الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 38
- بتاريخ: 26 - 03 - 1934
(عيد الأضحى. . .
. . . وفي مارس أيضا يقبل عيد الأضحى أو يوم الله، بعد ما أقبل عيد الضحايا أو يوم الوطن! والإيمان بالله وبالوطن أسمى شواعر النفس، والتضحية لله وللوطن أصدق شعائر الإيمان، والاحتفال بيوم الله ويوم الوطن أقدس مظاهر الإنسان، وعيد الأضحى أجل أعياد المسلمين خطراً، وأبلغها في حياتهم أثراً، وأبلجها في نفوسهم دلالة. تجمعت فيه مبادئ الإسلام وغايته كما تتجمع صور الوجود في العين، ومحاسن الربيع في الزهرة. فهو موجة من النور الهادئ الهادي في خِضَمِّ الزمان المضطرب، وفترة من السلام الإلهي بين خطوب الجهاد المضطرم، ونفحة من النعيم السماوي تَنْدى لها القلوب اليابسة بالوداد المحض والبر الخالص، وسبب من الروح المؤاخي يصل بين الغنى والفقير بالإحسان، وبين القوي والضعيف بالرحمة، وبين القريب والبعيد بالمودة، وبين الله والإنسان بالصلاة، وبين المسلم والمسلم بالحج!!
الأعياد الدينية واحات في صحراء الحياة، يستريح إلى نبعها الحرَّانُ واللاغب، ويطمئن إلى ظلها الهيمان والشارد، ويجد الكاسف المعمود في نسيمها النديِّ بَرد السرور ونشوة العافية، ويذهل السائر المجهود برهة من العمر عن مخاطر الطريق ومكايد الرفاق ومساوئ القافلة، ويذكر ان له عواطف صالحة طغت عليها المنافع، وقرابة واشجه قطعت بينها المطامع، وصلات شابكة أوهنتها الجفوة، وتبعات واجبة أعجزه عن حملها كلال الضمير، وغاية إلى الخبر المطلق أضله عن سبيلها غرور الحياة.
عيد الأضحى هو عيد الأسرة والأمة والملة، يفيض المسرة والبهجة على البيت، ويجدد المودة والألفة في الوطن، ويسفر بالتعارف بين وجوه الاخوة في عرفات،
فإذا رده اليوم فساد العيش في المدينة إلى ما نعرف من خروف يذبح ولا يُضحي، ومساجد تؤذن بالمدافع والمآذن ولا تجاب، وبيوت تُفتح للتهاني ولا تزار، وأيام كنقاهة المريض كلها خمود ونوم وأكل، فأن له في القرية صورة لا تزال منذ الطفولة في ذهني فتانة الجمال أخاذة السحر شديد الروعة:
لا يكاد يفرغ القرويون من صلاة المغرب ليلة العيد حتى ترى طريق المقبرة يسيل بالفوانيس الشاحبة الخافتة. ثم تنتشر آخر الأمر على وجوه القبور انتشار الحبُاحب، وتنتقل القرية الحية إلى القرية الميتة فتقضى موهنا من الليل في الاستعبار والاستذكار والقراءة،
ثم يعودون وقد كفاهم (الفقهاء) مئونة ما حملوا من الكعك والفاكهة، فيقطعون الهزيع الثإني من الليل في طسوت الحَّمام أو في دار المزين! والغسل بالماء الساخن لا يعرفه الفلاحون الا ليلة العيد وليلة الزواج ويوم الموت، ثم يُعدون زينة العيد فيكوِّرون العمائم ويصبغون الاحذية، ومن لا يحسن لوث العمامة، أو لا يملك علبة (الورنيش)، ذهب بطربوشه أو بحذائه إلى قريبه أو جاره، والقرية كلها أسرة واحدة يكمل بعضها نقص بعض، فإذا فرغوا من ذلك ناموا على هدهدة الأحلام ومناغاة المنى، وتركوا النساء أمام المواقد ينضجن الخبر ويطهين اللحم ويصنعن الحلوى حتى الصباح!
تشرق شمس العيد على القرية في غير وجهها المألوف، فلا النور كان باهرا كهذا النور، ولا الشعاع كان ساحرا كهذا الشعاع: وتستقبلها القرية في غير زيها المعروف، فلا الوجوه كانت ضاحكة كهذه الوجوه، ولا الجلابيب كانت ناصعة كهذه الجلابيب ولا العمائم كانت زُهْرا كهذه العمائم، ولا الدروب كانت مطرزة بألوان الربيع كما هي اليوم!!
لا يتخلف عن صلاة العيد من أهل القرية غير النساء! أما الرجال فهم صفوف وراء الأمام يؤدون الصلاة، وأما الأطفال فهم وقوف على الأبواب يشهدون الخطبة! ثم تقضي الصلاة فيقبلِّون الخطيب جميعاً، ويقبل بعضهم بعضا، ثم يذهبون رَتَلاً جميل النسق إلى المقبرة، ويرجعون من طريق أخرى إلى الحارات المكنوسة المفروشة، فيجلسون أمام المنازل إلى الطعام الشهي الفاخر، يتبادلون الألوان، ويتهادون الصحاف، ويتركون على موائدهم محلا رحيبا للفقير!
تُرفع (الصواني) وتوضع القهوة، ثم يقوم العمدة في أهل حارته فيزورون الحارة الأولى، فيهنئون ويجلسون ريثما تدار القرفة وتوزع السجائر، ثم يقومون جميعاً إلى الثانية فالثالثة فالرابعة وهلم جراً إلى آخر البلد، وكلما مروا بحارة أخذوا أهلها إلى الأخرى، حتى تجتمع القرية كلها آخر المطاف لدى العمدة فيقضون في مجلسه أكثر اليوم.
ذلك أمر الكهول والشيوخ، أما الشباب والأيفاع فيطوفون زمرا بالبيوت يهنئون الصبايا وأيديهن لا تزال في الطعام، فيطبعن بالقبلات الخلية على الخدود البرنزية خاتما رقيقا من (الدمعة)، ويرسمن بالانامل المخضبة على الثياب البيض طغراء جميلة من الدسم، ثم ينصرف بعد ذلك الشباب إلى لعب الكرة في ساحة البيْدر، والاطفال إلى الاراجيح على
أشجار الترعة! تلك صورة العيد في القرية رسمتها بغير ألوانها الزاهية، وجلوتها في غير إطارها المذهب، فبالله ربك! أهي على علاَّتها اخلق بالإنسان واقرب إلى الدين وأشبه بالخلق، أم هذه الصورة التي تراها اليوم في شوارع المدينة وجوامع المدينة وقصور المدينة؟!
نسأل الله مخلصين أن يعيد هذا العيد على الأمة المصرية والدول العربية والممالك الإسلامية ونحن وهم على خير من هذه الحال!
احمد حسن الزيات
النقد والطربوش وزجاج النافذة
للدكتور طه حسين
وتستطيع ان تضيف إلى هذه العنوانات عنوانات أخرى، فهناك أزقة ضيقة شديدة الضيق، ملتوية شديدة الالتواء، قد كثر على ارضها الوحل، حتى ان الذي يمشي فيها لينزلق، أو يمشي مشية مسلم بن الوليد في بيته المشهور:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب
…
تمشت به مشى المقيد في الوحل
وقد أمطرت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من المطر، منها السائل ومنها اليابس، نستغفر الله، بل قد صبت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من البلاء، منها مرق الفول النابت، وماء المخلل، وفيها أشياء أخرى جامدة كانت تهوى على الرؤوس، وربما مست العيون، وربما دخلت الأفواه ووصلت إلى الحلوق فانعصرت فيها انعصاراً، وأذكت فيها لهيبا ونارا، وقد كان في هذه الأزقة مارد من مردة الجن أو مردة الإنس، له صدر عريض قد انتفش فيه شعر الطويل حاد كأنه الأسنة، يصطدم به الرجل القصير فإذا هذا الشعر الطويل الحاد يداعبه ويلاعبه، فيبعث بوجهه، ويدخل في أنفه وفي فمه وفي عينيه. وقد كان في هذه الأزقة غلام شرير، لسانه عذب، ويده مرة، وقد كان في هذه الأزقة شاب ظهر الغباوة والبله، خفي المكر والغدر، شديد البأس والبطش، يخيف من ليس من شأنه أن يخاف، ويضطر اثبت الناس قلبا وأشدهم استهزاء بالحياة إلى أن يعدو عدو الشنفري وتأبط شراً وابن براق، حتى يدفع إلى دار من الدور، ثم إلى بيت من بيوت هذه الدار، فلا يدخل هذا البيت من بابه كما أمر الله أن تؤتى البيوت، وإنما يدخله من إحدى نوافذه. وفي هذه الأزقة شيخ وقور، ظاهره يخيف، وباطنه فيه الرحمة واللين، وفيه الرفق والدعة، وفيه الأدب وحسن الذوق.
كل هذه الأشياء، وكل هؤلاء الأشخاص، يمكن أن تضاف ويمكن أن يضافوا إلى هذه العنوانات التي قدمتها بين يدي هذا الكلام، ولكني لم أضفها تحرجاً من الإطالة وإشفاقا من الإطناب، وإيثارا للإيجاز البليغ.
وأنا أستطيع بعد أن وضعت هذا العنوان وأتبعته بهذا الكلام، أن أتحول بك إلى ما شئت أنت أو ما شئت أنا من الموضوعات فأتحدث إليك فيه حديثا طويلا أو قصيراً، وأعرض
عليك فيه صوراً جميلة أو دميمة، وأثير في نفسك به عواطف هادئة أو جامحة، وأرسم على وجهك به ابتساما وضحكا، أو عبوساً وتقطيباً، حتى إذا بلغت من هذا كله ما تريد أنت، أو ما أريد أنا، أو ما نريد جميعاً، ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة. واعتقدت أنا أو خيلت إليك إني أعتقد، واعتقدت أنت أو خليت إلى انك اعتقدت، واعتقد صديقي الأستاذ المازني، أو خيل إلى نفسه والينا أنه يعتقد، أني قد أمتعت الرسالة وقراء الرسالة بفصل قيم أو غير قيم، قوامه الحديث عن النقد والطربوش وزجاج النافذة!.
وتسألني ما بال الأستاذ المازني يقحم هنا إقحاما، وما خطبه مع النقد او الطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت، وماء المخلل، وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء؟ فأجيبك بأن هذا السؤال لا ينبغي أن يساق إليّ، وإنما ينبغي أن يساق إلى الأستاذ المازني، فهو الذي تحدث عن هذا كله، وهو الذي أثارني إلى أن أتحدث عن هذا كله، وليس من شك في أن الأستاذ المازني سيقول في دعابته الحلوة الظريفة، وما أنت وجر الشكل، وما لك تدخل بيني وبين النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الملحقات؟. ولكن الأستاذ يوافقني أو لا يوافقني - فهذا سواء - على أنه صاحب فن، وعلى أن أصحاب الفن إن كتبوا لأنفسهم فهم ينشرون للناس، وعلى ان صاحب الفن لا يملك أثره الفني بعد أن يلقيه إلى الناس. وعلى أن من حق الناس إذا ألقى إليهم شيء أن يتناوله كما يحبون، يعجبون به أو يسخطون عليه، يرغبون فيه أو ينصرفون عنه، يحمدونه أو يسلطون عليه اللوم.
وإذن فقد ألقى إلينا الأستاذ المازني فصله الممتع البديع الذي أثارني إلى أن أتحدث إليك عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، أو إلى أن أتحدث إليك عن الأستاذ المازني نفسه من وراء هذه الأشياء التي لا تحصى، والتي لا أكره تكرارها، وما أظنك تكره تكرارها، وهي النقد والطربوش وزجاج النافذة والأزقة وما يتراكم على أرضها من الوحل، وما تصبه سماؤها من السائل والجامد، ومن يمشي بين ذلك من الأشرار والأخيار.
وللأستاذ المازني مع هذه الأشياء كلها، ومع هؤلاء الناس كلهم، ومعك أنت، ومعي أنا، قصة طريفة ظريفة، خليقة أن تقص، وخليقة أن تثير الإعجاب. فهل تدري ماذا دفع الأستاذ المازني إلى أن يتحدث عن هذه الأشياء، وعن هؤلاء الأشخاص، فيثيرني إلى أن أتحدث عنه، وعنها، وعنهم؟ هو شيء يسير، يسير جداً، هو أنه أديب يقرأ في الكتب،
ويكتب في الصحف، وينقد الكتاب والمؤلفين. وقد تتغير الأزمنة وتتبدل ظروف الحياة وترقى الأجيال بعد انحطاط، ولكن هناك شيئاً لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء، ونقمة يصيب الله بها هؤلاء الذين يمنحهم شيئاً من حسن الذوق والقدرة على فهم الأدب وتقريبه إلى الناس. وقد امتحن الله صديقنا المازني ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظاً عظيماً، فجعله شاعراً مجيداً وكاتباً بارعاً، وناقداً مسموع الكلمة، مهيب الجانب، مقدور الرأي، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه. وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس على ذلك وأشدهم طلبا له وإلحاحاً فيه. والكتب تمطر على الأستاذ المازني، ويمطر معها طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس. وإذن فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه وعن كتبه، إلى هؤلاء الناس الذين يكتبون، والى هؤلاء الذين يقرأون. ومن هنا ومن جهات أخرى أيضاً كان المازني شقياً بالأدب، وأن كان الأدب سعيداً بالمازني، وأي دليل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني، أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن؟
فقد اخرج كاتب من الكتاب كتاباً من الكتب، وأهداه إلى الأستاذ بالطبع. وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدى إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئاً كان الإلحاح. واضطر المازني إلى أن يذعن، وأكره المازني على أن يكتب، ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلده. فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلد. فدفع إلى رحلة غريبة، والى استكشاف أغرب. دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع، وتجري فيها السيارات، وتنتشر فيها الشرطة، والتي لا تتغطى أرضها بالوحل، ولا تمطر سماؤها مرقا ولا مخللا، إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين، وفي هذه الأزقة عرف المازني الخوف والفرق، وعرف الهرب والغلو فيه، وعرف كيف يكون وقع الأحجار على الأجسام، وكيف يكون وقع الشتائم في النفوس. ثم عرف كيف يفقد الناس طرابيشهم، وكيف ينظرون إليها وهي تهان وتمرغ في الوحل تمريغاً، ثم عرف كيف يدفع الهاربون إلى اقتحام الدور والاستخفاء في البيوت وقد غاب
عنها أهلها. ثم عرف قصة الرجل الذي ذهب يطلب كتاباً ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين.
والغريب أن هذه الرحلة الهائلة وما امتلأت به من الأخطار كانت كلها في القاهرة، وفي ساعات قصيرة، ولست أدري فيم يحتاج الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء أو في الجبال أو على الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء أو في الجبال أو على البحر المحيط، مادام الانتقال من حي من أحياء القاهرة إلى حي آخر، خليقا أن يرينا من الهول والخطر مثل ما رأى صديقنا الكاتب الأديب ومن هنا نستطيع أن نفهم ضيق المازني بالأدب والأدباء، وبالكتب والمؤلفين وتضرعهم المتصل إلى الله أن يعفيه من هذه الصناعة التي يشقى بها، ولكنها تسعد به وتسعد الناس أيضا. ولكن الأستاذ المازني يتساءل في شيء من الحيرة أيجب أن يقرأ ما يريد هو أم يجب أن يقرأ ما يريد الناس؟ وإذا سمح لي بأن أجيبه فإني أرى أنه ملزم بان يقرأ ما يريد، وبأن يقرأ ما يريد الناس، مادام قد أقبل على صناعته هذه راضيا بها أو مكرها عليها، ولكن السؤال الذي أحب أنا أن أسأله هو. هل يظن الأستاذ المازني أنه أبرأ ذمته أمام القراء وأمام المؤلف بهذا الفصل البديع الذي كتبه منذ أيام، فحدثنا فيه عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، وعما تحمل الأرض من وحل، وما تمطر السماء من مرق؟ فان كان يظن أنه قد أرضى قراءه وصاحبه بهذا الفصل فقد أصاب وأخطأ في وقت واحد: أصاب لأن الفصل بديع، وأخطأ لأنه لا يغني من النقد شيئاً، فلن يعفيه صاحب الكتاب من الإلحاح عليه، ولن يدعه حتى يقول إنه قد قرأ هذا الكتاب فرضى عنه أو سخط عليه.
وسؤال آخر، أحب ألا يغضب صديقي المازني حين أسوقه إليه. ما باله يطغى على نفسه ويسرف عليها في الطغيان، ويصورها هذا التصوير الذي لا يلائمها بحال من الأحوال، والذي لا نحبه لها؟ فهل من الحق أنه هياب إلى هذا الحد؟ كلا، ولكنه يحب أن يعبث بنفسه فيسرف في العبث، وأكبر الظن أننا ان حدثناه في ذلك ضاق بنا وضجر، وشكا من هؤلاء الطفيليين الذين يدخلون بين الناس وبين أنفسهم، وقال إذا لم يكن لي الحق في أن اعبث بنفسي فلمن يكون الحق في أن يعبث بها إذن؟ أما أنا فأجيب الأستاذ بأن هذا الحق ليس مباحاً لاحد، ولكن الناس يستبيحونه لأنفسهم، سواء أرضى الأستاذ أم لم يرض، وأنا أتحداه، وأطلب إليه، أن يريني كيف يستطيع أن يمنع الناس من أن يتناوله بما يحبون من
ألوان النقد والعبث لا بما يحب هو، كيف يستطيع أن يمنع الناس من ذلك دون أن يخرج عن طور الكاتب الأديب؟ وإذن فما له يظلم نفسه هذا الظلم، ويلح عليها بهذا العبث الذي لا قصد فيه، أم هل ضاقت الدنيا بالأستاذ كما ضاقت بالحطيئة ذات يوم فيما يقال فهجا نفسه، لأنه لم يجد من يهجوه، أم هل كره الأستاذ الأخذ والرد، وضاق بالحوار والجدال، وكره أن يذكر الناس فيغريهم بذكره، فآثر أن يذكر نفسه هذه المسكينة التي لا تجد من يدافع عنها ويحميها من صاحبها الطاغية. فان تكن هذه فقد أخطأ المازني، فهأنذا أدافع عن المازني برغم المازني. أخشى ألا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وان يكون المازني قد أراد نفقد الكتاب الذي طلب إليه نقده، فمضى به الخيال ومضت به الدعابة إلى هذه الأزقة الضيقة الملتوية، يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم يفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نافذته، ولم يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئاً. وويل للكتاب وللمؤلفين من دعابة المازني ومجونه، وويل للكتاب والمؤلفين من الغاز المازني ورموزه، بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه، فان في هذا الجسم النحيل الضئيل جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردا كالمردة وشيطاناً لا كالشياطين.
أما بعد، فلنذكر النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الأشياء والأشخاص، لنختم المقال كما بدأناه، وليعلم المازني أنا لم نتحدث عنه، ولم نشر إليه، ولم نفكر فيه، وإنما تحدثنا عن كتاب نقد، وطربوش فقد، وزجاج حطمه فتى من الفتيان تحطيماً.
طه حسين
(والراديو أخيراً!
للأستاذ احمد أمين
نشأت في حي وطني، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلاً، ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم، إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرأوها في أنفسهم وفي معيشتهم، فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابني وعهد
إسماعيل. فالحياة في السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييراً كبيراً، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغراباً إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقاً جديداً.
كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة، يسكنها البائع المتجول، يظل نهاره وشطراً من ليله متنقلا من الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.
وطائفة من الموظفين من رئيس قلم في وزارة الأوقاف، وكاتب في وزارة الأشغال يمثلون، الطبقة الوسطى في حياتهم الاجتماعية والمدنية.
وبيت أرستقراطي واحد كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدماً في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، ويرهبه الكبير والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجائها فتملأ القلوب هيبة، وكان كل سكان الحارة يسمونه (الشيخ) من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماء قذراً أمام بيتها خوفاً من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفاً من الشيخ. ولذلك امتازت حاراتنا من مثيلاتها ومما يجاورها بالنظافة والهدوء.
كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب الفخر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سواسية، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.
وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) يتبادلون الاجتماع في أحدها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحياناً يحيون الليلة في سماع قرآن أو حفلة طرب، ولحسن حظي كان بجوار بيتنا موظف في الأوقاف يهوى الناي ويتقنه، فكان كثيراً ما
يحيي أصدقاؤه في منظرته حفلات شقية بديعة، إليها يعود الفضل فيما لي من إذن موسيقية وميل لسماع الغناء والافتنان به.
كان من المناظر التي لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها في ركوع، وهم يغدون في الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته في الزير (سقّا عَوّض) وهي كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا. بل ربما لم أفهمه إلى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتي لها بقربة حلوة أحياناً، ومالحة أحياناً، وربما تصنعت في مناداتها فرققت من صوتها، وتدللت في نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.
