المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 379 - بتاريخ: 07 - 10 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٧٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 379

- بتاريخ: 07 - 10 - 1940

ص: -1

‌تحية إلى تاجور

للأستاذ عباس محمود العقاد

حيا الله تاجور وأبقاه!

إنه من ضيوف هذه الأرض المؤنسين، ينظر إليه الناس بينهم فيستحضرون الرضوان والأمان، وكما تنظر الأسرة إلى الأب الوقور بينها فتطمئن ولا تخشى، وإن لم يكن في يديه سلاح، ولم يكن للسلاح غنى إن كان في يديه.

أنبأنا البرق أمس أن تاجور يعاني شدة المرض في شيخوخته المباركة، فرجونا أن تظهر تحيتنا هذه عند ظهور الرسالة، وقد جاءت الأنباء بشفائه، وشفاء تاجور بشرى تعلنها في الهند أكبر جماعاتها وهيئاتها. كذلك أدركته الوعكة من قبل فلما شفى علمنا بشفائه من خطاب رئيس المؤتمر الهندي وهو يفتتح لجنته العليا، ويبدأ بإعلان بشرى الشفاء قبل البدء بأمر من الأمور الجسام التي كانت اللجنة العليا مجتمعة لها في تلك الجلسة.

قال جوهر لال نهرو: (إن هذه اللجنة تهنئ الأمة بعناية الله التي شفت لها الدكتور رابندرانات تاجور: رجل من أعظم أبناء الأمة الهندية).

ورجاؤنا أن نسمع مثل هذه البشرى في يوم قريب.

نقل البرق نبأ اشتداد المرض عليه صباح يوم الأحد، فخطر لنا أن نرجع إلى السنوية التاجرية لنستخرج منها الفأل فيما كتب فيها من أقوال تاجور بازاء اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، ولكل يوم من أيام هذه السنوية كلمة أو بيت أو خاطرة من مأثورات الشاعر العظيم.

رجعنا إلى صفحة اليوم فإذا بها تقول: (إن العقل يتركنا بمعزل عن الشيء الذي يعرفنا إياه؛ ولكن الحب يعرفنا ما يعرفه بالامتزاج به والنفاذ إليه).

وإذا بها تقول: (إن العالم الإنساني هو عالم المرأة، سواء كان من شئون البيت، أو من الشئون التي تمتلئ بجهود الحياة التي تسمى جهود الإنسان).

وإذا بها تقول: (إن ظلال المساء تهبط كثيفة عميقة. . . افتح نافذتك إلى الغرب، وانغمر في سماء المحبة).

ثم رجعنا إلى صفحة اليوم الثلاثين، وهو اليوم الذي نكتب فيه مقالنا هذا، فإذا بها تقول:

ص: 1

(هنا يموج البحر، وهنا أيضاً يستقر الشاطئ الآخر في انتظار الوصول إليه. . . نعم هنا الحاضر السرمدي، لا على مسافة منك ولا في مكان غير هذا المكان).

وإذا بها تقول: (إن نفس موسيقاك المحيي يسري من سماء إلى سماء).

وإذا بها تقول: (على جفنيك حياء عذب كأنه قطرة الندى على طرف الورقة الرفافة).

ومن عجب أن خطرات تاجور في هذين اليومين تلخص كل ما كتب تاجور، بل تلخص روح تاجور في أعماقها وحواشيها أجمل تلخيص.

صفاء وصوفية، وجمال وحنان كحنان الأم العطوف، وتفاؤل ورجاء وشدوٌ رفيق.

ذلك هو تاجور كله، سرمدي لا تقول هو الماضي ولا تقول هو الحاضر، وتهم بأن تقول: هو الهند فتسمع على البعد هامساً يقول: كلا، بل هو النفس الإنسانية في براءة الطفولة وحكمة الأجيال.

تاجور لا تروعه ضجة العصر الحديث فينسى الماضي الأزلي، ولا يستغرقه الماضي الأزلي فينسى ضجة العصر الحديث. هو كطائر الشفق الذي يرفرف بين النهار المولي والليل المقبل. لحظة هنا ولحظة هناك، ثم يغيب في القمراء لأنها ظل الصباح وغشاء المساء

أو كما يقول هو إن الماضي يحتوي الحاضر، والحاضر يفسر الماضي. . . أو كما يقول: وقّر الماضي ولكن لا تعش فيه.

أهو رجل إنساني؟

نعم، ولكنه لا ينسى الهند. فلما دعته جامعات كندا للمحاضرة فيها أبى أن يلبي الدعوة لأن الكنديين في ذلك الحين لم يعطفوا على القضية الهندية. ولما اضطرمت نار الخلاف بين بلاده والحكومة البريطانية رد ألقابه وشاراته إلى تلك الحكومة.

أهو رجل هندي؟

نعم ولكنه لا يتعصب ولا ينسى سماحة الروح، فقضى ما قضى من أيامه يدعو إلى اللغة البنغالية ليكتب بها الأدباء ويتعلم بها المتعلمون، ولكنه لم يتقيد بأصولها العتيقة التي لا موجب للتقيد بها. . . حتى كان الأساتذة الجامدون في الجامعات يمتحنون الطلاب بشذرات من كتب تاجور يفرضون عليهم أن يردوها إلى اللهجة البنغالية الصحيحة.

ص: 2

كذلك قضى ما قضى من أيامه يؤمن بالصوفية الهندية ويدعو إلى الإيمان بها، ولكنه سئل أن يختار نشيداً وطنياً فاختار نشيداً من الشعر الهندي القديم، فلما أبى المسلمون أن ينشدوه لأنه يذكر الآلهة العديدة قال تاجور: لقد أصابوا، فإني أنا أيضاً من الموحدين لخالق الكون العظيم. ثم أوصى بحذف الأبيات التي أباها المسلمون.

أهو شيخ في تفكيره؟

نعم هو يفكر تفكير الشيوخ ولم يتمرد قط تمرد الشباب. ونذكر في مصر أن شاباً مثقفاً لقيه مستأذناً في ترجمة بعض كتبه، فقال له ما معناه: لم العجلة يا بني؟ عند ما تبلغ سن تاجور تترجم معاني تاجور!

لكنه ربح جائزة نوبل وجاءه منها ثمانية آلاف جنيه، فبنى بها مدرسة جامعة لتعليم الشبان الحديث والقديم من العلوم، ولإنشاء جيل جديد غير الجيل الذي نشأ عليه ونشأ عليه آباؤه.

إذا شبهته فخير ما تشبهه به أنه نسيم لطيف لا يجمد في مكان ولا ينطلق انطلاق الرياح ليزعزع ما يقف في طريقه؛ ولكنه أبداً يحمل عطر الأزاهير في مروج البنغال.

يرى بعض الناقدين أن شعر تاجور يفقد كثيراً بالترجمة من البنغالية إلى الإنجليزية أو الفرنسية.

ويبدو لي أن هؤلاء الناقدين على صواب، لأنني سمعت تاجور يغني شعره البنغالي فأحسست لنغماته لطافة ووسوسة لا تنتقل بانتقال المعاني والكلمات.

إلا أن الخسارة الكبرى هي في نقل تاجور من البنغالية إلى الإنجليزية أو الفرنسية ثم في نقله من إحدى هاتين اللغتين إلى العربية.

وأخشى أن أقول إن هذه الترجمة قلما (تمسك) تاجور إلا كما تمسك الماء الغرابيل.

على أنه لو نقل إلى العربية كما نقل إلى الإنجليزية لما أمسكه من القراء إلا القليل، لأنه شعاع لا يوزن بميزان الشعر الذي يسيغه الأكثرون من أولئك القراء، وأدق موازينهم ميزان جواهر ودنانير.

قال لي أديب كبير كان من أوائل المحتفلين بشاعر الهند يوم عبوره بالديار المصرية: أنا لا أدري سر هذه الشهرة العالمية، وما أحسب إلا أن الدولة البريطانية بسلطانها وجاهها أرادت أن تظهر للعالم مبلغ آلائها على الهند فأبرزت هذا الشاعر مثلاً لما أفادت به أهل

ص: 3

الهند من أدب وثقافة.

وكتب أديب آخر يعقب على التحية التي حييت بها تاجور في تلك الأيام فقال: أولاً نحسن نحن أن ننظم مثل هذا القصيد ونبدع مثل هذه الخواطر؟ فما بال العقاد لا يكبرنا كما يكبر هنديه تاجور؟. . . أم زامر الحي لا يحظى بإطراب!

وكل جواب لهذين القولين عبث، لأنه كجوابك من يقيس الجمال بعيون كعيون الغزلان، وفم كأنه خاتم سليمان، وبطن كأنه العجين الخمران، إذ أنت تنظر إلى عين تناجيك بمعناها وفم يجتمع فيه شعور روح، ويبدو أن على (خلاف الشروط) أقرب إلى الدمامة منهما إلى الجمال!

إنني أقرأ تاجور فلا أقول أصاب أو أخطأ وأبدع أو جاء بالكلم المطروق.

وإنما أقرأه وألتمس عنده (نفحة نفس لطيفة) وأنا على ثقة أنني وأجدها في كل ما ينظم وكل ما ينثر وكل ما يتخلل عباراته من صمت بعيد الغور مشبع بالهداية والإيحاء.

خذ لذلك مثلاً قوله: (كل طفل يولد في العالم هو آية على أن خالق الكون سبحانه لم ييأس من الإنسان).

هذه نفحة نفس محبة لا شك فيها، وإذا كان الشرط الأول من شروط الشعر أنه تعبير عن نفس إنسانية فقد وفى تاجور الشروط كلها في كلماته تلك، لأنك تعرف نفس تاجور بتلك الكلمات معرفة لا يضيرك بعدها أن تقيسها بالبرهان فلا تثبت على القياس، ولا تجيبك إذا سألت: وما القول في كل بيضة جديدة تلدها الحية الرقطاء؟

بيد أنك تقرأ لتاجور مع هذا حكمة إلهية لا ينقضها ناقض ولا تزال مطردة أتم اطراد مع نفحاته اللطاف.

سأله تلميذ من تلاميذ مدرسته: ما هذا النظام الكوني الذي نعظمه ونمجده ولا فرق فيه بين الإنسان والجماد؟ إن الريح العاتية لتعاملني حين تلقاني كما تعامل صخرة أو شجرة، فأين النظام الذي يزن كل شيء بميزانه؟

فكان جواب تاجور: أتود أن تكون لك روح ولا تنفصل مما حولك كأنك القطرة في الغمار؟ إنك إذن تفقد روحك وتزول من حيث أنت إنسان منفصل عن عالم الجماد. . . أم تود أن تنفصل عن عالم الجماد ولا تشعر به نافعاً وضاراً على اختلاف كما ينبغي الشعور بجميع

ص: 4

المختلفات؟ إنك إذن تقضي على الكون بزوال الحركة وقانون النظام.

وما أرى أن حجة الشر في الدنيا قوبلت بحجة أصدق من هذه الحجة على ما فيها من لطافة وشاعرية.

ومن الذي ينقض حجة الشر بهذا الكلام؟ تاجور الذي أصيب من الشرور بالشيء الكثير، فماتت أمه وهو صغير، وماتت زوجه وبنته وهو كهل، وذاق من كيد الناس ما ينغص الحياة.

حياه الله وأطال حياته، فإنه من زينة الدنيا التي لا تعوض في هذا الزمان.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌بمناسبة العودة المدرسية

اللغة العربية

في المدارس الأجنبية

(توجيهات لأحد المشتغلين بشئون التعليم)

تمهيد

الغرض من تقوية اللغة العربية بالمدارس الأجنبية هو الوصول بتلاميذ تلك المدارس إلى منزلة من المعارف اللغوية والأدبية والقومية تمكنهم من الحياة في المجتمع المصري حياةً لا يشعرون معها بأنهم أعاجم في أمة عربية، كالذي كان يقع لتلاميذ تلك المدارس من عهد بعيد إلى اليوم، وهي حال ضجّ منها آباء التلاميذ، وفكر في تغييرها نظار المدارس الأجنبية مرات كثيرة، ومن المأمول أن تغيّر تلك الحال بعد أن اهتمت وزارة المعارف بتقديم المعاونة الجدية لنظار تلك المدارس، وبعد أن أعلنت رغبتها في تشجيعهم على الوصول بمدارسهم إلى مكانة تسمح لأولئك التلاميذ بالقدرة على مسايرة الحياة العلمية والأدبية والاجتماعية بهذه البلاد.

ومن الواضح أن الوصول إلى تحقيق هذا الغرض يستوجب النظر في مناهج اللغة العربية بتلك المدارس نظراً جديداً يمكن به نقلها من حال إلى حال، ويستوجب أيضاً أن يقوى الروح المصري بتلك المدارس فيكون للغة العربية مكان ظاهر في النشاط المدرسي ويكون للرحلات الخاصة بدرس الآثار المصرية مقام ملحوظ، بحيث يشعر أولئك التلاميذ أن مدارسهم تدعوهم إلى تذوق الروح المصري في عهدهن القديم وعهده الحديث.

وخلاصة القول أنه يجب أن يزود تلاميذ تلك المدارس بنصيب وافر من اللغة العربية، ومن تاريخ مصر وجغرافية مصر وأنظمة مصر في الحدود الآتية:

اللغة العربية:

تنقسم الحياة المدرسية في أكثر المدارس الأجنبية إلى ثلاث مراحل: مرحلة التعليم الأولى الممثل في رياض الأطفال، ومرحلة التعليم الابتدائي، ومرحلة التعليم الثانوي.

ص: 6

وفي المرحلة الأولى يحسن أن تعتمد هذه المدارس على المعلمين المتخرجين في مدارس المعلمين الأولية، لأنهم أعدوا لهذا الغرض ولأن مرتباتهم بسيطة، وذلك يساعد على الإكثار من دروس اللغة العربية في رياض الأطفال.

أما في مرحلة التعليم الابتدائي ومرحلة التعليم الثانوي، فيجب أن يكون المعول على المدرسين الفنيين الذين أعدتهم الوزارة لهذين النوعين من التعليم.

ونفهم من هذا الطفل في المدرسة الأجنبية يرى مدرس اللغة العربية منذ اليوم الأول لعهده بالحياة المدرسية فيأنس سمعه ولسانه للغة العربية بحيث يمكن أن تكون هي اللغة الأولى وبحيث يرجى أن تقوى على منافسة ما يدرس معها من اللغات الأجنبية.

في رياض الأطفال

المنهج في رياض الأطفال يقوم على توجيه الأطفال إلى التعبير عن أغراضهم بعبارات عربية مقبولة، ولا مانع من أن تكون لغة التخاطب هي الأساس لتذهب الوحشة التي تقع من شعور الطفل بغرابة اللغة الفصيحة، ثم يتدرج المعلم رويداً رويداً فينقل لغة الطفل برفق من العامي إلى الفصيح ليشعر بعد عام أو عامين بشخصية جديدة هي شخصية من يتكلم بلغة أقوم وأرفع من لغة العوام ويستعد للانخراط في سلك الخواص.

وفي هذه المرحلة تكثر المحادثات كثرة ملحوظة، ثم تلقن المحفوظات السهلة والأناشيد القصيرة ويترنم بها الأطفال بطريقة جمعية تزيد أنسهم بالدرس وتشوقهم إلى طلب المزيد. وفي هذه المرحلة يترفق المعلم في تعليم القراءة والكتابة وفقاً للخطط المرسومة لرياض الأطفال.

وإذا استطاع المعلم في هذه المرحلة أن يفوق زملاءه من معلمي اللغات الأجنبية، وأن يكون أقرب منهم إلى أنفس أولئك الناشئين كان ذلك خطوة محمودة في خدمة اللغة العربية بالمدارس الأجنبية.

ولن يصعب على الوزارة أن تجد المعلمين الصالحين لتأدية هذا الواجب تأدية صحيحة، فهؤلاء المعلمون سيأخذون من المدارس الأجنبية مرتبات أكبر من مرتبات المدارس الأولية، وذلك يمكن الوزارة من التخير، وقد تستطيع عقد المسابقات لتحقيق هذا الغرض الشريف.

ص: 7

في التعليم الابتدائي:

يصل الطفل إلى مرحلة التعليم الابتدائي وقد استعد لمتابعة دروس اللغة العربية وقدر على قراءة بعض الفقرات المفيدة مما يقع تحت بصره من الجرائد والمجلات. وقدر أيضاً على فهم بعض ما يذيع الراديو من أناشيد ومحاورات، وهو لا يصل إلى ذلك إلا بعد أن يعني به عناية وافية في مرحلة التعليم الأولى بحيث لا يقل ما يتلقاه في الأسبوع عن عشرة دروس.

