المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 381 - بتاريخ: 21 - 10 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 381

- بتاريخ: 21 - 10 - 1940

ص: -1

‌الحرب والشعر

للأستاذ عباس محمود العقاد

من رأيي الذي شرحته قبل الآن أن الحروب والثورات تشحذ ملكات الخطابة ولا تشحذ ملكات الشعر، بل تلجئها أحياناً إلى الصمت والركود، لأن الشعر (فردي) والخطابة اجتماعية تنشط بنشاط الجماعات، وتؤدي عملاً لا غنى عنه في أيام الحروب والثورات

وما يروج من الأناشيد والأغاني في إبان الحرب أو الثورة، فإنما حكمه حكم الخطابة، لأنه يتردد بين الجماهير في حالات الاجتماع ولا ينظم بداءة كما تنظم القصائد التي يترنم بها الشاعر على انفراد

وقديماً نظمت الملاحم الكبرى عن حروب الأمم البائدة، فخيل إلى بعض الناقدين أن الملاحم تستدعي النظم وتلقح فراغ الشعراء، وهو في رأينا تخيل خاطئ، لأن اتخاذ الملاحم موضوعاً شعرياً لا يستلزم أن يزدهر الشعر في أيام الحروب، كما أن وصف إنسان في قصيدة لا يستلزم أن يكون ذلك الإنسان من عرائس الشعر التي توحي المعاني وتفتق الخواطر، وقد يكون في حقيقته على نقيض ذلك

ولقد كانت الملاحم فيما مضى تنظم على سبيل التدوين والتخليد بعد انقضاء عهدها بزمن طويل أو قصير، وكانت هذه الملاحم المنظومة هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين. فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر في الحياة وحوادث الأيام منها إلى سجلات الحفظ والتأريخ

فليست أيام الحروب من أيام الشعراء. ولعل الحرب من حروبنا الحديثة تشغل الملايين وألوف الملايين أعواماً، ثم تنجلي عن بضع قصائد مختارة لا تملأ كراسة واحدة ولا تساوي في عدد سطورها رواية من الروايات التي تمثل في بضع ساعات وموضوعها محصور بين رجل وامرأة، أو بين شرذمة قليلة من الرجال والنساء

إلا أن النفوس لا تخلو من الشعر في إبان المعامع والمذابح البشرية، فهي لا تميته ولا تحجر عليه، ولا تمنع الأذهان فينة بعد فينة أن تنصرف إليه، وكل ما هنالك أنها ليست

ص: 1

باللقاح الجيد لقرائح الشعراء

ومن العجيب أن أشيع القصائد التي خلقتها الحرب الماضية كانت لرجل ليس بالشاعر ولكنه طبيب

ولم يكن من عادته أن ينظم الشعر، ولكنه فتح له في لحظة من اللحظات كما تفتح أبواب الإلهام

ولم تنشرها صحيفة البنش الإنجليزية التي نشرتها دون غيرها إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها بل في التفاتهم إليها

ثم كان من شأنها أنها ملأت العالم الإنجليزي في أيام، وحاولت أمم أخرى أن تترجمها فلم تفلح في أداء بساطتها وجرسها وما يتخللها من الحزن والتفاؤل الرصين

ثم أصبح من عادة الجماهير الإنجليز كلما تجدد ذكرى الهدنة أن يلبسوا في عروة المعطف صورة أقحوانة مصنوعة تباع وتخصص أثمانها لأعمال الخير التي تقام باسم المارشال هايج، لأن الأقحوانة كانت موضوع ذلك القصيد

قال الطبيب الشاعر:

(ترفّ الأقاحي في سهول الفلاندرس

بين صلبان القبور صفوفاً وراء صفوف

معلماً من معالم المكان الذي نحن فيه

وللقنابر في الفضاء - يا لشجاعتها - لا تزال تغني غناءها،

وندر أن تسمعها الآذان تحتها بين قصف المدافع وانطلاق النيران)

(نحن الموتى!

قبل أيام قليلة كنا أحياء

وكنا نحيا ونحس الفجر الطالع وننظر إلى الشفق الوهاج،

وكنا نحب وكنا محبوبين

ونحن اليوم في سهول الفلاندرس ننام)

(خذوا بأيديكم عنان النضال مع الأعداء،

أيدينا المتخاذلة ألقت إليكم بذلك العنان.

ص: 2

وارفعوا الشعلة عالية. . . ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات

فإن نقضتم عهدكم لنا نحن الذين مضينا

فلن ننام في مضاجعنا

ولو ظلت الأقاحي رفافة في السهول)

نظمت هذه الأبيات قبل نيف وعشرين سنة، وعادت الأقاحي ترف في سهول الفلاندرس، وعادت الأجساد تهوي هنالك ألوفاً وراء ألوف، وتناول شاعر إنجليزي القلم من حيث ألقاه الطبيب الكندي الذي قضى قبل أن تنقضي الحرب الماضية فقال:

(الآن، ومن تلك الأرض التي يطل من قبورها الأقحوان

ينهض موتانا كرة أخرى!

علموا من قبل أنهم لا يهجعون

إذا قيل يوماً إنهم عبثاً ماتوا وعبثاً ضرجوا تلك السهول بالدماء.

لقد غرسوا ولم يحصدوا. . . أليس هؤلاء الأعداء يعودون؟

فالآن ينهضون ليحصدوا ما غرسوه، ويحصدوا الكيل ألف كيل.

لأن الموتى كلمة يعرفون كيف يحفظونها، فلا تموت)

والشاعر الذي أضاف هذه الأبيات هو ألفريد نويس صاحب القصائد التي تقرأ اليوم حيث تقرأ اللغة الإنجليزية، ولكنه يحسب نفسه من السعداء إذاً جرى مع الطبيب الكندي في مضمار

وتجري مع هذه النغمة في سهولتها وشجاها أبيات الشاعر المعروف لورنس بنيون التي يرثي فيها لضحايا الحرب ويغبطهم لأنهم لا يشيخون حيث يقول:

إنهم لن يشيخوا كما نشيخ نحن المتروكين

إنهم لن يعرفوا سأم العمر ولن تثقل على كواهلهم السنون.

سنذكرهم حين تهبط الشمس وحين تؤب

(سنذكرهم وهم غالبون!)

أما في الحرب الحاضرة فالشعر الذي نشرته المجلات حتى الآن كثير، والمختار منه قليل

ومن هذا القليل قصيدة للسير روبرت فانسيتارت من رجال السلك السياسي النابهين ومن

ص: 3

الشعراء الذين يروق في شعرهم الترصيع الأنيق والإيحاء الموارب، لأنه يذكرك لغة السياسيين

نظم هذه القصيدة بعد هزيمة فرنسا كأنه يخاطب بها محبوبة ناكثة فقال:

(ألم أكن وفياً لك من البداية؟

ألم أخلص لك الحب منذ عهد الشباب؟

ألم أحببك غير مضلل عن عيوبك ولا واهم فيك؟

أعرف أسوأ ما عندك وأعرف أن الأحسن فيك هو الأقرب إلى الحق والصواب!

وإنك لمثلي كنت صفوحاً وكنت تعلمين ما لم أكن أخفيه من عيوب

فامتزجنا ومشينا جنباً إلى جنب

نواجه عالماً لا نقوى على مواجهته منفردين

أكنت تحفظين ودي والأيام مقبلة؟

نعم. . . ولكني كنت أحفظ والأيام ليست كذاك،

وكان الإغراء ينال من حصنك.

وبضعفك مرة أخرى تنتصرين

وتنسين!. . .

تنسين نفسك وتنسين الحرية وتنسين الصديق،

بل تنسين حتى ما ينفعك وحتى ما تغنمين.

واليوم يعود التورد اللماح من وهج الحب

مسحة من الخجل، وتنقضب القصة كما انقضبت قصص كثيرة من قديم

ويتم الوداع في بوردو

وإياي الآن تكرهين، ولن ينقص كرهك لي حين أذهب غير واهن ولا مهدود بما أصابك

وحين أقف وحدي في وجه الدنيا، وأنظر جنبي فلا أراك)

ومن قليل الشعر الرائق في الحرب الحاضرة ولا يقال مثله في حرب قبلها هذه الأبيات التي نظمها (ولفريد جبسون) وهو يصغي إلى موسيقى (بيتهوفن) من مذياع ألماني ويستمع إلى دوي القذائف الألمانية على بلاده. . . قال:

ص: 4

(من بعض الديار الألمانية يشدو العازفون بالنشيد الخامس العظيم. . . كأن لا حرب هناك

تعيث خلال الديار

يكرمون الفن والخراب جائح

ونصغي في أكواخنا فتنسرب إلينا الأصداء العلوية بين أزيز الطائرات ونذير الدمار

لحن خالد يحمله أي فضاء؟. . . يحمله الفضاء الذي يطير عليه القاذفون ليصطرعوا

صراع الموت تحت نجوم باردة العيون

واللحن الخالد من أرض إلى أرض ومن سماء إلى سماء ينفذ في الأسماع والقلوب

كأنما يخلق الألفة والانسجام حيث أبناء الفناء لا يعرفون الألفة والانسجام

وكأنما ينفث التوفيق والتنسيق في قلوب تنحدر إلى قرار سحيق. . .)

على أننا لا نظلم الشعراء النابهين فنقول إنهم يتخلفون حيث يسبق المصلون المجهولون. ففي الحرب الحاضرة شعر حسن لبعضهم لا يمنعنا أن ننقله إلا أنه لا يقبل الإيجاز والاقتضاب

أما في الحرب الماضية فقد ارتفع فيها (كبلنج) بالشعر الحماسي إلى الذروة التي رفعته الشهرة إليها، ونظم تلك القصيدة التي لا يسمعها إنجليزي إلا سرت في عروقه هزة الحمية وصالت نفسه صولة الكبرياء. ومنها:

الشأو هناك. . .

لا يبلغنا إليه رجاء خادع ولا وهم كذوب

بل فداء من معدن الحديد

فداء بالأوصال والعزائم والأرواح

إنه لواجب واحد علينا

وإنها لحياة واحدة نعطيها

من ذا الذي تنهض قدماه وقد هوت الحرية

ومن ذا الذي يموت وقد عاش الوطن!)

وموعدنا الحين بعد الحين بما نختار من هذه الشذرات، وهي على قلتها بالقياس إلى غيرها مما تتسع له صفحات وصفحات

ص: 5

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌4500 ثانية في صحبة أم كلثوم

للدكتور زكي مبارك

لم تسمح الظروف بلقاء الآنسة أم كلثوم بعد الذي دوناه من لحظات التلاقي في كتاب (ليلى المريضة في العراق) وهي لحظات قصار ولكنها جياشة بأقباس المعاني، ولو طالت تلك اللحظات لظفرنا من سحر الحديث بأطايب وأفانين

ولم يكن ذلك الحرمان عن هجر منها أو صدود، فما يستطيع ذلك الروح أن ينسى أن له مآرب وجدانية من مسامرة أرباب الوجدان، وإنما شاءت المقادير أن تصرفنا بالشواغل القاسية عن التأهب لمداعبة الأفاعي والصلال

وما معنى ذلك؟

معناه أني سأتحف أم كلثوم بصورة وصفية تبسم لها في حين وتعبس لها في أحايين، مع العرفان بأني لم أقل غير الحق في وصف ذلك الروح اللطيف

وهل لهذه الحمامة الموصلية روح لطيف؟

ما وازنت بين غناء أم كلثوم وحديث أم كلثوم إلا تذكرت قول شوقي في الصوت الحنان

وَترٌ في اللَّهاة ما للمغنِّي

من يدٍ في صفائه ولِيانِهْ

فهذه الحمامة تغرد بلا وعي ولا إحساس في نظر من يحكم بظاهر ما يند عن شفتيها الورديتين من أغانٍ وأحاديث

فهل تكون في حقيقة الأمر كذلك؟

إن كانت أم كلثوم بلا وعي ولا إحساس فعلى الأدب والفن العفاء. وكيف تُحرم أم كلثوم قوة الروح وهي بلا نزاع ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل؟

وأين من يزعم أن قلبه سلم من الشوق لأغاني أم كلثوم، وما مرت لحظة واحدة في المشرق أو في المغرب بدون زفرة أو لوعة تثيرها أغاني أم كلثوم؟

وهل سمع الناس في قديم أو حديث صوتاً أندى وأعذب من صوت أم كلثوم؟

تلك الفتاة هي الشاهد على أن الله يزيد في الخلق ما يشاء، فتبارك الله أحسن الخالقين!

ولكن كيف نحل هذه المشكلة: مشكلة الفرق بين غناء أم كلثوم وحديث أم كلثوم؟

الحل سهل: لأن العقدة مشتركة بينها وبين محمد عبد الوهاب وإليه وإليها انتهى الإبداع في

ص: 7

عالم الغناء

عبد الوهاب رجل أعمال وأم كلثوم رجل أعمال، وذلك سر العبقرية عند هذين الروحين، وهو الدليل على أن الله لا يهب المواهب لأهل التخاذل والانحلال، والزهد في جمع الثروة هو الآية الحق على التخاذل والانحلال. وغضبة الله على من يحسبني أمزح في هذا الحديث!

دعتني أم كلثوم مرة لتناول العشاء في أحد مطاعم القاهرة فأجبت الدعوة، ولكني رأيت أن أدفع عن نفسي، فاستظرفتني جداً وصرّحت بأني لم أقل غير الحق حين قلت:(إني أعظم من الجاحظ ولو غضب الدكتور طه حسين)

ولن أنسى أبداً موقف القصبجي الملحن وقد زعم أنه صائم مع أن العشاء كان في جوف الليل ولم نكن في رمضان ولا شعبان، ولكنه كان يعرف أن (حمامة الشرق) لا يسرها أن يكون القصبجي رجلاً له أمعاء تظمأ وتجوع كسائر الناس، وكيف يكون فناناً وهو يحس الظمأ والجوع؟!

أشهد أن البخل حق، وأنه من خصائص أهل العبقرية، وإلا فكيف صحبت الدكتور طه حسين عشر سنين ولم أتناول الغداء في داره غير مرة واحدة لظروف قهرية قضت بأن نمضي النهار كله في درس شواهد الشعر المنحول سنة 1926؟

وكذلك يكون شقيق الروح محمد عبد الوهاب، فهو أبخل من الجارم بمراحل طوال، وهو إلى اليوم لا يدرك أن الدينار قد ينقسم إلى دراهم، وأن الدرهم قد ينقسم إلى فلوس، إنما الدينار دينار، فإذا انقسم فهو هباء، وإليكم هذا الخبر الطريف:

نشر الموسيقار محمد عبد الوهاب كلمات في مجلة الاثنين عن ذكرياته في زيارة العراق، وقد قرأت تلك الذكريات وأنا في بغداد فحزنت لأني عرفت منها أن الأستاذ الصراف خدعه فزين له الذهاب من دمشق إلى بغداد في سيارة عربية لا إنجليزية، وكانت النتيجة أن يقضي ثلاثة أيام بلياليها في الطريق بين دمشق وبغداد، فصممت على تأنيب الأستاذ الصراف حين أراه، ثم عظمت الدهشة وعظم الاستغراب حين عرفت من الأستاذ الصراف أن الموسيقار عبد الوهاب هو الذي اختار تلك السيارة لأن أجرتها أرخص بمبلغ لا يقل بحال من الأحوال عن دينارين!