وكثيراً ما طال النزاع بين السقا وربة البيت: فهو يقول ان القرب صارت سبعاً وهي تأبى إلا ستاً، ويطول الحوار والجدل والقسم بالإيمان، وأحياناً يتفادى السقا هذا الجدل بطريقة من طريقتين. إحداهما أن يوزع خرزاً من نوع خاص على صاحبة البيت عشراً عشراً، أو عشرين عشرين وكلما أتى بقربة أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه. وثانيتهما انه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطاً - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحياناً يتهم السقا ربة البيت بأنها مسحت خطاً، وأحياناً تتهمه هي أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك ابى السقا في معاملة هذا البيت إلا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة
وفي يوم من الأيام حول سنة 1900 رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولاً وعرضاً، ومُدّت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقا، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وما أنس لا أنس خادماً أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعَجبَتْ أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع إلا إذا شئنا، وحارت في تعليل ذلك، وأظنها حائرة إلى اليوم إن كانت على قيد الحياة.
وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب الألف بالعجب، ولكن ظللنا نستضئ بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوماً
ضُرِبْتُ لأني أرسلت لأشتري زجاجة لمبة فكسرت مني في الطريق، وكثيراً ما فسد مفتاحها فإذا أدرناه يميناً أخذ يرتفع اللهب ثم يرمينا بالهباب، وإذا أردناه شمالاً أخذ يهبط حتى لا نرى. وهكذا دواليك، حتى يضيق الصدر ونذهب إلى النوم قبل الموعد - وكثيراً ما نكون في سمر لذيذاً وحديث ظريف أو قراءة مُلِحةّ، ثم نسمع الزجاجة كسرت فينكسر قلبنا لأن الوقت ليس وقت بيع وشراء، أو ننظر فإذا الجاز قد فرغ ولا جاز لنا!
ثم رأينا الأسلاك تحزم البيت، وتحزم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء فندير المفتاح يميناً فتضيء الحجرة ونديره شمالاً فتظلم - وأبى الله إلا أن يرزقنا هذه المرة أيضاً بخادم خطبت في قريتها وأرادت السفر لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها لمبة من اللمبات الكهربائية أو لمبتين لتنيرها في حجرتها ليلة زفافها - وكان لهذه الخادم فصل اظرف من هذا وألطف، فقد نظرت أول ما أتت من قريتها إلى السقف فلم تر فيه عروقاً تحمل ألواح الخشب (لانه كان من الأسمنت المسلح) فصعدت إلى السطح لتحقق الأمر لعل السقف مقلوب، وان العروق من فوق والأخشاب من تحت، فلما لم تر عروقاً فوق ولا تحت، أحست بالخيبة في تعليلها، وفوضت إلى الله أمرها!. .
ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليحزم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمد وعدة صغير تركب وجرس يدق وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها بل بمن في أنحاء القطر ويتصل بنا من أحب، وأحسست إذ ذاك أن البيت قد استوفى حظه من الحياة كما يستوفيها الجسم الحي الراقي من شرايين وأوردة على أدق ما تكون من نظام - وكان لي مع التليفون متاعب أود أحياناً أن لو كان لم يكن، وأحياناً محامد احمد الله ان كان - فقد كنت قاضياً، وبيتي وحده من بيت القضاة فيه تليفون يصلني برئيس المحكمة، فقد يتغيب قاض فجأة عن الجلسة فيدق التليفون - آلو - انتدبناكم اليوم لمحكمة العياط، ومرة أخرى لمحكمة الصف، وقد يكون اليوم ثقيلاً، حر يذيب رأس الضب، وأو برد يقفّ منه الجلد - على كل حال - فكثيراً ما كان نذيراً بشر، وكثيراً ما كان بشيراً بخير.
وأخيراً أتى العامل أول أمس يزيد الأحزمة حزاماً ولكنه في هذه المرة حزام ناقص - خط رأسي وخط أفقي، وآلة لا يأبه لها النظر، وفي ذلك سر عجب، هذا هو الراديو - فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان،
وواصلك بكل مكان - إن شئت معلماً فمعلم، أو غناء فمغن، أو فناً ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد. يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالباً فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك، أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع، فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، هو عبد مطيع، وخادم أمين، إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساوئ لم أتعرفها فان جربتها فسأحدثك عنها بعد.
أين أنت أيتها الخادم التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، لو كنتما اليوم في بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائراً من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة في الاستهلاك لا في الإنتاج، وإننا، في مواسير - الماء ومصابيح الكهرباء وآلات الراديو والتليفون - وما إلى ذلك من شؤون المدنية، لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع، ولنا أن نكون من النظارة ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر.
إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيراً فلست آخر ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريباً يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت، فان كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعد ونرى - ومن يدري! لعل أسلاكاً أخرى تدخل توزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكاً وأسلاكاً - بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد ان يتحرر رمزاً لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التي تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك - وسينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون إذا فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع انهم اتصلوا بأهل السماء ،. وستعود البيوت من غير أسلاك، ولكنها وافيه بالمطالب التي نستمتع بها، والتي نحلم بها، والتي لا يقدر خيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.
أحمد أمين
بعد حوادث النمسا
النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما
3 -
الحرب الأهلية وما بعدها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أخذت الحياة البرلمانية في النمسا تنحدر منذ أوائل العام الماضي إلى معترك من الصعاب والعواصف، وألفت حكومة الدكتور دولفوس نفسها في مأزق صعب. ولم يك ثمة بد من أن تنتصر المعارضة - أعني الديموقراطية الاشتراكية - إذا تركت الأغلبية البرلمانية في سبيلها وخصومتها، أو تتوسل الحكومة لبقائها بوسائل أخرى. ولكن وقعت في يوم 4 مارس أزمة برلمانية الفت الحكومة فيها فرصتها ووسيلتها، وذلك أن مناقشة عاصفة حدثت في البرلمان في ذلك اليوم حول تصرف نائب اشتراكي اتهم بأنه وضع ورقتين في صندوق التصويت، واشتد القذف والاتهام والهرج من الجانبين، فاستقال الدكتور رنر رئيس المجلس واستقال الوكيلان، ومن ثم غدا انعقاد المجلس مستحيلاً، إذ لا يستدعيه للانعقاد طبقا لنص الدستور سوى الرئيس أو أحد وكيليه؛ وقدمت الوزارة استقالتها للرئيس ميكلاس فأبى قبولها، وفوض لرئيسها ان يعمل بقوانين الطوارئ، وبذا اتخذت الوزارة صبغة دكتاتورية، واستطاعت أن تصدر بعض القوانين الاستثنائية التي رأت ان الحاجة تدعو إليها مثل رقابة الصحافة، ومنع الاجتماعات والمظاهرات السياسية الخطرة على النظام؛ بيد ان الوزارة ما لبثت أن اضطرت أن توجه كل جهودها لمقاومة خطر آخر. أخذ يشتد شيئاً فشيئاً وينذر مصاير النمسا بشر العواقب؛ ذلك أن الوطنية الاشتراكية الألمانية أخذت منذ استيلائها على مقاليد الحكم في 30 يناير (سنة 1933) تتدخل في شئون النمسا بطرق ووسائل عديدة، وبث الدعاة الهتلريون في جميع أنحاء النمسا دعوة شديدة لتحقيق مشروع الاتحاد النمسوي الألماني (الانشلوس). وضم النمسا لألمانيا كما نعلم غاية جوهرية من غايات الوطنية الاشتراكية الألمانية سجلت في برنامج الهر هتلر منذ إنشاء الحزب الوطني الاشتراكي، وعبر عنها (بتحقيق وحدة الشعوب الجرمانية)، وقد شرحنا فيما تقدم كيف نشأت فكرة اتحاد النمسا مع ألمانيا وتطورت. وكانت الفكرة ما تزال قوية في النمسا
لدى الكتلة المحافظة حينما ظفرت الوطنية الاشتراكية بتولي الحكم في المإنيا، ولم يكن يعارضها سوى الاشتراكيين الديموقراطيين؛ ولكن السياسة العنيفة الهوجاء التي اتبعتها حكومة برلين إزاء النمسا، كانت كما قدمنا سبباً في انهيار مشروع الوحدة، وكشف عدوان الوطنية الاشتراكية وصلفها وتجنيها في الحال للشعب النمسوي عن فداحة الخطر الذي يهدد استقلاله وكيانه، وأيقن ان هذه الوحدة لا تعني في نظر برلين سوى خضوعه وعبوديته، وثارت حكومة فينا ومن ورائها الشعب كله ضد هذا التجني، وأبدى الدكتور دولفوس حزما وصرامة في قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية التي تنظمها حكومة برلين وتمدها بالمال والنصح، وأجاب الهتلريون بتدبير سلسلة من الاعتداءات والحوادث الجنائية، ولا سيما في فينا وسالزبرج (شهر يونيه). وأجابت حكومة برلين على ذلك بمنع السياح الألمان من زيادة النمسا، وفرضت غرامة فادحة للتصريح بهذه الزيارة، وساءت العلائق بين فينا وبرلين إلى أعظم حد، وشغلت وزارة دولفوس بذلك الخطر الجديد الذي يهدد أمن النمسا وسلامتها، ولم تدخر وسعاً في مقاومته، وأيدها في ذلك خصومها الديموقراطيون الاشتراكيون لأنهم أدركوا الخطر الذي يهدد الديموقراطية إذا ظفرت الوطنية الاشتراكية في النمسا؛ وعمد الدكتور دولفوس إلى العمل السياسي، فزار رومة ولندن وباريس ليثير قضية النمسا باعتبارها مسألة أوربا الوسطى، وليبين أن استقلاها مسالة دولية تهم قضية السلام الأوربي كله؛ فنجحت مساعيه في هذا الشأن؛ واستطاع أن يغنم مؤازرة دول الحلفاء ضد السياسة الألمانية، وأن يحصل على تعديلات هامة في النصوص العسكرية لمعاهدة سان جرمان، إذ سمح للنمسا أن تزيد جيشها ووسائلها الدفاعية؛ وتولى الجنرال فاجوان وزير الحربية وزعيم الحزب المسيحي الاشتراكي (بعد وفاة المونسنيور سيبل) تنظيم القوات الجديدة، ونظم قوات الهايمفر أيضاً لتعاون في تأييد النظام، واستطاع الدكتور دولفوس بكثير من الحزم والشجاعة والجلد أن يحبط تحريضات الدعوة الألمانية ودسائسها، وكاد يفقد حياته في ذلك السبيل، إذ أطلق عليه الرصاص من أحد الدعاة الهتلرين وأصيب إصابة خطيرة (في 3 أكتوبر) ولكنه نجا، ولم يزده الاعتداء سوى شجاعة وإقدام في مقاومة الخطط والدعوات الهتلرية ومطاردة أنصارها في جميع أنحاء النمسا.
في أثناء هذا الصراع كانت الديموقراطية الاشتراكية ترقب مجرى الحوادث. وكانت الخصومة الخالدة بين الديموقراطية والكتلة المحافظة (الاشتراكيين المسيحيين والهايمفر) ما تزال قائمة، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كانوا يؤيدون الحكومة في قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية، ويشتركون معها في خصومة الجبهة النازية (الوطنية الاشتراكية) لأنها خطر فادح على مثلهم وكيانهم، بيد أنهم لم يهادنوا الحكومة في غير ذلك، ولم يتركوا فرصة لمعارضتها والعمل على إسقاطها؛ وكانت الحكومة من جانبها تخشى خطط الديموقراطية ومفاجآتها، خصوصاً مذ تذرعت بالسلطة الدكتاتورية، ورفضت إجراء الانتخابات وإعادة الحياة النيابية، كانت المعركة دائمة مستمرة بين الجبهتين اللتين تشغل خصومتهما حياة الجمهورية منذ قيامها، ولكنها كانت في الأشهر الأخيرة معركة تربص وأهبة، وكان من الممكن بل من الطبيعي أن يقع الصدام بينهما من آن لآخر، كما وقع دائماً خلال الأعوام الأخيرة، بيد أنه لم يكن يتوقع أحد أن تضطرم بينهما معركة الحياة والموت في مثل هذه الظروف العصيبة، ولم يكن يتوقع أحد بالأخص أن تلقى الديموقراطية النمسوية حتفها في تلك المعركة وأنت تختفي من ميدان الحوادث بمثل هذه السرعة.
ولقد شهدنا منذ أسابيع قلائل فقط تلك المعركة الهائلة وتتبعنا حوادثها السريعة بمنتهى الروع والدهشة؛ كانت مفاجأة لم تتضح حتى اليوم ظروفها وبواعثها الحقيقية. ونكتفي بان نقدم هنا خلاصة وجيزة عن تلك الحوادث التي لا تزال ماثلة في الأذهان: ففي ظهر يوم الاثنين الثاني عشر من شهر فبراير، ذهبت سرية من رجال البوليس لتفتش دار العمل (مركز الديموقراطيين الاشتراكيين) في مدينة لنتز عاصمة النمسا العليا، فأطلق الجند الديموقراطيون (الشوتسبند) النار على البوليس القوا عليه القنابل فقتل عدة من رجاله؛
فأرسلت الحكومة في الحال عدداً كبيراً من الجند، ونشبت المعركة الأولى في لنتز بين الديموقراطيين وجند الحكومة، والظاهر أن هذا الحادث الأول كان إيذاناً بنشوب المعركة العامة. ففي نفس الوقت قطع العمال في فينا التيار الكهربائي فعطلت المواصلات، وأعلن الاعتصاب العام؛ وكان ذلك بدء الحرب الأهلية فأعلنت الحكومة القانون العسكري وحشدت القوات بسرعة البرق في كل ناحية، ولم يأتي المساء حتى كانت مدينة فينا تضطرم بلظى معارك هائلة؛ وتحصن رجال الشوتسبند في مساكن العمال الكبرى، ولا سيما في كارل
ماركس هوف، وأوتاكرنج وسيمرنج وفلوريتسدورف، وغيرها من ضواحي المدينة الآهلة بالعمال، وأصلوا جند الحكومة وابلا من الرصاص والقنابل، وأطلقت قوات الحكومة المدافع الكبيرة على معاقل الاشتراكيين؛ واستمرت المعارك في اضطرامها وشدتها حتى يوم الأربعاء. ووقعت مثل هذه المعارك في عدة مدن في الاقاليم، ولا سيما بروك وشتير وجراتز واشترك جنود الهايمفر مع قوات الحكومة؛ وأبدى الاشتراكيون شجاعة وبسالة نادرتين في الدفاع عن معاقلهم وأنفسهم؛ واستعملت الحكومة منتهى الشدة والعنف؛ وقبضت على الموظفين الاشتراكيين وعلى أعضاء المجلس البلدي؛ وقررت حل الحزب الاشتراكي الديموقراطي ومصادرة مراكزه وأوراقه وأمواله وصحفه وكل مؤسساته، وصدرت أحكام الإعدام ونفذت على كثير من الاشتراكيين، ولم يأت مساء الخميس 15 فبراير أي لرابع يوم فقط من بدء القتال حتى كانت قوى الاشتراكية الديموقراطية قد حطمت في كل ناحية، وغدت فلولا ممزقة؛ وقبض على عدة من زعمائها مثل رنروسايتز وسفر، وفر الزعيمان باوروديتش إلى تشكوسلوفاكيا؛ وانتهت تلك المأساة الدموية بمقتل ألفين وجرح آلاف من الجانبين؛ واختفت الديموقراطية الاشتراكية من الميدان، واختتمت حياتها القوية الحافلة بسرعة، وقضت الكتلة المحافظة (الاشتراكيون المسيحيون والهايمفر) على خصومها الخالدين لتنفرد بالأشراف على مصاير النمسا
ولقد كان سحق الديموقراطية عملا في منتهى الجرأة والخطورة من جانب الدكتور دولفوس وزملائه وخصوصاً لما اقترن به من العنف والضحايا الفادحة. ومن الصعب أن نقول اليوم كلمة حاسمة سواء في المسئولية أو النتائج؛ فأما من حيث المسئولية فان حكومة فينا ترجعها جميعاً إلى الاشتراكيين، وتقول انه يبدو من اضطرام الثورة في معظم أنحاء النمسا في وقت واحد، ومن شدة المقاومة التي بذلها الاشتراكيون، ووفرة الأسلحة والذخائر التي وجدت لديهم، ومناعة الأبنية التي اعتصموا بها، أن الثورة كانت مدبرة، وأن الديموقراطية الاشتراكية كانت تتأهب للقيام بضربة عنيفة للاستيلاء على مقاليد الحكم؛ بيد أنه يقال في ذلك أيضاً إن الحكومة دلت على مثل هذه الأهبة، وأن ما أبدت من الشدة والعنف في قمع الحركة، ومن قسوة وإفراط في إراقة الدم، ومن تصميم على سحق الديموقراطية الاشتراكية لا إخضاعها فقط، يدل على أنها عملت بتدبير وقصد وتتهمها بعض الدوائر الخارجية فوق
ذلك بأنها كانت تعلم في ذلك بوحي من السياسة الإيطالية. وأما من جهة النتائج فان الديمقراطية الاشتراكية كانت سنداً قوياً للحكومة في كفاحها ضد الدعوة الهتلرية، وكانت بطبيعتها هي الصخرة التي تتحطم عليها محاولات الوطنية الاشتراكية الألمانية، فالآن وقد سحقت، فانه يخشى أن لا تستطيع الكتلة المحافظة ان ترد بمفردها عدوان السياسة الألمانية، ومحاولات دعاتها في الداخل؛ واختفاء الديمقراطية الاشتراكية من الميدان يشجع الحركة الفاشستية على الظهور، وقد اشتد ساعدها الآن بالفعل وأضحى لأنصارها (الهايمفر) كبير نفوذ وسلطان في الحكم وفي تسيير الشئون العامة، والهايمفر يملون اليوم إرادتهم على حكومة فينا، وليس بعيداً أن يتحركوا غداً لانتزاع الحكم. بيد أن (الهايمفر) ما زالوا يؤكدون خضوعهم للدستور وولاءهم للحكومة؛ وقد نفوا غير مرة بلسان زعيمهم البرنس شتارهمبرج ما ينسب إليهم من التأثر نوحي السياسية الايطالية؛ وصرح البرنس شتارهمبرج غداة سحق الاشتراكية، بان الفاشستية النمسوية تقتبس حقيقة من مبادئ الفاشستية الإيطالية ولكنها ليست مقلدة عمياء، بل هي تفكر وتعمل طبقاً لظروف النمسا وحاجاتها؛ ولخص برنامج حزبه فقال: أن الهايمفر ابعد ما يكون عن فكرة إرهاق الطبقات العاملة، ولكنهم يعملون لجمع كلمتها حول مثل اجتماعية مشتركة؛ والهايمفر مخلصون لمبدأ الجامعة الجرمانية، ولكنهم أيضاً مخلصون لمبدأ الاستقلال النمسوي، ولا يقبلون بأي حال أن تبسط ألمانيا سيادتها على النمسا، ولا أن تبذل النمسا ذرة من استقلالها في سبيل إرضاء ألمانيا. وهم ينكرون مبادئ السياسة الهتلرية كلها لأنها تنافي مثلهم النصرانية هذا وليس هنالك في الآونة الحاضرة ما يدل على أن الهايمفر يفكرون في القيام بأية حركة لمقاومة الحكومة، وكل ما هنالك بالعكس يدل على أن التفاهم تام بين الفريقين.
وقد اتخذت مسألة استقلال النمسا عقب الحوادث الأخيرة أهمية خاصة، ولا سيما لما تبين من أن النازي النمسويين (الوطنيين الاشتراكيين)، سواء داخل النمسا أو في ألمانيا حيث يحتشد منهم عدة آلاف يتربصون الفرص لتنفيذ خطط حكومة برلين، ويدبرون الوسائل لإحداث انقلاب يمكنهم من انتزاع الحكم. وحكومة برلين هي التي تقوم في الواقع بتنظيم هذه الحركة كلها، وقد انتدبت لذلك عدة من الدعاة والمحرضين على رأسهم الدكتور هابخت، وحشدت من اللاجئين النمسويين قوة عسكرية كبيرة تهدد من آن لآخر باقتحام
الحدود والزحف على فينا. وقد غدت مسالة استقلال النمسا مسألة دولية، وانتهت المساعي التي بذلتها حكومة فينا في ذلك السبيل بأن أعلنت إيطاليا وفرنسا وبريطانيا العظمى في تصريح رسمي بأنها ترى وجوب المحافظة على استقلال النمسا كشرط لاستتباب السلم في أوربا، وأبدت إيطاليا اهتماما خاصاً بمقاومة مشاريع السياسة الألمانية لأنها تهدد سلامة حدودها الشمالية ومصالحها في أوربا الوسطى، وتوترت العلائق من أجل ذلك بين ألمانيا وإيطاليا. وانتهت الجهود التي بذلها السنيور موسوليني في ذلك السبيل بأن عقد أخيراً في رومة ميثاق سياسي اقتصادي بين إيطاليا والنمسا والمجر يرمي إلى توحيد الجهود السياسية والاقتصادية بين الدول الثلاث في سبيل رد أي اعتداء يوجه إلى حقوقها أو مصالحها.
