المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 383 - بتاريخ: 04 - 11 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٨٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 383

- بتاريخ: 04 - 11 - 1940

ص: -1

‌السنويات الأدبية

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب إلي أكثر من مستفهم يسألون عن (السنوية التاجورية) التي أشرت إليها في تحيتي إلى تاجور إليها في تحيتي إلى تاجور من مقال بالرسالة قلت فيه: (خطر لنا أن نرجع إلى السنوية التاجورية لنستخرج الفأل مما كتب فيها من أقوال تاجور بازاء اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، ولكل يوم من أيام هذه السنوية كلمة أو بيت أو خاطرة من مأثورات الشاعر العظيم. . .)

وهم يطالبون بياناً عن هذه السنوية، هل هي من صنع الشاعر؟ وهل للشعراء والأدباء المشهورين غير تاجور سنويات على هذه الوتيرة؟ وهل تتجدد في كل سنة أو تصدر في سنة واحدة، ثم تتكرر على نمط واحد؟ إلى أشباه ذلك من أسئلة وتعقيبات

وسنويات الأدباء والشعراء هي نوع من السنويات الكثيرة التي أفتن فيها الطابعون والناشرون في الأمم الغربية

فهناك سنويات لمحبي الأزهار ينشرونها للفن والجمال، أو ينشرونها للعلم والخبرة العملية. فما كان منها للفن والجمال زخرفوه بنقوش الأزهار الملونة ونثروا خلالها شذرات من أقوال الأدباء والشعراء في الرياض والرياحين، وجعلوا بعض حروفها البارزة على مثال الورود والأوراق، وجملوها بما استطاعوا من جمال الشعر والتصوير. وما كان منها للعلم والخبرة العملية رتبوا فيه مواسم الغرس والنقل وبثوا فيه الوصايا والنصائح عن السقاية والتظليل أو التعريض للنور مما له نفع في إنماء النبات وإنماء النبات وإنماء الزهر على الخصوص

وهناك سنويات لمحبي الكتب يذكرون فيها المعلومات المتفرقة عن المكتبات التاريخية والكتب النادرة ونشأة الكتاب في أطواره المتعاقبة، وقوانين الطبع والنشر وحقوق المؤلفين والمترجمين وما إلى ذلك من الحقائق والأنباء التي يعنى بها الكتاب والقراء، وقد يصدرون السنوية بمقدمة نفيسة تختلف كما تختلف المعلومات الأخرى عاماً بعد عام

وهكذا السنويات التي ينشرونها لمحبي العصافير أو محبي الرحلات أو محبي الصيد أو محبي الرياضة وما إلى ذلك من ضروب اللهو والمتع النفسية والذوقية. فمن جمعها عنده

ص: 1

فليس من الضروري أن يملأ فراغها ويشتغل بما يشتغل به طلابها وهواتها، بل لعله يجمع منها مكتبة للمعرفة: كل سنوية منها بكتاب جامع لأشتات الطوائف والمقتبسات والأخبار

أما سنويات الأدباء والشعراء فهي المفكرات السنوية المألوفة التي تخصص منها صفحة أو أقل من صفحة لكل يوم من أيام العام، ولكنهم يجعلون للأديب أو الشاعر المشهور مفكرة باسمه يصدرونها بترجمته وفصل قيم لكاتب من كبار الكتاب في نقده والتعريف بخصائصه ومزايا شعره ونثره، ويقرنون كل صفحة ليوم من أيام السنة بصفحة من مختاراته تناسب الموعد أو تمت إليه، بسبب، وربما اشتملت الصفحة على فقرة واحدة أو بيت واحد، وربما اشتملت على أكثر من ذاك، حسب التفاوت في الحجم والموضوع

وقلما تتغير هذه المفكرات سنة بعد سنة، ولكن الطابعين المتعددين قد يصدرون مفكرات متعددة لشاعر واحد، وقد تكون المفكرة المفردة أو المفكرات المتعددة أوفي من أحسن المختارات التي تختار لذلك الشاعر، وأحظى بالقراءة والنظر من الكتب التي توضع على رفوفها ولا تحمل بالليل والنهار حيثما مضى صاحبها وكلما احتاج إلى النظر في مفكراته اليومية

وهنا معرض للعجب لا يفرغ منه المتعجب!

ففي الغرب حيث يستغني القراء عن التشويق والإغراء يوجد التشويق على أبرعه والإغراء على أشده

وفي الشرق حيث يحتاجون إلى جميع المشوقات والمغريات لا يوجد من يُغرى ولا من يُغرى، ولا يزالون على ما بهم من الجهل كأنهم أزهد الناس في الدرس والاطلاع

وليس هذا وحده بمعرض العجب في شؤون الكتابة والقراءة عندهم وعندنا

ففي الغرب حيث يظفر الكاتب بأحسن الجزاء من قرائه يعطيهم ما يعطي من ثمراته، ولا ترهقه الشروط، ولا تثقل عليه القيود، ولا يتمحلون له أسباب العيب والتجني والانتقاص. فليس في إنجلترا من يشترط على برنارد شو مثلاً أن يحلق لحيته، أو يقلع بدعة النباتية في طعامه، أو يدين في السياسة والاجتماع بمثل ما يدين به، أو ينهج في معيشته أو اعتقاده نهجاً غير الذي ارتضاء لنفسه

وفي الشرق حيث لا يغني الجزاء، ولو وفر القراء، ترى العالم القارئ أو جمهرة القراء

ص: 2

كأنهم الطفل الممعود، لا أكثر من شروطه، ولا أقل من زاده، ولا أعجب من مطالبه ومقترحاته: تعطيه الحلوى فيطلب الفاكهة، وتعطيه الفاكهة فيطلب الخبز واللحم، وتعطيه الخبز واللحم فيطلب المطبوخ إذا أعطيته الشواء، ويطلب الشواء إذا أعطيته المطبوخ، ويتحكم وهو في مطعم الصدقة، أو شبيه بمطعم الصدقة!! ثم لا هو بالآكل، ولا هو بالشاري، ولا هو بالملتمس العلاج لما عنده من ضعف القابلية قبل أن يلتمس العلاج للطاهي وأصناف الطعام

واسمع غرائب ما يطرق الآذان ويصك الأذهان: فهذا الكاتب لماذا لا يكتب في القصة، ولماذا لا يكتب في الدين، ولماذا لا يكتب في الفكاهة، ولماذا لا يكتب في هذه الصحيفة أو تلك المجلة؟. . . وهذا الكاتب لماذا لا يطلق لحيته، أو لماذا لا يقصها؟. . . وهذا الكاتب لماذا لا يعجب بفلان ولا يقلع عن الإعجاب بفلان؟ وهذا الكاتب لماذا لا يتوجه إلى جمهرة القراء قارئاً قارئاً ليعفر وجهه بتراب الاعتذار والاستغفار، ويعترف بما يسومونه من اعتراف أو ينكر ما يسومونه من إنكار؟

وخذها قاعدة لا ريب فيها أن الشروط عندنا تزيد بمقدار ما يقل الجزاء، وأن الجزاء عندهم يزيد بمقدار ما تقل الشروط

أليس هذا بعجيب؟

بلى. ولكنه عجب في الظاهر دون الحقيقة، وما من عجب صحيح في كثرة الطهاة حيث يكثر الآكلون، ولا من عجب صحيح في كثرة الافتنان والتسابق إلى الإتقان حيث يكثر الطهاة في مكان

فالغربيون يفتنون في الطبع والنشر والتشويق والترغيب لأن طهاة الأدب كثيرون، وآكلي الأدب كثيرون

وكذلك تقل الشروط عندهم لأن الطعام مطلوب هنا إن لم يطلب هناك، وسائغ في بعض الأذواق إن لم يسغ في غيرها من الأذواق

أما الطفل الممعود فكيف يعيش الطاهي إلى جانبه؟ وكيف يقلع عن الاقتراح والاشتراط وهو لا يأكل ولا يشتهي؟

لو أنه أكل لما اشترط واقترح

ص: 3

ثم إنه ليجد شروطه كاملة وافية دون أن يطلبها ويلح في تقاضيها، لأن الطهاة يكثرون حيث يكثر الآكلون، ثم يتنافس الطهاة فيجيدون ويبدعون.

