمال. وليس من شك في أنهم حاكوا في أسلوبهم هذا ما كان يشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية. على أنه قد ثبت أنهم أخذوا أخذاً عن هذا الخط نحو ثلاثة عشر حرفاً من حروفهم.
وقد انتشرت حروف الهجاء الفينيقية في معظم أنحاء العالم القديم واستخدمها كثير من شعوبه؛ ومنها تفرعت بشكل مباشر أو غير مباشر جميع حروف الهجاء التي استخدمت فيما بعد في مختلف اللغات الإنسانية.
فمن الحروف الفينيقية اشتقت الحروف العبرية القديمة، ومن هذه اشتق الرسم العبري الحديث (الحروف العبرية المربعة ' الذي استخدم بعد رجوع بني إسرائيل من نفي بابل، وظل مستخدماً إلى الآن بدون أن يناله تغيير ذو بال.
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك نوعان من الرسم قريبا الشبه بالعبرية الحديثة (الحروف العبرية المربعة): أحدهما الخط التدمري (أو البالميريني والآخر الخط النبطي ومن التدمري اشتقت الحروف السريانية التي أخذت منها الخطوط المغولية والمنشورية. ومن الخط النبطي والخط السرياني اشتقت حروف الهجاء العربية.
ومن الرسم الفينيقي أخذ كذلك الرسم الآرامي، بل إن الرسم الآرامي في أقدم أشكاله لا يكاد يختلف عن الرسم الفينيقي. وعن الآرامية أخذت الحروف الهندية الباكتريانية - التي كانت مستخدمة في شمال الهند؛ ومن هذه الحروف اشتقت جميع الحروف المستخدمة الآن في مختلف لغات الهند وسيام وكمبدج (بالهند الصينية) وماليزيا
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك الرسم الإغريقي؛ ومن الرسم الإغريقي أخذت الحروف اللاتينية، ومن الرسمين اللاتيني والإغريقي تفرعت جميع أنواع الرسم المستخدمة في مختلف اللغات الأوربية في العصر الحاضر.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون
أوليفر جوزيف لودج
يونيو سنة 1851 - أغسطس سنة 1940
للدكتور أحمد موسى
ليس بين المثقفين من لا يعتبر أوليفر لودج من أئمة علماء العصر، كما لا يوجد من بين هؤلاء من لم يقرأ شيئاً له أو عنه. وإذا أراد أحد المؤرخين أن يسجل في قائمة أعظم عظماء التاريخ من الناحية العلمية، فإنه يضع اسم أوليفر لودج بين هذه الأسماء إن لم يضعه في مقدمتهم.
أنظر إلى حقل من الحقول وسر بنظرك إلى شجيراته التي غرست في وقت واحد وتعهدها الفلاح بالري في فترة واحدة، تر من بينها شجيرة تبز غيرها وترتفع عنها، مع أن البذور واحدة والعوامل الباقية مشتركة. وكذلك كان الحال منذ بدأ القرن العشرون، فظهر في الأفق العلمي كثيرون كان من أبرزهم أوليفر لودج الذي حلق في سماء الفكر تحليقاً عجيباً ووصل إلى نتائج من أبهر وأسمى ما يمكن الوصول إليه.
لم يكن أوليفر لودج موسيقياً، ولكنه كان يستمع إلى موسيقى الخلود؛ فيتخذ من هرمونيتها قواعد وأصولاً يجعلها أساس بحوثه في اللانهاية وفي علاقة الشموس والسيارات والكواكب بعضها ببعض، وكما يحافظ الموسيقي العبقري من أمثال بيتهوفن وفاجنر على الانسجام والاتزان والارتباط الفائق في مقطوعاته، كان أوليفر لودج يتخذ القاعدة البسيطة إلى المبادئ المركبة، وينتهي بالنتائج المحدودة إلى ما هو غير محدود.
وإذا كان العلم رهيناً بالبيئة والاستعداد المولود مع الموهوبين فإن المصادفة قد لعبت دوراً هاماً في توجيه أوليفر لودج إلى العلم.
كان الفضل في توجيهه لمجلة قديمة اسمها: (الميكانيكي القديم) تناولها صدفة فأثارت كامن استعداده، ولم يكن فقر أبيه ليحول بينه وبين العلم؛ فدرس وحفظ وأتقن وتفنن وتعلم وعلم من أجل الاستمرار في الدرس.
ولد أوليفر لودج يوم 12 يونيو سنة 1851 في بيكنهال بمقاطعة ستافورد بإنجلترا من
أبوين متوسطي الحال، وكان أبوه مشتغلاً بصناعة الخزف، وقد تعلم الابن في المدرسة الابتدائية في بيوبورت إلى أن بلغ الرابعة عشرة، واستمر مع أبيه سبع سنوات جمع خلالها بين العلم والعمل، بحيث لم يكن اتجاهه العلمي متصلاً أقل صلة بحرفته التي كلفه بها واختاره أبوه، وقد صادف يوماً تلك المجلة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانكب على الدرس والبحث والاستقصاء، فما كان من أبيه إلا أن أرسله إلى لندن ليستمع إلى ما يروقه من المحاضرات.
رأى الفتى أنه لا بد له من الدراسة الجامعية المنظمة، ولابد له من مال ينفقه في هذه السبيل؛ فاستعان بإعطاء الدروس الخصوصية للحصول على النفقات الضرورية، وأمكنه بعد الجهد أن يحصل على أسمى شهادة تمنحها جامعة لندن وهي إجازة الدكتوراه بعد خمس سنوات قضاها في الدرس المرهق.
وعين في سنة 1879 مساعداً للرياضة التطبيقية بجامعة لندن، وانتخب عضواً في الجمعية الملوكية سنة 1887، وانتقل أستاذاً للعلوم الطبيعية في جامعة ليفربول سنة 1881 وظل فيها إلى سنة 1900 حيث انتقل عميداً لجامعة برمنجهام.
ومنحه الملك إدوارد السابع لقب فارس سنة 1902 وحصل على لقب (سير) فيما بعد.
ومن أوائل مؤلفاته (نظرات جديدة في الكهربائية) وهو المؤلف الذي ترجمه إلى الألمانية العلامة هلمهولتس سنة 1896 وله كتاب ألفه سنة 1908 أسماه (الحياة والمادة) تناول فيه بالنقد آراء الفيلسوف الألماني هيكل صاحب كتاب (لغز الكون).
وألف بعد ذلك الكثير من الكتب، وله مقالات ومحاضرات لا يتناولها الحصر، منها ما ألقاه في الجامعات ومنها ما ألقاه في مجمع تقدم العلوم البريطاني. أما مقالاته فقد نشرت عنها نبذة جيدة في مجلة الطبيعة ومجلة الاكتشافات وغيرهما من المجلات الأمريكية والألمانية والفرنسية والإيطالية.
أما الجرائد اليومية التي نشرت له، فأهمها التيمس التي بدأت منذ فجر القرن العشرين تنشر مقالاته وخلاصة محاضراته عن:(الكهرباء) و (الأتوم) و (المغناطيسية) و (المادة والروح) وغير ذلك.
ولم يقف نشاطه عند حد التدريس والتأليف، بل تعداه إلى الاشتغال العملي كمستشار لإحدى
الشركات الكهربائية الكبرى؛ فقام لديها بتطبيق أبحاثه النظرية في الوقت الذي فيه استفادت الشركة فائدة عظمى.
وقد ظل عميداً لجامعة برمنجهام حتى سنة 1919، أي أنه ظل في هذا المنصب عشرين عاماً لا يتوانى عن العمل والإنتاج والسعي وراء ما هو جديد في العلم.
وقد انتخب رئيساً لمجمع تقدم العلوم البريطاني سنة 1933، ورئيساً للجمعية الطبيعية وجمعية الأبحاث النفسية وجمعية الأشعة المجهولة.
بهذا الوضع ترى أن لودج جمع بين العلم التجريبي والفلسفة، وكان وسيطه الأثير، وظل يتفلسف حتى حلق بفكره الصافي وخياله السامي إلى عالم الروح!
ما هو الفضاء؟ وما حدوده؟ وماذا يشغله؟ وما هذه الكواكب المنثورة في رحابه؟ وما الذي يربط بينها؟ وما هي المادة، ومم تتكون؟ وماذا يربط بين الذرات؟
صراع عنيف هذا الذي بين العالِم وبين ظواهر الكون! شجار هائل بين العقل البشري وظاهرة اللانهاية. ينظر العالِم البصير إلى الوجود نظرة المتأمل؛ فيرتد منه البصر خاسئاً وهو حسير! لقد قال (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص): إن العقل البشري محدود لا يستطيع اختراق الآفاق للوصول إلى ما يشفي غلته، وهذه حكمة الخالق!
ولعل ما وصل إليه أوليفر لودج كان من نوع الانبثاقات المشابهة لتلك التي فاز بها أينشتاين دون مقارنة. ومهما يكن من شيء فإن العقل الخصب لا يقف في البحث عند حد؛ لذلك ترى لون التفكير الحديث عند لودج بمعناه الكامل.
يتجه التفكير الحديث إلى تحقيق تأليف كل مادة من جزيئات منفصلة هي ذرات العناصر المركبة من كهارب وبروتونات وهذه هي الشحنات الكهربائية الدقيقة إلى أقصى ما يمكن للعقل أن يتصوره.
أخذ هذا المبدع في التفكير على هذا النمط، واتخذ من البسيط قاعدة للمركب، واستطاع إدراك الموسيقى الكونية المعبرة عن الكمال المطلق في الهارموني الأزلية الأبدية!
كان لودج مؤمناً وكان ينبذ مذهب المادية كنتيجة لإيمانه. فتراه يقول: إن العالم لا يمكن أن يكون مادة خالصة، فهناك رابط وضابط يربط بين الكائنات ويضبط علاقاتها، وليس هو بالذات مادياً.
وما هو الأثير يا ترى؟ أهو مادة ترى أم تلمس؟ يقول لودج في تعريف صفاته: إنه لا يرى ولا يلمس ولا يسمع ولا يشم! بل هو ناقل الضوء وهو الرابط بين جزئيات المادة، كما أنه الوسيط لنقل الأشعة الكونية إلى الأشعة اللاسلكية، والأشعة الكونية تبلغ حداً قصيراً جداً بينما اللاسلكية قد تصل موجتها إلى اثني عشر ميلاً أو أزيد.
أما جولاته وصولاته في عالم الروح فهي مشهورة وعظيمة فاعتقاده في بقاء الروح بعد الموت نتيجة لتجاربه التي يقرر في إحداها أنه استطاع التحدث إلى ابنه المتوفى، ويعلل ذلك بقوله: إن الحياة والعقل يبدوان في مجال لا يشترط أن يكون مادياً دائماً، وعلى ذلك فبقاؤهما بعد انحلال الجسم المادي محتمل.
ولم يصل لودج إلى التحقيق العلمي في هذا الشأن، ولذلك فتعاليمه الروحية مثار كثير من الجدل، ولكن هذا لا يمنع من اعتباره واضع النواة لاتجاه لا يبعد أن يميط البحث عنه لثام الغموض، لا سيما وأن الكثير من المبادئ العلمية كانت في أول أمرها مثار الشكوك ثم ثبت صدقها ونفعها فيما بعد.