وكان من أثر ذلك أيضاً أن قويت الدعوة إلى إعادة الملوكية في النمسا كوسيلة لتقوية استقلالها والقضاء على أسباب الخلاف الداخلي فيها، وليس في معاهدة الصلح (سان جرمان) ما يمنع عودة آل هبسبورج إلى النمسا وعودة العرش النمسوي، ولكن الحلفاء كانوا يعارضون دائماً في هذا العود، بيد أن الفكرة تلقى اليوم قبولا في كثير من الدوائر التي كانت تنكرها من قبل، وقد نشطت هذه الدعوة أخيراً في النمسا، وأقيمت عدة اجتماعات من أنصار الملوكية تحت رعاية الحكومة، وقيل إن الرئيس ميكلاس ينوي الاستقالة من منصبه قريباً ليمهد إلى هذا العود، ولا يوجد في النمسا من يعارض الفكرة الآن بعد ذهاب الديموقراطية الاشتراكية؛ وهي بالعكس تلقى تأيداً من الحزب المسيحي الاشتراكي (حزب الحكومة) ومن حلفائه الهايمفر. ويرى أنصار الفكرة أن عود الملوكية خير وسيلة للقضاء على مشاريع السياسة الألمانية في ضم النمسا (الانشلوس) وأما في الدوائر الخارجية فان إيطاليا وفرنسا اللتين كانتا تعارضان من قبل في هذا العود أشد المعارضة، لا تريان اليوم بأسا منه، وفي وسع فرنسا أن تذلل معارضة حليفتها تشيكوسلوفاكيا وفي وسع إيطاليا أن تذلل معارضة صديقتها المجر، وعندئذ تغدو مسألة عود آل هبسبورج إلى عرش النمسا مسألة تخص النمسا وحدها، وتتوقف على إرادة الشعب النمسوي وحده
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان
التفاؤل والتشاؤم
وهل لهما أسباب تاريخية؟
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
- 4 -
الملح
من الخرافات او بالأحرى من العادات السائدة التي نشترك نحن والمتوحشون فيها عادة أكل الخبز والملح فنتفاءل من الملح لأنه علامة الولاء والصداقة والإخاء.
وفي مصر عادة، وهي انه إذا وقع طفل على الأرض رشوا في المكان الذي وقع فيه شيئاً من الماء مذاباً فيه الملح. وهذه العادة شائعة بعض الشيوع حتى اليوم بين الطبقات المتوسطة والوضيعة
ويتوهم الفرنجة أنه إذا حدث لا قدر الله وانقلبت المملحة على مائدة الطعام كان ذلك نذير شؤم، إلا إذا اخذ أحد أصحاب البيت شيئاً من الملح المقلوب على طرف ملعقة وألقاه من فوق كتفه اليسرى وهو ينطق بكلمة (ستستروم).
وان أهل العصور الغابرة كانوا إذا أرادوا هدم بناء لتطهيره من دنس أو لعنة رشوا على أرضه الملح قبل أن يشيدوه ثانية.
ويقول التاريخ أن امرأة لوط تحولت إلى تمثال من ملح، ويقال أن الأقدمين كانوا يعاقبون أرقاءهم المكلفين بنقل الملح بالإعدام لو سقط منهم شيء منه على الأرض.
ويذكر كذلك أيضاً أن بعض حكومات أوربا كانت توزع الملح مجاناً على الأسر التي لا يزيد عدد أفرادها على اثني عشر شخصاً، ويعتقد نساء الفرنجة أن سقوط الملح على الأرض نذير شؤم وسوء.
أما أصل الاعتقاد فيرجع إلى تأثير الملح في حياة الإنسان وغذائه ولأن الملح كان من اندر الأشياء وجودا عند المتوحشين وانهم مولعون به، يقفون الخصام أحياناً لكي يقايضوا بأي شيء لأجله. يذهب أحدهم إلى تخوم القبيلة الأخرى فيضع ما عنده من سلع ثم يتركها ويعود في اليوم التالي فيجد بدلاً منها ملحاً يحمله إلى أهل قبيلته، وقد كان القدماء يحتاجون
إلى الملح اكثر منا لان معظم قوتهم كان من النبات لا من الحيوان. ولذلك كانوا إذا اكرموا ضيفاً قدموا له أشهى ما عندهم للنفس وأغلى ما يمكنهم الحصول عليه وهو الملح، وبقيت هذه العادة إلى وقتنا هذا، وكذلك لأنه يستعمل في كثير من الأحوال الدينية عند المسيحيين، فهم يذيبونه في الماء المقدس وكذلك يضعون قليلاً منه على طرف لسان الطفل في حفلة العماد
الخبز المرتد
من الخرافات التي شاعت في فرنسا ان الفرنسيين يتشاءمون من أكل الخبز المرتد إلى المخبز، وذلك أن الخبازين كانوا يحجزون للجلادين خبزهم الخاص بهم ويضعونه في مكان منعزل، فإذا أتم العامل صنعه أخذه صاحب المخبز ووضعه في مكانه الخاص ريثما يأتي الجلاد فيأخذه، وكان هذا الخبز يسمى الخبز المرتد.
السن
من الخرافات الفاشية أن يرمي الفتى سنه في عين الشمس من وراء ظهره.
وأن بعض طلبة جامعات أمريكا وأوربا إلى يومنا هذه يحتفظون بضروس العقل المقلوعة في جيوبهم ويحرصون على حملها معهم إلى قاعة الامتحان في نهاية كل عام.
أما عادة إلقاء السن في عين الشمس فمعروفة عند العرب، وقد ذكرت في أشعارهم، كما هي معروفة عند فتياننا وفتيان الغربيين، بل وفتيان المتوحشين. ومن عادات هؤلاء أن يأخذ الوالد سن ولده فيضعها في أصل شجرة كبيرة ويدعو لولده بأن يبلغ في الرفعة والقوة مثلما بلغت هذه الشجرة، ومن عاداتهم أيضاً أن ينزعوا سناً أو سنين للشاب عندما يتناول سر الرجولة أي عند ما يسمح له بأفعال الرجال.
وقد تكون عادة إلقاء السن السائدة الآن بقية من بقايا العصور الغابرة حين كان قلع السن بشير الرجولة، فالصبي يتفاءل بقلع سنه كأنه يرى في ذلك دليلاً على انه اقترب من الرجولة، وقد يتساءل القارئ الآن: لماذا يقلع رجال القبيلة سناً أو سنين للشاب الذي يريد الدخول في زمرتهم؟ والجواب أن هذا القلع يجري على سبيل تجربة الشاب من حيث القدرة والجلد على تحمل الآلام
يتبع
إبراهيم تادرس بشاي
في علم النفس
الأحلام والتحليل النفسي
بين فرويد وابن سيرين
للدكتور عبد الفتاح سلامه
إن الذي حدا بي إلى البحث عن الأحلام وما تدل عليه، هو في الواقع رغبتي في إظهار فضل ابن سيرين على هذا الفن الذي يدعى فرويد أنه هو الذي أنشأه وأوجده، في حين أنه لم يصل إلى شهرته العظيمة في التحليل النفسي إلا بعد أن ترسم خطى ذلك المفسر العربي العظيم واقتفى أثره.
فتفسير الأحلام والتحليل النفسي هو في رأيي من عمل الأقدمين، وإذا قلت الأقدمين فإني أقصد بذلك الشرق، وهو لا يمت إلى الغرب بصلة، اللهم إلا صلة النقل ومحاولة فهمه والاستفادة منه.
ولابد لي قبل الموازنة بين ابن سيرين وفرويد من أن اشرح نظرية فرويد في تكوين الرؤيا وكيف يتصدى هو إلى تفسيرها. وكذلك سأشرح رأي ابن سيرين وطريقته في التفسير، وسيظهر جلياً كيف أن الأولى هي وليدة الثانية إن لم تكن هي هي مع قليل من التحوير، وسأبين أيضاً كيف تدل الرؤيا على حوادث المستقبل في بعض الأحيان.
تتلخص نظرية فرويد في أن الرغبة أو الأمل الذي لم يتحقق هو الذي ينبه العقل إلى العمل والتخيل أثناء النوم، وتكون النتيجة أن العقل يتخيل أن رغبته قد تحققت، أو بمعنى آخر فان الرؤيا قد تعتب حارساً للنوم، وظيفته أن يجعل النوم هادئاً مطمئناً، لأنها تخيل إلى الإنسان أن رغبته قد تحققت فلا داعي إذا إلى التفكير. ويقول فرويد أيضاً: إن بين رغبات الإنسان مالا يتفق ونظام المجتمع فقد تتمنى نفسه شيئاً محرماً يقف ضميره دون تحقيقه، فتتحين النفس فرصة يضعف فيها الضمير فتحقق رغبتها، ومن الناس من يضعف ضميره في اليقظة فيحقق رغبته المحرمة بالفعل ومنهم من لا يضعف ضميره إلا إذا نام إذ يتخيل تحقيق رغبته الملحة، وذلك في الرؤيا أي في وقت يكون الضمير فيه نائماً أو ضعيفاً فلا منع إذن ولا تإنيب، ويقول فرويد إن هذه الرغبات لا يعرف الإنسان عنها شيئاً
مطلقاً مع أنها ليست غريبة عنه، وذلك لأن الضمير يطردها من العقل الواعي أو ما يسمونه العقل الظاهر.
ومع غياب هذه الرغبات عن الوعي فهي ممثلة في العقل الباطن، ممثلة فيه كأفكار كامنة، وأنها سبب الرؤيا وسبب مباشر لكل الأمراض العصبية التي يسميها فرويد يقول أيضاً إن المريض إذا صبح على بينة من أفكاره ورغباته الكامنة فانه يوجه إليها قوته العقلية المميزة ويضعها في ميزان النقد والتقدير، وبهذا فقط يتخلص من مرضه العصبي الذي يسبب له ولأسرته كل أنواع المتاعب. هذا في الواقع هو الذي حفز فرويد إلى دراسة الأحلام لأنها في نظره وسيلة من الوسائل التي توصل إلى كشف الرغبات الخفية للنفس. وفيما يلي طائفة من الأحلام التي حللها فرويد.
1 -
رأت آنسة كأن أخاها في دولاب مقفل وكان تفسير فرويد أن الآنسة تود ألا يتدخل أخوها في شؤونها - ذلك لان وجود الأخ في الدولاب المقفل رمز لعدم قدرته على رؤيتها، وبالتالي رمز لعدم إمكان انتقادها أو التدخل في شؤونها
2 -
زوجة رأت أنها اشترت ثلاث تذاكر لها ولزوجها لحضور حفلة تمثيلية وأنها اشترت هذه التذاكر الثلاث بفرنك ونصف وأنها اشترت التذاكر قبل ميعاد التمثيل بثلاثة أيام خوفاً من نفاذ التذاكر، وأنها حضرت إلى صالة المسرح قبل رفع الستار بساعة خوفاً من الزحام، ولكنها لما دخلت مع زوجها وجدت كراسي كثيرة خالية، وهذا معناه أنها ما كانت لتخسر شيئاً لو أنها لم تتعجل في شراء التذاكر ولا في التبكير في الحضور، وأخبرها زوجها وهو يلاطفها في المسرح بأن صديقتها فلانة وزوجها قد اشتريا تذاكر ولكنهما لم يحضرا، ولما سألها فرويد علم منها ما يأتي. صديقتها المذكورة في الرؤيا أصغر منها بثلاثة أشهر هي لم تتزوج إلا بعد زواج صاحبة الرؤيا بعشر سنين، ولأجل تفسير هذه الرؤيا المعقدة تجد أن فرويد قد حاول تحليلها بطريقة الرموز على الوجه الآتي
الحفلة التمثيلية رمز لحفلة الزواج، والرقم 3 رمز للرجل وهو الزوج في هذه الحالة، وإذا عرفنا أن المرأة هي التي تدفع المهر عند الإفرنج وأنها اشترت ثلاث تذاكر بفرنك ونصف، كان معنى ذلك أنها دفعت مهر زوجها رخيصاً فهي غير سعيدة في زواجها، وما كان أسعدها لو أنها تأخرت في الزواج كزميلتها التي تزوجت من رجل أشجع وأحسن من
زوجها وذلك بفضل تريثها حتى جمعت مهراً لائقاً برجل كريم
من هذين المثالين نرى أن فرويد قد استعان في تحليله النفسي بالأحلام وأنه فسر هذه الأحلام بواسطة أسئلته لصاحب الرؤيا وبواسطة فكه الرموز بهذه الأحلام.
أما هذه الرموز فهي موجودة، في اللغة، موجودة في الشعر موجودة في الأمثلة السائرة، وفي الحكم المنثورة، وفي كلام العامة، والخاصة وفي كل شيء. فالشمس والقمر قد يكونان رمزاً للوالدين أو رمزاً للملوك. وصغار الطيور قد تكون رمزاً للأطفال والأبناء. وهكذا يقول فرويد إن لكل أمة رموزها الخاصة وهو على حق، لأن لكل أمة لغتها الخاصة وآدابها وأمثلتها. وبعد، أفليست هذه الطريقة هي طريقة ابن سيرين في التفسير وقد كان يسأل صاحب الرؤيا ملياً في النهار وهو يقول في كتابه إن الرؤيا قد تأتي عن رغبة في النفس كأن يرى الإنسان نفسه مع من يحب أو قد يرى الأكل أمامه إذا كان جائعاً، وأما الرموز عند ابن سيرين فهي كثيرة ليس لها حصر، وليس له مثيل في هذا الباب وقد أخذ هذه الرموز من القرآن كالآيات الآتية
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقوله تعالى في النساء (بيض مكنون) وكان يأخذ رموزه أيضاً من الحديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفقاً بالقوارير) يعني النساء - وقد كان يأخذ رموزه أيضاً من الأمثلة المبتذلة كقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام (غير اسكفه الباب) أي طلق زوجتك وكقول لقمان لابنه (غير فراشك) يعني زوجتك أيضاً وفيما يلي طائفة من الرؤى التي فسرها ابن سيرين
1 -
جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت: رأيت كأن في حجري لؤلؤتين أحدهما أكبر من الأخرى وقد طلبت أختي مني إحداهما فأعطيتها الصغرى - فقال ابن سيرين تعلمت سورتين من القرآن إحداهما اكبر من الأخرى وقد علمت أختك الصورة الصغرى
2 -
جاء رجل إلى ابن سيرين وقال: رأيت كأن ثورا عظيما خرج من جحر صغير وأراد أن يرجع إلى الجحر فلم يتمكن من ذلك. فقال ابن سيرين هي الكلمة العظيمة تخرج من فم الرجل ثم يندم عليها.
وظاهر هنا أن ابن سيرين قد رمز للسورة باللؤلؤة وللكلمة بالثور وللفم بالجحر وبديهي أنه - تمشيا مع عادته في التفسير - قد سأل أصحاب الرؤيا عما في أنفسهم قبل إيضاحه لهم
ما تدل رؤياهم عليه، وهناك طائفة أخرى من الأحلام قد فسرها أبن سيرين وفي تفسيره لها شيء من التنبؤ وهاك بعض الأمثلة:
1 -
جاء رجل إلى أبن سيرين وقال رأيت كأني البس خاتماً جميلاً فصه من ياقوت فقال تتزوج من امرأة جميلة غنية أي أنه حمل المعنى على المستقبل
2 -
جاءت إلى أبن سيرين امرأة وكان زوجها غائباً وقالت له: رأيت كأن أسكفة الباب العليا سقطت على السفلى، فقال أبن سيرين سيعود زوجك، وهنا أيضاً حمل المعنى على المستقبل
ونحن من جانبنا لا نتعرض لموضوع التنبؤ الآن لأننا سنوفيه حقه فيما بعد، ونكتفي بذكر رؤيا عظيمة تدل على مبلغ تضلع العرُب في تفسير الأحلام. فقد حدث المنصور أنه رأى في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمسة، فاحتار المنصور في تأويل رؤياه لانه لا يعلم هل سيموت بعد خمسة أشهر أو خمس سنين، ولكنه سأل الأمام أبا حنيفة، قال له انه يشير إلى الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت) فكأن ملك الموت يريد أن يذكره بالخمسة أشياء التي لا يعرفها غير الله ومن ضمنها وما تدري نفس ماذا تكسب غدا
هذا هو تفسير أبي حنيفة، ولعمري لا يمكن لفرويد ان يزيد شيئاً على هذا التفسير، اللهم إلا إذا قال كعادته إن هذه الرؤيا تمثل محاورة بين النفس والضمير، فالنفس ترغب في معرفة عمرها والضمير بصورة ملك الموت يقطع عليها هذه الرغبة قائلا إن ذلك من علم الله
وإنني مع اعترافي لفرويد بالنبوغ في التحليل النفسي بواسطة الأحلام، وأنه هو الذي نبه العصر الحديث إلى أن الأحلام لها مغزى يجب أن نعرفه إذا أراد أن نعرف حقيقة أنفسنا، وان التحليل النفسي هو الطريقة المثلى لعلاج الأمراض العصبية علاجاً أكيدا. أقول مع اعترافي بكل هذا فإنني اشعر بأن هذا العصر الحديث مدين لابن سيرين ومفسري العرب لأنهم هم الذين أثاروا الطريق لفرويد حتى وصل إلى هذه الشهرة العالمية العظيمة، ومن الغريب أن فرويد في كتبه العديدة لم يذكر كلمة عن ابن سيرين.
وقبل أن أتكلم عن علاقة الرؤيا بالمستقبل أود أن أذكر هنا رؤيا أخرى مما طلب إليّ تفسيره
1 -
شاب موظف متزوج وله أطفال رأى كأن في بيته فراريج صغاراً داس على فروج فمات
هذه رؤيا ظريفة وصغيرة ولكنها تدل على معنى كبير لان الفراريج رمز للأطفال، فهل من المعقول أن والداً يود موت طفله بيده؟ فقد يبدو ذلك محالا، ولكن الواقع أن الأسئلة قد جعلته يعترف بأنه ليس سعيدا في حياته الزوجية، وأنه يتمنى لو لم توجد هذه الرابطة: رابطة الأطفال بينه وبين زوجته
إذن تريد النفس ألا يكون هناك أطفال، ولكن الضمير يقف حائلا دون ظهور هذه الرغبة فتكتفي النفس بتمني موت طفل واحد ولكن تحت ستار آخر غير ستار كراهية الزوجة، وهذا الستار هو أن ذلك الطفل مريض مرضاً خطيراً وخير له أن يموت من أن ويواجه الدنيا في المستقبل ويده اليمنى مشلولة. ذلك الذي يتمنى موت طفله لان يده اليمنى مشلولة يقول أيضاً بأن بعض الأطباء قر بأن الشلل موضعي وان الشفاء ممكن لو عنى به العناية اللازمة إذن فليست هي الشفقة التي تدفعه إلى تمني موت طفله إذ أنها بالعكس تدفعه إلى معالجة ذلك الابن المرموز له بفروج صغير في الرؤيا، وعلى هذا فالوضع الظاهري للحالة هو التخلص من الابن شفقة به، والوضع الحقيقي هو انه يرغب في الانفصال عن زوجته فترغب نفسه موت أطفاله في هذا السبيل
إلى هنا نقف برهة عن سرد أمثلة أخرى لانه قد يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي
إذا كان فرويد قد تتبع طريقة ابن سيرين في تفسير الأحلام فلماذا نرى هذا الفرق العظيم في نتيجة التفسير؟ ففرويد مثلاً يقول لصاحب الرؤيا إن عندك رغبة في كذا، ولكن ابن سيرين يقول لصاحب الرؤيا أنت حدث لك كذا أو سيحدث لك كذا؟
أما كشف حوادث الماضي فان ذلك ممكن لمحللي النفس كما كان ممكنا لابن سيرين، ولكنهم لم يكتفوا بالكشف عن حوادث الماضي بل تخطوها إلى معرفة رغبات النفس التي اقترنت بهذه الحوادث، والذي يعنيني هنا هو تعرض ابن سيرين لحوادث المستقبل.
والواقع أن ابن سيرين كان أستاذاً في الإيحاء الذي يسمونه كما كان أستاذاً في التحليل
النفسي
وفي كتابه نرى كيف يختار الوقت والمكان اللذين إذا عبر فيهما يكون اقرب إلى الخير منه إلى الشر، وكيف يدعو الله قبل سماع الرؤيا لجلب الخير ودفع الشر وتأكيده في كتابه بان على المعبر أن يختار الكلام المبشر بالخير، لان أول تعبير في نظره هو الذي لابد من وقوعه
إذن فالإيحاء هو الذي أوجد الفرق بين ابن سيرين وفرويد، ففي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحب الخاتم أنك ستتزوج امرأة جميلة غنية لو قصت هذه الرؤيا على فرويد لقال لصاحبها إن عندك رغبة في أن تتزوج بالمرأة الجميلة الغنية التي تعرفها. وفي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحبتها إن زوجها سيحضر لأن اسكفة الباب العليا قد اجتمعت على أسكفة الباب السفلى لو عرضت هذه الرؤيا لفرويد لفسرها بأن الزوجة عندها رغبة في رجوع زوجها، وربما قال لها كثير من ذلك لما في اجتماع رمزي الزوجين من معان. والفرق واضح بين الطريقتين، فكلمة ستتزوج تحمل الرغبة في الزواج والإيحاء بالزواج في نفس الوقت، ولما كان الناس يعتقدون في ضرورة تحقيق التعبير فان ذلك الرجل الذي أوحى إليه بالزواج لابد انه سيتزوج ويكون بذلك قد حقق لابن سيرين تفسيره.