لقد أخذنا المفكرات السنوية من الطباعة الغربية، ولكننا لم نأخذ بعد افتنانهم في أوضاعها ولا في موضوعاتها. فقلما تختلف مفكراتنا السنوية بغير الحجم وصنف الورق ولون الغلاف، وقد يزيدون عليها بعض الحكم والأمثال على غير قصد مرسوم أو تفرقة منوعة

وإني لأكتب هذا المقال وأود أن يصل إلى طائفة من الناشرين والطابعين فيتخذوا من المفكرات مروجاً للأدب ومن الأدب مروجاً للمفكرات، ويخرجوا لنا مفكرة للمتنبي ومفكرة للبحتري ومفكرة لابن الرومي، ومفكرات للجاحظ وابن المقفع ومحمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وسائر العظماء من الكتاب والمصلحين والقادة في عصورنا الغابرة والحاضرة. وإذا خيفت قلة الإقبال على مفكرة مقصورة على أديب واحد فلتطبع منها طبعات متفرقة لأدباء متعددين. فيجتمع من المفكرة كلها ديوان منتخب لأدباء العربية، ويقتني القارئ الواحد أكثر من مفكرة واحدة إذا حسن الاختيار والتنويع

ومهما يكن من الإعراض عن القراءة فلا أخال أن الكتيب الصغير الذي يباع بدريهمات ويحتوي ثلاثمائة وستين معنى للمتنبي أو المعري يعدم مئات القراء إذا استكثرنا عليه الألوف، وقد يقبل عليه من لا ينشط لقراءة الدواوين والكتب، ولكنه يتسلى بالبيت بعد البيت والمعنى بعد المعنى كلما قلب صفحة لإثبات موعد أو تقييد حساب

ونعود إلى تاجور الذي بدأناه بالتحية وذكرنا من أجله هذه المفكرات السنوية

فنحمد الله أنه بات بمنجاة من الخطر وأن النبأ الذي انتظرناه مبشراً بسلامته قد سرى بين أرجاء العالم في هذا العهد الذي ندرت فيه أنباء السلامة، فكان له جمال الندرة الموموقة وغبطة الترفيه المنشود في أوانه

ونفتح السنوية التاجورية على شهر أكتوبر فنقرأ له تحية الخريف التي يقول فيها: (المساء يومئ. وبودي أن أتبع السفر الذين أقلعوا في الزورق الأخير لعبور الظلام: منهم من هو راجع إلى مقره، ومنهم من يذهب إلى الشاطئ البعيد، وكلهم قد اجترأ على الرحيل، وأنا على المورد وحدي قد تركت مقري وأخطأت الزورق وذهب مني الصيف وليس لي في الشتاء حصاد. وهأنذا أنتظر الحب الذي يجمع العثرات والخيبات ليبذرها دموعاً في

ص: 4

الظلام، عسى أن تنبت الثمر حين يطلع النهار الجديد)

ثم نقرأ له في الصفحة التالية: (تقبَّلني يا رب. . . تقبلني في هذه السويعة، واغمر بالنسيان تلك الأيام اليتيمة التي انقضت في البعد عنك. وانشر هذه السويعة موسعة فسيحة على جحرك وتحت ضيائك، فكم ذا أقتفي الأصوات التي تجذبني إليها ثم لا تهديني إلى مكان. فاليوم هبني يا رب أن أجلس في سلام حيث أصغى إلى كلماتك من خلال هذه السكينة)

ذلك وحي الشاعر الذي له رسالة من الغيب وإلى الغيب في صفحة كل يوم

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌إلى.

. .

للدكتور زكي مبارك

مولاتي

إليك أقدم نجوى القلب وحنين الروح، ثم أعتذر عنك إن سمحت، ففي رسالتك الكريمة ألفاظ تحتاج إلى اعتذار، فليس من الصحيح أني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان، كما تتوهمين، وإنما أنا رجل مر العداوة حلو الوداد، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يوغل في مخاشنة أعدائه حتى يوصم بالإفراط في القسوة والعنف، وأن يكثر من محاسنه أصدقائه حتى يتهم بالإسراف في الرفق واللين

ومع أني أنزه نفسي عن اختلاف المعايب لأعدائي فأنا أترفق في ابتداع المحاسن لأصدقائي، ولست من الذين يستبيحون إيذاء أصدقائهم باسم الحرص على منفعة المجتمع أو الصوالح القومية لأن الصداقة عندي مبدأ من المبادئ ورأي من الآراء وعقيدة من العقائد، وأنا أعد الاستهانة بحقوق الأصدقاء جريمة روحية تعرض القلب لعقاب الله ذي العزة والجبروت

أنا يا مولاتي أومن بأني مسئول أمام الله عن واجب التلطف مع أصدقائي، بل أنا مسئول عن وجوب الاعتقاد بأنهم منزهون عن المآثم والعيوب، فاحترسي من اتهامي بالتقرب والتزلف، فلله غَضَبات تنصبُّ على رءوس من يتهمون الأبرياء، حماك الله من التعرض لغضبات السماء!

وقد يقع أن أصوب سنان القلم إلى زميل أو صديق، ثم أظل مع ذلك سليم القلب، أمين الروح، لأن لي رأياً في البر بأصدقائي، وذلك الرأي يحتم الاهتمام بآثارهم الأدبية والعقلية من حين إلى حين، لأني أومن بأن النقد البريء من الغرض صورة جميلة من صور العطف والرفق والإعزاز، وأصدقائي يرون في هذا المسلك ما أراه، إلا أن ينحرفوا عن القصد فيروه من مذاهب الاستطالة والكبرياء، كالذي وقع من فلان وفلان وفلان. على أيامي في صحبتهم ومودتهم سلام الروح وتحية الفؤاد!

أما بعد فما هذا الذي تقولين؟

كنت مريضة منذ شهور طوال؟؟؟

ص: 6

لله الحمد وعليه الثناء، فما كان المرض أهول ما أخاف، وإنما كنت أخاف عليك بغي وعدوان العقوق!

كان قلبي في تلك الشهور يهتف بالشوق إلى الروح اللطيف الذي كان يتصدق على بالسؤال من وقت إلى وقت، ثم انقطع عني مع قدوم الصيف، كأن لم يكف ما حل بنا من المخاوف مع قدوم الصيف! كان قلبي يقول ويقول ويقول، لقد قال كل شيء، ولم يقل إنك مريضة، ولو أنه قال لقدمته فداء لأظرف فتاة فهمت أسرار قلبي وسرائر روحي

كنت يا مولاتي أرجو دائماً أن أصل من الهتاف بالحب إلى محصول نفيس من فهم ما في الوجود من تيارات خفية تصنع ما تصنع في وصل القلوب بالقلوب، والأرواح بالأرواح، بلا جهد ولا مشقة ولا عناء

فهل أستطيع القول بأن قلبك الغالي كان من نفائس ذلك المحصول؟

وأعيذك أن تظني - وبعض الظن حق - أني أستهدي لمحة جديدة من لمحات العطف، فأنا راض بأن تظلي محجوبة عني، مادام لك هوى في ذلك الحجاب، فهو على كل حال فرصة ثمينة لمن يزدهيها أن تقول: أتحداك أن تعرف من هي (ليلى من الليالي)

وأنا يا مولاتي أعرف، فلقلبي أرصاد وعيون يطلع بها على الذخائر التي تفرد بها وطني، الوطن العظيم الذي ينجب عرائس لها أرواح في مثل روحك العذب الجميل

وهل خفي عني منك شيء؟

في كل لفظة من رسائلك الكريمة عروس تتخطر وتميس في دلال وكبرياء، وفي كل نبرة من صوتك الرنان - ولم أسمعه إلا عن طريق التليفون - في كل نبرة من صوتك لحن ينقل قلبي برفق ولطف إلى أجواز الخلود

فإن كنت فتاة حقيقية، فأنت البشير بأمل معسول، وإن كنت فتاة خيالية، فأنت المطلع الجميل لأنشودة رائعة من وحي الخيال. . .

ولي غرض من هذا التشكيك، فما أحب أن تكوني أنت أنت، لئلا يعرف السفهاء باب التطاول على نجم السماء

إن الغرض الأصيل من نجوانا هو خلق روح جديد في الأدب الحديث، ولابد من أن نقول مثل هذا القول دفعاً لمكايد الرقباء، وهل يكون السياسيون أعقل منا وهم يستبيحون تسمية

ص: 7

الأشياء بغير أسمائها لغرض مدفون؟

المهم هو أن تعرفي بالرغم من هذا الرياء المصنوع أن قلبي أبر وأعطف من جميع القلوب، ألم أقل ألف مرة إني أول من تقرب إلى الله بالرياء؟

وأنا مع ذلك أشهد بأني لم اكن أصدق أن في مصر فتاة ترجع إلى مقالات صدها عنها المرض في شهور طوال، ثم تفكر في تقسيمها إلى لوحات فنية مختلفة الظلال والألوان

ولكن ما السبب في أن أطرب لرأيك الجميل كل هذا الطرب؟

أيرجع السبب إلى أنه يزدهيني أن أشعر بأن هنالك قلوباً يسرها أن أكون في دنيا الصبابة آمر يطاع؟

أم يرجع السبب إلى أنها أول مرة أشعر فيها مرة أشعر فيها بقسوة الحرمان من نشوة الافتضاح؟

لو تعرفين أيتها الروح بعض ما أعرف لسرك أن أكون في الحب من أبطال الرياء!!

ولو فهمت بعض الفهم لما آذاك أن أكون فيما تحدثت عن زيارة المنصورة من المرائين

أسمعي، أيتها الروح الطروب

قيل وقيل: إن طيارات الأعداء قد تنتفع من النور الضئيل إذا أضيف بعضه إلى بعض، لأنه عندئذ يكون هالة نورانية تدل على المستور من المنازل والقصور

وأنا كذلك أبخل بالكتابة عن الحب في جميع الأحاديث، كما تقترحين، لأن ذلك لو وقع سينتفع به الحاقدون من أعداء الأدب الرفيع

ومن هذا الحديث تفهمين أني أعرف هويتك الصحيحة، فأنت طفلة بالتأكيد، لأنك تجهلين عواقب الافتضاح

أنا افتضحت وسلمت - إن كنت سلمت - لأني أقمت أدبي على أصول من الرمز والإيماء، فما هواك في أن أدل عليك بلا ترفق ولا استبقاء؟؟

ومن يسترنا إذا افتضحنا، يا ظلوم؟

ومن يستر الشمس إذا أطلت بوجهها على الوجود؟

الحب هو الشمس، والرياء هو السحاب، وللشمس قدرة سحارة على تمزيق أردية السحاب، فإن زعمت أنك مستورة بسحاب من فوقه ظلمات، فاعرفي يا شقية أن ظلام الحب يعقبه