ص: 8

ماذا أريد أن أقول؟

لعلي أريد القول بأن الاهتمام بجمع الثروة يدل على الشغف بحب الدنيا، وحب الدنيا هو الأصل الأصيل لحيوات النوازع والغرائز والأحاسيس

وحب الدنيا كان السر في عبقرية أحمد شوقي أمير الشعراء، فقد صحبته مرات كثيرة وهو يطوف على أملاكه بالقاهرة وضواحي القاهرة، وشهدت كيف ينظر إلى كل بقعة من أملاكه وقلبه يهتف:(كل مليحة بمذاق) ورحم الله شوقي، فما مات إلا وهو حزينٌ حزين على فراق أملاكه الواسعة بأرجاء هذه البلاد

وحب الدنيا هو السر في عبقرية عبد الوهاب وأم كلثوم، عبد الوهاب ساكن العباسية وأم كلثوم ساكنة الزمالك، وهل يستطيع مخلوق أن يقول إنه على شيء من الأدب أو الفن وجيوبه خاوية؟

آه، ثم آه!!

كنت غنياً وكانت لي أموال مرصودة في مصارف مختلفات، ثم شاء القدر أن أترفق بمرضاي من الملاح فأنفق عليهم ما أملك، فأنا اليوم فقير، فقير، فقير، بحيث ترفض أم كلثوم أن تكون (ليلى المريضة في الزمالك) بحجة أنها صحيحة، لا بحجة أني لم أعد أملك البر بمرضاي من ذوات الخد الأسيل والطرف الغضيض!

وهجرتي إلى العراق هي سبب هذا البلاء، فقد أعداني العراق بالكرم وراضني على البذل والجود، فأنا اليوم بلا ذخيرة ولا عتاد

ألم تسمعوا أني كنت أتمرد على رؤسائي بالجامعة المصرية وبوزارة المعارف، فكنت أملك الزهد في مناصب الحكومة في كل وقت؟

فإن صح أني صبرت أخيراً على خدمة الحكومة أربع سنين فاعلموا أن أخاكم مكره لا بطل، وأنه لم يتمرغ في تراب (الميري) إلا وهو في فاقة وإملاق

وآه ثم آه من الصبر على خدمة الحكومة أربع سنين!

وهل خلق الشعراء لهذا الاستعباد؟ وهل كان ذلك هو المصير المنشود لمن يؤمنون بفاطر النخيل والأعناب؟

ولكن لا بأس فمن واجب الشاعر الذي أخضعه الفن للقوافي والأوزان أن يقبل الخضوع

ص: 9

لقيود الوظيفة وقيود المجتمع وما قيمة الفلسفة إن لم نحسن تعليل الصبر على قيود الوظيفة وقيود المجتمع؟

وما حديث الـ4500 ثانية في صحبة أم كلثوم؟

كانت النفس حدثتني بوجوب السفر إلى الإسكندرية في أواخر أيلول لأرى كيف ينجزر الصيف عن الخريف في تلك الشواطئ للِفيح، فرأيت على المحطة فتىً من عصبة الفن الجميل وهو يهتف:(أما ترى ثومة يا دكتور؟)

والتفت فرأيت إنسانة نحيلة تكبح سحر عينيها بمنظارين سمراوين وهي تحاور المودعين حواراً تقع فيه ألفاظ غلاظ على غير ما ينتظر من فتاة لها تلك المكانة بين البيض الخَفِرات من بنيات وادي النيل

وأقبلت فسلمت تسليم الشوق بتهيب واحتراس، لتفهم أني لا أريد نضالها في ميدان التنكيت، ولكن الشقية تغابت وتجاهلت رغبتي في البعد عن هذا الميدان، ولم تكن إلا لحظة حتى اقتنعت بأن الزمالك تجاور بولاق!

ما الذي يحمل ثومة على خلع البرقع وهي تحاور الرجال وفيهم من لا يتأدب وهو يحاور النساء؟

لم يبق بين ثومة وبين الفصيلة النسائية أية صلة، فهي اليوم رجل أعمال، وهي أبو كلثوم لا أم كلثوم!!

وقت ثومة لا يضيع في مراجعة الأدب القديم والأدب الحديث - كما تسمعون - وإنما يضيع وقت ثومة في تدبير المال لاقتناء النفائس من البيوت والبساتين

وثومة ليست غبية، فهي تعرف أن البيئات الفنية يكثر فيها الوباء، وأنه لا موجب لطاعة الفطرة التي يتجلى فيها الحنان النسوي، لئلا يكون من أثر ذلك أن تدور حولها الأقاويل والأراجيف في زمن الأقاويل والأراجيف

ومن أجل هذا لا تجيد أم كلثوم ممثلة إلا في مواقف الانفراد، فهي كتلة من الثلج حين تحاور رجلاً في مواقفها التمثيلية، وهي نارٌ تتأجج حين تخلو إلى نفسها في موقف من مواقف التذكر والاشتياق

العزلة هي الفرصة الوحيدة لانفجار العواطف في صدر أم كلثوم، لأن هذه الإنسانة تتوهم

ص: 10

أن المجتمع لا يُحسن غير التجريح والاغتياب، فهي تلقاه بلسانٍ حديد لا يجيد غير السخرية والاستهزاء، فإذا اعتزلت الناس أو توهمت أنها اعتزلت الناس صارت أم كلثوم الحقيقية بشفتيها الورديتين وثناياها اللؤلؤية وأنفها المسنون. ولو استبحتُ مغازلة هذه الشقية لقلت إن ابتسامها يصدر عن وادٍ سحيق هو وادي الخلود!

وما أسعد من يظفر بابتسامة صفية من أم كلثوم ولو لحظة واحدة من عمر الزمان!

هانحن أولاء في محطة القاهرة، وإني وإياها لمختلفان، فهي ذاهبة إلى المنصورة وأنا ذاهب إلى الإسكندرية، وسنفترق في طنطا كارهين أو طائعين

وأترفق فأقول: ألا تحتاج الحمامة الموصلية إلى رجل يضايقها لحظات؟

فتجيب: وأنت؟ ألا تحتاج إلى من يضايقك ساعات؟

ثم نأخذ في الحديث بعنف ولجاجة وصيال، فهل كان بيني وبين هذه الروح ثأر قديم؟ وهل سمعت أني اغتبتها فقلت إنها ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل؟ وهل نقل الوشاة أني زعمتُ أنها أطيب من العطر وأرق من الزهر المطلول؟

لا أعرف ما ذنبي عند أم كلثوم، ولم أخرج على الأدب فأقول إنها خير ما أخرجت مصر من ثمرات، وإنها ألطف روح سكن الزمالك وتخطّر في شارع فؤاد؟

ما هفوت في حق أم كلثوم إلا مرة واحدة حين قلت إن حنجرتها مسروقة من الحمائم الموصلية، وكان الرأي أن أقول إن حمائم الموصل سرقت رخامة الصوت من الحنجرة الكلثومية

ثم تشتط أم كلثوم في المزاح الغليظ، ولكن مع من؟ مع الرجل العليم بمواقع أهواء القلوب ولو سُدل على سرائرها ألف حجاب!

هل تذكرون المصباح المغطّى بالأوراق الزرق؟

هو قلب أم كلثوم، لو تعلمون!

وبلفظة واحدة نزعت تلك الأوراق لأواجه ذلك القلب الوهاج

فما هي تلك اللفظة السحرية؟

قلت: إن حمامة الشرق تستر بمزاحها الغليظ قلباً يحترق

فالتفتت الفتاة التفاتة رشيقة وهي تستزيد، فقلت: وقد حدثتني ليلى أن الأفعى تغفو أوقاتاً

ص: 11

طويلة ثم تستيقظ حين تجد الفرصة لتخدير الفريسة بالسم الزعاف

وبهذا الكلام تنبهت أم كلثوم من سباتها المتكلف المصنوع، وابتسمت ابتسامة لن أنساها ما حييت، فقصصت عليها قصة ليلى حين قرأت في كتب التاريخ الطبيعي أن الحيات تثور وتهتاج حين ترى إنساناً أخضر العينين، فزعمت الشقية أنها لم تكن تعرف أني أخضر العينين، فقلت: وما السر في نفرتك مني أيتها الرقطاء؟

وترفقت أم كلثوم وتلطفت بعد التأبي والتمنع، وانطلقت تتحدث بلا تكبر ولا ازدهاء، فمن قال إنه عرفها قبلي فهو كاذب، لأني أول من نزع الأوراق الزرق عن ذلك القلب الوهاج، وأنا أول من فرض على أم كلثوم أن تعرف أن الدنيا فيها أمانة وصدق وإخلاص

من حق أم كلثوم أن تكون في دنياها رجل أعمال، فنحن في عصر سخيف لا يقيم وزناً لمواهب الأدب والفن إذاً فاتهم سناد الجاه والمال

ولكن. . . ولكن دنيا أم كلثوم صدّتها عن الانتفاع بأرباب المواهب، فلو كان لأم كلثوم مستشار أمين لوصلت إلى الإعجاز في الغناء والتمثيل، فلا عفا الله عمن من صدوا هذه الروح عن الاستئناس بأذواق أهل الآداب الفنون!

وهل أنسى بشاعة الاستئثار بتصوير عصر الرشيد؟

كان يمكن أن يكون فلم (دنانير) أعجوبة الأفلام التاريخية لو كانت أم كلثوم تعرف أن في مصر رجالاً أدق ذوقاً وإحساساً من فلان وفلان، وأن الانتفاع بآراء هؤلاء الرجال قد يعود عليها بالخير الجزيل، ولكن أم كلثوم امرأة وإن كانت رجل أعمال، والمرأة لا تفلح حين تتوهم أنها أعقل من الرجال

فلم دنانير جميل جميل، ولكن تعوزه قوة الروح، ولأم كلثوم أن تغضب كيف تشاء، ولفلان أن يقتل نفسه من الغيظ، فقد أخلف الظن به كل الإخلاف

إن هذا الفلم يلخص رأينا في أم كلثوم: فهي لا تجيد إلا عند العزلة والانفراد

فأين من يجعل أم كلثوم من أزهار المجتمع؟

أين من يحوّل هذه الفتاة إلى روح لطيف يشيع في المجتمع معاني الأنس والانشراح؟

إن كانت هذه الفتاة تحب أن تكون (ابن بلد) فقد ظفرت بما تريد، أما إن كانت تحب أن تكون أعظم من أم كلثوم فلذلك حديث غير هذا الحديث

ص: 12

ثم وصل القطار إلى طنطا فانتقلت إلى قطار المنصورة وبقيتُ أتشوف إلى الإسكندرية، وذلك آخر العهد بتلك الروح، فإن رضيت عن هذا المقال فقد نلتقي في مصر الجديدة أو في الزمالك، وإلا. . . . . .

زكي مبارك

ص: 13

‌محاورة أفلاطون الخيالية

حول التربية الإنجليزية

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

يعتبر سقراط أول من وضع الأسلوب الحواري الاستنباطي أسلوب التهكم الذي يقف نفسه فيه موقف الجاهل، ثم يسوق أسئلته البريئة اللاذعة التي تصير بالمسئول إلى حال التشكك والحيرة؛ غير أن سقراط لا يلبث أن يستدرج محاوره إلى الغاية الخفية التي يضمرها، والتي يريد كشفها بأسئلته ونقاشه، فيتجلى الأمر ويصل إلى النتيجة، ولا يجد محاوره مفراً من التسليم له بوجهة نظره من غير أن يقصد إلى ذلك

ولقد نهج أفلاطون فيما كتبه - ولاسيما في جمهوريته ومحاوراته - منهج أستاذه سقراط: ففي (الجمهورية) مثلاً يعالج مبدأ العدالة في مدينته الفاضلة بأسلوب استنباطي حواري على لسان سقراط نفسه. غير أن الحديث يتشعب به فينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن بحث إلى بحث، حتى يخيل لقارئه أنه يكاد يفقد الفكرة التي بدأ بها موضوعه الأول، ولكن لا يلبث حتى يعود إليها

ومما عالجه أفلاطون في (الجمهورية) موضوع التربية. وآراؤه فيها - وإن كانت قد أصبحت قديمة كبعض فلسفته - تستحق إيرادها هنا كتمهيد لتلك المحاورة الخيالية التي سأنقلها للقراء من الإنجليزية، والتي دارت بين أحد المربين الإنجليز وبينه حين بعث منذ أربع سنوات، بعد أن مر على وفاته ثلاثة وعشرون قرناً

يرى أفلاطون في (الجمهورية) أن هناك ثلاثة أنواع من الناس: نوع وهبه الله الحكمة والذكاء، وهؤلاء يربون إلى أن يصلوا إلى مرتبة الحكام الفلاسفة، وهم الساسة المفكرون، ذوو الأمر والنهي والرأي المطاع؛ ونوع دونهم في الذكاء والقدرة الفلسفية، وهؤلاء يربون ليكونوا مساعديهم في الإدارة والتنفيذ وليكونوا رجال الجيش الذين يحفظون النظام داخل الأمة ويذودون عن حياضها في الخارج؛ ونوع في المرتبة الدنيا غير الموهوبة التي لا تصلح إلا للزراعة والتجارة والصناعة، وهؤلاء يكوّنون جمهرة الشعب وعامته

والمحاورة الخيالية التي سأوردها هنا من وضع الأستاذ كرُصمان بجامعة اكسفورد. وقد أذاعها من محطة لندن ضمن سلسلة أحاديثه التي تشمل أيضاً: أفلاطون والديمقراطية

ص: 14

الإنجليزية، أفلاطون والأسرة الإنجليزية، أفلاطون والاشتراكية، أفلاطون والنظام الفاشستي الخ. وهاهي ذي المحاورة:

أفلاطون للمربي: يقال إنكم أنتم معشر الإنجليز مهتمون بالتربية ومعضلاتها، ومصممون على بنيان نظامها على أسس قوية لأنكم تدركون أن تربية النشء تربية صحيحة، إنما هي عامل فعال في إصلاح شؤون الدولة، وأن سلامة الأمة لا تكون إلا بالتربية الحقة

المربي: نعم، الأمر كذلك. ولقد خطونا خطوات مباركة في الخمسين سنة الماضية. ولعلك لا تدري أننا حتى سنة 1870 لم يكن لنا نظام تعليم حكومي موضوع، ولم يكن عندنا تشريع للتعليم الإجباري، ولم تكن عندنا كليات ثانوية للبنات بجانب العدد القليل من مدارس البنين الثانوية الصالحة، ولم يكن لغير أتباع الكنيسة الإنجليزية حق في التعليم العالي مهما كانت ثروتهم. أما الفقير فلم يكن له نصيب من التعليم الجامعي ولو كان من النابغين. ولكن كل هذا قد تغير الآن. فالتعليم الإجباري إلى الرابعة عشرة، والتعليم الثانوي إلى الثامنة عشرة. وهو نصيب نسبة كبيرة من الناشئة التي هي أهل له. وعندنا عدد لا بأس به من الجامعات التي تعينها الحكومة مالياً، والتي يتلقى فيها الشباب التعليم العالي إلى الثانية أو الثالثة والعشرين

أفلاطون: حقاً لقد كنتم نشطين في ميدان التربية خلال هذه الحقبة الماضية، وإني لأهنئكم على أنكم أبيتم أن تدعوا التربية كما كانت في يد الأسرة فقط، أو غيرها من الهيئات التي لا تقدر هذه التبعة، تبعة تنشئة الجيل القادم. ولكني أود أن أعرف جلياً الأسباب التي من أجلها وجهتم كل طاقتكم لجعل التعليم العام حقاً لكل فرد من أفراد الشعب