وهكذا يتبين لنا أن فرويد قد أدخل تعديلا مهما على تعبير الاحلام، فهو يسأل صاحب الرؤيا عن نفسه وهو يفك الرموز بطريقة ابن سيرين، ولكنه لا يوحي إلى صاحب الرؤيا بأي فكرة بل يكتفي بإظهار الرغبة النفسية الخفية له، ويقول إن إظهار هذه الرغبة كاف لأن يفكر صاحب الرؤيا في رغبته فيتناولها بالنقد والتقدير، وبذلك فقط قد يوافق على رغبته وينفذها إذا لم يكن هناك مانع عائلي أو اجتماعي وإلا فانه يكبت هذه الرغبة أو قد يسمو بها، وهذا ما يسميه فرويد أي أنه يوجهها وجهة شريفة سامية، وبقى علينا أن نجيب على سؤال واحد وهو هل تدل الرؤيا على حوادث المستقبل؟ والجواب على ذلك هو أن الرؤيا قد تدل على المستقبل في بعض الأحيان. وأما كيفية ذلك فسنخصص له بحثاً آخر فيها بعد، بعد شرح أقسام العقل المختلفة التي تعتمد رؤيا المستقبل عليها.
دكتور عبد الفتاح سلامة
طبيب مستشفى برقاش ووردان
بمناسبة قصة خسرو وشيرين
كلمة في الشعر المرسل
للأستاذ مؤلف خسرو وشيرين
لقد تكرم الأستاذ اللوذعي صاحب الرسالة بكلمة نقد قيمة في قصة خسرو وشيرين تناول فيها قالبها أو رداءها من الشعر المرسل، وكان على عادته في كتابته قاصداً قوياً مهذباً.
ولقد أدهشني وأيم الحق أن رأيت بالرسالة الغراء كلمة في تلك القصة، وذهبت نفسي توغل في هزة من الطرب أنستها ما يجب عليها من وزن القول والقصد فيه.
وذلك لأنني منذ أخرجتها بعثت بها إلى أساطين الكتاب والأدباء وكبار المحررين، وانتظرت أن يقرأها بعضهم فيقول فيها كلمة، إما أن تكون كلمة نقد مر يظهر ما فيها من تفاهة وسخف، وإما أن تكون كلمة نقد هين يتعاقب فيها الاستهجان والاستحسان. وما كنت انتظر أن يقذف بالقصة في زاوية الإهمال لأن صاحبها لم يكتب عليها اسمه، أو لأنه لم يلح في طلب التقريظ، أو لأنه لم يلتمس إعانة أو حماية من أحد. فلما مضت أيام ولم أجد ذكراً لها على لسان ولا في صحيفة، طويت ذكراها في ثنايا الماضي وأنسيت نفسي إياها، وقلت ألتمس التعزية لنفسي، أنها لم تكن جديرة لا بالثناء ولا بالذم، فلعلها في نظر الأدباء أقل من أن يحكموا عليها بالسخف والسقوط. هكذا قلت لنفسي ورضيت القول على شدته، لأنني كنت دائماً أتهم نفسي بأنني كسائر المؤلفين موصوف بالعمى والغباء، فكم رأيت من المؤلفين من أسمعني قوله، فجال في فكري عند سماعه أن أقول له (أسأت)، ولكني ضعفت عن قول ذلك اللفظ فقلت له (أحسنت). فصدق ما قلته وذهب عني قرير العين موقنا أنه مؤلف مجيد موفق، وذلك العمى الخاص بالمؤلفين شبيه بما يصيب الآباء في حكمهم على أبنائهم. قيل ان أعرابياً فقد ابنه مرة، فمر الصبي بقوم فرأوه شبيها بالجعل القبيح، ثم مر الأعرابي بهم فسألهم عن ابنه فقالوا له صفه لنا، فقال لهم:(كأنه دنينير) أي كأنه دينار صغير من حسنه، وتردد بريق الجمال في وجهه ونفاسته. وهو على ذلك لم استبعد أن أكون كأحد هؤلاء المؤلفين البغيضين، وحمدت الله على أن وفقني لفكرة إخفاء اسمي عن الناس حتى لا تنالني معرة (قصة خسرو وشيرين!)
قلت لقد دهشت إذ رأيت في الرسالة كلمة عن تلك القصة، ولا سيما وهي كلمة من قلم
أستاذ أديب وكاتب أريب، لا أظنه يخدع عن غث القول وسمينه. ولما رأيته يتناول القصة في أول ما قاله بالثناء زدت عجباً، إذ كيف تكون تلك القصة جديرة بتقدير أديب كبير، ومع ذلك تجد من سائر الأدباء مثل هذا الإهمال. وكيف لا تستحق من الأدباء كلمة وقد استحقته من مثل الزيات كلاماً، حسبي إذن اندفاعاً مع هزة الطرب التي استخفتني، وذهبت باتزان قولي عندما قرأت مقال الرسالة في قصتي، فقد كنت أوثر أن الزم القصد في قولي، ولولا أن رأيت شيئاً لم أتوقعه فانطلق قلمي برغمي.
حسبي إذن لوما للأدباء والأساتذة، فلعل لهم العذر فيما كان، ولعلي أخطأت فهم قصدهم وعذرهم فما أكثر مشاغل الحياة وما أثقل أعباءها، وأولى بي أن آخذ الناس كما أجدهم ولا أعتب على أحد منهم شيئاً.
أما شعر المرسل فقد رأيت الأستاذ الجليل قد وضعه تحت ضوء قلمه الوهاج فأعشى وهجه العيون وكاد يحجب ما دونه. لا فائدة هنا في أن يدافع أحد عن أسلوب من القول، ولا فائدة في أن يحاول حمل الناس على تذوق ما يحلو في ذوقه، فهذا شيء من العبث وضرب من طلب المحال، غير إني أرى من حقي أن أبين للناس كيف يجب أن يكتب الشعر المرسل الذي كتبت فيه قصتي (خسرو وشيرين) فان وحدة هذا الشعر هي الشطر الواحد، وليس البيت المكون من شطرين.
لقد تعارف شعراء اللغة العربية على وحدات متعددة لشعرهم، فأكثر القصيد وحدته البيت المكون من شطرين كما هو معلوم، والرجز وحدته الشطر الواحد مع مراعاة انتهاء كل وحدتين منه بقافية واحدة، وهناك المثلثات والمربعات والمخمسات على ما هو معروف. وأما الشعر المرسل فوحدته كما تقدم الشطر الواحد. وأما حكمة ذلك فلا فائدة من بيانها. فان اختيار أوزان الشعر المرسل واختيار جعله من شطرات مفردة لم أصل إليها إلا بعد درس واختبار ومحاولات تجريبية كثيرة. غير أن بيان أسباب ذلك الاختيار لا يجدي نفعاً، إذ أن تلك الأسباب مهما تكن وجيهة فإنها لا يمكن أن تحمل الناس على استحسان شيء لا يبدو لهم مستحسناً.
ولهذا أكتفي بأن أقول إن من يحاول أن يكتب الشعر المرسل أو يقرؤه يحسن به أن يجعل وحدته الشطر الواحد، وان يكتفي بما في الوزن من الموسيقى بغير ان يقف عند آخر
الشطر إلا إذا كان المعنى ينتهي إليه.
ولم يلجأ أحد في لغة من اللغات إلى الشعر المرسل لكتابة الأغاني، وهذا ما لا يراد به في اللغة العربية. فالأغاني وكل ما يعبر عن العواطف الثائرة التي تهز القلوب هزة وقتية قصيرة لا ينفع فيها الشعر المرسل. أقول هذا وأكرره كثيراً حتى لا ينزعج الأدباء من دخول هذا الباب في اللغة العربية. وما أنا ممن يحاولون هدم القديم إذ إني أفاخر بذلك القديم وقد تقدمت بي السن إلى حدود القدم، فلست ممن يتعلقون بالهدم، ولست ممن لا يحرصون على كنوز القرون المتعاقبة، بل أجد من نفسي أشد الحرص على تلك الكنوز، وذلك لما استمد منها من لذة وحكمة. وإنما اقصد إلى أن أفتح باباً جديداً كان إلى الآن مغلقا وهو باب القصة الشعرية أو الملحمة الطويلة، وفي مثل هذه الأبواب كانت القافية غلا يقيد المعنى، ويغير مجاريه، حتى أن شعراء اللغات الأخرى رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاستغناء عن القافية والاكتفاء بموسيقى الوزن. ولو فعل البستاني مثل ذلك في ترجمة الإلياذة ولو فعل شوقي مثله في رواياته المسرحية لكان لعملهما شأن آخر، ولصارت الإلياذة العربية اليوم في متناول المتأدبين سهلة لينة، ترسم صورة الإلياذة اليونانية الأصلية، وليست كما هي اليوم، فالقطع الشعرية الطويلة تكون طللا يابساً غيرمتناسق، ولو كانت أجزاؤه من قطع مرمرية بديعة، فانك عندئذ إذا نظرت في القطعة الصغيرة منها أعجبتك ولكنك إذا تابعت النظر إليها لتراها مجتمعة راعك منظر غير متآلف وحركات جامدة غير متوثبة مع الحياة. لست ادعى إنني أحسنت، ولكني أقول قول الواثق أن الشعر المرسل يكون أداة إصلاح وسعة في اللغة العربية إذا وجد من يحسن القول فيه. وإذا أنا ضربت من قولي مثلا له فلست أضربه على أنه قول حسن، ولكني اضربه على سبيل العرض للطريقة: وهانذا مختار قطعة من مواقف خسرو وشيرين، وارجو أن تكتبها الرسالة الغراء كما أردتها أن تظهر - أي أن تكون وحدتها الشطر الواحد.
وقف بعض قواد الملك كسرى في أيام مجده وجبروته يتحدثون ويتذمرون، فأقبل عليهم شاعر البلاط (مهمند) فقطع عليهم حديثهم فدخلوا في حديث دعابة مع الشاعر، والقواد هم (أسفاذ) و (تخوار) و (حراز).
حراز (ضاحكا)
أوه. مهمند؟ كيف حال الزمان؟
(يعودون إلى الهدوء)
مهمند مثلما كنت دائماً. أتغدى
ثم أغفو، وبعد ذلك أصححو
ثم أغفو، وبعد ذلك أصحو.
(يضحكون)
حراز سرك الله، نعم تلك حياة.
(لتخوار) يا صديقي تخوار. نعم الحياة.
(لاخوانه) هل سمعتم مقال مهمند يوما؟
تخوار: أنا بالحرب عالم، غير إني
لست بالشعر عالما يا صديقي.
حراز: (لمهمند) قل لنا من بديع شعرك شيئا
مهمند: لست يا سيدي أحب كلامي
(يشير حراز إشارة عدم التصديق)
لا تكذب فإنما هو رزقي
وسبيل الأرزاق غير حبيب
بائع الزهر ذاهل عن شذاه
لا يرى في الزهور إلا بضاعة.
حراز غير أن الزهور لم تك يوما
غير محبوبة الشميم. أعدلى
ذلك الشعر اذ خرجنا لنلهو
يوم عيد النيزوز
مهمند كان جميلا
ذلك اليوم كم ضحكنا. ولكن. . .
(يهز رأسه كمن يتذكر شيئا يأسف على فواته)
حراز كم ضحكنا. أعده يا مهمند
مهمند (ينشد) من أراد الصدق فليسمع ومن شاء السرور
ذقت ما في الدهر من حلو ومن مر مرير
وعرفت الناس عند اليسر والأمر العسير
كنت أبكي إن بكى لهفان ذو قلب كسير
ولكن ضل فؤادي في فنون وغرور
فإذا بي بعد ان شيبنيي مر الدهور
لا أرى في الناس ذا حظ سوى الفدم الغرير
كن إذا شئت حمارا مرحا بين الحمير
وإذا شئت فأسرج راكبا فوق الظهور
ساخرا منها إذا أعجبها السرج الحرير
فأضل الخلق عقل فوق رجلين يسير
حراز (يضحك بصوت عال)
كن إذا شئت حمارا مرحاً بين الحمير
(يضحك مهمند والحضور)
(لتخوار) أترى أن يكون هذا صديقي؟
تخوار (ضاحكا) لا أرى أن أكون هذا.
حراز (فأسرج)
راكبا فوق ظهرها يا صديقي
تخوار (ضاحكا) لا أرى في الركوب بأساً إذا ما
كان لابد من ركوب الحمير.
حراز (لاسفاذ) ليت شعري مإذا تحب؟
اسفاذ (متكلفا الضحك)(أراني)
لا احب الحمير -
مهمندلم أر يوما
سيدا طيبا تواضع حتى
رضيت نفسه بهذا. ولكن
كلنا يرتضى الركوب. وعندي
أن أحلى الحياة عيش الحمير
(يضحكون)
حراز كيف هذا مهمند؟
مهمند نعم الحياة!
كل ارض خضراء مرعى مباح
لم يعكرهم الحياة صفاها.
حيث سارت رأيت محلا ومأوى
وإذا شاءت النهيق وصاحت
لم توار النهيق خشية بطش
حراز أنت مهمند احكم الشعراء.
كم من الناس من يود نهيقا
ثم يخشى فيكتم الأنفاسا.
ولعل أعرض على قراء الرسالة في مرة أخرى قطعة ثانية تصف موقفاً آخر ليروا في ذلك القول رأيا
وإني أرجو أن تتكرم المجلة الأدبية الغراء بنشر مقالي هذا خلوا من الامضاء، إذ إني أرجو أن يبقى كاتب (خسرو وشيرين) في تحجبه، فإنما المقصود أن يرى الأدباء رأياً في القصة وشعرها المرسل فحسب.
1 - تولستوي
اجتماعياته
عشق تولستوي المدنية الاوربية، فطاف في أنحاء أوربا وأعجبه منها تقدمها الآلي ونظامها المتسق. وبهره فيها حركتها الدائمة ونشاطها المتجدد.
ولكنه ما لبث أن نفذ إلى أعماقها. وكفاه أن يرى في تجواله رجلا يشنق في باريس أم المدنية على مرأى ومسمع من الجماهير حتى ينقلب ساخطا متذمراً متشائماً. وحتى يرجع إلى روسيا غضبان أسفا، فيهاجم الحضارة الحديثة في سخرية لاذعة وتهكم مر.
تناول تولستوي الناحية النفسية من المجتمع. وأخذ يصورها بقلمه الماهر تصويراً دقيقاً.
فبين أن حياة العامل اليوم أشقى بكثير من حياة الرقيق بالأمس. فقد كان يؤمن هذا إيماناً لا يخامره الشك انه خلق عبداً. وأن الله أراد أن يكون هناك أحرار وعبيد. وكان يوقن أن لا مرد لأمر الله، وفي هذا الإيمان تعزية. وفي هذا الاعتقاد سلوة. .
أما العامل الحر اليوم فقد علموه المساواة، فلا نبيل ولا حقير. ثم هو يرى أن عليه أن يتعب، ولهم أن يستريحوا. ومن واجبه أن يشقى، ومن حقهم أن يسعدوا
وهو ولا شك غير راض بهذا ولا قانع، ولابد له أن يتساءل لماذا يشقى؟ وهو منته إلى الشك في عدل هذا العالم وإنصاف القائمين بأموره.
وفي هذا الشك. وفي ذاك التساؤل تعس ليس بعده تعس، ثم رجل الطبقات الوسطى لا تقل حالته النفسية عن حالة العامل تناقصاً واضطراباً: إذ يرى عجبا، يرى قوما إذا ما أجادوا التمليق وأحسنوا الاحتيال وداسو على الشرف والكرامة ارتفعوا على أكتاف الغير وتولوا قيادة الأمم، ثم طائفة أخرى تتمسك بالأمانة وتتعلق بالشرف. وهي أبية لا تقل ذكاء ولا مهارة عن الأولى ولكنها مهما كدت وجدت فنصيبها في الحياة القدح المنيح، ثم هو متعجب لماذا يجب عليه أن يؤدي ضرائب ثقيلة على نفسه لتتمتع بها قلة مستهترة. وماذا يحمله على محاربة الموت في ميدان القتال، ما دام الغنم كله راجعاً إلى القواد والساسة!؟ ويزيده شقاء على شقاء انه مضطر إلى مجاراة العالم في نظمه وأساليبه، وهو يحمل لها بين طوايا نفسه انتقاماً مراً. ورجال المناصب وقادة الأمم من ساسة وحكام لهم آمال عريضة ومبادئ قويمة. ولكنهم إذا ما تولوا الحكم وقبضوا على أزمة الأمور انتهوا إلى منهاج من سبقهم
واضعين مبادئهم في أحد أدراج مكاتبهم التي يستريحون إليها!
ويمتد هذا التناقض إلى نفسية الأمم كمجموعة. فليس أعجب من أمم مسيحية تعتنق ديناً يدعوها ألا تقابل الشر بالشر وأن تدير الخد الأيسر لمن يلطم الخد الأيمن. وهي لا تتورع عن قتال دام تعد له أشد الآلات فتكا لإهانة تافهة، أو لطمع أشعبي في قطعة أرض أو تصريف محصول.
فرق بعيد إذن بين ما يعتقد البشر وبين ما يعملون. وبون شاسع بين ما يؤمنون انه واجب أن يكون، وما هو كائن بالفعل، وفي هذا سر الشقاء والبؤس الذي يسود العالم.
كان من نتيجة هذا الخلاف بين ما تراه ضمائرنا وما تعلمه أيدينا أسوأ العواقب. فالنظم والأوضاع الاجتماعية الحديثة لا تستند إلا إلى القوة. ولا تقوم إلا بالعنف.
فليس من حكومة تستطيع أن تدبر أمر دولة دون أن يكون من ورائها شرطة تجبر الناس على الطاعة. وليس من قانون يسري إلا إذا اعتمد على قوة تنفيذية تضطر الناس إلى الإذعان له، وليس من عمل يدار إلا إذا تحكم أصحاب رؤوس الأموال في العمال، ويتجلى هذا العنف في أبسط نواحي الحياة الاجتماعية أو أكثرها تعقيداً من العلاقات العائلية إلى العلاقات الدولية، فلا يتاح لأسرة أن تستمر إلا إذا استبدت المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، ولا يمكن لنزاع إن يحسم بين دولة وأخرى إلا إذا أريقت الدماء وأزهقت الأرواح
ولو ترك الناس وضمائرهم لما جبيت الضرائب، ولما لفت الجيوش، وما كان ليخطر ببال إنجليزي أن يقتل فرنسيا، ولا فرنسي أن يستعبد سوريا
ولو كان الأمر شورى والمبادئ التي نودي بها من مساواة وإخاء حقيقة واقعة لما وجدنا طبقة حاكمة وأخرى محكومة. وما كان يتاح لأحد أن يسعد ولآخر أن يشقى.
ونحن نحس كل هذا ونشعر أن ما نعمله مساقون إليه سوقا ومدفوعون إليه دفعا. وإنا لا نستطيع مع الأنظمة الحالية صبراً، ولكن لسنا من الشجاعة الأدبية بحيث نجهر بضرورة تغيير نظام العالم وبوجوب قلبه رأساً على عقب.
لقد أصبحت المدنية الحالية نسجاً مهلهلاً ونظاماً معطلا لا يصلح لما يجيش في نفوسنا ويجول في عقولنا. وأمست رياء وخداعا تتدثر بمسوح كهنوتي لتخفى فجورها وشراستها. فهي إن استعبدت الأمم فلكي تأخذ بيدها إلى الرقي! وهي إن لجأت إلى القوة في هذا
السبيل فذلك عمل إنساني نبيل.
نعم. لقد أصبحت النظم الحالية من سياسية واجتماعية واقتصادية نظماً عتيقة لا تشرف الإنسانية في قليل أو كثير.
ولكن. أي نظم تستبدلها بها. وعلى أي صورة تكون هذه النظم هذا ما بحثه تولستوي، وكان من نتيجة بحثه أن وصل إلى رأي قاطع
- 2 -
ولم يكن رأي تولستوي خيالاً أو أديالاً يستحيل تحقيقه، ولم يتطلب من البشر أن ينسوا بشريتهم ليصبحوا ملائكة.
وهو لا يقول لك أكثر من أن تتبع التاريخ لتتبين بنفسك مجرى الإنسانية إلى أين تسير وفي أي اتجاه تتجه.
لقد أتى على العالم حين من الدهر كان فيه أسراً وعشائر. وكانت الأسر في تطاحن وتناحر، يعتقد أفراد كل أسرة أن سعادتها في التغلب على الأسر الأخرى. ثم ظهر لهم أن لا ثمرة يجنونها من قال طويل ممل. فاندمجت الأسر في قبائل.
وبدأت القبائل دوراً آخر من أدوار التاريخ سودت صفحاته بحروب الغلبة والثأر. ثم ما لبثت أن تحققت بدورها أن سلامها في تعاونها فاتحدت القبائل. وكان من نتيجة اتحادها هذه الدويلات التي عظمت حتى سميت بعد بانجلتره وفرنسا والولايات المتحدة. . . في تتبعك لهذا الأدوار استكشاف لسر الإنسانية. فهي تتجه إلى الوحدة. وتسعى إلى الالتئام فليس من المستحيل أن تصبح الدول دولة واحدة. وبذا تنقطع من صفحات التاريخ سلسلة المجازر البشرية.