ص: 8

صباح، وسنلتقي ولو بعد حين، وسنذوق أذى الناس ولو بعد أزمان!! نحن أيتها الروح غرباء في هذا الوجود، وآية ذلك أني لا أستطيع التسليم عليك في صبيحة العيد، لأني - وفقاً للعرف - لا أمت إليك بغير الوشيجة الروحية، وهي وشيجة مجحودة الأصول والفروع عند أكثر الناس

فنم يعزي المحروم من طلعتك البهية وصوتك الرخيم في صبيحة العيد؟

ومن يواسي الهائم الحيران وهو من الهُيام والحيرة في شقاء وعناء؟

أَمَا والله لو تَجدين وجدي

جمحتِ إليَّ خالعةَ العذارِ

وهل كانت الحياة إلا في الشعور بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح؟

ما هذا الذي أقول؟ وما الذي أجترح بهذا القول؟

أمن الصحيح أننا لا نجد السعادة الحق إلا إذا تلاقينا في صبيحة العيد وجهاً لوجه، وتصافحنا يداً بيد، وآذنا الناس بما نحن عليه من وداد وصفاء؟

أشعر يا مولاتي بأن موازين الأحكام الروحية قد اختلت بعض الاختلال، وإلا فما بالنا لا نصدق بالتصاق التام إلا إذا تصافحت الأيدي وتلاقت الوجوه؟

وماذا يصنع مثلى إذا أبتلى بهوى فتاة روحانية ترى الأنس في أن تلقاني في مقالاتي ومؤلفاتي، وأن ألقاها فيما تكتب إلي من رسائل معطرة بعبير الرفق والحنان؟

إننا غلبنا أسلافنا بكثرة الإنتاج الأدبي، ولكننا لم نصل بعدُ إلى مسابقتهم في ميدان الخلود، لأن أدبهم على قلته مطبوع بطابع الصدق؛ فقد كان فيهم من يقضي العمر وهو مجذوب إلى صورة لا تطمع في رؤيتها العيون؛ أما نحن فنيأس وننصرف لأول بادرة من بوادر المنع، ويكون من أثر ذلك أن تحرم أكبادنا قسوة اللوعة والاحتراق، وهي قسوة لطيفة محبوبة لا يتذوق عذوبتها غير الأديب والفنان

ومن يدري؟ فلعل لي غرضاً في العزلة يشبه غرضك في الاحتجاب، والإنسان حيوان لئيم. وهل أجد نفسي إلا حين أخلو إلى قلمي؟

وما سر تلك الخلوة؟ وما أخبارها؟

هي خلوة أقترب فيها من نفسي بعض الاقتراب، وأشعر بمواجهة اللهب المقدس الذي يمن به الله على أحد الأرواح في إحدى الأحايين، وأسمع صرير القلم بلهفة وشوق، لأن كتاباتي

ص: 9

لها في أذني وقع، وفي قلبي وقع، وما خططت حرفاً إلا وأنا مشغوف بتصرف ما يتسامى إليه من ألحان وأغاريد، ولو شئت لقلت إن طاعة القلم هي التي تجذبني إليه، فهو لا يصدر إلا عن أمري ولا يصدح إلا بما أشاء، وهو لا يخطئ حين يخطئ إلا وهو مؤمن بأن أخطائي أصدق وأجمل من الحق ومن الصواب

فمن كان في صدره عتاب أو ملام لانصرافي عن محضره الأنيس فليذكر هذا القول، فأنا لا أصادق من يتوهم أني رجل يخطئ كما يصيب، وإنما أصادق من يعتقد اعتقادا جازماً بأن العيب حين يقع مني هو الغرة في هلال شوال. وهل كانت لي عيوب إلا في أوهام الذين أبنيهم ليهدموني؟ جزى الله بعض الزملاء (خير) الجزاء!

وماذا نصنع إذا التقينا يا شقية، يا شقية؟

سيهمك أن تعرفي الفرق بين زكي مبارك المؤلف وزكي مبارك المحدث (؟!)

وسيهمني أن أعرف الفرق بين الفتاة التي تكتب إلي من بعد والفتاة التي أراها من قرب (؟!)

وعندئذ آثم وتأثمين، لأن شريعة الحب تبغض هذا الفضول

ألم تقولي في إحدى رسائلك إني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان؟

وأين كان التوسل والتصنع وقد صبرت على الحرمان من وجهك الجميل أكثر من عامين؟

وهل حُرمت منك عامين أو شهرين أو يومين أو ساعتين؟

الجواب عند ليلى، فاسأل ليلى، ليلى المريضة في العراق، اسأليها تخبرك أن صدها عني لم يكن إلا فناً من فنون الوصل، والصد المقصود ليس قطيعة، وإنما هو آية من آيات العطف، لا حرمني اللًه تعتب ليلاي هنا وليلاي هناك!

أين أنا مما أريد؟ وهل ترينني أفصحت بما أريد؟

ما نظرت في رسائلك إلي إلا زاغ بصري وطار صوابي؟

فهل من الحق أنك تخافين عواقب التصريح باسمك المكنون؟

أنا لم أجترح معك غير هفوة واحدة يوم استبحت تسجيل صورة من خطك البديع في الكتاب الذي تعرفين وقد نهيتني فانتهيت فما تحجبك عن المحب الذي (أدبتهُ عقوبة الإنشاء) فتاب وأناب؟

ص: 10

على أنني راضٍ عما صرنا إليه من الاكتفاء بمصافحة القلوب، أدام الله عليك نعمة العافية، وجعلك مصباحاً وهاجاً لبيتك الرفيع، ولا أراني فيك إلا ما أحب، يا زهرة الشباب في الوطن المحبوب، ويا أصدق شاهد على صحة ما قال قاسم أمين وهو يُهدي كتاب (المرأة الجديدة) إلى سعد زغلول

ثم ماذا؟ ثم كان العطف النبيل في منحى لقب (أمير البيان) فهل ترين هذا اللقب على سموه يستوجب الدخول في خصومات كالتي عاناها شوقي (أمير الشعراء)؟

أن لقب (أمير البيان) أضيف إلي أول مرة على سبيل السخرية في إحدى مجلات لبنان، ثم أضيف إلي مرات على سبيل الإنصاف في بعض الجرائد في مصر والعراق، فماذا ترين أن أصنع في حراسة هذا اللقب الرفيع؟

أنا أومن يا مولاتي بأنه لا يمكن لأحد أن يكون أكتب مني، إلا إذا استطاع أن يكون أصدق مني، ومن المستحيل أن يكون في الدنيا أحد أصدق مني، وهل هان الصدق حتى يكون لي فيه منافسون من أبناء الزمان؟

الصدق يحتاج إلى تضحيات عظيمة جداً، ومن تلك التضحيات ما تعرفين وما تجهلين، ولو علمت الغيب يا شقية لعرفت أن الصدق جرني إلى معاطب ومهالك لا يصبر على محرجاتها ومؤذياتها إلا من كان في مثل إيماني، وقد صبرت وصبرت حتى أتهمني الغافلون بالبلادة والجمود، لأنهم لم يعرفوا أن دنيا الأدب فيها مبادئ تروض أهلها على الترحيب بمكارة الظمأ والجوع، إن جاز القول بأن اللَه رضي لحظة واحدة بأن أحس مكارة الظمأ والجوع، ولن أموت إلا مقتولا بنعمة الترف في الطعام والشراب، فليغفر الله ما أدعية زوراً من الترحيب بكاره الظمأ والجوع، وهو الغفور التواب

وهل أنسي يا شقية أن الصدق حرمني نشوة الاستصباح بوجهك الوهاج؟

هل أنسى أن الصدق جعل لأعدائي حججاً دوامغ في مقاومة مؤلفاتي؟

الصدق في الدنيا غريب، وأنا في الدنيا غريب، والله هو المسئول عن رعاية الغرباء!

أما بعد، ثم أما بعد، فسأظل إلى الأبد عند ظنك الجميل، وسأغفر لك التطاول على من حين إلى حين لأني آخر من يتذوق تجاهل المحبوب لأقدار الحبيب

من نعم الله أن نعيش قلباً إلى قلب، لا جنباً إلى جنب، فما كان الهوى العذري إلا الروح

ص: 11

المكنون في قصيدة الوجود

وإلى اللقاء يا شقية في عالم الفكر والوجدان

ولكن متى؟ متى؟ متى؟ وأنت تؤمنين بأن البخل أشرف خلائق الملاح!

قالوا عشقتَ فقلت كم من فتنة

لم تغن فيها حكمة الحكماء

إن الذي خلق الملاحة لم يشأ

إلا شقائي في الهوى وبلائي

زكي مبارك

ص: 12

‌سيجموند فرويد

العالم النفساني الكبير

للأستاذ صديق شيبوب

- 5 -

حين أربي (فرويد) على السبعين كانت نظرياته في علم النفس قد استحكمت حلقاتها وقامت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً بعد أن عمل على تشييدها جزءاً فجزءاً، وكان (الجزء يلد من الجزء تباعاً) كما يقول:(ليوناردو فينتشي، وأخذت هذه النظريات تؤثر في كل علم وفن. فهل استراح هذا الشيخ مطمئناً إلى ما قدم من خدمات وما أحرز من نصر؟)

لا شك أنه رأى مجال العمل ذا سعة ولكن أزعجه أنه سوف لا يجد فسحة من الأجل لإتمام ما يبتدئه من بناء للمستقبل. لذلك صار يلقي من الذروة التي تنسم قمتها نظرة شاملة على الماضي على طريقته التحليلية المعهودة، ولكنه بدلاً من أن يعالج الأعصاب والنفس في الفرد، أخذ يعالج العالم ويبحث التاريخ كمجموعة إنسانية فريدة، وبدلاً من أن يوجه أبحاثه شطر المادة أخذ يسوقها ناحية المسائل النظرية بالرغم من أنه كان يأبى هذا التوجيه في شبابه، وهو القائل من قبل:(إني لا أرضى عن تركيب النظريات العامة) فكأنه أراد أن ينتحل لنفسه الأعذار حين قال: (لقد طرأ على أسالبي في العمل تغيير لا أنكر نتائجه. كنت من قبل لا أعرف كيف أحتفظ في نفسي بنظرية أعتقد أنها جديدة وكنت أفضي بها بالرغم من أنه لم تجتمع لدي الأدلة على صحتها. . . لأن الزمان كان منفسحاً أمامي، كان الزمان خضماً واسعاً كما يقول شاعر ظريف. وكانت مواد البحث تتدفق عديدة بحيث أجد من الصعوبة اختيار كل ما بين يدي. أما اليم فقد تغير وضع الأشياء فالزمان محدود الأجل، وفيه من الفراغ ما لا يسده العمل بعد أن تضاءلت ظروف الاختبارات الجديدة. فقد أصبحت لا أجرؤ على الإفضاء بما أكتشفه من جديد مخافة ألا أجد متسعاً من العمر للتدليل عليه. . .)

