الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 382
- بتاريخ: 28 - 10 - 1940
من ليالي الملاح التائه
في مخبأ الفيشاوي. . .
جلست أنا وصديقي شاعر الجندول في قهوة (الفيشاوي) عشية يوم الأحد الماضي نحتسي أقداح الشاي العنبري الهنيء، بعد إفطار من طهو رمضان الدسم المريء؛ وكان الظلام قد هب يتموج لطيفاً بين المصابيح الزرق كأنه ظلال الأجنحة الخفاقة في جو بنفسجي قاتم، والحركات الهامدة والأصوات الخاشعة قد أخذت تتخلص رويداً رويداً من فترة الصيام وسكرة الطعام، فهي تنتعش في البيوت، وتنتشر في الشوارع، ويقبل الناس على المقاهي فيلقون ثقل بطونهم على مقاعدها ليعالجوها بالأفاويه المنبهة والأشربة الهاضمة. وكان صديقي الشاعر قد طفق بعد شايه يكركر في شقته الأعجمية وقد انمحى من خياله السباح جندول البندقية وخمرة الرين وبحيرة كومو، فلم يعد يشعر إلا بعطر الشرق وسحر الشرق ونور الشرق، وتراءت له من خلال ما يجلوه الحي الحسيني على عينيه من مختلف الأجناس والألوان والصور. بقايا الملك الإسلامي العظيم، ودلائل المجد العربي الخالد، فلم يتمالك أن قال في لهجة تنم على الأسى والأسف:
- يا ضيعة الشعر ويا ضلة الشاعر إذا لم يُسجَّل هذا الملك في ديوان، ويُخلَّد هذا المجد في ملحمة!
وكان شعوري في تلك اللحظة يجري مع شعوره من غير تنبيه ولا توجيه، فقلت له على الفور:
- لو أن شعراءنا في الماضي والحاضر قد خلصوا كما خلصت أنت الساعة من أنانية الفكر وفردية الشعور لوجدوا في حضارتنا الزاخرة وتاريخنا الحافل أفانين عجيبة من الشعر القصصي توحد شتات الهوى وتكمل نقص الأدب؛ ولكنهم كانوا وما زالوا ينقلون عن ذاتية غالبة وطبع أثِر. فالقصيدة عواطف الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والأغنية لواعج المغني فلا تعبر المعاني العامة ولا تهتف بالأماني المشتركة. ولعل ملاحك التائه يُرسيه القدر الهادي على شطئان الشرق الجميلة فيقبس من شمسها نور إيمانه وأمانه، ويأخذ عن إلهامها سحر أوزانه وألحانه!
غصت القهوة على عادتها في ليالي رمضان بالسامرين من كل لون ومن كل طبقة، وكان
القمر يضرب بأشعته الباردة الرخية في ضوء المصابيح الداخلية فيشعشعه ويقويه، والمذياع على جدار القهوة ينقل الأغاني المسئومة في فرقعة وصخب، والجالسون يتجادلون في السياسة أو يتحدثون في الأدب، والنّدُل يذهبون ويجيئون وألسنتهم لا تفتر عن ترديد عن هذه الجُمل:(واحد كشَري مظبوط. . . فلوسك يا محمود. . . أيوه حاضر. . . ِولْعَه لمين؟. . . واحد ساده، مستوى زيادة. . .)
وعلى حين فجأة سكت المذياع وانطلقت صفارات الإنذار تردد نعيقها المتقطع، فأطفئ النور، وأخذت الناس زلزلة من الفزع، فنهضوا وتجمعوا ودخل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا دهمتها العاصفة؛ ثم تدافعوا متدفقين في داخل القهوة وهي قبو مظلم مسلوك تحت بيت ضخم من البيوت القديمة؛ وعلى جانبي هذا القبو حجرات ضيقة من غير أبواب للخلوة أو للعب. فدخلت أنا وصديقي إحداها فوجدنا فيها شيخاً هادئاً يكركر، وشاباً مضطرباً يثرثر، وآخرين قد ألجمهم الذعر فهم في وجوم ذاهل. ثم أنصت الناس ونظروا، فلم يسمعوا رعداً يقعقع ولم يروا برقاً يلعلع، فتساير عنهم الخوف، وتذكروا أن القدر لا مفر منه، والقضاء لا حيلة فيه؛ فأخذوا يتنادرون على الصفارات والغارات، ويجددون ما أريق من الأكواب وأطفئ من الشياشات. والمصري أربط الناس جأشاً في الخطوب متى زايلته بوادر الجزع؛ لأن إذعانه لقضاء الله بكسر حدتها عنه، وأخذه المكاره بالمزاح يضعف أثرها فيه. وهو في ذلك كالإنجليزي، إلا أن ثبات المصري يرجع إلى حرارة يقينه، وثبات الإنجليزي يرجع إلى برودة طبعه: هذا يبلد ثم يجلد، وذاك يتفرق ثم يتماسك
ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به بوجه القمر! لقد كان أجدادنا القرويون يقولون: (لم يبق من ليالي الهناء غير ليالي البدر) فهل يصح هذا القول إذا قلناه اليوم؟ إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة. فمن يزعم الآن أن الليل لا يزال لباساً وأن الناس لا يزالون ناساً، فقد جهل أن العالم الحاضر يسوسه الشياطين، فهو يرتكس ليسقط، وينتكس ليموت!
قال لي صاحبي وقد أعلنت الصفارة بصوتها المتصل زوال الغارة الأولى: قم بنا نتلمس الطريق إلى مكان آخر نتنفس فيه من كربة الحر والحرب
فقلت له وأنا أحبسه على كرسيه: هنا يا صديقي مخبأ هيأته لنا وقاية الله؛ فإذا تركناه وأدركتنا غارة أخرى فأين نختبئ؟
ليس في القاهرة ولا في غير القاهرة مخبأ حصين يعرفه الجالس في بيته أو السائر في طريقه. ولا أدري أي ضرب من ضروب الغفلة أطبق على مصلحة الوقاية المدنية فلم تقيم بإنشاء المخابئ الصالحة على وضعها الصحيح! هل أخذوا على الدهر عهداً بالأمان، أم حسبوا أن بضعة أخاديد في أمكنة متباعدة مجهولة تعصم سكان القاهرة وهم في المنازل أو في الطرق من شظايا القنابل؟
ليس من صالح الرأي يا صديقي أن تجهز قصور السراة ودور الحكومة بالمخابئ المسلحة المريحة؛ ثم يقال للشعب المسكين تبرع بالقروش لنشق لك لحوداً في ظاهرها الحمام المنقض، وفي باطنها الزحام المهلك! فقال لي الشاعر وهو يتمكن في مجلسه: إن سياسة الملاح التائه لا تزال هي سياسة الحكومة في كل أمر. فاسأل الله وحده أن يجعل لهذه الأمة مرفأ في كل عاصفة وملجأ من كل غارة!
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الواقفون بالمرصاد - ما بيني وبين نفسي - طلعت حرب باشا
في ميادين الأدب والاقتصاد
الواقفون بالمرصاد
قرأت في (الرسالة) كلمة كريمة للأستاذ محمود غنيم دعا فيها كاتب هذه الأحاديث إلى الحذر من عواقب العنف والجُموح، لئلا يقع القلم في سقطة تشمت به الأعداء الواقفين بالمرصاد، وهو يرجو أن نخصص يوماً من أيام (الرسالة) نحدث فيه القراء بهدوء على نحو ما يكون النيل في غير أيام الطغيان؛ ثم استطرد فقسم قراءنا إلى فريقين: فريق عدو، وفريق صديق؛ ونص على أن الصديق لا يملك أن يقول فينا كلمة الثناء لئلا نتهمه بالتزلف، وأن العدو لا يستطيع مجاهرتنا العداوة لئلا نمسه بسنان القلم مسَّاً غير رفيق
والصورة التي قدمها الأستاذ محمود غنيم صورة صحيحة، ولا تحتمل المناقشة إلا من جانب واحد: هو القول بأننا قد نصم من يثنون علينا بوصمة التزلف، فما يسمح لنا أدب النفس بأن نتلقى كلمات الإعجاب بغير الحمد والثناء، وإنما ينهانا العقل عن استزادة المعجبين فراراً من أخطار الزهو والخُيلاء
وقد ترفق الأستاذ الزيات مرات كثيرة فدعاني إلى النظر فيما يرد إليه من كلمات الاستحسان لأقدم منها للنشر ما أريد، ثم نهاني الذوق عن الاستجابة لهذا الاقتراح النبيل، واكتفيت بالمرور عليه من وقت لأطلع على عواطف الأصدقاء من القراء، وهم بحد الله أكثر عدداً من أعدائي، وفيهم أفراد على جانب كبير شرف النفس وعظمة الروح
وإنما نصصت على هذا الفريق من القراء ليعرف بعض من أسكت عن كلماتهم الطيبات أنهم يخاطبون رجلاً وفياً، وأني أحفظ لهم في أعماق القلب أطيب الذكريات، وأن (الرسالة) لم تطو كلماتهم عن استهانة أو بخل، وإنما هو الواجب، الواجب الحازم الذي ينهانا عن الإصاخة لكلمات العطف والتشجيع
ثم ماذا؟ ثم ألتفت إلى الأعداء الواقفين بالمرصاد فأقول:
لم أرزق من الغفلة ما أطمئن به إلى أني أعيش بلا خصوم وبلا أعداء، وكيف وحياتي كلها قامت فوق مخازن من البارود لو وقعت عليها شرارة واحدة من الخطأ لحولتني في مثل لمح البصر إلى رماد تذروه الرياح؟
فمن كان يريد أن ينتفع من تجارب الرجل الذي اكتوتْ يداه بنار الحياة الأدبية فليسمع هذا القول:
من الخطأ القبيح أن يعتمد الكاتب على ماضيه الجميل، وأن يتوهم أن القراء قد يذكرون حين يخطئ أن الحسنات يُذهبن السيئات، وأن الذي يُحلق ألف مرة قد يُغتفر له الإسفاف مرة أو مرتين
هيهات، هيهات، هيهات، فليس للقراء ذاكرة، وليس للقراء ميثاق
إنما يعرف القراء آخر مقال، فإن كان جيداً فالكاتب مجيد، وإن كان وسطاً فالكاتب ضعيف، وربما أضافوه إلى أهل الغثاثة والهزال
الكاتب يواجه ميدان السباق في كل وقت، وهو معرض في كل شوط للحكم له أو عليه. ولو كان الكاتب كالجواد لخف الأمر وهان، لأن السباق بين الجياد لا يحتاج فيه الحكم إلى ذكاء، فأغبى الناس يدرك بنظرة عابرة من السابق ومن المسبوق، ولا كذلك الحكم بين كاتب وكاتب، فهو يحتاج إلى ذوق وفطنة وذكاء، ولا يظفر الكاتب بقصب السبق إلا حين يكون له من اللوذعية ما يقهر به أهل الغرض واللجاجة والعتاد، وهو لا يصل إلى ذلك إلا بقوة قاهرة عاتية لا يفلح في صدها المكابرون إلا كما يفلح نجم الأرض في مسايرة نجم السماء
نحن أشقى الناس يا صديقي، لأن من حق كل مخلوق أن يحكم لنا أو علينا، وإن كان من مواليد العقد الثالث من القرن العشرين!
وحظنا يا صديقي حظ ممسوخ، لأنه معرض لانتقاص الممسوخين
وأعيذك أن تظن خيراً بسماحة الأقطاب من أهل البيان، فأولئك قوم يصعب عليهم أن تذكر بالجميل، لأنهم يتوهمون أنك تعتدي عليهم حين تقضي ليلك ونهارك في تزويد عقلك وذوقك بذخائر الأدب الرفيع.
وهل عانى أحد في دنيا الأدب مثل الذي عانيت؟
لقد انتزعت حظي من أنياب الحيات السود، فهو حظ مدوف بالسم زعاف، ولو استطاع قوم أن يتجاهلوا وجودي لفعلوا، ولكن كيف يستطيعون وقد ضيقت عليهم الخناق وقهرتهم على الاعتراف بأن العاقبة للصابرين على مكاره الجهاد
وهل كانت مكايدة الأعداء هي أصل النار التي يقذف بها قلمي؟
العدو الحق هو الغلطة المطبعية التي وقعت في سفر الوجود
وهذه الغلطة قد تسمى أوهاماً أو عادات أو تقاليد، ومن واجب القلم أن يصحح تلك الغلطة بلا ترفق ولا استبقاء
وأنا أصنع في محو تلك الغلطة مثل الذي كان يصنع يأجوج ومأجوج، فأنا أمحوها في كل يوم وهي ترجع إلى ما كانت عليه في كل يوم، ولكني سأنتصر ولو بعد حين، لأني أملك من الصبر واليقين ما لم يملك يأجوج ومأجوج
وهل يغيب عني أن كتاب (التصوف الإسلامي) سيزعزع أقواماً وخلائق في آمادٍ قصار أو طوال؟
أن وصل كتابي إلى سرائر المجتمع الإسلامي فسيغير ما يغير ويبدل ما يبدل، وهو سيعيش لأنه لم يخلق ليموت، وكيف يموت وهو مقدود من صخر الوجود؟
ما بيني وبين نفسي
ويقترح الأستاذ محمود غنيم أن يعني زكي مبارك بشرح صرائر زكي مبارك. وأجيب بأني أخاف من ذلك أشد الخوف، فما رجعت إلى نفسي مرةً إلى تهيبت اقتحام ما في شعابها من وعور وصخور وأشواك. وقد وقفت مرةً على ساحل النفس في ظلمات الليل فرأيتني عندها من الغرباء، وكيف لا أكون كذلك وأنا منها على بعد سحيق سحيق يُعدّ بالملايين من الأميال؟!
وقد حاولت الاقتراب من نفسي مرات كثيرة ولكن الخوف في كل مرة كان يشعرني بصدق الحكمة التي تقول: الرفيق قبل الطريق.