تذكر (لامارك) واذكر أبحاثه التي ظلت أعواماً طويلة في عالم النسيان بعد طول الجدل والمناقشة، وبعد أن كانت مثار الحقد والكراهية له من معاصريه العاملين معه في معهد واحد، وتذكر ما قاله (دارون) عن هذه الأبحاث تر أنه لا يبعد أن يجود الزمان بمن يواصل البحث في عالم الروح على ضوء ما تركه لودج من تراث عظيم في هذا المجال.
جمع لودج بين عالم الروح وعالم المادة، وله أبحاث هامة عظيمة قد أيدت، وأبرزها النتائج التي وصل إليها في ظواهر البرق والصواعق، والمسلك الذي سلكه للوقاية منها.
وله فضل عظيم على نظريات اللاسلكي والأمواج القصيرة والطويلة، فلا غرابة إذا اعتبره البعض إمام الابتكارات اللاسلكية الحديثة قبل ماركوني.
لقد وهب الله هذا الرجل صدق النظر وعلو الهمة والرغبة في العلم والإنتاج، كما منحه إلى جانب ذلك عمراً مديداً، فهو في هذا كله قد وفق تمام التوفيق وأدى رسالته على أحسن وجه.
فإذا سجلنا اليوم بعض مآثره وتناولنا حياته ببيان قصير، فإن هذا إلى جانب مكانته لا يعد شيئاً مذكوراً.
ولعلنا نعود إلى أبحاثه الروحية في وقت أكثر رحابة وأوسع مجالاً من هذا الذي اكفهر فيه الجو وخيم الظلام على عقول الناس؟
أحمد موسى
في النقد الأدبي
أسلوب أدهم
في كتبه ومباحثه
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كان المرحوم إسماعيل أدهم شخصية في الأدب النقدي الحديث، تستحق الدراسة من نواح متعددة. وإذا كان عرف عنه دائماً زيغ في العقيدة، أو تعصب للترك على العرب والإسلام فقد عرف عنه بجانب ذلك كثير من دقة البحث واستقصاء الدرس واستكمال عدة النقد اللازمة للناقد الحديث. وامتازت كتاباته ومباحثه الواسعة المنتشرة هنا وهناك بطريقة جرى عليها علماء المشرقيات في مباحثهم. وهي طريقة غير هينة ولا معبدة لأنها تستلزم صبراً كثيراً وقراءة كثيرة وربطاً محكماً لكل ما يقرأ وإدراكاً واسعاً يستطيع به صاحبه الحكم في صحة، غير جانح إلى خطأ، أو مائل إلى انحراف عن الجادة.
ولقد أثار موت أدهم - بالطريقة التي اختارها - أموراً كثيرة، تعرض فيها كثير من الناس لأمور ما كان يليق التعرض لها، لأنها تمس شخصه هو، وتلمس جزءاً خصوصياً من حياته. وكان الأولى بهم لو وقفوا أمام أدبه وتراثه الفكري فاستعرضوه وبحثوه وأشبعوه درساً وتناولوه تناول الناقد - في رفق أو في غير رفق - لأنه تراث لم يعد من ملك إسماعيل أدهم، بل عاد من ملك الزمن ومن حق التاريخ.
ولا نعرض هنا لما قيل في أدهم وما قيل عنه، فليس ذلك وارداً على بحثنا اليوم ولا داخلاً فيه. ولا شك أن المغامز التي أثيرت حوله ستمضي، وسيبقى الكلام في عقيدته مسألة حسابها بينه وبين ربه.
والكلام عن أدهم في أي ناحية من نواحيه قد يكون شائكاً، وقد يكون دقيقاً، وقد يكون فيه غير قليل من الحرج، فليس من أسهل المواقف - في بيئة شرقية محافظة - أن يطيب الكلام عن أدهم المعروف بنزعاته الحرة غير المبالية بتقليد أو سنة.
وليس من أهون المواقف أن يكتب عربي عن شاب تركي الأب ألماني الأم أو صقلبيها كان يرى ويؤمن باحتقار للترك للعرب.
وليس من أحب المواقف إلى النفس أن يكتب كاتب يريد الإنصاف عن أديب تعددت فيه مذاهب الرأي، وأحيط علمه وعرفانه الألمانية والروسية وقيم شهاداته العلمية بكثير من الشك.
نعم، ليس الكلام عن أدهم سهلاً ولا ليناً، ولا مما يرتاح إليه بعض الناس ممن يرون فيه رأياً خاصاً، ويذهبون في الحكم عليه مذهباً معيناً.
على أن الناقد لا يتقيد بما يتقيد به سائر الناس، ولا يخضع نفسه لعاطفة ثائرة قد يكون لها أثر سيئ في الحكم على المنقود. فلقد كان في أبي العلاء المعري شك وسخرية وجرأة على الأديان، إلا أن ذلك لا يمنع من وضعه في المنزل الخليق به في أدب العرب. أما المتزمتون الذين يتحرجون حتى من حفظ شعر لأبي العلاء لرميه بالزندقة، فأولئك قوم لا نكتب لهم، ولا نود أن يقع حديثنا في أيديهم. . . . . .
على أن أدهم - كما قلنا - قد مات وراح في الطريق الذي نروح ونغدو له في الحياة. . . وراح معه شكه وإلحاده ليلقى بهما وجه الله الذي سيرى عنده اليقين. فمن السخف أن نغضب ونسخط على أدهم، لأن الله لم يهده كما هدى غيره. ومن الرحمة أن نرثي لأدهم بسبب هذه الحيرة السوداء التي سودت عليه آفاق الطريق. وقد يكون من المفيد أن يتفضل أحد الباحثين بمعالجة هذا الموضوع - موضوع إلحاد أدهم - والكشف عن بواعثه والظروف التي هيأت له، مستعيناً في ذلك بما كتبه هو عن نفسه في كتابه (لماذا أنا ملحد؟)
يجد المتتبع لأسلوب أدهم أنه لم يسلم من وقوع الأخطاء النحوية فيه. وكان أصحاب الصحف والمجلات التي ينشر فيها يعانون كثيراً في سبيل إصلاح هذه الأخطاء وردها إلى وجه الصحة. على أن أدهم في مباحثه الأخيرة قلت عنده هذه الأخطاء ولكنها لم تنعدم انعداماً تاماً.
وكان خصوم أدهم يجدون في هذه المآخذ وفي غيرها فرصة للتعريض بقيمة ما يكتبه. على أن ذلك عند المنصف لا يحط من القيمة العلمية لمباحثه.
وضعف إسماعيل أدهم في قواعد العربية من السهل رده إلى نشأته في بيت غريب عن العربية. وكان للسنوات التي قضاها في تركيا كما نعرف - وفي روسيا كما يقال - أثر في زيادة هذا الضعف. إلا أنه بدأ منذ النصف الأول من عام سنة 1940 يفطن إلى أخطائه.
ولعله اكتسب ذلك من نشر مقالاته مصححة من قلم التحرير فلا يقع خطأ في مقالاته المقبلة.
وكان بجانب ذلك لا يحرص على استعمال الألفاظ العربية العريقة، بل كان يعدل عنها إلى الألفاظ الدخيلة أو غير الصحيحة أو الألفاظ الإفرنجية نفسها مكتوبة بحروف عربية.
وقد لاحظت عليه كثرة استعماله للفظة (رومانتيكية) بدلاً من (ابتداعية) ويقول عن ترجمة البستاني للإلياذة إنها (ملحمة شعرية زحمة بمثولوجيتها) بدلاً من أساطيرها، وأكثر ما تلاحظ عليه هذه الطريقة في الكتابات الأولى التي كتبها بين سنتي 1935، 1938. وكتابه الموسوم (الزهاوي الشاعر) مشحون بأمثال هذه الألفاظ الإفرنجية المنبثة في خلال كتاباته العربية.
إلا إنه في السنتين الأخيرتين قبل وفاته عدل عن هذه الطريقة إلى الطريقة الأخرى المعقولة، وهي ذكر الكلمة العربية الأصيلة مع ذكر ما يقابلها في الإنجليزية والفرنسية بين قوسين بحروف لاتينية. وهذه الطريقة تظهر بشكل واضح في أبحاثه العميقة عن شاعر الأقطار العربية خليل مطران التي نشرت تباعاً في مجلة (المقتطف) في عام 1939 وبعض شهور من عام 1940. وعلى سبيل التمثيل نذكر ما يأتي: يقول في أحد هذه المباحث: (إن الخيال الشعري عند مطران إضافي ويقول أيضاً في الصفحة نفسها: (وهذه أشياء يمكنك أن تخلص بها كقاعدة إمعانك في مطالعة شعر ديوان الخليل). ويقول في موضع آخر: (وهي عناصر العاطفة والخيال والفكرة). ويقول في موضع آخر عن صناعة مطران الفنية: (فإن الكمال في الشعر يقوم على أساس الاتزان بين الروح الشعرية والتعبير الشعري من جهة من جهاته).
وهكذا تجد الأمثلة كثيرة على ميله أخيراً إلى استعمال اللفظ العربي والعدول به عن اللفظ الإفرنجي الذي كان يشيع في أوليات مقالاته. . .
وقد لا أكون مخطئاً في الظن أن السر في هذا العدول هو كثرة ما تعرض له من النقد من ناحية - فقد كانت طريقة حشد الألفاظ الإفرنجية على اللغة العربية لا ترضى كثيراً من القراء - ومن ناحية أخرى أراد أن يظهر لبعض الغامزين عليه تمكنه من اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
وبالرغم من ذلك كله فإن أسلوب إسماعيل أدهم يتميز من غيره من الباحثين المعاصرين بطابع خاص انفرد به وحده، وهذا الطابع تظهر فيه شخصية أدهم ظهوراً مستقلاً.
وقد بلغ من استقلال هذه الشخصية الأسلوبية وتفردها أنها كانت تنم عن صاحبها حتى ولو لم يعرف القارئ اسم كاتب المقال. وهو في ذلك يمتاز من كثير من الباحثين أو الكاتبين المعاصرين الذين يكادون يذوبون في غيرهم كما يذوب الثلج في الوهج. . . وهذه الميزة الفريدة لأدهم هي التي أعطته مكاناً طيباً في عالم النقد، فقد كان يُنظر إليه نظرة اعتبار من صاحب (الحديث) في حلب، وأصحاب (المقتطف) في مصر، وصاحب (الرسالة) الذي أفسح له صدرها غير عابئ بما كان ينسج حول أدهم وما يحاك له. . .
على أن هذه الشخصية الأسلوبية لأدهم لا تعني أنها استقلت بمقوّمات أو حسنات فقط، فقد كان فيها بعض العيب - وسبحان الكامل - فقد كان فيها شيء من لكنة الأعاجم. إلا أنه لحسن الحظ أن هذه اللكنة الموروثة فيه لم تفسد معاني كتابته، وإن كانت تضيع من عربيتها.