سلخ (فرويد) خمسين عاماً من حياته لا يقابل فيها غير مرضاه، ولا يعرف من الإنسانية غير أفرادها المصابين التاعسين في غرو إذا نظر إلى الحياة في مجملها نظرة مليئة

ص: 13

بالتشاؤم في الكتابين اللذين وضعهما في طور شيخوخته وهما (مستقبل وهم) و (علة المدنية) ولا غرو إذا قرر أن (الحياة عبء ثقيل على الإنسانية جمعاء كما هي على كل فرد)

عرض (فرويد) للإنسانية في عصرنا الحاضر فوجد أنها بلغت من الرقي حداً بعيداً بينما لم يستطع هذا الرقي أن ينيل الفرد السعادة التي يصبو إليها كل إنسان

وللتدليل على هذا استعرض (فرويد) تاريخ العالم منذ الإنسان الأول أي منذ كان الإنسان يجهل القوانين والأخلاق ويبعث كالبهيمة حراً طليقاً من كل قيد. وعندما تألفت الجماعات والقبائل حد هذا التآلف من أطماع الفرد وأهوائه، لأن كل حياة اجتماعية مهما كان شكلها أولياً تحد من حرية الفرد في سبيل إخوانه، فصار لزاماً عليه أن يمتنع عن أشياء كثيرة، فاستحدث الحرام والحلال، ونشأت التقاليد والتواضع والحقوق والواجبات واستتبع هذه جميعها العقاب الذي يقع على من يخالفها

ولم تلبث معرفة الحرام وخوف العقاب، وكانتا ظاهرتين ماديتين، أن نفذتا إلى رأس الفرد وقلبه فاستحدثتا فيهما ما هو أبعد من الذات المادية، أي أنهما أوجدتا فيه الضمير، ونشأت في الوقت نفسه الثقافة العقلية والفكرية والدينية، وأوجدت فكرة الإله القدير العليم يقظة الضمير وكبت الشهوات فتحولت القوى المادية التي كانت تحرك الإنسان الأول إلى قوى عقلية وأخلاقية خالقة وأخذت تسيطر على العالم حتى أخضعت عناصره واستخدمتها في سبيل غايتها

ثم قرر (فرويد) أن الاختراعات والاكتشافات التي قربت الإنسان من درجة الألوهية من حيث الخلق لم توفر للإنسانية أسباب السعادة ولم تدخل الغبطة والسرور عليها. وسبب ذلك أن الثروة الثقافية التي أنتهي إليها الإنسان لم ينلها مجاناً لأن ثمنها الحد من حرية الغرائز. وكل ريح للإنسانية خسارة تلحق بالفرد في أسباب سعادته

تعاودنا في أحلامنا ورغباتنا الغرائز التي أجبرتنا المدنية والأخلاق على كبتها، ولا تزال الذات الأخلاقية تصبو إلى الفوضى والحرية والحيوانية التي كان الإنسان الأول يتمتع بها. فكأننا نفقد من حيويتنا كلما تقدمت المدنية. ويحق لنا إذن أن نتساءل: هل المدنية لم تسط على نفس الفرد، وهل (ذات) المجتمع لم تصب (ذات) الفرد بغبن فاحش؟

ص: 14

فما هو الدواء الذي يصفه (فرويد) لمعالجة العلة التي وصفها؟

إن علم تحليل النفس يقرر نظرياً تفوق العقل الباطن والغرائز على العقل الواعي، ويقرر عملياً أن تغلب العقل الواعي هو الوسيلة الوحيدة لشفاء الإنسان

ترى هل يصف (فرويد) للمجتمع ما قرره من قبل للفرد بعد ان لاحظ ما في قوله من الاختلاف بين النظريات وبين العمليات، وهو الذي قرر بشكل حاسم أن الغرائز حاسم أن الغرائز الهمجية هي التي تسيطر على العقل

كان فرويد قد شهد الحرب الأخيرة، ولاحظ تغلب الغرائز على العقل، فلم يقرر علاجه تقريراً باتاً ولكنه رجا أن تصل إليه اليد الإنسانية بعد ردح من الزمان متعللاً بالأماني فقال:(نستطيع أن نستمر على القول في حق بأن العقل الإنساني ضعيف إذا قيس بالغرائز، ولكن هذا الضعف أمر عجيب. إن صوت العقل خافت ولكنه لا يفتأ يتردد حتى يسمع، والعقل لا أشك واصل إلى غايته في النهاية بالرغم من اندحاره أكثر من مرة، وهي ظاهرة من المسائل النادرة التي تحملنا على التفاؤل في مصير الإنسانية. إن تفوق العقل قائم في منطقة نائية، ولكنها ربما كانت غير بعيدة المنال)

وكان آخر مؤلفات (فرويد) كتابه عن موسى وفكرة التوحيد عند اليهود، وهو الكتاب الذي قرر أن موسى لم يكن من العبريين، وأنه كان مصرياً مستدلاً على ذلك باسمه. إن كلمة (موسى) في رأيه مصرية معناها الطفل أو العبد بدليل أسم الملك (تحوتمس) أو (تحوت موسى) أي عبد (تحوت) فيكون أسم موسى اختزالاً كما نقول بالعربية (عبده) لعبد الله. وقد أطلقت أبنه فرعون عليه هذا الاسم المصري الذي لم يكن معروفاً عند العبرانيين

كان موسى من رجال حاشية الملك إخناتون الذي كان أول من قال بالتوحيد عند قدماء المصريين، وجرى بعد وفاة هذا الملك أن ثار الكهنة واستردوا سلطانهم فتفرق أشياعه، ومنهم موسى الذي هرب من مصر وأخذ معه الإسرائيليين لأنهم كانوا مستعبدين مضطهدين

وقد عرض في كتابه لأدلة عديدة مثل مصرية أسماء اللاوبين الذين يقول إنهم كانوا أشياع موسى، واقتباس العبريين عن المصريين الختان وتابوت العهد وهندسة بيت المقدس إلى غير ذلك مما يطول بنا بيانه.

ص: 15

هذه آثار (فرويد) في العلم والفكر. ولا شك أن أسمه سيظل عالقاً بنظرية العقل الباطن التي أكتشفها والتي جعلته زعيم مذهب تشيع له علماء كثيرون نذكر في طليعتهم (يونج) و (ادلر) اللذين بنيا أبحاثهما على نظرياته ووصلا إلى نتائج تختلف عن نتائجه خصوصاً في تفوق الغريزة الجنسية واللبيد، وقد أرادا بهذه الكلمة الأخيرة معنى آخر غير الذي قرره لها (فرويد)

على أن أثره لم يقتصر على علم النفس وطب الأعصاب بل تعداهما إلى مختلف العلوم والفنون كالتربية (بداجوجيا) ودرس الميثولوجيا والشعر والنقد والفنون الرفيعة

حين قرر فرويد أن الناس قد يتشابهون في أجسامهم ولكن نفس كل فرد كائن قائم في ذاته لا وجه للشبه بينه وبين غيره فتح باباً جديداً، لا في العلم فحسب، بل في فن النقد والقصة وكتابة التراجم، وجعل من بعض العلوم التي كان العلم الحديث يعترها ضرباً من الوهم كقراءة الطالع بواسطة النجوم أو الكف أو الكتابة علماً يقوم على نظريات جديدة لعلها صحيحة

وخلاصة القول أنه مهما اختلف العلماء في الحكم على مذهب الفردية من ناحية العلم والأخلاق فلا سبيل إلى إنكار فضله لأنه أفاد الإنسانية فوائد جمة في مختلف النواحي فسار بها شوطاً بعيداً في التقدم والرقي وساعد على تخفيف ويلاتها وزاد ثروتها العلمية والفنية فاتسعت آفاق البحث وتشعبت أصوله وفروعه.

صديق شيبوب

ص: 16

‌فخري أبو السعود

للأستاذ أحمد فتحي مرسي

قضي الأستاذ الشاعر فخري أبو السعود - طيب الله ثراه وخلد ذكراه - فانطوى بموته صديق يعز على الأصدقاء فقده، وأديب يشق على الأدب رزؤه فيه، وعالم لن ينساه العلم وإن نسي الكثير غيره، فمن حقه علي أن أكتب، ومن حقه علي الرسالة أن يتسع صدرها لما أكتبه عن أديب طالما طلعت علينا بالكثير من آياته وغرره.