قد تقول أن هذا حلم فيلسوف وخيال شاعر. وأن ليس من الوطنية مفر. ولا من الحرب بد، وأن الشقاء والبؤس من لوازم هذا العالم. ليس في الإمكان أبدع مما كان.
ويضحك منك تولستوي. ويقول إن ما تحسبه اليوم قد حسبه أجدادك من قبل. فالأثيني ما كان يخطر بباله أن يتعاون مع أخيه الإسبرطي تحت علم واحد متناسياً أحقاده مضحياً بمصلحة مدنيته في سبيل اسم أجوف دعوه اليوم دولة اليونان
وانجلتره التي يضحي الإنجليزي من أجلها بنفسه وماله. لم يكن لها من قبل وجود. وما
كان يتصور الاسكتلندي أو الارلندي قبل بضع مئات من السنين أن يأتي وقت يتنازلان فيه عن استقلالهما الشخصي وتقاليدهما الموروثة وليصبح لهما وطن مشترك، وعنوان واحد، والرقيق كان يحسبه البعض منذ مائة سنة ضرورة من ضروريات الحياة وقانوناً طبيعياً إرادة الله وليس إلى تغييره من سبيل.
وأين الرقيق اليوم؟
وهكذا، فما تتخيله اليوم من أن اتحاد البشر أمر محال وأن إلغاء الحروب خيال بديع سيصبح بعد غد حقيقة واقعة
وشقاؤك آت من أنك تؤمن بضرورة هذا الاتحاد، ولكنك تحكم باستحالته. وسعادتك لن تتحقق إلا إذ اعتقدت بإمكانه فتعمل له
هذا اليوم الذي تختفي فيه الوطنية لتحل محلها الإنسانية. وتتنازل فيه الدول عن بعض حقوقها لتعيش في هدوء وسلام هو الضالة التي يجب أن ننشدها وهو الغاية التي يجب أن نقصدها. ثم هو النهاية التي لا شك إنا واصلون إليها.
كيف يتحقق هذا الحلم الجميل؟ ذلك ما يجيبك عنه تولستوي مرة أخرى.
(البقية في العدد القادم)
شهدي عطيه الشافعي
بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
القرن الرابع الهجري
سيطر على النصف الشرقي من العالم الإسلامي في القرن الرابع ثلاث دول كبيرة ودول أخرى صغيرة:
سيطر بنو بويه على غربي إيران وجنوبها وعلى العراق العربي فسيطروا على الخلفاء العباسيين في بغداد.
وكان ما وراء النهر وخراسان وسجستان في سلطان السامانيين ثم قامت الدولة الغزنوية في أواخر هذا القرن فورثت ملك السامانيين كله. وانتقصت ملك بني بويه وزحزحتهم تلقاء المغرب ثم أوغلت في المشرق ففتحت الهند.
وكان في طبرستان وجرجان الدولة الزيارية التي أقامها في أوائل هذا القرن مرداويج بن زيار. وكان بنو باوند في طبرستان ايضاً.
وفي سجستان امراء من نسل يعقوب بن الليث الصفار ومنهم الأمير خلف بن أحمد (344 - 399).
عاش أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذاني في عهد أربعة الملوك الأخيرين من بني سامان إحدى وثلاثين سنة. وفي عهد جماعة من ملوك بني بويه أعظمهم عضد الدولة (367 - 372) ومؤيد الدولة وفخر الدولة (366 - 387) ومجد الدولة أبو طالب رستم (387 - 420) وشمس الدولة أبو طاهر (387 - 412).
والذين كان لهم سلطان على همذان والبلاد التي أقام بها الهمذاني هم مؤيد الدولة وفخر الدولة وابناه مجد الدولة وشمس الدولة. ولمؤيد الدولة وأخيه فخر الدولة وزر أبو الفضل بن العميد والصاحب ابن عباد.
وعاش البديع في عهد شمس المعالي قابوس بن وشمكير من الزياريين وفي عهد سبكتكين وابنه محمود من الغزنوية، وخلف ابن أحمد من الصفارية وثارت حروب كثيرة بين هؤلاء
الملوك اضطربت لها البلاد وشقى بها الناس.
وكانت هذه الدول تتنازع مجد العلم والأدب كما تتنازع السلطان وكانت للأدب في النصف الثاني من القرن الرابع محافل: حول ملوك السامانية في بخارى وحول وزراء البويهيين في الري واصفهان وجرجان، وحول شمس المعالي قابوس بن وشمكير في جرجان وطبرستان وحول السلطان محمود الغزنوي في غزنة وأخيه نصر في نيسابور، والمأمونية في خوارزم.
ومما يؤثر من تنافس هذه الدول في العلماء والأدباء أن نوح ابن منصور الساماني كتب إلى الصاحب بن عباد سرا يستدعيه ليستوزره فاعتذر. وأن السلطان محمودا كتب إلى المأمون أمير خوارزم ليرسل إليه ابن سينا والبيروني وأبا سهل المسيحي الفيلسوف وأبا الحسن الخمار الطبيب، وأبا نصر العراق الرياضي، فمنهم من رضى بالمسير إلى محمود ومنهم من فر. وكان إلى جانب الملوك والوزراء رؤساء وبيوت يؤمهم الأدباء ابتغاء الحظوة عندهم
وإذا اتخذ الثعالبي والبيروني مثلاً لأدباء هذا العصر وعلمائه عرفنا توليه الأدباء وجوههم شطر هذه الدول:
الثعالبي أهدى كتابه لطائف المعارف إلى الصاحب بن عباد والمبهج والتمثيل والمحاضرة إلى شمس المعالي قابوس وسحر البلاغة وفقة اللغة إلى الأمير أبي الفضل الميكالي والنهاية في الكتابة ونثر النظم واللطائف، والظرائف إلى مأمون بن مأمون أمير خوارزم: وغرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم إلى نصر أخي السلطان محمود، والبيروني أقام في خوارزم عند المأمونية ثم سار إلى شمس المعالي وقدم إليه كتاب الآثار الباقية ثم قصد السلطان محمودا فلزمه وقدم إليه كتابه عن الهند. وقدم كتاب التفهيم في علم النجوم الذي ألفه بالعربية والفارسية إلى سيدة من خوارزم اسمها ريحانة ثم قدم القانون المسعودي في النجوم لمسعود بن محمود وكتابه في المعادن إلى السلطان مودود بن مسعود.
- 2 -
وقد نفقت سوق الآداب في القرن الرابع ونبغ كثيرون من أعلامه ولا سيما كتاب الرسائل
وحسبنا أن نذكر من الكتاب ابن العميد وابن عباد وأبا إسحاق الصابي، وأبا الخوارزمي
والعتبى وعبد العزيز الجرجإني وبنى ميكال، وشمس المعالي قابوس وأبا هلال العسكري، وابن نباتة الخطيب، والحسن بن علي التنوخي ومن الشعراء: المتنبي والمعري والحمداني والرضي ومهيار، وابن نباته السعدي، وأبو الفتح البستي، والببغا، والنامي، والناشي، والزاهي، وغير هؤلاء من شعراء اليتيمه وكتابها.
همذان
مدينة في ناصية الجبال يشرف عليها جبل أروند في سهل خصب، ويؤخذ من أخبار الكتب الفارسية والعربية أنه كان لها شأن عظيم في حقب مختلفة قبل الإسلام وفي العصر الإسلامي. .
وهي هكمتانة في الآثار الفارسية القديمة، وأهيمتا في التوراة، واكبتانا عند كتاب اليونان والرومان.
واجمع الكتاب على وصفها بشدة البرد، وأكثر الشعراء في هذا قال ياقوت: (لما قدم عبد الله بن المبارك همذان أوقدت بين يديه نار فكان إذا سخن باطن كفه أصاب ظاهرها البرد وإذا سخن ظاهرها أصاب باطنها البرد فقال:
أقول لها ونحن على صلاء
…
أما للنار عندك حر نار؟
لئن خيرت في البلدان يوما
…
فما همذان عندي بالخيار
ثم التفت إلى ابن أبي سرح وقال يا أبا عبد الله وهذا والدك يقول
النار في همذان يبرد حرها
…
والبرد في همذان داء مسقم
والفقر يكتم في بلاد غيرها
…
والفقر في همذان مالا يكتم
وقال ياقوت: (ولا شك عند كل من شاهد همذان بأنها من أحسن البلاد، وأنزهها وأطيبها وأرفهها، وما زالت محلا للملوك ومعدنا لأهل الدين والفضل، إلا أن شتاءها مفرط البرد بحيث قد أفردت فيه كتب، وذكر أمره بالشعر والخطب.)
وأما أهلها فكأنهم عرفوا بالغلظة، وبديع الزمان يعتذر في بعض رسائله عن سوء فعله بأنه همذاني المولد. وينسب إليه في ياقوت:
همذان لي بلد أقول بفضله
…
لكنه من أقبح البلدان
صبيانه في القبح مثل شيوخه
…
وشيوخه في العقل كالصبيان
وفي مناظرة رواها ياقوت بين همذاني وعراقي يقول العراقي للهمذاني: (ثم فيكم أخلاق الفرس، وجفاء العلوج، وبخل أهل أصبهان، ووقاحة أهل الري، وقذارة أهل نهاوند، وغلظ طبع أهل همذان).
ويقول ابن فارس كما في ابن خلكان:
سقى همذان الغيث لست بقائل
…
سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرم
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة
…
أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
نسيت الذي أحسنته غير أنني
…
مدين وما في جوف بيتي درهم
ومما يستأنس به هنا قوله في مدح خلف بن أحمد:
أبادية الأعراب أهلك إنني
…
ببادية الأتراك نيطت علائقي
وقوله في القصيدة نفسها:
إذا اقتضت منى خراسان لفظه
…
أماطت العرب در المخانق
وكذلك رسالته إلى أبي عامر الضبي رئيس هراة في عيد السدق وهو ليلة الوقود عند المجوس، وفيها يبين فضل العرب على العجم في أسلوب تتجلى فيه العصبية
ويظهر أن أسرته كانت ذات مكانة في همذان، فهو يقول في رسالة إلى أبي بكر الخوارزمي حين لم يحسن لقاءه بنيسابور:
(فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت إن بوادينا ناغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف.
وفيهم مقامات حسان وجوههم
…
وأندية ينتابها القول والفعل
ولو طوحت بأبي بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيبا (وأجابه الخوارزمي بقوله:) فاما القوم الذين صدر سيدي عنهم فكما وصف، حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد،
فان كنت قد فارقت نجدا وأهله
…
فما عهد نجد عندنا بذميم
وفي رسالة إلى وزير الري يقول (وورائي من أخوالي وأعمامي من مواقف خدمة مشهورة، ومقامتهم مشكورة، وبهم حاجة إلى فضل عونه)
- 3 -
في النصف الثاني من هذا القرن عاش الهمذاني، فنبين سيرته وأخلاقه ثم ننظر مكانته من أدب هذا العصر
أ - أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار المعروف ببديع الزمان الهمذاني، ولد في همذان 13 جمادي الثانية سنة 358 من أسرة عربية:
ذلكم بأنه يقول في رسالة إلى الفضل بن أحمد وزير السلطان محمود، (إني عبد الشيخ واسمي أحمد، وهمذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد،) وكأنه يريد أن يقول إنه مضري الأصل، ولكن أسرته عاشت في تغلب. وفي رسالة إلى الشيخ أبي القاسم يعتذر عن التخلف عن الحضور بالزكام، ويقول عن رجل أسمه أبو الحسن يظهر أن اسمه سقط من الرسالة:(وما أشد استظهاري بخلافته وإن لم يكن من ولد العباس والله يبقيه علما للفضل) فيقول أبو القاسم في الجواب. (والشيخ أبو الحسن فوق شروط الخلافة، فان كان المستخلف تغلبيا، جاز أن يكون الخالف كسرويا)
فالتغلبي هو الهمذاني نفسه. ودليل آخر أنه كتب إلى القاضي أبا الحسين علي بن علي: (أنا أمت إلى القاضي أطال الله بقاءه بقرابة، إن لم يكن عربياً فأبي وأبوه إسماعيل، وعمي وعمه إسرائيل، الخ)
ب - ويؤخذ من رسائله بعض أخبار أسرته: يؤخذ منها أن أبويه عاشا إلى أن كبر وترك همذان، وأن أخاه أبا سعيد كان صغيراَ حين بداء هو أسفاره. ويؤخذ من معجم الأدباء أن أخاه أبا سعيد كان مفتي همذان، ويؤخذ من رسائل أيضا أنه كان له ابن صغير أسمه أبو طالب، وأن أحد أعمامه لحق به في أسفاره، وعاش معه عشر سنين.
ويفهم من رسائل كثيرة أن أباه أرسل إليه أول الأمر مالا وأمره أن يرجع إلى همذان، ولامه على طول غيبته، وأنه هو أرسل إلى أبيه مالا من بعد وسأله أن يلحق به، وأن أباه وعده ذلك ثم لم يفعل حتى غضب البديع، وكتب إلى أخيه أبي سعيد دون أبيه. ومن رسائله إلى أبيه: (كتابي أطال الله بقاء سيدنا من بوشنج، لك أسوة بيعقوب في ولده، إذ ظعن إليه من بلده. وليس العائق سور الاعراف، ولاجبل قاف، فلم لا ينشط؟ والله لا يضيع بذلك المكان درهماً إلا عوضه دينارا، ولا يعدم هناك دارا إلا أفدته ديارا. . .
وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج وأن يرتب له عمارة
شتويه تسعه. فالشيخ الفاضل العم فليتفضلا، وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين، الخ. . .)
وفي رسالة أخرى يذكر أنه غاب عن أبيه احدى عشرة سنه ص (160)
وأما أمه فلا أجد ذكرها في الرسائل، وفي الديوان له: (وله يجيب والدته:
وعجوز كأنها قوس لام
…
خلقوها من نبعة شر خلق
كاتبتني شوقا إلى وقالت
…
أخذ الله يا بني بحقي
قلت لا أستطيع ترك بلاد
…
قد وفى الله في ثراها برزقي
وهي أبيات إن صحت فلا تشهد لبديع الزمان بالبر.
ويظهر من بعض رسائله أيضاً أنه طلب إلى صهره أن يرسل امرأته وابنه أبا طالب. على أن في الكلام غموضاً. (وقد طالت مراجعات الشيخ في حديث أبي طالب الخ ص199 إلى آخر الرسالة).
ج - نشأ أحمد بن الحسين في هذه الأسرة. وكان كما يقول الثعالبي مقبول الصورة، خفيف الروح، وكان أعجوبة في الحفظ والبديهة والارتجال، له أخبار في هذا لا تكاد تصدق، وسنعود إليها عند الكلام على أدبه، ويخبرنا الثعالبي أنه أخذ اللغة عن أحمد بن فارس، ونحن نجد في الرسائل رسالة إلى أستاذه هذا جواباً عن رسالة ذم فيها الزمان، وقد مدحه ببعض شعره. ويقول الهمذاني في رسالة إلى أبيه عن أخيه أبي سعيد:
(وبلغني انه ابتدأ بمجمل اللغة، فأين بلغ منه، والشيخ لا يحمل عليه بعويص اللغة حتى يعلم سهلها، ولا يأخذه بما أخذني به، فالعمر لا يتسع للعلوم أجمع.)
وقد درس الحديث، ويقول ياقوت في معجم الأدباء نقلا عن شيرويه بن شهردار مؤرخ همذان:(وكان أحد الفضلاء والفصحاء متعصباً لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعيد، والقاضي أبو محمد عبد الله ابن الحسين النيسابوري.) ونجد عصبيته لأصحاب الحديث في رسالة كتبها إلى أحد القضاة يقول فيها: (ماله ولأصحاب الحديث الخ الرسالة) ص105
سفره من همذان
فارق همذان سنة 380 وهو ابن اثنتين وعشرين سنة: وورد حضرة الصاحب فتزود من
ثمارها وحسن آثارها، كما يقول الثعالبي.
وفي الديوان أنه قدم إلى الصاحب وله 12 سنة، فهذا كان قبل رحيله عن همذان، ويؤيده ما رواه الثعالبي عن الهمذاني قال:(لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني اقعد، إلى كم تسجد، كأنك هدهد) وفي إحدى قصائده ما يدل على أنه ذهب إلى الصاحب أكثر من مرة.
وتعجب لاختياري ان رأتني
…
أرى بحراً وأمتاح الركايا
سأنتاب الوزير فان أتيحت
…
زيارته وساعدت القضايا
أعاود ورده والعود خير
…
وارجع أن للرجعى مزايا
ولا ندري ما كان بينه وبين الصاحب، ولكنا نراه يذكر في قصيدة ان الصاحب أوعده وهدده:
أكافي الكفاءة استبق مني ومن دمي
…
حشاشة مجد في البلاد مشرد
أفي موجب الفضل الذي أنت أهله
…
توعد مثلي أم قضية سؤدد
أبعد مقاماتي لديك وهجرتي
…
إليك وإنفاقي طريفي ومتلدي
وجوابة للافق فيك طردتها
…
غدت بين منثور وبين مُقَصَّدِ الخ
وأظنه أراد هجاء الصاحب في قوله من قصيدة يمدح بها خلف ابن أحمد:
وليل كذكراه معناه كاسمه
…
كدين ابن عباد كادبار فائق
جرجان
يقول الثعالبي: (ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكنافهم، والاقتباس من أنوارهم، واختص بأبي سعيد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه لديه، وتوفر حظه من مادته المعروفة في إسداء المعروف والافضال على الأفاضل. .
فلما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزال علله في سفرته، فوافاها سنة 382، ونحن نجد في رسائله رسالة إلى أبي سعيد الإسماعيلي يذكر أن الأعراب قطعوا عليه الطريق إلى نيسابور وسلبوه كل ما معه.
(يتبع)
عبد الوهاب عزام
من طرائف الشعر
رب زهر يشوكني وهو غرسي
للأستاذ الحوماني
مدرس الآداب في كلية طرابلس
(قطع الناظم شطراً من حياته مهاجراً بين أوربا وأميركا من الغرب ثم بين العراق ومصر وسائر الأقطار العربية من الشرق: فالقصيدة التالية تمثل حياته المشردة ماثلة بين آلامه في الحياة وحنينه إلى وطنه وهو يطوف في الغرب، معارضاً بها قصيدة أمير الشعراء التي عارض بها قصيدة البحتري في إيوان كسرى)
ربما أنضج التجارب درسي
…
لثلاثين من سني وخمس
ولقد تكشف الغطاء ليومي
…
عن مآتى غدي بصيرةُ أمسي
قد لفظت الحياة يشقى بها الحرْ
…
رُ وتتْرى منها يدا كل جِبْس
إذ بلوت الورى ثلاثين عاما
…
وخد نياي من يراع وطرس
بين جهدين من يد ولسان
…
تحت ليلين من غموض ولبس
كم أطوف البلاد شرقا وغربا
…
فوق ظهرين من سفين وعنس
أيُّ جد يُغريه بي أيُّ عِزَّ
…
تترامى إليه آية نفسي
البواديُّ في العراق أقضَّت
…
مضجعي في الشآم فوق الدمقس
غرست مضجعي قتاداً وقالت
…
لأماني هوِّني وتأسي
يصبح الزهر ناضراً وعلى ما
…
يحبس الدمع في فؤادك يمسي
قد نزلت العراق أحسب إني
…
نازل في العراق دارة قدس
ووردت الشآم تبحث عينا
…
ي بها عن طبابة المتحسِّي
فإذا القول فيهما دار ملك
…
وإذا الفعل ثم داره فلس
لا يغرنك في الشآم رجال
…
موَّهوا بالرياء وجه الفرنسي
ربما أثرت العيون من الكح
…
لِ وخلف الجفون منبت ورسي
كم أذود الكرى وأنشد عزى
…
بين ناب من الزمان وضرس
وأعاف المبيت بين نهود
…
وشفاه من الكواعب لعس
ضاق بي مهيع الفضاء فلا أص
…
بح إلا على قذًى حيث أسمي
همّتي همّتي ففيم نواحي؟
…
في طلاب العلى ونفسي نفسي
رب يوم ذممته تحت ليل
…
طالعتني من أفقه ألف شمس
احرقوني بعد الممات إذا لم
…
يُبن من دارة الكواكب رمسي
أتحدى إصلاح شعبي ولما
…
تعد كفاي لعبة المتخسي
يتمشى إليه بي من أبي الحا
…
رث قلب يحدوه جسم ابن عرس
في رؤوس مما أخفِّض شم
…
وطباع مما أذلل شُمْس
هزت الصم صرختي فلماذا
…
لم تعٍ الإذن منهم غير همس
لِمَ، لم يسمعوا وهم غير صم
…
لِمَ لم ينطقوا وهم غير خرس؟
ربما أرجفوا بقولي وقالوا
…
وهم الساخرون، عنتر عبس
وكذا الشعر لم يصب غير قوم
…
قد أصيبوا من الجنون بمس
وإذا الجد لم يهب بكم أوفي
…
ت على العز من حقائف وُعس
فاعجبوا للأريب وهو أريب
…
وارداً في حياته ورد خمس
وحياة الأديب بارق سعدٍ
…
يتحداه من طوالع نحس
أمل في الحياة أبرق فارفضَّ
…
ت عز إليه من سحابة يأس
لا ألوم الصديق أن يتناسى
…
سالفات العهود فالبعد ينسي
نكث العهد من حدبت عليه
…
رب زهر يشوكني وهو غرسي
ولقد ينكر الصحيح علاجاً
…
هام فيه والنبض تحت المجس
كم طباع تشف عن زهرها الغض
…
ض جسوم تضاءلت تحت طلس
ولكم تلمس الخشونة فيها
…
بأكف ممن تصافح مُلس
شر ما في الأنام نعمى مليك
…
هي في شعبه عصارة بؤس
وكذاك الحياة سفر شواظٍ
…
يتراءى للغر مُذهب طرس
عُرس قائم على اسِّ رزءٍ
…
ورزايا قامت على أسِّ عرس
لا تهن أن قعدت اعزل والخبّ (م)
…
من الشعب قائم فوق كرسي
رب نادٍ ملء الصدور به ذك
…
ر ابن هند ونهج حيدر منسي
كيف بالشعب ان يُبل وقد أو
…
رده الجهل آسياً غير نطس
ومن الهون في الحياة على الحر (م)
…
خضوع الكريم للمُستْخَسَ
أيها الشعب، والسلاسل ضاقت
…
بك ذرعاً، أما تحس بنهس؟
عمرك الله! لا يقيم على الضي
…
م خسيس الحياة غير الاخس
وأذل الشعوب شعب تحدَّى
…
ذروات العلى على يد نِكس
قد يشيد الجبان صرحاً ولكن
…
هيكلا قائماً على غير أس
اطرحوا الجهل ساعة وتعالوا
…
أبصروا في البحار جنة انس
بحر علم يطغى بهم فوق شم
…
من جبال الحديد في البحر ترسي
قل لمن حاول الزعامة قبلا
…
بجدا نائل وشدة بأس
أخفقت بعدكم شجاعة عمرو
…
وندى حاتم وحكمة قس
أفأستعرض الحياة (بنويرك)(م)
…
(وفي لندن) وغوطة مرسي؟
ما الذي تبلغ البراعة من عد (م)
…
السها وهي في أنامل خمس
يعجز الحصر ما أحس واضعا
…
ف خوافيه لم يقع تحت حسي
عرفوا الله كيف يعبد في القل
…
ب دماً فائراً وعزة نفس
عبدوه منزهاً لا إلى (اللورد)
…
هووا ركعاً ولا (للبرنس)
عبدوا الحق قوة تتلظى
…
في أنوف أُسد خفَّان حُمْس
عبدوه فوق الطروس يراعاً
…
وخميساً يموج تحت الدرفس
ليلة داجية!