فأين الرفيق الذي أعتمد عليه في مواجهة لجج النفس وحولها عواصف وأنواء؟
الرفيق هو القارئ، ولكن أين القارئ الذي يفهم عنك ما تريد؟
كان لأسلافنا قراء، ولنا قراء، أما قراء الأسلاف فكانوا فئة قليلة تعد بالآحاد أو العشرات،
وكان يندر جداً أن تصل إلى المئات، وكانت تلك الفئة القليلة هي عصارة العقلية العربية، فكان الكاتب أو الشاعر أو المؤلف يلقاها بلا تكلف ولا تصنع كما يلقي إخوانه الأصفياء، وكذلك كان الحال في أكثر الأمم الشرقية والغربية، ولهذا السبب وحده كانت الآداب القديمة أصدق وأروع، لأنها خلت من الزور والرياء
أما قرائنا فيعدون بالألوف وقد يصلون إلى الملايين، وفيهم الغبي والذكي والعدو والصديق، وفيهم من يطيب له أن يحمل أقوالك غرائب التفاسير والتأويل، فمن حدثك من كتاب هذا العصر وشعرائه ومؤلفيه أن يصدق كل الصدق فيما يكتب وما ينظم وما يؤلف فهو خادع أو مخدوع، إلا أن يصنع مثل الذي أصنع في إيثار الرمز والإيماء
وإليك هذا الشاهد الطريف:
في وزارة. . . موظف أديب هو الأستاذ فلان حفظه الله، ومن هذا الموظف الأديب علمت وعلم جمهور من الأدباء أن مطبعة الرسالة نقلت إلى المنصورة، ولن ترد إلى القاهرة إلا بعد انتهاء الحرب. فهل تعرف كيف أستقي ذلك الموظف (الأديب) هذا الخبر (الصحيح)؟
استقاه من (خواطر مهاجر) التي ينشرها أخونا الزيات في الرسالة من وقت إلى وقت كلما بدا له أن يسجل مشاهداته عن أهالي الريف وقد أنتقل إليهم للترويح عن النفس في أيام الصيف، وسيرجع إلى القاهرة مع هلال شوال
ولو كان هذا (الأديب) أديباً لعرف أن نقل مطبعة الرسالة من القاهرة إلى المنصورة عسير لأسباب كثيرة أيسرها تكاليف ذلك النقل، لأن نقل مطبعة مثل مطبعة الرسالة من مدينة إلى مدينة يتكلف نفقات لا تغيب عن ذهن ذلك الأديب
وما دام الحديث ذا شجون فأنا أذكر ما قصه علينا المرحوم (أبو شادي بك) في إحدى خطبه بالأزهر أيام الثورة المصرية سنة 1919؛ قال الخطيب رحمة الله:
(أردت أن أعرف إلى أي حد تجوز الخرافات على الناس فقلت صباح الأمس وأنا راكب بالترام إن الألمان قد أتوا بالأعاجيب في العالم الاختراع، ومن ذلك أنهم حفروا بئراً في المنطاد زِبلنْ لتغنيهم عن حمل الماء في الأسفار الطوال، فلما كان المساء رأيت الناس يتحدثون عن ذلك الأختراع في إحدى القهوات)
ذلك ما قصه علينا أبو شادي بك، فهل أستطيع القول بأني أعاني من بعض القراء لواعج
هي أشد وقعاً من ذلك القصص الغريب؟
تصل إلى من يوم إلى يوم رسائل أفهم منها أن في القراء من يحرف كلامي أبشع التحريف، وهم في الواقع على حق، لأن مذهبي في الأدب يقوم على أصول من الرمز والإيماء، ولكن لا مفر من التصريح بجزعي من هذا المصير المخيف، فقد كنت أتوهم أني فررت من جماهير العوام حين تحصنت بمجلة الرسالة وقرائها خواص، لأنهم في الأغلب من الصفوة المختارة بين أبناء هذا الجيل، فإلى أين أفر إذا كان في أمثال هؤلاء القراء من ينتظر أن أقدم إليه كلاماً في وضوح الكلام الذي يقدم إلى قراء الجرائد اليومية؟
وهل قلت الرقابات حتى نحسب حساباً لرقابة القراء، وهم فيما تفترض أخوان أصفياء؟
حولنا رقابة المنافسين (وهم أكثر من الهم على القلب)؛ وحولنا رقابة المتجاهلين، ورقابة المتعالمين؛ وحولنا رقابة عنيفة جداً هي رقابة أعداء الأدب الصريح. وليس لنا أصدقاء غير القراء، فهل نيأس أيضاً من القراء؟
وإلى من نتوجه إذا يأسنا من قرائتنا، وإليهم نبث نجوانا بعبارات هي نجوى الحبيب إلى الحبيب في محضر الرقباء؟
ومن موجبات الأسى أني لا أستطيع السكوت بحال من الأحوال، ولا يمر يوم واحد بدون أن أخلو إلى قلمي ساعةً أو ساعتين، ولو كان أخوناً الزيات ينشر كل ما أقدم إليه لظفر الأدب بألوان كثيرة من الحلم والجهل واليقين والارتياب.
ولكن الزيات يرى أنه أعقل مني، وأنه يعرف من العواقب ما لا أعرف، وبذلك يستبيح التغافل عن بعض ما أكتب في بعض الأحايين، وهو يعرف كيف يوشي ذلك التغافل يوشي الترفق والتلطف، كما كان يصنع سعادة عبد القادر حمزة باشا يوم كان يهذب ما أرسل إليه من المقالات الجوامح وأنا في باريس
وفي ظلال الرقابة التي يفرضها المجتمع ويفرضها القراء الأوفياء يراد منا أن نصدق كل الصدق في جميع الظروف، فهل رأيتم مثل هذا التحكم العنيف؟!
وأنا مع ذلك سأنتقم - وقد انتقمت - من أهل زماني. سأتركهم في بلبلة فكرية لا تنجيهم من أهوالها صَفارة الأمان. سأتركهم في حيرة أقصى وأعنف من حيرتي حين أهم بمواجهة نفسي، ولن أموت إلا وقد أوقدت في صدر كل قارئ جذوة لا تخمد ولا تبيت. وتلك هي
رسالتي الأدبية، فأنا موكل بتأريق الجفون وتأريث النفوس، ولن يرى مني الناس غير ما يروع ويوهل، فقد ابتلهم المقادير بقلم يقترب إلى الله لتوزيع الروع والهول على الأغنياء الآمنين!
أمثلي يُجزى بمثل الذي أتلقاه من بعض الناس من يوم إلى يوم، وما كنت في كل أدوار حياتي إلا نموذجاً من الصدق والأمانة والإخلاص؟
لبعض الناس الويل، وما أحب أزيد!
طلعت حرب
أخرج الأديب مصطفى كامل الفلكي كتاباً نفسياً عن طلعت حرب باشا، وهو كتاب يسجل أعمال ذلك الرجل العظيم في الميادين الاقتصادية بنزاهة وصدق. وهل يكذب الباحث حين يضيف ألوف الصفات الجميلة بلا تحقيق إلى طلعت حرب؟ أن كلمة (بطل الاستقلال الاقتصادي) هي أصغر كلمة يوصف بها ذلك المصلح الهائل الذي استطاع بالصبر والصدق والمثابرة أن يروض المصريين على الثقة بأنفسهم في ميادين الجد والكفاح والنضال. ولو أن طلعت حرب ظهر في ظروف غير هذه الظروف لكتب عنه الباحثون ألف كتاب، فهو أهل لكل تكريم وإعزاز وإجلال. وقد ينسى الشعب المصري كثيراً من الأسماء اللوامع، ولكنه لن ينسى أسم طلعت حرب، لأن أسم هذا الرجل أعظم وأخطر من أن يجوز عليه النسيان
كتاب الأديب مصطفى كامل الفلكي عن طلعت حرب كتاب نفيس، وهو يمثِّل حرص الشباب على تأثر خطوات ذلك الزعيم الحصيف، ولكن ذلك الكتاب لا يصور من طلعت حرب إلا ناحية واحدة هي الناحية الأقتصادية، وإلا فأين طلعت حرب الأديب والمفكر والمصلح الذي كانت له مواقف في مخاصمة قاسم أمين والاهتمام بمصير قناة السويس؟
وهل صور هذا الكتاب جهود طلعت حرب في إنهاض (الجمعية الخيرية الإسلامية)؟
هل صور هذا الكتاب جهاد طلعت حرب في إعزاز الشخصية الأدبية؟
أن كتاب الأديب مصطفى كامل الفلكي على نفاسته قد أغفل هذه الجوانب، فهل يعود إلى ترجمة طلعت حرب من جديد لنعرف كيف يصير الأديب رجل عمل واقتصاد؟
هنا المشكلة الحقيقية وهي درس الصلة بين الأدب والمعاش، فأين من يفهمنا كيف صار
طلعت حرب الأديب طلعت حرب الاقتصادي؟ وأين من يفهمنا كيف جاز أن ينتقل الرجل من نقد الألفاظ إلى نقد الأموال؟
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: التجديد في اللغة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تبدو حركة التجديد المقصود في مظاهر كثيرة من أكبرها أثراً في التطور اللغوي الأمور الآتية:
1 -
تأثر الأدباء والكتاب بأساليب اللغات الأجنبية، واقتباسهم أو ترجمتهم لمفرادتها أو مصطلاحاتها، وانتفاعهم بأفكار أهلها وإنتاجهم الأدبي والعلمي. فلا يخفى ما لهذا كله من أثر بليغ في نهضة لغة الكتابة وتهذيبها وأتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر. فأكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في عصر بني العباس يرجع إلى انتفاع العلماء والأدباء باللغتين: الفارسية والإغريقية. فقد أخذوا في ذلك العصر يترجمون آثارهما، ويعقبون عليهما بالشرح والتعليق، ويستغلونهما في بحوثهم، ويحاكون أساليبهما، ويقتبسون منهما عدداً كبيراً من المفردات العلمية وغيرها، ويمزجونها بمفردات لغتهم عن طريق تعريبها تارة وعن طريق ترجمتها تارة أخرى؛ فأتسع بذلك متن اللغة العربية، وأزدادت مرونة وقدرة على تدوين الآداب والعلوم. ويرجع كذلك أكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في العصر الحاضر إلى انتفاع الصحفيين والأدباء والعلماء باللغات الأوربية الحديثة، ومحاكاتهم لأساليبها وتعريبهم أو ترجمتهم لألفاظها ومصطلحاتها، واستغلالهم في مؤلفاتهم ومترجماتهم لمنتجات أهلها في شتى ميادين الحركة الفكرية. ولغة الكتابة بفرنسا في العصر الحاضر مدينة بأهم نواحي رقيها إلى تأثرها باللغتين الإغريقية واللاتينية من جهة، وباللغات الأوربية الحديثة من جهة أخرى. فمنذ (عصر النهضة) لم ينفك أدباء فرنسا وعلماؤها دائبين على اقتباس المفردات اللاتينية واليونانية القديمة، ومحاكاة أساليب هاتين اللغتين، وترسم قواعدهما ومناهجها في البحث وقد أخذوا منذ عهد بعيد يقتبسون كثيراً من المفردات
والأساليب عن اللغات الأوربية الحديثة وخاصة الإنجليزية والألمانية؛ ولولا آلاف المفردات التي أقتبسها المحدثون من أدباء ألمانيا وعلمائها من اللغة اللاتينية وما تفرع عنها ومن اللغات الأوربية الحديثة، وبخاصة الفرنسية والإنجليزية، ما قويت لغة الكتابة بألمانيا على أن تصل إلى الشأو الذي بلغته الآن. . . ومثل هذا يقال في معظم لغات الكتابة في العصر الحاضر
وكثيراً ما تقتبس لغة الكتابة عن اللغات الأخرى بمفردات لها نظير متنها الأصلي. وكثيراً ما تقتبس مفرداً من لغة، وتقتبس نظيره في الدلالة عن لغة أخرى. وإلى هذه الظاهر وما إليها يرجع السبب في كثرة الألفاظ المترادفة (المشترك المعنوي) في لغات الكتابة. فما يذهب إليه بعضهم من أن الترادف بالمعنى الكامل لهذه الكلمة لا وجود له في اللغات ليس صحيحاً إلا فيما يتعلق ببعض لغات المحادثة التي تظل بمأمن من الاحتكاك باللغات الأخرى. أما لغات الكتابة التي يستحيل بقاؤها بمعزل عن غيرها، ولغات المحادثة التي يتاح لها هذا الاحتكاك، فلا تخلو من الترادف بالمعنى الصحيح للسبب الذي ذكرناه
2 -
إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في استخدام كلمات غريبة أوفى الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً
وبكثرة الاستعمال تبعث هذه المفردات خلقاً جديداً، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف. ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتساع متنها وزيادة قدرتها على التعبير. وقد سار على هذه الوتيرة بمصر في العصر الحاضر كثير من الأدباء والعلماء والصحفيين، فردوا بذلك إلى اللغة العربية جزءاً كبيراً من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن عدة نواح من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات
3 -
خلق الأدباء والعلماء لألفاظ جديدة. فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن أمور لا يجدون في مفردات اللغة المستعملة، ولا في مفرداتها الدائرة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقا. ً وقد لا يضطرهم إلى ذلك إلا مجرد الرغبة في الابتداع أو مجانبة الألفاظ المتداولة المألوفة، أو إبراز المعنى في صورة رائعة وتثبيته في الأذهان وتذليل سبل انتشاره بالإغراب في تسميته. وقد عم استخدام هذه الطريقة في الأمم الأوربية منذ القرن التاسع عشر، وكثر
التجاء الأدباء والعلماء إليها بنوع خاص في تسمية المستحدث من المخترعات الصناعية، والمصطلحات العلمية والأحزاب والمبادئ السياسية والاجتماعية، وفي التعبير عن بعض معان دقيقة في عالم الأدب والفلسفة، فناءت مؤلفاتهم بهذه الكلمات المصنوعة وتألف منها معظم المصطلحات في الفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة. . . وما إلى ذلك، وصبغ معظم هذه المصطلحات بصبغة دولية، فأقرته المؤتمرات والهيئات العلمية الممثلة لمختلف الأمم الأوربية وعم استخدامها في لغاتها (تلغراف، تليفون، سوسيولوجيا، جيولوجيا. . . الخ)، وقد أجاز المجمع اللغوي بمصر الالتجاء إلى هذه الطريقة حيث تدعو إلى ذلك ضرورة، بألا يوجد في مفردات اللغة متداولها ومهجورها ما يعبر تعبيراً دقيقاً عن الاصطلاح المراد التعبير عنه
ولا يخفى ما لهذه الوسيلة من أثر في نهضة لغة الكتابة، واتساع متنها ودقة مصطلحاتها وزيادة مرونتها وقدرتها على التعبير وقد أرتضى الأدباء والعلماء بعض قواعد عامة في وضع هذه الألفاظ، ويستعينون عادة في تكوينها بالنحت والاشتقاق الأكبر ومزج كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة. ويستمدون أصولها من اللغات الحية أو الميتة، وخاصة اللاتينية واليونانية القديمة. وكثيراً ما يستعان في تكوينها بأكثر من لغة واحدة. فمن هذه المفردات ما هو مؤلف من لغتين (سوسيولوجيا) أي علم الاجتماع: فصدر الكلمة (سوسيو) من أصل لاتيني معناه الجمعية، وعجزها (لوجيا) من أصل يوناني معناه المقال أو البحث أو الخطبة ، بل منها ما هو مؤلف من ثلاث (بيسيكلت) أي الدراجة، فإن (بي) من أصل لاتيني يدل على التثنية، و (سيكل) من أصل يوناني معناه الدائرة، وعجز الكلمة علامة فرنسية للتصغير ، ،
وقوام هذه المفردات هو التواضع والاصطلاح. ولذلك كثيراً ما تختلف معانيها اختلافاً يسيراً أو كبيراً عن معاني الأصول التي استمدت منها
ولا تبقى هذه الألفاظ جامدة على الحالة التي وضعت عليها، بل ينالها ما ينال غيرها من المفردات، وتخضع في تطورها الصوتي والدلالي لنفس القوانين العامة التي تخضع لها الألفاظ الأصلية؛ فبمجرد أن يقذف بها في التداول اللغوي، وتتناقلها الألسنة، تفلت من إرادة مخترعيها وتخضع لنواميس الارتقاء العامة المسيطرة على ظواهر الصوت والدلالة.
فاللفظ الموضوع أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف في جهة معينة بقوة خاصة؛ فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره في تعطيلها أو وقف آثارها. ولذلك يختلف الآن النطق بالألفاظ الموضوعة، ويختلف رسمها باختلاف الأمم واللغات. والأسلوب الصوتي الذي كانت تلفظ به منذ قرن أو قرنين مثلاً غير الأسلوب الصوتي الذي تلفظ به الآن. وقد أخذ كثير منها عند جميع الكتاب أو عند بعضهم ينحرف في دلالته نفسها عن المعنى الذي له في الأصل
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون
من رسائل الصيف
النيل المنتصر
للأستاذ عبد الحميد يونس
أخي إبراهيم:
. . . وشاءت الأقدار أن تحول بيننا وبين اللقاء فوق تلك الصخرة الناتئة في البحر عند سيدي بشر، التي يعرفها الناس باسم صخرة (بئر مسعود). . . وكنا قد تعودنا اللقاء عندها كل صيف، ولعلك لم تنس بعد ما كان لنا هناك من مجلس وما دار بيننا من حديث
ألم يكن يهولنا البحر الذي رأيناه كائناً حياً يفيض بالمشاعر ويزخر بالأحاسيس؟ أما عجبنا من بغضه للقراءة وعداوته للأوراق مما يحجب الإنسان عن الاتصال به والغناء فيه؟ وكم من مرة اختطفت نسائمه، وما عرف عنها من فضول، الصحف من أيدينا، فما رددنا ذلك - لفرط افتتاننا به وقتذاك - إلى الجهل، وإنما رددناه إلى اختلافنا وهذا البحر في النظرة والاتجاه، فنحن قد عكفنا على القراءة عكوفنا على لفائف التبغ إنفاقاً لجهد محتبس وتزجيه لفراغ طويل، وفراراً من العقل والقلب جميعاً!