وفي التعليم الابتدائي يجيء الدور الجدي في تعليم اللغة العربية فيقسم التلاميذ إلى فريقين: فريق يستعد للأقسام الثانوية المصرية وفريق يستعد للأقسام الثانوية الأجنبية.

وإنما فرضنا هذا التقسيم لأن تلاميذ المدارس الأجنبية يدخلون الأقسام الثانوية المصرية بتلك المدارس بدون أن يؤدوا امتحان الشهادة الابتدائية المصرية. ويكون في أثر ذلك أن يدخلوا تلك الأقسام وهم ضعاف في اللغة العربية ضعفاً يجعلهم من الذيول في الامتحانات العمومية، وقد يلازمهم هذا الضعف طول حياتهم فلا يكون منهم كتاب ولا شعراء ولا خطباء باللغة العربية.

ومنهج اللغة العربية في الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية المصرية يجب أن يكون مماثلاً تمام المماثلة لمنهج اللغة العربية في المدارس الابتدائية المصرية مع زيادة عدد الدروس زيادة تعوض على التلاميذ ما يفوتهم من درس أكثر المواد باللغة العربية.

أما منهج اللغة العربية في الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية الأجنبية فيكون أخف ويكتفي فيه بسبعة دروس في الأسبوع توزع على مواد اللغة العربية توزيعاً يضمن تمكن أولئك التلاميذ من القواعد والإملاء والمطالعة والإنشاء.

ومن السهل وضع هذا المنهج الخفيف، والمهم هو أن يشمل العناصر الأساسية من القواعد بحيث يستطيع التلميذ أن يلقي خطبة أو يكتب رسالة بدون أن يقع في أغلاط تشهد عليه بالتخرج في مدرسة أجنبية!

وإذا تجاوزنا اللغة العربية إلى الجغرافيا والتاريخ رأينا من الواجب على تلاميذ الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية المصرية أن يدرسوا المقرر من هاتين المادتين في المدارس الابتدائية المصرية.

ص: 8

أما الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية الأجنبية فتدرس جغرافية مصر بالتفصيل، ثم تدرس التاريخ المصري بإيجاز مع الاهتمام بتاريخ مصر الحديث وعلاقته بالأمم الغربية والشرقية.

وما دام الغرض هو التعاون فمن حق وزارة المعارف أن تشير على المدارس الأجنبية بدعوة فريق من تلاميذها إلى اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية، فإن لم يسهل ذلك كان من الواجب على تلك المدارس أن تدقق في نقل التلاميذ من الأقسام الابتدائية إلى الأقسام المصرية الثانوية، فقد يساعد ذلك على تحسين النتائج في امتحانات النقل والامتحانات العمومية.

وبهذه المناسبة نذكر أن الليسيه فرانسيه بالإسكندرية رأت من المصلحة ألا تقبل في القسم الثانوي المصري إلا تلاميذ جازوا امتحان الشهادة الابتدائية المصرية، وسيكون لذلك تأثير حسن في نتائج الامتحان.

في التعليم الثانوي

وفي التعليم الثانوي نجد المدارس الأجنبية قد استغنت عن معونتنا في توجيه الأقسام المصرية، فهي تسير على مناهجنا خطوة خطوة، وتزيد عدد الدروس لتضمن نجاح تلاميذها في امتحانات النقل والامتحانات العمومية، ولا يبقى إلا اهتمام التفتيش بدروس التاريخ والجغرافية والأخلاق والتربية الوطنية، ولا موجب للنص على اهتمام التفتيش باللغة العربية، لأن أقل تقصير في ذلك يجعل اللغة العربية من المهملات في تلك المدارس، لأنها تملك وضع أسئلة امتحان النقل، وذلك قد يعفى بعض المدرسين من الحرص على تدريس جميع المقررات!

وأعتقد أن مبالغة التفتيش في تعقب دروس اللغة العربية لا يغض من كرامة تلك المدارس، فذلك أفضل من تعريضها لإلغاء الامتحان كما وقع في بعض الأعوام الماضية.

والموضوع المهم هو موضوع الأقسام الثانوية الأجنبية، والشبان في تلك الأقسام معرضون لأصعب الأخطار من الوجهة القومية إن لم يحرسوا حراسة أمينة من طغيان الدعايات المذهبية، ولا يعصمهم من تلك الدعايات إلا تزويدهم باللغة العربية تزويداً يمكنهم من مسايرة التيارات الأدبية والفكرية والاجتماعية بهذه البلاد، ولا يتم هذا التزويد الواقي من

ص: 9

الأخطار إلا إذا ضمنا أن يدرسوا تاريخ مصر دراسة عميقة تصل بهم إلى الثقة بأنهم نشئوا في وطن له ماض في خدمة العلوم والآداب والفنون، وفي هذه الحال يكون من الذوق أن يعتمد الأجانب على المصريين في دراسة التاريخ المصري، وهم قد قبلوا في أكثر مدارسهم أن يدرس ذلك التاريخ باللغة العربية.

وما يقال في التاريخ يقال في الأخلاق والتربية الوطنية، فهذه المواد الثلاث لها اتصال وثيق بشؤون عربية وإسلامية لا يفقهها المدرسون الأجانب إلا في قليل من الأحابين، وهم حين يفقهونها لا يؤدونها بالروح الذي يؤديها به المدرسون المصريون.

وأعتقد أن الأجانب لا يمانعون في أن يتغلب العنصر المصري في مدارسهم، لأن ذلك يحقق التضامن بين المصريين والأجانب، وهو أيضاً يساعد على خلق جوٍ من التعاطف كان انعدامه سبباً في قلة التفاهم بين أولئك وهؤلاء.

والواقع أن الأجانب الذين عرفتهم يتمنون لو ظفروا بالثقة المصرية، فمن واجبنا أن ندلهم على السبيل لكسب هذه الثقة، وهي سبيل واضحة يسير فيها بأمان كل من يؤمن في سريرة نفسه بأن من واجبه أن يعين من يؤتمن عليهم من الشبان المصريين على التزود بأصول التثقيف الصحيح الذي يجعلهم من الوطنيين الصادقين.

الأدب العربي

وبعدما سلف من الإشارات إلى العناصر التي يجب أن توجد في منهج الدراسة في الأقسام الأجنبية نضع الأساس لدراسة الأدب العربي هنالك، ونرى أن تكون المحفوظات كلها من الشعر السهل المقبول الذي يقل فيه المهجور والغريب من الألفاظ.

أما مواد التاريخ الأدبي فتقصر على العصر الحديث مع الاهتمام بالفنون الأدبية الجديدة التي نشأت عن اتصال مصر بالثقافات الأوربية والأمريكية فيكون للشعر التمثيلي وللقصص مكان ظاهر في درس التاريخ الأدبي، ويعنى عناية خاصة بدرس الخطابة البرلمانية ودرس القضايا الشهيرة التي برزت فيها براعة المحامين، ويضاف إلى ذلك درس الصلات بين الأدب والمجتمع، بحيث يشعر التلميذ أن اللغة العربية لا تقل قدرة عن اللغات الأجنبية في الطب لأدواء المجتمع وتعقب أهواء النفوس وأوطار العقول.

ومن البين أنه يجب الاهتمام بدرس تراجم الكتاب والخطباء والشعراء الذين كان لهم تأثير

ص: 10

في خلق التطور الحديث من الوجهة الاجتماعية والقومية والذوقية، لأن ذلك يساعد على الأنس بالأدب ويشعر أولئك التلاميذ بقيمة الحرص على المنافع الوطنية عساهم يصيرون في المستقبل من أقطاب المصلحين، وذلك هو المأمول من شبان تعترك في صدورهم جذوات الثقافة الشرقية والثقافة الغربية.

التعاون بين المصريين والأجانب

وحين تحقق هذه المقترحات يكون من الواجب أن نخطو خطوة جديدة في التقريب بين المدارس المصرية والمدارس الأجنبية فنراهم ويروننا في الحفلات وفي الرحلات، ويرفع الحجاب الكثيف الذي يجعل منا ومنهم أمتين مختلفتين، مع أننا نعيش جميعاً في ضيافة النيل.

والله عز شأنه هو ولي التوفيق.

(باحث)

ص: 11

‌بين مصر والعراق

للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم

مما استرعى نظري في نسخة من جريدة الهدف العراقية صورة شمسية تهول وتروع للدكتور زكي مبارك، وما كدت أقرأ بضعة أسطر فيها حتى بان لي أن العدد كله قد خصص لتكريم الدكتور والاحتفاء به والإشادة بفلسفته وعلمه، فانطلقت ألسنة الأدباء العراقيين بالثناء عليه، وانبرت أقلامهم لتسجيل أدبه، وحفظ أثره، ووصف براعته في الكتابة التي تساوق براعته في الشعر.

وإنها لمدحة حقة صادفت أهلها، وحلت محلها، وجاءت تخليداً للمحمدة الباقية التي تفضلت الحكومة العراقية فأسبغتها عليه، إذ أكرمته بوسام الرافدين تقديراً لمجهوده، ومعرفة لمعروفه

وإن عرفان الجميل، وتقدير أعمال العاملين، وإعطاء الحق لمستحقيه، لهى فضائل طيبة عزّ وجودها في هذا الزمان الذي ابيضت عينه، وغاض معينه، وقل خيره، وكثر شره وضيره، وأغمطت فيه الحقوق، واشتد به بلاء العقوق، ولكن إخواننا العراقيين قد رفعوا فيه لواء هذه الفضائل، وتحلوا بحللها وحلاها وتلك بعض مناقبهم الغراء، وشيمهم الشماء.

وليس بمستغرب أن يشغف الدكتور بالعراق حبّاً؛ وأن يولع بالعراقيين وآثارهم وأخبارهم وأيامهم وتواريخهم وسائر أحوالهم فإن ميله إليهم قد خالط منه اللحم والدم، وأصبح جزءاً من عاطفته وضرباً من تعصّبه وشطراً من فطرته ولوناً من غذائه الروحاني ومقومه النفساني.

فهو حينما يخطر بباله خاطر عنهم - وما أكثر توارد هذه الخواطر الملحّة على ذهنه - تراه يتهلّل بشراً، ويسترسل في الحديث عن مفاخرهم ومآثرهم استرسالاً يأسر انتباه السامعين ويملك لبّهم، لحلاوة الأسلوب وحسن الأداء ولطف القول؛ ويجذب نفوسهم بما في حديثه من الطرائف والطرف، والروائع والتحف وكل ما يستهوي ويستميل.

وما أكثر المصغين من المعجبين ببلاد العراق الذين يشعرون بمثل ما يشعر به الدكتور من تقدير لها وميل نحوها، ويحسّون مثل ما يحسّه قبلها من عواطف نبيلة واتجاهات شريفة.

ولا ريب أن المودّة والمحبة والرغبة الصادقة المتبادلة بين الأقطار الشرقية لتزداد قوة على

ص: 12

ممرّ الأيام وكرّ الأعوام، فتصل بين أطرافها، وتربط بين أنحائها، وتوثق العلاقة بينها من أقصاها إلى أقصاها، إلى أن تجعل منها وحدة متماسكة الأجزاء لا انفصام لها ولا انفصال، فإن روابط الجنس واللغة والدين قد صيّرت الممالك الشرقية توائم، بل وطناً واحداً محبباً إلى كل النفوس هنا وهناك، وقد تنبهت أممنا إلى هذا الترابط، فأخذت تفكر فيما كان عليه السلف من علوم وثقافة ومعارف لإحيائها وبعثها من جديد في صورة شرقية غربية سليمة، وإن تعاون الأدباء في العصر الحاضر على نشر هذه الثقافات ليبشر بمستقبل جديد باهر تصفو فيه الحياة الروحية من شوائب الغربيين ولوثات المحدثين المارقين.

فإن التخلص من البدع الزائفة التي دخلت في عقائدنا وأعمالنا وتصرفاتنا وتقاليدنا وسائر أحوالنا لمن أهم ما يجب البدء به في هذا الإصلاح الذي ينشدونه للأمم الشرقية، إذ يرجع بنا - نحن الشرقيين - إلى الأصول الأولى الحقة المبرأة من كل زيف، ومن كل مستحدث من البدع والتقاليد الضارة، وبذلك تتحد وجهات الأنظار وتتفق مسارح الأفكار؛ وتقوى أممنا بالاتحاد في الحق والائتلاف في الفضيلة، وتخرج من التطور الفاسد إلى التطور الصالح المؤسس على الفضيلة والحق؛ فتجتمع القلوب بحكم الطبيعة، وتتوحد الغابات، وتتبين المثل العالية، والأهداف البعيدة الرفيعة.

وما أحوجنا إلى من ينهض بالشرق نهضات أدبية وخلقية واجتماعية، بعد أن تناثرت أجزاؤه، واضمحلت هيئته، وضعف التئامه وقد كاد يتداعى للانحلال.

أدرك هذه الحال رجال من العلماء المثقفين والأدباء المخلصين فأخذوا في هذه الأيام يجاهدون بأقلامهم وقلوبهم ونفوسهم في سبيل الدعوة إلى اتحاد الشرق ليكون جسماً واحداً هائلاً كبيراً، قوي البينة، سليم الهيئة، تتعاون أعضاؤه، وتلتحم أجزاؤه.

وكم بذلوا من وقت ومال، وعلم مذخور، في صون حقوقه وحفظ ملته وحياته من الضياع، فصوبوا معاولهم الأصول الفاسدة لهدمها وتقويضها، وأكثروا من الكتابة في المجلات والصحف لتأسيس الأصول الصالحة للمدنية القوية النافعة، وتعهدوها بآرائهم وفلسفتهم وجهادهم حتى تكون كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وكم أنحوا على المقلدين للغربيين تقليداً طائشاً لا نفع فيه، وعابوا عليهم انتحالهم أطوار الأوربيون التي لا تتلاءم مع الأوضاع الشرقية، ولا تتناسب مع الحياة الإسلامية، حتى

ص: 13

كادت تجعل حياة الشرقيين وعاداتهم خليطاً من القشور ومزيجاً من المظاهر الخلابة التي لم تخلق لنا ولم نخلق لها، وما كانت لتوائم طبيعتنا، أو توافق أذواقنا؛ لأنها إنما نقلت إلينا نقلاً فيه تعسف كما ينقل النبات قسراً من بيئة يجود فيها ويترعرع، إلى بيئة أخرى لا تلائمه ولا تعينه على النمو والنضارة، فلا يلبث أن يكون حطاماً لا خير فيه، وحطباً لا حياة به، وهشيماً تذروه الرياح.

فأهابوا بالشرقيين أن يأخذوا بأسباب النهضات القديمة، وأن يقتدوا بالسلف في صدر الإسلام وفي العصور الأولى الزاهرة، وأن يستمدوا من أدبهم ومعارفهم وثقافتهم ما يقربهم إلى الخير، ويبعدهم عن الضير، فكان لهذا الجهاد شيء من الأثر الطيب في إزالة بعض الحواجز القائمة بين شعوب الشرق، والقضاء على بعض الحجب الكثيفة الحائلة بين أممه والحق، والتي خلقها خلفاً أولئك الذين يمجدون حضارة الغرب، وينتقصون أعمال الشرق فكانوا نكبة على بلادهم، ومنافذ فيها يدخل منها الأعداء إليها؛ لأنهم وأمثالهم شؤم على أبناء أمتهم يمهدون السبيل ويفتتحون الأبواب لأرباب الغابات والمطامع والحضارات الفاسدة، ومن آيات الجهاد تلك النزعة الجديدة القوية التي ترمي إلى إظهار الحضارة الشرقية - وهي أصل الحضارات كلها - لتبرز للوجود، وتحل في الميدان، فلا تلبث الفوارق أن تضمحل، وتتابع الكوارث، ونزول المصائب والأهوال، وهي التي أوجدت في الشرق يقظة ظاهرة، وربطت أفراده بوشاح متينة لا تقل في قوتها عما بينهم من روابط النسب والجنس والدين واللغة والإنسانية، وبعثت فيهم روح المقاومة لدفع ما هو باطل، ومحو ما هو فاسد، وجعلتهم لا يغفلون عن مصيرهم ولا يستسلمون لإرادة سواهم، ودفعت نفوسهم إلى اتخاذ الوسائل للنهوض فيما أحبته، والتخلص مما كرهته.

وإن هذه المقاومة الروحية والعملية لتبقى عنيفة شديدة في الأمم الشرقية الناهضة ما بقي فيها رمقة من عيش، ومسكة من ضمير؛ وما دامت تسترشد بنور إيمانها، وتعمل بقوة عقيدتها وما بقي فيها رجال مخلصون، وعلماء ناهضون، وأدباء مثقفون، يقومون برسالة الحضارة العربية الشرقية، ويسعون لها سعيها، وهم مؤمنون بها، وأولئك كان سعيهم مشكوراً.