قال البعض إنه مات منتحراً برصاص مسدسه في لحظة ضيق بعد أن خط هذا البيت على رقعة:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثلاثين حولاً - لا أبالك - يسأم

وقيل إنه فقد ولده في باخرة ترحيل الأطفال الإنجليزية التي أغرقها الألمان، وقيل إنه انقطع اتصاله بأسرته في إنجلترا، وقيل إن في الأمر جريمة قتل. . . إلى غير ذلك مما يذيعه الناس في مثل هذه المناسبات، إذا عمي عليهم الأمر ووقعوا في الحيرة، فذهبوا يتقصصون الآثار، وينتحلون العلل، ويضربون في الأوهام. . . ثم انبرت أسرته تكذب كل ذلك وتقول إنه مات برصاصة طائشة من رصاص مسدسه أثناء إصلاحه. . . كل ذلك لا شأن لنا به فلقد مات الرجل - يرحمه الله - وانقضى الأمر؛ إلا أن ما عرفته في فخري طول صحبتي له من صموده للحياة، وثقته بالله وعدم تطيره من الحادثات، يجعلني كثير الشك فيما قيل عن الانتحار. . . فقد كنت معه مرة في معرض الحديث عن مقال في الانتحار لأديب كبير، ثم تطرق بنا الحديث إلى ذكر فلان من أدباء الشباب - وكان فخري يعجب بأدبه ولا يعرفه - وأنه قد حاول الانتحار في ذلك الحين، فسخر فخري منه، فلما عرضت على فخري أن أعرفه به أبتسم قائلاً:(إنني لا أود أن أعرفه)

عرفت فخري أول ما عرفته في أول عهده بالتدريس في المدرسة العباسية الثانوية، وكان ناظرها في ذلك العهد الأستاذ عبد الرحمن شكري. قدمني إليه صديق، فخلت بادئ ذي بدء، أنه أحد الطلبة، فقد كان رحمه الله ضئيل الجسم، قصير القامة قليل الكلام، شديد الخجل، لا تبدو عليه سنه؛ فلما قدمه الصديق إلى، خلت أنه هازل لا جاد، أو أنه ربما أشتبه عليه الاسم - فكثيراً ما تتشابه الأسماء -، وساعد على ذلك أن الصورة التي كنت

ص: 17

رسمتها لفخري في ذهني - من المطالعة - تتباين مع أراه جد التباين، فسلمت عليه في فتور ووناء، ثم إنه كان قليل الكلام - كما قدمت - فتوهمت أن ذلك قلة مبالاة، فقابلته بالمثل، فكانت مقابلة جافية أسرها لي فخري، وعتب علي بعد ذلك بزمن

ثم مضت الأيام فذهبت إليه في بعض الشأن، وكنت قد نشرت قصيدة بجريدة الأهرام بعنوان (الصباح)، فقابلني مقابلة طيبة، وجلسنا نتحدث عن القصيدة، ثم عن الشعر في مصر، ثم قرأ لي قصيدة عنوانها (نجوم السينما) كان يعدها للرسالة، وأهدى إلى كتابه عن الثورة العرابية؛. . . ثم تكررت المقابلات بعد ذلك، واتصلت بيننا أسباب المودة، فكنا نلتقي في أكثر الأيام

نقل فخري بعد ذلك إلى الرمل الثانوية، وتركت أنا الإسكندرية، ثم عدنا فالتقينا في الإسكندرية بعد ذلك بعام، وكنت قد اتصلت بالرسالة، وكان قد بدأ يكتب فيها سلسلة مقالاته عن المقارنة بين الأدبين العربي والإنجليزي، فأثارت اهتمام كثير من الأدباء، وقد أبدى لي الأستاذ الزيات إعجابه بها أكثر من مرة، وكتب إلي فخري يقول في ختام خطاب له - أطلعني على فخري -:(فأستزيدك، ثم أستزيدك، ثم أستزيدك). وكان في نية الأستاذ الزيات طبع هذه المقالات بعد إتمامها، ولكن فخري لم يتمها

ظهرت بعد ذلك مجلة الرواية، وبعد ظهورها بنحو عام وقعت جفوة بين فخري وبين الزيات أدت إلى قطع هذه المقالات، وانقطاع فخري عن الرسالة. . . قابلته بعد ذلك بحين فشكا لي شيئاً من ركود الذهن بعد انقطاعه عن الرسالة؛ وقال لي إنه شديد الخجل لأن الأستاذ الزيات مازال يرسل إليه مجلتي (الرسالة) و (الرواية) في حين أنه لا يؤدي له أية خدمة نظير ذلك. . .

وظهرت في ذلك الحين مسابقة وزارة المعارف في التأليف؛ فعرض علي بعض ما كتبه. وكان - رحمة الله عليه - كثير الشك في الفوز، فطمأنته ورجوته أن يتم ما بدأ، فأتمه - وأظنه فاز بجائزتين -؛ ثم انقطع حيناً عن الكتابة وانصرف إلى القراءة، وكنت ألقاه في ذلك الوقت كل يوم تقريباً، فنمضي سيراً على الأقدام في طريق (الكورنيش)، ويمتد بنا الحديث في الأدب والجدل أحياناً حتى نجد أنفسنا في جهة لم نكن نقصدها؛ وكثيراً ما كان يشغلنا الحديث حتى نقطع في السير مسافات بعيدة دون أن ننتبه؛ فقد كان رحمه الله يؤثر

ص: 18

السير على الجلوس؛ وكان شديد النفور من المجتمعات ولا أذكر أنني رأيته مرة في مقهى أو منتدى ولعل ذلك هو السبب في سعة اطلاعه، ووفرة إنتاجه، فكان يقسم فراغه بين التريض والقراءة، والكتابة. والظاهر أن ذلك يرجع إلى طبيعته الهادئة، فقد كان يكره الضجة، ويتجنب الناس. وكان منزله في بقعة هادئة من رمل الإسكندرية، وحتى طفله يبدو لي أنه ورث عنه هذه الميزة، فكان ينفر من الغريب، ويبتعد عن الناس، أذكر أنه تركه معي مرة وذهب لبعض شأنه، فجعل الطفل يصرخ ويبكي ويتملص مني ليجري، وعبثاً حاولت تهدئته ولكنه لم يهدأ حتى عاد والده إلى جانبه مبتعداً عني

ولا أود أن أختم هذه الإلمامة قبل أن أشير إلى دراسة فخري واتجاهه في الأدب؛ فقد تخرج في المعلمين العليا واشتغل بعض عام بالصحافة، ثم اختارته وزارة المعارف في بعثة لها فتخرج في جامعة إكسترا في إنجلترا - وهناك تزوج من زميلة إنجليزية له في الدراسة - فلما عاد اشتغل بالتدريس في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وكان فخري رحمه الله كما علمت منه مكباً على القراءة من صغره ولا سيما قراءة القديم حتى أوشك أن يستظهر كتباً بأكملها، ويظهر ذلك جلياً في أسلوبه، فتمتاز كتابته بقوة الأسلوب وجزالة الألفاظ. كذلك تبدو في شعره محاولة تقليد القدماء، وقد تأثر في هذا بالبارودي، وكان يحفظ جل ديوانه ومختاراته. وكان يؤثر من الشعراء القدماء أبا تمام وبعض شعراء الجاهلية لاسيما طرفة بن العبيد. كل هذه الدراسات القديمة كان لها أثر واضح في شعره لا يخفى على قارئه، وكان يختار منها اكثر شواهده في مقارنته بين الأدبين العربي، والإنجليزي. وكان يؤثر العقاد على شوقي وحافظ، وكثيراً ما قام بيننا جدال طويل في ذلك. وكان رحمه الله ينظم الشعر في سيره فتراه يغمغم في سيره بكلام لا تستبينه لانخفاض صوته، حتى إذا جلس كتب ما قال، ولا يزال كذلك حتى يتم القصيدة

وهناك ناحية تجب الإشارة إليها هنا وهي ضيق صدره بالنقد، وإن كان سلم منه في الصحف، وكثيراً ما كنت آخذ عليه ذلك. حدث مرة أن عثرت له على بعض أخطاء في نسبة الشواهد، وعلى هنة لغوية في قصيدة له، وكان في ذلك العهد يقضي الصيف بإنجلترا، فانتظرته حتى عاد فنبهته لذلك فغضب مني ودعاني في اليوم التالي وقد جمع لي بعض ما كتب في الرسالة وجعل ينتقد لي بعض المعاني حتى يرد علي بالمثل

ص: 19

وقد نشر فخري القسط الأكبر من كتابته بمجلة الرسالة، واتصل في أواخر أيامه بمجلة الثقافة وجعل يكتب بها حتى توفاه الله، وفيما عدا ذلك له متفرقات بجريدة الأهرام والهلال وغيرهما من الصحف هذا غير كتابيه (الثورة العرابية) وقصة (تيس)

رحمك الله يا فخري، وأجمل عزاء الأدب فيك، ولطف بأصدقائك وعارفيك. فقد كنت نعم الأديب ونعم الصديق. . .

هذا بعض حقك علي، أرجو أن تجد لي العذر إن كنت قد قصرت فيه أو أخطأت فإن الحزن يغالب خاطري وذاكرتي كلما أمسكت القلم لأكتب عنك، أو أنا كما يقول شوقي:

رثيتك لا مالكا خاطري

من الحزن إلا قليلاً خطرْ

سقتك الدموع فإن لم

يدمن كعادتهن سقاك المطر

أحمد فتحي مرسي

ص: 20

‌عودة إلى الروض

للأستاذ محمود البشبيشي

كنت أعلم أن للقلم غفوة كما للقلوب، ولكن لم أكن أدري أن للقلم صحوة كصحوة القلوب

وما كنت أعلم أن القلم يدرك معنى الحنين، ويحس لوعة الفراق، أنه كالقلوب تحس أن الحنين دليل الرغبة، والرغبة سبيل العودة

لم أكن أعلم هذا، حتى قرأت كلمة الدكتور الفاضل زكي مبارك، فأحسست أن القلم غلبه الحنين والشوق، وأنه أصبح من مادة القلوب يسيره الشعور وبأمره فيطيع!