ألم نكن نأخذ على هذا البحر ولوعه بالجمال وكلفه بالحسن، لا يبالي في ذلك احتشاماً ولا يحفل بتقليد؟ ألم ننتقد فيه تلك الإباحية التي تدفعه إلى إيثار العري أو ما يشبه العري، ولا نأبه لدفاعه على ألسنة أمواجه المدمدمة ورياحه المصفقة، بأن التخفي والتستر ضرب من النفاق يجب أن يزول؟
ألم تكن تلمح فيه بنوع خاص عزوفه عن تكلف الزينة التي أصبح الناس يحذقونها إلى حد جعل السواد الأعظم منهم لا يفرق بين الطبيعة والصناعة في قليل أو كثير، بل حتى وأصبح الفن لوناً من التزييف المحكم الدقيق؟
ألم نلاحظ في ذوق هذا الهمجي توحيده بين الجمال والقوة، أو على الأقل تقريبه بينهما، ثم تفرقته بين الجمال والجنس حتى لكأنه يوناني النزعة في تفضيل الذكور على الإناث في النوع الإنساني. . .؟
لقد سرنا أيها الصديق شوطاً بعيداً في محاولة الكشف عن شخصية هذا الكائن المهوب ودراسة نوازعه ومعرفة أهوائه. ومن يدري فربما كنا نكسب عليه شعاعاً من نفوسنا نحن،
ونلقي عليه قبساً من نوازعنا نحن، وأهوائنا نحن؛ والإنسان يضفيُ من مشاعره على كل ما يحيط به، ينطق الصخور الصم الجلاميد بالشعر، ويرسل الحكمة على الألسنة الرياح المختلطة الأصداء والنغم. . . وإلا فكيف غاب عنا ما في هذا البحر من غدر وبطش وفتون؟. . .
واليوم لا مجلس لنا عند تلك الصخرة العاتية، ولا سمر ولا حديث! أين المظلة المنعزلة عن أخواتها لأن أصحابها زعموا لأنفسهم أنهم أكثر اتصالا في الطبيعة وأقوى شعوراً بالجمال؟ وأين جنيات البحر اللاتي لم يكن يراهن سوانا ونحن ينشرن أجنحتهن على صفحة الماء بالألوان السبعة التي تتفرق وتتداخل حتى يرد عنها البصر وهو حسير؟ أين بنات (ليليت) وهن يرقصن في نشوة وجنون على موسيقى الأمواج والرياح الزاعقة؟ أين. . . أين؟
ولست أدري ماذا فعلت أنت في هذا الصيف. أما أنا فقد أستعظت عن البحر بالنيل، ولم يكن مجلسي منه على صخرة ناتئة صلبة إسفنجية السطح كصخرة بئر مسعود، وإنما كان حيث ما يلذ لي أن أجلس على شاطئه السخي الحنون. وما من مرةٍ خلوت إليه إلا ذكرتك. ترى لو كنت معي في هذه اللحظات التي لا تقاس بالأعمار، أكنت تشاركني في الإعجاب به؟. . أنه أسمر الطلعة، ولكنه واضح الجبين، تلتقي فيه الحكمة والشعر. أنه لا يحس الجمال فحسب، ولكنه يخلقه خلقاً ويبدعه إبداعا؛ ثم هو لفرط شعوره بالقدرة يعبد خالق القدرة وينفق جانباً كبيراً من وقته في التسبيح والترتيل والصلاة!
في كل بقعة من واديه حياة، وفي كل ناحية من أنحائه حب، وفي كل ركن من أركانه معبد للجميل الذي يحب الجمال. . .
ولا عيب فيه إلا حلاوة في طبعه، ودماثة في خلقه، ورحابة في صدره، يراها الأغرار مظهراً من مظاهر ضعفه مع أنها سمة من سمات قوته، وشارة من شارات اعتزازه بنفسه صيانة لها عن إدعاء القوة في معترك لا شبيه له فيه ولا قريب. . .
النيل يبذل في غير تبذير، ويأخذ في غير اغتصاب دائم الصداقة، دائم الإحسان، معتدل في حالتيه بين البسط والقبض، لا تهاون فيه ولا غفلة ولا طيش. . .
النيل خلاق ولود فيه من الأبوة ميل إلى البناء والتعمير واختزان التجاريب على الأيام
والعصور. . .
أتذكر أيها الصديق كتاب طبقات الأرض الذي شقينا بدراسته أيام الحداثة والذي كنا نعتبره إذ ذاك أنجع دواء للأرق! أنت تذكره ولا شك، ولكنك لن تصدق أنني مشوق إلى قراءته من جديد! أنه الكتاب الذي فتح عيني على سر العظمة في هذا الملك العظيم. . . ألم تقرأ فيه أن البحر كان يبسط سلطانه القاهر إلى الصعيد؟ فمن الذي رده إلى حيث هو اليوم، ومن الذي سيرده إلى أبعد من هذا غداً؟
قل لهؤلاء الذين ظنوا به الهرم: لقد جهلتم طبيعته واستخفكم هدوءه. . . إنه يحتمل ويحتمل، ولكنه لا يصبر طويلاً على الأذى. إنه يأخذ من الجبل الأشم ويبسط جناحيه على الصحراء الجافية ويطأ البحر بقدميه الثابتتين في أناة وبطؤ وعزم!
قد يستعدي البحر قبضات من رمال الصحراء عليه تستدرجها أمواجه ثم تقذفها عليه، وقد يرسل البحر رياحه تدفع الكثبان للإغارة عليه، ولكنه يهضمها فيما يهضم ويحيلها مادة من مواده وكتيبة من كتائبه، وما أندر ما عسر هضمه على معدته القوية الجبارة، إنه يلفظه إلى حيث لا يمكن أن يعود
تعال أيها الصديق أنظر إلى عرائس حقوله بعيونهن العسلية التي تفيض بالوداعة والبشر والإيناس. إنهن يتحدثن في همس، ويتحركن في لين وخفة، يزيد شغفك بهن كلما سترن محاسبتهن تحت الشفوف ذوات الألوان الثابتة، وإذا رقصن أعدن عليك مشاهد الصلاة القديمة التي كان يمتزج فيها الفن بالعبادة
فتننا البحر كما فتن غيرنا لأن الإنسان يكلف بما ليس في طبيعته. إننا ذرات صغيرة من هذا النيل، وأنا في هذه الأيام السود أشعر بقوة هذا الامتزاج حتى لكان هذا النيل يسعى على قدمين
إنه يتأهب لوقعة حاسمة سينتصر فيها كما أنتصر دائماً، ولن يبذل في سبيل ذلك إلا ذرات صغيرة، وأن تكن عزيزة عليه، وما أسعدني يوم يضمني إليها حين يدعو إلى التضحية والفداء
(طبق الأصل)
(حمدي)
تاريخ مصر ونهضتها القومية
للأستاذ عبد المجيد نافع
في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين أثارت طائفة من فلاسفة الغرب وعلمائه وكتابه، حملة شعواء ظالمة على التاريخ كعلم من العلوم الإنسانية، وبلغت تلك الحملة أشدها حين طغت موجة العلوم العلمية على العلوم النظرية، وجرف تيار الروح المادي كافة المثل العليا التي تغنت بها الإنسانية طوال السنين أو كاد، وأسرف بعض الفلاسفة في توجيه النقد فنادى بأن التاريخ لا يعدو أن يكون (مجموعة أكاذيب) لا ينبغي للشعوب أن تشغل أذهانها بها، ولا يحل في شريعة التربية الوطنية أن نسمم عقول النشء بحشوها في ثناياها؛ وأبى بعض أولئك الفلاسفة أن يسمو بالتاريخ إلى مرتبة العلم الجدير باسم علم، إذ لم تكن له المبادئ الثابتة والمقاييس والضوابط والحقائق التي تنطوي عليها علوم الرياضة والهندسة والفلك وما إليها من العلوم المضبوطة، وإن من ضياع الوقت الضرب في مجاهل التاريخ بدل الإلمام بالكيمياء
والميكانيكا والجيولوجيا والبيلوجيا والفزيولوجيا وغيرها من العلوم العلمية. وذهب بعضهم إلى حد القول بأن الذي جنى على الحضارة الإنسانية شر الجنايات إنما هو التعلق بالخيالات، واطراح الحقائق العلمية ظهرياً ونعي أحدهم على التربية في عصره العناية بالنظريات، والتنكر للحقائق العملية إلى حد أن يجهل الناشئ جهلاً مطبقاً أعضاء جسمه، على حين أنه يلقى عن ظهر غيب تاريخ ميلاد الملوك ووفياتهم وحروبهم، ولو لم يكن لأولئك الملوك أثر بارز في التاريخ، ولو لم تغير معاركهم الحربية مجراه في كثير أو قليل، كأنما التاريخ بات ثبتاً بمواليد الملوك ووفياتهم، وقائمة حمراء بالمعارك الدموية! وعلى الجملة فقد قام أولئك العلماء ينشدون (الإنسان الآلي) ويضلون عن الإنسان المركب من جسم وروح وعقل!
كان يمكن أن ترجح وجهة نظر دُعاة المذهب المادي لو أن التربية إنما تعني بالجسم والعقل دون الروح، ولكن التربية الحقة في ضوء العلوم النفسية، وعلى هدى التجارب التي تمليها نهضات الشعوب، ينبغي لها أن تعني بالجسم ثم بالروح ثم بالعقل، بحيث يحصل التوازن فلا تطغى قوة على أخرى والإنسان تسوقه العاطفة أكثر مما يسوقه العقل.
والعواطف الملتهبة الجياشة التي تبلغ حرارة اليقين وغليان الإيمان، وتترفع إلى الرضا بالاستشهاد في سبيل ما يعتقد المجاهدون أنه الحق، هي التي غيرت وتغير وجه التاريخ، لا برودة العقل والبحث العلمي المجرد. والأمم في جريها وراء تحقيق المثل العليا تشعر في أعماق نفسها بقوة تحفزها للنهضة والتقدم إلى الأمام. وما كان لحفنة من العرب أن يخرجوا من جزيرتهم الجرداء القاحلة غير مزودين بعدة أو عدد، أن يهدموا إمبراطوريتي الرومان والفرس ويقيموا على أنقاضهما الإمبراطورية العربية الضخمة، وينشئوا الحضارة الإسلامية، وهي أبقى على الزمن الباقي من الزمن، لولا الإيمان الذي يغمر قلوبهم، واليقين الذي يدفعهم إلى تحقيق مثلهم الأعلى
وفي الحروب أفلا تراهم يتحدثون عن الروح المعنوية، وأنها هي التي ترجح كفة النصر. ثم ألا ترى أن الدعاية القوية هي التي تقود خطوات الشعوب. ولعله لا يكون من الإسراف أن نحمل طائفة من مؤرخي الألمان وفلاسفتهم وعلمائهم النصيب الأكبر في تبعات الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت في حربين لم تكد تخبو نار أحدهما حتى تأججت نيران الأخرى أشد ما تكون ضراماً في فترة واحد وعشرين عاماً، ولا يعلم إلا الله ماذا تلتهم ومتى تخمد! ومن ذا يستطيع أن ينكر أن تريتشكه ونيتشه يساهمان بنصيب كبير في الروح الحربية الروسية، وأن عقول وأقلام راتينا وكيزرلنج وتوماس مان وشبنجلر ومولر فإن دن بروك وفيدر وروزنبرح وغيرهم من غلاة المذاهب الفلسفية المتطرفة هي التي صاغت ألمانيا النازية التي تتحدى اليوم العالم بمن فيه وما فيه! لقد نفخ هؤلاء وأولئك في روح الألمان أنهم من طينة كثير من الأمم، وأنهم خلقوا للتسلط والسيادة، وأن الحرب إنما هي صدام بين إراديتين، وإنما يعقد النصر بلواء الأقوى فيهما وأنه لابد لألمانيا من أن تصفي حسابها مع الغرب، أن لم يكن اليوم فغداً، ليتسع لها المجال الحيوي، ولتأخذ مكانها في الشمس، ولتأخذ مكانها من سيادة العالم، وتطالع الدنيا بنظام جديد ينهض على القوة والرقي بدل النظام الذي كان يقوم على الضعف والانحلال!