للأستاذ خليل هنداوي
وليلة داجية، والهوى
…
كل مناه ليلة داجية
ان كنت لا تدرك سر الدجى
…
فاسأل بأسرار الدجى غإنية
طوراً نذوَّقت الهوى قبلةً
…
أبعثُها في الفسحة السارية
ويرجع الليل صدى قبلتي
…
مصحوبة بقبلة ثإنية
وتارة تشدو فتجلو المنى
…
بنغمة ساحرة شاكية
فيسمع الليل لألحانها
…
وليلتي إذانها واعية
تقول هبَّت عيون الهوى
…
قلت الهوى عيونه ساهية
إن الهوى نسيان ما ينقضي
…
كأننا في عزلة نائية
الصوفي المعذب
. . هذه الذرَّةُ كم تح
…
مل في العالم سراً
قف لديها وامتزج في
…
ذاتها عمْقا وغبورا
وانطلق في جوِّها المم
…
لوء أيمانا وبرا
وتنقَّلْ بين كبرى
…
في الذراريّ وصغرى
تر كل الكون لا يَفْ
…
تُرُ تسبيحاً وذكرى
وانتش الزهرةَ والزه
…
رةُ كم تحمل عطرا
نُدِّيت واستوثقت
…
في الأرض أعراقاً وجذرا
وتعَرَّت عن طرير
…
خَضل يفتأ نضرا
سلْ هزار الحَقْل من أَن
…
بته ورداً وزهرا
وسل الوردةَ من أو
…
دعها طيبا ونشرا
تَنظرِ الروح وتسمعْ
…
بين أعماقك أمرا
الوجودُ الحق ما أو
…
سعَ في النفس مداهْ
والسكون المحضُ ما أو
…
ثق بالروح عراه
كل ما في الكون يمشي
…
في حنَاياه الأله
هذه النملة في رق
…
تها رجعُ صداه
هو يحيا في حواش
…
يها وتحيا في ثراه
وهي إن أسلمت الرو
…
حَ تلقتها يداه
لم تَمت فيها حياةُ ال
…
له إن كنت تراه
أنا وحدي كنتُ أس
…
تجلي من العالم همسهْ
أسمع الخطرةَ في الذَّ
…
ر واستبطئ حسه
واضطراب النورفي خف
…
قته أسمع جرسه
وأرى عيد فتى الور
…
د وأستقبل عرسه
وانفعالَ الكرم في قف
…
صته أشهد غرسه
رب سبحانك إن ال
…
سكون لا يقدرُ نفسه
صغت من نارك جنِّي
…
هـ ومن نورك إنسه
رب في الإشراقة الأ
…
ولى على طينة آدم
أمم تزخر في الغي
…
ب وفي الطينة عالم
ونفوس تزحم الما
…
ء وأرواح تحَاوَم
سبح الخلق وسبح
…
تُ وآمنت وآمنْ
وتسللت من الغي
…
ب وآذنت وإذن
ومشى الدهر دراكا
…
رَبِذَ الخطو إلى من. .؟
في تجلياتك الكب
…
رى وفي مظهر ذاتك
والجلال الزاخر الفي
…
اض من بعض صفاتك
والحنانِ المشرق الوض
…
احِ من فيض حياتك
والكمال الأعظم الأع
…
لى وأسمى سُبُحاتك
قد تعبدتك زلفى
…
ذائداً عن حرماتك
فنيت نفسي وأفْ
…
رغتُ بها في صلواتك
ثم ماذا جد من
…
بعد خلوصي وصفائي
أظلمت روحيَ. . ما عد
…
تُ أرى ما أنا راء
أيهذا العِثْيَرُ القا
…
ئم في صحو سمائي
للمنايا السودِ آما
…
لي وللموت رجائي
آه يا موتَ جفوني
…
آه يا يوم قضائي
قفَ تزودْ أيها الجب
…
ارُ من زادي ومائي
واقترب إن فؤادي
…
مثقلٌ بالرجاء
يا نعيما مشرق الصف
…
حة يسّاقط دوني
نضِرتْ في قربة نف
…
سي وزايلتُ غضوني
فمشتْ غائلةُ (الش
…
ك) إلى فجر يقيني
قضت اللذة فاستر
…
جعها لمحُ ظنوني
واستردَّ النعمة الكب
…
رى من الدهر حنيني
من ترى استأثر باللذ
…
ذة واستبقى جنوني؟
إذني. . . لا ينفد اليو
…
م بها غير العويلْ
نظري. . . يقصر عن كلْ
…
لِ دقيق وجليل
غاب عن نفسي إشر
…
اقك والفجر الجميل
واستحال الماءُ فاستح
…
جر في كل مسيل
رجع اللحنُ إلى أو
…
تاره بعد قليل
واختفى بين ظلام ال
…
مزهر الكلّ القليل
أم درمان
التيجاني يوسف بشير
إلى جانب المدفأة.
. .
تَميلُ روحي على لَظَاها
…
لِتحتَسي خمرةَ الشتاء
// لِسانَها شِمُت والشفاها
…
في شُعَلةٍ وقدُها شفائي
حَبَّبْتِ لي النارَ، فهي عندي
…
غِذاءُ جسمي، وأمْنُ روحي
أوَدُّ تقبيلها لأهدي
…
لها القرابين عن جروحي
نيرَانها رقصهُا غريبُ
…
كَمُجْهدٍ هدَّه الدوارُ
ولحنُها وقْعُهُ مُريب
…
يُنْبئُ عن ضَعفه اصفرارُ
أَعدْتِ لي رونق الحياةِ
…
يا واحةَ التائهِ الشرِيدْ
وقدْتِ قلبي إلى النجاةِ
…
بدِفئك المنقذِ السعيدْ
كم أشتهي أن أضُمَّ ناركْ
…
إلى السعير الذي بصدري
ما أسعدَ القلبَ في جِواركْ
…
حتى ولو بِعتُ كلَّ عمري. .!
مختار الوكيل
العُلوم
بيت يهم بالسجود
للدكتور احمد زكي
تتداعى البيوت الكثيرة في كل زمان وفي كل مكان، فلا يسمع بها إلا الجيران، وان تضمّن سقوطها قتل الأنفس والتمثيل بالابدان، فقد يخرج خبرها عن دائرة الجيرة إلى دائرة المدينة وقلما يتعدى حدود القطر والأمة. ولكن بيتاً في مدينة (برانتفورد) بكندا همّ بالسجود أو كاد، أو خيل أنه نوى الصلاة أو أوشك أن ينويها، فاهتزت أسلاك العالم تُبرق بالنبأ إلى أدانيه وأقاصيه، وحظ البيوت كحظ الرجال، رجل يمرض فيموت فلا يجد من يلف عليه كفناً، أو يستر له في التراب شلوا، ورجل يمرض فيتأوّه خفيفاً، فتتردد آهته عاليةً في كل بوق من أبواق الإذاعة، ويتأوه معه العالمون.
على انه لا بدع أن تعطف الأسلاك البرقية على هذا البيت، وان تضطرب باضطرابه، فهو بيت أسرتها العتيق، مسقط رأسها ومهد طفولتها ، وفيه وفي المدينة التي حوله كان لعبها ولهو صباها. ذلك البيت هو بيت (جراهام بل) الذي فيه وُلد أول تلفون عرفه الناس، وفيه امتد أول سلك بأول صوت لإنسان.
شكا هذا البيتُ العتيق الأرض التي حملته نصف قرن، لا عن نكران ولا جحود، ولكنه إلفُ هذا الهواء. . . فلم يكد ينطق بالشكاة حتى أشكاه أهله، فامتدت إليه أيد حريصة تنقله حجرا حجرا برسمه ووضعُه، إلى أرض أشدّ، ومنزلٍ آمن
ولد اسكندر جراهام بل عام 1847 في أدنبره عاصمة اسكتلانده، وتعلم في جامعتها، ثم انتقل إلى جامعة لندن ودرس فيها، ثم ساءت صحته فطلب العافية، فنزح مع أبيه إلى كندا عام 1870. ثم انتقل بعد ذلك إلى (بُسنن) بالولايات المتحدة ولم يكن اختراعه التلفون اتفاقه من اتفاقات الحظ المجدود ورمية من غير رام، وإنما كان نتاج دراسة طويلة منظمة وبحث دقيق وصبر شديد. كان أبوه عالماً في السمْعيَّات، فاشترك الاثنان في دراسة الطريقة التي بها ينتج الكلام من فم الإنسان، وفي النغمات الموسيقية للأحبال الصوتية التي بحلقه، وفي مخارج الحروف والأصوات في مختلف اللغات، وفتج الابن مدرسة لتخريج معلمين يعلمون الصمَّ الكلام، وكان دَرَس الكهرباء، واتصل بالفزيائي العالم (هِلْمهولتز)
فكان من الطبيعي أن يربط بين الكهرباء والصوت، فكان أن طلب مع فزيائيّ عصره تسخيرّ الكهرباء في حمل الصوت فسبقهم سبقاً قريباً، وحمل اختراعه إلى دار التسجيل، وحمل الأستاذ (اليشاجراي) اختراعاً مثله إلى دار التسجيل ولكن (بل) سبق (جراي) ببضع ساعات، فكان له السبق، وكان له وحده من بعد ذلك تمجيد القرون
والآن مضت سنوات كثيرة على ذلك، وتبع المختْرعَ الأول مخترعون عديدون، قام كل بنصيبه في تنمية التلفون وتمديده، وأولدوا منه التلفون اللاسلكي، واستعان المولود والوالد على ربط الأرض الدوّارة، مشارقها بمغاربها، ويابسها بمائها وسهولها بأحزانها، فأعْدَما بذلك من قيود الإنسان قيدَ الزمان وقيد المكان. فأنت تستطيع الآن وأنت في بيتك أن تتصل في ساعة بنحو أربعين مليون مشترك مفرَّقين في نواحي الأرض المترامية. وقد يقال إن في هذا الكفاية، ولكن الإنسان أمّال لا يفتأ يطلب المزيد. مثال ذلك أنه تضجرَّ من عاملات التلفون ومن إعناتهن، فذهبن، وأصبح التلفون في كثير من البلاد يعمل من نفسه بدون عاملة، ولا تمضي سنوات حتى يعم هذا النظام الجديد العالم كله. وشكا طالب الترنكِ الزمن الذي يقضيه في الانتظار ليتصل بألمانيا أو امريكا، فأصغى العلم إليه، وعن قريب ستتمكن من مخاطبة تلك البلاد والاتصال بها بعد برهات قصيرة من اعتزامك ذلك وشكا رؤساء الأعمال العالمية الواسعة أنهم كثيراً ما يريدون استشارة مرءوسيهم أو وكلائهم أو شركائهم في البلاد المختلفة فيضطرون إلى مكالمة واحد ثم ثان ثم ثالث، وذلك في الأمر الواحد، ثم يجدون بعد ذلك أنهم محتاجون إلى مراجعتهم، وسألوا ألا من سبيل إلى اجتماعهم جميعاً في مؤتمر واحد على التلفون، فقال العلم نعم، وفعلا جُرّبت دعوة أمثال هذه المؤتمرات في إنجلترا، وتحدث المؤتمرون كما لو اجتمعوا في حجرة واحدة على مائدة واحدة. وساعد على هذا النجاح بالطبع أن هؤلاء القوم إذا تناقشوا تكلم منهم واحد فقط واستمع الباقون
وهناك مطالب أخرى، وتكهنات أخْرى، وآمال واسعة ترمي كلها إلى تمكين الإنسان وترفيه. فمن المحتمل القريب الآن ان يتخاطب اثنان فيمتعان السمع والبصر، أما السمع فسمع الكلام، وأما البصر فبصر محيّا من تستمع له تُلقي صورته على لوحة أمامك. على أن هذا إن أمتع أناساً فسيزعج لا شك أناساً آخرين. فليست كل الوجوه يُستحب مرآها. وغير هذا فأنت اليوم تخاطب من تشاء وأنت على أي حال تشاء من لباس أو هيئة، أما
غدا ومحدّثك يراك فلابد من استواء الهندام والهيئة المحترمة، وغدا ستضطر إذا أردت تبليغ أسفك لشيء أو حزنك على حادثة أن تتكلف الأسف والحزن لا في صوتك فحسب، بل كذلك في وجهك، وهذا لا شك يزيد في عَنَت الحياة
على ان العلم حسب حساب كل هذا، وعرف ضعف النفوس الإنسإنية كما عرف قوتها، وعرف كذلك ان تقويم المعوج وتكسير الصحيح لا يقع في اختصاصه، لذلك ستجد في الجهاز الجديد زراً صغيراً، تديره شمالا فتحتجب، وتديره يميناً فتْسفِر، فدونك ما شئت من سفور أو حجاب.
احمد زكي
4 - في البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغني علي حسين
منذ أسابيع، وجهت إحدى المجلات المصرية إلى عدد من النوابغ المصريين استفتاء في دعوى مخاطبة الأرواح أيصدقونها أم يكذبونها، فأعرب البعض منهم عن تشكك في صحة الدعوى أو نفي لها للأسباب الآتية: -
1 -
إن الدعوى لا تقوم على أساس علمي.
2 -
إن واحدا من كبار الباحثين الروحيين غرق في حادث الباخرة (تيتانيك)، فلم لم تنبئه الأرواح بالحتف الكامن له في عرض المحيط؟
3 -
لم نسمع بان ساسة الدول وقادة الجيوش قد استخدموا الأرواح في استطلاع ما يضمره خصومهم السياسيون والحربيون
4 -
لم نسمع بأن رجال الأمن قد استغلوا مخاطبة الأرواح في كشف خفايا الجرائم وتعقب المجرمين.
هذا مجمل الاعتراضات. ولكن مع احترامي لقائليها، لست أراها تذهب بعيداً في نفي دعوى المخاطبة. أما القول بأن الدعوى لا تقوم على أساس علمي فقول غامض. وما هو يا ترى المقصود بالأساس العلمي؟ إذا كان المراد أن المخاطبة لم تأت كنتيجة منطقية أو رياضية لإحدى النظريات القائمة في العلوم الطبيعية فالاعتراض صحيح، إذ المفروض أن المخاطبة مشاهدة تجريبية مستقلة لا تقوم على نظرية علمية سابقة. ولكن من قال بأن النظريات العلمية السابقة يجب أن تكون أساس كل حقيقة علمية جديدة؟ إن أساس الأسس العلمية هو المشاهدة والتجربة لا النظريات العلمية السابقة.
في ساعة من ساعات التجلي السماوي، جلس (جيمس واط) يرقب إبريق الشاي وهو على النار يغلي ويئز، ورأى البخار يدفع الغطاء من آن لآن فيفتح فرجة يهرب منها، فتملكت (واط) فكرة استغلال قوة البخار المحبوس، ومال على هذا المبحث بكل ما أوتي من ذكاء، وجد في تهذيب ما سبق في هذا الميدان من محاولات ساذجة، فوضع أساس صرح ضخم من البحوث والمخترعات، وحمل البخار الناس في البر والبحر وطار بهم في جو السماء؛ فهل كان اكتشاف قوة البخار بادئ ذي بدى نتيجة لنظرية علمية سابقة؟ كلا. لقد كان
مشاهدة تجريبية مستقلة.
وفي ساعة من ساعات التجلي السماوي، تنبه وليم جلبرت من أهالي كلشستر بإنجلترا، إلى أن الكهرباء (الكهرمان) المدلوكة بالصوف تجتذب خفاف القش، وقصاصات الورق، وكان جلبرت ذكي الفؤاد بحاثة، فجرب وجرب، ووضع أساس كل ما نعرف اليوم عن الكهرباء، وما ننعم به من مخترعاتها وبدائعها ومعجزاتها، فكشف الكهرباء أيضاً لم يكن قائما على نظرية علمية سابقة، بل كان مشاهدة تجريبية مستقلة.
القول إذن بأن مخاطبة الأرواح لا تقوم على أساس علمي هو على الأقل قول غامض. أما بقية الاعتراضات فليس لها من الخطر ما لهذا الاعتراض الأول. وهي تفاصيل لا أرى التعجل بالخوض فيها، ولعلها تتعلق بالأرواح ذاتها، وما تستطيع وتحب أن تفعله وما لا تستطيعه أو لا ترى في فعله خيرا. وإذا انجلت هذه البحوث عن إثبات علمي لوجود العالم الروحي، وعن تقوية للأيمان بأوتاد من العلم اليقيني، فكفى بذلك نفعا، بل ذلك هو النفع كله، وهو اللباب الدسم، أما ما زاد عليه فألياف تافهة.
هذا الاعتراضات إذن قد أدلى بها على عجل. ولكن كما أنها لا تذهب بعيداً في نفي دعوى المخاطبة فكذلك ردودي هذه لا وزن لها كإثبات لصحة الدعوى. إذ الحقائق العلمية لا تقوم على الجدل الكلامي، وإنما الوسيلة إليها هي البحث التجريبي.
فهل ثمة بحث تجريبي جدير بالاعتبار يجري في هذا الموضوع؟ في العواصم بأوربا وأمريكا مجامع لهذا الغرض، أعضاؤها من المثقفين المفكرين، بينهم المحامي والطبيب والمربي والموظف والصحافي والأديب، وعدد صغير من أساتذة الجامعات وأفراد من العلماء الأفذاذ. تستحوذ هذه المجامع على وسطاء
يزعمون فيهم الإخلاص وطهارة الطوية، ويدونون تجاربهم في سجلات، وينشئون لإذاعتها المجلات. وقد يختلفون في تفسير الظواهر، ولكنهم مجمعون بادئ ذي بدء على صحتها، وانتفاء الدجل منها، وأنها مفتاح ما استغلق من خصائص العقل البشري ومدى علاقته بمحيط المادة
ولكن جمهور المفكرين لن يطمئنوا تماماً إلى حكم هيئات كهذه في موضوع خطير كهذا. قد يسلم الجمهور بأن في الأمر ما يستحق البحث، ولكن البحث الذي يرضيه يجب أن يكون
بين جدران الجامعات. الجمهور يعتبر هؤلاء الباحثين ثائرين على العلم الرسمي، ينشئون داخل مملكته دولة يحكمون فيها باسمه، مع أنه - بحق أو بغير حق - لا يعترف بدولتهم ولا بأساليب حكمهم. ولكن لما كان رجال من وزراء البلاط العلمي قد انضموا إلى الثوار فقد جل الخطب عن السكوت؛ وها نحن أولاء نتساءل إلى متى تتحمل الهيئات العلمية الرسمية تبعة شذوذ الموقف؟ ولماذا لا تجلب على الموضوع بالخيل والرجل، فأما أن تهلكه وإما أنت تضمه تحت جناحها؟
العلم لا يعترف إلى اليوم إلا بشيئين - المادة وما يحرك المادة من قوى آلية. ولكن الروحيين ينادون بأن في الكون أيضاً قوى خفية ذات عقل وإرادة تؤثر في المادة في بعض الظروف. هل لهذه الدعوى من الحق نصيب؟ سؤال ملح موجه إلى الهيئات العلمية الرسمية.