. . . ودبت فيه الحياة من جديد وأخذ يمطرني وابلاً من الخواطر السيالة بالعاطفة، المتلألئة بالنور، الفواحة بالزهر، تخلص من فكرة لفكرة خلوص كلمة الحب من قلب المحب! نقية طاهرة. وللقلم حق عزيز عليَّ. . . آه من تبعاته ورغباته!

فيا ليتك يا صديقي ما تلفت فهجت أحلاماً كانت هي أيضاً في حلم! ويا ليت قلبي ما تلفت وتسمع. . . يا ليته، يا ليته!

فأيقظ القلم وحرك الطبيعة الكامنة في النفس كمون سر الحياة فيها. . . أنت السبب في كل ذلك يا دكتور. . . أنت السبب في العودة وحنين العودة، فقد أحسست روحاً غريباً ينشره أريج كلماتك سحراً تتلفت إليه القلوب فيقيدها! ثم هي برغم ذلك تهنأ بالقيد لأنه روحي نبيل في ضغطه على النفوس. . . فأعجب لقلب ينعم بأن يتعذب ويتعذب بأن ينعم! إنني هذا القلب الغريب!

فمن الناس من يرق ويرق، وينبل وينبل، ويدق شعوره حتى يُصبح كل جزء من جسده البشري قلباً حياً. . .!

وأنت أيها الصديق من هذه القلوب التي تمشي على الأرض! وتتألم لأنها لا تستطيع إلا أن تتألم، وتحب لأنها لا تستطيع سوى أن تحب! هي حرة في كيانها وليست بحرة. . . صريحة في فعلها وميولها وليست بصريحة. . . يقيد حريتها خوف الجور على حرية الغير! وهذا نبل جميل. . . ويمنع صراحتها خوف جرح قلوب الغير. . . وهذا نبل آخر. . .

أنت من هذه القلوب أيها الصديق وإن احتار في أمرك الكثير، وطالبك البعض برفع القناع

ص: 21

عن زكي مبارك الأديب. وليتهم قالوا عن القلب المبارك الأديب!

أيها القراء إن أردتم معرفة زكي مبارك الرجل فأنا أقول: إنه الوفاء والشهامة والسهولة في الطبع. . . وإن أردتم معرفة زكي مبارك الأديب أو القلب المبارك الأديب واحترتم في أمره فعليكم بما كتب وما سوف يكتب في عالم الحب والجمال وصوفية الحب والجمال

هناك تلمسونه روحاً تتدفق، وقلباً يعرف كيف يحب وكيف يكره، كيف يصارح وكيف يرائي، كيف يتألم فيستر الألم لعزة في نفسه، ويفرح فيملأ الدنيا غناء، لأنه قلب إنساني كما قلت لا يحب أن ينعم وحده. بل يسعده أن يُطلع قلوب الغير على أطياف السعادة!

أيها الحائرون في أمر الدكتور، أنا لا أرى سبيلاً للحيرة في أمره. وكيف تصح الحيرة في رجل (يقتل الوقت والعافية في تذكر القلوب الغوادر، وفي دنياه تكاليف تميد من أثقالها الجبال. لأن الموجب معروف وهو الوثاق المسطور في اللوح المحفوظ بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح).

كيف الحيرة في رجل يرى من يكذبه صادقاً. لأنه كاذب في تصوير ما يعانيه!

تلك يا دكتور فلسفة جميلة، وأجمل منها أنك أحكت أحبولة الرياء وجه الوشاة والعذال. إنه رياء نبيل حقاً. . . ولكني في حيرة من أمر ذلك الرياء الذي تقربت إلى الله به. وأنا في حيرة فهل لك أن تأخذ بيد صديقك من الظلمة فيطمئن قلبه عليك وعلى نفسه! أهو رياء المجد كل ما فيه حب ووفاء!. . . ما أصدق حنين القلم وما أجمل العودة إلى الروض!

يا صديقي. . . لست أدري أي سحر في ظلال دوحة أفكارك استطاع أن يخرجني من صمت ظننته لا يفارقني ولا أفارقه. . . أي سحر يا صديقي أي سحر!

ترىُ هل ودعني الأدب يوم ودعته لغير عودة، وفي نفسه أن يعود، وأن يكون بعثه على يدك يا دكتور، وإلا فما هذا الصوت الغريب الذي يناديني من ثغور أزهارك؟ وما هذه الألوان النفسية الصوفية التي تغمرني من خواطرك الجريحة في الشوق والحب!

تسأل يا دكتور ماذا تضمر الدنيا في أيامها المقبلات؟! إنها تضمر الخير والحب والنور والمجد، وما كان لها سوى أن تضمر ذلك للقلب الذي صير الحديث عن الوفاء والحب شريعة من شرائع الوجود!! للقلب الذي يسأل أين بائع النسيان؟ وأين بائع السلوان؟ للقلب الذي علمته صوفية الحب ألا يرائي من يبغض، ويرائي من يحب!! إنها القلوب أيضاً يا

ص: 22

دكتور لها من منطق شعورها صراحة لا يعرفها سوى الذين خلقوا وكل ما فيهم قلوب حية!!

يا طالما أحسست في نفسي شيئاً لم أستطيع إدراكه، ومر على قلبي إحساس لم تفسره دقاته! ولكنني اليوم واليوم فقط علمت هذا الشيء وعرفت هذا الإحساس. إنها أغنية العودة إلى الروض، أغنية القلم تذكرني بأيامه ولياليه، بل بأيامنا وليالينا أيام كنا يا دكتور نصل الحديث بالحديث، نتقابل لنتكلم في النثر والشعر، ونفترق لنعود للنثر والشعر. . . أيام كانت نفس تشعر بالحياة لأن كل شيء في الحياة يشعر بها. . . وقبل أن تسود الضمائر وتجحد الأيادي!

. . . لا يكاد يظهر كتاب حتى نقتله بحثاً أو ننقده نقداً نزيهاً يعلمه الدكتور. تذكرت هذه الأيام والليالي، وما كان منا في هذه الأيام والليالي، وهاجت الذكرى في نفسي فأصبحت شعوراً قوياً وكبر الشعور للقوي فصار رغبة، وتجسمت الرغبة فكانت عودة إلى الروض، الروض الحبيب، روض الأدب، وكنت أنت باعث هذه الرغبة وصاحب الفضل في تلك العودة

فيا أيها القلم تحية لقاء حبيب مني!. . . علم الله ما تركتك زاهداً. . . إنما عز علي أن أشرعك في وجه من يشرع في وجههم السيف وشيء آخر أحقر من السيف! ولكنها عودة جميلة. . . ومن العيب أن أناديك فلا تلبي النداء. . . إن الروض قد ابتسمت أزهاره فلم لا تبتسم. . . وإن رفاق الفكر والقلب ينتظرون منك الأغنية. . . والعودة إلى الروض. . . بعد أن ظن رفاق السوء أنها غفوة لا صحوة بعدها! أيها القلم، عزيز على هذه الغيبة الطويلة. . . وحبيب إلى هذه العودة الجميلة. . . وليعلم الذين جحدوا آياتك. . . أن الدائرة تدور. . . وأنك بالمرصاد! وأن القلب الكريم إن هو لم يثر في وجه المعتدي يوماً فله عودة وعودته غير عودته إلى الروض!

(المنصورة)

محمود البشبيشي

ص: 23

‌عراك في معترك أي معترك

للأستاذ زكي طليمات

هذا التحدي بالسباب من جانب الأستاذ محمد متولي نرده إلى صاحبه

نحن هنا، على صفحات هذه المجلة للأدب الصرف وللعلم الخالص، وقد نكون في غيرها لما يريده الأستاذ الجامعي الثقافة. لهذا نقول له إننا نحجم عن ذلك في هذه الصحيفة، لا إكراماً لشخصه ولا ترفقاً لحاله، لأن من يقذف الناس بالحجارة من غير مبرر لا يرده ويحسن تأديبه إلا القذف بما هو دون الحجارة، ولا لأي اعتبار آخر سوى وقار الموضوع الذي تبادلنا الحديث فيه، وهو موضوع جدير بالرعاية في معالجته على الوجه الصحيح. كشف عن لون جديد من ألوان المعرفة، وتقرير صنف حديث من أصناف التأليف المسرحي، نقول إنه موضوع طريف، أثار وسيثير حوله جدلاً طويلاً ستتبارى فيه الأقلام وتختبر المعارف وتسقط الأقنعة المزيفة عن الوجوه، فيتضح - وليس للمرة الأولى - كيف أن النقد يجب أن يقوم قبل كل شيء على الخلق الرضي المتواضع لا على التعلم المزهو فحسب، لأن التعلم وحده لا يحقق إنتاج الأديب الأصيل الذي يصدر أحكامه عن عقيدة مخلصة في الحق والعدالة، وكيف أن الذكاء وهو من صقل التعلم، مجرداً عن الخلق العادل، إنما يكون أداة للتضليل ومعولاً للشر، ثم ينهض البرهان من جديد على أن بعض التعلم (وإن أذهب عن العاقل طيشه، فإنه يزيد الأحمق طيشاً، كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً ويزيد الخفاش سوء النظر)