إنما تنكر بعض الفلاسفة والعلماء للتاريخ وأكبروا أن يرتفعوا به إلى مرتبة العلم، لأنه كان قائماً على مجرد سرد الوقائع وذكر الأرقام، وليس هذا من التاريخ في شيء. فإذا اصطبغ بصبغة الأدب فهو أدنى إلى القصص التاريخي منه إلى التاريخ الحق. إنما المؤرخ الجدير
بهذا اللقب، هو الذي يعتبر المجتمع الإنساني مثل الجسم الإنساني يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر من عوامل التطور، ودواعي الصحة والمرض، والقوة والضعف؛ ويساير الأمة منذ نشأتها، ويدرس البيئة وما يحيط بها من عوامل مؤثرة، ويحلل المؤثرات التي تنتاب الشعوب، ويعلل الظواهر الاجتماعية، ويلقي شيئاً من الضوء على ما أبهم في حياة الأمم ويضيء الجوانب المظلمة في التاريخ الإنساني، ويجلو الغامض في المسائل التاريخية التي أحدثت الانقلابات أو جرت إلى التحول والانتقال، ويطالعنا كيف ارتفعت بعض الأمم إلى الذروة، ثم هوت إلى الحضيض، وعلى الجملة يكون في تحليله وتعليله مثل العالم في معمله، والفلكي في مرصده
توفرت على دراسة كتاب (مصر القديمة) للعالم الأثري الكبير الدكتور سليم بك حسن، فأوحى إلي فيما أوحى بتلك الخواطر جميعاً. والحق أنه جعل التاريخ المصري القديم مادة حية تغذى نهضتنا الحديثة الغذاء الروحي والعلمي والعقلي الصالح، ووصل ما أنقطع بين مصر العصرية ومصر القديمة
لقد ظل تاريخنا القديم السنين الطوال حرماً مقدساً لا يغشاه إلا الغربيون، وكنا إذا شئنا أن نجيل الطرف في مجدنا التليد عمدنا إلى مصنفات الفرنج نقلب صفحاتها، ومن لم يكن ملماً بلغة أجنبية ضرب بينه وبين تاريخ بلاده حجاب، وكنا إذا أردنا أن نرتوي من عظات الماضي نهلنا من موارد الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان، فأكبر عالمنا الجليل أن تظل تلك الوصمة عالقة بنهضتنا، وهذه الشائبة، تشوب صحيفة ثقافتنا، وذلك النقص يعتور حضارتنا، فأقبل يستلهم الآثار النقوش، ويستهدي المحاجر والمقابر، ويبحث وينقب، ويبوب ويرتب، ويتابع، ويراجع ما كتبه الفرنج وغير الفرنج، ويساير البيئة المصرية منذ نشأتها ويرقب تطورها وتحولها، ويراقب العوامل التي أثرت فيها والملابسات التي أحاطت بها، ويرقب النتائج على المقدمات، ويفصل بين أصدق الآراء في معترك الآراء ويجلو الغامض والمبهم، ويمزح علم التاريخ بعلم الاجتماع، ويقدم من مجد الماضي مادة لتغذية الوطنية المصرية المتوثبة، ويكشف عن مواطن الأدواء التي انحدرت إلينا من الماضي السحيق، ويضع مشرطه على مكمن العلة في غير تهريج علمي، ولا نعرة وطنية كاذبة، بل في تواضع العلماء، فوفق إلى إبراز التاريخ المصري في حلة قشيبة يجدر بكل من
شرب ماء النيل وأظته سماء مصر أن يرجع البصر في ذلك التاريخ الحي كرتين
لقد ساهم العالم الفرنسي الكبير شمبليون بقسط كبير في خدمة قضية المدنية والعلم حين كشف عن الكتابة الهيروغليفية المنقوشة على حجر رشيد؛ وما احسبني مسرفاً أو مغالياً حين أقرر أن الدكتور سليم حسن قد خدم النهضة المصرية بمؤلفه الجديدة أجل الخدمات
ولعلي لا أعد محلقاً في أجواء الخيال إذ أجاهر بأن لفنجستون وستانلي قد كشفا عن مجاهل أفريقيا فخدما العلم والحضارة، وأن عالمنا المصري قد كشف عن مجاهل التاريخ المصري فتوج النهضة الحديثة بأبهى التيجان وأغلاها
لم يكن التاريخ المصري غامضاً فحسب، بل كان لفرط تشابهه يبعث السأم في النفوس، فانصرف عنه الشبان الذين يؤثرون تغذية الروح على تغذية العقل. ولكن عالمنا قد نفخ فيه من روحه وأسبغ عليه من فيض حماسه، وأضفى عليه من وافر إخلاصه ما جعل النفوس التي على ظمأ تتشربه تشربا
على أنه قد عف عن التهويش العلمي، وتورع عن أن يجعل كتابه مصطبغاً بالصبغة الأدبية البحتة ليكون سائغاً للنفوس، بل جعله بين ذلك قواماً في أسلوب علمي هادئ وبحث أدبي رصين
إلى عهد غير بعيد كانت معرفة التاريخ المصري القديم تعتبر ضرباً من ضروب الترف العقلي ولوناً من ألوان الزينة العلمية، ولكن اليوم ونحن أمة تبتغي أن تأخذ مكانها بين الأمم الناهضة وتطمح لأن تساهم بنصيب في خدمة قضية الحضارة، ينبغي لنا أن نعد الإلمام بتاريخ وطننا ضرورة قومية
الكبرياء رذيلة للأفراد، ولكن الكبرياء القومي فضيلة اجتماعية للشعوب، والكبرياء القومي والعزة الوطنية لا يتوفران لشعب إلا إذا شعر شعوراً صادقاً وعميقاً بمكانة وطنه في الماضي والحاضر، وإذن فليس يكفي القومية المصرية أن تشهد نهضة حقة في الحاضر، وإنما ينبغي لها أن تعرف أن الأمة التي بلغت ذروة الحضارة في الماضي البعيد بينا كانت أمم الغرب لا تزال تأوي إلى المغاور والكهوف لهي أمة خليقة بأن تكون في طليعة الأمم المتحضرة
ما أحسب الذين يدينون بمبدأ العنصرية القائل بجعل الأجناس بعضها فوق بعض درجات
إلا مريدين به أن يكون حافزاً لشعوبهم لتحقيق غاية التسلط والسيادة، ولنا أن نسأل: إذا كان المصري قد بلغ ذاك الشأو من الحضارة في الماضي فما الذي يقعد به عن أن يكون في مقدمة المتحضرين اليوم
ذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن المدنيات نشأت أول ما نشأت في الأمم التي تتوافر فيها وسائل العيش وتسهل، في الأمم التي لا تكون الطبيعة فيها قاسية لا تعرف الرحمة، ولهذه الاعتبارات نشأت المدنيات في مصر وآشور والهند والصين، فلما أشتد ساعد الإنسان فوق الأرض، واستطاع مكافحة عوامل الطبيعة ومغالبتها انتقل مركز المدينة. ولكن الرد على تلك النظرية هين ميسر، فالذين بنوا الأهرام ونحتوا أبا الهول في الصخر، وضربوا في العلوم بسهم وافر، وأنشأوا النظم على اختلاف أنواعها، خليق بأبنائهم أن يأتوا في هذا العصر بالمعجزات
لقد كانت مصر القديمة مهبط وحي الأديان جميعاً. فالله، والروح، والبعث، والعقاب، كل أولئك قد اهتدى إليه آباؤنا المصريون. وأين نبتت فكرة الخلود إلا في الأرض المصرية؟ ولعله ليس من العجيب أن يؤلهوا ملوكهم، فعبادة البطولة كانت ولا تزال متأصلة في أعماق النفس البشرية
كان لأجدادنا المصريين حكومة منظمة بكل ما تحمل هذه اللفظة من معنى، يوم كان الغربيون يهيمون على وجوههم في الآجام، ويسكنون المغاور والكهوف، وكانت إدارة مصالح الحكومة تسير على أحسن وجه، وأكمل صورة، يوم كان الأوربيون لا يدركون حتى مدلول تلك الكلمة، وكانت لهم علوم وفنون، يوم كان غيرهم يعيشون على الفطرة
وآمن المصريون القدماء بأن العدل أساس الملك، فوضعوا التشريع المدني والجنائي، ونظموا الهيئات التي توزع العدالة بين الناس
وفطنوا إلى أن الثروة عنصر من عناصر قوة الأمم فاستغلوها على خير وجوه الاستغلال
وأدركوا أن عزة الشعوب ومنعتها في قوة جيوشها التي تحمي استقلالها وتصد المغيرين عن كيانها، وأن الحروب هي القانون القاسي الذي فرض على تلك الإنسانية البائسة، وأن السلام ليس إلا هدنة بين حربين، وأن الجار المتوثب لا يكبح جماحه إلا السلاح، أدرك المصريون كل أولئك فجيشوا الجيوش وغزوا البلاد وقلموا أظافر المعتدين
وضعوا نظاماً صالحاً للأسرة إذ آمنوا بأنها الأساس الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي
وأحاطوا بكل عناصر المدنية، فأوغلوا في العلوم والفنون والآداب، ومازالت أثارهم تنادي بالتقدم الذي بلغوه يوم كان العالم لا يزال يضرب في ظلمات الجهالة
إذا كانت السياسة هي فن حكم الشعوب، فلا مندوحة لمن يطمح لحكم شعب أن يلم بعلم التاريخ عامةً وتاريخه خاصةً
وسط ضجيج الحرب عمل الدكتور سليم في صمت، فطالع الأمة بذاك الأثر الخالد، فما أجدى المصريين أن يجعلوه مصباحاً يضيء لهم طريق المجد والمدنية.
عبد المجيد نافع
بعد الفاجعة
أماه. . .
للآنسة أمينة قطب
الثلاثاء 15 أكتوبر سنة 1940. . .
أماه. . .
أتراني أقوى الآن على أن أكتب شيئاً؟ يخيل إلي أني لا أستطيع، وأن استطعت فبضع كلمات لا تعبر عما في نفسي
لقد كنتِ القوة الغريبة التي لا تُشِع الحياة في عقولنا ونفوسنا، فنفكر ونحس، ونقوى على العمل. كنت الأمل الباسم الذي ينير لنا الحياة. كنت المصباح الهادي نسير على ضوئه غير مبالين ما يعترض طريقنا من صعاب
والآن ماذا فقدنا بفقدك يا أماه؟ لقد فقدنا كل شيء. فكفت عقولنا عن التفكير، وأظلمت نفوسنا، وخمدت فيها جذوة الحياة
كل هذا ولما يمضي أسبوع على غيبتك. فيكيف تمر بنا الأيام والسنون؟
هاهو ذا القمر الذي كنت أجلس إليه الساعات الطوال أتأمل في جماله وما يسبغه على الكون من جمال وسحر. هاهو ذا الآن يسطع أمامي ويملأ الكون نوراً، فماذا أرى فيه، أنه رقمه صفراء أو بيضاء لست أدري! لا توحي إلى النفس بشيء، بل تشوه الفضاء الواسع بلونها الباهت المريض. . . أي تبدل هذا الذي تم في نفسي خلال أسبوع؟. . . ويحيى ماذا أقول؟ أسبوع فقط؟ أني لأحس به سنين وأجيالا
آه ما أقسى الحياة، حين تموت في النفس الحياة!
أماه. . .
بربك تعالي وأعيدي إلينا الحياة. أن هذه الوحدة قاسية ومؤلمة. ولن نستطيع احتمالها أكثر من هذا الأسبوع! تعالي فلن نستطيع احتمالها السنين الطوال
أماه. . .
هل أطمع في تلبية ندائي؟ هل أطمع في عودتك يوماً من الأيام؟
الجمعة 18 أكتوبر. . .
أمي. . .
أصحيح إنما مضى على رحيلك عنا هو تسعة أيام؟ إذا كيف تمر الشهور والسنون؟ تسعة أيام فقط تتبدل فيها نفسي هذا التبدل؟ أين نفسي الأولى المرحة المشرقة المتفتحة للحياة الخالقة للآمال؟ أين هي من هذه النفس الميتة الغائبة عن العالم وما فيه من آمال وأحلام، البعيدة عن كل ما في الكون من مباهج الحياة وجمال؟ أنها هاتين النفسين لتفصل إحداهما عن الأخرى سنون وأجيال!
لقد طرق سمعي من بعيد منذ لحظات صوت (أم كلثوم) في تلك الأغنية الحبيبة إلى نفسك التي كنت تطربين لها حين أغنيها لك. . . تنبهت فجأة وكأنني أحلم: أو مازال صوت (أم كلثوم) يردد في الأفاق ويسمعه الناس ويطربون له؟ أو مازال في الدنيا غناء؟!
أين أنا أذن وأين نفسي التي كانت تطرب للغناء؟ لقد جمعت شتات فكري على نغمات هذا الصوت، وأخذت أبحث عن نفسي التي كانت تسمع وتطرب، فوجدت أنها كانت هنا قبل تسعة أيام!
أمي. . .
يخيل إلي عندما أسمع صوتاً كنت أسمع أو أرى شيئاً كنت أرى هناك في المنزل الأخر قبل أن نرحل إلى هذا البيت. . . يخيل إلي أنني لو ذهبت إلى المنزل الأول لوجدتك هناك! وعند إذن أجلس إليك وأحدثك وأغني لك تلك الأغاني التي كنت تحبينها! أجل، يخيل إلي هذا فأصدقه وأعتزم الذهاب. ويومض في نفسي شعاع من الماضي الحبيب، ولكن سرعان ما يطفئه صوت الحقيقة المؤلم الحزين، وتعود نفسي إلى ظلامها وموتها
أمي. . .
هل أطيع ذلك الخيال مرةً وأذهب إلى المنزل الأخر؟ من يدري يا أماه، ربما أجدك وأجلس إليك ولو بضع لحظات؟!
أبنتك الحزينة
آنسة أمينة قطب
محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 2 -
المحاورة بين أفلاطون وأحد المربين الإنجليز. ولقد أسفرت
في المقالة السابقة عن أن التربية الإنجليزية إنما تعد الفرد
ليشترك في انتخاب الحكومة الديمقراطية التي يكونها الشعب
لخدمة الشعب، وليساهم في حكم الأمة، وتسيير شؤونها
الداخلية والخارجية. غير أن أفلاطون يتساءل كيف يتمكن
أفراد الشعب، بما هم عليه من تربية محدودة، وخبرة في
الحكم وسياسة ناقصة، أن يوجهوا سياسة الحكومة وأن يشرفوا
على نظام الحكم، فهذا التوجيه والأشراف لا يقوى عليه إلا
الفيلسوف. وكان آخر سؤال وجهه أفلاطون للمربي هو: لقد
كنت أنك تريد أن تكون فرص التربية والتعليم سواء لجميع
أفراد الشعب، فما الذي تريد أن تصل إليه بهذا كله؟
المربي: المسألة مسألة مبدأ العدالة العامة التي تقضي بأن يتاح لكل أطفال المجتمع على السواء جميع الفرص الممكنة في التربية، لا فرق بين غني وفقير
أفلاطون: أي الفرص تعني؟
المربي: الفرص التي تمكن الطفل من تنمية مواهبه وقواه الطبيعية إلى أقصى حد ممكن.