المربي: مما لاشك فيه أن من بين الأسباب التي دعتنا لهذا إيماننا بمبدأ العدالة. فنحن شعب ديمقراطي، ونعتقد أن التربية يجب ألا تكون وقفاً على طبقة خاصة من الشعب، بل يجب أن تكون حقاً مشاعاً لكل فرد. وما فائدة أن نخول للفرد حق الانتخاب واختيار من يمثله في المجالس النيابية إذاً كان هذا الناخب جاهلاً لا يحسن اختيار ممثله. وتربية الشعب هي الوسيلة التي بها يكون للانتخاب أو التمثيل النيابي معناه ومغزاه، فلا يكون له ذلك المظهر الصوري التقليدي. ومن السهل أن يكون للأمة حكومة نيابية، وهيئة برلمانية، ومؤسسات ديمقراطية، هي نتيجة الانتخابات العامة. ولكن كل هذه مظاهر خادعة ما لم يكن الشعب

ص: 15

متعلماً. والمؤسسات الديمقراطية لا تجعل الشعب ديمقراطياً، ما لم يكن أفراده قد عرفوا معنى الديمقراطية واستطاعوا أن يتمتعوا بها، وأن يستفيدوا منها. ومعرفة معنى الديمقراطية واستغلالها الحكيم ليس شيئاً يسقط من السماء، بل لابد لخلقها في نفوس الشعب من المال والمجهود. ونحن جادون في هذا السبيل بالتربية التي نقدمها لأبناء الشعب في مدارسنا. وليست التربية عندنا أن نصب عقول الناشئة في قوالب منتظمة، فتخرج قطعاً منتظمة تركب في عجلات المحرك الحكومي، فتؤدي وظيفتها دائرة مع هذه العجلات دوراناً آنياً، حتى إذاً عراها الصدأ أو تحطمت ألقينا بها جانباً، واستبدلنا بها غيرها، والحقيقة هي أننا لا نريد أن نجعل أبناء الجيل القادم صناعاً مهرة فحسب، ولكنا نريدهم أن يكونوا مواطنين صالحين في شعب ديمقراطي، قادرين أن يقوموا بدورهم بنجاح فيما هم أهل له، سواء أكان ذلك في ميدان الكرة، أم في نقابة التجار أم في المجلس المحلي أم في دار النيابة. نريد أن ننشئهم بحيث يعرفون كيف يحكمون أنفسهم ويساعدون من يحكمهم. فأنت إذاً ترى أن غاية التربية في مدارسنا ليست إقدار الناشئة على كسب الخبز ونيل الوظائف، ولكن الغاية من تعليمهم التاريخ والجغرافيا والاقتصاد هي أن يصبحوا في أمتهم أعضاء يقدرون حقوقهم المدنية، ويعرفون واجب الأمة عليهم

أفلاطون: صحيح كل هذا، وهو يطابق تماماً ما قرأته لأحد ساستكم إذ يقول: إن التعليم العام للشعب ما هو إلا تجربة في الحكم الذاتي. ولقد كان لهذه العبارة أثرها ومعناها في نفسي لأني أنا كنت قد حاولت في مدينتي الفاضلة أن أجعل جميع أفرادها يشتركون في حكومتها الذاتية. غير أن تجربتي لم تنجح فحدثني إذاً عن نتائج تجربتكم التربوية هذه، وهل توقظ في الشعب شعوره بضرورة اشتراكه في أمور السياسة الخارجية والداخلية؟

المربي: نعم، أعتقد ذلك، فالشعب قبل الحرب الماضية مثلاً ما كان ليعنى بالشئون الخارجية، أما الآن فالشعب جميعه يعنى بالسياسة الخارجية، ووزير الخارجية في البرلمان أكثر النواب حديثاً، وأكثرهم إجابة عن الأسئلة المتنوعة التي توجه إليه من كل حزب ومن كل صوب، ولا تسمع الآن في أحاديث الأسرة الإنجليزية إلا أخبار الحرب والسلم

أفلاطون: ولكن هل تظن أن لاهتمام الشعب بالسياسة الخارجية وتدخله فيها كما ذكرت أثراً في اعتدال هذه السياسة وتحسنها؟

ص: 16

المربي: من غير ما شك. وآية ذلك أن الحكومة لا تستطيع الآن - كما كانت تستطيع من قبل - أن تقرر في الخفاء أي شأن من شئون السياسة الخارجية

أفلاطون: إن سؤالي مرة أخرى هو: هل كان لاهتمام الشعب بالسياسة الخارجية أثر في اعتدال هذه السياسة وتحسنها؟

المربي: أجل، لقد جعل اهتمام الشعب بالسياسة الخارجية الحكومة تدرك تبعة تصرفاتها، وأنها مسئولة عنها أمام هذا الشعب الذي انتخبها، فهي إذاً لا تستطيع أن تعمل ما تشاء، ولكن ما يشاؤه الشعب

أفلاطون: ولكن هب الحكومة أرادت أن تفعل شيئاً تراه هي صالحاً، ولا يراه الشعب كذلك، فما هو الموقف؟

المربي: نحن نعتقد أنه من الحكمة أن يفعل الشعب الفعلة الخاطئة بإرادته وحريته متى قرر ذلك بدلاً من أن يكره على عمل الصواب. . .

أفلاطون: كأني بك تعتقد أن الحرية خير من الفضيلة؟

المربي: لا، لا أعتقد هذا. ولكن الرأي عندي أن الفضيلة مستحيلة بدون الحرية. إنك لا تستطيع أن تكره الطفل على أن يكون خيِّراً، بله الكبار من الرجال والنساء

أفلاطون: قد تكون على حق! وإذاً فلماذا تريدون الحكومة مادام الشعب يريد أن يعاني التجارب القاسية بأفعاله الخاطئة وتصرفاته الحمقاء، وهو مطمئن لأنه قام بها بمحض حريته ومجرد رغبته. ألا ترى أن الأصلح إلغاء النظام الحكومي نهائياً!؟

المربي: إن أسئلتك كالحلقة المفرغة لا يدري لها طرف. وإنك لتلعب بعبارتي وتتهكم حتى ليحسبها السامع جوفاء. . . لا يختلف اثنان في أنه يجب أن يحال بين الأفراد وبين أي تصرف يتنافى مع حرية غيرهم. وهذه هي الحكمة في قيام الحكومات، ولكن يجب أن تترك الحرية لأفراد الشعب بقدر المستطاع ليقرروا بأنفسهم مصير شئونهم. إن الهدف الذي نرمي إليه - نحن المربين - في هذا العصر هو أن نعد مواطنين يحسنون استخدام حقهم الانتخابي، ويعرفون كيف ولِمَ ينتخبون، فلا ينتظر منهم أن يكونوا خبراء في شئون السياسة والاقتصاد، ولكن يكفي أن يكونوا ذوي بصر وفكر بهما

أفلاطون: ألست تقر أنكم لم تكوّنوا بعدُ هذا النوع من الرجال؟ فلِم إذاً تتعجلون - قبل أن

ص: 17

تتم مشروعاتكم التعليمية وتنضج - فتكلون إلى أنصاف المتعلمين من الشعب الفصل في شئونكم السياسية؟ إن هذا لقلب للموضوع وللوضع المنطقي! الواجب أن يكون عندكم أولاً نظام عام للتربية يكوّن هؤلاء المواطنين الذين وصفتهم في نقاشك، وحينئذ تكلون إليهم مطمئنين الإشراف على سياسة الدولة داخلية وخارجية، غير أني أعتقد أنكم متى كوّنتم هذا النوع من المواطنين كامل التربية لم تعد ثمة حاجة إلى أية حكومة

المربي: لقد عدت بنا من حيث بدأنا. إن العالم لم يصل بعد إلى المثل الأعلى، ولن يصل إليه، فلا مفر من مواجهة الواقع كما هو، ونحن في بلادنا نعتقد أننا إذا وكلنا إلى المواطنين العاديين الإشراف على أمورهم ومستقبلهم فإنما نعطيهم الحرية التي بدونها نرى الحديث عن الفضيلة والخلق لغواً

أفلاطون: لقد قلت الآن إن الغاية من قيام الحكومة هو منع الأفراد أن يتعدوا في تصرفاتهم إلى حقوق الآخرين، وإلزامهم أن ينصرفوا لأمورهم ويدعوا غيرهم وشأنهم، فإذا كان الأمر كذلك فمن واجب الحكومة، في سياستها الخارجية، أن تحول أيضاً بين أفراد شعبها وبين تعديهم إلى حقوق غيرهم من أفراد الشعوب الأخرى. وأنت الآن تريد مواطني بلادك أن يوجهوا الحكومة فيما تبحثه من الشئون العالمية، وأن يتدخلوا فيما تقرره منها. ومعنى هذا أن سياستكم الخارجية ستكون طبعاً خاضعة لنفوذ ذوي المصالح الشخصية من المواطنين الذين همهم الوصول إلى منافعهم المادية على حساب الشعوب الأخرى

المربي: كلا، إننا نتوقع عكس هذا. إن عامة الشعب لا ترغب في الحرب، وليس له مطامع مادية أو استعمارية، إن هذه إلا مطامع تجار السلاح والذخيرة والرأسماليين. أما عامة الشعب فتريد السلم والعدالة العالمية

أفلاطون: هذا جميل حقاً، ولكن هل يعرف أفراد الشعب كيف يحققون هذه المبادئ العالمية السامية؟ دعني أنبئك وما ينبئك مثل خبير؛ إن فن السياسة فن دقيق صعب المراس، وإن علوم الحرب ليست من العلوم التي تدرك في يوم؛ فهل ترى أن أفراد الشعب خبيرون بفنون السياسة عليمون بتاريخ العلاقات الدولية؟ أو هم فقط غيورون متحمسون تدفعهم العواطف النبيلة، فإذا ما صدمتهم الحقائق الصماء ذهبوا كفقاعات الصابون في الهواء

المربي: نحن الآن جادون في تعليمهم فن السياسة والعلاقات الدولية. ولكن الحق هو أن

ص: 18

هذا العالم يحتاج إلى قليل من المكر السياسي، وكثير من الخلق المستقيم

أفلاطون: نحن على وفاق. فإن كل ما يحتاج إليه المواطن هو العواطف الخلقية القوية القويمة. ولكن هذه العواطف وحدها لا تكفي لتكوين من يصلحون للحكم. وأنتم في تجربتكم التي تقومون بها الآن بتربية الشعب تحاولون أن تعدّوا جيلاً يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه. وعندي أن هذا الجيل يحتاج إلى شيء آخر بجوار العواطف الخلقية التي أشرت إليها. إن مهنة السياسة تحتاج إلى مهارة ولباقة عقلية. وإذاً فلابد أن نفرق بين التربية التي يحتاج إليها المواطن العادي والتربية التي يحتاجها الحاكم السياسي. فهذا الأخير يجب أن يعرف شيئين: قواعد السياسة التي يريد أن يتبعها، والعالم الذي يريد أن يطبق فيه هذه القواعد. فهو باحترافه السياسة يشبه كل صاحب مهنة فقد نجد الرجل المغرم بالصور الجميلة، الذي يدرك الجمال أنى يكون ويحبه بكل قواه، ولكن هذا الإغرام أو الحب لا يخلق منه رساماً أو مصوراً. فالمصور لابد له من معرفة قواعد التصوير، وخواص الألوان ومزجها ونتيجة أخلاطها، وأنواع الأوراق والمواد التي يستعملها في تصويره، وأصناف الفراجين التي يستخدمها وهلم جرا. هذا إلى الهبة الطبيعية التي تكون فيه. والأمر كذلك في الحكم؛ فليس يكفي أن يكون الحاكم ذا ميول خلقية نبيلة كحبه للعدل والسلم، لا، بل لابد من أن يعرف أصول السياسة، وحوادث العالم اليومية، العالم الذي سيطبق فيه أصول سياسته. فأمر السياسة العالمية الخارجية إذاً ليس من السهولة بحيث يمكن أن يصير المرء بها وفيها خبيراً. ولهذا لا أفهم كيف يستطيع مواطنوك أن ينقدوا سياسة الحكومة وأن يوجهوها

المربي: إن المواطنين لا يستطيعون طبعاً أن يفهموا دقائق الأمور، ولا أن يتعدوها أو يغيروها، ولكنهم يستطيعون أن يقرروا اتجاهات السياسة العامة التي يجب أن تتبعها الحكومة

أفلاطون: أخالفك في هذا. لأن الاتجاهات العامة من المكان والأهمية بحيث تحتاج إلى فيلسوف لحل معضلاتها التي هي معضلات الحرب والسلم، والاعتداء والدفاع، ولكن مهما يكن من الأمر فلنترك بحث السياسة الخارجية، ولنرجع إلى موضوع إصلاحاتكم في التربية ونظمها. لقد ذكرت في حوارك أن غايتكم المثلى في التربية هي أن تكون عامة لكل أفراد الشعب، ولعلي لا أكون بعيداً عن الصواب إذا قلت إنك تريد (أن تكون فرص التربية

ص: 19

والتعليم للجميع سواء). فما الذي تريد أن تصل إليه بهذا كله!؟

(يتبع)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 20

‌عراك في غير معترك

وحكايات أخرى. . .

للأستاذ محمد متولي

ذات صيف، إذ كنت صبياً في المدرسة الابتدائية، وكنت في الريف أقضي عطلتي، صادفت الليلة الختامية للاحتفال بمولد أحد الأولياء هناك، وذهبت أجوس خلال حلقات الذكر ليلتئذ، فإذا (مجذوب) ناحل هزيل، مأخوذ بشعور ما، يهذي بما هو أشبه بالدمدمة أو (الهلضمة) منه إلى الكلام الواضح المفهوم، بينما وقف بجانبه فتى شاب يصلح من شأنه وهو يقول له:(وحّد الله وحد الله. . .) ودفعني فضول المعرفة فرفعت قامتي القصيرة إلى الفتى وسألته: (الراجل دا بيقول إيه؟) فأجابني في ابتسام وإشفاق أنه يتكلم (اللاوندي)

ولقد كنت أنتظر من صديقي الأستاذ زكي طليمات، بعد أن لفته في مقالي السابق إلى وجوب (موضوعية) كلامنا، كنت أنتظر من هذا الصديق أن يكون أكثر لباقة فلا يدفعه الدكتور بشر في المزالق فيندفع وينزلق ويتورط في مسائل علمية وفنية، ويشط بعيداً، ويجيئنا بحكايات متناثرة متنافرة مشحونة بالزيف والبهرج، حتى لقد غُمض فحسبته، أول الأمر، يقصد بألفاظه إلى رموز خاصة بنفسه، كما في الصوفية؛ وصخب فخلته يتكلم ذلك (اللاوندي) الذي سمعت في حلقة الذكر منذ ربع قرن من الزمان، وجئت أردد له قول صاحبي الريفي:(وحد الله. . . وحد الله. . .)