ويظهر أنه كان فقير المادة اللغوية العربية. وهو معذور في ذلك كل العذر لعجمته أولاً ولصغر سنه ثانياً. فلم يتح له عمره القصير أن يحيط بثروة لغوية واسعة، وإن كنا نلاحظ عليه ازدياد محصوله اللغوي من عام إلى عام.
ويؤيد ما نقول أنه كان له كثير من الألفاظ والتعبيرات والتراكيب الخاصة به يديرها في كل مبحث من مباحثه، ويكررها في كل كتاب من كتبه، وقد ينسى فيكررها في الصفحة أو الصفحتين المتقاربتين ثلاث مرات أو أكثر، ولسنا نلقي الكلام هنا من غير دليل، فهو يقول في أحد كتبه (تقطعت نتيجة له أوصال عقليته التقليدية) ويقول في الصفحة المقابلة من الكتاب نفسه (تقطعت أوصال عقليته التقليدية تحت محراث العلم والثقافة الغربية)، ويقول في صفحة 18 من الكتاب نفسه (فتقطعت عند الكثيرين من أبناء الشرق العربي أوصال العقلية القديمة).
وقد يكون العلة في هذا التكرير الواضح في كتابته ضعفُ محصول اللغة عنده كما أسلفت، وقد يكون له سبب آخر غير ذلك ولكن الذي لا شك فيه أن هذه الظاهرة في أسلوبه تدل دلالة قاطعة على عدم مواتاة الفيض التعبيري عند الكاتب.
ومن أساليبه الخاصة المتكررة عنده والغالبة فيما يكتب ما يأتي (تموج الإحساس. طفت موجة وسط هذه الموجات. استقوت على عجلة الزمن).
وفي كتابته فيض غزير من الألفاظ العلمية الخاصة التي تستعمل في العلوم الطبيعية أو الرياضية، ولا شأن لها مطلقاً بمباحث الأدب والنقد، وعلة ذلك أنه كان علمي العقل، علمي الدراسة، ثم اتخذ الاشتغال بالمباحث الأدبية غاية له بعد ذلك، فانساب إلى كتابته الأدبية سيل عريض من ألفاظ كانت تشغل ذهنه في علم الرياضة والطبيعة وغيرهما.
ومقالاته وكتبه مملوءة بهذه الألفاظ، ونذكر هنا على سبيل المثال بعضاً منها. فهو يقول في كتابه عن مطران (ص108)(لأن الأصل في التعصب انطلاق الشحنات المفرغة من الأعصاب).
ويقول في الكتاب نفسه ص112 (وهذا الجو يفعل فعله في النفوس فعل مجال مغناطيسي في برادة الحديد). ويذكر كثيراً (التعادل)(والتقيض)(والتمدد)(والطيوف)(وعالم الجزئيات)(والدقائق)(والذرات) ويسمى قوى الحب (جاذبية).
أما التحقيق العلمي في مباحثه واتباعه وسائل علماء المشرقيات في بحوثهم، واهتمامه بالمصادر وذكرها، والتمويل عليها دائماً للاستشهاد، فذلك كله معروف عن كتابته. وهي وسائل تحتاج بغير شك إلى كثير من المعاناة والصبر والزمن.
وقد انتفع رحمه الله بكثير من الأبحاث التي كانت دائرة في السنوات العشر الأخيرة في الصحف العربية: (كالمقتطف)، و (أبولو)، و (الهلال)، و (السياسة الأسبوعية)، و (الرسالة). وكان يرجع إلى هذه الأبحاث مستشهداً على ما يعالجه هو نفسه من المباحث. ونظرة واحدة إلى هوامش مقالاته وكتبه تؤيد هذا الكلام.
لقد أصبح أدب أدهم الآن في ذمة التاريخ، فليكتب عنه المنصفون ليكشفوا النواحي الغامضة من أديب عاش عيشة الغموض ومات ميتة الغموض، بعد أن ترك خلفه آثاراً جليلة جريئة في عالم النقد الحديث.
(القاهرة)
محمد عبد الغني حسن
عراك في معترك.
. .
أي معترك!
للأستاذ زكي طليمات
(نحن هنا عند استهلال تطور يستطيع أن يحدث تجديداً في
الحياة الأدبية، أو قل يجلب ثروة إليها، ولا يكون هذا الجلب
وذلك التجديد إلا بعد نضال عنيف).
هكذا ختم الأستاذ المستشرق (بروكلمن) دراسته لمسرحية (مفرق الطريق) للدكتور بشر فارس. وذلك في الجزء الثالث من الكتاب الثالث لتاريخ الآداب العربية، وهو الكتاب الذي وقفه المستشرق السابق الذكر للأدب العربي المستحدث.
وبهذا الحكم نفتتح ردنا على مقال الأستاذ محمد متولي الذي نشرته (الرسالة) في عددها 376، لنسكب في واعيته أن (مفرق الطرق) عمل أدبي إذا جرى النزاع عليه، فإنما هو يجري في معترك. . . أي معترك!
وآية ما نقرره أن الحديث حول هذه المسرحية يمتد من جديد بعد أن طوينا مكرهين صفحة منه مع (ناقد أديب) وأن المسرحية لا تبرح تشغل أذهان الأدباء، إما عن إعجاب وتقدير، وإما عن استغراب وبطء فهم.
الأستاذ متولي في مقاله المذكور يهدف إلى غرضين رئيسيين:
أولهما: أنه يريد أن يزيل الخصومة القائمة بين الدكتور بشر فارس والأستاذ الشاعر علي محمود طه، وهي خصومة أساسها - كما كتب عنها الأستاذ متولي نفسه في مطلع مقاله المذكور - أن بشر فارس نقد شعر الثاني فاتهمه بالإغارة والسلخ من المتقدمين والمتأخرين، فغضب الشاعر وانبرى يكيل له صاعاً بصاع، فاتهمه بأنه أخذ في كتابة مسرحيته (مفرق الطريق) من آراء وردت في قصيدة (القمة الباردة) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، فكان أن نصب الأستاذ متولي نفسه قاضياً بين الخصمين، على ما بين التهمتين من اختلاف في الجوهر وملابسات الأحوال، ليقضي بأن الخصمين شريفان، وأن السرقة لم تقع من جانب واحد منهما، ودعم رأيه هذا بأن الفن ليس (فكرة)، وإنما هو
(صورة) أولاً وأخيراً.
والموقف كريم مهما كانت بواعثه، ومهما بعدت أسبابه عن الموضوع الذي نحن في صدده، وهو تحديد قيمة هذه المسرحية من الناحيتين الفلسفية والفنية.
بيد أننا نعبر بالكرم لنقول إن بشر فارس ما كان في حاجة إلى الحكم الذي قضى به الأستاذ متولي فيما له علاقة بالمسرحية، لأن أحداً - حتى ولا (الناقد الأديب) - لم يزعم أن بشراً سرقها من كاتب مسرحي متقدم أو متأخر، وإنما المسألة محصورة فيما إذا كان بشر قد استلهم في كتابة مسرحيته هذه من الفيلسوف (كانت) التي تمت إليه قصيدة الأستاذ العقاد، أو هو استوحى فلسفة (بيرجسون).
وأما ما أورده الأستاذ متولي دعامة لحكمه هذا من أن الفن (صورة) وليس (فكرة) فأمر لم يغلب عن ذهننا فيما سبق أن أجريناه في حديثنا السابق، بل سجلناه في أسلوب أوضح وأدنى إلى الثقافة العربية، إذ قررنا (أن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس، فهي دوارة في نفس الجاهل والسوق، والمتعلم والأديب، وإنما العبرة بطرائق معالجتها، وبالكسي التي تضفي عليها، من حيث حسن التأليف، وجودة التركيب والابتداع والنفس المبتكر الخلاق، وهنا مجال التفاوت بإبراز الشخصية الكاملة المستقلة).
ولم تدل بهذا في معرض الدفاع عن بشر فارس لأنه أغار على قصيدة الأستاذ العقاد فانتحل مذهبها الفلسفي لمسرحيته، ولكننا أوردناه لندفع زعماً آخر لا يدور حول المذاهب الفلسفية المرسومة وإنما يدور حول حقيقة من حقائق النفس البشرية التي هي عامة ومبذولة لكل كاتب، ألا وهي (الصراع بين العقل والشعور).
قررنا هذا المبدأ الذي له أصل عند نقاد العرب والذي عليه نقاد الغرب، محاولين أن نضع له قيوداً خشية أن يصبح الأمر فوضى فتنتحل المعاني وتغتصب الصور.
واقتصار الفن على (الصورة) أو (الشكل) كما يرى الأستاذ متولي، لا يعني أن يكون هناك فن رفيع وفن رخيص، وفن أصيل مبتكر وفن متبع مقلد، وشاعر يسرق وكاتب يستمد، فالتسليم بأن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها الكتاب، وبأن المتقدمين لم يتركوا شيئاً للمتأخرين، كل هذا وما يدخل في معناه، لم يحجز النقد عن أن يقيم الحدود بين الإغارة على المعاني وسلخها ونسخها وبين الاستلهام والتوليد والاستيحاء والتخريج.
أما الغرض الثاني من مقال الأستاذ متولي، فنقد مسرحية (مفرق الطريق)، وفي هذا المجال وثب الأستاذ متولي وثبة نقول إن التوفيق لم يحالفه فيها كما سنبين:
أراد الأستاذ متولي أن يحدد (الناحية الفنية) للمسرحية، فإذا به يتحدث في غير ذلك، ذلك أن المعنى المباشر (للناحية الفنية) لمسرحية ما، هو خضوعها لشرائط الفن المقطوع بها، من حيث مراعاة بلاغة العرض لحوادثها وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار ولطفه، وعمق التفكير وانسيابه إلى أعماق النفس يكشف عن خفاياها. . . الخ، ولكننا لم نطالع شيئاً من هذا في مقال الأستاذ متولي، بل طالعنا آراء تتطوح بين علم النفس وعلم الجمال، والعلمان من صميم الفلسفة، وإذا بالأستاذ متولي الذي نعت حديثنا عن الفيلسوفين (كانت) و (بيرجسون) (بالتفلسف) يكتب فصلاً في الفلسفة - ونأبى أن نقول على غراره: في (التفلسف) - وإذا بأسماء (ريبو) و (بيكون) وغيرهما تجري مجنحة مطلقة العنان، مما يدل على أن الأستاذ متولي أراد (بفنية المسرحية) أمراً غير ما يدل عليه المعنى المتداول للمصطلح عليه لدى رجال المسرح، إذ هو يريد بها، ولا شك، (الناحية الرمزية الفنية) للرواية، يأتي بهذا الملبس في فصل من القول يجب أن يكون قائماً على الدقة والإحكام.
والنقد الذي أراده الأستاذ متولي لمسرحية (مفرق الطريق)، هو للمقدمة أكثر منه للمسرحية، هذا في حين أن (المقدمة) أمر عارض، لأنه غير المسرحية التي هي مناط القول في الجدل، وما احسب أن بشراً كان يتجشم كتابتها متبسطاً لولا حرصه على أن يقرب المسرحية إلى أذهان القراء وييسر لهم أمر استيعابها وهي حدث جديد في التأليف المسرحي المصري.