الفرص التي تفسح له طريق التعليم الجامعي أن كان عنده الاستعداد العقلي لذلك
أفلاطون: واضح كل هذا. أنت تريد تعطي كل فرد في المجتمع مجالاً ليتعلم، وليتخذ المهنة التي يصلح لها بمواهبه الفطرية، وتقصر التعليم الجامعي على ذوي الاستعداد العقلي، والذين يمكنهم الإفادة منه؟
المربي: أجل هذه هي غايتنا. وقد استطعنا - بوضع هذه الغاية نصب أعيننا - أن نبني نظام التربية في بلادنا على شكل هرمي؛ يكون التعليم الأولى قاعدته؛ وعليها يرتكز التعليم الثانوي، أما التعليم الجامعي العالي فيكون القمة
أفلاطون: وهل تُعُدُّون الذين لم ينالوا التعليم الجامعي كاملي التربية؟
المربي: لا أظن ذلك
أفلاطون: فكيف إذا يجوز لكم أن تخولوا هذا الذي لم يُتْمم التعليم الجامعي أن ينتخب الممثل النيابي، وأن يكون له رأي في شئون الأمة وسياستها، على حين أنك أنت تقرر أنه غير قادر على ذلك؟ فإذا كان السواد الأعظم من النشء لا يعدو مرحلة التعليم الأولي والثانوي، ولا ينال أي حظٍ من التعليم الجامعي فإنه من البين أن هذا الشعب الذي يمثله سواده الأعظم يجب ألا يتحمل أمانة الحكم الثقيلة ويجب أن يترك سلطة الحكم والسياسة في أيدي من ينجحون بتفوق في الامتحانات الجامعية من الرجال والنساء
المربي: حقاً إن هذا لصحيح من الناحية النظرية، غير أنا - معشر الإنجليز - لا نعتقد أن الدرجات العلمية والجامعية هي المؤهلات الوحيدة لتحمل أمانة الحكم وتبعة السياسة. والواقع أننا نجد معظم الجامعيين من الأساتذة والعلماء على نصيب قليل من الدربة السياسية، والدراية بطرق الحكم، إذا قسناهم بهؤلاء الذين تخرجوا في جامعة الحياة اليومية
أفلاطون: إذا كنتم تعتقدون في جامعة الحياة اليومية وإعدادها، فلماذا إذا أسستم الجامعات، ولم تتركوا الأمر للعناية السماوية أو لظروف الحياة (أيهما تختار) لإعداد حكامكم وتكوينهم؟ وإذا كنتم لا تعتقدون أن التربية تستطيع أن تنشئ الفرد وتسويه وتخلق منه شخصاً آخر أصلح من ذي قبل لمهنته في الحياة، سواء أكانت الصِّرافة أم التجارة أم الحكم، إذا كنتم لا تعتقدون هذا فنصيحتي لكم أن تضربوا بمشروعات التربية عرض الحائط، وأن تتركوا الأمر لظروف الحياة والقدر
المربي: يظهر أنه من المستحيل على أن أبحث أمور التربية مع رجل مثلك يضحي بأية فكرة في سبيل صحة القضايا المنطقية. إن نظام التربية عندنا في إنجلترا ليس منطقياً، لأنه نما نمواً تاريخياً على أسس رسخ أصلها في الماضي. فهو مملوء بالمتناقضات والغموض، لا لسبب إلا لأنه نشأ وتطور بحسب الحاجة والمناسبات المختلفة المعقدة. فليس نظام التربية عندنا من صنع أفراد مستبدين
أفلاطون: إن ما تقول لجائز. ولكن يجب أن تكون ثمة مبادئ ثابتة تسيرون عليها في إصلاحاتكم التعليمية، ومناهجكم التربوية، وحين تقررون خطوات الإصلاح الاجتماعي. هذه المبادئ الثابتة هي التي أحاول استيضاحها الآن في محاورتنا هذه. إن صحة المنطق واستقامته ليستا عيباً حتى ولو كان محاوري إنجليزياً! وإنني أعتقد أن عدم استطاعتك أن تجيب عن أسئلتي البسيطة دليل على عدم وضوح غايات التربية عندكم. فبالرغم من أنكم لن تقرروا بعدُ لمَ يربَّي الشعب ولم يُعلَّم، أراكم دائبين على افتتاح مدارس جديدة، ومطالبين البرلمان بمد أجل التعليم الإجباري إلى الخامسة عشرة بدلاً من الرابعة عشرة
دعني إذا أشرح لك الأمر بوضوح أكثر. هناك نوع من التربية يسمى التربية المهنية أو الفنية، أليس كذلك؟ ونعني بهذه التربية إعداد الفرد لمهنة خاصة أو حرفة
المربي: نعم
أفلاطون: وكنتيجة لهذه المقدمة المنطقية أعتقد أنه من الممكن أن تحكم على كل أنواع التربية بأنها فنية مهنية، لأن كل إنسان لا يخلو من أن يكون صالحاً بطبيعته لمهنة من المهن التي يمكن أن يتعلمها ويحذقها بالتربية؛ فالمزارع يمكن أن يتعلم الزراعة، والبناء يمكن أن يتعلم البناية وهكذا. وقد اعترفت أنت في حديثك أن الحكم مهنة من المهن، أفلا يكون من المعقول أن يوجد نوع من التربية بمكن الفرد من التمرن على فن الحكم وإجادته؟ فما رأيك؟
المربي: ربما
أفلاطون: إنني أعتبر (ربما) هذه دليلاً على أن ناحية التعقل عندك - لو لم يشبها التحيز والتعصب للرأي - تميل إلى قبول وجهة نظري. وما دمت توافق على أن هناك نوعاً من التربية، أو بعبارة أخرى أضبط يمكن أن يوجد نوع من التربية يعد طبقة الحكام ويكونهم،
فدعنا نشرح الآن في بحث ما إذا كانت التربية الجامعية قادرة على إعداد هذه الطبقة من الحكام، أموافق؟
المربي: أظن أنك تتوقع مني الإجابة (بنعم) ما دامت نظريتك هذه مبنية على المبادئ التي في (الجمهورية)
أفلاطون: لقد سررت كثيراً حينما عرفت أن التعليم الجامعي عندكم يشمل ناحتين: ناحية البحث العلمي الحر، وناحية الثقافة العامة، وحينما وجدت أنكم في الجامعات تعتنون بالمسائل المعنوية النظرية كجزء ضروري في التعليم الصحيح، ولكني أسفت حينما سمعتك تقول: إن خريجي الجامعات لا يعتبرون عندنا ساسة قديرين، ولعل السبب في هذا هو أن معظم الشبان الذين يدرسون في جامعاتكم لا يهمهم أن يعدوا أنفسهم لمهنة السياسة والحكم، ولكنهم يعدون أنفسهم لمهنة تجارية أو صناعية أو كتابية، يستطعيون بها كسب قوتهم ومعاشهم. فإذا كان الأمر كذلك فإن جامعاتكم لا تحتفظ بتلك المبادئ التي قررتها أنا في أكادميَّ ولكنها قد أصبحت مدارس فنية عليا لإنتاج الصناع وذوي المهن المهرة، الذين يظلون دائماً بعيدين عن ميدان السياسة والحكم، ذوي المهن الذين همهم محصور في الطاحونة أو دواوين أعمالهم، ولا يعنيهم من أمر السياسة الدولية العليا وشئونها شيء
المربي: ربما يكون صحيحاً أن جامعاتنا قد أصبحت مدارس فنية عليا، لأننا لا نعتبرها مجرد معاهد لتخريج الساسة ورجال الحكم. كما أننا لا نحظر الالتحاق بها على أي فرد - رجلاً كان أو امرأة - عنده الاستعداد للبحث العلمي، أو يريد ثقافة عامة. إننا نريد أن يكون لكل فرد يلتحق بالجامعة حرية اختيار المادة التي يتعلمها والمنهاج الذي يتخذه، لا أن نزج بهم جميعاً في حلبة السياسة
أفلاطون: أفهم من حديثك هذا أنكم واثقون بساستكم الحاليين مطمئنون إلى خططهم، وإلا لما كنتم تتركون أبناءكم يختار كل منهم منهاج الدراسة الذي يريده. ونتيجة هذا هي أن خيرة أبنائكم ذكاء قد أقبلوا على دراسة ما يميلون إليه، وانصرفوا عن تحمل تبعات الحياة التي يفرضها عليهم ذكائهم، فنراهم مغرمين بمزاولة أشياء لا أثر لها في تقدم مصلحة الشعب العامة
المربي: يخيل إلي أن فكرتك عن أهمية رجال السياسة ضخمة ضخامة الطبل. إن الدولة لا
يقبض على زمام شئونها ويسيرها رجال السياسة وإنما أمور الدولة في أيدي الموظفين ورجال الدواوين والإدارة، وأصحاب الصناعات والتجارة. هؤلاء هم ذوو الخطر والشأن في أمور الدولة. أما رجال السياسة فمعظمهم كخطباء المسارح يقولون ما لا يفعلون
أفلاطون: الحقيقة أن الأمر تشابه علي، ولست أدري أين أنا من رأيك. إنكم لا تنتخبون رجال الإدارة أو الموظفين ورجال الدواوين، ولا تنتخبون الصناع والتجار ورجال الأعمال، أتنتخبونهم!؟
المربي: كلا، لا يحدث هذا
أفلاطون: ومع هذا تقول لي أن هؤلاء الرجال هم ذوو الشأن والخطر في نظام حكمكم الديمقراطي، وإن السياسيين ما هم إلا خطباء مسارح! فإذا كان الأمر كما تقول فكيف تزعمون أنكم تتمتعون بالحرية السياسية، وأن لكم إشرافاً على شئون الدولة وأمور السياسة؟ يجب أن أعترف بمعجزي عن فهم هذا الموضوع! كأني بك تقرر أن مؤسساتكم الديمقراطية، ومجالسكم النيابية ما هي إلا صورة ومظهر فقط، ولكن من ورائها يعمل رجال الدواوين والإدارة بحكمة وجد. إنني أعتقد بوجاهة هذا النظام، وأرى الآن كيف أن التربية عندكم لا ترمي لإعداد الساسة والحكام، ولكن لتخريج الكفايات - من الرجال والنساء - القادرة على أداء مهمتها ووظيفتها بإخلاص تحدوها المصلحة العامة، مصلحة الشعب. فإذا كان الأمر هكذا فلتعلنه بصراحة، ولُتلغ ما ذكرته من أن التربية عندكم إن هي إلا تجربة في الحكم الذاتي للشعب، لأن من الواضح أنه ما دامت التربية هي إعداد الأفراد للمهن المختلفة والوظائف التي يصلحون لها، فأنواع التربية تختلف حتماً باختلاف الإعداد
المربي: نعم، الأمر كذلك.
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
سيجموند فرويد
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 4 -
تعتبر الغرزية الجنسية أساساً لنظريات (فرويد) في علم النفس وقد كان أول من تجرأ على القول بأنها أهم القوى الفعالة في النفس
كانت الأجيال السابقة تعرف مدى انفعالات النفس بتأثير الغريزة، ولكنها كانت تضرب صفحاً عن ذكرها أو الإشارة إليها مراعاة للقوانين والأخلاق. وقد ساعدت الديانات والحكومات، على اختلاف أنواعها وأشكالها، على ضبط جماح الغرائز الأولية فلم يشذ هذا الإجماع إلا القليل
حاربت النصرانية شهوات الجسم بشهوات العقل والروح، وجعلت من تحقيق رغبات هذه الشهوات الأخيرة مثلاً أعلى في الحياة، وأوجدت وسائل تختلف قسوة وليناً للتغلب على الغرزية الجنسية، وكان بعض هذه الوسائل جسمياً وبعضها الآخر عقلياً، وهو حل قائم على العقل والمنطق، لأن الأخلاق برزت في شكل مادي قائم على فكرة تتصل بما وراء المادة. على أن هذا الحل ظهر غير فعال تماماً لأنه لم يشف الإنسانية من الغريزة الجنسية ولم يحل دون بروزها مسيطرة على الجسم والنفس معاً
أما الشرائع الوضعية فقد اختلفت عن الشرائع السماوية بأنها لم تحتم على الفرد أن يخضع للأخلاق في نفسه وضميره بل أقرت المجتمع على مظاهر أخلاقية متواضع عليها ولم تطالب الفرد بمراعاة الأخلاق إلا في المظهر فقط
أما القرن التاسع عشر، وهو عصر الاكتشافات الخطيرة والاختراعات الهامة والمذاهب المستحدثة التي غيرت مجرى العقل والذوق في شتى أنواع الفنون ومختلف أساليب الفلسفة والعلم، فقد حارب الغرزية الجنسية بطريقة سلبية لأن كبار مفكريه تواطئوا على إهمال وإغفال ذكرها أو الإشارة إليها، فلم يؤيدوا وجودها ولم ينفوه ولم يبحثوا في أثرها
لم يقتصر هذا الإجماع على العلماء المفكرين بل تناول الأطباء الذين أبو توجيه بحوثهم
شطرها في معالجة مرضاهم واكتفوا بمعالجة الأمراض العقلية. بالوسائل الطبية المعروفة لديهم أو بإرسال مرضاهم إلى مستشفى الأمراض العقلية
على أنه عند ما أشرف القرن التاسع عشر على الزوال قام الطبيب الشاب (فرويد) يتحدث عن كبت الغريزة الجنسية وإمكان شفاء الأمراض العصبية، معتمداً في ذلك على الأبحاث التي أجراها في داء الهستريا؛ وأخذ يقرر أن أكثر الأمراض العصبية - إن لم يكن كلها - ناتج عن ذلك الكبت. فثار به أساتذة الجامعة، ونصحه أصدقاؤه بأن يتحول عن هذه الأبحاث التي لا ترجى فائدة منها والتي تتناول مسألة دقيقة من الخير أن تظل طي الكتمان
على أن (فرويد) تجاوز عن هذا النصح وسار في أبحاثه إلى أقصى حد؛ فاصطدم بمعارضيه واحتدم الجدل بين الفريقين الذين تتمثل فيهما طريقتان متباينتان لا سبيل إلى التوفيق بينهما؛ يتمثل في أحدهما علم النفس في أسلوبه القديم يحده مثل أعلى قائم على تغلب العقل على الغريزة في الفرد المتمدين المثقف، ويتمثل في الفريق الآخر فكرة مستحدثة تقرر أن الغرائز لا تقهر، وأنه من العبث أن نفرض أنها إذا كبح جماحها اندحرت واختفت إلى غير رجعة، لأن أقصى ما نستطيعه إزالتها من العقل الواعي وكبتها في غير الواعي؛ فإذا تجمعت في أعماق النفس اختمرت وأحدثت قلقاً واضطرابياً في الأعصاب لا يلبث أن يتحول إلى داء عضال!
يقول فرويد: إن الشهوة بمعناها العام أول نسمة بتنفسها الفرد في حياته النفسية، فهي للنفس كالطعام للجسم، والنفس تصبوا أبداً للوصول إلى اللذة، وهو ما يسميه (ليبيدو) الذي أطلق عليه بعض كتابنا لفظة (اللبيد) ومعناها الطموح إلى اللذة رغم كل العقبات، وهو طموح يملي على الإنسان كل أعماله
ولم تكن غاية (اللبيد) واضحة حتى أكتشف فرويد أن معناه التفريج عن الغريزة الجنسية. على أنه قرر بعد ذلك أن القوى النفسية تتحول عن مراكزها، وأن اللبيد لا يقتصر على الصلات الجنسية لأنه يمثل قوة هوجاء تطلب الظهور والبروز، كوتر القوس المشدود المستعد أبداً لإنفاذ السهم، أو السيل الجارف الذي لا يدري أين مصبه، فقد يظهر اللبيد في الصلات الطبيعية، وقد يتحرر من قيود الجسم فيسمو إلى النفس ويظهر في مناطق رفيعة كالفنون الرفيعة أو الدين أو الفلسفة. وقد يصدف عن هذه الغاية أو تلك فيتيه في مجاهل
العالم أو يتمركز في أشياء غريبة أثرت في غريزة الفرد منذ صباه، وقد ينحط إلى أسفل دركات البهيمة وقد يرقى إلى أسمى الغايات. وهكذا تختلف أشكال اللبيد ومظاهره، ولكن غايته تظل واحدة ترمي إلى ري صدا النفس الطموحة إلى اللذة، وهي غاية أصيلة فيه عالقة به
هنا يظهر التجديد في الآراء التي أقرها فرويد
كان علم النفس من قبله يجهل أن قوى النفس تتبدل وأن مراكزها تتحول، وكان يخلط بين المسائل الجنسية وبين أعضاء جسم الإنسان، ففصل فرويد بين هذه وتلك ودلل على تحول مراكز قوى النفس
وكان علماء التحليل النفسي يقررون أن المسائل الجنسية التي تسبب اضطراباً في الأعصاب ترجع إلى عهد قديم، وقد كان من الطبيعي أن يبحث عن هذه المسائل صعداً في حياة الإنسان إلى سن المراهقة، ولكن فرويد اهتدى إلى أن من الخير ألا يقف البحث عند هذا الطور من حياة الإنسان، بل يتعداه إلى الطفولة
وقد برهن فرويد على أن اللبيد أصيل في نفس الطفل بالرغم من أنه يجهل الحياة التناسلية، ثم ذهب ألب أبعد من ذلك فقرر أنه إذا كان للطفل حياة تناسلية فإن الحياة لا تستطيع أن تكون قويمة، بل إنها خبيثة، ولكنها تعمل في الذات غير الواعية بحيث يرضع الطفل كل اللذة من أثداء العالم
ثم تدرج فرويد في دراسة الفرد من الطفولة إلى المراهقة إلى الرجولة، فلاحظ أن حفظ الجنس يدفع الأفراد إلى المراهقة إلى الرجولة، فلاحظ أن حفظ الجنس يدفع الأفراد إلى مجرى طبيعي إذا سارت حياتهم على وتيرة متساوقة. أما إذا أعتورتها حالات خاصة ظهر الشذوذ الخلقي والتناسلي
وقد درس بعض هذا الشذوذ في حياة مشاهير الرجال فانتهى من دراسته إلى أن الاضطراب النفسي ينتج عامة عن تجارب شخصية تناسلية، وأن ما نسميه طبيعة ووراثة ليس سوى حوادث جرت في الأجيال السابقة وأثرت في الأعصاب. وهكذا وجد أن كل حادث - في نظر علم تحليل النفس - عامل حاسم في تكوين النفس، وقرر أنه يجب بحث ماضي كل فرد للوصول إلى فهم حياته، وأن العلل النفسية والعصبية فردية لا وجه للشبه
بينها وبين أمثالها في شخص آخر غير المصاب بها
وقد تفرعت عن هذه الأبحاث نظريات عدة في شذوذ الأخلاق وتفصيله إلى مراتب ودرجات يضيق مجال البحث دون استيعابها
وجملة القول أنه يتضح من مذهب (فرويد) أن كل شهوات النفس الأمارة بالسوء، ونوازعها التي حاربتها الإنسانية بشتى الأسلحة الأخلاقية والثقافية لا تزال أصيلة في النفس، وأننا نحمل في دمنا غرائز عصور الهمجية الأولى حين لم يكن للقوانين والأخلاق وجود، وأننا مهما بذلنا من جهد في سبيل إبعاد الغرائز عن ميدان عمل العقل الواعي، فإن هذا العقل لا يستطيع أن يتخلص منها تماماً ولا غرابة إذا كثر نقاد هذه النظرية (المعادية للمدنية) كما قالوا، لأنها أقامت الغريزة الجنسية أساساً لسائر نواحي الحياة، وجعلت اللبيد قوة لا تقهر
يقول (ستيفان زويج) في كتابه القيم عن (فرويد) وهو الكتاب الذي اعتمدنا عليه في أكثر فصول هذا البحث: إن (فرويد) لم يقل إن نظريته عامة وإن اللبيد أو الغريزة الجنسية هما العاملان الوحيدان اللذان يحركان الفرد ويمليان عليه أعماله ومآتيه بل إنه قرر أن هناك غرائز أخرى تستولي على الفرد وتعمل في عقله الباطن مثل غريزة الموت وغريزة الذات ولكنه يؤخذ على (فرويد) أنه لم يسهب في شرح نظرية الغرائز الأخرى كما فعل في شرح غريزة اللذة، فجاءت مبهمة قلقة
ولاشك أن النقد الذي وجه إلى (فرويد) صحيح من حيث أنه بوأ غريزة اللذة مقاماً أسمى مما يجب وأبرزها كقوة لا تقهر وحط من قدر المدنية والشرائع ومقدرتهما على محاربتها
(للبحث صلة)
صديق شيبوب
ليالي الملاح التائه
(أهدى الشاعر النابه الأستاذ علي محمود طه نسخة من ديوانه
إلى صديقه الأستاذ فؤاد بليبل فأوحت إليه هذه الهدية الأبيات
التالية)
شاعرٌ تاهَ في بِحَارِ خَيالِه
…
واهْتَدَى كُّل تائِهٍ بِضَلالِهْ
طافَ بالكونِ ينشدُ الحسنَ فيهِ
…
ضارِباً في وِهادِهِ وجِبَاله
كلَّما شامَ بارِقاً من جمالٍ
…
راحَ يَشْدُو بسِحْرِهِ وَدَلاله
يَتَغَنَّى مُصَوِّراً كلَّ ما يَبْ
…
دوا لِعَيْنَيْهِ أَوْ يمرُّ بِبَاله
بارعُ الرَّسْمِ بالبليغِ مِنَ اللَّفْ
…
ظِ خَبيرٌ بمَوْضعِ اسْتِعماله
تِلْكَ ألْوَاحُ شِعْرِهِ ماثِلاتٌ
…
حافِلاتٌ بالعَذْبِ منْ أقْوَاله
قَدْ أرَانا بِبَدْرِهِ الصَبِّ لَوْحاً
…
يَقِفُ المرءُ حائراً بِحيَاله
قمرٌ عاشقٌ قد اقْتَحَمَ الْحِصْ
…
نَ على شَمْسِ مَخْدَعٍ لم تُبَاله
وَتَدَلَّى عَلَى النَّوَافِذِ وَلْهَا
…
نَ إليها وَلَفَّها بحبَاله
واحْتَوَاها بِنَورِهِ وَهْيَ وَسْنَى
…
يا لبَدْرٍ مُتَيَّم بِمثَاله!