ويخيل إلينا أن العلم الرسمي قد بدأ يصغي إلى السؤال. فقد تألف بلندن في الأيام الأخيرة مجمع جديد للبحث الروحي، أعضاؤه من صميم رجال العلم، يرأسه البروفسور جرافتون أليوت سميث عضو المجمع العلمي البريطاني والعالم العالمي في الأنثروبولوجيا (علم أصل الإنسان) وأستاذ التشريح بجامعة لندن. . أعلن هذا الرئيس تأليف المجمع بخطاب أرسله لمحرر مجلة اللانسيت (مجلة للعلوم الطبية) ونشر في عدد 13 يناير من تلك المجلة، وفيما يلي ترجمته: -
سيدي:
صحت كلمة عدد من رجال العلم على تأليف مجمع للبحث في الظواهر المسماة عادة بالروحية أو غير العادية، وذلك بالوسائل العلمية التجريبية المتبعة في علوم الطبيعة والفزيولوجيا. يحدث كثيراً أن يدعى رجال العلم لإبداء رأيهم في تلك الظواهر فيعجزون عن الإتيان بحجج مستقيمة تبرر موقفهم السلبي، والأولى بهم لكي يكون موقفهم أكثر التئاما مع الروح العلمية أن يتقدموا لبحث تلك الدعاوى بالوسائل العلمية المعروفة بدلا من أن يقتصروا على نفي وجودها، والمجمع الجديد ينوي القيام بهذه المهمة تلبية لنداء مجلة (نايتشر) في مقالها الرئيسي بعدد 23 ديسمبر سنة 1933 قال مستر جيرالد هيرد عضو اللجنة الاستشارية لمجمعنا في كلمة إذاعها باللاسلكي يوم 5 يناير، إن الوقت قد حان ليتنبه
العلم الرسمي إلى وجود ظواهر تشذ عن القوانين المعروفة في العلوم الطبيعية، ولا تلتئم مع أي نظام مادي، ولا يصح إغفالها بعد اليوم، منذ أربعين عاما كان رجال الطب ينكرون الدعاوى الغريبة التي جاء بها التنويم المغنطيسي، ولكن التجربة والاختبار أثبتا صحة تلك الدعاوى وأهميتها، وها هو العلم اليوم في موقف مشابه لموقفه ذاك منذ أربعين عاما. عندما كنت طالب طب بالسنة النهائية، كان زملائي من الطلبة يسخرون مني لمجرد قراءتي كتابا في التنويم المغنطيسي، ولكني نجحت في إقناعهم بصحة التنويم بأن نومت كبير الساخرين مني. قد أورد مستر هيرد في خطابه المذاع باللاسلكي طرفا من تلك الظواهر النادرة الغامضة التي يزعمون حدوثها. ظواهر فيها المجال واسع لكل باحث كفء في علوم الطبيعة والفزيولوجيا والسيكولوجيا. إن لدى العلم اليوم لأجهزة ووسائل للبحث غاية في الدقة لم تكن موجودة منذ ثلاثين سنة، مثل تصوير الأشعة فوق البنفسجية ودون الحمراء، ومثل أشعة إكس والحاكي ومضخم الأصوات وأشرطة السينما وغيرها مما لم يكن يعرفه الذين بدأوا البحوث الروحية أمثال كروكس وريشيه ولدج. لن نبدأ البحث متأثرين باعتقاد في الأرواح ولا بأي اعتقاد آخر. وسنسير على النمط الجامعي كما هو الحال في معامل البروفسور وليم مكدوجال بأمريكا وفي جامعات أخرى بأوربا. وسنعامل بكل اعتبار أولئك الذين يسمون بالوسطاء. وسيضطرب هذا المجمع في مستهل حياته حتى يكون مستقلا في ماليته، ولكن رجال العلم ليسوا دائماً ذوي مال، ومعلوم أن بين الأثرياء اليوم من يهمهم جدا تشجيع هذه البحوث، فلعلهم يجودون بسخاء لإقامة المجمع على دعائم مالية ثابتة. ونزولا على إرادة البروفسور مزيزرهاريس، الذي أكد لي أنه يعبر عن رغبة باقي زملائه من أعضاء المجمع قد قبلت أعباء الرياسة، ولكن ليس معنى هذا القبول أنني أعرف الكثير في هذا الموضوع، بل معناه إني أتعهد بان أجعل البحث جديا وبعيدا عن كل تحيز.
هذا خطاب رئيس المجمع الجديد، وقد أدلى إلى الصحف اليومية الإنجليزية بأحاديث لا تخرج في معناها عما بهذا الخطاب
عبد المغني علي حسين
خريج جامعة برمنجهام
القصص
دار الإصلاح
للدكتور محمد عوض محمد
كنا نتذاكر حديث الحسن الموهوب والمجلوب. فقلت لصاحبي: رحم الله ذلك الشاعر العربي القديم، الذي كان ينادي بأنه ليس ممن يخدعه مظهر الجمال، ولا يستهويه طلاء مصطنع، أو رواء متكلف، ولا يفتنه حسن مجلوب بتطرية. أو جمال مشتري من دكان العطار. وكأني أراه إذ يجلس على دكة أمام داره يتأمل الوجوه الحسان إذ تروح وتغدو، فإذا رأى وجهاً عليه من التجمل أكثر مما به من الجمال، أقبل على جلسائه ضاحاً، وأنشدهم من شعره أبياتاً ساخرة، يختمها بالسؤال المشهور:
(وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟)
وكان يلقي السؤال فلا يسمع من جلسائه سوى الاستنكار. . . ذلك أن الناس في ذلك الزمان قد حكموا على العطار المسكين حكماً قاطعاً، بأنه عاجز كل العجز أن يصلح ما أفسده الزمان. . . . وأكبر ظني أن العطار نفسه - وان أنكر هذا الحكم جهاراً - قد آمن به سراً.
فقال صاحبي: غير أن هذا الحكم الصارم ما هو إلا كسائر الأحكام، عرضة لأن يتغير ويتبدل، حين يتغير الزمان والمكان، ولم يبق لدي اليوم شك في أننا بتنا في زمن قد علت فيه دولة العطار، وتألق نجم عزه، وأصبح قادراً على أن يثبت أن في وسعه إصلاح ما أفسده الزمان.
فأنصت إليّ كي أحدثك عن (دار الإصلاح). فان حديثها طريف معجب. . قصدت في الصيف الماضي إلى بلاد الإنكليز، وقضيت شطراً من الزمن في عاصمتهم، وأنت تعلم أن من عادتي أن أقضي الصيف في مدينة النور، غير إني اضطررت هذا العام أن أستبدل بها مدينة الظلام. ولا احسبني آسفاً على زمني الذي قضيته هناك.
أما الدار التي أدعوها (دار الإصلاح) فقد كان من أمرها إني ذهبت ليلة ألتمس ملهىأقضي فيه المساء. فجعلت أطوف بشوارع لندن ذات الطول والعرض، متنقلا بين اكسفورد ستريت إلى شافتسبري أفنيو، إلى بيكاديلي، إلى لستر سكوير. . متأملا المسارح ظاهراً،
ومستفسراً عما اشتملت عليه باطنا، حتى وقعت عيني على مسرح (الحمراء)، فأعجبني منه ذلك الظهر الشرقي المتقن، كما أعجبني ما بداخله من نقوش عربيه بديعه، فيها ما يكفي لتبرير ذلك الاسم الأندلسي. وكانت به عندئذ جماعه من الراقصين الروس وهم حديث الأندية في لندن في ذلك الوقت. فلم يطل ترددي وبادرت بشراء تذكره
ونعمت ليلتي تلك بمشاهدة رقص عجيب، والأنصاب إلى نغمات موسيقية شائقة. فلقد نبغت تلك الجماعة في محاكاة الموسيقى الدقيقة العويصة بحركات جسديه ناطقة. وفي ترجمة النغمات المطربة المشجية إلى وثبات وخطوات واهتزازات، تكاد تفوقها شجواً وطرباً وإبداعاً. ولست أنسى حتى الساعة كيف مثلوا لأعيننا (الحظ) بحركات الراقصين والراقصات على عزف الآلات، فكنت كأنما أرى بعيني - مجسما أمامي - كيف يقبل الحظ، فإذا السعادة قد ملأت الكون، وإذا الوجوه تطفح بالبشر، وإذا السرور باسط جناحيه، ثم نراه بعد ذلك مدبرا، فإذا السرور قد استحال حزنا، وإذا العالم قد امتلاء هموما وشجنا. . . ولا حاجة بي إلى الإفاضة في ذكر ذلك الرقص، الذي لم يكن له صله بدار الإصلاح، لولا أنني في فترات الاستراحة كنت أنظر في كراسة اشتريتها قد اشتملت على برنامج الحفلة، وعلى كثير من الإعلانات. وكانت الفترات طويلة فأعدت قراءة هذه الكراسة مرارا. ولم يفتني مما بها شيء. وقد لفت نظري إعلان بها عن (دار الإصلاح): فرأيته يزعم أنها دار معجزات، تدخلها العجوز الشوهاء، فتخرج منها غانية حسناء. .
وكأن ليس بالعالم دمامة مهما قبحت، ولا سحنة مهما انقلبت، إلا وفي وسع أصحاب هذه الدار أنيحيلوها إلى حسن باهر وجمال بارع، ويزعمون أن ليس الإصلاح لديهم من سبيل الترقيع الذي يزيد القبيح قبحاً،
والدميم دمامة. بل هو إصلاح شامل كامل، يلف المرء من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. . . قرأت هذا كله فابتسمت ابتسامه الساخر. وعند مغادرتي المسرح هممت بأن ألقي بهذه الكراسة بعيدا، ولكني لم افعل، بل طويتها باعتناء ووضعتها في جيبي. وكأنما كنت حريصا ألا يضيع مني عنوان تلك الدار. . فمن يدري لعلي يوما أن تثور نفسي على هذه الصورة التي صحبتني كل هذه السنين فأريد ان أستبدل بها صوره أحسن منها. .
ومضت على تلك الليلة أيام قلائل. وإني لجالس في صباح يوم أطالع (التيمس) في شيء
من الكسل، إذا بصاحبة الدار تعلن ألي أن صديقاً يريد أن يراني. وكانت دهشتي غير قليلة حين رأيتني أصافح صديقي عيسى الذي تركته في القاهرة، وكنت احسب أن بيني وبينه أقطاراً وبحاراً. . . (عجبا ما الذي أتى بك؟) فحدثني أنه قضى أياماً في البحث عني، حتى اهتدى بعد لأي إلى مكاني. . . ولقد غادر مصر فجأة حين نصحه أصدقاؤه أن يلتمس علاجا في هذه البلاد لتلك الحال القاسية التي لم يعد يطيقها. . ذلك ان المسكين قد زاد وزنه، واكتسى اللحم والشحم طبقات بعضها فوق بعض.
فقلت له حييت أيها الصديق، وأيا كانت الدوافع التي جاءت بك إلى هذه الديار، فإنها من غير شك دوافع قوية حتى تستطيع ان تحرك هذا الجسد العظيم - فمرحبا بك على كل حال. . . ولست أدري يا عيسى هل يتاح لك أن تظفر ببغيتك في هذه البلاد. إننا قد سمعنا من قبل عن معجزات الأنبياء رضوان الله عليهم الذين استطاعوا أن يبرئوا الأكمه والأبرص، وأن يحيوا الموتى بإذن الله.
ولكن لم نسمع بعد بالأنبياء الذين يستطيعون أن يجعلوا منك شابا رشيق القوام.
قال أحسبك قد نسيت أننا في زمن العلم والاختراع، وفي عصر الكهرباء والبخار. ولو انك تذكر هذا لما استكثرت على العلم الحديث هذه العملية اليسيرة التي تدعوها معجزة.
قلت حقا إن في عصرنا لمعجزات كبرى. فلقد استطاع البخار أن يحملك من غير عناء كبير، حتى أبلغك هذه الديار. ولكن قل لي بأبيك، أليس من نكد الدنيا على الحر إن مثلك لا يدفع ثمنا لنقله من مصر إلى لندن اكثر مما يدفعه مخلوق ضئيل هزيل مثلي، ولو كان في العالم إنصاف لاقتضوك الثمن أضعاف مضاعفة. فان عشرة من أمثالك على ظهر باخرة، لخليقون أن يحولوها عن مجراها فتشرق بدلا من أن تغرب، وتميل إلى أفريقية بدلا من أن تتجه نحو لندن فقال انك ما زلت في ضلالك القديم، ولم تلطف حلاوة هذه البلاد عن طبعك الحامض. . فاعلم إذن أن الأمر عكس الذي توهمت. فان أصحاب البواخر يغتبطون لوجود الركاب ذوى الوزن الثقيل، لأن هذا مما يجعل السفينة تمشي في رزانة واتزان. ولو لم يتح لهم أمثالى، لاضطروا أن يستعيضوا عنا بعدد عظيم من أكداس الرمل يجعلونها في قاع السفينة. . . والآن هلم بنا ننطلق إلى إحدى تلك الدور التي يدعونها معاهد الجمال. فقد سمعت أن في هذه المدينة منها عدداً ليس بالقليل. وأفهمت انهم يستطيعون أن يحيلوا المرء
إلى أية صورة شاء.
عند ذلك ذكرت الليلة التي قضيتها في (الحمراء). وتناولت تلك الكراسة. وقلت لصاحبي - وأنا أحاوره - لست أدرى أيليق بنا أن نسمي تلك الدور معاهد الجمال. أو ليس الأقرب إلى الصواب أن ندعوها معاهد الدمامة؛ إذ لا يؤمها من الناس إلا من كان مثلك يحاول إصلاح ما أفسده الدهر. . وأنيلهذا السبب قد سميتها دور الإصلاح، وقد ألقت المصادفات في يدي إعلاناً عن واحدة من تلك الدور. ولست أضن عليك بأن أصحبك إليها. . .
وقفت بنا السيارة أمام دار في حي (سوهو) لا ينم ظاهرها المتواضع عن باطنها الفخم. وكان استخراج عيسى من بطن السيارة ليس بالأمر اليسير. ولقد نفحت السائق نفحه حاتمية جعلته يغص الطرف عما عانته سيارته من جهد ومن عناء. وقد علمتني التجارب أن الدراهم خير لجام للأفواه في لندن كما في سائر البلدان.
ودخلت إلى دهليز الدار أجر معي هذا الكتيب العظيم من اللحم والشحم. فأسلمنا الدهليز إلى فناء في جوانبه أرائك وكراسي، وقد طلب إلينا أن نجلس قليلا ريثما يؤذن لنا. فاخترت لعيسى من الكراسي أصلبها عوداً وأشدها مراسا. وجلسنا نتأمل فيما حولنا فرأينا فناء مفروشا بشيء كثير من الذوق وحسن اختيار للألوان، وكان يغلب فيه اللون الأزرق والأحمر، وعلى الأرض وفوق الجدران بسط وطنافس شرقية. وفي أحد الأركان موقد لم يكن به نار، بل كان مستوراً بغطاء مزخرف، وفي هذا الفناء خمسة أبواب يفضي كل منها إلى حجرات عديدة، وفي ناحية منه سلم ينتهي إلى الطوابق العليا
فقلت لصاحبي محاورا: إن اليوم لشديد الحرارة، وأراك أخذت تتصبب عرقاً. فعسى هذا الحر أن يذيب قليلاً من هذا الشحم لكي تقل نفقات (الإصلاح). . على إني لو كنت مكانك لادخرت هذا العرق إلى حين تلقي المدير الأعظم لهذه الدار. فانه سيفاجئك بامتحان عسير، لم يكن ليخطر لك ببال. علمت أنهم سيطلبون إليك أن تجلس على كرسي واطئ، وأن تضع رجلك اليسرى على اليمنى، وتلفها حولها لفا محكما، وأن تميل برأسك إلى الأمام حتى تمس به ركبتيك؟ ثم تستلقي على ظهرك من غير حراك، ويؤتي بدبابة متينة فيمرون بها على بطنك ذهاباً وإياباً. أجل، هذا وأمثاله من الأمور التي ليس لك عنها مفر. فاستبق عرقك إذن، فانك في حاجة إليه. ولا تظن أن في قولي هذا غلوا. فان الإصلاح ليس
بالشيء الهين. . . سل المصلحين قديما وحديثا ينبؤك أن إصلاح بني الإنسان من أشق الأمور. . وناهيك بالجوع الشديد الذي لابد لك أن تشقى به بضعة أشهر، تحرم فيها الطعام والشراب إلا قليلا. فلا يكون لك مندوحة عن أن تأكل من لحمك ودمك كما يفعل العشاق.
وعلى ذكر العشاق، لقد هممت أن أقترح عليك العشق علاجا شافياً مما ألم بك، فلقد يزعمون أن الهوى باعث على النحول والانضمار. - خصوصاً إذا بلغ المرء فيه مرتبة الشغف والهيام والوله - ولقد هممت أن أسألك أن تعشق لكي تكتسب النحول والرشاقة. ولكني راجعت نفسي وذكرت أن الحب لن يصيب أمثالك، فانه سيلقى من دون قلبك هذا السور المنيع من الدهن والدسم، الذي لا تنفذ منه سهام الحب، ولا تخترقه قنابل الغرام. . . وأي حب يحترم نفسه يرضى أن يسكن مثل هذا المنزل؟ إذن لم يبق بد من تلك الطريق الوعرة التي تساق إليها الساعة.
هذا وقد جعلت أتأمل فيما حولنا من الناس، فإذا هم مجموعة من الكائنات ما كنت أحسب أن في العالم حجرة تستطيع أن تضمهم جميعاً. قد كان عن يميني زنجي مفلفل الشعر أسود البشرة. وعن يساري رجل من المغول أفطس الأنف، أصفر الجلد مائل العينين؛ وكان هناك نساء ورجال. ليس فيهم من لم يرزق من شذوذ الخلق طرافة نادرة وتحفة عجيبة. وقد جاءوا جميعاً ينشدون (الإصلاح).
ولم يطل جلوسنا، حتى ذهبوا بنا إلى إحدى الحجرات، فإذا نحن أمام امرأة نصف، مليئة القوام، مستديرة الوجه، ضاحكة السن، قد قصت شعرها الأسود الحالك قصا محكما. بحيث أصبح رأسها المستدير أشد استدارة. ولم تكد ترانا حتى هشت لنا وبشت. وقالت: أما صاحبك فلست بحاجة لأن أسألك ما خطبه. . . وأما أنت فما أكاد أتبين ما تشكوه. . . لعلك تشكو اعوجاجاً قليلاً في الأنف. فان به ميلا يسيرا عن (السمترية). . . وعلاج هذا أمر هين. فان لدينا عدداً من الجراحين ذوي أيد صناع، لا هم لهم في الحياة غير تقويم ما اعوج من الأنوف. وتخفيض ما نتأ منها وما برز، ورفع الأفطس منها وإعلاء شأنه بين الملأ، ولقد يصادفون، في هذا السبيل عقبات لكنهم يتغلبون عليها، برغم أنفها. . .!
وأعجب شيء لدينا رجل من الصين ذو أنف شديد الفطس حتى لا تكاد تراه، وكأنما الناس قد اتخذوا وجهه مقعداً أو متكأ، وكنا أول الأمر عاجزين عن معالجته بما لدينا من الآلات،
لكنا الآن قد اتخذنا له آلات خاصة، ولا شك عندنا في النجاح العاجل فيخرج هذا الصيني من معهدنا بأنف معتدل جميل، يستطيع أن يشق به لنفسه طريقا في الحياة. . أما أنت فخطبك يسير جداً. . . حدق في وجهي!. . إن ميل أنفك عن السمترية لا يتجاوز الخمس درجات. . .
هكذا أخذت تحدثناً هذه المرأة. ولكني كنت راضياً عن أنفي، ولم يكن لي في إصلاحه مأرب. . فسألتها أن تعني بصاحبي، وتبذل له كل ما في دارها العظيمة من وسائل الإصلاح؛ حتى يعود رشيقاً نحيل القوام. فنادت خادماً وسألتها أن تذهب بصديقي إلى المكتب الثاني عشر. فانطلقا وبقيت مكاني، لا أدري ما أفعل. . فقالت اجلس فان صديقك سيعود بعد لحظة.
فأستطيع متى وصلني التقرير عنه أن أخبركما عن مدة العلاج والأجر الذي نتقاضاه. إن معهدنا هذا قد اشتهر أمره حتى بات كعبة القاصدين من أطراف العالم. أما أنتما فلا أشك في أنكما من أهل مصر. فقد أصبحت لكثرة ما رأيت من الوجوه لا يكاد يخفى على أمر أحد. إن علم الجمال العملي قد ارتقى، حتى أصبح لدينا علاج ناجع لكل شائبة تشوب الجسم وتنقص من حسنه. ولدينا أقسام تعني بالقوام، وأخرى بالشعر وبالوجه وبسائر الجوارح والأعضاء. ولدينا قسم جليل الشان همه أن يكسب الكهول من رجال ونساء رونق الصبي ومظهر الشباب، وكم من غانيات قد خرجن من هذا المعهد، وقد لبسن فيه حلل الجمال والدلال. . .