وعلى اعتبار أن (المقدمة) هي العنصر الأول، كما يتعمد أن يراها متولي، لينتقصها ثم ينفذ من هذا إلى انتقاص قدر المسرحية نفسها، فأين الأخطاء التي وقع فيها كاتبها، وما هي مزالق الكلام فيها؟
لا أخطاء ولا مزالق كلام؛ وإنما هو تعسف وعنت من جانب الأستاذ متولي، ومرد هذا كله أن فكرته عن الرمزية محدودة ضيقة، إذ هو يريد أن يخضع كل ما يؤلف في الرمزية لما وجده عند (ريبو فقط، و (ريبو) هو واحد ممن كتبوا في الرمزية وعلم النفس، وواحد ممن أسقطت الآراء الفلسفية الحديثة أكثر ما ذهب إليه فيهما، كما سنشرح هذا.
ويؤسفنا أن نقرر، لو أن الأستاذ متولي، وهو الذي يحمل شهادة ماجستير للفلسفة، تعقب المراحل الحديثة التي مر بها علم النفس بعد العهد الذي ألف فيه (ريبو) كتابه (المخيلة الخلاقة الذي هو عمدته في النقد، أي بعد عام 1900، لعرف أن علم النفس الذي أفدت منه الرمزية كثيراً قد دخل في طور جديد تبدلت على أثره أوضاع في الأدب عامة، وفي الرمزية خاصة، كما تشهد بذلك مسرحيات (بيراندللو)، (جيرودو)، (جانتيوم)، وأن الرمزية المستحدثة أصبح مدارها خفايا النفس وبواطن الأشياء، وهو ما عبر عنه بشر فارس في مقدمته:(استنباط ما وراء الحس من المحسوس. . . الخ).
وقبل أن ننتقل من هذا نود أن يقف القارئ على آراء علماء اليوم فيما كتبه (ريبو) خاصاً بالمخيلة التي هي أساس في كتابه المذكور، وذلك كما وردت في مؤلف كبير يدرس اليوم في جامعة السربون بباريس، وضعه جمهرة من علماء فرنسا:
(يلوح لنا أن علم النفس عند (ريبو) في مسائل المخيلة والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة)، ومن ذلك نرى أن حديث (ريبو) عن المخيلة في جميع العناصر المختلفة، قد أصبح موضع نظر، بعد أن بين الفيلسوف الأمريكي المعاصر (وليم جيمس) وغيره، أن مجرى الضمير متصل متلاحق من حيث إنه حقيقة متحركة، ومن حيث إن الفكر في تطور دائم، وكذلك قرر (بيرجسون) الفيلسوف الفرنسي المعاصر، أن الحياة النفسانية اندفاع وابتداع في زمن متصل الحركات.
(البقية في العدد القادم)
زكي طليمات
رسالة الشعر
في رياض نيسابور
أسطورة الخيام
للأستاذ إبراهيم العريض
- 1 -
في أرضِ إيرانَ حَيثُ الْهُضْبُ لابسةٌ
زنارها
من الثُّلوجْ
كالْحُورْ
تستقبلُ الشمسَ. . . والأنهارُ هامسةٌ
أسرارَهَا
بينَ المرُوجْ
للنُّورْ
جلا الربيعُ بنَيْسَابُورَ موكبهَ
…
فزادَ عيداً إلى أعيادِها الأُخرِ
يا ناعماً في رُبوعِ الخلْدِ ليلتَه
…
مستْ خُطاكَ ثرَى الوادي معَ السحر
فلم تزلْ خُفراءُ الطْيرِ تهتفُ في
…
أفْنانِها لجنُوم الأرضِ بالخبر
حتى تلأْلأْنَ في ضوءِ النهارِ ثنًى
…
وفُزْنَ منكَ فُرادى بالشذى العطِر
فالزهرُ في قاعِها يفترُّ مبْسَمُه
…
يا ليلُ! هل صبغَتْ فاهُ يدُ القمر
والعشبُ مِنْ حولهِا يزهو بخُضْرِته
…
يا أفقُ! هل هو مَيْدَانٌ إلى النظر
والطيرُ من فوقِها في ظلِّ وارفةٍ
…
يا غصنُ! هل أخذتْهُ رشةُ المطر
والنهرُ من تحتهِا في موجهِ ألقٌ
…
يا شمسُ! هل هو مِرآةٌ إلى الشجر
إني لأسمعُ في أرجائها ضَحِكاً
…
كنغْمَةٍ بعثنْها هزَّةُ الوتر
يا مَنْ يُؤَمِّلُ في الفِرْدَوْسِ بُغْيَتَهُ
…
قررْتَ عْيناً بها في هذهِ الصُّور
لبِّ الحياةَ فقد عمَّتْ بدعوتِها
وما الربيعُ سوَى تجْدِيدِ ذِكراها
- 2 -
أَتَى الربيعُ إلى الدُّنْيا كعادتِه
بما اجتناهُ
منَ الْجِنانْ
مِلءَ اليَدِ
فكادَ يُشْغلُ عنها في عبادتِه
بما رآهُ
مِنَ الْحِسَانْ
في المعْبَدِ
وأَقْبَلَتْ تتَهادَى في غلائِلِها
…
بنْتُ الْجِنان تُحيِّيها كَحَوَّاءِ
لو حاول الليل أن يغْزُو غدائِرَها
…
لماجَ يسألُ أَيْنَ الكوكبُ النائي
تضاحَكَ الورْدُ لما قِبلَ وَجْنَتُها!
…
أكنتَ (يا وردُ) مَشْغُوفاً بإطراءِ
فأسفرتْ عن مُحيّاً في بشاشَتِهِ
…
يكادُ يَقْطُر مِنْهُ الحسْنُ كالماء
شفَّ الحريرُ الذي وارَى ترائِبَها
…
عن فاتِنَيْنِ. . . فهل هَمَّا بأشْيَاء
لم تسْحَبِ الذيل فوقَ الزْهرِ سائرةً
…
إلا ومالَ يُزَكِّيها بإيماء
حتى أتَتْ مَحْفِلاً في الروضِ مُنزوِياً
…
قد لاذَ في السُّكرِ أَهْلوهُ بأفياء
هذا أخُو شْيبَةٍ ألْقَى اليَرَاعَ عَلَى
…
ما خطَّه وانْثَنى في شبهِ إغفاء
فهيَّأتْ كأسَه حتى إذا نظرَتْ
…
ما في الصحِيفةِ غنَّتْ للأحِبَّاء
والشَّوْقُ في دمِها والعُودُ في يدِها
…
يُعيدُ نغمتَها الأُولَى بأصْدَاء
يا نائماً في ظِلاِل الكرْمِ وابنْتُه
في الْحُلْمِ تُؤْنِسهُ قُمْ وَارْتشِفْ فاها
- 3 -
هَذا الجمالُ الذي كَمْ وَدَّ ناظِرُه
في مَيْعةٍ
من صِباهْ
لوْ نَالهْ
يا وردُ! مِثْلَكَ إن حَيَّاهُ شاعرُه
بنَغْمَةٍ
من هواهْ
أصْغَي لهْ
شِيرينُ غنَّيتِ صوتاً كانَ يُطْرِبُني
…
ليتَ الأحِبَّاَء عادوا لي مع النغَمِ
ناموا وهدْهدَتِ الأزهارَ بعدَهُمُ
…
يدُ الربيعِ على عَيْني فلمْ تنم
ذكَّرْتِني بشبابي إذ تطوفُ بهِ
…
في باحةِ الْخُلْدِ آمالٌ مَدى الْحُلم
إذ كنتُ أُطُلق نفسي في سجِيَّتِها
…
فلا تني السْبقَ من جرىٍ على قدم
أشكو مواقعَ عينَيْ كلِّ فاتنةٍ
…
مفتونةٍ بالذي أجلُو من الشَّمم
باحتْ بسر شكاةِ القلْبِ رائعةٌ
…
تلوحُ كالبرْقِ في داجٍ من الظُّلم
ما للبياضِ أحالَ الله جِدَّتَه
…
يُفْضي إلي الهمِّ لا يفضي إلى الهمم
نُعِدُّ للصَّبْرِ أنفاساً محرَّقةً
…
حتى تحولَ رماداً فَحْمَةُ اللِّمم
لأقْطعنَّ نِياطَ القلبِ إن وَجدَتْ
…
نفْسِي سبيلاً إلى غرْسِ المُنى بدمي
فلو سَفرْتُ عن الآمالِ كانَ بها
…
ما بي من الزمنِ الموفىِ على الهرم
فَجَدِّدِي لَيِ باللَّحْنِ الجميلِ رُؤىً
لا زلتُ تحتَ ظِلالِ الكرْمِ أرْعاها
- 4 -
يا طرْفَها! إنَّهُ قضَّى الحياةَ إلى
مَشيبِهِ
في اكْتِنَاهِ
الشُّهْبْ
وظلَّ مُجِمَرُه في الأرضِ مُشتِعلا
بطيبِه
لإِلهِ
الْحُبْ
شِيرينُ حُسْنُكِ أَعْطَى الأرْضَ زِينتَها
…
حتى ولو لم يَزِنْها كفُّ نَيْسانه
فكيفَ والطيرُ قد بلَّ الندى فمهُ
…
فطارَ يَمْلأُ مَغناها بألحانه
هذا الربيعُ قد استلقى بحاشيةٍ
…
من الزهورِ على الوادي وشطآنه
يُصيخُ للبُلبل العِربيدِ وَهْوَ على
…
أُرجوحةٍ من نسيمِ الرَّوْضِ أو بانِه
يَهُزُّ أرجاَءها هَزّاً بنغْمتهِ
…
ولا يُفيقُ كأنّ السُّكرَ من شانه
فلقِّنيهِ من الألحانِ أطربَها
…
إلى النفوسِ وجازِيه بإحسانه
وبادِلي الرَّوْضَ أنفاساً مُعطرة
…
فما أرقَّ الصَّبا في ظلِّ أفنانه
وضاحِكي الوردَ في إِباَّنِ حُمْرَتِهِ
…
فَرُبَّما عادَ مطوِيّاً لأشجانه
ودونَكِ النهرَ فأنْسَيْ في تدفُّقِهِ
…
هذا القميصَ الذي يُزْري بإِنسانه
أما كَفى الْحُسْنَ أنَّ الَموْتَ يَرْصُدُهُ
…
فماله في الصِّبا يسعَى بأكفانه
وقَبِّليِ الكاسَ ما دامتْ مُشَعْشَعَةً
ولا تشِحِّي على ثَغري ببُقياها
- 5 -
يا رَّبةَ الْحُسْنِ! إنَّ السُّكْرَ مَبْعَثُهُ
عَيْنَاكِ
وحْدَهُمَا
لا الكاسْ
وَأَيْنَ من شفَتَيْكِ السِّحْرُ ينْفثُهُ
صرْعَاكِ
باسمِهِمَا
في الناسْ
طافتْ عليهمْ بها كالشَّمْسِ ساطِعَةً
…
يُري عَلَى الخدِّ من لأْلأَئها شفَقُ
فعبَّ فيها ثلاثاً وَهيَ تسْنِدُهُ
…
حتى تماسَكَ فيِ أَحْشائِهِ الرمق
وعاوَدَ العُودَ شْيءٌ مِنْ تملْمُلِهِ
…
لما غَدَا العُودُ بيْنَ الجمرِ يحتْرِق
فظلَّ يبعثُ فِي الأَسْمَاعِ أَنَّتَهُ
…
مَوْصُولَةً دُونَ أن ينتابَها قلق
ثم استمرَّتْ تغُنِّيهم - بما حملتْ