كان العراك بين جبهتي بشر فارس والشاعر علي محمود طه في غير معترك، ولكن الأستاذ زكي لم ير هذا، لأنه لم يتفق معنا على أن (النقد الفني) يجب أن يقتصر على تبيين قيمة (الصورة) التي يقدمها الفنان كإبداع له وحدته، بخلاف ما كان بين الجبهتين من خلط وتنابذ واتهام. إنما يتصور الأستاذ أني قصدت بتقريري أن (العراك كان في غير معترك) كون رواية (مفرق الطريق) تافهة ممسوخة، وأنا لم أرد غير ما رأيته من ضلال الجماعتين (أصول النقد) فليس ذنبي أن قصر فهم صديقي دون إدراك غرضي في تلك العبارة، وهو قريب بيّن

وأحببت أن يكون العراك في معترك، فبينت أن رواية بشر ليست من الرمزية في شيء، كما دللت على أن الدكتور المؤلف لا يفرق بين (رموز الصوفية) و (رموز الفن)، مع أنهما

ص: 21

عمليتان تختلفان (سيكلوجياً)؛ ولكن بشراً وزكياً عقدا جلستهما وقررا كتابة الرد على هذا الرأي، ولعل لذة المعرفة فاتتهما، أو لعل غريزة (حب الغلبة) غلبتهما فحجبت جمال المعرفة عن بصيرتيهما، فنسيا موضوع الكلام وراحا يتفلسفان ويتعالمان!

وحدّ الموضوع كما قلنا - وكما يقرر (ريبو) - هو أن الرمزية في الفن (تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء تمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما ندري أين حصلت ولا متى؛ فلا هي (تمت) بصلة لأي بلد، ولا هي تمثل عصراً بذاته). والدكتور بشر يعرض علينا، في مفرق الطريق، صورة محلية (تجري حوادثها في مصر في أحد شوارعها، أمام صف من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تصاب في الأحياء القديمة). فهل حاول أحد الفارسين أن ينقض هذا التحديد الذي يجرد مسرحيتهما من صفة الرمزية؟!

اللهم لا شيء من ذلك، ولكن بشراً يدفع زكياً ليقول أشياء لامعة، ويذكر أسماء رنانة بينها وبين مسألتنا من البعد قدر ما بين الدكتور بشر ومفهوم الرمزية في الفن. وهذه الأشياء هي الحكايات التي استنبتها الفارسان على هامش المسألة، والتي أتناولها الآن بالتفنيد للتدليل على ما ذهبت إليه من أن صاحبينا يجترئان ويتأملان كتب الفلسفة والفن بالاجتهاد، ويقرآنها كما يقرآن روايات الجيب - مثلاً - فيزلاّن ويقعان فيما يجب ألا يقع فيه المخلصون في طلب المعرفة

وإذن ندور حول الموضوع تمشياً مع منطق الأستاذ طليمات ونعتذر عن هذا اللغو لأستاذنا صاحب الرسالة، ونعده ألاّ نعود إلى الكلام (خارج الموضوع) مهما يقل بشر أو زكي أو غيرهما

1 -

استهل زكي مناقشته بنص للمستشرق (بروكلمن) وساقه برهاناً على أن مسرحية بشر عمل أدبي، وترجمة ذلك النص الدقيقة هي (نحن هنا في بداية تطور هو تجديد يمكن أن يؤثر في الحياة الأدبية، بعد نضال عنيف) وهذا النص بذاته برهان على أن الرواية (محاولة) فجة، إذا صدقنا أن (بروكلمن) يمكن أن يقدم (دراسة) لعمل أدبي في بعض صفحة من القطع المتوسط، ولكن الواقع أن هذا المستشرق يعرض المسائل عرضاً تاريخياً بسيطاً، ثم هو كالأستاذ زكي لا يحسن النظر في الأشياء ويتورط في أحكامه، لأن بشراً قدم

ص: 22

روايته عملاً مطبوخاً وغير ناضج عام 1938 فيما أذكر، بعد أن قدم توفيق الحكيم (شهرزاد) عام 1934 مثلاً رفيعاً للأدب الرمزي، ليس في أدبنا وحده، ولكن في جميع الآداب، فكيف لا نصف (بروكلمن) بالغفلة إذا اعتبر مفرق الطريق (بداية تطور) مع أننا قبل ذلك وصلنا إلى غاية الغاية برواية توفيق الحكيم؟!

2 -

والمسألة عند زكي (محصورة فيما إذا كان بشر قد استلهم في كتابة مسرحيته. . . من (كذا) الفيلسوف (كانت). أو هو استوحى فلسفة برجسون، وهذا الحصر مرفوض لأنه لا معنى له عند من (يشعر) بمعنى الإيحاء أو الإلهام و (يعرف) طريق النظر في أية فلسفة، وكذلك هذا الحصر ليس إلا لفاً حول الموضوع ورجوعاً إلى (الخناقة على اللحاف)

3 -

والأستاذ زكي يصف أسلوبه بأنه (أوضح وأدنى إلى الثقافة العربية) وأنا لم أعرف أني (مستشرق) وإذا كانت المصطلحات الفلسفية غريبة على ثقافته، فليس هذا من خطئي ولا هو مما يدعوني إلى أن أسوق له عبارات مبتذلة كي يفقه قولي. وعلى أي حال، كنا نحب أن نحمد الله لأنه (لم يغب عن ذهن زكي) التفريق بين (الصورة) و (الفكرة) في الفن، لولا أنه عاد فقال إن (اقتصار الفن على الصورة أو الشكل لا يعني أن يكون هناك فن رفيع وفن رخيص، وفن أصيل مبتكر وفن متبع مقلد، وشاعر يسرق وكاتب يستمد) قال هذا فبدا لنا عقله كصندوق حروف، ورأيناه هو كأنه (مطبعجي) يرص الحروف وهو لا يقصد من ورائها إلى معنى في نفسه محسوس، ذلك أن الفن يجب أن يكون رفيعاً، وإلا فهو تهريج لا نسميه فناً، ويجب أن يفيض عن الروح طريفاً لطيفاً، وإلا فهو شيء صناعي لا حياة فيه؛ أما عبارة الشاعر الذي يسرق والكاتب الذي يستمد، فقد نرجو إعادة حروفها إلى (الصندوق) إذا كان ممكناً، فلا يقرؤها الناس فيسيئوا الظن بصديقي المعروف من أهل الفن

4 -

ويحدثنا الأستاذ طليمات عن (شرائط الفن المقطوع بها) في المسرحية، ويحددها بأنها (مراعاة بلاغة العرض لحوادثها وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار ولطفه، وعمق التفكير وانسيابه إلى أعماق النفس يكشف عن خفاياها)؛ وهذا الحديث يذكرنا بذلك الطراز من نقاد المدرسة القديمة الذين يحتفظون بعدد من (الكليشيهات) يضيفونها إلى أسماء الشعراء والأدباء، من غير نظر ولا تأمل، فإذا الفرق بين شاعر وشاعر أن هذا (جزل

ص: 23

الألفاظ)، وأن ذاك (سلس الأسلوب)، وأن الآخر (حسن الديباجة). زكي معذور في هذا، لأنه يتصور الفن تصوراً (ميكانيكياً) لا أثر فيه للعاطفة، فيبتدع تلك (الشرائط) ويقطع بها وحده، ويحاول أن يفرضها علينا قبل أن يطبقها، ولو استطاع تطبيقها لما انطبقت إلا على الرواية الفاسدة التي لا يمكن أن تصدر عن روح فنان، وإنما يخرجها (مصنع تزييف)

5 -

ولقد كان الأستاذ زكي يستطيع أن يصفني بالتفلسف لو أنني أخذته إلى مجاهل ما وراء الطبيعة، ورحت أحدثه في نظرية المعرفة عند (كانت) أو (برجسون)، بينما نحن نتكلم في مسألة فنية، ولكني أردت أن أهديه سواء السبيل، فأخذت بيده إلى علم الجمال الذي موضوعه الفن، وبدلاً من أن يبهره هذا النور الجديد رأيته، كالتلميذ الكسلان، يركب رأسه، ويأبى متابعتي؛ بل رأيته أكثر من هذا يطالبني بأن أترك مصطلحات علم الجمال إلى ما يدعي أن رجال المسرح اصطلحوا عليه حتى يكون قولي قائماً على الدقة والإحكام في نظره. يطالبني بهذا الكفر، وليته كان صادقاً، فرجال المسرح لم يصطلحوا على شيء اسمه (الرمزية الفنية)، وهذا الشيء لا وجود له إلا في (صندوق حروف) الأستاذ المخرج الممثل

6 -

وفي هذه الحُزُون، يصل الأستاذ زكي إلى الهاوية السحيقة، ويدفعه بشر، ويسقط، فإذا هو مبقور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن، ثم هو، مع ذلك كله، يأسف من أجلي راثياً لأني لم أتعقب (المراحل الحديثة التي مر بها علم النفس بعد العهد الذي ألف فيه (ريبو). . .) ولأني لم أعرف (أن علم النفس الذي أفادت منه الرمزية كثيراً قد دخل في طور جديد تبدلت على أثره أوضاع في الأدب عامة وفي الرمزية خاصة) وبعد الأسف والرثاء (يود) الأستاذ العالم أن نقف (على آراء علماء اليوم فيما كتبه (ريبو) خاصاً بالمخيلة. . . وذلك كما وردت (كذا) في مؤلف كبير يدرس اليوم في جامعة السوربون بباريس) ويزيّف علينا أن (وليم جيمس) يقول في هذا الكتاب:(يلوح لنا أن علم النفس عند ريبو في مسائل المخيلة والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة) وأخيراً لا ينسى حضرته أن يصف وليم جيمس بأنه (الفيلسوف الأمريكي المعاصر)

ولو أمكن إيجاد محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته وتعاقبهم على

ص: 24

جناياتهم، لو أمكن إيجاد هذه المحكمة وقدمنا لها هذا الكلام الذي يرسله صديقي زكي إرسالاً، إذن لحكمت عليه بالحرمان الأبدي من القراءة والكتابة، ولحكمت على الدكتور بشر بسحب شهادته بتهمة التحريض والإفساد

أما أنا فأؤكد للأستاذ زكي أني أعرف موضوعي لدرجة تسمح لي أن أصحح له ولشريكه تلك الأوهام التي يعيشان فيها؛ فليسمع، أو ليسمعا

(أ)(وليم جيمس) ليس معاصراً، بل هو متوفى عام 1910، أي منذ ثلاثين عاماً، بينما (ريبو) متوفى عام 1916

(ب) ألـ (طبعة 1923 - 24 ذات الثلاثة الأجزاء) التي يعتمد عليها زكي وبشر أصبحت منسوخة لأنها تطبع الآن في تسعة أجزاء بزيادات وتفصيلات، وقد ظهر الجزء الخامس منها عام 1936، وظهرت قبيل الحرب أجزاء لا علم لي بها

(ج) لو أن الأستاذ زكي ذو عهد بالدراسة الجامعية لما قال إن كتابا يدرس بجامعة السوربون، كما تقرر الكتب في المدارس الابتدائية والثانوية، ولعرف أن أي كتاب يمكن أن يدخل الجامعة إنما ليقلب ويجرح، حتى ولو كان مؤلفه زكي طليمات

(د)(ريبو) الذي لا يرضي زكي طليمات، هو الذي عرف قدره فاختاره ليكتب مقدمة الـ واعترف بفضله فأهدى السفر إلى ذكراه بعد موته

(هـ) لا وجود لكلمة (المخيلة)، ولا وجود لكلمة (الاختراع) في النص الذي ينقله زكي عن (وليم جيمس). وإذا كان هذا النص مذكوراً في باب (الاختراع) فقد جاء في عرض (جيمس) لوصف العملية الفسيولوجية لتداعي الخواطر ' عند (ريبو)(راجع ص20 في كتاب ' ولكن زكي يفتي فيما لا يدري فيضطر إلى تزييف هذا النص الذي يتعلق بمسألة (بسيكوفيزيولوجية) ولا يتعرض للظاهرة النفسية ذاتها، والذي يدل على مكان فيلسوفنا العظيم ولكن من يقرأ؟! قال (وليم جيمس)

' ، ' - ' - ، '

(و) مفهوم علم النفس عند الأستاذ زكي شعبي خاطئ لا يزيد على ما نسمعه من بعض زبائن (قهوة بيرون) لأنه يفهم أن الرمزية (أفادت من علم النفس) والأمر بالعكس، فهذا العلم الذي موضوعه ظواهر النفس هو الذي أفاد من وجود الرمزية.

ص: 25

7 -

وأنا لم أستنكر أن يحاول صديقي زكي أن يناقشني في مسائل الفن والفلسفة، فهل هو يستكبر إذا فسرت له نصاً فلسفياً لم يفهمه فأفسد ترجمته؟ (راجع النص الفرنسي وترجمة زكي ص1548 - العدد 379 من الرسالة) رضى أو لم يرض فواجبنا يحتم أن نعلمه أن الرمزية الميتافيزيقية (الفلسفية عند (ريبو) هي الرمزية الفنية التي يتكلم عنها الفيلسوف نفسه في صفحتي 169 - 170 من كتابه ' ولو أدرك زكي أنه لا وجود لغير نوعين من الرمزية، لعرف أن الرمزية الميتافيزقية، أو الفلسفية، هي بعينها الفنية، ولا استطاع أن يفهم (ريبو) ويترجمه في أمانة؛ وإلا فهل وجد هو (ريبو) يذكر اصطلاح في أي فصل من فصول كتابه؟!

إن زكي في حيرته ودورانه يدعي أني (أخلط خلطاً صريحاً) بين الرمزية الفنية وبين ما يسميه (رمزية ما وراء الطبيعة)؛ فهل يتفضل الزميل بأن يفسر لنا هذه الرمزية الثالثة التي يضيفها إلى النفس الإنسانية وكأنه يريد أن نتصور إنساناً بثلاث أرجل أو عيون مثلاً؟!

8 -

بقي أن نهمس في أذن الصديق زكي أن تاريخ الرمزية الفنية، هو تاريخ تطور العقل البشري، وأن هذه الرمزية إذا كانت قد بلغت بهذه الصور المركبة، فهي قد بدأت بالأساطير في أحضان الدين، بل يرجع تاريخها إلى ابتداع الحروف الأبجدية كرموز تدل على أصوات، وهي في جميع مراحلها تقوم على أساس (سيكلوجي) واحد. والفرق بين هذه الرمزية وبين الرمزية الصوفية هو أن الأخيرة تعتمد على رموز شخصية ينتزعها الصوفي من نفسه انتزاعاً ليس فيه أي عنصر عقلي، ولهذا السبب لا يفهمها أحد غيره، بينما الرمزية الفنية تقوم على رموز تنتزع من الحياة العامة، فتكون عند جميع العقول

ولقد أكتفي بهذا القدر لأن الأستاذين زكيا وبشرا يذهبان في مناقشتي على غير أساس من العلم الوضعي، مما أشاع الغلط والسفسطة في كل سطر كتبه زكي، ومما جعل المناقشة معهما سقيمة عقيمة؛ فإلى أن يجدا ما يقولانه في (الموضوع) سيجدانني في كل لحظة مستعداً لتقديم كل ما يحتاجانه لدراسة الرمزية وفهمها، على أن يعاهدني الدكتور بشر ألا يحاول التأليف، فليس الفن قواعد وتطبيقات، إنما الفن فيض من عند الله، يؤتيه من يشاء

محمد متولي

ص: 26

ماجستير في الفلسفة

ومفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف

ص: 27

‌نفثات

أماه. . .

للأستاذ سيد قطب

من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟ ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟

إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان؛ بل أصبحوا يقولون: هذا فلان وهذا أخوه، وهاتان أختاه!

اليوم فقط مات أبي؛ واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً، وإني لأضم اليوم إلى صدري ابنكما وابنتيكما. أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة، وأشعرهم بالرعاية. ولكن هيهات هيهات. فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه!

لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء، وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك معهم، لأنني قوي بك. أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل!

إن الشوط لطويل، وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!