نحن إذن أمام قضية خطيرة للعلم وللقراء ولهذه المجلة، قضية يجب أن يقضي فيها بشرعة الحق وبقسطاس العلم، والعلم أمانة وذهن القارئ أيضاً أمانة لدى الكاتب، ولدى أستاذنا صاحب هذه المجلة

لهذا سنمضي في أثر الأستاذ متولي مهما شاء له أدبه

وتمهيداً للبراهين التي سنسوقها للتدليل على ما وصفنا به نقد الأستاذ متولي، نعرض أولاً للباب الموضوع حتى يحسن القارئ تفهمه

الرمزية المستحدثة أوسع نطاقاً من رمزية (ريبو)

مثار الخلاف أنني دفعت رأي الأستاذ متولي في أن الرمزية التي نحن بصددها في

ص: 24

مسرحية (مفرق الطريق) أوسع نطاقاً من الرمزية التي حددها الأستاذ متولي، نقلاً عن (ريبو) وحده في كتابه (المخيلة الخلاقة. باريس سنة 1900)

الأستاذ متولي يقول بلسان (ريبو): (إن الرمزية في الفن تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً فإذا الناس والأشياء ثمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما تدري أين حصلت ولا متى، فلا هي تمت بصلة إلى أي بلد ولا هي تمثل عصراً بذاته)، ولما كانت (مفرق الطريق) تعرض صوراً محلية تجري حوادثها في مصر؛ وما دام بشر فارس قد أسمعي بطل مسرحيته (هو) وأسمى بطلتها (سميرة)، إذن فالمسرحية لا تمت في نظر الأستاذ متولي إلى الرمزية في شيء وأنها محاولة مخفقة، وأن مؤلفها لا يصح له أن يؤلف، إلى غير ذلك من العبارات التي أصدرها بمراسيم تحمل أسمه الكبير!!!

سجل متولي هذا في أول مقال له فرددنا عليه في مقالنا السابق

1 -

بأن (ريبو) واحد ممن كتبوا في علم النفس وأن ما أدلى به هذا (الريبو) بصدد الرمزية في الأدب، قد فات أوانه بعد أن انبسطت للرمزية أطراف جديدة أخذ بها مؤلفون محدثون في تأليف المسرحية والقصص والشعر، وذكرنا أسماء لبعض هؤلاء المؤلفين وكلهم من المبرزين في عالم الأدب الرفيع أمثال (بيراندللو)، (جيرودو)، (حانتيون)؛ وهم مؤلفو مسرحيات رمزية صميمة لم تتقيد بآراء (ريبو) من حيث الاستخفاف بتمثيل العالم الخارجي وغير ذلك؛ بل هي مسرحيات تنطبع بزمان ومكان، وشخوصها يحملون أسماء كسائر الناس، وتجري حوادثها في مدن معروفة. وذلك أن الرمزية المستحدثة أصبح مدراها الأول استكناه خفايا النفس وبواطن الشياء، أو بمعنى آخر (استنباط ما وراء الحس من المحسوسات الخ)، كما أورده بشر فارس في مقدمته لمسرحيته المذكورة

2 -

ولم نقف من هذه الأقوال عند مجرد الرد فحسب، وإنما أضفنا إلى هذا النقص عند (ريبو) ذكر نقص آخر، قرره العالم (أبيل راي أستاذ تاريخ العلوم وفلسفتها بجامعة السربون. وذلك في بحث له عن الاختراع بكتاب لجورج دوماس (صفحة 1441 السطر 14 - 20 الجزء الثاني طبعة باريس 1924) هذا نصه:

' ، ' - ' - ، '

ومجمل ترجمته: (يلوح لنا أن علم النفس عند (ريبو) في مسائل (المخيلة) والاختراع لا

ص: 25

يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة)

3 -

وأيدنا هذا النقص بذكر تقدم علم النفس في هذه المسألة بعينها على أيدي الفيلسوفين (وليم جيمس) و (بريجسون)!

(وقبل أن أنتقل من هذه النقطة أرجو القارئ أن يقف قليلاً أمام هذا النص الفرنسي ومجمل ترجمته فله قصة طريفة سنوردها بعد قليل!)

4 -

ولم نكتف بكل هذا، وهو من صميم العلم الذي لا ترقي إليه الشبهات، بل رجعنا إلى (ريبو) نفسه في كتابه المذكور (المخيلة الخلاقة) ووقفنا عند النص الذي اقتطعه الأستاذ متولي ليدعم دعواه في الرمزية، فوجدنا، ويا للعجب، أن (ريبو) لم يتحرج التحرج الذي أراده متولي، إذ أنه، أي (ريبو) لم يحتم التحتيم كله أن أن تكون الرمزية ممعنة في الإبهام إذ يقول (إنه كثيراً ما تفلت الرمزية - في عهده طبعاً - من التحديد الزماني والمكاني، وإذ يقول إن الأسماء، أسماء الأشخاص في المسرحية يعبر عنها أحياناً بهو أو هي، أو هم!

5 -

ثم تساهلنا مع الأستاذ متولي فقلنا إنه على فرض أن (ريبو) إله في علم النفس، وأن آراءه في الرمزية لم يشحب لونها، وعلى فرض أن العلماء مثل لم تطعن في صحة موقف (ريبو) في كلامه عن (الاختراع) و (المخيلة) كما قدمنا، على فرض كل هذا، فإنه من الغريب أن يأتي متولي عام 1940 فيفرض على كل كاتب في الرمزية أن يخضع ما يكتبه فيها لآراء (ريبو)، فيقول للدكتور بشر فارس إما أن تنشئ على آراء (ريبو) وإما فما تنشئته لا يمت إلى الرمزية بصلة ما! ثم سألناه، بعد أن قررنا له أن العلم يتقدم والنظريات تتطور: وما نفع مسايره الأدب - وفيه الرمزية - للعلم في تقدمه وفي مستحدثاته؟

أين موضوعية النقد يا أستاذ؟

بهذا المنطق الواضح والبرهان المستقيم دفعنا أقوال الأستاذ متولي، وهي أقوال أتخذها أساساً لانتقاص مسرحية (مفرق الطريق)، فلم يدفع ما أدلينا به بحجة علمية واحدة مع أن ما نحن بصدده في هذا يؤلف جوهر الموضوع!

فهل قرأ متولي هذا في مقالنا ولم يفهمه، أو هو قرأه ووعاه ثم أسقطه من حسابه في رده علينا خشية أن يبدو أمام القراء في غيبوبة وتباطؤ في التحصيل لا يصح أن يكون عليهما

ص: 26

مزهو بإجازة الماجستير!!

لئن كان الأمر الأول فله العذر ولنا العزاء، ولئن كان الأمر الثاني فيا خيبة الأمل في نزاهة النقد وصدق النفس!!

الهارب المهزوم!!

بماذا طلع علينا متولي في مقاله الأخير؟؟

1 -

سبحات في خيال، ونطحات في جدار، وسباب ساقه إليَّ وإلى بشر فارس يعزيني فيه، كما يعزي - على ما أظن - بشر فارس، أنه في غير حياء إلى المستشرق الكبير الأستاذ (بركلمن)، الحجة في تاريخ الأدب العربي، هجم متولي، الماجستير في الفلسفة من الجامعة المصرية على هذا الإمام الكبير فنعته (بالغفلة) لأنه قرر في تاريخه عن الأدب العربي الحديث عن مسرحية (مفرق الطريق):(نحن هنا عند استهلال تطور يستطيع أن يحدث تجديداً في الحياة الأدبية أو قل يجلب ثروة إليها)

ما رأى أساتذة كلية الآداب في هذا، وبماذا يعاقبون التلميذ محمد متولي؟

2 -

عمد إلى المغالطات الصريحة والادعاءات الجريئة، وإلى القارئ بعضاً منها:

(ا) أدعى أننا نسبنا - غفلة وجهلاً وإمعاناً في تزييف الحقائق

العلمية - ما قاله العالم (أبيل راي خاصاً بنقد (المخيلة) عند

(ريبو) - ونص هذا القول سجلناه بالفرنسية مع ملخص

ترجمته قبل هذا بسطور ورجونا القاري أن يقف عنده - أدعى

الأستاذ متولي أننا نسبنا هذا إلى (وليم جيمس) الفيلسوف

المعاصر، ولا نعرف لهذه الدعوى وجوداً إلا في مخيلة متولي

المبتدعة، لأننا أوردنا نص ما قال في مقالنا السابق مع إشارة

صريحة إلى أنها واردة في كتاب لجورج دوماس، ولم

ص: 27

نغفل تاريخ طبع الكتاب وأرقام الجزء والصفحة والسطر! وما

على القارئ إلا أن يتفضل بالمراجعة ليحكم هل أنا المزيف أم

الأستاذ متولي!

(ب) يدرس لا يدرس

قلنا في مقالنا السابق إن كتاب جورج دوماس هذا يدرس اليوم في جامعة السربون بباريس، ولم نضع شكلاً على كلمة (يدرس) باعتبار أن المعنى صريح لا يحتاج إلى ضبط لدى كل من له معرفة بدراسة الجامعات، وقد قمت بدراسة في جامعة السربون لتاريخ الفن ' الذي يصح أن يعرفه الأستاذ متولي، ولكن مخيلة الأستاذ شاءت أن ترى في كلمة (يدرس) بمعنى يقلب ويقرأ، معنى آخر تحدده كلمة (يُدرَّس) أي واجب على الطلبة الأخذ بكل ما جاء فيه. كبا متولي هذه الكبوة ليقول مزدهيا: إن زكي طليمات لا عهد له بالدراسة الجامعية وعليه فلا يجوز أن يناقش خريجاً من جامعة

(ج) ولو!!