فإن الله إذا أراد بقوم خيراً جمع كلمتهم على الحق والهدى، وألف بين قلوبهم بصلات

ص: 14

المودة والمحبة وإن بعدوا وتناءت ديارهم وشط مزارهم، فينالون شرفاً رفيعاً، ومقاماً محموداً.

محمد أبو بكر إبراهيم

المفتش بوزارة المعارف

ص: 15

‌كلمة في القرآن

(إلى كبار العلماء، ومشيخة القراء، وجماعة الأزهر المعمور)

للأستاذ على الطنطاوي

قال لي صديق عالم في بعض حديث كان بيني وبينه: ما بال أحدنا يأخذ ديوان المتنبي مثلاً، فما يدع منه واحدة حتى يقتلها فهماً، ويحيط بأسرارها علماً، ويغوص على جواهر معانيها، ويتبع خفيف إشاراتها، وبعيد كناياتها، حتى ينتهي إلى مراد الشاعر منها، وقد تنطبع على صفحة قلبه آراء الشاعر فيؤمن بها إيماناً، ويتخذها قدوة وإماماً، وربما يدل ذلك من خلائفه، وعدل من سلائقه، مع أن ديوان المتنبي، وإن علت في الكلام مرتبته، وسمت في البلاغة منزلته، لا يعدو أن يكون كلام مخلوق يخطئ ويصيب، وليس من شأنه أن يكون كتاب هدى ولا إرشاد. . . ثم نتلو القرآن أناء الليل وأطراف النهار، فلا يأمرنا ولا ينهانا، ولا يكون له أثر في حياتنا، وٍالقرآن كلام الله رب العالمين، أنزله رحمة وهدى للناس أجمعين؟

تأملت فوجدت كلامه حقاً، فأطلت التفكير فيه، فرأيت النقص إنما دخل علينا من أنفسنا لا من القرآن، والقرآن لم يزل على ما كان عليه يوم أخرج من الأمة البدوية الجاهلة خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وأعطاها مقاليد الأرض، ففتحت بها ما بين مشرقها والمغرب. . . فما له اليوم وما لنا؟ وكيف غدونا وأمورنا في يد كل واغل علينا، يغلبنا كل مغلب، ويستنسر في أرضنا البغاث، ومن إذا استغاث لا يغاث، وإن أتى في عقر بيته لم يملك دفعاً ولا منعاً؟

النقص منا لا من القرآن، فلو أنّا أخذنا القرآن على وجهه ولم نعدل به عما أنزل له، لم نذل، والقرآن بين أيدينا، وبالقرآن عز من عز من أسلافنا.

نزل القرآن آمراً وناهياً، ومذكراً وواعظاً، وكان للمسلمين دستوراً وقانوناً، فلم نفهم منه إلا أنه كتاب تبرّك، نتخذه تمائم ورقي، أو نتلوه تلاوة تطريب وتلحين، وتطربه وتليين، نؤخذ بحلاوة صوت القاريء، وبراعة إلقائه، وحسن تصرفه في ألحانه، ولا نتنبه الانتباه المطلوب إلى المعاني، ولا نخشع الخشوع اللائق بمن يسمع كلام الخالق، وإن كنتم في شك من الأمر فاسألوا من يفتح (الرادّ) لسمع قراءة الشيخ محمد رفعت، أكان يسمع لو قرأ غيره

ص: 16

ممن لم يؤت الجرس الحلو ولا اللحن المطرب؟ واسألوهم ألا تهزم (سحبة) صبا، أو (حطّة) على الرصد، أكثر مما تهزم معاني كلام جبار السماوات والأرضين؟

أما إنه لا جدال في وجوب ترتيل القرآن وتجويده، وضبط مخارجه وأحكامه وأدائه، أما أن يكون القصد من الإصغاء إليه الطرب، والغاية من تلاوته الإطراب، فلا، ثم لا. . . وما مثل من يفعل ذلك إلا مثل ضابط في الجيش بعث إليه القائد برسالة فيها بعض أمره ونهيه، فلا هو ائتمر ولا انتهى ولا فهم معناها ولا حاول، وإنما قبلها ووضعها من التعظيم على جبينه ثم تلاها خمسين مرة، يتغنى بها ويرتلها، ثم جعلها تميمة تعلق على الصدر. . . ولله المثل الأعلى!

وقد حدثني الصديق الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف أن في مصر قارئاً (سمّاه ونسيته) إذا قرأ أعطى المعاني حقها ففخّم وهوّل عند وصف العذاب، ورقق وجمّل عند ذكر النعيم، وحكى رنة صوت المستفهم والمتعجب عند الاستفهام والمتعجب، فإذا صار إلى آخر الآية ليسمعه الناس فيكون قدوة للقارئين صالحة؟ إن القائمين على أمر الإذاعة يحسنون صنعاً إذا سألوا الأستاذ خلافاً عن اسمه ودعوه. . . وأنا واثق أنهم لن يفعلوا!

هذه هي حال القراء، جعلوا القرآن كالغناء، بل ربما عدوه سلماً إلى الغناء! ألا ترى إلى بعض المطربات المصريات المشهورات، كيف ابتدأن قارئات، فارتقين حتى صرن مغنيات؟ أو لا ترى أن من كتاب الرسالة من ذكر المغنين مرة فعد الشيخ محمد رفعت في أهل الغناء؟

ثم إن القراء خصلة أخرى.

ذلك أن منهم من أولع بالقراءة على السبع، في المساجد والمجامع، يكرر الآية الواحدة على الأوجه المختلفة، فلا يأتي من ذلك إلا فتنة العامة، وتشكيك الجهلاء، وما يخالط القارئ من العجب والزهو، وذلك ما لا يستحبه الشرع. ولقد ثبت في الحديث أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، تسهيلاً على العرب المختلفة لغاتهم، وكانوا يقرؤون عليها جميعاً، حتى إذا كان زمان عثمان رضي الله عنه، وسيطرت لغة قريش أو كادت، وتوحدت اللغات ولم يبق للسبعة الأحرف من فائدة إلا اختلاف الناس، أمر عثمان بالاقتصار على واحد منها ومنع ما عداه، وكتب المصحف الإمام وبعث به إلى الأمصار، واقتصر الناس على الحرف الواحد

ص: 17

حتى نشأ النحاة وأهل اللغة والقراء، فوقع بينهم اختلاف يسير في حركة أو إمالة أو مد أو همز فكان من ذلك القراءات السبع، وهي على حرف واحد وليست على الأحرف السبعة كما يظن بعض من لا علم له. . .

فإذا كان عثمان قد أمر بالاقتصار على حرف واحد من الحروف السبعة المنزلة ضماناً للمصلحة، فلم لا نقتصر على قراءة أو قراءتين فقط من القراءات السبع نقرأ بها في المساجد والمجامع، وندع لمن شاء من المتخصصين أن يحفظها ويرويها كلها من غير أن يذيعها على العامة الذين لا يعرفون إلا قراءة حفص في المشرق كله وورش عند المغاربة؟

هذا رأي فيه المصلحة، وهو من روح الشريعة التي تكره الاختلاف والفتنة أرجو من سادتنا العلماء المقلدين المقدسين لكل ما درجوا عليه الثائرين على كل رأي جديد، أن يفكروا ويتثبتوا قبل أن تقوم قيامتهم عليّ!

أما العامة وأشباههم فإن أكبر همهم أن يستكثروا من المتلوّ ولو أهملوا قواعد التجويد، ويتسابقون إلى الختمة، ولو قرؤوا شاردة أذهانهم؛ حتى أن لي عمة عجوزاً تقرأ كل يوم ختمة وتفخر بذلك، مع أن عمر بن الخطاب وهو أعلم من عمتي - ولو لم تقر بذلك - أنفق دهراً في البقرة حتى قرأها فقيه متدبر. . . وسبب هذا التسابق على الاستكثار من المقرؤ اعتقادهم أن للتالي بكل حرف عشر حسنات ولو قرأ قراءة ببغاويه. . .

ولندع هؤلاء ولنعرج على العلماء فنسألهم إذا لم يكونوا ممن يحرم الاجتهاد، ويرى أن الأئمة قد استنبطوا من القرآن كل شيء، ولم يبق إليه حاجة إلا استنباط. . . البركة!

نسألهم: كيف يتدبر القارئ الآيات للتدبر المطلوب، وليس عند المسلمين إلى اليوم تفسير لمعاني القرآن مختصر، حاوٍ لأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وبيان المحكم والمتشابه، خالٍ من فروع النحو والبلاغة ومسائل الفلسفة، مبرأ من الأكاذيب والإسرائيليات وتضارب الروايات في وضوح عبارة وبيان إشارة يفهمه الغبي قبل الذكي، وطالب العلم قبل العالم؟ ومتى يظهر التفسير الذي انتهى إلينا من سنوات عزم إدارة الأزهر على إخراجه للناس، وأنها ألفت له لجنة وسمّت لها رجالاً؛ فما صنع الله بلجنته ورجالها؟

وإذا لم تكن لجنة أفليس في العلماء من يستطيع أن يؤلف هذا التفسير لمعاني القرآن، لا كتفسير الجلالين المخل باختصاره ولا كالنسفي المقصور على النحو، ولا كالكشاف المعنيّ

ص: 18

بالبلاغة، ولا كالفخر الرازي المترع بالفلسفة والعلوم والإشكالات والردود، ولا كالخازن الفياض بالإسرائيليات المكذوبة، ولا كالطبري الذي يشتمل على الروايات الكثيرة المختلفة، ولا كتفسير طنطاوي جوهري الذي حشد فيه من قضايا العلم الطبيعي التي لم يكن من أهلها ما لم يدع مكاناً للتفسير، ولا كتفسير المنار المطول الذي يشبه دائرة معارف تحتاج إلى عمر كامل، بل يأخذ من كل مزايه ويجتذب عيوبه، ويضم على ذلك ما لم يكن يدركه المتقدمون.

هذا ولم نزل نسمع بالإعجاز، ونعرف عجز العرب وهم شياطين البلاغة ومردة القول، عن أن يأتوا بمثل سورة من القرآن برغم التحدي الموجع، والاستفزاز البين، وقد قرأنا ما كتب في بيان الإعجاز وأسراره من لدن عبد القاهر والباقلاني إلى الرافعي ولكنا لا نزال نجهل أسرار الإعجاز، ولا نجد في كل ما كتب ما يبرئ من علة، أو يشفي الغلة، على طول البحث، وامتداد الزمان، حتى كدت أقول بالصرفة كما قال المعتزلة، فمتى يؤلف في الإعجاز الكتاب الذي يضع أيدينا على سره حتى تلمسه لمساً؟

إن كتاب الرافعي في حسن عرضه، وبلاغة عبارته، وصفاء ديباجته، يكاد يكون معجزاً لكتاب العصر عن تأليف مثله، ولكن اقرأه، ثم أطبق الدفتين ولخص لي رأيه في الإعجاز، وقل لي ما هي (نظريته) فيه؟ وهل تشبع الباحث، وتروى ظمأ الحيران؟

هذا وإن ما تقدم من تصحيح التلاوة، والتفسير والبحث في الإعجاز، إنما هي مقدمات، وجوهر الموضوع في دعوة العلماء إلى العودة إلى القرآن والسنة، ودرسهما دراسة المجتهد الفقيه المتبصر، واستنباط الأحكام منهما، وتنقية عقائد المسلمين مما يخالفهما، والفتوى بهما لا بالدر وحواشيه، ولا بأقوال أئمة المذاهب، فإنهم على ما بذلوا رحمهم الله وما أحسنوا، إنما راعوا مصلحة الناس في زمانهم، واعتمدوا العرف المعروف في أيامهم، والقرآن لكل زمان ومكان. وليس القصد أن ندع المذاهب جملة، ونأمر الناس جميعاً بالاجتهاد، فهذا ما لا يقوله ذو مسكة من عقل، ولكن القصد النظر في أدلة الأحكام الفقهية، فما كان دليله النص فلا مساغ للكلام فيه، وما بني على العرف يتغير بتغيره، وهذا معنى القاعدة المعروفة:(لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان).

فأفهموا الناس أن القرآن لم ينزل ليكون تمائم ورق، ولا ليتخذ منه غناء وطرب، ولكنه

ص: 19

(كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتنى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدى إلى صراط مستقيم.

علي الطنطاوي

ص: 20

‌دولة الأدب في حلب

سيف الدولة بن حمدان

للدكتور محمد أسعد طلس

ما نعرف أن حلباً أو الشام كله قد أصاب عهداً أحفل بالعلماء والأدباء والشعراء والحكماء والأطباء من عهد سيف الدولة أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان عظيم الدولة الحمدانية؛ فقد كان بنو حمدان (ملوكاً أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة؛ وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم، وكان رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه غرة الزمان وعماد الإسلام ومد به سداد الثغور وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف بأسها، وتنزع لباسها، وتفل أنيابها وتذل صعابها وتكفي الرعية سوء آدابها. وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء. ويقال إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ العصر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز لما يمدح به وكان علي عالماً وفقيهاً يناقش العلماء ويطرب لمحادثتهم ومناظراتهم كما كان شاعراً له الشعر الجيد والتشبيه الملكي، ولم يبق لنا الدهر من شعره إلا نحو خمسين بيتاً ذكرها من ترجم له وأكثرها مذكور في اليتيمية، ومن أجود شعره قوله:

أقبله على جَزَع

كشرب الطائر الفَزعِ

رأى ماءً فأطعمَه

وخاف عواقبَ الطمعَ

وصادف فرصة فدنا

ولم يلتذ بالجُرعِ

وهو كما ترى شعر لطيف يدل على خفة روح ورشاقة خاطر لما تضمنه من صور سريعة وجميلة. ومن أجمل شعره أيضاً بل من أجمل الشعر العربي في موضوعه قوله في وصف ساعة من ساعات اللذة زانها ساق صبيح وقوس قزح رائع:

وساق صبيح للصَّبوح دعوته

فقام وفي أجفانهِ سنة الغَمض

يطوف بكاسات العُقار كأنجم

فمن بين مُنفضْ عليها ومنقض

وقد نشرت أيدي الجنوب مطارقاً

على الجو دكناً والحواشي على الأرض

ص: 21

يُطرزها قوسُ الغمام بأصفر

على أحمر في أخضر تحت مبيضِّ

كأذيال خَوْد أقبلت في غلائل

مُصبَّغة والبعض أقصر من بعض

هذا والله الشعر المرقص لما فيه من صور حية ومعان جميلة، ولا سيما تلك الصورة الفنية الرائعة للقوس بألوانه الجذابة واستدارته الرائعة. وقد كنت أود أن أجمع هنا ما انتثر من شعر أبي الحسن في بطون كتب الأدب ولكني أرجئ هذا إلى أن أظفر بشيء أكثر مما جمعت.

أما عناية أبي الحسن بالعلم فما كانت أقل من عنايته بالأدب ورجاله فقد كان مغرماً بنفائس الكتب وجياد الآثار العلمية. وقال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام: (كان بجامع حلب خزانة كتب كان فيها عشرة آلاف مجلدة من وقف سيف الدولة وغيره). وكان معنياً أيضاً بجمع الأطالس والآلات الفلكية، فقد ذكر الأستاذ أحمد تيمور باشا أن في دار الكتب المصرية نسخة مصورة من أطلس قيم ينتظم أشكال الكواكب وأطوالها وهي مما ألف للأمير العالم سيف الدولة بن حمدان. وكان يستكثر من الحكماء والأطباء والفلاسفة ويقربهم من مجلسه ويشجعهم على التأليف والترجمة ونشر العلم. . . قالوا: وكان إذا أكل الطعام وقف على مائدته أربعة وعشرون طبيباً، وكان فيهم من يأخذ رزقين لتعاطيه علمين، ومنهم من يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم، وفي دائرة المعارف الإسلامية:(أن الفضل الذي ناله سيف الدولة بنشر العلم والأدب واللغة لهو مجد عظيم لا يقل عن مجده في أعمال السياسة والحروب).