عند ذلك قاطعتها وقلت لها متحمساً: بالله لا تذكري الغانيات، فإنما الغانية هي من تستغني بطبع جمالها عن التطبع، وبحسنها الموهوب عن المجلوب. . .
قالت: ذلك المذهب القديم أيها الصديق. أما غانية اليوم فهي التي تستطيع إنفاق قدر زهيد من المال في هذا المعهد النافع، فتصيح من الغواني الحسان.
قلت: هذا لعمري مذهب أخرق، وخداع تخدعون به الناس.
قالت: لعلكم متى رخص الجمال، وأصبح في متناول النساء جميعاً، أن تتوبوا - معشر الرجال - إلى رشدكم، فلا تعبدوا جمال الجسد تلك العبادة المزرية. ولعلكم أن تفكروا قليلاً في جمال الروح. . .
وأظنني قد أفحمني هذا الرد. فقد سكت لحظة لا أحير جواباً، ورجع عيسى وبيده ورقة، تناولتها وقرأتها، وقالت: ان (إصلاح) صديقك سيتم في مدى شهرين، وسيكلفه هذا الإصلاح خمسين جنيهاً.
قال صاحبي: ولقد رجعت منذ أسابيع، ومعي عيسى وقد غدا فتى رشيقاً نشيطاً، وسيماً قسيماً. . . ألست ترى الآن أن دولة العطار قد ارتقت، وأنه قد استطاع أخيراً أن يصلح ما أفسده الدهر؟
قلت: بلى، ولكن ألست ترى أنك قد بالغت في تنميق قصتك وتزويقها؟
قال: وهل تحسبني من أولئك الطعام الذين يقصون عليك الحديث كما جرى؟
قلت: معاذ الله أن تكون منهم. على إني سأذكر دائماً ما قالته لك تلك المرأة فانه سيجيء يوم لا يأبه الناس فيه لجمال الجسد ويلتمسون فيه جمال الروح، وعندئذ قد يكون لمثلك ومثلي في الحياة شأن غير هذا الشأن.
شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف
1 -
في الطريق إلى الغردقة
بعد أن اجتزنا أبا زنيمة في طريقنا إلى دير سانت كاترين في سيناء شتاء سنة 1931 وصلنا إلى ربوة تشرف على البحر، وكانت الشمس عندئذ تؤذن بالمغيب آخذه في الاحتجاب وراء جبال صحراء العرب على الشاطئ الآخر لخليج السويس، فبدت هذه الجبال وقتها والشمس وراءها واضحة جلية برؤوسها العالية مرصوصة في خط طويل مواز للبحر، وكان جبل الشايب بهامته الشامخة في الوسط أبرزها ارتفاعاً أعظمها جلالا وفخامة - كان المنظر بديعاً أثار في نفسي رغبة شديدة لزيارة هذه المنطقة، إلا أن تنفيذ هذه الرغبة لم يكن حينئذ بالأمر السهل، فالشقة بعيدة، والانتقال إليها فيه صعوبة ونفقة كبيرة، فمكثت انتظر الفرصة إلى أن سنحت صيف هذا العام بعد ذلك بسنتين، فقد تفضل صديقي العالم النابه الدكتور محمد عبد الخالق بك، فدعاني لمرافقته في رحلة علمية إلى الغردقة على البحر الأحمر، حيث مكننا شهرا كاملاً كانت كل أيامه بركة على العلم وعلينا. فالأبحاث العلمية الطريفة والتجارب الدقيقة التي قام بها الدكتور عبد الخالق بك على أسماك البحر الأحمر وحيواناته ملأت نتائجها مجلداً ضخماً كما ضاق عن نماذج الأسماك والطفيليات التي جمعها ما كان معنا من صناديق وحقائب. ثم كانت رحلاتنا العديد إلى البحر والبر، فمن مناطق المرجان العجيبة إلى المنشآت العظيمة لشركة البترول بالغردقة، وشركة الفوسفات بسفاجة، ثم إلى الكتلة الجرانيتية الهائلة لجبل الشايب ثم اختراق السلسلة الجبلية الوعرة إلى قنا على النيل.
كل هذا وغيره سأحاول أن أصفه في ايجاز، راجيا أن أوفق في رسم صورة تقريبية لمعالم هذه المنطقة المنعزلة التي لا نعرف عنها الكثير ولا القليل
كان فجر يوم الخميس 6 يوليه سنة 1933 موعدا للقيام بالرحلة، فأقلتنا السيارة من القاهرة إلى السويس عن طريق الصحراء، فبلغناها ضحى، ثم توجهنا إلى ميناء الزيت إحدى
نواحي ميناء السويس حيث كانت باخرة الزيت أرتيناشل راسية فنقلنا إليها ما أحضرناه من متاع وأجهزة، وقبل الظهر بنصف ساعة وصل الربان وأعطى إشارة القيام، فسارت بنا الباخرة نحو الجنوب وسط جو هادئ وبحر ساكن، وبعد قليل دعينا لتناول الطعام مع الكابتن بيس ربان السفينة فتلقانا في حجرة المائدة مرحباً وتبسط معنا في الحديث وأفاض بكلام رقيق تتخلله النكتة الرائقة والفكاهة الحلوة، وبعد أكلة شهية اجتمعنا على السطح، وأخذنا نشاهد معالم الشاطئ من خلجان وجزر ومنارات وجبال، وفي الأصيل تناولنا الشاي، وعند الغروب تعشينا ثم قضينا سهرة لطيفة في لعب ومسامرة.
كان الوقت صيفاً، فنمنا على السطح، واستيقظنا في اليوم التالي مع بزوغ الشمس، وكانت السفينة تسير عندئذ أمام رأس محمد، الطرف الجنوبي لسيناء، ثم أخذ البحر أمامنا في الانفراج
وبعد قليل اختفى الشاطئ الشرقي عن الإبصار، ثم مال بنا الطريق نحو الجنوب الغربي، ودخلنا مضيقاً واسعاً في الغرب من جزيرة شدوان، وعند الساعة العاشرة صباحاً لاحت في الأفق معالم الغردقة، نقط بيضاء وخطوط سوداء، عبارة عن خزانات الزيت وأبراج الآبار - وقبيل الظهر مرت الباخرة أمام الطرف الشمالي لجزيرة الجفاتين، ثم دخلت الميناء بسلام ورست حذاء رصيف خشبي يحمل أنابيب كبيرة تتصل بالشاطئ، وذلك للشحن والتفريغ: شحن الباخرة بالزيت، وتفريغ الماء العذب منها
يشرف على الميناء أما الرصيف منزل إنيق، يقيم فيه مدير الشركة، وخلفه على ربوة عالية خزان ضخم (فنطاس) يسيل الزيت الخام منه إلى أحواض الباخرة عند الشحن - وعلى مسافة قليلة من الميناء مكاتب مصلحة الحدود يرفرف على ساريتها العلم المصري الكريم
نزلنا إلى البر وركبنا السيارات، فانطلقت بنا إلى محطة الأحياء المائية على عشرة كيلو مترات جهة الشمال، والطريق إليها مرصوف ينحني في أوله ليدور حول تل عال مشرف على البحر، ثم يستقيم ويخترق منشآت شركة الزيت: فأبراج عالية هنا وهناك على اليمين وأخرى على اليسار، ومساكن العمال والمسجد والكنيسة، ومكتب البريد، ومكاتب الشركة ومصانعها ثم (فيللات) الموظفين والنادي كلها منثورة في فضاء واسع تتخللها الشوارع
المنتظمة، والحدائق النضرة بهندسة جميلة تجعلها شبيهة بمباني مصر الجديدة
وصلنا المحطة بعد نصف ساعة، ونزلنا ضيوفاً على الدكتور كرسلاند مديرها فتفضل ودعانا للطعام، ثم بعد ذلك انتقلنا إلى الاستراحة التي أعدت لإقامتنا
2 -
في محطة الأحياء المائية
محطة الأحياء المائية شيدتها الجامعة المصرية على البحر الأحمر منذ ثلاث سنوات لتمكين علماء البيولوجيا من اجراء أبحاثهم المتعلقة بالأحياء البحرية في نفس المواطن التي تعيش فيها.
وتشغل مباني المحطة بقعة واسعة من الشاطئ على بعد خمسة كيلو مترات من مباني الشركة، وقد بلغ ما أنفق على تشييدها وإعدادها حتى العام الماضي نحو خمسة عشر ألفاً من الجنيهات. وكل مبانيها من الخشب على شكل الأكشاك مقامة بالقرب من البحر أو داخله فيه فمنزل المدير والمكتب والاستراحات ومنازل الموظفين والعمال على الشاطئ في ثلاثة صفوف تواجه البحر، ثم المعامل وقد أقيمت داخل البحر على مسافة مائتي متر من الأرض تصل إليها على رصيف مبنى في الماء
وقد لوحظ في اختيار المكان وقوعه بالقرب من منطقة بحرية غنية بالمرجان، كما أن قربه من شركة الزيت كفل للمحطة الحصول على الماء العذب الكافي للشرب وللتجارب العلمية، وكذلك حاجات المعيشة كما جعل اتصالها بالسويس بواسطة السفن ميسورا مرة كل أربعة أيام - ويؤتي بالماء العذب وبالأطعمة على اختلاف أنواعها من السويس في بواخر الشركة كما يؤتي أحياناً بالطيور والخضراوات من قنا في السيارات - وتدير الشركة مصنعاً للثلج ومخبزاً كامل المعدات. وبالجملة فان أسباب المعيشة بالغردقة موفورة لدرجة كبيرة تنسيك انك تعيش في منطقة كانت من ثلاثين سنة مضت بلقعاً لا تجد فيه غير بعض أكواخ حقيرة يسكنها جماعة من صيادي السمك المساكين الذين يجوبون الشاطئ المصرية في طلب الرزق عن طريق الصيد أو تهريب الممنوعات.
(يتبع)
الدمرداش محمد
العالم المسرحي والسينمائي
فلم (الاتهام)
لناقد (الرسالة) الفني
في الأسبوع الماضي عرض فلم مصري جديد، هو ثالث الأفلام المصرية التي عرضت هذا الموسم، ونعني به فلم (الاتهام) لشركة فنار فلم، التي دعت رجال الصحافة لمشاهدته في حفلة خاصة قبيل عرضه على الجمهور.
ولعل هذا الفلم هو أول شريط مصري نجد فيه موضوعاً، أو حادثة إذا شئت، محبوكة الأطراف، منسجمة الوضع، تسير من البداية إلى النهاية في تسلسل طبيعي معقول، فخلا بذلك مما كان يؤخذ على الأفلام المصرية عامة من تفاهة الموضوعات التي تعرضها وعدم استقامة الحادثة وارتباكها، مما كان يجعل هذه الأفلام تافهة من الناحية الفنية القصصية، ويجعل الارتباط بين مشاهدها المختلفة مضطرباً يتلمسه المشاهد تلمساً ويكاد لا يفهمه، وفي ذلك ما يقلل من قيمة الفلم نفسه، بل يجعله فاترا مملولا ليست فيه هذه الحرارة التي تدفع المتفرج إلى تتبع مشاهدة والاندماج فيها والتأثر بها.
ففلم الاتهام، سد من هذه الناحية نقصاً كبيراً، وتضمن حادثة وموضوعاً يستطيع أن يلمسهما المتفرج في غير عناء ولا مشقة، ويمهد سياق الحادثة من ناحية أخرى، بوقائعها المتتالية، مشاهد تمثيلية رائعة لأبطال الفلم يظهرون فيها مقدرتهم الفنية.
على أن الموضوع ليست له هذه القيمة الفنية التي نعلقها عليه، ولكنه فاز برضاء الجمهور بفضل هذه المفاجآت السينمائية التي تجعل المتفرج لا يمل العرض، ومن المعروف أن القصة، مسرحية كانت أم سينمائية، إذا لم تثر اهتمام المتفرج سقطت. وفي فلم (الاتهام) هذه المفاجآت التي تجعل المشاهد طول مدة العرض متيقظ الحواس والمدارك لا يفوته منه مشهد إلا ويثير اهتمامه بما يليه، ومن هنا نجح الفلم هذا النجاح الملحوظ الذي يستحق عليه أصحابه كل شكر وثناء. ونريد أن نخص بالذكر هنا السياق الفني البديع الذي ظهرت به حادثة القتل والسر فيها، فقد بقى محتفظاً به إلى اللحظة الأخيرة، إلى ساحة المحكمة حيث المتهمة في القفص وكل الأدلة تقوم على إدانتها، وفجأة تظهر الحقيقة، ويعترف المجرم بجرمه، ويرى المشاهد كيف ارتكبت الجناية، فيكون لذلك تأثيره في نفسه. وهذا
المشهد هو أبدع مشاهد الفلم ولا شك من الناحية الفنية السينمائية، وقد أحسن حبكه وعرضة بمهارة تدل على كثير من الحذق والدراية بأصول الفن السينمائي
اشتركت نخبة طيبة من الممثلين والممثلات في القيام بأدوار هذا الفلم وعلى رأسهم السيدة بهيجة هانم حافظ وقد نزلت إلى ميدان العلم الحر بنفس ملؤها الثقة وروح مفعمة بالأمل والرجاء، وقد حققت الأيام ما كانت ترجوه لنفسها من نجاح، وللفن الذي قصرت عليه جهودها من توفيق وفوز.
ظهرت السيدة بهيجة هانم لأول مرة على الشاشة الفضية في دور (زينب) في الرواية المعروفة بهذا الاسم للدكتور محمد حسين هيكل بك ونجحت في دورها نجاحاً شجعها على تكوين شركة سينمائية، هي شركة (فنار فلم) التي تقدم ذكرها والتي يتولى إدارتها الأستاذ محمود حمدي بكفاءة نادرة جعلتها في مقدمة شركاتنا السينمائية المصرية. وقد أخرجت هذه الشركة قبل اليوم فلم (الضحايا)، وهذا الفلم (الاتهام) هو فلمها الثاني. وقد قامت السيدة بهيجة بدوري البطولة في الفلمين. وكان توفيقها فيهما كبيراً إلى درجة تغبط عليها حقاً، فهي تلجأ في مواقفها على الشاشة إلى البساطة التي هي ميزة الممثل الماهر الذي لا تحس في تمثيله تكلفاً أو تصنعاً، بل يعيش في دوره ويندمج فيه حتى ليتلاشى الممثل ولا يبقى إلا هذا الشخص الذي تراه على الشاشة بطلا من أبطال الحادثة.
والسيدة بهيجة (فوتوجينك) فلها هذا القوام المتسق البديع، وهذه القسمات والملامح الواضحة التي تظهر على الشاشة فاتنة أخاذة وعين (الكاميرا) دقيقة قوية تسجل الهنات والصغائر وتجسمها، ولا تعوض الكفاية هذا النقص الذي يبدو في صورة الممثل أو الممثلة، والسيدة بهيجة من هذه الناحية كثيرة التوفيق، توفرت فيها كل الشروط التي تؤهلها للتمثيل السينمائي، وللنجاح فيه، سواء من ناحية المقدرة الفنية والاستعداد لإخراج الشخصية التي تمثلها إخراجاً دقيقاً ماهراً، أو من ناحية التصوير والظهور على الشاشة في صورة بديعة فاتنة. وللسيدة بهيجة فوق هذا صوت متزن النبرات حلو النغم، سلس الأداء، سمعه الجمهور في هذا الفلم لأول مرة، لأنه أول فلم ناطق تشترك فيه
ولعل من الخير ان نذكر هنا ان السيدة بهيجة اشتهرت وعرفت قبل عملها في السينما بموهبتها الموسيقية، وقد نالت سنة 1930 دبلوماً في الموسيقى من باريس، ومن المعروف
أنها وضعت موسيقى جميع الأفلام التي اشتركت فيها، وقد سجلت هذه الألحان على الاسطوانات الغنائية. وهذه الأنغام الساحرة التي سمعها الجمهور أثناء عرض أفلام (زينب) و (الضحايا) و (الاتهام) هي من وضع السيدة بهيجة. ولها في هذا الفلم الأخير مقطوعات عديدة تعد من أحسن ما وضعت والفت إلى اليوم.
ونحن نسجل هنا مغتبطين هذا النجاح العظيم الذي نالته في فلمها الجديد بتمثيلها وموسيقاها، ونرجو أن يكون لهذا الإقبال من الجمهور على مشاهدة الفلم صداه في القريب العاجل فترى قريباً فلما جديداً لها
قامت السيدة زينب صدقي بأحد الأدوار الأولى في الفلم، والسيدة زينب ممثلة معروفة لها على المسرح شهرة بعيدة، وقد أخرجت كثيراً من الأدوار الفنية الدقيقة التي يعد نجاحها فيها دليلا ساطعاً على مقدرتها الفنية وكفايتها الفذة، فليس عجيباً أن توفق هذا التوفيق في دورها في هذا الفلم، تمثيلا وأداء وحركة
وقام الأستاذ زكي رستم بدور شوكت المحامي قريب بهيجة الذي يحبها، ويقتل في سبيلها، ثم يترافع عنها محاولاً إنقاذها، وقد كان في كل مواقفه مبدعاً موفقاً، خصوصاً في موقفه الأخير عند اعترافه بجرمه الذي يعد من أبدع المشاهد التمثيلية في القصة بما أبداه هذا الممثل الكفء من الحرارة ومهارة الأداء، وتدفق العاطفة، واتزان الصوت والحركة، وزكي هو الأخر من ممثلينا البارزين على المسرح وله أدواره المعروفة وكفايته التي لا تنكر.
هؤلاء الثلاثة هم أبطال فلم، وقد عاونهم مجموعة كبيرة من الممثلين الأكفاء الذين أجادوا مواقفهم إجادة كبيرة، وفي المقدمة الأستاذ محمود حمدي الذي مثل دور وكيل النيابة وألقى كلمة الاتهام وهو يتمتع بصوت جهوري ممتلئ قوي النبرات، يترك في نفس المتفرج أثراً بليغاً، ومن ممثلي الفلم أيضاً حضرات عزيز فهمي، وحسن كمال، ومنير أبو سيف، ومنير فهمي، وعبد القادر المسيري، ولطفية الصغيرة، وقد كانوا جميعاً كثيري التوفيق في أدوارهم المختلفة
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نهنئ شركة فنار فلم على شريطها الجديد وعلى ما نال من نجاح واقبال، ونرجو أن يكون هذا حظها على الدوام في أفلامها المقبلة.
محمد على حماد
حول ابن سينا
للدكتور محمد خليل عبد الخالق
اطلعت في عدد الرسالة رقم 36 بتاريخ 13 مارس سنة 1934 صحيفة 419 على مقال للأستاذ حافظ قدري طوقان عن ابن سينا، عدد فيه مؤلفاته، وبين اكتشافاته الهامة في العلوم المختلفة، وأود أن ألفت النظر إلى أن ابن سينا أول من اكتشف الطفيلية الموجودة في الإنسان المسماة الآن بالانكلستوما، وكذلك المرض الناشئ عنها المسمى بالرهقان أو مرض الانكلستوما. وقد كان هذا الاكتشاف في كتابه (القانون في الطب) في الفصل الخاص بالديدان المعوية. وهذه العدوى تصيب الآن نصف سكان العالم تقريباً. وقد بلغ ما كتب عن هذا المرض من المقالات والكتب إلى سنة 1922، 50. 000 مرجع عنيت بجمعها مؤسسة ركفلر بأمريكا. وقد سمى ابن سينا هذه الطفيلية باسم (الدودة المستديرة) وقد كان لي الشرف في سنة 1922 أن قمت بفحص ما جاء في كتاب (القانون في الطب) عند الديدان المعوية، وأمكنني أن أقوم بتشخيصها بدقة، وتبين من هذا أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالانكلستوما، وقد أعاد اكتشافها دوبيني في إيطاليا سنة 1838، أي بعد كشف ابن سينا عنها بتسعمائة سنة تقريباً.
وقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، وكذلك مؤسسة ركفلر كما يرى من المراجع المذكورة بعد. ولذلك كتبت هذا ليطلع عليه الأدباء، ويضيفون إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو من الأمراض الأكثر انتشارا في العالم الآن.
المراجع
1 -
الدكتور محمد خليل سنة 1922
مرجع قديم عن الطفيليات الطبية مترجم عن مؤلف للطبيب العربي ابن سينا مع ترجمة حياته باختصار (بالأنجليزية) - مجلة أمراض البلاد الحارة، وعلم الصحة بلندن مجلد 14 عدد 6 مارس سنة 1922 صحيفة 63 - 67
2 -
الدكتور محمد خليل سنة 1924
رسالة أثرية في العلقات الطفيلية التي تصيب الإنسان (بالعربية) - المجلة الطبية المصرية
مجلد عدد 7 سبتمبر سنة 1924 ص403 - 411
3 -
مؤسسة ركفلرر سنة 1922
المراجع الخاصة بمرض الرهقان (الانكلستوما)(بالإنجليزية) ص11 من المقدمة.
4 -
فاوست سنة 1929
علم الديدان البشرية - فيلادليفيا - صحيفة357