والعش الذي خلفته ستظل فراخه زُغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء

نحن اليوم غرباء يا أماه

لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات؛ وكنا نشبّه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكّثر من فروعها، لتتقي الاندثار في غربتها

أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى أصلها، بعد اغترابها من تربتها، وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!

أماه. . .

ص: 28

لقد امتلأ حسي إرهاصاً بالكارثة قبيل وقوعها، يوم لم يكن يبدو في الأفق نذير بها. ولقد حدثت بهذا الإحساس بعض الإخوان فعجبوا من أمري، وحسبوها وسوسة الشعراء. وقد ناديتها مراراً:(أقبلي أقبلي لطال انتظاري!). ولكنني لم أكن أتخيل الكارثة فجيعة فيك. لقد دعوتها لتقبل وأنا قوي بك، فكم من كوارث صمدت لها وأنا معتصم بركنك الركين!

لقد تمتمت قبل الكارثة بليلتين اثنتين أقول: كم أنا في حاجة لمن يربت على كتفي ويضمني إلى أحضانه! ولقد دعوتني مرة - في دعابة من دعاباتك الحلوة - أن آوي إلى حضنك كما كنت طفلاً. وكم كنت مشوقاً لتلبية دعوتك، لولا الكبرياء، الكبرياء التي أودعتها نفسي منذ الطفولة، فجعلتني أهرب من كل مظاهر الطفولة. ولو علمت ساعتها يا أماه أنك راحلة لنسيت كل تعاليمك لأرتمي لحظة واحدة في حضنك الرفيق. . . كما كنت طفلاً!

أماه. . .

من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟

لقد كنت تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً. وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسج خيالك ووحي جنانك. فمنذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومنذا يوحي إلي بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟

منذا الذي يصوغ لي الأحلام الذهبية في الآمال، ويبني لي قصور المجد في الخيال، فتصح الأحلام بعد لحظة، ويتجسم الخيال بعد برهة، لأنك تنفخين فيها من حرارة القلب، وتوسوسين لها برُقى الإيمان، وتسكبين عليها إكسير الوجدان

لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن ذا الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟

قد يفرح لي الكثيرون، وقد يحبني الكثيرون. . . ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده؛ وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي وحب نفسك في نفسي. . .!

أماه. . .

ص: 29

عندي لك أنباء كثيرة، كثيرة جداً ومتزاحمة، تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك. وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدّثك بما جدّ في غيبتك من أحداث؛ وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات، فسيدركها الفناء الأبدي، وستغدو إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى. . .!

أماه. . . أماه. . . أماه. . . . . .

(حلوان)

ابنك المفجوع

سيد قطب

ص: 30

‌سيجموند فرويد

العالم النفساني الكبير

للأستاذ صديق شيبوب

- 3 -

العقل الباطن سر من أسرار النفس المغلقة التي يصعب الوصول إليها وإماطة اللثام عنها، وكان الأطباء يلجئون إلى التنويم المغناطيسي في أول الأمر لشفاء داء الهستيريا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ولكن (فرويد) أبى الأخذ بهذه الطريقة وقرر ثلاث وسائل يستطاع بها معرفة دخائل العقل الباطن. فإما بانتزاع السر عنوة وقوة كما كان يفعل رجال التحقيق في القرون الغابرة، وإما بتقريب الأدلة وحل ألغاز العواطف المكبوتة وتحليل بعض الظواهر، وإما بالانتظار والصبر حتى تطرأ على المريض حالة ضعف عرضية فيبوح بسره

عندما ابتدأ فرويد اختباراته اكتشف ظاهرة لم ينتبه إليها أحد من قبله، وهي ما أسماه (الأفعال الفائتة). ذلك أن الإنسان كثيراً ما يخطئ التعبير فيقول كلمة وهو يريد ضدها، أو يدلي بأمر وهو يقصد عكسه، وكان العلماء الأقدمون، كما كانت عامة الناس، يعزون هذه الأخطاء للغفلة أو الالتباس أو قلة الانتباه. أما (فرويد) فقد رأى أن الغفلة أو الالتباس معناهما أن أفكار الإنسان ليست حيث يريدها أن تكون. ففي (الفعل الفائت) فعل قام مقام آخر، وهذا الأخير هو الذي كان المراد إتيانه. قد تدخل إذن فجأة بين الإنسان وعمله عنصر ثالث حال دون القيام به وفقاً لإرادته. فإذا عرفنا أن لكل حادث نفسي معنى مقصوداً كما أن لكل فعل فاعلاً، وأن العقل الواعي ليس العامل الصحيح في (الفعل الفائت) لأن العقل الباطن طغى عليه فيه، قدّرنا أن الفعل الفائت ليس نتيجة غفلة أو التباس ولكنه دليل على ظهور عاطفة مكبوتة، والخطأ في الحديث يدل على صميم فكرنا بينما تصحيحه لا يدل إلا على ما يقصده إليه وعينا

وهكذا نستطيع أن نقرر أولاً: أن كل فعل فائت وكل عمل يظهر أنه نتيجة خطأ إنما يعبران عن إرادة خفية، وثانياً: أنه يوجد في المنطقة الواعية مقاومة فعالة لمظاهر العقل

ص: 31

الباطن

وقد اندفع (فرويد) في التحليل بعد تقرير هذه المظاهرة ليفسر ظواهر وأعراضاً أخرى كان يظن أنها ضرب من المحال حتى انتهى إلى أشدها إمعاناً في المحال وهي الأحلام

كان الأقدمون يعتقدون في إيمانهم الخرافي أن الأحلام ضرب من وحي الآلهة، فاستحدثوا في أوائل عهد الإنسانية علم تفسير الأحلام، وشاع في هياكل مصر وبلاد اليونان والرومان وفلسطين. ثم زال هذا الاعتقاد وصارت الأحلام أضغاثاً لا معنى لها ولا قصد، وصار ينظر إليها كسديم، أو كشيء لا قيمة له، أو أنها ذبذبة متأخرة خرساء توقع على أوتار الجهاز العصبي، أو أنها نتيجة عدم انتظام الحركة الدموية واندفاع الدم إلى الدماغ

ولكن (فرويد) رأى غير ذلك، فنظر إلى الأحلام نظرة وضعية، وقرر أنها الوسيط بين عواطفنا المكبوتة والعواطف الخاضعة للفكر، وقال إن الحلم ليس كله محالاً، ولكن لكل واحد معناه الخاص به من حيث هو فعل نفسي كامل

صحيح أن الأحلام لا تعبر باللسان الذي تعودنا النطق به في ساعات اليقظة، لأنها لغتها لغة أعماق الطبيعة غير الواعية؛ لذلك لا نستطيع أن نفهم فهماً مباشراً معناها ورسالتها، ويجب أن نتعلم وسائل تفسيرها، ولغة الأحلام تعبر بوسائل الصور كما كانت تكتب اللغات القديمة

رمى (فرويد) من تفسير الأحلام إلى قصد جديد. كان الأقدمون يحاولون بواسطة هذا التفسير الكشف عن المستقبل، أما فرويد فقد أراد الكشف عن الماضي النفسي وأسرار الإنسان العميقة، لأن (الذات) في الحلم مثلنا شكلا في حالة اليقظة، ولكنها تختلف عنا من حيث انعدام الزمان، فهي في ساعات الحلم يستوي لديها الماضي والحاضر، أي أنه يجتمع في الحلم الطفل والمراهق ورجل الأمس ورجل اليوم مما تتألف منه (الذات) الكاملة

كل حياة مزدوجة إذن، ففي الأعماق غير الواعية تتألف المجموعة الصحيحة من الأمس الدابر إلى اليوم الحاضر، ومن الرجل الأولي إلى الرجل المتحضر، بينما تطفو على السطح الحياة المستنيرة والذات الواعية القائمة في الزمان

تلتقي هاتان الحياتان في حرية كاملة في عالم الأحلام الذي يعبر تماماً عن أدق عناصر حياتنا، بحيث لا يستطاع معرفة مجموعة حياتنا الزمنية التي تتألف منها شخصيتنا، ولا

ص: 32

فهم مرامي إرادتنا، إلا إذا تمعنا جيداً في مغزى أحلامنا

ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وضع (فرويد) طريقة لحل الأحلام المعقدة، فابتدأ بالسهلة البسيطة منها ثم قارب بين الشكل الأول والشكل الأخير؛ والأحلام كالزهرة التي لا تعرف حقيقتها إلا بعد درس أصولها المغروسة

ابتدأ (فرويد) بأحلام الطفل الصغير بدلاً من أن يبتدئ بأحلام المراهق، لأن الطفل الصغير لا يعي بينما المراهق يعي ويكتب؛ والطفل الصغير لا يكتنز خياله إلا أشياء قليلة، ودائرة تفكيره ضيقة، والتداعي ضئيل لديه، مما يجعل أحلامه سهلة المنال بالتفسير. يرى الطفل الحلوى فيلح في طلبها، فإذا رفض والده أو أبت والدته مشتراها، رآها في الحلم كما هي لأنه لا يفهم الخير من الشر. إنه يظهر رغباته بلا خشية كما يكشف عن جسمه بلا حياء

والأمر عكس ذلك عند المراهق فما فوق؛ فصور الأحلام الرمزية تخفي في أغلب الأحيان شهوات مكبوتة ورغبات لم تتحقق في النهار فتتخذ سبيلها إلى حياتنا عن طريق عالم الأحلام

هذا ما فهمته العامة من طريقة (فرويد) في تفسير الأحلام ولكنه في الحقيقة لم يقف عند هذا الاكتشاف السهل لأنه يعرف أن الإنسان خاضع للعقل الواعي حتى في أوقات النوم عندما يستسلم لعالم الأحلام. ففي الأحلام توجد عواطف تحاول أن تظهر ولكنها لا تجرؤ على ذلك في حرية خوفاً من المراقبة فتتحول إلى رموز في شكل دقيق والتواء مقصود وتختلط بضروب من المحال كيلا يظهر معناها الحقيقي، والحلم كالشاعر كاذب صادق، لأنه يخفي الحادث النفسي وراء مظاهر رمزية. ومهمة العالم النفساني أن يحل هذه الرموز وأن يفرق بين الصحيح والكاذب منها وأن يبحث عن الحقيقة من وراء مظاهرها الكاذبة

يريد (فرويد) أن يكون البحث علمياً وأن يكون عمل الطبيب كعمل الناقد الأدبي في دراسة ديوان من الشعر. فكما يحاول الناقد الفصل بين خيال الشاعر وبين المعنى المقصود والبحث عن أسباب استعمال الاستعارات والتوريات والتشابيه والوصول إلى نفسية الشاعر الكامنة وراءه، كذلك يجب أن يفعل الطبيب النفساني لأن عليه أن يبحث في الحلم الخيالي عن دوافع المريض الشعورية. ولما كانت غاية علم التحليل النفسي معرفة الشخصية فإن على العالم أن يستخدم مواهب الإنسان الخيالية، وأن يدرس العناصر التي تألف منها الحلم،

ص: 33

وأن يمعن تفكيراً وتحليلاً حتى يصل إلى الحقيقة

وهناك نظرية أخرى عرض لها فرويد لتدعيم رأيه

من المقرر أن النوم وسيلة طبيعية للراحة وتجديد القوى التي تستنفدها اليقظة. فيجب أن يكون النوم إذن سباتاً عميقاً في ظلام لا ينقطع. وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى إذن للأحلام، وهذا ما قرره الكثيرون من العلماء. ولكن (فرويد) رأى فيها وسيلة للتفريج عن العواطف والشهوات المكبوتة وتحريرها من حكم العقل وسيطرته عليها. وهكذا تقوم الأحلام مقام الأفعال التي أبينا إتيانها في اليقظة. وقد قال أفلاطون:(يكتفي الرجل الصالح بأن يحلم بما يفعله الرجل الشرير في اليقظة)

هذه هي النظريات الأساسية التي بنى عليها (فرويد) علم تفسير الأحلام. وقد أبينا شرح وسائل هذا العلم وطرق التفسير لأنها كثيرة متشعبة، وهي في مجملها متروكة لفطنة الطبيب وذكائه

على أن الحلم ليس الوسيلة الوحيدة لتعرف شخصية المريض وشهواته المكبوتة. فهناك طريقة أخرى يقول (فرويد) بأن العالم النفساني يستطيع أن يمارسها في كثير من الدقة والصبر، وهي أن يفسح المجال للمريض ليتحدث بكل ما يمر بخاطره من غير إمعان فكر أو تحكيم عقل

يستلقي المريض على مقعد طويل بينما يجلس الطبيب إلى مكتبه بحيث لا يراه المريض الذي يجب أن ينسى حضوره. ثم يأخذ المريض بالكلام يلقيه على عواهنه فيدلي بكل بادرة تمر بذهنه، بينما يصغي إليه الطبيب ويلاحظ ما يجد فيه دلالة على حالة مريضه

ولاشك أن هذه الطريقة صعبة وخطرة لأن المريض الذي تعود الكبت قد لا يبوح بكل خلجات ضميره، ولأن العقل الواعي يسيطر أبداً على اللسان بالرغم من إرادة الإنسان، ولأن المريض كثيراً ما يكون قد أعد قصته ليرويها للطبيب فلا يستطيع الانفكاك من أثرها

لذلك يجب أن يطول المجلس وأن يتكرر أكثر من مرة، وأن يتذرع الطبيب بالصبر الطويل حتى ينفد صبر المريض فتجري على لسانه ألفاظ يستطيع الطبيب بواسطتها أن يتعرف إلى حقيقة الداء. والأمر بعد ذلك موكول إلى مهارة الطبيب وذكائه

صديق شيبوب

ص: 34

‌رسالة الشعر

أصداء الحب

للأستاذ أنور العطار

خَاطِرِي جَدْوَلُ تَرَقْرَق أَلْحَا

ناً وَقَلْبِي عُشٌّ يَمُوجُ غِنَاَء

وَبِنَفْسِي قَصِيدَةٌ أنا مِنْهَا

ثمِلٌ ما تُفيقُ رُوحي انْتِشاَء

كُلَّماَ رَنَّ هَمْسُهاَ في ضُلوعي

صَفَّقَ الْقَلْبُ واسْتَحَالَ نِدَاء

يا حَبيبي أَرَاكَ في نِعْمَةِ الذِّكْ

رى فأَصْبُو شَوْقاً وَأَهْفُو لِقاََء

عِشْ بِقَلْبِي لَحْناً عَلَى الدَّهْرِ حُلْواً

واسْرِ في حُلْمِيَ الشَّجِيِّ صَفاَء

أَتَرِعِ الروحَ بَهْجَةً وَائْتِلَاقاً

وَامْلأ النَّفْسَ فَرْحَةً وازْدِهَاَء

تَتَراَءى فَيَعْبَقُ الْكَوْنُ بُالْعِطْ

رِ وَيَخْتاَلُ جَنَّةً غَنَّاَء

وَظِلَالاً يُنَغِّمُ الْحُبُّ فيها

وَيَذُوبُ السَّنَا بها أَنْدَاَء

أَنْتَ لي عَاَلمٌ يَمُوجُ مِنَ الزَّهْ

وِ وَدُنْياَ تَأَلَّقَتْ أَفْيَاَء

وَمُنىً تَسْكُبُ الرَّغادةَ في الْقَلَ

بِ وَتُحْيِي في ناظِرَيَّ الرَّجَاءِ

وَتُعيدُ الْحَيَاةَ جَمْرَةَ شَوْقٍ

وَهْجُهَا يَمْلأُ الوُجُودَ ضِيَاَء

يا حَبيبي تَرِنُّ في الْقَلْبِ أَصْدَا

ءٌ وبالْقَلْبِ أَفْتَدِي الأَصْدَاءِ

وَدَّتِ الْعَينُ أَنَّهاَ تَسْمَعُ الْهَمْ

سَ وَتَحْياَ عَلَى المَدَى عَمْياَء

تَحْسُدُ الأُذْنَ أَنْ يُهَدْهِدَهَا اللَّحْ

نُ وَتَفْنَى في سِحْرِهِ إِصْغَاء

يا هَوَايَ الْقَدِيمَ جَدَّدْتَ دَائَي

فَتَفَجَّرْتُ مِنْ أَسَايَ بُكَاَء

أنور العطار

ص: 36

‌الشاطئ والحرب

عودة إلى الشاطئ!

للأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن

عدتُ واللهفةُ تدعوني إليكْ

عودةَ المخذولِ من ساح الحروبِ

أذكرُ الأمسَ وأيامي لديكْ

علَّ في الذكرى شِفاء لنُدوبي

زاحفُ الأحداثِ قد أخنى عليك

وخطوبٌ جئنَ في إثرِ خطوب

كل سحر قد تولى

وتوارى عن عيوني

لم يعدْ للقلبِ إلا

ذكرياتي وحنيني

هذه الصخرة بالأمس جلسنا

فوقها نرعى العهودَ الباسماتْ

وعلى أقدامِنا الموجُ يغني

باعثاً في الشط عذب النغماتْ

هاهنا نامت عيونُ الدهر عنا

بعض حين والأماني راقصاتْ

هاهنا في كل منحى معهدُ

ترقصُ الذكرى به أو تقعدُ

وأنا الذكرى التي لا تنفد

يا حبيبي كيف تصفو لي الليالي

والذي كان تولى واندثرْ

أترى تهفو لأيامي الخوالي

وعهودٍ هُنَّ في عمرِ الزهَرْ

نتغنى بالمنى فوق الرمال

ونسيم الود مجلو عَطِرْ

هاهو الموجُ عبوسٌ مزبدُ

هاهو الشاطئُ جسمٌ هامد

وأنا وحدي شقي واجد

كل سحر قد تولى

وتوارى عن عيوني

لم يعد للقلب إلا

ذكرياتي وحنيني

عدت واللهفةُ تدعوني إليك

وبقلبي ما بقلبي من وجيبِ

ذاكراً عهداً قضيناه لدَيْك

آهِ ما أحلاه من عهدٍ حبيب

زاحفُ الأحداث قد أخنى عليك

وخطوبٌ جِئْنَ في إثرِ خطوب

ص: 37

(الإسكندرية)

مصطفى علي عبد الرحمن

ص: 38

‌رسالة الفن

عهد جديد:

يوم القيامة - مايسة

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

1 -

يوم القيامة

منذ أنشئت الفرقة القومية وهي تعد الناس بأنها ستقدم لهم في يوم من الأيام أوبرا أو أوبريت، ولكنها لم تبر بوعدها هذا إلا اليوم فقط، ويقال إنها كانت مترددة إلى حد كبير في البر بوعدها هذا؛ ويقال إن عمر جميعي لاقى صعوبات جمة حتى استطاع أن يقنع ولاة الأمور في الفرقة وفي وزارة المعارف بأن إخراج الأوبرا أو الأوبريت شيء لا خطر فيه ولا خوف منه؛ ويقال إن هذه الصعوبات لم تزلل إلا بعد أن كتبت تقارير، وألفت لجان، وعرضت أبحاث، وتبدت وجهات مختلفة للنظر، وتضاربت وجهات النظر المختلفة هذه تضارباً حكومياً ممتازاً. . . ثم انتهى الأمر أخيراً بأن قال ولاة الأمور: لا بأس في أن نجرب هذا النوع لعله يفتح للفرقة فتحاً جديداً، ولعله يقربها من الجمهور تقريباً. . .

ولقد كان. . . وأذن الله سبحانه وتعالى لنا بأن نسمع من الفرقة القومية ألحاناً. . .

القصة:

قال الوالي للأهالي: إن يوم القيامة سيقوم يوم الجمعة المقبل فحزن الذين لهم بسمت الدنيا، وفرح الذين كشرت لهم الدنيا عن أنيابها، وتصدق كثيرون بأموالهم، وفزع كثيرون على أرواحهم وارتبكت سوق التجارة، وانخفضت أسعار الحاجات، وزهد الناس في الدنيا، واستغلها الوالي فرصة فجمع الأموال واكتنز الذهب. ثم جاء يوم الجمعة الموعود فلم تقم القيامة ولم ينفخ في الصور ولم تزلزل الأرض زلزالها، ولم تخرج أثقالها، ولم يقل الإنسان ما لها بل قال الناس: ما للإشاعة المزعجة لم تتحقق؟ وقال الأغنياء: ما لنا وزعنا أموالنا؟ وقال الفقراء. يا خيبتنا في رجائنا، ويا مرارة عودتنا إلى بؤسنا وشقائنا. . . ثم هاج الناس، وكان في البلد شيخ مجذوب فضح الوالي وقاد الثور عليه

هذه هي الناحية التاريخية من القصة، وقد دس المؤلف فيها قصة أخرى غرامية ليحليها بها

ص: 39

ويزخرفها، فابتدع عاشقاً ومعشوقة وزواجاً وزفافاً يشبع به شغف الذين لا يطيقون أن يظلوا الساعات يشاهدون قصة ولا يرون فيها امرأة. . .

ولست أريد أن أعرض للرواية من الناحية التاريخية فأبحث وراءها لأخرج من البحث بحكم عن صدقها أو كذبها، فهذا أمر أدعه للمؤرخين والباحثين والقارئين والمطلعين، وفي الصف الأول منهم أستاذي الدكتور زكي مبارك الذي قال لي إن في القصة غلطة تاريخية، وإنه سيدحضها

فليدحضها أو لا يدحضها، فأنا لا يعنيني من القصة شيء أكثر من اللذة الفنية التي أستمتع بها حين مشاهدتها، ولست أنكر أني ذقت لذة فنية سائغة في يوم القيامة، فموضوعها كما رأيت طريف، وحوادثها كما رأيت شاذة، وتأليفها لبق ولذيذ. وهذا كله من نعم الله التي لا أحب أن أتلفها على نفسي بمراجعة التاريخ وأسانيده

الإخراج!

قلت في الأسبوع الماضي إن عمر جميعي أجهد نفسه، وأجهد الممثلين معه إجهاداً مضنياً في إخراج هذه القصة، وأقول اليوم إن هذا الإجهاد قد أثمر ثمرته

وإني أعتقد أن الأوبريت الثانية ستكون أبهى من هذه بإذن الله، وأن الثالثة ستكون أبهى من الثانية، وإن أملي في عمر أمل كبير، وقد يكفيه فخراً أنه كان يسأل كل من يتصل به عما يستطيع أن يبديه له من الملحوظات وعما يمكن أن يدلي به إليه من الاقتراحات، مع أنه يعلم أن هذا السؤال قد يؤول تأويلاً سيئاً، ولكنه أعرض عن هذه الأوهام لأنه أراد أن ينجح، وقد نجح، ومادام متلهفاً إلى النجاح هكذا فسينجح أكثر مما نجح وأكثر

التمثيل

لم يشترك في تمثيل هذه القصة من فحول الفرقة القومية إلا اثنان أو ثلاثة ومع هذا فقد سرت في الرواية من أولها إلى آخرها حيوية ملحوظة كان سببها أن الممثلين والممثلات الناشئين الذين أسند المخرج أدوار الرواية إليهم طاوعوه بقدر ما استطاعوا المطاوعة، وقد نتج عن هذه المطاوعة أن توحدت روح التمثيل بين الممثلين، فلم يكن فيهم من أراد أن يبرز على غيره، ولا من أراد أن يشذ

ص: 40

صحيح أن بعض الحركات والإشارات والجمل كانت تلقى بأسلوب (إفرنجي). وهذا عيب. ولكنه ليس عيباً قاصراً على هذه الرواية وتمثيلها، فأغلب الممثلين المصريين لا يزالون يتتلمذون على الممثلين الغربيين، ولا يزالون قريبين من أساتذتهم بعيدين عن أنفسهم هم. وهذه حال ستنقضي يوم يكون لنا مسرح قوي يكتب له كتاب مصريون، حوادث مصرية، يعرفها الممثلون المصريون، ويعرفون ذويها ويستخلصون منها ومنهم فنهم عن طريق مباشر، لا بعد أن يصدر هنا الفن عنا إلى أوربا حيث يصنع صناعة غريبة ثم يعود إلينا وهو منا حقاً ولكن بعد أن لعبت اليد الأجنبية فيه. . . كما يحدث لقطننا. . .

الأزجال

كتبها بيرم التونسي، وبيرم التونسي هو بيرم التونسي

يقول في يوم القيامة:

لا الطفل يقول يا باه

ولا أم تقول ولداه

وملايكة تقول: الله

حاكم قهار يا ويل. . .

يا ويل الناس يا ويل

دا ميزان منصوب قسطاس

ورصاص مصبوب ونحاس

فوق روس الناس. . . الخ

الألحان

أربعة عشر لحناً صاغها كلها زكريا أحمد، منها ألحان للمجموعة ومنها ألحان للأفراد، وألحان المجموعة أرسلها زكريا إرسالاً سهلاً في روعة واتساق امتاز بهما على غيره من الملحنين. وأما ألحان الأفراد فقد أودعها زكريا التطريب الشرقي الذي تتذوقه آذاننا وأرواحنا، والذي لا يتعثر في دخوله إلى أنفسنا. وقد كنت أحب أن أفيق ولو للحن واحد من هذه الألحان حتى أصفه لقرائي، ولكني مع كثرة ما سمعت هذه الألحان من زكريا ومن الفرقة لم أملك نفسي إلا أن أنساق لها مذهولاً مأخوذاً، فلست أملك اليوم أن أقول لقرائي شيئاً أكثر من أن أحيلهم على هذه الألحان ليسمعوها وليسكروا بها كما سكرت

على أني سأتربص منذ اليوم لزكريا وألحانه في دنانير، فقد كرهت أن أظل تحت تأثير

ص: 41

سحره، وقد عزمت على أن أتحفز له. . .

الغناء

مع أن نجمة إبراهيم ليست من المطربات المعدودات فإنها مغنية بالطبع. يخيل إلي أنها حين تخلو إلى نفسها تغني، وأنها تبث في غنائها لواعجها وهمومها. وهذا هو ما مكنها من أن تمر في يوم القيامة مغنية تلفت السمع وتلفت الشعور

وحسن سلامة مع أنه موسيقي أعده ممن يلهمون في اتجاه خاص هو تصوير نفوس النساء، فإنه استطاع أن يغني كثيراً من عواطف الرجال، وإني أترك حسن سلامة اليوم عند هذا فهو جدير بأن أقدمه إلى الناس على حقيقته في ظرف آخر على اعتبار أنه موسيقي لا مغن

فرقة الألحان

يتقاضى الفرد في فرقة الألحان من الفرقة القومية عشرة قروش في الليلة، وهو يؤدي بصوته وروحه غناء يساوي القروش العشرة. . . فلو أنه أعطى خمسين قرشاً في الليلة أو جنيهاً فإنه من غير شك يكون شيئاً آخر. . .

وماذا أيضاً:

لا أظنه بقي بعد ذلك في يوم القيامة شيء، ولكنه لا يزال بعد يوم القيامة أشياء، هي روايات الألحان التي ننتظرها والتي لا يمكن أن نشبع منها ولا أن نمل

2 -

مايسة

قصة تصور حياة البدو المصريين الذين يعيشون على حدود مصر، وما يشعرون به من أنهم حماة السبل المؤدية إليها، كتبها بيرم التونسي زجلاً، ولحنتها ملك، فهي ألحان من النغم في ألحان من الكلام

وقد كنت، إلى أن سمعت ألحان ملك في مايسة، أحسبها مغنية كل ما تستطيعه هو أن تتلقى اللحن من غيرها وأن تؤديه بعد ذلك أداء فيه إتقان يتاح لها من قدرتها على أن تسلس راغبة لمن تريد أن تسلس له

ولكني بعد أن سمعت ألحان مايسة رأيتني أخاف من ملك، وكأني بها قد نفذت إلى عالم

ص: 42

آخر غير هذا العالم استرقت منه هذه الألحان، وإلا فمن أين أتتها هذه الشرارة التي اندلعت في روحها فتوهجت فيها هذه الأنغام اللامعة المصقولة

لقد حرت. . . وسألت. . . فقيل لي إن ملك استعانت باثنين موسيقيين أخفت اسميهما، ولكني قلت إن هذه الألحان مطبوعة كلها بطابع واحد، فلابد أن يكون صاحبها واحداً ولا أكثر. ثم إنها ألحان ظاهر جداً أنها حريق امرأة اندلعت في نفسها النار اللطيفة ذات السعير اللذيذ. . .

لست أدري. ولكن هذا هو رأيي. . . وأنا أعلم أن فيه مفاجأة، ولكنه شعوري. ولعل هذه هي المرة الأولى التي يستولي علي فيها الخبل من فن امرأة. . .

إن ملك تتكلف في الغناء أحياناً، وهي تثقل فيه على النفس أحياناً. . . ولها في هذه الأحيان العذر، فما يستطيع الإنسان أن يستنبع روحه في كل حين. . . ولكنها كانت في هذه الألحان نبعاً يتدفق. . .

فهل هذه ألحانها حقاً، وهل ننتظر بعد ذلك منها ألحاناً تشبه هذه. . .

إذا كان الأمر كذلك فعلى الملحنين أن يأخذوا حذرهم. . . وعلى بعضهم أن يتعلم وأن يتذوق

عزيز أحمد فهمي

ص: 43

‌البريد الأدبي

لا تناقض ولا اضطراب

لم أكتب عن المنصورة مقالاً واحداً، وإنما كتبت مقالين أحدهما قُبَيْل السفر وثانيهما بُعَيْد الرجوع، وبين المقالين فاصل هو الإمضاء، فقد نبهتُ مدير مطبعة الرسالة مرتين إلى ذلك الإمضاء، فقد كنت والله أشعر بأنه لن يُثبته في صُلب الحديث، وقد وقع ما توقعتُ وصحّ للسيد محمود وصيف أن يحكم بأن المقال وقع فيه تناقض واضطراب

ولعل هذه الملاحظة تذكر مدير مطبعة الرسالة بأن ليس من حقه أن يتصرف بالحذف والإيصال في مقالات الكتاب، فقد يكون من الذين يخفى عليهم وجه الصواب في بعض الأحايين، وإلى صاحب الملاحظة أقدم تحيتي وثنائي

زكي مبارك

غناغراف

حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة (الرسالة) الغراء

تعلمون كما يعلم قراء الرسالة أن لدى إدارة البرق (التلغراف) نوعاً من الرسائل أعد للتهنئة وهو يمتاز عن الرسائل البرقية العادية برسوم زخرفية ذات شكل بهيج

ومع أن هذه الميزة لا تكاد تؤدي مرح المهنئ المخلص وفرحه واغتباطه فقصارى ما أتمناه لكم ولقرائكم أن تتلقوا رسائل من هذا النوع بما يقر أعينكم ويطمئن قلوبكم

ولكن الذي أرجو أن أعرف وقعه لديكم وأثره فيكم هو نوع رسائل التهنئة الذي ابتكرته الولايات المتحدة، تلك الأمة الخالية القلب من متاعب العالم القديم

في عدد اليوم من جريدة الاجبشيان غازيت مقال ممتع بقلم المستر جرني وليمز عن ذلك النوع من الرسائل واسمه (الغناغراف) فماذا ترون لو ازدحمت غرفتكم بالرسالة أو بالمنزل العامر بفرقة من سعاة التلغراف تنشدكم برقية تهنئة من شعر رامي وتلحين السنباطي أو من شعر الدكتور زكي مبارك وتلحيني أنا؟!