وَهْوَ رَانٍ يَغَارُ من قُبَلِ البَدْ
…
رِ المُعَنَّى عَلَى شِفَاهِ غَزَاله
وَأرَانَا بِهِ وَقَدْ غادَرَ الْخِدْ
…
رَ عَشِيقاً يَبْكي عَلَى آماله
قَدْ سَبَانَا مِنْ كِّل فَنٍّ بسابٍ
…
مِنْ أغارِيِدِهِ وَرِقَّةِ قاله
وَبِمَا عاينَتْ مِنَ الْحُسْنِ عَيْنَا
…
هُ وما قَدْ رآهُ في تَجْوَاله
أينَ مِنْهُ (فِينسيا) الآنَ و (الري
…
نُ) وَأيَّامُ حِلِّهِ وَارْتحاله؟
أين ذَاكَ (الْجُنْدُولُ) يُرْقِصُهُ المَوْ
…
جُ فيَنْسَابُ مُمْعِناً في اخِتياله
بُحَّ صَوْتُ القيثَارِ فِي كفِّ حَادِي
…
هِ وَطافَ السَّاقِي عَلَى آهَاله
مَوْكِبٌ يتركُ العقولَ حَيَارَى
…
ليْتَ لِي أنْ أرَى سَنَاً (كرنفاله)
أيْنَ تِلكَ الآرامُ مِنْ فتيةِ (الآ
…
رِ) وَهَلْ حَال عَهْدُهَا عن حاله؟
شاعرٌ هامَ بالجمالِ فغَّنا
…
هُ بشعرٍ أيْنَ الطَّلا مِنْ زلاله؟
عَبْقرِيُّ الإيقَاعِ عَذُب القوافي
…
تَتَمَشَّى الحياة في أوْصَاله
مَا لياليهِ غيْرُ مِنَ الوَحْ
…
يِ عَلَيْهِ رَفَّتْ بَنَاتُ خَيَالِهْ
فَاتِكَأتُ اللِّحاظِ مِنْ كِّل بكرٍ
…
سَلَّحَ السحرُ جفنُها بِنِبَالهْ
خَاشِعَاتٌ، مًعَرْبِدَاتٌ، شَوَاجٍ
…
عَاِبثَاتٌ بكلِّ قَلْبٍ وَالِهْ
أيْنَ (بودليرُ) مِنْ رَقِيِق مَعَاني
…
هِ وَإبْدَاعِ نَظْمِهِ وَجَلَالِهْ؟
أعْتَقَ الشِّعْرَ مِنْ عَتِيقِ صَحَاري
…
هِ وَمِنْ عِيسه وَمِنْ أطلَالِهْ
وَتمشَّي مَعَ الحديثِ جَرِيئاً
…
لَا يُبَالِي الرَّجْعِيَّ مِنْ عُذّالِهْْ
مُعْجِزَاتٌ من الْبَيَانِ تَجَلَّتْ
…
فِي قريضٍ يسبى النُّهي بجمالِهْ
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل
موعد الشروق
(يا حبيبي! إن الشعاعة الذهبية التي تلهم الهزار حب الإنشاد
عند مولد النور قمينة بأن تسعد قلوب العاشقين)
زَقْزَقَ الطَّيْرُ فِي الْجَزِيِرِةُ يذْكِي
…
وَقْدَةَ السَّحْرِ فِي الْقلوبِ الرقَاقِ
هُوَ ذَا الصُّبْحُ يا حَبِيبي تَهَادَى
…
مَائِسَ النُّورِ، أبْيَضَ الأَطوَاق
حَامَتِ الوُرْقُ حَوْلَ زَهْرِ الرَّوَابي
…
تَرْشُفُ الطَّلَّ مِنْ حَشَا الأوْرَاق
وَالنَّسِيمُ الوَئِيدُ يَنْفَحُ عِطْراً
…
ذَوَّبَتْهُ السَّمَاءُ لِلْعَشَّاق
لَيْتَنِي فِي جناحه خَفَقَاتٌ
…
سَابِحَاتٌ لِوَجْهِكَ الأَلاَّق
نَشَرَ الصُّبْحُ فِي الفَضَاءِ جنَاحاً
…
قُرْمُزِيّاً مِنْ مَوْكِبِ الإشْراق
فَوْقَ قَلْبٍ مِنَ الغُيُومِ وَضِئٍ
…
مُطْفَإ الماسِ، نَاصِعِ الأطبَاق
وَبُرُوجُ الْعقيَان مُرْتَجَّةٌ لَم
…
يَعْصِمِ اللهُ شَمْلَهَا بِوِثَاق
فَضحَ النُّورُ جَبْهَة السُّحْبِ فَابْيَضَّ (م)
…
تْ أسَارِيرُهَا عَلَى الآفَاق
وَأطَلَّتْ ذُكاءُ مِنْ شُرْفَةِ الْغَيْ
…
بِ تُزِيلُ الكَرَى عَنِ الآمَاق
لَيْتَما تُوقِظين يَا شَمْس حُبِّي
…
فَيَبُلِّ الأُوَامَ فِي أعْمَاقِي
اُسْكُبي فِي عَيْنَيْهِ ضُوءً! رَفِيقاً
…
ذَكرِيهِ بِمَوْعِدِي وَاشْتِيَاقِي
عبد الرحمن الخميسي
رسالة العلم
قصة الفيتامين
الفيتامين المانع لمرض البلاجرا
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 6 -
يفشو المرض المعروف بالبلاجرا في الطبقات الفقيرة في البلاد التي تقوم فيها الذرة المقام الأساسي في التغذية. وأعراض الإصابة بهذا المرض ظهور قروح وطفح جلدي على الأجزاء والأطراف من الجسم المعرضة للشمس (العارية) وتسميته الإيطالية بالبلاجرا يقابلها بالعربية الجلد الخشن. ويوجد هذا المرض كذلك في أوربا الوسطى والجنوبية وفي بلاد البترول، ويكثر انتشاره في شمال إيطاليا وجنوب فرنسا وإسبانيا والبرتغال وفي بلاد البلقان وشمال أفريقية وظهر أخيراً في الأمريكتين. ويشهد على خطورة الإصابة به أن 1535 شخصاً ماتوا بالبلاجرا في سنة 1915 بأمريكا الشمالية في ولاية مسيسبي. وفي السنوات الأخيرة أصيب به في أمريكا الشمالية ما يقرب من نصف مليون من السكان مات منهم ما يزيد على خمسين ألفاً. وتبدأ الإصابة به غالباً في فصل الربيع بأعراض مرضية عامة يتبعها اضطراب جلدي فوق الأعضاء الجسمية العارية. فعلى الوجه والرقبة واليدين يظهر على شكل طفح دميم قد يكسو اليدين تماماً كما يكسوها القفاز. ويصحب هذا آلام حادة في الرأس والأطراف والظهر وضعف عام وخمول ثم اختلال في الجهاز الهضمي يعقبه اضطراب عصبي يكون نذيراً بالاضمحلال الجسماني والهلاك. وقد يقدر الجسم عند الإصابة على المقاومة ردحاً طويلاً من الزمن يمتد إلى عشر أو خمس عشرة سنة، كما أنه لا يقاوم أكثر من أسابيع قليلة يضني ويهلك بعدها سريعاً
ولقد كثرت الأقاويل قديماً حول أسباب البلاجرا. فكما أعتقد خطأ زمناً طويلاً عزو مرض البري بري إلى العدوى عن طريق مُسببات دقيقة حية - ظُنَّ ثانياً يالبلاجرا. بيد أنه ظهر بعدئذ ما ينقض هذا الزعم الخاطئ. إذ كيف لا ينتقل المرض وتقع العدوى مثلاً من المرضع المريضة بالبلاجرا إلى رضيعها. زد حقيقة ثابتة أخرى وهي انتشار مرض
البلاجرا في الأوساط الفقيرة فقط في البلدان التي تعتمد في غذائها على الذرة اعتماداً كلياً فاستنتج من هذا ارتباط مرض البري برى بالتغذية. وذهب بعض الباحثين في استنتاجهم إلى وجود مواد سامة في حبوب الذرة التي تكون قد أصابها الفساد والعطب من جراء التخزين. وأكتسب هذا الاستنتاج بعض الأهمية والسند من الحالة الاقتصادية الرديئة التي عليها الطبقات الزارعة الفقيرة التي ترغمها هذه الحالة إلى حصاد الذرة مبكرة قبل تمام نضجها ثم تخزينها رطبة تخزيناً غير صالح يضر الحبوب ويفسدها
ومما قوى الزعم في اتصال البلاجرا بالذرة أنه في مدينة ترنتينو بإيطاليا حيث تنتشر البلاجرا، أخذت الإصابة في نقص تدريجي أثناء حرب 1914 - 1918 بسبب هبوط عام في محصول الذرة؛ مما أضطر القوم إلى الالتجاء لأنواع أخرى من الغذاء غير الذرة ولكن الحقيقة التي لا جدال فيها، والتي يؤيدها العلم الحديث - كما ثبت كذلك في حالة البري بري - هي أن مرض البلاجرا. لا يرجع إلى وجود مادة ما في الذرة، ولكن يرجع إلى شيء ينقصها ولا يوجد فيها، وينشأ عند غيابه ظهور أعراض البلاجرا. وتعليلاً لهذه الصلة الوثيقة التي تربط مرض البلاجرا كنتيجة للتغذية بالذرة، نجد الذرة نفسها لا تحتوي على كميات ملحوظة من الفيتامين زد على ذلك افتقارها إلى المواد الزلالية. عاملان أو مادتان لابد عند نقصهما في الغذاء العام من رضوخ الجسم إلى تجارب واضطرابات غذائية قاسية، ولكنه يجب، مع ذلك أن تظهر البلاجرا في حالة أية تغذية أخرى لا تحتوي على الفيتامين ولا تدخلها الذرة بتاتاً وهذا ما حصل وشوهد أخيراً في المناطق الصناعية الأوربية التي يسودها عدم كمال التغذية ووفرتها ففي بعض البلاد السويسرية وفي برلين وفينا وبرسلاو وهامبرج أصيب بعض ساكنيها بالبلاجرا ولو لم يقربوا الذرة بتاتاً إلى مآكلهم وأفواههم
ومما دعم القول بأن مرض البلاجرا هو نتيجة لنقص الفيتامين وبدون سابق أية تغذية بالذرة - النتائج الأكيدة التي حصل عليها عند إجراء تجارب غذائية على القردة والكلاب والفيران فهذه أصيبت بأعراض مرضية شديدة الشبه بأعراض البلاجرا لدى الإنسان وذلك بإطعامها غذاء نزع منه الفيتامين كلية. ولقد توصل العلم إلى الكشف عن الفيتامين إلى درجة مرضية كما أمكن تحضير بلورات صغيرة منه من الخميرة وهو فيتامين يقاوم
الحرارة ويذوب في الماء ويتأثر بالأشعة فوق البنفسجية، وفي حالته النقية الدقيقة يمثل مادة ملونة صفراء تشبه المادة المعروفة باللاكتوفلافين التي تحضر من اللبن (لبن ، أصفر ولقد حضر هذا الفيتامين على هيئة بلورات في مجمع القيصر ولهلم الطبي في مدينة هايدلبرج في ألمانيا باستخدام خمسين ألف لتر من اللبن. وكانت كميات ضئيلة من بلوراته لا تزيد على ثلاثة أجزاء من المليون من الجرام كافية لانتظام واطراد النمو في الفيران، ولكن حدث بعد أن انتزعت المادة الملونة الصفراء منه أن قل ووقف تأثيره في اطراد نمو الفيران، وبهذا أخذ قديماً في تسمية الفيتامين بفيتامين النمو، ولكن نسخت هذه التسمية فيما بعد عندما ثبت أن كل نقص في أي فيتامين يكون مدعاة لتأخير النمو الجسماني العام
والمهام الملقاة على عاتقه عديدة وذات أهمية كبيرة. فبتعاون هذه المادة الملونة الصفراء مع مركبات عضوية أخرى عويصة هي الأنزيمات تكسبه تأثيراً ومفعولاً في دورة الأوكسجين عند عملية الاحتراق في الخلية أي في النفس الخلوي وكذلك في حالة تحليل الكربوهيدرات التي يساهم فيها بقسط وافر. ويلعب كذلك دوراً هاماً في تكوين الكرات الدموية الحمراء، تساعده في إتمام هذه العملية مواد يفرزها الجسم هي الهرمونات الموجودة في العصير المعدي التي تساهم بدورها في تكوين الدم، ولذا يعزى فقر الدم أو عدم القدرة على تكوين كرات حمراء جديدة لسببين أولهما نقص الفيتامين والثاني غياب الهرمونات في العصير المعدي. ويأخذ العلم الحديث اليوم بأن فقر الدم البسيط يرجع إلى عدم وجود الفيتامين في حين أن الأنيميا الخبيثة أي الضعف الدموي الحاد الذي كان يعتبر إلى ومن غير بعيد من الأمور المستعصية العلاج، ترجع إلى غياب الهرمونات المكونة للدم عن العصير المعدي، وكم أفادت هذه المعلومات الحديثة الطب العلاجي فائدة جليلة الشأن
ولقد كشف لنا ظهور الفيتامين في هذا الميدان عن تأثيرات متداخلة جليلة الشأن والأثر لقوى عاملة. مادتان مؤثرتان يفرزهما الجسم تستأثران بمهام حيوية خطيرة لا تقومان بواجبهما على الوجه الأكمل حتى تظهر دعامة ثالثة لهما تكسبان بظهورها وحلولها قوة ذات حول وطول كما تكسب المواد القابلة للاشتعال زيادة قوة على الاشتعال بحلول الأوكسجين مثلاً ولا يقدر الجسم وحده على تكوين هذه القوة الثالثة حتى مع ضآلة جرمها وصغر الكمية التي يحتاج إليها، ولابد له من الحصول عليها إما من النبات والخضراوات
أو من لحم الحيوانات الآكلة للخضر والعشب وذلك في صورة مادة ملونة صفراء مشعة. فإذا تم الحصول على هذه القوة الثالثة اتحدت هذه الأخيرة مع الأخرى الموجودة في بطن الإنسان، تارة للمساهمة في عملية الاحتراق والتنفس الخلوي وتارة أخرى تتعاونان معاً على تنبيه النخاع الشوكي ودفعه إلى تكوين الكرات الحمراء الوسيطة في تبادل الغاز
وقد قامت الطبيعة بتخزين كميات وفيرة من هذه المادة الحيوية التي بدونها لا تقوى الخلية الحيوانية على القيام بعملها. وكما سبق القول بأن الفيتامين المضاد للبلاجرا يوجد غالباً بصحبة الفيتامين المضاد للبرى برى؛ فالمصادر الرئيسية التي يوجدان بها هي: الخميرة، واللحم الطازج، والكبد، والأعضاء الفارزة الأخرى، والحبوب، وفي كثير من الخضر والفواكه، وفي اللبن وفي زلال البيض. ويكونان في أغلب الأحايين بنسب متساوية، مع ملاحظة أرجحية وجود الفيتامين في الخضر والحبوب ومنتجاتها وأغلبية وجود الفيتامين في المواد اللحمية (اللحوم)؛ ومن الصعب جداً فصل تأثيريهما مع ضرورة وجودهما لحفظ الإنسان، وتبعاً لتلازمهما فقد صح حصرهما تحت التسمية الجامعة فيتامين
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي
البريد الأدبي
ديوان الطبران
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
يقول الشاعر العربي القديم في وصف الناقلة:
فلو إنما تمشي على الأرض أدركت
…
ولكنما تهفو بتمثال طائر
وإني لأتمثل بهذا البيت كلما أطلقت صفارة الإنذار بالإسكندرية وشاهدت إحدى المغيرة، وأني لأحس أن البيت كأنما قيل لينشد اليوم في مثل هذه المناسبة؛ ولقد أتمنى أن أطير لألحق بتلك التي لا يمكن إدراكها لأنها لا تمشي على الأرض، فأتمثل بقول الشاعر العربي القديم:
أسرب القطا هل من يعير جناحه
…