…
يدُ الربيع لهم - والعُودُ يصْطفِق
(يا عَاشِقَ الوَرْدِ! ما جاَء الربيعُ لكيْ
…
يحْيا حبيبُكَ مَحْفُوفاً به الودق)
وصوْتُها ماجَ بحراً لَا هُدُوَء لهُ
…
من كلّ نجْمٍ عَلَى أَمْوَاجِهِ الق
يعْلو، فتحْسبُه شقَّ القلوبَ إلى
…
حبّاتِها، وَطوى آلامَها الغرق
حتى إذا خفَّ - مغْموراً بمْوجَتِه -
…
شيئاً فشيئاً، تراَءى حولَها الأفُق
فمالَ كلُّ ندِيمٍ في ترنُّحِهِ
…
على سِوَاهُ من الصوْتِ الذي عَشِقوا
فاقْطِفْهُ في زَهْوِهِ. . . وانْظُرْ إلى دَمِهِ
هل مَازَجَ الكاسَ إِذْ تُسْقِي وَتُسْقاَهَا
- 6 -
باتَ الهزارُ بقرْبِ الوردِ يَعْبُدُهُ
يا طَلُّ
كُنْ كالْخَمْرِ
رقْراقا
وقُلْ إلى النَّجْمِ إِنَّ الفَجْرَ مَوْعِدُهُ
يَظَلُّ
حتَّى الفجرِ
برَّاقا
وتمَّ للشَّمْسِ في الأفلاكِ جولتُها
…
فجاوَزَتْ بخُطاها الغرْبَ في خفَرِ
وظلَّ من بعدِها ما أحمرَّ من شفَق
…
يسائِلُ الأرضَ هل غابت عن النظر
فانفضَّ في الرَّوْضِ حفْلٌ كان مُنشِدُه
…
من الطيورِ وساقيهِ من الزَهر
وأقبلَ الليلُ يحْدُوه تطلّعُهُ
…
إلى الذي خَلَّفَ النُّدمانُ من أثر
يا ليلُ أنفرطَ العِقدُ الذي امتلأَتْ
…
به يداكَ ففاض الكوْنُ بالدُّرر
لولا سناها لما عاينْتَ شاعرَهم
…
وقد توسَّد كفّيْهِ على النهر
بجنبِ شيرينَ مأخوذاً برَوْعةِ ما
…
تُدليهِ في مائه الجاري من الشَّعر
ووجهُها باسمٌ يُغني بطَلعتِه
…
عن الشُّمُوعِ ويُمناها على الوتر
قال: انظُري كيفَ يبدُو في الظلام لنا
…
سرُّ الجمالِ الذي يخفَى مَعَ السحَر
شِيرينُ! لو كانَ لي بْعدَ البِلى أملٌ
…
لما تَمنَّيْتُ إِلاّ ثانِياً عُمُرِي
فعشتُ في هذهِ الدنيا كعهْدِكِ بي
للحُسْنِ. . . يُشعِلُ لي ناراً فأغْشاَها
- 7 -
لِلحُسْنِ فينا - كما فيهِ لنا - وطَرٌ
مَنْ لمْ يَحُمْ
بَينَ يَدَيْ
نُورِهْ؟
عاشَ الندامَى. . . وحَلّى كأسَهُمْ قَمرٌ
على النغَمْ
مِنْ عَرْشِ دَيْجُورِهْ!
عادَ الربيعُ لنيْسَابورَ ثانِيةً
…
وقدْ تبدلَ زاهي أمْسِها بغدِ
فكانَ في الموكبِ التالي كسابِقِه
…
يَمْشي معَ الْحُسنِ مُخْتالاً يداً بِيد
كم ذابَ قلبُ هزارٍ في ترنمِهِ
…
حتى تضوعَ هذا الزْهرُ وهْوَ ندِ
عادَ الربيع وقد حف الْحِسانُ به
…
إلا الذي كانَ يهْوى الْحُسْنَ لم يعْد
سلِ الوُرودَ وقد وارتْ بكلَّتِها
…
ضريحَهُ لَمِ لمْ تُكْثِرْ من العَدد
هُناكَ حيثُ قديماً طابَ مَحْلُفِهُمْ
…
حلَّ الندامَى على أنماطِها الْجُدد
عادَ الربيعُ. . . فلا ردُّوا تحّيتّه
…
إلا بأحْسَنَ منها - دائِمَ الأبد
بِشُعْلَةٍ في يدَيْهاَ رُوح شاعِرِهِمْ
…
مثْلَ الفراشِ حوالَيْها معَ الحشد
حتى إذا تمَّ دوْرُ الكاسِ بْينَهُمُ
…
مالتْ إلى القْبرِ بالباقِي ولم تكد
فرددتْ قولَه - والعودُ في قَلقٍ
…
تهْتزُّ أوتارُهُ من صَوتِهاَ الغرِد -
(واضَيْعَةَ الكاسِ يوْماً إن عثَرْتِ بها
على رُفاتي. . . فلَمْ أَنْعَمْ بِرُؤْياها)
(البحرين)
إبراهيم العريض
رسالة العلم
قصة الفيتامين
ظهور مرض البري بري
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 4 -
لقد كان من عادة الأطباء الهولنديين الذين قاموا بخدمات خارج بلادهم في المستعمرات الأسيوية الشرقية ألا يركنوا إلى الدعة والاستقرار إذا ما اطمأنوا إلى العيش - كيلا تبلد فيهم حاسة التفكير أو تصدأ روح الاستطلاع - بل كانوا في أوقات فراغهم يعملون ما يعود عليهم بالتسلية والنفع - فحوالي عام 1890 وُكل إلى الطبيب الهولندي كريستيان إيكمان إدارة مستشفى حكومي في جاوه وكان مولعاً باقتناء الطيور المنزلية ويعيرها بعض عنايته ويخص منها الدجاج والحمام. ولم يطل به الانتظار حتى تسنّى له مشاهدة بعض الملاحظات. إذ رأى أثناء نظره إلى طيوره نظرة الفاحص وهي تمرح في الحديقة - بعضها تغدو ثقيلة الحركة بطيئة الخطى وبعضها الآخر قد فقد توازنه. ولكن لم تدم هذه الحال طويلاً فقد أصابها تصلب في عضلات الرقبة لاقت بعده حتفها.
بهذه المشاهدات الأولية وُضع الحجر الأساسي لدراسة مرض البري بري في الهند الهولندية، وهو المرض ذو الأثر السيئ في حياة الشرق الأقصى والذي لم يكتف بخطف ضحاياه من الكبار بل كان يهدد الصغار في مطلع حياتهم بشكل مخيف ويحمل هذا المرض اسمه من شكل الحركة المتصلبة في مشية الخروف والتي تبدو على المصابين، وتدل كلمة (بري بري) في اللغة الهندوستانية على الخروف، وهنا نرى نجاح الدكتور ايكمان في اختيار هذا اللفظ للدلالة على هذا المرض نظراً للتشابه التام العجيب بين أعراض هذا المرض في الإنسان وفي مشية الخروف.
سرى مفعول هذا المرض خاضعاً مماثلاً للوصف الذي أشار إليه ايكمان بناء على ملاحظاته على دجاجة، وحمامة ولم يقتصر هذا المرض الذي ذهب ضحيته قديماً مئات الآلاف على موطنه الأصلي في آسيا الشرقية بل تعداه إلى جنوب أمريكا وأفريقية وأزهق
في اليابان في مدى سنين قلائل خمسين ألفاً من الأنفس وفي الحرب الروسية اليابانية خمسة وسبعين ألفاً من الروس ذهبوا جميعاً بطريقة مماثلة للطريقة التي لاقت بها طيور ايكمان حتفها.
تبعاً لالتهاب عصبي عام يقف عمل الأرجل وتضرب عن حركتها الحرة، وتذهب حساسية الجلد، وتشل العضلات نظراً لعدم استعمالها أو القدرة على تحريكها، وتضمحل وتضمر الأطراف السفلى حتى العجز، وأخيراً يهبط القلب ويتجمع الماء في الأنسجة ويعقب ذلك النهاية المحتومة.
ومذ اكتشف حوالي عام 1880 أن الأمراض الناقلة ترجع إلى وجود دقائق حية - عُزي كذلك انتشار مرض البري بري إلى تلك الكائنات الدقيقة - ولقد ذهبت عبثاً جهود الوفود الطبية التي أرسلتها الدول إلى البلاد الموبوءة للكشف والبحث عن مسببات مرض البري بري.
ولا عجب إذا سلّم الدكتور ايكمان بهذا المبدأ السائد وعمل على فصل الدجاج الجديد الذي اشتراه عوضاً عن الفاقد وأبعده عن بقية الدجاج المصاب منعاً لانتقال عدوى الالتهاب العصبي - ومع هذا لم تمنع هذه الاحتياطات الجدية من إصابة الدجاج والحمام الجديد - ولكنه عندما بدأ يغير لها أصناف أكلها لم يقف تقدم المرض في الحيوانات الجديدة فقط بل تحسنت كذلك حالة الطيور القديمة المريضة ولما تبين الدكتور ايكمان هذه الحقيقة فطن إلى أن بقايا الأرز التي ترسلها مطابخ المستشفى بسبب ما - لا تصلح لغذاء طيوره فأحب شراء ما يلزمها من حبوب الأرز من خارج المستشفى ومن هذا اليوم وقفت تماماً تطورات أعراض مرض البري بري.
ولكنه في كلتا الحالتين - حالة المرض السابقة وحالة زواله - استمر إطعام الطيور بحبات الأرز. فما سر هذا الانقلاب إذن؟ ببحث الطبيب وتقصيه تبيّن له اختلاف نوعي الأرز الذي أطعمه طيوره، فالأرز الذي قدمه للطيور من مخلفات مطابخ المستشفى حتى يوم الانقلاب كان مقشوراً أبيض. أما الآخر الذي اشتراه من السوق فكان حافظاً لقشوره وما زال بأغلفته. لم يبق شك لدى الطبيب ايكمان في الصلة بين قشرة الأرز وهذا المرض بعد أن أوضحتها التجربة وأبانتها الخبرة، ولما تأكد من نتيجته هذه أراد أن يعبر عليها إلى
مرض البري بري في الإنسان كي يحصل على نتيجة أخرى أهم وأجدى، ويصل إلى معرفة سبب إصابة بلاد الأرز بهذا المرض العضال.
وكان للياباني تاكاكي فضل السبق ببضع سنين في الوصول إلى أن مرض البري بري لا صلة له أصلاً بنظريات العدوى والانتقال، وصرح بأن هناك صلة بين البري بري ونوع الغذاء العام.