وأما عطاياه التي كان يغدق على أهل العلم والأدب فحدث عنها ما شئت. وقالوا: إنه صنع دنانير خاصة للهبات والعطايا زنة كل دينار منها عشرة مثاقيل، وكان على هذه الدنانير اسمه وصورته وقد عقد الثعالبي فصلاً في انفجار ينابيع جوده على الشعراء. قال أبو الحسن الحمداني: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة فأستأذن الحجاب في الإنشاد فأذنوا له فأنشد:

أنت عليُّ وهذه حلب

قد نفد الزاد وانتهى الطلبُ

بهذه تفخر البلاد وبالأ

مير تزهى على الورى العربُ

وعبدُك الدهرُ قد أضرَّ بنا

إليك من جور عبدك الهرب

ص: 22

فقال سيف الدولة: أحسنت، والله أنت، وأمر له بمائتي دينار، ومن هذا الإسراف والعطاء بلا حساب ما رواه صاحب اليتيمة من أبا فراس كان يوماً بين يدي سيف الدولة في نفر من ندمائه فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي (يعني أبا فراس):

لك جسمي تعُله

فَدَمِي لِمْ تحِله

لك من قلبي المكا

نُ فَلِمْ لَا تحُله

فارتجل أبو فراس:

أنا إن كنت مالكاً

فلي الأمر كله

فاستحسنه سيف الدولة وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار وقصص ينابيع جوده على الشعر أكثر من أن تحصر فقد كان يغدق على من يقصدونه المال الجسيم ويبعث إليهم بالثياب والماشية والوصفاء.

كان من نتيجة هذا العطاء الراجح واليد الطولي أن اجتمع لدى أمير حلب جمهرة من العلماء الفحول أمثال: ابن نباتة، وابن خالويه، والفارابي، وأبي على الفارسي، وكشاجم، والخالديين أبي بكر وأبي عثمان، والصنوبري، والمتنبي، والوأواء، والببغاء، والناشئ، والنامي أبي الحسن السميساطي، وأبي الطيب اللغوي، والسري الرفاء، وأحمد البازيار، وأبي فراس، وعلي بن عبد الملك القاضي، وأبي سلامة القاضي، والطبيب عيسى الرقي. . . وغيرهم من رجال الأدب والعلم الذين سنقف عند كل منهم وقفة نبين فيها آثاره من علم وأدب إن شاء الله.

لم تقف حركة سيف الدولة الأدبية والعلمية على الشام فحسب بل تعدته إلى العراق وفارس، فهذا أبو الفرج الأصفهاني يأتيه من العراق، فيستظل بظله الوارف، ويفيد من عطاياه حين يقدم إليه أول نسخة من كتابه الفريد. وهذا أبو الفرج عبد الواحد الببغاء يأتيه من نصيبين فيصيب عنده مالاً وجاهاً.

وممن أفادوا من رعايته من شعراء بغداد ابن نباتة السعدي، وله في سيف الدولة شعر رائق جزاه عليه أفضل الجزاء، ومن أدباء فارس أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي، وكان يقول: (ما فتق قلبي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ بي هذا المبلغ إلا تلك الطرائف الشامية واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن

ص: 23

الشباب رطيب ورداء الحداثة قشيب) ونحن إذا رحنا نتتبع الفضلاء الذين أموا حلب وأفادوا من سيدها وأميرها وعالمها في القرن الرابع للهجرة ذكرنا العدد الجم مما لا مجال لسرد طرف منه في مقال كهذا.

ظلت بقايا هذه الحركة الحمدانية في حلب بعد أن انقرضت دولة بني حمدان؛ فنحن نجد في القرن الخامس للهجرة - على اضطرابه السياسي والاجتماعي - حركة علمية قوية أفاد منها أبناء الشام كافة. وليس أدل على ذلك مما حفظه لنا أبو عبد الله الكاتب الأصبهاني في (جريدة القصر وجريدة أهل العصر) من الشعراء والأدباء الحلبيين والشاميين في القرن الخامس ممن لم نسمع بذكرهم ولا يعرف عنهم الأدباء المعاصرون شيئاً، فان نظرة واحدة إلى ما احتواه هذا السفر القيم من تراجم الأدباء الشاميين تؤيد ما نريد الذهاب إليه من أن الحركة الأدبية التي قام بها سيف الدولة ظلت تنتج حتى أواخر القرن الخامس، وممن أفاد من هذه الحركة أبو العلاء المعري، فقد ذكر ابن العديم المؤرخ الحي في رسالته (الإنصاف والتحري) أن أبا العلاء بعد أن تلقى العلم واللغة والنحو بمعرة النعمان على والده. . . دخل وهو صبي إلى حلب، فقرأ بها على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي راوية أبي الطيب المتنبي وعلى أبي بكر محمد بن مسعود النحوي. . . وممن أفاد من هذه الحركة أيضاً ثابت بن أسلم الشيعي قيم خزانة حلب وكان من كبار النحاة والقراء، ومنهم علي بن منصور بن طالب المعروف بابن القارح وهو الذي كتب إلى أبي العلاء رسالته المشهورة فأجابه أبو العلاء برسالة الغفران.

أما بعد فهذه صفحة من صفحات تاريخ حلب الأدبية الخالدة التي خلفها ابن حمدان فرفع اسم حلب عالياً وخلده في سجل الدب العربي، وما يضير ابن حمدان أن يأخذ عليه بعض المؤرخين أنه كان جائراً على رعيته فإنه ما كان يجور عليها إلا ليحارب العدو بأموالها أو لينفقها في سبيل تعليمها وتأديبها.

محمد أسعد طلس

ص: 24

‌سيجموند فرويد

العالم النفساني الكبير

للأستاذ صديق شيبوب

- 1 -

كانت هذه الحرب القائمة في شهرها الأول عندما حملت أنباء البرق نعي العالم النفساني الكبير (سيجموند فرويد) الذي أثار في حياته حرباً كلامية وقلميه لا تقل عنفاً عن حروب المدافع والقنابل، وأحدث في علمي الطب والنفس ثورة وانقلاباً لا يقل مداهماً عما تحدثه المدافع والقنابل في طبيعة الأرض وما تخلفه الحروب من تغيير في أحوال البلدان وطبيعة العمران ونفس الإنسان

ذلك هو (فرويد) الذي توفى في ليلة الأحد الرابع والعشرين من شهر سبتمبر من السنة الماضية، أي منذ عام تقريباً، في منزله بهامستيد بإنكلترا عن ثلاثة وثمانين عاماً قضاها في خدمة العلم باحثاً منقباً، خالقاً مبدعاً، لا تثنيه عن عمله هجمات مناوئيه، ولا تشغله عن أغراضه أمور الدنيا ومشاكل العالم، مخلصاً لفكرته، معالجاً لأبحاثه، ساعياً وراء غاياته، حتى ركز علماً قائماً على التحليل النفسي وعلاقته بالغريزة الجنسية، وأحدث حدثاً لم يقتصر أثره على الطب ومعالجة الأمراض العصبية وعلى علم النفس وتداخل الغريزة الجنسية فيه، بل تعداهما إلى الفنون والأدب.

ولد (سيجموند فرويد) بمدينة (فريبرج) الصغيرة بالنمسا في 6 أغسطس سنة 1856 وتلقى فيها التعليم الابتدائي ثم انتقل إلى فينا ودخل جامعتها ودرس الطب فيها، وبينما كان يشعر في قرارة نفسه بزهد في هذا العلم، وقد كان صريحاً حين كتب متحدثاً عن نفسه:(لم أشعر في طور الشباب وبعده بميل خاص لمهنة الطبيب أو مركز الطبيب من المجتمع.) ثم أضاف إلى هذا قوله: (على أنه كان يحركني نوع من الظمأ للمعرفة يتجه خاصة إلى الصلات الإنسانية أكثر منه إلى الأشياء الطبيعية.) وإذا عرفنا أنه ليس في علم الطب مادة تعرف بالصلات الإنسانية فهمنا كيف وصف نفسه بأنه كان يؤدي واجباته في الأبحاث الجامعية (في كثير من الإهمال) وكيف وجه دروسه في الوقت نفسه إلى اتجاهات أخرى،

ص: 25

وعلى أنه بالرغم من هذا التقصير وذلك الزهد فاز بشهادة الطب سنة 1881، وكان في مؤخرة الناجحين.

لم تكن مهنة الطب لتغري ذلك الطبيب الشاب بالرغم من فقره وحاجته إلى دخل يعيش به. فدفعه ميله إلى علم النفس إلى التخصص في مادة تتصل بهذا العلم وهي تشريح الدماغ والتحليل النفسي عامة، لأن الطب لم يكن قد قرر أن لكل فرد حالة نفسية يجب فحصها ودرسها على حدة، وهو ما استحدثه فيه (فرويد).

وقد تتلمذ فيما تخصص له على أستاذين اشتهرا بعلم التشريح وهما (بروك) و (مينير) فلم يلبثا أن لمسا في الطالب ميلاً طبيعياً إلى الاستكشاف المبدع.

نال (فرويد) سنة 1885 درجة (أجريجاسيون) في علم الأعصاب، وهي درجة يحسد عليها لأنها تدر عليه المال الوفير، ولكنه عندما أخذ يعالج مرضاه برزت فيه ميزة خاصة لازمته طول حياته وهي طول المراقبة وإنعام الفكر في الأسباب والنتائج.

كان يعرف أن الأساليب التي كان أطباء (فينا) يتبعونها في معالجة المصابين بالأمراض العصبية غير ناجحة ولا شافية، وكان قد بلغه كيف طرد شر طردة من عاصمة بلاد النمسا (فرانز أنطون ميسمر) حين شاء أن يدخل التنويم المغناطيسي على الطب، فضاق فرويد ذرعاً بحالته ولم يجد له وسيلة ليتخلص بها من سيطرة أساتذة الجامعة على الأطباء عامة.

في تلك الحقبة من عمره بلغه أن بباريس طبيباً يعالج الأمراض العصبية والنفسية على طريقة تختلف تمام الاختلاف عن طريقة الأطباء النمساويين، وهو (شاركو) المتخصص في علم تشريح الدماغ، وأنه يقوم بتجاريب عجيبة بوساطة ذلك الفن المستحدث الممقوت في بلاده، وهو التنويم المغناطيسي، فسعى (فرويد) حتى حصل على إعانة من الحكومة تساعده على السفر إلى باريس، وقد سافر فعلاً في سنة 1886 فوجد فيها جواً غير الجو الذي ألفه من قبل؛ وطالع كتاب الطبيب الفرنسي الكبير المسمى (الإيمان الشافي) فعرف الوسائل التي يدرس مؤلفه بواسطتها الحالات النفسية التي أحاطت بالعجائب التي روتها كتب الدين والتي كان الطب ينفيها إلى ذلك العهد.

شهد (فرويد) لأول مرة في حياته طبيباً يأبى أن يرى في (الهستيريا) مرضاً يصطنعه العليل أو يتظاهر به، كما كان يقرر أطباء النمسا، ويعترف بأنها مرض نفسي، بل لعله

ص: 26

أجدر أنواع هذا المرض بالعناية والاهتمام، ويدلل على أنه نتيجة اضطرابات داخلية يجب أن تكون لها أسباب نفسية، وقد برهن (شاركو) في محاضراته على أنه يستطاع شفاء هؤلاء المرضى بالإيحاء في حالات تنويمهم مغناطيسياً لأن علتهم خاضعة للإرادة وليست ظاهرة جسمية.

تأثر (فرويد) بما طالع وسمع وشاهد، وعرف أن بباريس من يعترف بأنه في معالجة الأمراض العصبية، لا يجب أن يحسب حساب الأسباب الناتجة عن الطبيعة فقط، بل الناتجة عن النفس وما وراء النفس أيضاً.

وعرف (شاركو) قدر تلميذه كما عرفه من قبل أساطين الطب النمساوي فقربه إليه، وصيره من أخصائه، ورغب إليه في نقل كتبه إلى الألمانية.

أقام (فرويد) بباريس شهوراً معدودة، ثم عاد إلى وطنه؛ وكان يشعر أن (شاركو) يسلك في علمه طريقاً غير الطريق السوي الذي يحلم به، لأن (شاركو) كان لا يزال يعني بالجسم ولا يتوجه تماماً إلى ما يجب أن يتوجه إليه من الناحية النفسية، على أن هذه الشهور التي قضاها بباريس أذكت في نفس الطبيب الشاب إرادة حملته على التحرر من الماضي، وشجاعة دفعت به إلى السير في المنهج العلمي الذي اختطه لنفسه.

قدم (فرويد) إلى الجامعة، بعد عودته من باريس، تقريره عن الدروس التي شهدها والعلوم التي استفادها والنتائج التي انتهى إليها، فابتسم أساتذتها عندما طالعوا فيه أن في الإمكان استحداث عوارض الهستيريا في الجسم العليل، وضحكوا عندما انتهوا إلى أن هذا الداء يصيب الرجال أيضاً، وكان هؤلاء الأساتذة يعطفون عليه في أول أمره، ولكنهم أخذوا يزدرونه عندما رأوه يمعن في آرائه ولا يحيد عنها، فأقفلوا في وجهه باب الجامعة، ونحوه عن جمعية الأطباء، فلم يفز بكرسي مدرس فوق العادة إلا بعد لأي، وبعد أن توسطت له مريضة سرية من اللواتي عالجهن، وكانت ذات نفوذ فعال، وقد ظل طيلة حياته أستاذاً ملحقاً غير أصيل، وعندما احتفل ببلوغ السبعين من عمره لم تعن جمعية الأطباء بتهنئته.

على أن هذا جميعه لم يفل من عزيمة (فرويد) ولم يحط من جهوده، فقد أكب على العمل منذ صباه جاداً مجتهداً وعاش حياته كلها على وتيرة واحدة.

أقام (فرويد) أكثر من سبعين سنة بمدينة فينا لا يغادرها؛ وقد رحل عنها بعد أن اضطر إلى

ص: 27

ذلك اضطراراً عندما ضمت ألمانيا النمسا إليها وفرض النازيون في هذه البلاد قوانينهم الجائرة على اليهود، وقد كان يهودياً، فكان من الأفراد القلائل الذين أجيز لهم مهاجرة النمسا وأخذ ما يكفيهم حاجتهم في الحياة.

وقد سكن، أثناء إقامته بفينا، أربعين سنة في منزل واحد لم ينتقل منه إلى غيره ولم يبدل في أقسامه وأثاثه؛ فهنا مكتبته وهناك عيادته التي يستقبل فيها مرضاه، وهذا مجلسه للمطالعة، وذاك مكتبه للكتابة والتأليف.

وبالرغم من أنه رب عائلة، ووالد ستة أولاد، فقد كان يقوم بعمله بنفسه لا يحتاج فيه إلى مساعدة، ولا يعرف شهوة غير شهوة العمل والمهنة.

لم يضيع لحظة من وقته الثمين سعياً وراء مظاهر باطلة وطلباً لألقاب زائلة. وقد كانت آلاف الأسابيع التي تألفت منها حياته تتتابع متشابهة متماثلة في دائرة العمل والاجتهاد، ولا يستثنى منها غير المحاضرات التي كان يلقيها بالجامعة في كل أسبوع من شهور التعليم، وغير مأدبة ثقافية على الطريقة السقراطية كانت تجمع طلبته حوله في مساء كل يوم أربعاء، وغير اشتراكه في لعب الورق بعد ظهر كل يوم سبت.

أما فيما عدا هذه الساعات القلائل فقد كانت كل دقيقة محسوبة عليه يستعملها في معالجة المرضى أو المطالعة أو الكتابة أو الأبحاث العلمية. وكان هذا الرجل الجبار يكتفي بساعات معدودة للراحة والاستجمام ينام فيها نوماً عميقاً ثم يقبل بعدها على العمل بكل ما فيه من حيوية هائلة وإرادة قوية.

كان (فرويد) يعمل نهاراً في عيادته فيستقبل عشرة مرضى أو أكثر، ويدرس حالة كل واحد منهم فاحصاً مدققاً مكتنزاً في ذاكرته كل مظهر من مظاهر عللهم، فإذا أقبل الليل انقطع إلى عمله الخالق المبدع القائم على تدوين النتائج التي انتهى إليها مما شاهده في النهار.

ولا شك أن هذا النشاط العجيب يحتاج صاحبه إلى صحة قوية وجسم سليم، وقد كان (فرويد) كذلك، فهو لم يعرف المرض في سني حياته الطويلة، ولم يشعر بتعب أو وني، ولم تفتر همته ولا ضعفت أعصابه أو تلاشت قدرته على العمل.

وقد أخذ نفسه في حياته العقلية بالصرامة التي أخذها بها في حياته العادية حتى صار مبدأه الوضوح في أعمال الرأي والتفكير والعمل، وصار التحليل غريزة في نفسه لا يستطيع

ص: 28

الانفكاك منها.

كان لا يهتدي في تفكيره بغير آرائه الخاصة؛ لذلك كان إذا عرض له أمر ولم يتبين له تفسير يرضى به عقله أبى أن يتخذ من رأي غيره تكأة للوصول إلى غايته، وظل يبحث ويدقق ويفكر حتى يبلغ قصده.