لعلي إلى من (لا أحب) أطير
أستشهد بهذين البيتين بمناسبة كتاب أقرئه الآن عنوانه (ديوان الطيران) جمعته الكاتبة الإنجليزية ستيللاولف موري ووضع مقدمته السير صمويل هور وزير الطيران البريطاني الآن، والذي كان وزيراً للطيران أيضاً في سنة 1925، وهي السنة التي طبع فيها هذا الديوان
والكتاب يختلف عن غيره من كتب أدب الحرب في الجزء الأول منه على الأقل لأنه مقسم إلى ثلاثة أجزاء أولها لم يوضع في زمن الحرب ولا مناسبة الحرب وإنما جمع من الشعر القديم (ليدل على أن الطيران كان أمنية من أماني النفس الإنسانية أحسها الشعراء قبل الأوان الذي يمكن تحقيقها فأعربوا عنها) وغرض الكاتبة من جمعه التنويه بفضل الفنون التي يرى أصحابها بأعين الخيال ما لا يستطيع الكافة أن يروه إلا بعد تجسيده حين تتحول الفكرة إلى عمل
ويشير السير صمويل هور في المقدمة إلى قصة حبشية قديمة تشبه قصة بساط سليمان ولكن القصة الحبشية تذكر سفينة سليمان الطائرة في الموضع الذي نذكر فيه نحن كلمة بساط، كما يشير إلى أجزاء من شعر هوميروس فيها وصف لسباق في الجو بين مركبات تقصف مثل قصف الرعد. ويشير أيضاً إلى خيول مجنحة ذكرت في أدب أهل الشمال في عصوره الأولى وإلى البساط المسحور في الآداب الشرقية؛ ويعد السير صمويل هور كل
ذلك نبوءات بالطيران
وفي هذا الجزء شعر كثير للمتقدمين لم يقصد به أن يكون من شعر الحرب ولكنه صار من شعرها لما أفادته المناسبة معنى جديداً - مثله في ذلك كمثل البيت الذي بدأت به هذه الكلمة
أذكر هذا بمناسبة المقال الممتع الذي دبجته براعة العقاد في صدر العدد الأخير من الرسالة والذي تحدث فيه عن نوعين من شعر الحرب نوع يكتب بعدها ليؤرخها وهو شعر الملاحم، ونوع يكتب في عهدها ليصفها
ولكن هذا النوع الثالث الذي لم يشر إليه العقاد لندرته هو الذي كتب قبل الحروب ولم يقصد به إلى وصف معنى من معانيها ولكنه تضمن من المشاعر أو الأخيلة ما أسفرت الحرب عن خروجه من حيز المعاني التي يراها الشعراء إلى عالم الحس الذي يراه الجميع
ولعلي أستطيع ترجمة بعض هذه المختارات فهي من غير النوع الذي ينشأ مع الحرب ويموت معها
(الإسكندرية)
عبد اللطيف النشار
الحرب والشعر العربي
كتب الكاتب الكبير الأستاذ العقاد بالعدد الماضي من الرسالة في (الحرب والشعر) يقول بأن الحروب والثورات تشحذ ملكات الخطابة ولا تشحذ ملكات الشعر، بل تلجئها أحياناً إلى الصمت والركود، وفند القول بأن الملاحم الكبرى التي نظمت عن حروب الأمم البائدة تستدعي النظم وتلقح فراغ الشعراء إلى أن قال (إلا أن النفوس لا تخلو من الشعر في إبان المعامع والمذابح البشرية، فهي لا تميته ولا تحجر عليه، ولا تمنع الأذهان فينة بعد فينة أن تنصرف إليه، وكل ما هنالك أنها ليست باللقاح الجيد لقرائح الشعراء) وعرض بعض ما قاله شعراء الغرب من الشعر القليل في الحرب الماضية والحرب الحاضرة
ساق الأستاذ الكبير كل ذلك ببيانه الرائع ومنطقه السديد. وكتابة الأستاذ العقاد تبعث على التأمل والنقاش. فلما رأيته يسير في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر - جعلت أستضيء بالشعر العربي والحروب العربية
فرأيت الحرب كانت لدى العرب من أفعل مثيرات الشعر كما يقولون: الشعر يوحيه الحب والحرب والموت
لقد هاجت الحروب شعراء العرب فقالوا في التحريض على القتال ووصف المعامع، والصبر والإقدام فيها، والجبن والفرار، والنوح على القتلى، والتغني بالانتصار؛ ووصفوا الخيل والسلاح، وأكثروا في كل ذلك وأتوا بالعجيب
وإننا لو نظرنا فيما بين أيدينا من شعر العصر الجاهلي لوجدنا نحو نصفه مقولاً في الحروب وما يتعلق بها، وكان كثير من الشعراء يستوحون الحرب أكثر ما ينشدون مثل عنترة الفوارس وعمرو بن معد يكرب
وقد أختار أبو تمام مجموعة من شعر العرب فكان نصيب الحروب منها أكثر من الثلث، على تنوع الأغراض الأخرى وسماها (الحماسة) تغليباً للشعر الحماسي
وقد اطرد قول الشعراء في الحروب وفي العصور الإسلامية المختلفة، فكان الشعراء يصفون المعارك الحربية في صدد مديحهم للخلفاء والأمراء، ويشيدون بشجاعتهم وبلائهم فيها. وقد صحب الثورات والانقلابات في الدول الإسلامية قيام كثير من الشعراء مناصرين ومعارضين، وهذا أبن هانئ الأندلسي - مثلاً - يجد متصفح ديوانه أغلب قصائده في مديح الفاطميين ووصف حروبهم وشجاعتهم.
وقد كان من كل ذلك نتاج شعري عظيم تزخر به كتب الأدب العربي
ومن أحسن ما قبل في وصف الحروب قولُ عمرو ابن معد يكرب:
الحرب أول ما تكون فتية
…
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها
…
عادت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
…
مكروهة الشم والتقبيل
ألا ليت شعري، ألم يشعر جبابرة الحرب الحاضرة الذين يحيلون خيرات العالم إلى حمم - أن الحرب قد صارت عجوزاً شمطاء لا تطاق عشرتها. . .؟
وللأستاذ العقاد تحيتي وإكباري
عباس حسان خضر
وفاة الأستاذ فخري أبو السعود
تنعى الرسالة إلى قرائها أديباً من صفوة أدباء الشباب هو الأستاذ فخري أبو السعود الشاعر الكاتب والمترجم المعلم
برم رحمه الله بالحياة في ساعة من ساعات الضيق الكاربة فأطلق على رأسه المسدس وهو جالس على كرسيه الطويل في حديقة داره برمل الإسكندرية، وقد كان يعيش وحده في المدة الأخيرة لأن الحرب فصلت بينه وبين زوجته الإنجليزية وولده الوحيد. وقد شاء القدر أن يغرق ولده مع السفينة التي كانت تحمل الأطفال الإنجليز إلى كندا وأن تنقطع عنه أخبار زوجته. ولعل في هذه الحادثة الأليمة تفسيراً للدوافع الخفية التي دفعت هذا الشاب القوي الفتي إلى الانتحار وهو في سن الثلاثين. رحمه الله رحمة واسعة وعوض مصر عن أدبه وشبابه خير العوض.
الديوان التائه بالبريد
أهدى الأستاذ الشاعر على محمود طه نسخة من ديوانه إلى صديقه الأستاذ محمود غنيم فتاهت في البريد وعلم صاحب الديوان بذلك بعث إليه بأخرى فكان مصيرها كأختها فكتب إليه الأستاذ غنيم يقول:
بَعَثتَ بملاَّحَك التِائه
…
وطوَّقْتَ جيدي بإهدائِه
ولكنَّه تَاه في ظلمات ال
…
محيطِ وَضَلَّ بأحشائه
ألَا ما لشعركَ في البحرِ تَاهَ
…
وشعرُك أعمقُ من مائه؟
كأني به ضَلَّ بين اللآلي
…
فلألاؤها مثلُ لألائه
له الله كيف اهتدى للجميع
…
وأخطأ أشوقَ قرائه؟
ترى هل ألحَّ عليهِ الحياءُ
…
فأعرضَ خشيةَ إطرائه؟
لعمرك ما تاهَ تِيهَ الظلالِ!
…
متى ضَلِّ نجمٌ بعليائه؟
ولكنَّهُ تاهَ تِيهَ الدلالِ
…
وقام الجمال بإغرائه.
(مدرسة فؤاد الأول الثانوية)
محمود غنيم
تفسير بيتين
طلب الأديب (ع. ا. سعد) إلى الأستاذ ناجي الطنطاوي أن يفسر له البيتين:
(بذكر الله تزداد الذنوب
…
وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه (حالاً)
…
فأن الشمس ليس لها غروباً)
وقد مضى على طلب الأديب السوداني أسابيع ولم يستجب الأستاذ له، فكان لزاماً عليِّ أن أتقدم لشرح معناهما:
الشاعر يقول: بذكر الله تزداد الذنوب الخ. ويعني بذلك أن ذكر الله يوسع أفق المعرفة ويظهر عظمة الله وسطوته وفضله على أتم ما تكون، فيرى المرء ما كان يعده هيناً حقيراً من الذنوب حدثاً جللاً وأمراً عظيماً. . . وهذا يطرد مع قاعدتهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. . . ثم أراد أن يعرج في الشطر الأخير على الذين يذكرون الله بألسنتهم، تاركين قلوبهم مغلفة وبصائرهم مطموسة. . .
وفي البيت الثاني أراد الشاعر أن يشير إلى صفة معروفة عند الصوفية تسمى (الحال). وقال الدكتور زكي في (التصوف) نقلاً عن (أبن عربي في اصطلاحاته)
الحال: هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب اهـ فهو يقول:
إن المرء إذا ترك الذكر المجتلب والحديث المصطنع عن الذات العلية، وأمعن في الهيام الحقيقي، والحب الرباني، كان ذلك خيراً له وأجدى عليه. (فإن الحال إذا تمكنت لم تفترق الروحان ص 232 - التصوف)
ثم جاء الشطر الأخير تذييلاً لما قبله فقال: أن الشمس ليس لها غروب. وكذلك ذات الله تعالى لا تغيب ولا تحتجب ولا تفني ولا تحول، فلماذا إذن نذكرها؟ الواجب علينا أن نعبدها حق العباد، ونقدسها كل التقديس
وأدباء الصوفية هاموا باللغز والرمز. وما قول القائل: (معبودكم تحت قدمي) إلا من نوع (ما في الجبة غير الله). وهم يشيرون بمثل هذه الكلمات إلى مذهبهم في الحلول، وهو مذهب تحدث عنه المبارك في الصفحات 180 إلى الصفحات 210 وهو يتخلص في أن الله روح، والعالم جسمه
السعيد جمعة
تاريخ الإنسانية العاشقة
جاء في مقال الأستاذ على الطنطاوي (القبر التائه) الفقرة (أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم (الناس) يزدرونه ويترفعون عن حفظه ويرون من الخطر على الأخلاق أن يدرس في المدارس - وكذلك أرى أنا -)
من ذلك عرفنا أن الأستاذ يتفق رأيه مع الناس في خطر دراسة تاريخ الإنسانية العاشقة على الأخلاق، غير أن الأستاذ عاد وقال:(ولنتخذ منه (الحب) سلاحاً نحارب به الفسوق والدعارة والغلظة والوحشية ولنستكمل به إنسانيتنا)
فالأستاذ بقوله هذا يدعوا إلى إصلاح الأخلاق واستكمال الإنسانية عن طريق الحب. فكيف يدعونا إلى هذا وقد رأى معنا أن في مجرد دراسة تاريخ الإنسانية العاشقة خطراً على الأخلاق؟ وكيف تكون أخلاقنا لو سلكنا هذا الطريق؟
هذا ما نسأل الأستاذ عنه وأنا في انتظار ما به يجيب وله مني أعظم شكر وأطيب تحية
عبد العظيم حسن زيد
في فلم دنانير
أبتدأ عرض (فلم دنانير) في سينما ستديو مصر، وانتقلت بنا الشاشة البيضاء إلى بغداد وإلى عصر الرشيد، فرأينا بيئة عربية وسمعنا حوراً عربياً، وغنت أم كلثوم (دنانير) في أول الأمر غناءً عربياً، وكان كل ما نرى ونسمع عربياً صريحاً، ثم إذا بنا نسمع دنانير تغني أمام الرشيد ووزيره جعفر باللهجة العامية الخالصة:
هلالك هل لعيننا
…
فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد حيجينا
…
على قدومك يا ليلة العيد
فيتبدد الخيال المحبوك وتصدمنا الحقيقة الواقعة، وهي أن أغاني الرواية الواقعة حوادثها في عصر الرشيد، وذات الحوار العربي - معظمها عامي. . . ولعمري لقد أبدعت أم كلثوم في القصائد العربية التي غنتها أيما إبداع، فما الداعي لأن يتردد هذا الصوت الحنون في جنبات قصر جعفر بعاميتنا الحاضرة، فنسمع أمثال:
بكره سفر ويروق بالنا
…
وأفرح بقربك واتهنى
أم كلثوم تغني في عصرنا هذا كلاماً عربياً فصيحاً، أفلا تغني للرشيد غناءً عربياً؟ وكيف يكون حوار القصة بلغة والغناء بلغة أخرى؟
وشيء أخر يجب التنبيه إليه في هذا القلم وهو أن المعروف في العصور الإسلامية - أن الجواري مغنيات وغير مغنيات - كن رقيقات يأسرهن المسلمون في حروبهم مع الأعداء. ولكن دنانير فتاة عربية من قلب البادية وليست أخيذة حرب، فكيف تعيش في قصر جعفر وتعاشره - على حبها - كجارية من جواريه. . .؟ ثم كيف يطلب الرشيد ضمها إلى جواريه وهي تلك العربية الحرة. . .؟
ع. ح. خ
رأيان يتناقضان
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة
تحيتي وإجلالي وبعد فقد قرأت بعدد (الرسالة) 381 مقالاً بعنوان (4500 ثانية في صحبة أم كلثوم) للدكتور زكي مبارك. ولكني عدت من جولتي مع الدكتور أتراوح بين الشك واليقين في روح أم كلثوم الذي وعدنا الدكتور أن يتحفه بصورة وصفية. فهو يقول في افتتاحية مقاله (مع العرفان بأني لم أقل غير الحق في ذلك الروح اللطيف) ثم يقول في ختاميته (فأين من يحول هذه الفتاة إلى روح لطيف يشيع في المجتمع معاني الأنس والانشراح؟)
فكيف يجوز لرجل أن يطلب خفة الروح لروح خفيف؟ اللهم إلا إذا طلب لذلك الروح المزيد من تلك الخفة.