فهل يا ترى لم يتم بعد - حتى مع الاكتشاف العرضي للبري بري في الطيور - فتح ثغرة ما تلقى شعاعاً من نور يبدد هذه الظلمات والتخمينات؟
بحماس أكيد ورغبة صادقة تقد الدكتور إيكمان لترتيب تجاربه السابقة العرضية، فبدأ بمجموعتين صحيحتين من الدجاج والحمام، أطعم أولاها أرزاً مقشوراً، فما لبثت طويلاً حتى استشرى بينها المرض وتفشى فيها الداء ولم تقو أرجلها على حملها وذهبت سريعاً صرعى. أما المجموعة الثانية فأطعمها أرزاً غير مقشور، فلم تظهر عليها أعراض ما، وظلت صحيحة سليمة، ولما أبدل الغذاء لكلتا المجموعتين (بأن قدم لكل واحدة ما كان يقدمه للأخرى). انعكست الصورة فبرئت الطيور السقيمة، وظهر على الصحيحة أعراض الإصابة بالبري بري.
طار بعدئذ إيكمان ظفراً وفرحاً لوصوله إلى النتيجة وإن لم تكن كلها، لأن تعليله في شرحه للظواهر التي فطن إليها كان مستقيماً وكافياً إذ ذاك - ولو أنه غير متمشٍ مع الحقائق الثابتة - واعتقد إيكمان باحتواء حبات الأرز على نوع من السم ساري المفعول في الإنسان والحيوان، ويكون مرض البري بري نتيجة أو أعراضاً لفعله في الجسم وسريانه فيه، كما اعتقد بأن الترياق المضاد لهذا السم والذي يفسد مفعوله كامن في قشور الأرز. فأكل الأرز إذن مع قشوره ضمان لمصاحبة الترياق الشافي. وبهذا قضى البحاثة الهولندي على النظرية الخاطئة السائدة حينذاك عن انتشار البري بري أو الإصابة به عن طريق العدوى. وللإيضاح يجب التنويه بأنه ليس هناك شيء في حبوب الأرز، ولكن هناك شيئاً ينقصها، وتبعاً لنقص هذا الشيء أو غيابه في الطعام العام يستسلم الإنسان والحيوان للمرض؛ ولمعرفة هذا الشيء احتاج العلم لأكثر من عشر سنين لاحقة لهذا التاريخ.
ولقد كاد النسيان يطوي هذه النتائج الباهرة للبحاثة الجليل الشأن إيكمان، ولم ينل من
جهوده أي غنم أو مكسب إلا بعد مضي ثلاثين عاماً إذ حصل مع زميله الإنجليزي الكيميائي هوبكنز على جائزة نوبل في عام 1929.
واعترض طريق إيكمان كثير من العقبات عندما جاهر بنتائجه التي قلبت كل قديم وكل مسلمة رأساً على عقب، ولم تسلم هذه النتائج من الطعن والتجريح، ولم تدّعم وتثبت إلا في عام 1910 عندما رحل الطبيب الألماني ماكس موسكفسكي إلى فينا الجديدة في وسط أفريقية للبحث والتنقيب عن البري بري، وكان قد مهد لبحثه بقراءة ودرس ما كتب حتى ذلك الوقت ومطالعة المذكرات الصحيحة والمطبوعات عن مرض البري بري ورأى ما صرح به إيكمان الهولندي عن نتائجه واتخذ كل هذا دليلاً ومرشداً، وأخذ يجمع المعلومات من الوطنيين سكان البلاد. وكان من ضمن ما حصل عليه من أقوال هؤلاء المواطنين أن المرء يستطيع تحصين نفسه ضد البري بري أو الشفاء من أعراضه عند سقوطه فريسة له إذا ما تناول بجانب وجباته نوعاً من الفاصوليا يسمى (الفاصوليا المشعة) وفي لغة أهل الهند الهولندية:(كاتيانج إيدجو) وقد يكفي حتى منقوع هذا البقل في الماء بعد غليه فيه، فاستنتج موسكفسكي من هذا أن هناك شيئاً في قشور الأرز والبقل المذكور (الفاصوليا) ضرورياً جداً لحفظ الصحة وعند غياب هذا الشيء ينشط التهاب الأعصاب وأن هذا الشيء ليس بالبكتريا ولا بالسم.
وفرض على نفسه ورجال بعثته ألا يأكلوا سوى الأرز المطبوخ في ماء من منقوع الفاصوليا - وبدلاً من انتظار ظهور أعراض المرض التي لا تسلم منها أبداً أمثال هذه البعثات - تمتع هو ورفاقه بصحة موفورة طوال عام عاد بعده إلى وطنه ألمانيا يفاخر بتغلبه على هذا المرض.
وكما يقول المثل (زامر الحي لا يطرب) أو (لا يُسمع النبي في بلده) كذلك شهر الناس بمسكفسكي وسفهوا رأيه، ولكنه لكي يبرهن على صحة أقواله ويدلل على أن مرض البري بري ليس من الأمراض المعدية التي تنتقل بالعدوى وأنه مرض يتصل اتصالاً كلياً بغذاء الإنسان وما يعده لطعامه - قام بإجراء التجربة على نفسه معرضاً حياته النافعة للخطر المحقق، وفي سبيل العلم ومنفعة بني الإنسان امتنع عن جميع ألوان الطعام العادية غير الأرز مدة أربعة شهور ونصف شهر. وكانت النتيجة الحتمية طبعاً أن وقع مريضاً يرزح
وينوء بمرض البري بري في أشد أعراضه وصوره. وعندما بلغ به المرض مبلغاً كبيراً وأصبح خطراً يهدد حياته أخذ يعمل على دفع الداء ولكن ليس بالامتناع أصلاً عن أكل الأرز بل بالاستمرار عليه مع إضافة صنف آخر من الطعام هو حساء من قشر الأرز، ولا عجب أن اختفت تماماً أعراض المرض بعد أسبوعين اثنين.
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي
البريد الأدبي
مجاملة أدبية نبيلة
تفضل الأستاذ عبد الفتاح محمد قنصوه صاحب جريدة (الإصلاح) بالسنبلاوين فدعانا إلى زيارتها لنتلقى التحية التكريمية لأسرة الرسالة من رجال الصحافة وشباب الأدب؛ وشاء للأستاذ فضله أن يجعل هذه الدعوة مظهراً فخماً من مظاهر الحفاوة والعطف فأقام لها سرادقاً وحشد إليها وجوه القوم وأعيان الفضل يتصدرهم صاحب العزة الأستاذ محمد عوض إبراهيم بك وكيل وزارة المعارف السابق، والعالم الفاضل الأستاذ أبو الفتوح سليط بك وصاحبا الفضيلة الأستاذ مصطفى الصاوي المدرس بالأزهر، والشيخ أحمد حافظ سليط المحامي، والوجيهان الفاضلان محمود سيد أحمد سليط بك، وحامد طلبة صقر بك؛ ثم حفلت موائد الشاي بجمهرة مختارة من أهل المدينة، وتعاقب الكلام عليها صفوة من المبرزين في الخطابة والشعر والزجل. ثم خصصت (الإصلاح) لوصف الحفلة ونشر ما قيل فيها عدداً وبعض العدد.
ولا يسعنا إزاء هذا التكريم الخالص لفكرة الجهاد المشترك في سبيل الله والوطن والأدب إلا أن نسجل في هذه الأسطر القليلة معنى من الشكر القلبي الدائم الذي لا يتقيد بالألفاظ ولا يتحدد بالمناسبة، لأسرة (الإصلاح) ولحضرات الأفاضل الذين شاركوا في هذا الترحيب بالقول أو بالفعل. ونسأل الله أن يديم على (الرسالة) التوفيق لاستحقاق مثل هذا التكريم من مثل هذا البلد العظيم.
الشاعر صالح جودت
أكتب إليكم هذه السطور من سرير المرض وقد ضاعف آلامي ما قرأته للصديق الدكتور زكي مبارك عن مرض صديقي الشاعر الموهوب الأستاذ صالح جودت، فقد شغلتني الهموم والأوصاب عن مكاتبته زمناً كما أقصته عني، ولكني ما كنتُ أقدر له إلا العافية والأنس فإنه مرآتهما المتألقة لكل من عرفه وخالطه، وليس في وسعي أن أتخيل صالح جودت إلا مثال الشاعرية الرقيقة السليمة المرحة خلقاً وكياناً.
وقد بالغ بل أخطأ صديقي الدكتور زكي مبارك في قوله إن صالح جودت يحقد عليه أبشع الحقد لسكوته عن التنويه بمواهبه الشعرية، وإنه كان يتقاضاه الكلام على شعره في كل
لقاء. أجل، أخطأ في تفسيره هذا لعبث ودي ولمداعبة بريئة، فما عرفتُ عن صالح جودت هذا الخُلق المنقود في أي حال، وإن عرفتُ منه أنه لم يكن في أي وقت يحترم موازين النقد الأدبي لدى صديقي الدكتور زكي مبارك، وكلاهما لا يحسن الظن بشعر صاحبه!
وإني أوافق الصديق الدكتور زكي مبارك على قوله الحكيم إن كل شيء يجوز فيه التشجيع إلا الأدب والبيان فالتشجيع هنا مفسدة، بيد أن ما احتاج إليه الأدب والبيان في مصر زمناً طويلاً إنما كان (الإنصاف) وهذا ما أباه الأدباء الشيوخ على الأدباء الناشئين، ولكن الأحوال تبدلت الآن وتعددت المنابر الحرة لأدباء الشباب وانتفت دواعي شكاواهم.
ولا أعد قصيدة صالح جودت (شاعر العيون الزرق والشعر الذهب) إلا مثالاً لشاعريته الأصيلة التي فات صديقي الدكتور زكي مبارك الالتفات إليها من قبل حتى وجد الجو العاطفي الملائم لعقله الباطن فبدأ يستجيدها الآن وإن علل ذلك تعليلاً جديداً. ولعل كلمته النبيلة رسول الشفاء القريب إلى صديقي الشاعر الغرّيد الذي أعده نسيج وحده في فنه.
(الإسكندرية)
أحمد زكي أبو شادي
أهذا توارد خواطر؟
سيدي الأستاذ رئيس التحرير
بعد التحية: قرأت في عدد مضى من الرسالة مقالاً للأستاذ محمد عبد الغني حسن بعنوان (المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها) وقرأت في العدد 376 من الرسالة تعليقاً على هذا المقال للأستاذ محمود المرسي خميس. وقد تذكرت عند قراءة كلمة الأستاذ محمود المرسي أنني قرأت قصيدة لشاعر عباسي يقول فيها:
أغار على أعطافها من ثيابها
…
إذا لبستها فوق جسم مُنَعَّم
وأحسد كاسات يقبلن ثغرها
…
إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
ثم قرأت بعد ذلك في الجزء الأول من ديوان الأستاذ علي الجارم قصيدة بعنوان الحب والحرب جاء فيها البيت التالي:
إني أغار من الكؤوس فجَنِّبي
…
كأس المدامة أن تقبِّل فاكِ
وأنا أقول إن المعنى منقول وإن هذا ليس بتوارد خواطر.