يقول كاتب ذلك المقال إن مكاتب البرق في الولايات المتحدة أعدت نماذج مختارة من التهنئات المختلفة الأغراض وهي شائعة الألحان، ولكن للمهنئ أن يبعث بغيرها، ولدى

ص: 44

السعاة مقدرة على الأداء، ولدى إدارة البرق مقدرة على التلحين

وفي هذا الخبر على قصره بشريات لنا لو أخذنا بهذا النظام فمن لنا بالفرصة التي تتيح حفظ مكتبة في كل مكتب للبرق تحتوي على كل دوواين الشعر العربي، ومن لنا بفرصة لتوظيف الملحنين وبعض المغنين والمغنيات سعاة للتلغراف!! ولقد ينشأ بعد ذلك شعراء عموميون كالكتبة العموميين لنظم التهنئات للبرقية، فما أسعد البشرى!

ويصف الكاتب استغلال الماجنين لنظام التهنئة المغنية فهم يبعثون لحفلة متزمتة بفرقة من السعاة تنشدهم ما لا يتفق ونظام الحفلة، قال وعند ذلك يطرد الساعي المنشد المسكين قبل أن يتمم إنشاد البرقية وقبل أن يعلن اسم المرسل

قال: وفي هذا النوع من الرسائل تكثر مداعبات الغزل بين الشبان والشواب، وروى قصة فتاة أرسلت أغنية كبعض شعر عباس بن الأحنف إلى صديق لها، فطرب الشاب وجعل الرد برقية إلى مكتب البرق في حي الفتاة يرجو فيها تقديم طعام الإفطار لها فقدمه المكتب على حساب المرسل للظريفة المداعبة في غرفة نومها في ساعة الفجر

سيدي الأستاذ:

لا علينا من طبيعة نظام الغناغراف ولكن أمة يمكن فيها إنشاؤه واستمراره لهي أمة سعيدة فهل تدعون إلى إنشائه بمصر إدارة المصلحة التي أنشأت قطار المفاجآت وقطار البحر

أحسب ذلك إن شاء الله.

عبد اللطيف النشار

أدهم قال لي

قرأت للأستاذ عبد اللطيف النشار كلمة بمناسبة دعوة أحد الأدباء لأصدقاء المرحوم الدكتور أدهم في أن يكتبوا عن مقدار ما وصل إليهم من العلم عن عقيدته

وفي الواقع كانت دهشتي عظيمة لأمرين: الأول هي تلك الدعوة الغريبة التي لا أجد لها أي داع، وقد حرت في فهم ما يرمي إليه الداعي من وراء دعوته، فإن كان يقصد بالعقيدة (الدين) فإنني أعتقد أنها مسألة شخصية بحتة يجدر بنا أن نبعدها عن نطاق الجدل؛ ثم إنني لا أفهم كيف يمكننا أن نخدم الأدب بتركنا الكلام عن الناحية الأدبية في الكاتب إلى مسائل

ص: 45

خاصة، ويجب أن تظل كذلك

وإنني أتساءل: متى يمكن لأفكارنا أن تسمو عن الاهتمام بمثل هذه الفوارق التي يجب أن تتلاشى مادامت رسالة الأديب نبيلة في مرماها مجدة في الرفع من شأن الأدب؟

والأمر الثاني الذي دهشت له هو رد الأستاذ النشار نفسه وتلبيته دعوة كهذه، ولم أخرج إلا بنتيجة واحدة من كلمته، وهي أنه قد انتهز فرصة الكلام عن أدهم ليرميه بمر الذم والتعريض؛ وإنني أرجو أن تكون نية الأستاذ النشار - وقد كان صديقاً لأدهم - بريئة مما استطعت استنتاجه من كلمته

ليتكلم عن أدهم وأدبه كما يشاء، ليناقش آراءه الأدبية والعلمية إذا أراد، فهذه رسالة الناقد؛ أما أن يدخل في أمور شائكة كهذه، فهذا ما لا يقره عليه أحد، وخاصة أنها تتعلق بشخص انتقل إلى جوار ربه، فللموت حرمة يجب علينا تقديسها

شعبان فهمي

إلى الأستاذ النشار

في عنقك الآن قلادتان: أولاهما للأستاذ إسماعيل أدهم رحمه الله وأخراهما للأدب الحديث

أما قلادة أدهم فأرى أن يَوحْك بما (قال لك) قد يحيك له وشياً من الخلود لا يخلق ولا يبلي. أما قلادة الأدب فأعتقد أن أدب الأستاذ - وإن كان جافاً لا يخلب كما قال الأستاذ محمد عبد الغني حسن في مقاله - إلا أنه جديد في أفق الآداب، ورأيه غريب في سماء الآراء

وعالم الأدب الآن محتاج إلى كل جديد، ودنيا الآراء عطشى إلى كل غريب

فإن صح ما تقول فهنيئاً لبحر أدهم بغواص يتصيد الدرر الخبيئة، ولعالم الأدب بمرآة تشع نفساً غامضة تاهت (حتى حقائق نسبها) عمن تعرضوا لموضوعه الشائك فراح أخوه يخطئهم (الرسالة من عدد 369 إلى 373)

على أني لا أرى عليك حرجاً من (إنفاذ الوعيد) بل إن إنفاذه للزام عليك (إن صح إن هذا وعيد) لاسيما وقد اختارك لذلك واختار لك أقوى الوسائل المغرية للكتابة عنه في فلسفة عملية تكشف عن نية مبيتة للانتحار

ص: 46

أيها الأستاذ: أن في عنقك للعلم ثقة، فدع عنك مبضع الجراح، وانقل مزهرك في خيال رقيق، وانفذ إلى الحقائق في تمحيص وتدقيق، سدد الله خطاك

حلمي إبراهيم النبوي

إلى طلاب النحو في جميع الأقطار

ما كان أظرف الأستاذ مصطفى إبراهيم حينما وجه (إلى علماء النحو في جميع الأقطار) معضلاته الآتية:

1 -

لِمَ أفرد لفظ مائة في ثلاثمائة إلى تسعمائة على خلاف القاعدة؟

2 -

لِمَ حذفت التاء في قوله تعالى: (فله عشر أمثالها) على خلاف القاعدة أيضاً؟

3 -

كيف قلتم إن لن لتأبيد النفي، وقوله تعالى:(فلن أكلم اليوم إنسياً)، (ولن يتمنوه أبداً) ينافي ذلك؟

وقد هممنا أن نفزع إلى أستاذنا العلامة صاحب النحو والنحاة، ولكنا وجدنا الأمر أيسر من ذلك

1 -

إنما يكون مميز الثلاثة إلى العشرة جمع قلة ما لم يكن لفظ مائة أو اسم جمع نحو تسعة رهط وخمس ذود؛ لأن مائة - وهي مفردة في اللفظ - جمع في المعنى، لأنها عشر عشرات وهو عدد قليل اهـ توضيح وأشموني. وأقول ربما لوحظ في إفراد لفظ المائة خفة النطق؛ والتعداد بالمئات كثير بخلاف الآلاف، ولذلك وصل الإملائيون المضاف بالمضاف إليه فيها لكثرة الاستعمال وفرقاً بين الجمع والكسر في مثل رُبُع مائة وثُمن مائة الخ. ثم إن إضافتها إلى الآلاف جمعاً قد جاء على أصل القاعدة، وعندهم (ما جاء على أصله لا يسأل عنه) وظاهر أن اسم الجمع في حكم جمع القلة. هذا وشذ قول الفرزدق في الضرورة:

ثلاث مئين للملوك وَفَى بها

ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم

2 -

يُعتبر في واحد المعدود - تأنيثاً وتذكيراً - لفظُه إن كان اسماً؛ وموصوفه المنويُّ إن كان صفة؛ فتقول ثلاثة أشخُص قاصدَ نسوة وثلاث أعين قاصدَ رجال؛ وتقول ثلاثة رَبَعات إن قدرت الموصوف رجالاً، وتحذف التاء إن قدرت الموصوف نساء؛ لأن الربعة يوصف بها المذكر والمؤنث. وعلى هذا قوله عز وجل:(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، تقديره

ص: 47

فله عشر حسنات أمثالها. ويمكن تخريجها على تأنيث المعدود مراعاة للجمع، ولكن الصحيح مراعاة واحد المعدود خلافاً للبغداديين. وقد يقال إن المعدود اكتسب التأنيث بإضافته إلى المؤنث. اهـ أشموني وتوضيح. واختر ما يحلو

3 -

النحاة جميعاً على أن (لن) لمجرد النفي. والتأكيد أو التأبيد يستفادان من القرائن؛ ولم يخالفهم فيما نعلم إلا الزمخشري. وكيف نجعل المرجوح راجحاً ثم نستشكل بناء عليه؟

على أن من ينصر مذهب الزمخشري في إفادتها التأكيد أو التأبيد، فله أن يجيب عنه بأنها إنما تكون للتأبيد عند الإطلاق. فإذا ذكرت قرينة تمنع منه مثل (اليوم) في الآية الكريمة فهي للتأكيد فحسب. وبأن التكرار في مثل:(ولن يتمنوه أبداً) يقع في بليغ الكلام لزيادة التأكيد

وإذا لم نرتض مذهبه فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب

طه محمد الساكت

مدرس بمعهد القاهرة

شرح بيت ونسبة آخر

حضرة الأستاذ صاحب الرسالة الغراء المحترم

1 -

مررت وأنا أقرأ ديوان (أبي نواس) جمع الأستاذ محمود كامل فريد بقصيدة نسبها الأستاذ للنواسي مطلعها:

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلكم يصير إلى تراب

على أني قرأت هذه القصيدة بكتاب آخر منسوبة إلى أبي العتاهية. فهل لي أن أسأل سيدي الأستاذ أي القولين أصوب؟

2 -

وفي صفحة (247) من الديوان نفسه قرأت البيت التالي:

وتبسم عن أغر كأن فيه

مجاج سلافة من بيت راس

يقول الشارح في الحاشية: إن (بيت رأس) اسم لقريتين في كل واحدة منهما كروم كثيرة ينسب إليها الخمر، إحداهما بيت المقدس والأخرى من نواحي حلب. وأقول إن بيت رأس اسم لقرية صغيرة تقع قريبة من الحدود الأردنية السورية من جهة الشمال، وهي كما

ص: 48

وصف الأستاذ غنية بكرومها، فلا يبعد أنها كانت مشهورة بخمورها، وأنها هي التي عناها الشاعر. . .

أرجو إفادتي في أيهما وجه الصواب خدمة للحقيقة وتعميماً للفائدة

(عمان)

مصطفى علي عزام

(الرسالة): القصيدة لأبي العتاهية لا لأبي نواس. وقولك في

بيت رأس هو الصحيح

من لصوص المجلات

نشرت (الرسالة) في العدد (379) فصلاً طريفاً عنوانه (قداسة النقد) بتوقيع (اسكندر البطرسي)، الذي زعم لنفسه فضل ترجمته عن (برناردشو) وأحب أن أبين أن هذا المقال منقول بنصه من العربية إلى العربية عن عدد شهر نوفمبر سنة 1934 من (المجلة الجديدة) التي نشرته في صحيفة 89 و 90 مترجماً بقلم صاحبها الأستاذ سلامة موسى، وقد أردت بهذا البيان أن أضع الأمور في نصابها وأفضح هذا الدعي وأمثاله ممن يسرقون آثار الناس ليوهموا أنهم من الناس

أسعد حسني

حول مقال

أستاذي الكبير صاحب الرسالة

تابعت باهتمام ما دار على صفحات الرسالة حول مسرحية مفرق الطريق للدكتور بشر فارس، حتى قرأت في العدد 379 مقالاً للأستاذ زكي طليمات يرد به على مقال سابق للأستاذ محمد متولي وقد عنّت لي عند قراءة هذا المقال الملاحظات الآتية:

أولاً: يقول الأستاذ زكي طليمات إنه لا حرج على الدكتور بشر في تسميته بطلة مسرحيته (سميرة) وتحديد المكان الذي وقعت فيه حوادث المسرحية وهو مصر. ولو علم الأستاذ أن

ص: 49

القصة الرمزية يجب أن تكون رمزاً لما يحدث في كل زمان وفي كل مكان بين أشخاص غير معينين، لعرف أن هذه التسمية وذلك التحديد يتنافيان مع أبسط شروط القصة الرمزية. لذلك يجب أن يحيط الغموض والإبهام أبطال القصة الرمزية وحوادثها.

ثانياً: يذكر الأستاذ أنه (من المعقول أن يكون البطل (هو) لأنه عنوان لفئة خاصة من الرجال في مصر وأن تكون (سميرة) - سميرة - لا (هي) لأنها ليست عنواناً لفئة خاصة. ونحن لا نفهم كيف تكون القصة رمزية إذا كانت بطلتها امرأة شاذة لا يوجد على طرازها، ففي هذه الحالة تفقد القصة صفة الرمزية، لنفس السبب الذي أوضحناه في الفقرة الأولى.

ثالثاً: يعتقد الأستاذ زكي طليمات - كما ذكر في الفقرة الأخيرة من مقاله - أن الأستاذ متولي يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عند ما كتبه العلماء في القرن الماضي. لماذا؟ لأن الأستاذ متولي يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عند ما كتبه العلماء في القرن الماضي. لماذا؟ لأن الأستاذ متولي أراد أن ينقد المسرحية فأتى بشاهد من فلسفة (ريبو) فالأستاذ زكي طليمات إذن قد أخطأ الفهم لأنه لو طُلِب من شاعر أن يأتي ببيت في غرض من أغراض الشعر كالهجاء مثلاً فأنى ببيت من الشعر الجاهلي، فليس ذلك دليلاً على أن الشاعر لا يحفظ من الشعر سوى الشعر الجاهلي

هذا ما أردت أن أنبه إليه الأستاذ زكي طليمات. والسلام

فؤاد كامل

أحوال النساء

كتب الأستاذ إبراهيم محمد نجا في (أجوبة عن أسئلة) أبيات علقمة الفحل عن (أحوال النساء) على هذه الصورة: عدد 379 من (الرسالة):

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله

فليس له من ودهن نصيب

وأنا لا أريد أن أدخل بين الدكتور زكي مبارك والأستاذ نجا فيما يجري بينهما من سجال وصيال، ولكني أذكر أن الرواية الصحيحة لشعر علقمة هي:

فإن تسألنّي بالنساء فإنني

خبير بأحوال النساء طبيب

ص: 50

إذا قل جاه المرء أو قل ماله

فليس له من حظهن نصيب

يردْن ثراء المال حيث وجدنه

وشرخ الشباب عندهن عجيب

وأظن صديقنا الدكتور زكي مبارك يطابق حفظه حفظنا في هذا الشعر

محمود الشرقاوي

تصويب

ورد في المقال الافتتاحي لرسالة هذا الأسبوع (خواطر مهاجر) نص الآية القرآنية الكريمة هكذا: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. . .) والصواب حذف (لكن)

ولكم في النهاية واجب التحية والإكبار.