كان قاسياً في تصرفاته، عنيفاً في جدله، صارماً في أوامره، دقيقاً في تحليله، جلداً في البحث عن الحقيقة، حذراً من أن يخطئ في هذا البحث، لذلك لم تكن آراؤه مرتجلة وليدة الحدس أو الصدفة. فقد كان يدير الفكرة في نفسه سنين حتى إذا ثبت له أنها صحيحة أبرزها في جرأة وحرية. وقد صدق من وصفه بأنه كان بطيئاً في الوصول إلى الحقيقة، ولكنه إذا استقر على رأي صار من الصعب نقضه.

(للبحث صلة)

صديق شيبوب

ص: 29

‌عراك في معترك.

. .

أي معترك!

للأستاذ زكي طليمات

(بقية المنشور في العدد 378)

بعد هذا التمهيد ننزل إلى مناقشة الأستاذ متولي، وإن كنا في غنى عن ذلك.

يدعى الأستاذ، حفظه الله، أن بشر فارس في مقدمة مسرحيته (أراد أن يفسر الفنون الرمزية فطمسها). وحجته في ذلك كما يقول:(أن بشر فارس يحدثنا في مقدمته بالنزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي، كما يقول (ريبو) في كتابه (المخيلة الخلاقة) وهكذا يقرر متولي أن بشر يخلط بين ألوان الرمزية!

وقد رجعنا إلى هذا الكتاب وتتبعنا ما ذهب إليه متولي فوجدنا - ويا للعجب - أن كلام (ريبو) لا ينطبق على ما عناه متولي بالرمزية الفنية، بل هو كلام ينطبق على الرمزية الصوفية إذا اتجهت نحو ما وراء الطبيعة، والى القارئ نص (ريبو) كما ورد في كتابه المذكور المطبوع في باريس صفحة 196:

، ; ' ، '

وترجمة هذا: (إن الرمزية الصوفية في اتجاهها إلى الدين تعتمد على عنصرين أساسيين، هما المخيلة والشعور، فإذا ما اتجهت إلى الفلسفة أو ما وراء الطبيعة، فإنها تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي واهن).

وعليه فالأستاذ متولي هو الذي يخلط خلطاً صريحاً بين (الرمزية الفنية) وبين (رمزية ما وراء الطبيعة)، على ما في كلام (ريبو) من الوضوح!

وقد تحدث (ريبو) عن هذه (الرمزية الفنية) في غير هذا المقام، وذلك عند معالجته الرمزية في الأدب، أو بعبارة أخرى، عند حديثه عن المخيلة الخاصة بطريقة الأدباء الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر، وهي مخيلة تقوم على قوة العاطفة والانفعال.

وثمة تعسف آخر: يقول الأستاذ متولي، مستنداً إلى (ريبو) أيضاً: (إن الرمز في الفن هو

ص: 30

أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد)، وعلى ذلك فمتولي يخطئ بشر فارس إذ يقول في مقدمة مسرحيته: إن الرمز الذي بنيت عليه المسرحية (بعيد أن يكون لوناً من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك من ضروب المجاز بل هو صورة، أو قل سرب صور ينتزعها المنشئ من المبذول).

ونحن لا نعرف وجهاً لهذه التخطئة إلا أن يكون كلام بشر خارجاً عما يفهمه متولي من الرمزية، ويؤسفنا أن نذكر متولي بحقيقة كان يجب ألا تغيب عن ذهنه، وهي أن بشر فارس حر في أن ينحو النحو الذي يوافق هوى نفسه من ألوان الرمزية المستحدثة، وأن يعرض عن (ريبو). ويؤسفنا أيضاً أن نقول لمتولي، إن الرمز عند (ريبو) - وذلك في حدود الجملة السابقة لا يخرج عن (المجاز)، إذ المجاز عندنا (هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة)، ومن ذلك ما يعرف في باب (الكناية) بالرمز، وهو الكناية التي قلت الوسائط فيها وخفيت.

وغريب ألا يفطن متولي إلى هذا، لا سيما بعد أن نبه بشر فارس إلى ابتعاد طريقته عن مثل هذا الرمز، فأورد في (مقدمته):(إن مسرحيته مجراة على الطريقة الرمزية إذا شئت)، ثم وضع بشر بعد ذلك فصلاً في هذه المجلة شرح فيه لم قال (إذا شئت)، فدلَّ على أن الرمزية التي أنساق إليها وارتاح، هي شيء بين (التأثرية) و (التعبيرية)، وقوامها الحياة الباطنة، واعتمادها الاضطراب الدفين!. . .

من هذه المآخذ المتعسفة في نقد مقدمة المسرحية، انساب الأستاذ بقلمه إلى المسرحية نفسها متسائلاً (ما قيمتها كقطعة رمزية؟) وسرعان ما أفتى بعد ذلك، وبلسان (ريبو)، فقال (إن ريبو فيلسوفنا نفسه يقرر أن الرمزية تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء لا تنطبع بزمان أو مكان. . . وقد تمعن في الإبهام فتقول هو - أو - هي - أو - أحدهم)، فهل هذا مستوفي في مسرحية بشر فارس بعد أن أسمى بطلة مسرحيته (سميرة)، وبعد أن حدد المكان الذي جرت فيه حوادث المسرحية وهو مصر؟

وجوابنا على هذا:

1 -

أن (ريبو) قال (وقد تمعن)، و (قد) هنا للتقليل، وكان أن رجعنا بدورنا إلى النص الفرنسي فوجدنا أن (قد) هذه تساوي كلمة أي أن الإمعان في الإيهام ليس أمراً لازماً.

ص: 31

2 -

لو أحسن الأستاذ متولي استيعاب التبيين الذي عمله بشر عن شخوص مسرحيته في النسخة المطبوعة لأحجم عن هذا المأخذ؛ فقد جاء في ذلك التبيين أن (هو) - أي بطل المسرحية - عنوان الإنسان العادي المنشأ في حلقة المواضعات الاجتماعية) أما (سميرة)، فقد بيّن المؤلف في نفس التبيين أنها امرأة معينة، فمن المعقول أن يكون البطل (هو) لأنه عنوان لفئة غالبة من الرجال في مصر، وأن تكون (سميرة) - سميرة - لا (هي)، لأنها ليست عنواناً لفئة خاصة.

3 -

أن الأستاذ متولي أشكل عليه المر بين لون الرمزية عند (ريبو) وبين لونها عند بشر فارس، وأنه يعتبر رمزية (ريبو) هي ما انتهت إليه الرمزية المستحدثة، والأمر غير ذلك، فإن (ريبو) لم يفرض لونه في الرمزية إلا على بعض الكتاب الرمزيين في أواخر القرن الماضي، وفي مقدمتهم المؤلف المسرحي (ماتيرنيك) الذي وضع أكثر رواياته قبل عام 1900، فهل يريد الأستاذ متولي، وقد قطعت الرمزية مراحل بعد (ريبو) ألا يؤلف المعاصرون الذين يعيشون في عام 1940 إلا بحسب نظرية عمرها نصف قرن تقريباً؟

بعد هذا نقول إنه ليس للأستاذ متولي أن يفرض على مؤلف معاصر وضع مسرحية رمزية وفاقاً لمحرجات نظرية فلسفية سجلت عام 1900، وهو العهد الذي كان الأدب الرمزي فيه لم يتخط طوره الأول. وإنه لا يجمل بالأستاذ متولي - وهو ماجستير في الفلسفة - أن يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عندما كتبه العلماء في القرن الماضي، فالعلم يتقدم، والنظريات تتحور، وإلا فما قيمه ما كتبه (بيرجسون) و (وليم جيمس)، وهما العلمان البارزان في عالم الفلسفة المعاصرة، وما نفع مسايرة الأدب للعلم في تقدمه وفي مستحدثاته؟

زكي طليمات

ص: 32

‌قداسة النقد

لبرناردشو

لا يمكن للحضارة أن تتقدم بلا نقد، ولذلك يجب أن تنقذ نفسها من الركود والتعفن بأن تعلن براءة النقد، ولكن هذه البراءة لا تكون للآراء الطريفة اللذيذة، أو الحكيمة المحترمة فقط، بل أيضاً للآراء التي تصدم من لم يألفوا النقد وتبدو لهم كأنها داعرة أو ثورية أو تدعو إلى الٍزندقة والكفر؛ ولمن يدافع عن إبليس في حق البقاء إذ لعله يكون بشيراً للمستقبل، وهناك صعوبة في التمييز بين الناقد والمعتوه والمجرم، وكذلك بين حرية القول وحرية العمل. فقد يكون من الضرورات الحيوية اللازمة للأمة أن تجيز لأحد الأشخاص الدفاع عن العرى، ولكن قد لا يكون من الصواب أن تترك هذا الشخص يسير وهو عريان في شارع كبير في لندن. وكذلك الحال في كارل ماركس، فإنه كان مقدساً حين كان يكتب ويؤلف في الاشتراكية في قاعة المتحف البريطاني. ولكن لو أن كارل ماركس هذا رفض أن يؤدي أجرة منزله لصاحبه، وأرسلها بدلاً من ذلك إلى وزير المالية، وقتل وكلاء المالك الذين جاءوا لتحصيل الأجرة، أو أطلق الرصاص على المحضرين الذين جاءوا لتوقيع الحجز على أثاثه أو إخراجه من المنزل، لما استطاع أن يدفع عن نفسه حكم الإعدام بالشنق بدعوى حرية النقد. ومعنى هذا أنه لا يمكن للقاضي أن يأذن للناقد بالعمل وفق نقده إلا إذا غير القانون. ونحن ناقصون في التربية المدنية نقصاً خطراً حتى أن كثيراً منا يحسبون أن لهم الحق المطلق في تغيير أخلاق الأمة لمجرد أنهم هم غيروا آرائهم. ومن الناس من لا يفهمون غير المعنى الغامض للاشتراكية ويعتقدون أنها تعني حالاً من الاجتماع ينزل فيه كل إنسان عن كل ما يملك لكل إنسان آخر. ويسألونني من وقت لآخر لماذا أنزل عن ممتلكاتي وأعيش في فقر ما دمت اشتراكياً؟ ومن الناس من يتخيلون أن الاشتراكيين يجب ألاّ يقتنوا السيارات. وقد أوشك بعض هؤلاء أن ينجحوا في أن يجعلوا اقتناء رئيس الوزارة لسيارة خاصة من المسائل العامة التي تستدعي البحث والمناقشة، وذلك حين كان المستر مكدونالد اشتراكياً. ولو أن هؤلاء المعتوهون أدركوا حق الإدراك ما يقولونه لعرفوا أنهم مخطئون حين يفرضون أن الناقد الذي يكره النظام القائم يمكنه أو يجب عليه أن يعيش كما لو كان يعيش في طوباه، أي في النظام الخيالي الذي يتخيله. وذلك أن كل ما

ص: 33

يمكنه أن يحسب شاذاً في بعض سلوكه الذي تتسامح فيه الهيئة الاجتماعية.

أسكندر البطوسي

الليل. . .

(مهداة إلى الأستاذ الزيات. . .)

للأستاذ أنور العطار

هَذَا هُوَ الَّليْلُ الدَّجِىُّ الإِطارْ

قد أحْتَوَى الشَّمْسَ وَضَمَّ النَّهَارْ

أَلْقَي وِشَاحاً حافِلاً بالرُّؤَى

عَلَيْهِ مِنْ سِحْرِ الدَّرَارِي نِثَارْ

طَفَتْ عَلَيْهِ صُوَرٌ حُلْوَةٌ

مَنْسُوجَةٌ مِنْ أَلَقٍ وَافتِرَارْ

تَلألأتْ أَنْجُمُهُ بالسَّنَا

وَرُصِّعَتْ أَفْلَاكُهُ بالنُّضَارْ

وَهَبَّ مَلْكُ الَّليْلِ يُغْرِي الرُّبا

وَيَفْتِنُ النَّهْرَ وَيُصْبِي الدِّيارْ

وَزَوْرَقُ الأَحْلَامِ في زَهْوِهِ

حَامَ عَلَى عَذْبِ مُنَاهُ وَدَارْ

تَحْملَهُ المَوْجَةُ ثَرْثَارَةً

مُنْشِدَةً في صُعُدٍ وَانْحِدَارْ

والشَّطُّ مَغْمُورٌ بِأَصْدَائها

مَشَى عَلَيْهِ خَشْيَةٌ وَانكِسَارْ

والنَّخْلُ مَفْتُونٌ بِلَحْنِ الهَوَى

مَاجَ بِه الشَّوْقُ طَويلاً وَمَارْ

يُصْغِي إلى الأَنْغَامِ عُلْوِيَّةً

وَمَا غِنَاءُ الحُبِّ إِلاّ ابْتِكاَرْ

تَوَهَّجَتْ فَحْمَةُ هَذا الدُّجى

فَشَاعَ في الآفاقِ مِنها شَرَارْ

يا حُسْنَةُ مِنْ عَالَمٍ سَاحِر

يكْتَتِمُ النَّجْوى وَيُخْفِي السِّرَارْ

باحَ لهُ الْقَلْبُ بِأَشْجَانِهِ

وَمَا يُعَانِي مِنْ رَسِيسِ الأَوَارْ

والمُقْلَةُ الْحَمْرَاءُ مِنْ سُهْدِهَا

نَاجَتْهُ لْهَفَي بدُمُوعٍ غِزَارْ

الأَمَلُ الرَّفّافُ عَنها انْطَوَى

وَبُلْبُلُ الحُبِّ تَغَنَّى وَطَارْ

السَّامِرُ انْفَضَّ بأُلاّفِهِ

وَغَابَ فِي حُلْمٍ شَهِيِّ القَرَارْ

وَالرَّكْبُ أَغْفَى بعد طُولِ السُّرَى

وَلَم يَعُدْ يُلْمَحُ فِي الأَرْضِ سَارْ

وَنَامَتِ الأَدْوُرُ حتى الكوَى

جَلّلَهَا النَّوْمُ بِضَافِي الدِّثَارْ

يا هَاجِرِي لَم تَكْتَحِلْ مُقْلَتِي

بالْغُمْضِ مُذْ غِبْتَ وَشَطَّ الْمَزَارْ

ص: 34

القَلْبُ مِنْ بَعْدِكَ مِلْكَ الْجَوى

مُعَذَّبٌ مُخْتَطَفٌ مُسْتَطَارْ

حَذِرْتُ أَنْ نُرْمَي بِسَهْمِ النَّوَى

فلم يُفِدْ إِلاّ الرَّزَايا الْحِذَارْ

وَحَظُّنا العَاثِرُ أَوْدَى بنا

وَمَا يُرَجَّى أَنْ يُقَالَ العِثَارْ

هَلْ غَشِيَتْنَا عَادِيَاتُ الرَّدَى

أَمْ َهلْ بَغَي الدَّهْرُ عَليْنَا وَجَارْ

أَظَلُّ حَيْرَانَ أُنَاجِي الْمُنَى

كأنَّني فِي غَمَرَاتِ الْعُقَارْ

أَذَّكِرُ الْعَهْدَ فَأَبِكي أَسىً

وَمَا حَيَاةُ الْقَلْبِ إِلاّ أذِّكَارْ

اللَّيْلُ ذُو الأَنجُمِ أَفْنَيْتُهُ

مِنْ شِقْوَتِي فِي رِقْبَةٍ وَانْتِظَارْ

وَالسَّهْدُ أَضْنَاني وَلَوْلَا الْهَوَى

مَابتُّ نَهْبَ الشَّجْوِ رَهْنَ السبَارْ

أَقْتَاتُ بالوَهْمِ الذي مَضَّنِي

وَلَم يَدَعْ لِلرُّوحِ إِلاّ الْبَوَارْ

يا هاجري أَوْسَعْتنَيِ حَسْرَةً

قَلِبي مُعَنَّى وَالْجَوَى مُسْتَثَارْ

أَعِيشُ لِلْبَلْوَى وَمُرِّ الضَّنَى

فِي نَاظِرِي جَمْرٌ وَفِي الصَّدْرِ نَارْ

يَشُوقِني الْحُبُّ وَأَوْجَاعُهُ

وَما حَوَى مِنْ قَلَقٍ أَوْ إِسَارْ

وَاَنتَشِى مِنْ ذِكْرَيَاتِ الهوَى

كأَنما تِلكَ الأَماني خُمَارْ

يا هاجِري لَم تَرْعَ عَهْدَ الهوَى

أَسْرفْتَ فِي الصَّدِّ وَزِدْتَ النِّفَارْ

أَفِقْ تَجِدْني سَاهِماً سَاهِداً

ليْسَ لِهذى الروح عَنْكَ اصْطِبَارْ

وَتَلْمِسِ الشَّوْقَ الذي شَفَّنِي

مُحْتَدِماً فِي لَهَبٍ وَاسْتِعَارْ

أَوْجَعَ قَلبِي وَأَثَارَ الْجَوَى

وَهَاجَ مِنِّي الْحَسَراتِ الحِرَارْ

الأُفْقُ مَحْجُوبٌ بِسُحْبِ الدُّجَى

وَالْكَوْنُ مَسْدُولٌ عَليْهِ سِتَارْ

ص: 35

‌عيناك.