والأستاذ محمد عبد الغني حسن محق في قوله إن المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها ولكن لا ننكر أن للشاعر الذي يبتكر المعنى ويكتبه لأول مرة لا يمكن أن يساويه من ينقل عنه هذا المعنى ويصوغه في قالب آخر. والسلام.
(كوم حماده)
فؤاد كامل
بين الأستاذ مختار الوكيل والبارودي
جاء في مرثية الأستاذ مختار الوكيل التي رثى بها الهمشري البيت الآتي:
فإذا هجعت فأنتَ في أحلامي
…
وإذا مشيت فأنتَ أنتَ أمامي
ولقد سبقه إلى هذا المعنى البارودي إذ قال في المرثية التي رثى بها زوجته:
فإذا انتبهت فأنتِ أول ذكرتي
…
وإذا أويت فأنتِ آخر زادي
فما رأي حضرته في ذلك؟
(ببا)
محمود عبد المطلب حسين
(الرسالة) الحق أن الشاعرين قد نظرا إلى قول التهامي في
رثاء ولده:
فإذا نطقت فأنت أول منطقي
…
وإذا سكت فأنت في إضماري
الطابور الخامس في القرآن
في الحق أني مفتون بما تطالعنا به عبقرية صاحب هذا العنوان الجميل. . . ذلك أن الأستاذ الباحث يكشف لنا عن أسرار القرآن ما تزال تبرق جلواؤها على دولاب الزمن كلما تواترت الأجيال، وتزايلت الحضارات، والأستاذ مصور بارع، إذ نقل عالم قائد العروبة إلى دنيا زعيم النازية، واستطاع بعد ذلك أن يصور لنا بالدقة كيف كانت
المشابهات والملابسات بينهما - مع ملاحظة الفروق بين الزعيمين - وتباعد الشقة بين عصريهما. وهو ضرب من التوفيق والتطبيق لم يتح إلا لفنان أديب.
وحرصي على استبقاء توفيقه في تحري البحث - يدفع بي إلى أن أشعره بما قاله من التوفيق في الحلقة الثالثة من نظيم مقالاته - ذكر في العدد 372 من الرسالة الغراء تحت شرحه لغزوة الأحزاب (ثم ساروا - أي (جماعة من يهود بني النضير بعد إجلائهم عنها) إلى غطفان. فأعدوها لحرب النبي - وخرجت قريش وغطفان يريدون المدينة).
وحقيقة التاريخ أن بني النضير بعدما أجلوا عن المدينة مرغمين لم تهدأ لهم ثائرة، بل عملوا طاقتهم ليثأروا من الرسول وأصحابه. قام سيدهم حُسَبيُّ بن أخطب ومعه سلام بن أبي الحقيق النضيري وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان بدعاية واسعة النطاق ليؤلبو العرب جميعاً على غزو المدينة وحرب المسلمين حتى يستأصلوهم.
ولقد جعلوا نصب أعينهم تلك القبائل التي بينها وبين المسلمين شر. فعمدوا أول ما عمدوا إلى قريش وهي صاحبة المواقف الجليّ مع الرسول، وأبرموا معهم أمراً. ثم خرج أولئك الدعاة إلى غطفان وحدثوهم بما حدثوا به قريشاً وبيتوا عليه. وفي النهاية جعلوا لغطفان نصف ثمار خيبر سنة كاملة إن هم نصروهم حتى يتم لهم الفوز. ومضوا إلى بقية الأحياء المعادية فطافوا على بني أسد وسليم وهذيل، وبعد أشهر كانت هذه الأحزاب قد أتمت جهازها للغزو. ففي شوال من السنة الخامسة خرج أبو سفيان ابن حرب على رأس أربعة آلاف مقاتل من قريش وأحابيشها يحمل لواءهم عثمان بن طلحة العبدري الذي قُتل أبوه على لواء المشركين يوم أحد، ولاقتهم بنو سليم بمرّ الظهران في سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وخرج معهم بنو أسد بن خزيمة يقودهم طليحة بن خويلد، وجاءت فزارة في ألف رجل يقودهم عيينة بن حصن القزاري، وبنو مرة (من ذبيان) في أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف المُرّيّ، وبنو أشجع في أربعمائة كذلك يقودهم مسعر بن رخيلة، ولحق بهم بنو سعد (من ذبيان) وانضمت إليهم اليهود حتى تكامل عددهم عشرة آلاف جندي مقاتل.
من هذا يتبين أن كتائب المتحزبين لم تكن من قريش وغطفان فحسب، ولكن كانت قوة هائلة تكونت من مجموع هذه القبائل والبطون التي في قلبها من الرسول دخن.
هذا ما أردت أن أذكر به الأستاذ صاحب البحث. وآمل أن يكون على ذكر منه لكن نكّب عنه مخافة الإسهاب، لكني مع هذا الأمل لا تطاوعني نفسي أن أجامل أستاذنا إلى هذا الحد الذي قد يتهمني فيه خاطري وضميري بالممالقة والمداخلة ما دام المقام مقام تشريح وإطناب. ولأنه إذا تحتم علينا أن نصحح تاريخاً لزعيم فأجدرُ شيء بنا أول ما نعني أن نصحح تاريخ الزعيم الأول، تاريخ الرسول الأعظم.
عبد الحميد إسماعيل
حول سؤال وجواب
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة
نسب أحد القراء إلى الأستاذ القدير زكي مبارك غلطة إعرابية في بيت شعر أورده في مقال له.
وقد اطلعت على عدد الرسالة 377 فراعني ما كتبه الدكتور رداً على من لفت نظره إلى خطأ أصابه، إذ قال:(لو كان هذا القارئ يعرف أني في الإنشاء أسرع من أقدر الناسخين لفهم أن من الجائز أن يندّ القلم فيرسم الضمة فتحة) وهذا تعبير له شأنه، فالمرء لا يشكر على السرعة، وفي المراجعة تصحيح لندود القلم.
ماذا يضير الأستاذ لو اعترف بالزلة ولكل عالم هفوة! وأي غبار يلحق قلمه الفياض إذا صرح بأن الخطأ مطبعي لا ذنب له فيه؟
أظن أن الدكتور استعظم الأمر فوجه امتحاناً على صفحات الرسالة إلى ناقده والناقد بصير قال: (هذه عشرة أسئلة فيها ما تعرف وفيها ما تجهل وفيها ما تذوق) هل اطلع على الغيب أم فحص مواهب صاحبه بمجهر بلاغته، أم نسي نتيجة البحث والاطلاع وقت تحرير أسئلته؟
ليت الأستاذ يتذكر أنه وصم الجيل الجديد وهو فيه بقلة الصبر على متاعب الجهاد في مقالته. وبعد فيا حبذا لو عامل الأدباء بالحسنى دكتورنا المبارك ليكثر رواد سوق الأدب.
عبد الله عبد التواب
تفسير بيتين
أفاد الأستاذ ناجي الطنطاوي على صفحات مجلة الرسالة سائله من اليمن عن قائل هذين البيتين:
بذكر الله تزداد الذنوب
…
وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه حالاً
…
فإن الشمس ليس لها غروب
فقال إنه وجدهما في ديوان محيي الدين بن عربي. غير أن هذه الإفادة قد أوجدت إشكالاً آخر وهو أن الناظر إلى هذين البيتين يجدهما غامضي المعنى أو هما على الأصح على طريقة الصوفية التي تشير إلى الباطن أكثر مما تشير إلى الظاهر كقول أحد الصوفية ولعله ابن عربي نفسه (معبودكم تحت قدمي). فهل للأستاذ ناجي أن يتفضل مرة أخرى فيحل هذا الإشكال؟
الأبيض - سودان
ع. ا. سعد
اتهام
طالعت في عدد (الرسالة 376) كلمة (اتهام) بالرجوع إلى مجلة الشباب في كتابة (عمر الخيام) وهو الموضوع الذي نشرته لي مجلة (الثقافة) بعددها 86 الصادر في 30 أغسطس سنة 1940 ولقد استأنست ببحث الأستاذ (خليل جمعة الطوال) ورجعت إلى المصنفات التي استقى منها بحثه عن الفيلسوف الخيام هذا وإنني حللت شخصية الخيام من الناحية العلمية.
وتحت يدي أعداد مجلة الشباب التي رجعت إليها في البحث فليرجع إليها من يشاء، ليعلم أن اتهام الأستاذ (محمود عساف أبو الشباب) لا موضع له، وقد كان الأجدر بالأستاذ انتقادنا علمياً لا اتهامنا تهمة هو مسئول فيها أمام ضميره.
وشكراً للأستاذ (خليل الطوال) فقد كان لنا في بحث الخيام مرشداً. ولم تأخذه حماسة صديقه أبو الشباب في قذف التهم من غير دليل.
عبد الحميد سامي بيومي
القصص
الهارب من الجيش
للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه
ترجمة الأستاذ حلمي مراد
يعد ألفونس دوديه (1840 - 1897) أبرع أدباء فرنسا في كتابة القصة القصيرة التي تدور وقائعها في جو الحرب المظلم الرهيب، وقد يرجع ذلك إلى معاصرته للحروب الطويلة التي نشبت بين فرنسا وألمانيا. . . وهو في تعبيره عن أرق وأعمق المشاعر وعطفه على الفقراء والمظلومين يشبه الأديب الإنجليزي المعروف تشارلس ديكنز وينحو منحاه. ومن مؤلفات دوديه الخالدة:(سافو) ثم (فرومون وريزلر) و (تارتاران) و (جاك).
. . . وقصة (الهارب) هي إحدى قصصه القصيرة التي نشرت في مجلد عنوانه (وسط غمار باريس). . .
رفع الرجل كأس البيرة إلى شفتيه وهو جالس أمام حانوته يرقب العمال، وقد تسربوا إلى الطريق ميممين شطر بيوتهم. . . حيث تنتظر كلاُ منهم زوجته وأولاده.
تلك هي الصورة التي اعتاد الناس أن يروها كلما مروا بحانوت مسيو جورج لوري الحداد. . . في مساء كل يوم.
. . . إلى أن جاءت ليلة خالف فيها مألوف عادته، إذ ظل إلى جوار النار المشتعلة في أتون حانوته، إلى ساعة متأخرة بعد غروب الشمس. . . ظل ساهماً شارد الفكر، يبدو عليه الهم وتعلو وجهه مسحة من الكآبة، غير عابئ بزوجته التي اشتد بها القلق لتأخره فانساقت إلى مخيلتها مخاوف وأوهام صورت لها صنوفاً من البلايا والأرزاء، فهي آناً ترى ابنها الذي اختطفته الحرب يروح ضحية مقذوف طائش، وآونة تخاله صريع المرض أو الجوع، تمتص الحمى دماءه في نهم وشره.
وأخيراً، حين عاد الزوج. . . عقد الخوف لسانها، فلم تجرؤ على تقصي جلية الأمر منه خشية أن يجيء جوابه معززاً لمخاوفها ومبعثاً للحزن والألم. . . فسكتت على مضض والقلق يعتصر قلبها فتعلو خفقاته ويشتد به الأنين.