السيد محمد أحمد الفقي

تصويب

في قصيدة (الخلوة الأولى)(عدد 380) من الرسالة نشر هذا البيت:

أين الوفى منك وميثاقه

وأين منه اليوم هذا الجمود

وصحته: هذا الجحود

جريدة فتى النيل

دخلت زميلتنا (فتى النيل) في عامها الثالث وعهدها الجديد حافلة بكل ما يهم القراء الاطلاع عليه. وقد اشترك في تحريرها نخبة من حملة الأقلام الممتازين. وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الحميد المشهدي. وجعلت موعد صدورها صباح الاثنين من كل أسبوع

فنتمنى للزميلة كل تقدم ونجاح.

ص: 51

‌القصص

لقاء!. . .

للأستاذ محمد سعيد العريان

كان النَّدِيُّ مزدحماً بالسامرين على عادته كل مساء؛ قد تحلقوا حول الموائد جماعات جماعات، في البهو، وفي الشرفات، وعلى الطَّوار؛ وكان الميدان الفسيح الذي يشرف عليه الندي، مراد العيون ومستراح النظر؛ فما تقع العين منه إلا على منظر أنيق ومرأى فاتن، والسيارات تتهادى ذاهبة آيبة تحمل كل منها قصة حب أو تُسرّ حديث هوى، وأسراب الملاح تتواكب في مطارف الفتنة وعطر الشباب غادية إلى ميعاد أو رائحة إلى أمل، ونسيم المساء الهادئ ينفح عطره ويهمس في كل أذن حديثه. . .

. . . وكان ثمة بضعة نفر جلوساً إلى مائدة مستديرة في ظل وارفة لفّاء يتجاذبون الحديث ويتبادلون الفكاهات في أنس ومسرة. أولئك (رفيق) وأصحابه

بضعة نفر لا يشغلهم من هم الحياة ما يشغل الناس، جمعهم الشباب على هوى مشترك، وألفت بينهم الحياة على رأيٍ جميع، واجتمع لهم من أسباب النعمة ما أغنى بعضهم عن بعض فقرّب بعضهم إلى بعض؛ فهم قدمٌ واحدة بكل سبيل، وقلب واحد في كل هوى، ورأيٌ واحد في كل مغامرة من مغامرات الشباب. ذلك مجلسهم كل مساء حيث يلتقون فيقص بعضهم على بعض من حديث الهوى والشباب؛ فلكل فتاة من فتيات المدينة بينهم حديث؛ ولكل منهم من حديثها خبر، ولكل غاديةٍ ورائحةٍ لحظة عين وبنتُ شفة

على أن رفيقاً وأصحابه لم يجتمعوا الليلة لمثل ما يجتمعون كل مساء؛ فإن لهم اليومَ لشأنا يشغلهم عن لحظات العيون وبنات الشفاه وأقاصيص الهوى والشباب؛ فقد غدا عليهم (رفيق) يؤذنهم بخبر لم يكن لهم في حساب؛ لقد اعتزم رفيق أن يتزوج. . .

وا أسفا! لم يكن يحسب هؤلاء الأصحاب أن يصير اجتماعهم بعد تلك السنين إلى شتات، وأن يكون رفيق أسبقهم إلى الفراق!. . . أتراه يكون لهم بعد الزواج ما كان لهم قبله؟ من يدري؟ بل إنهم ليكادون يدرون؛ فما يتأتى له أن يلقاهم بعدُ ويلقونه، وإنه لزوج ورب دار. . .

وتناولوه بألسنتهم وركبوه بالمزاح والدعابة، وهو يستمع إليهم مبتسماً في صمت، ثم مضى

ص: 52

ومضوا. . .

لقد ذاق رفيق من ألوان اللذات ما ذاق، وباع في الحب واشترى، وربح وخسر، وتقلبت على عينيه مناظر لعل مثلها لم يجتمع لشاب آخر في مثل سنه؛ على أنه قد مل ذلك جميعاً وضاقت به نفسه، وحن إلى حياةٍ هادئة يحياها بين زوجٍ تحنو عليه، وولد يجدد أمله؛ فاعتزم أن يتزوج

وأتاح لرفيق ما لقي من تجارب الحياة، أن يعرف من شئون المرأة أكثر مما يعرف الشباب؛ فلم يكن تعجبه فتاة ممن رأى وعرف فيرضاها زوجة يملِّكها داره ويأتمنها على سعادته؛ إذ كان يعرف أكثر من غيره ما وراء هذه القشور التي يتزين بها النساء في مجالس الرجال تجملاً من غير جمال؛ فزاح إلى أمه العجوز يسألها أن تختار له ويصف لها ما يحب في المرأة وما يكره

وكان عجيباً من فتى مثل رفيق - رأى من رأى وعرف من عرف - أن يتوسل بأمه إلى اختيار زوجته؛ ولكن ما رأى وما عرف هو الذي دعاه إلى ذلك؛ فقد كان مما جرّب لا يثق بواحدةٍ ممن عرف؛ فراح يتوسل بأمه أن تكون سببه إلى من لم يعرف

تلك مسألة أخفاها رفيق على صحابته، ولو عرفوها لنسبوه إلى فساد الرأي وأفن التفكير؛ فما ينبغي لفتىً مثله من أبناء الجيل الجديد أن يخطب فتاةً إلى نفسها من وراء حجاب، وأن ينظر إلى زوجته بعيني أمه؛ ولكنه كان موقناً يقيناً لا شبهة فيه، أن تلك الوسيلة التي ينسبها أصحابه إلى الرجعية وفساد الرأي وأفن التفكير، هي أسدّ وأحكم من اختيار فتاةٍ كبعض من يعرف، تقلبت على أعين الشبان وتنقلت بينهم من ذراعٍ إلى ذراع كجارية النخاس!

لو أن أحداً رأى له هذا الرأي منذ سنين، لسخر منه واستهزأ به ورماه بما يرميه به صحابته اليوم؛ ولكن تجارب الحياة لا تدع لذي رأيٍ أن يثبت على رأيه إلا أن يكون أحمق ليس له رأي ولا إرادة!

وراحت أمه العجوز في حاشية من صواحبها تطرق الأبواب وتهتك الأستار لترى وتعرف وتتخير، لتعود إلى ولدها كل مساء فتقص عليه ما رأت وما عرفت؛ وكانت تعلم من شئون ولدها ما لا يجهل أحد؛ فمن ذلك كان حرصها على أن تتخير له فتحسن الاختيار؛ وعادت

ص: 53

إليه ذات مساء تخبره:

لو رأيتها يا رفيق. . .! لها غُرة الصبح الطالع، وابتسامة الأمل المشرق، وحياء الزنبقة البيضاء تحت عيون الزهر. . . لله هي يا بني! خارَ الله لك!

وقال رفيق: وددت لو رأيتها يا أمي!

ومطّت أمه شفتيها تنكر عليه، وقالت: وددتُ يا بني، ولو أنك رأيتها ما زادت في عينيك على ما أصف؛ ولكن، من أين لك؟ ما أرى أباها يسمح يا رفيق، ولو سمح أبوها ما أطاقت هي أن تتراءى لك. . . إنها. . .

وصمت رفيق وعاوده قلق الشباب، وراح يؤامر نفسه: كيف يطيق أن يقطع برأي في المرأة التي يهم أن يشركها في عمره وما رآها؟

ثم ثابت نفسه إلى الاطمئنان والرضا رويداً رويداً، وغلبه عقله على هواه؛ فقال لنفسه: ذلك أحب إلي؛ وإن يقيني بطهارتها لأطيبُ لنفسي من اليقين بجمالها؛ وهل رضيتُ أن أخطبها من وراء حجاب إلا زهادةً في الجمال المبذول لكل ناظر؟

وذهب رفيق يتقصى خبرها ويسأل من يعرف عما لا يعرف، وأتاه جواب ما سأل؛ ولم يبق إلا أن يراها ليُبرم أمره؛ وأي حرج في ذلك؟

وعادت أمه تسعى مسعاتها بينه وبين عروسه؛ ثم عادت تحمل إليه الإذن في أن يراها يوم يقدم لها هدية الخطبة

. . . لم ينقطع رفيق عن صحابته ولم يشغله أمره عن مجلسه وإياهم كل مساء؛ فما كانت له طاقة على فراق بائن إلى غير لقاء؛ وكذلك لم يهجر ما كان من عادته وإياهم حين يتحلقون حول المائدة المستديرة على الطوار، يتجاذبون الحديث أو يتبادلون الفكاهات، أو يُتبعون أعينهم كل غادية إلى عمل أو رائحة إلى ميعاد، أو يتداعون إلى سهرة حمراء في عُش من عشاش الحب المأجور إلى أن تشيب ذؤابة الليل!

كان يعلم أنه عما قليل مفارق هذه الحياة الصاخبة التي عاش فيها عمراً من عمره؛ فلا عليه أن يتزود لما يأتي من لياليه، لا يمنعه عن ذلك ما يشغله من أمر يعد له عدته ويهيئ أسبابه. . . وتوزّعته شئونه، فنهاره تأهب واستعداد، وليله ليلُ الهوى والشباب!

أرأيت إلى الصائم يتأهب لنهارٍ ظامئ جوعان بالمائدة الحافلة بأطايب الطعام والشراب؟

ص: 54

كذلك كان رفيق في إسرافه على نفسه وفي غلبة هواه!

وراح يوماً لموعده فجلس يقص على صحابته من مغامراته:

(. . . وكنتُ وحدي إلى هذه المائدة أنتظر، وغاظني أنني بكّرت فلم أجد أحداً منكم آنس إليه، وتخايلت لعيني فتاة على مبعدة. . . ثم تجاوزتني ومضت؛ ومضيت في أثرها. . . . . .)

وتقصّف عليه أصحابه يستمعون إليه؛ فإنه لفارس هذا الميدان غير منازع، ومضى في قصته:

(. . . وقلت لها وهي جالسة إلى جانبي على الصخرة الناتئة والأمواج تحت أقدامنا تصفق على الشاطئ الغضبان: (إنك أول من أحببت. . .!) فنظرت إلي ساخرة وقالت: (صحيح. . .؟) ثم انفجرت إلي ساخرة ثم انفجرت ضاحكة. قلت: (وما يمنع. . .؟) قالت وتكاد تغص بضحكتها: (تلك كلمة ليست جديدة على أذني، كم مرة سمعتها قبل أن تلفظها شفتاك!)؛ وحدّقت في وجهي بعينين فيهما تصميم وإرادة، كأنما تتحداني لتبلو إرادتي، وزويت جبيني وتحوّلتُ ناحية أنظر إلى رشاش الماء يتواثب تحت أقدامنا وقلت:(ولكنك لن تسمعيها بعد، ولن أقولها!). . . ورحت أجمع طائفة من الحصى فأقذف بها الماء وأصابعي ترتعد؛ إذ لم يكن يعنيني إلا أن أثأر لكبريائي. . .

قال رفيق: وتخاذلتُ سريعاً حين رأت وجهي مصروفاً عنها؛ فدنت مني وهي تقول: (أنظر، أترى هذين الطائرين؟) ونظرتُ ونظرتْ، والتقت عينان بعينين، وشفتان بشفتين!. . . ثم. . .

قال الذي عن يمينه: ثم صحوتَ من النوم!

وعَلَت ضحكاتُ الجماعة، وسكت رفيق، ومضى أصحابه يتجاذبون الحديث. . .

. . . ودنا الموعد الذي حدّده رفيق ليلقى عروسه فيقدّم لها هدية الخطبة؛ وكأنما أحب أن يهيئ نفسه لهذا الحدث الجديد، فانقطع أياماً عن موعد أصحابه، ومضى يزوّر في نفسه الكلام الذي يلقى به خطيبته يوم يلقاها؛ أتراه كان يخشى أن يخونه بإزائها بيانه وخلابتُه وما عجز قبلها في مجلس فتاة قط؟ تُرى ماذا يقول الناس في هذا المقام؟ وتواردت على خاطره كلمات كثيرة، كلمات طالما جرى بها لسانه في مجالس الفتيات فكان لها في نفوسهن

ص: 55

فعل السحر؛ ولكنها جميعاً على لياقتها في هذا المقام وصدقها في التعبير عن حقيقة موضعها، لم ترُق له؛ كأنما كان ينزه لسانه في خطابها أن يلقاها بكلمة لم ينطقها قط إلا كاذباً ولم يلقَ بها قط فتاةً تستحق الاحترام!

وأعجزه القول حين وجد الحاجة إليه، إذ كان كل جديد في لغة الحب الصادق قد حال في لسانه عن معناه الحقيقي إلى معنى وضيع من معاني الخداع والغش والتغرير؛ فما ثمة إلا كلام بالٍ قد أخلقه التكرار، أو كلام ساقط قد نسخه الكذب وأحاله عن معناه. . .!

وضحك رفيق حين أحس من نفسه العجز عما يريد، وخطر بباله حديث الناس عن عجز المحبين عن التعبير حين يتراءى العاشقان وجهاً لوجه وتتناجى العيون! فسأل نفسه: أتراني عشقتها؟

ثم جاء الميعاد. . .

وسبق البشيرُ يؤذن بمقدمه؛ وجلست فتاةٌ تنتظر، وفي رأسها أخيلة تتراءى وفي قلبها أمل. . .

وقال رفيق لنفسه والسيارة تقله إلى هناك: ينبغي أن تكون هي أول من أحب؛ أليس كذلك. . .؟ بلى، ومن ذا يستحق الحب غير الفتاة التي أهم أن تشركني في عُمري؟

وقالت الفتاة لنفسها وهي جالسةٌ مجلسها تنتظر: نعم، ولمن تهب الفتاة قلبها غير الشاب الذي تشركه في عمره؟

ودق الجرس، ودخل رفيق تسبقه البشرى. وعلى الكرسي المذهب في صدر غرفة الاستقبال جلس ينتظر، وكان إلى جانبه كرسيٌ خال؛ ثم انفتح الباب ودخلتْ. . .

وتراءيا وجهاً لوجه، وعرفها وعرفته. . . وهم الفتى أن يقول:(أنت أول من. . .) ثم سكت؛ وتهيأت الفتاة لتقول، ثم سكتت. . .

ودوّى في أذنيه مثلُ هدير الموج يتواثب رشاشه إلى وجهه، ودوَّى في أذنيها؛ كمجلسهما هنالك في يومٍ قريب. . . وطأطأت الفتاة رأسها في خزي، وطأطأ الفتى رأسه؛ وثقل على الفتى والفتاة موقفهما، وأحسا مواقع النظرات تأخذهما من كل جانب، فمشيا صامتين إلى مجلسيهما؛ وتبادلا نظرةً أخيرة أغنتهما عن الكلام.

ولم تتحرك شفتاه بكلمة، ولكنها سمعته يهمس في أعماقها ساخراً:(أنت أول من أحببت!!)

ص: 56

ولم تنطق شفتاها، ولم تجب؛ ولكن صوتاً من أعماق الماضي كان يهمس في نفسه:(. . . تلك كلمة. . . كم سمعتها أذناي قبل أن تلفظها شفتاك!!)

وتحوّل وجهه إلى ناحية وهو يقول: (ولكنك لن تسمعيها بعدُ، ولن أقولها!!)

وراحت أصابعه تعبث بحبات العقد الغالي فتتناثر على البساط كأنها حصيات من رمل الساحل؛ وعاد هدير الموج يدوّي في أذنيه ويتواثب رشاشه إلى وجهه؛ ونهض، ثم اتخذ طريقه إلى الباب في صمت!. . .

محمد سعيد العريان

ص: 57