. .

للأستاذ خليل شيبوب

أَسْكَرَتْنِي عَيْنَاكِ إِذ سَقَتَانِي

خَمْرَةَ اللّحْظِ أَيْنَ مِنها الْحُمَيَّا

ثَبَتَتْ في عَيْنَيَّ عَيْنَاكِ حَتَّى

أَصْبَحَ اللّحْظُ مِنهمُا لِي رَئيَّاً

وَهُما زَهْرَتَا حَيَاتي وَنَجْما

عُمُري والْهَوَى مَلِيّاً مَلِيّا

وَهُما لِي مِرْآةُ عَيْنَيَّّ يَبْدُو

فِيهما لِي مَرْأَي الحياةِ جَلِيّا

أَيْنَما سِرْتُ قابَلتْنِيَ عَيْنَاكِ

هُدىً لي واسْتَهْوَتَا عَيْنَيَّا

فِي غُدُوِّى وفي رَوَاحِي وفي اليَقْ - ظَةِ وَالحُلْمِ إنْ أَنَا نِمْتُ شَيَّا

وَإذَا ما قرَأْتُ طَالَعَتَاني

في كتِاَبي وَاسْتَعْصَتَاهُ عَلَيّا

وَإذا ما شَرِبْتُ كأْسِي أَرَى في الكأْ - سِ عَيْنَيْكِ تَنْظُرَانِ إلَيَّا

ص: 36

‌إلى النشيد الهارب!

(مهداة إلى الأخ الحبيب الشاعر النابغة الأستاذ (صالح جودت)

عجل الله بشفائه ورده إلينا معافى سالماً)

للأستاذ مختار الوكيل

أين أزمعتَ هارباً يا نشيدي؟

كيف خلّفتني رهين قيودي

كيف راودتني بحلمٍ سعيد؟

ثم أَرَّقتَني بهَمٍّ شديد؟

كنتَ مَنّيْتَنِي بِعُشٍّ فريدٍ

مشمسٍ باسمٍ نضير الورود!

أتغَنَّى فيه بلحن الخلودِ

فتطيبُ الحياةُ بالتغريد!

أين ما كان بيننا يا نشيدي

من عهودٍ مرعيةٍ ووعود؟

من وفاقٍ وصحبةٍ ووفاءٍ

وصفاءِ مُنَزٍّهٍ ممدود؟

كنتَ علَّمتني صراع الليالي

كنت زوَّدتني بقلبٍ جديد

كنتَ أعليتني على النجمِ غرِّي

داً، وألهمتني قصيدَ الخلود!

كنت أَسْلَمْتَنِي قلوبَ الغواني

كنت أمتعتني بكل فريد!

كيف خلَّفتني رهينَ ظلامي؟

كيف بالله خنتني يا نشيدي؟

آدميّاً أصبحتُ أمشي ثقيلاً

في قيودٍ خليقةٍ بالعبيد

سادراً، أخرسَ الشفاه، حزيناً

غارقاً في كآبتي وشرودي!

تملأ البسمةُ الشقيَّةُ وجهي

وينمُّ الذبول عن تسهيدي!

عُدْ كما كنتَ مُلْهِمِي يا نشيدي

لا تَدَعْنِي مُكَبَّلاً بقيودي!

عُدْ فما أَرْتَجِي سِوَاكَ صَديقاً

ومُعِيناً على الحظوظ السُّودِ!

عُدْ تَعُدْ لي الحياة بعد أُفولٍ

وأُغنِّ الأنام لحنَ الخلود!

ص: 37

‌إلى الملاح التائه

(مهداة إلى الأستاذ علي محمود طه)

للسيد أحمد عبد الجبار

أيها التائه في بحر الحياه

تضرب المجداف يمنى ويسارْ

خذ بأيدينا إلى شط النجاه

واشدنا لحن كنار وهزار

أترك القارب بين اللج يطفو

وادر حيزومه نحو النجوم

عله يترك هذا البحر يغفو

وَيِغُذُّ السير في بحر الغيوم

طف بنا فوق البراري نتملى

حسن هذا الكون من برج السماء

واشدد الأوتار كيما نتولى

ساحة الأحلام في صحن الفضاء

خلّ لي التجذيف واشرع بالغناء

واسكب الألحان في صدر النسم

علها تحمل عنا ذا العناء

وتذيب العطر في ثغر النعم

أيها الملاح ما هذى الدُّنا

حل في أرجائها سم الظلامْ

ململت فيها تراتيل السنا

وطغت فيها أحابيل الحرام

دع شراع الفلك يحمينا الخنا

واترك المزهر في أيدي القصيد

فجميل الشعر دارات الهنا

ينعش السكري ويحي من جديد

سر بنا يا فلك نحو المستحيل

وامش يا قارب صوب اللانهاية

فسكون الليل براق جميل

وعيون الله تومى بالهداية

يا لطير الليل ما هذا الهزيج

يا لقلب النجم ما هذا القلق

كل ما في الكون يسري في ضجيج

وضجيج الروح أحلى وأرق

آهة الأقدار في كاس هوانا

ونعيم الخلد في بحر الغيوم

غنانا يا خل واطرب من غنانا

واشرب الراح على رقص النجوم

هاهو الشاطئ قد طل علينا

وبدا وجه الروابي والفنار

واقفٌ جبريل مشتاق إلينا

وعلى أيكتنا رضوان حار

هذه الحور بأثواب الحبور

شفها الوجد وأضناها الغرام

قادمات نحونا تبدي السرور

فاغضض الطرف وبادر بالسلام

ص: 38

هاهنا جنتنا فارح الشراعْ

واطوِ هذا القلع فوق الساريه

ودّع البحر فقد آن الوداع

وابق يا ملاح رب القافيه. . .

ص: 39

‌رسالة الفن

تأملات:

بين الكواليس. . .

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

بدءوا يستعدون للموسم التمثيلي الجديد، وسيكون موسماً بإذن الله، وستكون بدايته حافلة ببعض الروائع التي طال اشتياقنا إلى أمثالها. فأم كلثوم تعرض في هذا الأسبوع (دنانير)، وهي أوبريت موسيقية ساهم في تلحينها كل من: زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي. والفرقة القومية تعرض هذا الأسبوع أيضاً (يوم القيامة)، وهي أوبريت كتلك، انفرد بتلحينها زكريا أحمد، ووضع أزجالها بيرم التونسي، وأخرجها عمر جميعي. وملك تعرض هي أيضاً في هذا الأسبوع مسرحية بدوية زجلية لبيرم التونسي، لحنت هي أغانيها وأناشيدها. ونجيب الريحاني مشغول في هذه الأيام بإعداد روايته الجديدة التي يظن أنه سيستطيع أن يفرغ منها في هذه الأيام ليبدأ العمل بها في رمضان، والتي أظن أنا أنها ستتعطل بين يديه قليلاً أو كثيراً حتى يتم له إخراجها على النحو الذي يرضيه هو تدقيقاً وتنميقاً. ويوسف وهبي قد أعلن عن المسرح الجديد الذي سيحتله هذا العام، وإن لم يكن قد أعلن عن روايته الجديدة؛ ولكن يوسف مضمون من حيث محافظته على المواعيد، فهو يستطيع أن يؤلف رواية في يوم وأن يخرجها في يوم، وأن يطالع بها الجمهور في اليوم الثالث، وهو واثق من أن الجمهور سيرضى بها وسيرضى عنه. . .

وقد خطر لي أن أقوم في هذا الأسبوع بجولة (بين الكواليس)، لأرى كيف يهيئ هؤلاء الفنانون عملهم، فرأيت، وكما رأيت تذكرت حوادث قد يلذ للقراء أن يطالعوها:

اضربني يا علام. . .

كان على الأستاذ جورج أبيض أن ينطلق إلى المسرح ساخطاً هائجاً في موقف من مواقف (عطيل) أو (لويس) لا أذكر. . . وراح الأستاذ جورج يهيج نفسه ويثير فيها ألواناً من الغضب الصناعي يستعين به على الاندماج في الدور، ولكن نفسه كانت في هذه الساعة مملوءة حلماً ووداعة، فلم تتح له شيئاً من الهياج والغضب اللذين كان يطلبهما. . . فحزن،

ص: 40

وتبادر اليأس إلى نفسه، وتراخت أعصابه، وكاد يتسرب من المسرح ويدع الجمهور ويهرب، لأنه كره أن يخرج إلى الناس بارداً في موقف يجب أن يكون فيه كالإعصار أو أشد ثورة. . . وبينا هو في هذا اليأس المعتم أبصر بالأستاذ أحمد علام يتبختر بين الأستار منتظراً أن يحين موقفه وأن يناديه مدير المسرح. . .

فأسرع الأستاذ جورج إلى الأستاذ علام وقال له بهذه الطفولة الضخمة المتجسدة فيه:

- هيجني يا علام. . . أغضبني!

- العفو يا أستاذ!

- لا عفو، ولا يحزنون، أريد أن أغضب وأن أثور. . . اضربني. . .

- لا يصح يا أستاذ. . .

- أرجوك يا علام. . .

- ولكن كيف أضربك يا أستاذ. . .

- هكذا. . .

. . . وهوى الأستاذ جورج بكفه على وجه الأستاذ علام بضربة كاد علام يفقد فيها أضراسه وأسنانه، وكانت هذه الضربة مفتاح الغضب الذي نشده جورج، فهاجت عندها أعصابه، وكانت دخلته إلى المسرح أزفت، فناداه مدير المسرح فدخل، ورآه الجمهور هائجاً مائجاً ساخطاً كما يجب أن يكون السخط والغضب فرضي عنه. . .

ولكنهم لم يروا علاماً الصريع الذي كان يتلوى بين الكواليس من الوجع والألم. . .

يا حبيبتي يا بنتي

وكان على الأستاذ عزيز عيد أن يخرج على الناس باكياً في مشهد من رواية لا أذكرها هي أيضاً. . . والأستاذ عزيز في طبعه صبر متأصل، ورضى متمكن؛ ورجل هذا شأنه، لا يستطيع أن يبكي بسهولة. ولذلك، فأنه حاول البكاء قبيل مثوله بين أيدي الناس، فلم تجبه من عينيه دمعة واحدة

فماذا صنع؟

رأى ابنته عزيزة الصغيرة تلعب مع الممثلين والممثلات، وتطفر في أرجاء المسرح من هنا إلى هناك، فجاءته فكرة عجيبة. . .

ص: 41

نادى ابنته. . . ونادى اثنين من عمال المسرح، وطلب منهما أن يسرعا فيحضرا له نعشاً كانوا يستعملونه في إحدى الروايات، فأحضر العاملان النعش، وطلب عزيز من ابنته أن تنام فيه، وأن تغمض عينيها وقال لها:

. . . موتي قليلاً يا ماما. . .

وابنته، أبوها هو، وأمها فاطمة رشدي، فالتمثيل يجري في دمها وأعصابها. . . نامت في النعش، وتماوتت، بل إنها استطاعت أن تكتم أنفاسها وأن تبعث إلى وجهها صفرة وبرودة، وأخذ عزيز ينظر إليها وهو يقول لها:

- يا حبيبتي يا بنتي. . . الله يرحمك يا بنتي. . . أنا مسكين بعدك يا زوزو. . .

. . . انطلق لسانه بهذا، فسمعته أذناه، فصدقه عقله، فأحسه قلبه، فذرفت الدموع له عيناه. . . بكى، ولم يكن يريد إلا أن يبكي، ودخل إلى المسرح باكياً كما أراد. . .

الرقم القياسي

معروف عند أهل الفن أن الأستاذ نجيب الريحاني هو أشد المخرجين أتعاباً لممثليه، فهو يكثر من البروفات إكثاراً مضنياً حتى ليحفظ ممثلوه أدوارهم حفظاً عن وجه قلب لا عن ظهر قلب. فالممثل منهم بعد أن تتم بروفات الرواية يجد نفسه قد لبس في حياته الخارجية الدور الجديد الذي عهد إليه به، ويجد نفسه يحادث أهله وأصدقاءه في البيت والشارع بالجمل والعبارات التي تضمنها دوره. . .

هذا هو المعروف عند أهل الفن، ولكن الأستاذ عمر جميعي قد وصل إلى رقم قياسي عال جداً في اهتمامه ببروفات (يوم القيامة) فقد حمل ممثليها من أفراد الفرقة القومية على أن يقوموا بها أكثر من ثلاثمائة مرة بدون مبالغة، وليس ذلك لعجز فيه ولا ضعف، فقد شهد كثير من الفنانين الذين يعتد برأيهم وعلى رأسهم الأستاذ منسي فهمي بأن كل الروايات التي أخرجها الأستاذ عمر للفرقة القومية كانت أكثر روايات الفرقة القومية نجاحاً وتوفيقاً. . . وإنما يفعل عمر ذلك (بيوم القيامة) لأنها فتح جديد في عمل الفرقة القومية، فهي الأوبريت الأولى التي تقدمها الفرقة للجمهور، وقد أنفقت الفرقة على إعدادها أكثر مما أنفقت على أي رواية أخرى، وهو يشعر بخطورة هذه الأمانة الملقاة على عاتقه، وهو لذلك يريد ألا تخرج هذه الرواية من بين يديه إلا على أكمل وجه يستطيع تحقيقه. . .

ص: 42

ولا ريب أن الله سيكافئه على أمانته وجده هذين.

أبو العلاء المعري

أعلن الأستاذ علي الكسار يوماً عن رواية البخيل لموليير، وذكر في الإعلانات أنه ترجمها إلى العربية بنفسه، والأستاذ علي الكسار ممثل موهوب من غير شك وإن كان التعليم ينقصه، فقد فاته حتى أن يلم بالقراءة والكتابة، وهذا شيء لا يحط من موهبته الفنية.

فسأله سائل: كيف جرؤت يا أستاذ (علي) على أن تدعي أنك مترجم (البخيل) مع أن الناس يعلمون أنك لا تقرأ ولا تكتب؟

فأجابه الأستاذ الكسار مسرعاً: وهل كان أبو العلاء المعري يقرأ وهل كان يكتب؟

وكان جواباً مسكتاً من غير شك.

رهان

يسبق إحساس الأستاذ يوسف وهبي عقله ولسانه وهو على المسرح أحياناً، وفي هذه الأحيان لا يرضى الأستاذ يوسف وهبي بأن يتريث وأن يتثاقل بإحساسه حتى يواتيه عقله ويواتيه لسانه بالألفاظ العربية التي يجب أن ينطق بها حتى يفهم الجمهور ماذا يريد أن يقول، وإنما يترك الأستاذ يوسف في هذه الأحيان نفسه ويدع لسانه ينطلق بأي ألفاظ مفيدة كانت أو غير مفيدة، عربية كانت أو غير عربية، ويكتفي الأستاذ يوسف في هذه المواقف بأن يعبر بصوته المنغم وإشارته المحكمة عما يريد أن ينقله من نفسه إلى الجمهور على شرط أن يختم هذه الانطلاقة بكلمة واحدة أو كلمتين فيهما تلخيص أو تركيز للمعنى الذي يريد أن يعبر عنه. . . فإذا كان في حالة سخط مثلاً، وحدث له هذا الذي يحدث له من مس الجن أو مما لا أدري، قال مثلاً:(أنت يا من جهنم والحديد شرر من أبالسة النار ينهار فوق رؤوس الشياطين حمم ونار وكبريت) يقول هذا، أو يقول ما يشبهه، والجمهور مأخوذ به، قد استولت عليه الكهرباء المنبعثة من أعصاب يوسف الذي يحرق نفسه على المسرح؛ فلا يستطيع الجمهور إلا أن يقبل هذا الكلام على أنه معقول ومفهوم، وعلى أن معناه متصل بالمتميز من ألفاظه، وألفاظه المدركة المتميزة هي: نار، وجهنم، وأبالسة، وشياطين وحمم وكبريت. . . والجمهور لا يعنى في مثل هذه الحال بتحديد المعنى على وجه الدقة، وإنما

ص: 43

هو يرضى بعموم المعنى وعموم الحال. . .