أما هو فلم يسكت. . . بل قذف بالصحاف التي وضعتها أمامه حين جلس إلى المائدة. . . قذف بها إلى الأرض، فتحطمت محدثة ضجة أفزعت الأطفال فأجفلوا وجفت حلوقهم عن ازدراد ما في أفواههم من طعام. . . وكأن لم يكفه ذلك، فصاح على الفور:
- يا للأنذال المجرمين.
فقالت هي في لهجة تساؤل لينة: من تعني يا عزيزي، وماذا أغضبك؟. . . ولم تكد تتم قولها حتى زجرها بصياحه:
(من أعني؟ أتسألينني لم أنا غاضب؟ حسن، إذاً فاعلمي أني حاقد على نفر من الجبناء رأيتهم منذ حين، خمسة أو ستة حسبما أذكر - ما لذاكرتي تخونني كأنها تأبى أن تذكرني أهاجوا الدم في عروقي - ومع هذا فإني أذكر أنهم أخذوا يذعرون طرقات المدينة محتمين بالجند الألمان الذين ساروا إلى جانبهم دون أن يعرف الخجل إليهم سبيلاً. . . يا للحسرة ويا للألم، لقد هربوا من الميدان وفروا من واجبهم المقدس. . . لعمري أني لا أدري أي شراب هذا الذي سلبهم كل نخوة وإدراك. . . يا للعار!)
وهنا عادت الزوجة إلى لهجتها الوادعة فقالت: (خفف عن نفسك يا عزيزي ولا تتعجل في الحكم، فلربما عاودهم الحنين إلى بلادهم فآثروا التحرر من خدمة الجيش. . . أو ربما)
ولكنه لم يدعها تتم قولها إذ بادرها بالصياح:
(أو تجرئين يا خائنة على تبرير فعلتهم؟)
قالها وهو يلوح بقبضته الغليظة في الهواء، ثم ما لبث أن أهوى بها على المائدة واستأنف القول (ولكنك - كسائر النساء - تعجزين عن فهم شيء من أمور الدنيا، فلقد تأثرت عقلياتكن بسذاجة الأطفال وغطت غشاوة من الجهل على أبصاركن، فبانت الواحدة منكن لا تحسن التمييز بين الضعف والخيانة. . . أفلا تدركن ما قد فعل أولئك الأوغاد؟ إنهم لمارقون يجب أن تتبرأ منهم فرنسا بل وتلقي بهم إلى الموت. . . وإلا فإني - وقد أمضيت في الجيش سبعة أعوام كاملة - لن أتردد في الانزواء مبتعداً عن الأرض التي يطئون بأقدامهم الدنسة) تناثرت هذه الكلمات من فم الرجل بل من قلبه - مصدر إيمانه وموطن عقيدته - قوية دافقة فاهتزت لها أركان الغرفة وردد البيت صداها مدوياً مزمجراً.
وكأني بها قد استنفدت كل جهده وهدت من كيانه، فخرج إلى الفضاء كي يسري عن نفسه
بعض ما عانت وينعم بقسط من الهواء الذي تركه الله مباحاً حتى لأمثاله من البسطاء البائسين غير مفرق بينهم وبين من يشمخون بأنوفهم نحو السماء وهم من التراب وإليه مصيرهم المحتوم.
. . . فانطوت الزوجة على نفسها حتى أوى أطفالها الثلاثة إلى مضاجعهم بعد أن اخترقت آذانهم الصغيرة المرهفة تلك الصيحات الجامحة. . . ثم وقفت ومشت إلى النافذة في خطوات وئيدة، وحين بلغتها استندت إلى حافتها بالمرفقين وراحت تتطلع في شوق ولهفة ممزوجين بالقلق، إلى الحديقة التي ترامت الخضرة بين جنباتها؛ وبين التنهدات الزفرات جال فكرها المرهق في شتى المناحي وعاد حاملاً خليطاً من الخطرات:
. . . إنه محق، ويجدر بي أن أوافقه فهم حقاً جبناء أذلاء. . . ولكن مالي وشأنهم، ولِمَ لا يكون الحق في جانبهم. . . أفليست أمهاتهم لم يسعدن بلقائهم بعد فرقة طال عليها الأمد. . . ألسن سيستقبلنهم بشغف وسرور وقلوبهن تقطر ضحكات عذبة رقيقة، وإذاً فما الذي نبغي من الدنيا سوى ذاك؟)
واستمرت الخواطر المبعثرة تتجاذب ذهنها المكدود الذي ما لبث أن نبذها جميعاً ليتمثل ابنها الحبيب في صور سريعة متتابعة: هاهو ذا قبل رحيله إلى الميدان. . . ثم وهو في الحديقة قرب البئر التي اعتاد أن يملأ منها الدلاء ليسقي الزهور والشجيرات.
وانتفضت فجأة. . . على صوت باب الحديقة يفتح ثم يغلق بعد أن ولجه شخص في حذر، كلص متسلل. . . ولكن الكلاب لم تنبح، فماذا دهاها؟
ومن خلفها انبعث صوت متهدج: (أماه). . . يا إلهي إنه هو ابنها الأكبر في سترة الجندية التي كساها الغبار. ولكن ما باله يهمس هكذا. . . صه، إنه أحد الجبناء الهاربين من الجيش. وإلا لنطق صائحاً كعادته. . . نعم فلم يلجمه سوى العار الذي يكتنف أوبته. . .
وارتمى الابن بين ذراعي أمه معانقاً مستعطفاً فلمس منها صدراً حنوناً وقلباً رقيقاً يصفح عن زلته، كيف لا وقد طغت على حواسها عاطفة جامحة من الحنين والشفقة. . . بل والاغتباط بعودته إلى أبيه. . وأمه. . . والمصنع. إنه لم يطق البعد عن هذا الجو الذي ألف، ليستعيض عن بر الأسرة وعطفها بالأصوات الآمرة الزاجرة والحياة الجافة المضنية.
. . . واكتفت الأم بدفاع الابن فصدقته وغسلت بدموعها آلامه. . . وهل كانت تملك غير
ذلك وعيونهما متواصلة القطرات وفماهما يفيضان بالبسمات.
وصحا الأطفال على صوت الاخوة فهرولوا إلى الأخ الأكبر، حفاة الأقدام، ليتبادلوا وإياه العناق والقبلات.
وقدمت الأم إلى ابنها طعاماً ولكنه لم يقربه وإنما أقبل على الماء يروي ظمأه منه بأقداح متتالية اختلطت في جوفه بما سبقها من الجعة والنبيذ
وبعد لحظات لم تطل ردد الممر أصوات خطى متزنة تقترب. . . إنه الأب الحانق
واندفعت الأم تهمس لولدها: (أسرع يا ولدي بالاختفاء حتى أوضح له الأمر على مهل). وهكذا حثته على الانزواء بدل أن تفخر بالظهور إلى جانبه لو كان قد عاد. . . رجلاً
وحين دخل الأب وجدها تطرز ويدها ترتعد، فقد نسي الابن قبعته فوق المائدة. . . وأبصر الرجل كل شيء فأدرك ووعى، فلم يعد ينفع الإنكار! وبقبضته الغليظة أطاح بالقبعة إلى الأرض وركلها بقدمه صائحاً:
(أين هو. . . كريستيان. . . كريستيان. . .)
تقدم الابن ذاهلاً يكسو وجهه الاصفرار، لا يكاد يقوى على المسير. . . ثم لم يلبث أن تراجع متخاذلاً بينما ارتمت الأم على زوجها تستعطفه:
(بالله لا تقتله. . . فأنا المذنبة. . . لقد استدعيته حين لم أقو على الفراق. . . اعف عنه ولا تكن قاسياً). واسترسلت في نحيب جاراها فيه الأطفال وهم كالأصنام. . . لا تفهم ولا تعي.
ورمى الحداد ببصره إليها وقد ارتسمت على وجهه تجاعيد الصرامة، فالتقطت نظرته القاسية. . . وقد فقدت الجرأة على البكاء.
رفعت الشمس عن وجهها حجاب الظلام بعد إغفاءة طويلة، والأم المعذبة يقظى لم تغف ولم تغمض لها أجفان. . . بعد أن قضت الليل تنتفض وجلاً من نزوة قد تزين للرجل القضاء على فلذة كبده - ابنها الحبيب - بدافع من الوطنية أو الشرف والكرامة. . . تلك الأشباح التي تهددها في أعز من لها. . . وتوشك أن تفرض عليها ضريبة باهظة.
أما الابن التعس فقد أمضى ليلة لم يكن يخلص منها من حلم مزعج رهيب إلا ليواجه حلماً آخر أكثر إزعاجاً ورهبة. . . حتى فاض الضياء فغمر الكون كله خلا ذلك البيت الذي
اكتنفته ظلمة قاسية. . . موحشة.
ومر الليل على الحداد العجوز. . . طويلاً مخيفاً، وهو يبكي وينتحب باحثاً بين غرف البيت عن شيء، لا يدرك كنهه، فقده قبل ساعات. . . ولم يكد الفجر يرسل نوره في عروق الظلام حتى قام الرجل يخطو نحو غرفة ولده حتى ولجها وتقدم إلى الفراش بخطىَ ثابتة صائحاً بالابن في صرامة:(انهض) ورفع هذا عينيه المخضلتين بالدموع فرأى أباه بثياب السفر وفي يده عصاه المثقلة بالحديد. . . فلم يتمالك نفسه من الوثوب من فراشه، وأمسك برداء الجندية ليلبسه، ولكن الأب صرخ قائلاً:(كلا. . . عليك بغيرها).
وحين اعترضت الأم بأنه لا يملك سواها، صاح مزمجراً:(إذاً فليأخذ من ملابسي. . . إنها لن تلزمني بعد الآن).
قالها وهو يتناول من ابنه رداءه العسكري ثم عاود الكلام بعد حين: (هيا بنا. . .)
. . . وحين ضمهما الطريق تتابعت في ذهن الابن صور الطفولة في سرعة خاطفة فذكر تلك الأيام السعيدة حين لم تكن السنون قد أثقلت كاهله بعدُ بأعباء الدنيا. . . ولم يلبث أن أطلق من صدره آهة عميقة قال الأب على أثرها بصوت خفيض: (كريستيان. . . إليك مصنعي، فهو كل ما أملك، فخذه ما دمت قد ابتعته بدماء مواطنيك وسلامة بلادك. . . خذه ولتنعم في ظله بما تشاء، مجرداً من الشرف الذي لم تعرفه. . . أما أنا، فذاهب إلى غير رجعة. . . نعم سأوفي عنك الدين لفرنسا فبت قرير العين وعش بلا كرامة.)
. . . تساقطت دموع الابن في لحظة الوداع وانبعثت إلى حلقه غصة أوشكت أن تخمد أنفاسه فنادى أباه بصوت مبحوح: (أبـ. . . تاه)
. . . وخرجت الأم إلى الطريق صائحة: (لوري. . . لوري إلى أين. . .)
ولكنهما لم يسمعا سوى صدى صوتيهما، فقد مضى الأب في طريقه. . . ليلحق بالجيش
مضى ليكفر عن خطيئة الابن. . . الهارب.
(حمامات القبة)
حلمي مراد
المحامي