يا دكتور هل أخذتك فتنة من إحدى (ذوات الخد الأسيل والطرف الغضيض) فاضطربت في مخيلتك الأفكار؟ ورحت تأخذ وتعطي من صفاتها؟
أم كانت خفيفة الروح حين أرضتك، عديمة الخفة حين أغضبتك؟
لعل القلم لم يند في هذه المرة، ولعل مدير المطبعة لم يصل مقالاً بمقال، ولعلني لا أهاجم من دكتورنا بامتحان ذي عشرة أسئلة. . .
وإليك تحية أحد أبناء الجيل الجديد.
(المحلة الكبرى)
حلمي إبراهيم النبوي
القصص
التطوع للعذاب
للأستاذ نجيب محفوظ
انتهى الأستاذ حسان جلال - وهو محام تحت التمرين - من كتابة المذكرة القضائية - التي شرع ينشئها منذ الصباح الباكر - في تمام الساعة الثانية عشر وكان الجهد قد نال منه كل منال فأستند إلى ظهر كرسيه في إعياء ونصب. ومد يده إلى فنجال قهوة وأرتشفه وهو ينظر إلى الأمام بعينيه يوشك أن يلتقي جفناهما. ودخل الخادم عند ذاك فأقبل على سيده وبصره بخطاب كان تركه على المكتب قبل ساعة وشاب مستغرق في عمله. فألقى عليه نظرة فاترة، وتناوله بغير اكتراث، ولكنه حين وقع بصره على الخط المكتوب به العنوان حدثت في وجدانه صدمه عنيفة مباغتة أرهفت حواسه وأثارت انفعاله وأقلقت باله، فالتمعت عيناه بنور خاطف وبدأ شخصاً جديداً. عرف الخط من أول نظرة فتأمله بدهشة وكأنما ينظر إلى وجه كاتبه في ضوء النهار، فلم يرى خطاً ولكن رأى وجهاً مستديراً كالبدر، خمري اللون، تدل قسماته الدقيقة على الأناقة والملاحة. وغشيه الانفعال ساعة لا يدري من أمره شيئاً. ثم جذبه الخطاب من العالم الداخلي الغارق فيه، ولكنه لم يطع لأول وهلة الدواعي الدفينة التي تهتف به أن يفض الغلاف، وأبقاه على يديه وجعل يديم النظر إليه في شغف ولذة وارتباك وخوف. وقد فرح به وحزن ورضي عنه وغضب. وتساءل في حيرة أيصح أن يطلع على ما فيه أم الأولى له أن يطرحه في سلة المهملات؟. . . على أنه كان يتساءل ويداه تفضان الغلاف بسرعة وتبسطان الخطاب. وما لبث أن قرأ مطلع الكتاب، وهو (عزيزي حسان) فلم يستطع أن يستمر في القراءة واستولت عليه خواطر وشجون، وأحس بخيبة لم يهون من شأنها أنه كان يتوقعها. كانت إذا كتبت إليه في ما مضى تبدأ خطابها فتقول:(حبيبي حسان) أما اليوم فأنها تتجنب هذه الكلمة الساحرة، ولعله دار بخاطرها ما يدور بخاطره الآن حين همت بالكتابة إليه فليس إبدال حبيبي بعزيزي بالشيء الهين، وإنما هو حدث من الأحداث وفجيعة من الفواجع. رباه. . . لماذا تراسله وتجذب أفكاره إلى واديها فتنكأ جرحاً في فؤاده أوشك أن يلتئم وتثير بركاناً كاد يخمد بين جوانحه؟ وتنهد من أعماق صدره وكر بعينيه الحالمتين إلى صفحة الخطاب، وألقى عليها
نظرة عامة، فأدرك إيجازها (التلغرافي) وأحس بذلك بكآبة خفية وانقباض صدر، وكأنه كان يرجو لو أنها أطالت وأسهبت. ثم قرأ ما يلي:(راودت نفسي مراراً على الكتابة إليك فكانت تتمتع وتتأبى حتى كدت أسلم لليأس بعد أن تقادم الفراق، وبعد أن نالني من تغاضبك ما نالني، لولا سؤال حيرني إدراكه فرأيت أن ألقيه عليك عسى أن يكون لديك الجواب عليه. أني أسأل لماذا هذا الجفاء؟ ولماذا هذا الهجران؟ هل دعت إليهما دواع معقولة؟. . . فإني أخشى أن يظل كلانا يتعذب لغير سبب. . .)
ورفع رأسه عن الخطاب وقد ثقل تنفسه ويبس حلقه. وحملق إلى لا شيء بعينين مظلمتين. يا له من سؤال! أليس يحق لها أن تسأل كما يحق له أن يسأل: لماذا هذا الجفاء؟. . . لماذا يتباعدان؟ لماذا يعانيان الآم والعذاب في صمت وعناد قرابة عام طويل وثقيل؟ آواه! كم كان يحبها وكم كانت تحبه! وأن آي ذاك الحب لتبدو لعينيه خلل الذكريات كما تبدو المشاهد الغارقة في الظلماء على ضوء المغنيسيوم فأنه ليذكر إخلاصها ومودتها وشدة وفائها، وكأنه كان يرى تألق عينيها حين تراه، أو يسمع تنهدها لدى قربه وعطفه. كانا يعيشان في غمرة الحب ذاهلين عن كل شيء سوى أمالهما الناظرة، ومع ذلك قضى أن يتباعدا ويتفارقا ويذوقا مرارة الهجران والألم الجفاء؛ وكان هو البادئ ولعله كان الظالم. وعلى أي حال فقد استسلم للأوهام فلم تجد هي سبيلاً إلا أن تلوذ بالصمت والصبر. لماذا هذا كله؟. . . على أنه كان في تساؤله متجاهلاً متبالهاً. وكان بذلك عليماً فذكريات الأمس من القوة والعمق بحيث لا يمحوها اليوم ولا الغد. وقد دعت أشجانه إلى ذاكرته صورة أخرى عزيزة حبيبة طالما سكنت قلبه محوطة بالعطف والإجلال حتى أنتزعها القبر بقساوة ولم يترك له منها إلا طيفاً رقيقاً يجفل من ضوء النهار ومشاغل الدنيا ويتسلل في رفق إلى الذاكرة في فترات الأحلام والحنين. جاءته بوجهها الذابل المكال بالشيب ونظرة عينيها الحنونة، فتنهد حزيناً كئيباً وتمتم قائلاً:(أماه). . . نعم هي أمه العزيزة التي قضى حبه إياها على سعادته وآماله، وفرق بينه وبين حبيبته وترك كلاً لوحدته وآلامه. . .
وارتدت عيناه إلى صفحة الخطاب تقلقان بين أسطرها التي اقتضبها الحياء؛ واختزلها الحذر والكبرياء، فلم يجد سوى هذه الكلمات: (سأنتظرك أصيل اليوم في مكاننا المعهود بالحديقة الأندلسية؛ فإن أنت أتيت لكي نصفي الحساب - أي حساب يا ترى؟ - رحبت
بك؛ وإن أنت أصررت على الجفاء فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد)
ويلي ذلك الإمضاء المحبوب: حسان. ج. وكان أول ما فاه به بعد تلاوة هذه الكلمات أن قال باضطراب: (أصيل اليوم في مكاننا المعهود) وأحس بدنو الموعد فاهتاج شعوره واضطرم صدره، ثم أستقر بصره على هذه العبارة:(فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد. فجفل منها وذعر، وأنقبض صدره؛ ألم يجعل فراق سنة هذه العبارة حقيقة واقعة!؟ أولم يكن يظن أنه نفض منها يديه إلى الأبد!؟. . . بلى، ولكن ذاك الخطاب رده إلى ماضيه بسرعة فانبعثت فيه حرارة كما تنبعث فيه حرارة كما تنبعث الكهرباء في المصباح بعد سريان التيار إليه. وضاق عند ذاك بمقعده بالمكان، فاعتزم مغادرة المكتب الذي يتمرن فيه وطوى الخطاب وارتدى طربوشه ومشى إلى الخارج. وفي الطريق أرتد خياله إلى الماضي يتعقب حوادث الأمس المنطوي. . . لا يدري بالضبط متى تعرف بإحسان وإن كان يشعر أنها تملأ ماضيه جميعاً، ذلك أنه لم يعتد مطلقاً عادة كتابة المذكرات، فسجلت ذاكرته الحادثات بنسبة تأثرها بها لا على حقيقة وقوعها، ولكنه يذكر بغير ريب أنه في صيف العام الماضي سكنت أسرة إحسان في عمارة رقم 10 بشارع البستان بالسكاكيني، وأنه تعرف بالفتاة قبل أن يمضي شهر على نزولها بالحي الجديد. وقد جعلت المقادير حجرة نومها تجاه حجرة نومه، فتهيأت لكل منهما الفرص لتذوق صاحبه وتقدير مزاياه. وجذبته بادئ الأمر ملاحتها وأناقة قسماتها، فانجذب إليها ينشد الحب واللهو والعبث، وما يدري إلا وقد بهره ذكاؤها ورقة روحها وأنوثتها الناضجة، فأحبها الحب الصادق، وتعاهدا مخلصين أن يكون لها وأن تكون له ما أمتد بهما العمر. وشاركا المحبين حياتهم الهنيئة التي تطرد في هدوء بين المناجاة واللقاءات والوعود والآمال كأنها جدول صاف يشق حقلاً من بدائع الورود والرياحين إلى أن كان يوم عادت أمه فيه من إحدى الزيارات تكيل الذم لفتاة التقت بها لأول مرة في بيت جارتها. فدفعه حب الاستطلاع إلى السؤال والتحري فإذا بالفتاة فتاته دون غيرها، وإذا بأسباب غضب أمه عليها أنه دار حديث بين السيدات عن أعمارهن. ولما سئلت أمه عن سنها قالت: (كنت أبنه عشرين أيام الحرب) وكانت تعني الحرب الكبرى ولكن إحسان تساءلت بخبث تعقب على قول السيدة - وهي تجهل أنها أم حبيبها -: (حرب عرابي يا تيزة) وضحك السيدات طويلاً وضحكت إحسان كذلك ولم تكن
قالت ما قالت إلا بدافع الميل إلى الفكاهة، ولكن أمه لم تحتمل هذر الفتاة، وأحست بطعنة أليمة نغصت عليها صفوها
واستمع حسان إلى قصة والدته باستياء وغيظ وأسف وكان ينوى قبيل ذلك أن يعلن خطبته فاضطر إلى التريث مغلوباً على أمره، وعهد بإسكات ذاك الغضب إلى الزمن، ولما ظن أن ما كان من الأمر قد نسي وعفا أثره تقدم إلى والدته يحادثها في أعز أماني قلبه، ولكنه وجد منها ازوراراً وإباء، وكبر عليها جداً أن تستأثر بابنتها غداً التي أهانتها بالأمس، فرفضت الإصغاء إليه وأصرت على أن مثل تلك الفتاة غير جديرة به ولا كفء له وذهبت كل محاولته وتوسلاته لاسترضائها أدراج الرياح، وعجب حسان لغضب أمه أكان حقاً لتلك الدعابة المرة، أم لإشفاقها من احتمال تحول قلب أبنها الوحيد عنها إلى امرأة أخرى؟ أم كان لهذين معاً؟. . . ومهما يكن من الأمر فقد أسقط في يده وتوزع قلبه ألماً وحزناً بين أمه وحبيبته، وكابد فترة من الحياة مليئة بالقلق والعذاب، موزعة بين الألم والضجر واليأس والخنق. ثم أعلن ما كان سراً وافتضح ما كان خافياً، فصار عداوة صريحة بين أمه وخطيبته تحدثت بها ألسنة الحي جميعا. ً وأنها لعلى شدتها وقوتها إذ أحست بالمرض فجأة فلزمت الفراش ثلاثة أيام ثم انتقلت إلى جوار ربها في اليوم الرابع، ووقع عليه الخبر بعنف وشدة؛ ففزع وهلع وتقطع قلبه ألماً. كان يحب أمه حباً كبيراً؛ وقد هاج الفراق الأبدي الحب المتغلغل فاختنق بالعبرات وأظلمت الدنيا في عينيه. . .
ووسوس له قلبه بخاطر زاد من ألمه، قال عسى أن تفرح إحسان لموت أمه وقد كانت تعدها عثرة في سبيل سعادتها؛ فما من شك في أنها سعيدة مغتبطة وإن تظاهرت بمشاركته حزنه. وألمه هذا الخاطر ألماً عميقاً وزاد من وقعه أن سمع من حوله يتهامسون به فانطوى على الحزن والغضب ورأى قبر أمه العزيزة يقوم حائلاً منيعاً بينه وبين الفتاة. . .
فهجرها فجأة وامتنع عن الرد على رسائلها وانغمس في الكآبة والأحزان ومكابدة الآلام والأشواق زائغ البصر بين ذكرى أمه وذكرى سعادته حتى تعود على الألم وألف التصبر والتجلد وظن أنه يتناسى الماضي بهمومه وآلامه أو أنه نساه بالفعل
ازدحمت هذه الذكريات برأسه في طريق العودة إلى البيت ولكنها لم تصحب بعواطف في مثل مرارتها وحزنها إذ كانت الذكريات تمر برأسه أخيلة مجردة عن عواطفها واحساساتها.
أما وجدانه فكان كله مستغرقاً في أثر الخطاب والموعد. لذلك انصرفت نفسه عن الغذاء، وعز النوم على جفنيه وحامت أفكاره حول فتاته فتمثلها أمامه بقدها الممشوق ووجهها البدري وكأنه كان يسمع رنة صوتها، ويشم رائحة (سوار دي باري) التي تتعطر بها، فانفعل انفعالاً شديداً نبا به عن الطمأنينة. ولم يكن قر رأيه على شيء ولا بت في المسألة برأي، بل كان يحاذر من مواجهتها مواجهة حتى لا يقطع فيها برأي ينغص عليه أحلامه أو يميل بها إلى حل يثير كوامن أحزانه. حتى إذا وافى الأصيل وجد نفسه يغادر البيت ويقصد إلى قصر النيل مستسلماً لتيار عنيف لا يتنكب عن طريقه ويأبى أن يقر بالاستسلام. ولكنه ألفى نفسه أمام ما يحاذره حين عبر الجسر، وطالعته الحديقة الأندلسية بخمائلها المعشوشبة ومدرجاتها السندسية، هنالك أحجم عن التقدم وانعطف إلى يمينه يساير النيل مضطرباً حتى حجبه سورها الحجري ثم أستند إليه متريثاً وقد لفته الحيرة والاضطراب ولبث في جمود تام، وكانت أفكاره تنجذب بشدة نحو تلك التي لا يفصلها عنه سوى السور الحجري. وسرى في ملمسه من الحجر البارد تيار حار متدفق، فخفق قلبه بعنف وكاد يتحول إلى الباب مندفعاً وفي تلك اللحظة الفاصلة أرتد خياله - فجأة - إلى بعض حقائق الماضي الأليمة، فبردت حماسته وهبطت حرارته وانتكس انتكاساً غريباً أحس من جرائه يخجل واستحياء وألم فجعل يتساءل مغيظاً محنقاً: كيف حملتني قدماي إلى هنا! ولم يلبث أن احتدم بقلبه الغضب وخال أن إقدامه على الذهاب إلى هناك عيب حقيق بأن يجعله ضحكة للضاحكين والشامتين
وهز منكبيه باستهانة وانحدر في الطريق الضيق مبتعداً عن الحديقة، ولم يعتوره التردد سوى مرة واحدة وقف عندها قليلاً والتفت وراءه ثم أستأنف المسير بعزم وبأس، ولم يكن يملأ فراغ خياله حينذاك سوى صورة أمه. . . وهكذا خان عهد سعادته ليكون وفياً لذكرى أمه، وكثيرون هم الذين يعانون الآلام والمتاعب في سبيل ما يتمثل في نفوسهم من الأوهام
نجيب محفوظ