وقد حدث أن زار الأستاذان بديع خيري وزكريا أحمد الأستاذ يوسف وهبي في مسرحه يوماً، ودار بينهم الحديث عن هذه المسألة واتهم الأستاذ بديع خيري الأستاذ يوسف وهبي بأنه (يهوش) الجمهور بها. . . فقال له يوسف:

- إنني لا أهوش. . . وهاأنت ذا تعرف أنني أفعل هذا، ولست أطلب منك إلا أن تنزل إلى القاعة، وأن تشاهدني الليلة وأنا أمثل، وهاأنذا أحيطك علماً منذ الآن بأني سأختم الفصل الأول بشيء من هذا، وكل ما أرجوه منك هو أنك تصدقني القول بعده، وأن تقول لي اهتزت لي نفسك أو لم تهتز، وهل صفقت لي أنت وصاحبك زكريا هذا أو لم تصفقا. . . وأطلب قبل ذلك من الله أن يسهل لي الانطلاق الذي أريده. . .

وتراهنوا. .

ونزل بديع وزكريا إلى القاعة، وتابعا يوسف وهو يمثل، ولم يشعرا بنفسيهما إلا والستار يسدل عن الفصل الأول وهما يصفقان مع المصفقين ليوسف.

ولم يدرك أحدهما أن يوسف فعل فعلته إلا بعد نزول الستار، عندئذ ضحكا حتى كادا يختنقان من الضحك، ويقول الأستاذ زكريا أحمد إن الأستاذ بديع خيري صعد بعدها إلى حجرة يوسف وقال له:

- إنني آمنت بك. . .

. . . أما أنا فأعوذ بالله من يوسف وهبي فهو جن وإن كان من المسلمين.

عزيز أحمد فهمي

ص: 44

‌البريد الأدبي

الكرم الجارمي

للأستاذ علي الجارم بك شُهرة عريضة بالكرم والجود، وهذه الشهرة

هي التي قضتْ بأن تَكِل إليه وزارة المعارف تحقيق كتاب (البخلاء)

فما كان يمكن الوصول إلى أسرار ذلك الكتاب إلا إذا اضطلع بتحقيقه

رجلٌ خبير بمعاني العرب في العطاء والمنع، والسخاء والشُّح،

وبضدها تتميز الأشياء.

والكرم المأثور عن الجارم هو السبب فيما يقع من تغاضيَّ عن السؤال عنه حين يصطاف بالإسكندرية، فقد كنت أكتفي في تحيته بالسلام على الجدران فراراً من التعرض لكرمه العجاج، وهو كرمٌ قد يطغى فيتلف أمعاء المواهب، وأنا أزهد الناس في هذا الصنف من الجود!

واخطأ من قال إني كنت أتقرب إلى الجارم بترك السلام عليه، وهو قول يُقبل لمعنىً واحد هو توشيته بالبراعة والذكاء ماذا أريد أن أقول؟

أنا أمشي على الشوك في سبيل الوصول إلى عرض القصة الآتية:

منذ آماد طوال دخل الأستاذ سامي عاشور مكتب تفتيش اللغة العربية بوجه مشرق بسام وهو يقول: مبارك يا جارم بك! مبارك يا جارم بك!

فتهلّل وجه الجارم وقال:

- خير، خير!!

- خير جزيل، ولكن هات (الحلاوة)

- يا حلاوة عليك يا سامي بك يا حبيبي يا نور عيني، هات ما عندك هات!

- سيصدر قرار وزير المعارف بعد ثلاثة أيام بترقيتك إلى الدرجة الثانية.

- الدرجة الثانية؟ الله يبشرك بالخير، ما يجيء من الجميل إلا الجميل.

وبعد تروّ لم يطل أكثر من عشر دقائق توكل الجارم على الله وأعلن أن الحلاوة هي وليمة فيها (صيّادية) مطبوخة على أسلوب أهل رشيد!

ص: 45

ثم توكل على الله مرة ثانية وقال: وسيكون معنا الدكتور مبارك ليعرف البيت وليحدِّث (أميرة) عن سميّتها في بغداد.

فالتفت إليّ الأستاذ سامي عاشور وقال: ما رأيك؟

فقلت: أفلح إن صدق!

فقال الجارم: سأصدُق لأكفّ شرَّك عني!

ومرّ يوم وأيام وأسبوع وأسابيع وشهر وشهور، ولم يف الجارم بما وعد، وطال التسويف حتى نسيتُ، وهل كنت أصدِّق أن الجارم يسره أن يعرف أحد أين يقيم؟

ولكن الأيام تصنع الأعاجيب، فقد لقيت الأستاذ سامي عاشور ونحن نراقب الامتحانات في إحدى المدارس، وبلغ مني العجب كل مبلغ حين رأيته لا يزال يذكر (حكاية الوليمة الجارمية)!

- ماذا نصنع في قهر الجارم على الوفاء بالوعد؟

- لا أعرف ماذا نصنع!

- نخوّفه بالشعر

- ولكني لا أجيد الهجاء

- وكيف تكون شاعراً إذا كان (الكرم الجارمي) لا يوحي إليك معاني الهجاء؟

وخِفتُ أن يقال: إني لا أجيد الشعر إلا في باب واحد هو النسيب، فصخختُ الجارم بهذه الأبيات:

وما بالجارم الصنَّاج بُخلٌ

بزادٍ من طعامٍ أو شرابِ

ولكنْ المكارم أتعبتْهُ

قفرَّ من السخاء إلى الدَّعاب

فإن يُطعمِك في (نيسان) يوماً

بوعدٍ مثل رَقراق السَّرابِ

فصدِّقه ولكنْ لا تؤمِّل

نداه ولو صبرتَ لشهر (آب)

فليس بمُنجزٍ في الجود وعداً

ولو طاردته يومَ الحساب

ثم مضيتُ فأمليتُ هذه الأبيات على جماعة من الموظفين والمدرسين، وترفَّق الأستاذ سامي عاشور فأنفذها إلى الجارم بك على يد رسول بارع في إصلاح ذات البَيْن!

ثم ماذا؟ ثم هرب الجارم إلى رشيد، وهو يزعم أن الإقامة في القاهرة أصبحت لا تطاق

ص: 46

بسبب (الغارات الشِّعرية)!

ولكن الجارم سيرجع، وقد رجع بالفعل، فما عسى أن نصنع لنروضه على الوفاء بالوعد.

يرى الأستاذ محمود العزَب أن نشر هذه الأبيات في الأهرام بعد نشرها في الرسالة قد ينفع بعض النفع في إثارة النخوة الجارمية وإلا فسيدعو الأدباء إلى اكتتابُ يعين الجارم على إعداد الصيادية الرشيدية.

أما أنا فأعرف أن الجارم سينكر القصة بحذافيرها، وسيقول: إنها (سمكة رمضان)، لا (سمكة نيسان)؛ وهل تجتمع أهوال الحرب وأهوال الوليمة على رجل في مثل رقة الجارم الصّنّاج؟

زكي مبارك

حول كلمة (تبان)

جاء في عدد (الثقافة) رقم 880 في مقال للدكتور بشر فارس عنوانه (الزاد المهمل) ما نصه: (أخذت معي لباس استحمام أحمر وقميصاً أصفر وتُبّاناً أزرق ثم سلكت في مطاويها ثلاثة كتب). ثم علق على كلمة تبان في الحاشية بقوله: (أعرض لفظة التبان للتعبير بها عن كلمة ويفهم من كلام الدكتور بشر هذا أنه أول من اختار هذه الكلمة للتعبير بها عن كلمة (شورت) غير أننا قد قرأنا في كتاب (وحي القلم) للمرحوم الرافعي ج أول ص200 ما نصه: (وهانحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العرى وأصبحنا نجد لفيفاً من الأوربيين المتعلمين رجالهم ونسائهم إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلاً يلبس في حقويه تُبّاناً قصيراً كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء - إذا رأوا هذا المتعفف بخرقه أنكروا عليه وتساءلوا: من. . . من هذا الراهب).

وواضح من هذا أن الدكتور بشر فارس ليس أول من تقدم بهذه الكلمة معبراً بها عن كلمة (شورت) وإنما للرافعي فضل الأسبقية.

(الأبيض - سودان)

ع. ا. سعد

إعادة الحياة إلى خلايا الجسم البشري

ص: 47

أذيع في نيويورك أن عالماً ألمانياً كان يقوم باختباراته في مستوصف في قرطبة، استطاع - وهو يحاول درس أنسجة خلايا جسم الإنسان ليعرف هل تموت فعلاً أو لا تموت - أن يرد الحياة إلى أنسجة خلايا جثث المصريين المحنطة منذ 5300 سنة

وقد بدأ هذا العالم - واسمه الدكتور بوزي جراوتز - تجاريبه من عدة سنوات، فتبين له أن الأنسجة البشرية بعد أن حفظت في الكحول منذ 38 سنة أخذت تنمو نمواً كاملاً عندما وضعت في مادة مقوية خاصة.

كذلك يقال إنه أخذت من المتحف الوطني في (لابلاتا) عينات من أنسجة 12 مومياء متوسط عمرها 5300 سنة، وأن هذه الأنسجة وضعت في مواد مقوية فأخذت الحياة تدب في ذلك اللحم البشري.

ويقال أخيراً إن آلة تكبير الصور قد سجلت حركة دبيب الحياة في الخلايا، وأن هذا العالم يقول: إنه حينما يموت الإنسان لا يحدث له سوى انحطاط في الخلايا يبلغ حالة السبات، ولكن هذه الخلايا تكون مستعدة للعودة إلى الحياة في حالات ملائمة.

إلى الدكتور زكي مبارك

قرأت كلمتك النبيلة التي وجهتها إلي في مقالكم السابق بالرسالة الغراء: قرأتها بعني، وأدركتها بقلبي، فكأنما كانت لمشاعري نشوة ذكرى، ولخواطري انتباهاً ويقظة. . . وفهمت منها معنيين! فقد أدركت بل أدرك قلبي أن وراء هذه الألفاظ ألفاظاً أخرى من الشعور لا تقرأ بالعين ولكن يدركها القلب، رأيت فيها تحية نبيلة من أخ عزيز نبيل، وأحسها قلبي عتاباً نبيلاً!

فيا أخي العزيز الكريم. . . لئن تك قد تلفت فرأيت صديقك العزيز محمود البشبيشي، وقد أسعده الحظ بلحظات كلحظات الحلم مرت بخيال مشرّد معذّب. . . فإن قلبي هو الذي تلفت وسمع ورأى! سمع أخاً وفياً، ورأى شقيقاً كريماً.

يا دكتور إن القلوب لتسمع وترى وتتلفت!

علم الله أن الذي منعني من العودة إليك تلك الليلة السعيدة هو مرض ابنتي. . . علم الله أيضاً. . . وتعلم شجرة الكافورة السعيدة (بما كساها الأستاذ الكبير الزيات من النباهة

ص: 48

والخلود). . . أنني عدت ثم عدت فلم أجدك.

أخي الفاضل. . . لعل من غريب المصادفات أن أحس قبل مقابلتي لك بأيام رغبة غريبة وإحساساً قوياً وميلاً جامحاً للتمتع بهديتكم الكريمة (النثر الفني). . . ترى هل كانت رغبة في الاطلاع والمعرفة بعد غفوة طالت!!؟ أم هو الشوق إليك جعلتني أتصوَّرك في أسلوبك!! وكم يتجسم الفنان البارع في أسلوبه!!. . . إنها القلوب. . . قلوب الإخوان تتلفت وتشعر وترى. . . وإنه الشعور الحي لغة القلوب!!

والسلام عليك من أخ طالت غربته عن رياض القلم. ولكن لم تزل أوتار نفسه تهتز لكل رائع من الأساليب وفاتن من القول. إنها لا تزال تهتز لأنها تعودت ذلك عن طبع وخلق.

أخوك المخلص

(المنصورة)

محمود البشبيشي

أجوبة عن أسئلة:

وجه إلينا الدكتور زكي مبارك عدة أسئلة، يطلب منا الإجابة عليها، وكان ذلك رده على كلمتنا التي نبهنا فيها على الغلطة التي وقع فيها الدكتور الفاضل؛ والذين يعرفون قوانين البحث والمناظرة يدركون خروج الدكتور عليها، في رده علينا؛ والدكتور معذور، لأنه لم يجد ما يقوله، فكان من الطبيعي أن ينتقل إلى ميدان آخر يصول فيه صولة (البازل القنعاس) وقد كنا نريد ألا نعرض لهذه الأسئلة لأنها ليست مما نحن بسبيله ولكننا خشينا أن يؤول سكوتنا تأويلاً سيئاً، فنجيب بعون الله:

أولاً: قائل هذا البيت هو الشاعر الذي يقول:

أتيت فؤادها أشكو إليه

فلم أخلص إليه من الزحام

والذي يقول أيضاً:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طوبت، أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

ثانياً: نظر هذا الشاعر إلى قول علقمة الفحل:

ص: 49

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيبُ

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله

فليس له في ودهن نصيب

والمتنبي نظر إلى أبي تمام حين قال:

إذا غدرت حسناء أوفتْ بعهدها

ومن عهدها ألا يدوم لها عهد

وكان أبو الطيب يتوكأ على حبيب، كما كان امرؤ القيس، يتوكأ على أوس.

ثالثاً: لم يلتفت إلى ذلك ابن رشيق في باب السرقات من العمدة، ولا العسكري في الصناعتين، ولا الآمدي في الموازنة على تحامله المكشوف على أبي تمام.

رابعاً: إذا كان هذا الكتاب جديراً بالالتفات، فلم لم يترجم له الدكتور في (النثر الفني) بين من ترجم لهم من كتاب الأندلس؟ ولم لم يثبت هذه الرسالة بين النصوص الكثيرة التي أثبتها في مؤلفه، على أننا راجعنا مجلدين من نفح الطيب فلم نجد أثراً لهذه الرسالة، فلعلها أن تكون في صبح الأعشى للقلقشندي.

خامساً: الدقيقة التي في هذا البيت هي ورود (وحدها) حالاً من الضمير في لها مع تعرفها، ولكنها تؤول بنكرة فتصير (منفردة) ومثل ذلك قول الشاعر:

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نَفَص الدِّخال

أي أرسلها معتركة، والدقيقة البلاغية هي: فصل الشاعر بين جملة (كل غانية هند) وبين الجملة السابقة، والفصل هنا واجب لأن بين الجملتين شبه كمال الانقطاع، إذ لو وصل بينهما لتُوهِّم أن الجملة الأخيرة داخلة في ضمن الجملة التي قبلها، فتكون داخلة في ضمن المفعول الثاني لتحسبوا، وهذا غير مراد للشاعر.

سادساً: اختلفت الروايات في (تحسبوا) فرُوي أيضاً هكذا: (فلا تحسبا هنداً لها الغدر وحدها)

سابعاً: متى كان ذلك يا سيدي؟ لعله كان إذ كنت صبياً مرضعاً!

ثامناً: لعل الحلاج التفت إلى هذا البيت حين قال:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

تاسعاً: وجهه: أن تعرب (لها) خبراً مقدماً و (الغدر) مبتدأ مؤخر، وتكون (سجيةَ) حالاً من

ص: 50

المبتدأ، ويشكل على ذلك أن الحال لا تأتي من المبتدأ إلا على رأي سيبويه، ويشهد له قول طرفة:

لمية موحشاً طللُ

يلوحُ كأنه خللُ

وهذا البيت يشهد أيضاً لصحة مجيء صاحب الحال نكرة إذا تأخر.

عاشراً: أجل يا سيدي الفاضل أعرف قائل هذا البيت فهو الذي قال:

إني أنصببت من السماء عليكمو

حتى اختطفتك يا فرزدق من علِ

أما بعد: فلا نحب أن تشير إلى اسمنا بعبارة كريمة يا سيدي الدكتور (مع الشكر على هذه السنية الكريمة!) ولا يضيرنا أن تتجاهلنا هذا التجاهل، لأنك لست مهما عظمت إلا واحداً من الأدباء. وإليك التحية من أحد أبناء الجيل الجديد.

إبراهيم محمد نجا

ص: 51

‌القصص

جناية رجل

للأستاذ محمد سعيد العريان

. . . أجابني صاحبي:

نعم، لقد كان ذلك عملاً لا ينبغي، على أنه قد أَوْدَى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضَيْعِة طفل يَتِمَ في حياة أبويه، وصيّرني في عين نفسي وفي عيون الناس إلى ما ترى. . . وما أحاول أن أبرئ نفسي؛ بل إنني لأشعر أحياناً أن عليَّ وحدي إثم هذه الجناية التي لم أقترفها ولم يكن لي يدٌ فيها!

وصمت صاحبي برهة وهو يحدِّق في وجهي بعينين فيهما حيرة وارتياب؛ ثم استأنف الحديث:

بلى، وأقسم لك يا صاحبي، ولكنني كنتُ رجلاً كما تعرف؛ فلم يكن لي أملٌ في امرأة ولم يكن لامرأة حظٌّ مني؛ وأين تجد المرأة عندي ما يُغريها بي وأين أجد من نفسي؟. . . لقد كنت أعرف نفسي عرفاناً حقاً، ولم يكن يخفى عليّ ما يتحدَّث به الرجال والنساء عني، وما تتحدث به إليّ مِرآتي؛ لقد كنت وما يطيب لي أن أنظر إلى المرآة، كأني حين أنظر إلى صورتي بازائي أرى شخصاً غريباً عني بغيضاً إليّ لا أطيق أن أراه أو أنظر إلى صورته؛ وحين يتفق لي أن أرى شخصاً في وجهه بعضُ ما أعرف لنفسي من الدمامة، أزوي عنه وجهي، كأنما يذكّرني مرآه بشخص أكره!. . .

أراك تنكر عليّ ما أقول يا صديقي، ولكن ذلك كان هو رأيي في نفسي على حقيقته؛ وقد يكون رأياً غريباً، فما أعرف فيما قرأت أو سمعت أن أحداً كان له في نفسه مثلُ رأيي في نفسي وإن بلغت دمامته الحد الذي يوشك أن يبعده من حقيقته الآدمية!

. . . وكنت مؤمناً بأن القدر الذي تكتنفني صروفه منذ الطفولة قد هيأني لشيء غير ما يتهيأ له الرجال في عالم المرأة، من الحب والزواج والأبوّة؛ كأنما كانت تلك العلة التي شوّهتْ وجهي صغيراً، وتلك الحادثة أصابتني بالعرج صبياً - تحوُّلاً في إنسانيتي، وحجازاً بيني وبين أحلام الطبيعة التي تهمس في الدم وتوسوس في القلب. وشعرت منذ فقدتُ أمي ولم أتجاوز السابعة بعد، أن آخر سبب كان يربطني بالمرأة قد انقطع، فليستْ

ص: 52

من دنياي ولستُ من دنياها؛ وعشت عمري في هذه الحقيقة من بعد، لا تنظر عيناي إلى امرأة ولا أحس وقع نظرة امرأة، ولو قد أحسستها مرة لخجلتُ، لعلمي أنها لا تنظر حين تنظر إليّ - رجلاً مما يقع في عالمها، ولكنها تنظر مسخاً مشوَّهاً يشير إلى آية من آيات القدرة الخالقة!

. . . كذلك كنت عند نفسي حتى لقيتها، فأرتني من نفسي صورة غير ما كنت أعرف لنفسي؛ وكشفت لي عن صورتي في مرآتها!. . .

. . . كنت يوم ذاك جالساً إلى مكتبي أعالج عملاً دقيقاً لا يصلح أن يتولاه غيري، حين دخل عليّ حاجبي يؤذنني أن سيدة تريد لقائي؛ ونهرت حاجبي إذ قطعني عن عملي من أجل امرأة؛ وما لي وللنساء؟ ما شأنهن وشأني؟

ودعوت شاباً من مساعديّ ليلقاها ويتقّصى أمرها فيخبرني؛ وكثيراً ما كنتُ أندبه لمثل ذلك فيكفيني ويجزئ عني؛ ولكنه في هذه المرة لم يُغْنِ عني شيئاً، وعاد إليّ ينبئني أن السيدة لا تريد لقاء أحد غير؛ وابتسمتُ على غيظ حين أنبأني ذلك؛ فقد كنت أعلم من طول خبرتي في هذا العمل الذي أتولاه، ما تدعوني له مثل هذه الزائرة؛ فما هو إلا لاعتقادها أنني - وأنا رئيس المكتب - أقدَرُ على قضاء حاجتها من غيري، وإن كانت حاجتها من التفاهة بحيث يستطيع ساعي المكتب أن يقطع فيها برأي!. . . ذلك رأي النساء جميعاً؛ وإن إحداهن ليبلغ منها الإلحاح في طلب لقائي أن تضجرني وتحرج صدري، فلا أجد عقاباً لها على ذلك إلا أن أخرج إليها فتراني. . .

. . . ولم أكن في ذلك اليوم متهيئاً لاستقبال أحد، ولم تكن بي رغبة إلى عقاب امرأة؛ فطلبت إلى حاجبي أن يعتذر إليها، وخرجت السيدة ولكنها لم تلبث أن عادت، وعاد حاجبي يؤذنني برغبتها في لقائي؛ وتكرر بيننا الرجاء والاعتذار، ثم لم أجد بدَّاً في النهاية من الخروج إليها. . .

ورأيتها ورأتني، ولكني لم أر في وجهها ذلك المعنى الذي طالما رأيته في وجوه النساء حين أجلس إلى امرأةٍ منهم. ولأول مرة منذ ماتت أمي، جلست إلى امرأة أتحدث إليها وأستمع لما تقول، وإني لأحس في نفسي برد الراحة وروح الاطمئنان. لا أعني أنها ذكرتني أمي، فقد كانت أصغر كثيراً مما ظننت وأشبّ شباباً؛ ولكني شعرت إذ جلست إليها

ص: 53

شعوراً لم أحسّ مثله منذ بضع عشرة سنة، منذ ماتت المرأة الوحيدة التي منحتني حبها واستحقت حبي!

كان في وجهها سماحةٌ وطهر، وفي عينيها نظرة طفل يرى كل شيء جديداً على عينيه، وقد افترَّت شفتاها عن ابتسامةٍ حزينة تكتم معنى وتفصح عن معنى.

لم أشك حين رأيتها أنها عذراء، فتاة على طبيعتها الطاهرة لم تطبعها الحياة بعدُ بذلك الطابع المصنوع الذي يجعل لكل شيء لونين في ظاهره وباطنه. وأقبلت عليّ تحدثني حديثها. لم يكن في صوتها ولا في نظراتها شيء يدل على أنها تراني رأي الناس وتنظر إليّ.

. . . أخشى أن أقول لك يا صديقي إنها كانت تحدثني كأنما تناجي حبيباً عزيزاً لقاؤه! ولكني كذلك شعرت وقتئذ!

ومضت في حديثها، ولم أسمع حرفاً واحداً مما قالت؛ إذ كنت وقتئذ في حديث مع نفسي؛ فلما أوشكت أن تنتهي من عرض أمرها وراحت تسألني رأيي، بدأت أصغي إليها. . . وكان لها مشكلة معقدة تقتضي تدبيراً وأناة وحسن احتيال؛ وعنيت بأمرها.

أتراني يا صديقي في حاجة إلى التأكيد بأن عنايتي بأمرها لم تكن شيئاً على خلاف عادتي في مثل مشكلتها؛ ولكنك مصدقي ولا شك، فقد كنت إلى تلك اللحظة من كنت؛ ليس لي همٌّ إلا عملي وواجبي!

وزارتني بعدها في مكتبي مرة ومرة ومرات؛ وتوثقت بيننا أواصر المودة، وألفت أن تراني وأن تتحدث إلي، وألفت أن أستمع إليها، وكأنما كنت في نومة ثقيلة ثم استيقظت، وإنجاب عني غشاء صفيق كان يلقي علي كل شيء من أشياء الحياة ظلاً يبغضِّه إلي، وتزّينت لي الحياة؛ وكأنما كانت مرآتي صدئة فجلتها بأنفاسها فعادت مصقولة لامعة!

ليس يعنيك كثيراً يا صديقي أن تعرف كل شيء؛ ولكن الذي يعنيني أن تعرفه عرفان اليقين، أنني لم أتودد إليها ولم أحاول اجتذابها؛ فقد كانت أسرع إلي من خطرة الأمل؛ فما هي إلا مرات التقيناها حتى كان كل شيء منها يتحدث إليّ حديثاً أجد صداه في نفسي؛ ومن غير مؤامرة ولا تدبير، رأيتني امشي معها ذراعاً إلى ذراع في الطريق!. . .

لم أنم تلك الليلة ولم أذق طعم الغمض، لعلك تحسب ذلك يا صديقي فرحاً بتلك النعمة التي

ص: 54

سيقت إليّ من حيث لا أدري! كلا، ولا بعض هذا، لقد سهرت تلك الليلة إلى الصباح في قلق وهم؛ وفي حديث بيني وبين نفسي كله تأنيب وملامة؛ لقد كنت موقناً أنني لست الرجل الذي تؤهله صفاته ليكون حبيباً يلم طيفه بخيال امرأة؛ ولم أكن من الغفلة بحيث أنسى بسهولة حقيقتي التي عشت بها ما فات من أيامي؛ وكنت خائفاً أن يكون قد بدر مني شيء على هوى أشعرها أملاً واخفي عنها حقيقة، فانقادت إليّ مخدوعة وعلى عينيها غشاوة.

بلى، لقد كنت سعيداً بحبها، ولكنني لم أحاول قط أن أشعرها معنى يدنيها إلي ويزيدني حباً إليها؛ وكان ضميري يخادعني حين كنت استمع إلى نجواه في نفسي قائلاً:(لا عليك ملامة إذ كانت تحبك دون أن تطلب إليها!) ويا لها خدعة! وهل زادها حباً لي إلا شعورها بأنها تجد لعواطفها في نفسي استجابة؟. . . وفي مرات كثيرة، كان يثوب إليّ رشادي ويغيب عني هواي، فأهم أن أقول لها وإنها لجالسةٌ بإزائي:(أنظري إليّ! هل ترينني أصلح للحب؟)، ولكني لم أجرؤ في مرة واحدة من هذه المرات أن أقولها؛ لأن هواي كان يغلبني على رأيي؛ فتقول لي نفسي:(أو ليست تراك دون أن تطلب إليها أن تنظر؟).

وحتى يوم أسلمت لي شفتيها وأغمضت عينيها في مثل غشيه الوحي، لم يقع في نفسي إلا أنه عمل منها لا مني، والقبلة المعسولة ما زال يرن صداها في قلبي!

ولكنني مع كل ذلك يا صديقي لم يغب عني قط، أن ذلك عمل لا ينبغي؛ كانت هذه الحقيقة قارة في أعماقي، على الرغم من هوى النفس وخداع الضمير؛ ولم أكن يومئذ أعرف، فكيف لو عرفت؟

. . . ومضت بنا الأيام على ما قدّر لي ولها، لم أحاول أن أسألها شيئاً ولم تحاول أن تخفي عليّ؛ ومع ذلك فقد ظللت دهراً لا أعرف، على غير إرادةٍ مني ولا إرادة منها، ولم تكن في يقيني إلا فتاةً على طبيعتها الطاهرة، لم يزل بينها وبين الحياة باب مغلق. . . وأغناني يقيني عن سؤالها، وحال بيني وبين التماس أسباب المعرفة أنني لم أكن أريد أن يكون مني عملٌ إيجابي يشعرها أن لي بأمرها عناية فأمد لها أسباب المنى!

ثم كان يوم وكانت الصلة بيننا قد توثقت حتى لا سرّ بيني وبينها، وجلست تتحدث إليّ، وعرفت. . .

يا لله!. . . ليتني كنت ادري! وهل كان يدور بخاطري يوماً أن هذه الفتاة التي بعيني هي

ص: 55

امرأة، وهي زوجٌ قد انفتح الباب المغلق بينها وبين الحياة. . .!

لم تكن خادعةً فيما أعلم حين كتمت عني حديثها طوال هذه الأشهر، ولكنها لم تجد سبيلاً إلى أن تقول، فصمتت، فلما أمكنتها الفرصة جاء الحديث لوقته فراحت تقص عليّ. . .

وشعرت بالغيرة تلذغ قلبي لأول مرة، غير رجلٍ يحاول أن يستأثر بما لا يملك دون الذي يملك؛ ولكني لم ألبث أن فئت إلى رشادي واستيقظ ضميري، فرحت أوبخ نفسي على ما كان وأشبعها تعنيفاً وملامة، ولكني لم أجرؤ أن أقول.

لم يكن لها خيارٌ فيما فعلت. هكذا حكمتُ حين قصت عليّ خبرها؛ فقد ماتت أختها عن بنين وبنات وزوجٍ في سن أبيها له مالٌ وجاهٌ وشفاعةٌ ويد مبسوطة؛ وكانت هي يومئذ تلميذة في السادسة عشرة، دنياها معلم وكتاب ومسطرة. . . وعادت يوماً من مدرستها فإذا في غرفة الاستقبال كاتب وشهود، وباتت مُسمّاة على زوج أختها، ثم أصبحت زوجاً وأماً لبنين وبنات وما حملت ولا ولدت!

لم تفهم شيئاً مما مرّ بها إلا كما تفهم كل فتاة في بيت أبيها أن يقال لها قومي فتقوم، واجلسي فتجلس!

وانتقلت من دار إلى دار ولكن قلبها لم يزل على نقاوته وطهره، في عينيها نظرة الطفل، يرى كل شيء جديداً على عينيه، وعلى شفتيها ابتسامتها الصامتة المبينة، وفي رأسها أحلامها، ثم التقينا.

. . . هذا ما قالت لي؛ وقال لي ضميري: ويحك يا شقي! إنك تحاول إفساد امرأة على رَجلها!

وقال لي هواي: وماذا فعلت؟ أيكون الاستماع إلى شقية بائسة تشكو بثها محاولة لإفساد امرأة؟ وزدت من يومئذ آلاماً إلى آلامي، وزدت إلى ذلك إيماناً بنفسي وأيقنت من يومئذ أنني شيء، وأيقنت إلى ذلك أنني في عمل لا ينبغي!

وحاولت منذ عرفت أن أبتعد عنها وإن قلبي لينازعني إليها، فلا أنا صممت فيما حاولت ولا هدأ قلبي؛ وعدت بين نزاع القلب وتأنيب الضمير في شقاوة وألم؛ ولكنني كنت بشقاوتي سعيداً!

ويلي! ليتني عرفت يومئذ كل شيء! أم ليتني مضيت فيما صممت ولو كان فيه تدميري

ص: 56

وهلاكي؛ إذن لاحتفظت لنفسي براحة الضمير إذ فقدت راحة القلب! ولكنني لم أكن اعرف؛ وكان الدهر يدخر لي البقية. . .

. . . ولقيت صديقي (فلاناً) على غير ميعاد؛ وجلس يتحدث إلي. . . وأرهفت أذني للسمع، وخيل إليّ وهو على مقربة مني وأنا أستمع إليه أن بيني وبينه من البعد مسافة تسافر فيها الأحلام وتثوب؛ وجثم على صدري كابوس مفزع لا يخف ولا يتحلحل؛ وهممت أن أتكلم فما أطقت الكلام؛ ودار رأسي مثل خذروف الوليد بين قوتين تتجاذبانه، وتناثرت أشلاءً على مكاني. . .

ولما أفقت بعد برهة لم يكن بجانبي أحد غيره، ورن صوته في مسمعي:(رفقاً بنفسك يا صديقي! إنك تتعب نفسك أكثر مما تطيق!).

ثم خلفني وآلامي، ومضى! إذن فهو ذاك؟ إنها زوجته! وهجرت المدينة يا صديقي إلى حيث أحاول التكفير عن خطيئتي والفرار بنفسي؛ وهجرتها بلا وداع، ولكنها لم تتركني وشأني؛ لقد أصابها من ذلك مثل سعار الجوع في الكلب الضالّ

وكان زوجها يتحدث إليها حديثاً من حديثه، فحسبته يعرّض بها، فثارت به، ثم اندفعت في ثورتها؛ وابتسم الرجل وتمتم بكلمات، وألقى الشيطان في أذنها كلمات غير ما قال؛ فزادت ثورةً وهياجاً، وقالت:(بلى، إنني أحبه، وسأتبعه إلى آخر الدنيا!).

وعلا بكاء طفل، طفلٌ رضيع لم يفتح عينيه على الحياة إلا منذ أيام معدودات؛ وقلب الرجل عينيه بين الطفل وأمه، وقال في همس:(إذن فهو ولده؟. . .)، وفتحت الأم فمها مدهوشة وبرّقت، وسألت:(أتراه يظن. . .! ويلي!).

ونالني رشاشها على مبعدة يا صديقي وما جنيت جناية. . .

. . . ذلك كل ما كان من أمري وأمرها؛ أم تراني جنيت إذ أحببت امرأةً أحبَّتني، أنا الذي عاش ما عاش من عمره لم يؤمل أن تعطف عليه امرأة؟. . . نعم، لقد كان ذلك عملاً لا ينبغي، ولكن. . .

قلت: (ولكنه أودى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضَيْعةِ طفل يَتِمَ في حياة أبويه، وصيّرك في أعين الناس إلى ما ترى. . . أنتَ ما جنيت يا صديقي، ولكن ثم جنايةَ رجل؛ فمن جناها؟).

ص: 57

محمد سعيد العريان

ص: 58