أراد متولي أن يسجل علينا رذيلة التطاول والتهجم على رجال العلم، وأولهم في نظره (ريبو)، لأنه عكازه ومنظاره فيما يكتب، فقال: إن (ريبو) هذا الذي لا يرضينا هو الذي عرف (جورج دوماس) فضله فاختاره ليكتب له مقدمة كتابه السابق الذكر. هذا في حين أننا لم ننتقص قدر (ريبو) هذا ولم نتطاول عليه، وكل ما قلناه عنه أن آراءه في الرمزية قد فات أوانها، ولم نكن في هذا أقل براً من جورج دوماس نفسه الذي أصطفى (ريبو) لكتابة مقدمة كتابه، ثم سجل عليه في نفس الكتاب ما أخذه عليه العالمِ السابق الذكر!

(ء) الفيلسوف المعاصر!

قرر الأستاذ متولي إرسالي إلى محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته لتعاقبهم، قرر هذا تتقدمه عريضة اتهام مفادها أنني وصفت (وليم جيمس) بالفيلسوف المعاصر، هذا في حين (وليم) هذا توفي في عام 1910، فهو بذلك غير معاصر!

ص: 28

وهنا أقول إنه يؤسفني أن أصرح بأنه ما كان يدور بخلدي أن متولي يجهل كل المعنى التي تحت كلمة معاصر وموعدنا العدد القادم ليحكم القراء فيمن يقدم إلى هذه المحكمة وإلى محاكم أخرى من نوعها، أنا أم الأستاذ محمد متولي؟

(الحديث بقية)

زكي طليمات

ص: 29

‌قصة القمر العاشق

للأستاذ علي محمود طه

للأديب محمد سيد الكيلاني

هي قصة بارعة في قصيدة رائعة عدتها اثنان وثلاثون بيتاً، ومع هذا، فإنها تقع في أربعة فصول تمثل لنا العشق في صورة مستحدثة، وتعطينا لوناً لا عهد لنا به من ألوان الموسيقى. وهذه القصة واضحة المعاني، بينة المرامي، بالرغم مما فيها من رموز وإشارات. وهي مفعمة بالشذوذ، ولكنها مع هذا كله مما يستقيم به منطق الشعراء الواقعيين

يتحدث الشاعر في قصيدته عن (قصة قمر عاشق) يهوي الصبايا الحور، ويقتحم عليهن الخدور. ولقد تواضع الشعراء من قبل على أن يجعلوا من القمر معشوقاً جميلاً رقيقاً فاتن السمات، بديع القسمات، فشبهوا به وجه الحبيب، وفي ذلك يقول قائلهم وهو يخاطب الليل:

لو كان عندي قمر

ما بت أرعى قمراً

ولكن شاعرنا المهندس خرج على هذا الإجماع فجعل من هذا المعشوق الوادع الرقيق عاشقاً سابياً وعربيداً فاتكاً، فأسبغ عليه منصفات الرخاوة حيناً، والضراوة حيناً آخر، ما جعل قصيدته قمينة بالنظر، حرية بالاستقراء، جديرة بتأمل كل حسناء كأنما يوجه إليها الشاعر قصيدته، كيلا يستخفها هذا الضوء الرطب المنحدر من قمر الليالي الصائفة فيلهيها عن نافذتها المفتوحة قال مخاطباً هذه الغادة:

إذا ما طاف بالشرفة

ضوء القمر المضني

ورف عليك مثل الحلم

أو إشراقة المعنى

فهنا شرفة يطوف حولها ضوء القمر متعباً من طول ما قطع من مسافة إليها وهذا الضوء لطيف عذب كالحلم، مشرق كالمعنى المتوقد في خاطر الشاعر، يرف على زنبقة نائمة في مهدها، وقد انحصرت غلالتها الرقيقة عن بعض جسمها. قال وأنت على فراش الطهر كالزنبقة الوسنى:

فضمي جسمك العاري

وصوتي ذلك الحسنا

وفي هذا النداء الأخير تتجلى عبادة الشاعر للجمال وتقديسه له، فهو يربأ بهذا الجسم الفاتن أن يكون نهب هذا الضوء المفتون، أو بمعنى آخر نهب الأعين الشرهة الجارحة، فالشاعر

ص: 30

ينصح صاحبته الحسناء أن تضم جسمها العاري وأن تستره حتى يبقي حسنها مصوناً. فنظرة شاعرنا المهندس إلى المرأة وجمالها في هذين البيتين نظرة فنية روحية في حين أن شاعراً كإسماعيل صبري كان ينظر إلى الجمال نظرته إلى المتعة المبذولة. قال:

إن هذا الحسن كالماء الذي

فيه للأنفس ري وشفاء

لا تذودي بعضنا عن ورده

دون بعض واعدلي بين الظلماء

فنظرة علي محمود طه إلى الجمال أسمى وأنبل وهي على أنها نظرة شاعرية متخيلة إلا أنها واقعية مستمدة من صميم الحياة وطبائع الأشياء. أما نظرة إسماعيل صبري فهي ساذجة أو قل إنها تنافى منطق الحياة وتجافي طبائع الأشياء إن هذه المرأة التي يطلب منها إسماعيل صبري أن تجعل من حسنها مورداً لكل ظمآن ومتعة لكل إنسان وأن تعدل بين الظماء فلا تزيد في كأس هذا قطرة عما في كأس ذاك لم تخلق بعد وهي كما يصورها إسماعيل صبري ليست من بني البشر، إنما هي آلة مصنوعة توزع الطعام والشراب بالدرهم والمثقال. هذا هو التمهيد الذي قدمه الشاعر لقصته

أما الفصل الأول فهو هذا الضوء الذي نظر من خلال السحاب فرأى هذه الفتاة النائمة وقد تعري بعض جسمها ففتنه جمالها فهبط من عليائه إلى أرض حديقتها، ثم نظر فإذا هي نائمة في فراشها تحت نافذتها وهنا يمثل الضوء دوراً تاريخياً من أدوار العشق والغرام التي قام بها روميو، فيسترق الضوء الخطأ حتى يصل إلى هذه النافذة فيراها عالية فيتسلق إليها الأغصان لا يبالي بأشواكها حتى يصل إلى فاتنته قال الشاعر:

ومس الأرض في رفق

يشق رياضتها الغنا

عجبت له وما أعجب

كيف استلم الركنا؟

وكيف تسور الشوك

وكيف تسور الغصنا

والفصل الثاني حين يقف الضوء في مخدع الحسناء فيرى في خديها خمر صبابة. ولقد ألفنا الشعراء يصفون خدود الملاح بالتفاح ولكن علي محمود طه إلى وصف ما ينبعث من الخلود من سحر وجمال بخمر صبابة لا ينضب معينها قال:

على خديك خمر

صبابة أفرغها دنا

رحيق من جنى الفتنة لا ينضب أو يفني

ص: 31

ثم أسترسل الشاعر في الخيال فتصور ضوء القمر غريماً له ومنافساً سبقه إلى هذه الغانية، ثم ذكر غيرته عليها كلما قبل ثغرها أو لف نهدها أو ضم جسدها قال:

أغار، أغار إن قب

ل هذا الثغر أو ثني

ولف النهد في لين

وضم الجسد اللدنا

ثم أخذ ينصح صاحبته بألا تستهين بهذا الضوء وأن تأخذ حذرها منه، وأن تخشى بأسه. وقد دعم أقواله بحقيقة من الحقائق العلمية، فذكر أن هذا الضوء يؤثر في الموجة الكبرى ويرغمها على الخروج من أعماق البحار. وفي هذا إشارة علمية لطيفة إلى المد فإن الأمواج ترتفع تحت جاذبية القمر. وهنا ينتهي الفصل الثاني

أما الفصل الثالث فيبدأ حينما تصور الشاعر هذا الضوء وقد عجز عن أن ينال من هذه الحسناء بعد أن أسبغ عليها كل فنه وجماله. . . قال:

أراد فلم ينل ثغراً

ورام فلم يصب حضنا

حوتك ذراعه رسماً

وأنت حويته فنا

في حين أن الفصل الرابع يتمثل في ثورة هذا الضوء الذي أظهر الرعونة والطيش ومضى يطوي السهول والحزون:

يثير الليل أحقاداً

وصدر سحابه ضغنا

وعاد الطفل جباراً

يهز صراعه الكونا

فهذا الذي كان يجثو أمامها كالطفل ملتمساً العطف عاد جباراً يهز الكون هزا بصراعه الشديد المتواصل، يثير الرياح ويرسل العواصف فيهرع الناس إلى منازلهم كما يهرعون عند سماع صفارة الإنذار من الغارات الجوية، ويسرع كل منهم إلى لقاء زوجته. وحينئذ يذكر الناس أن القمر لابد أن يكون مفتوناً بغادة ملكت عليه كل جوارحه. ثم نصحها بأن تتقي شر ذلك الجبار وتقفل النافذة حتى تصون حسنها من ثورة هذا العاشق، وحتى لا يظن الناس بمخدعها الظنون. وختم هذه الدرة الثمينة بقوله:

فكم أقلقت من ليل!

وكم من قمر جنا!

محمد سيد الكيلاني

ص: 32

‌رسالة الشعر

من أمسيات الخريف

للأستاذ محمود الخفيف

حَتَّامَ تَوحي شَمْسُهُ الغَارِبَهْ

للنَّفْسِ هَذا الشَّجَنْ؟

حَتَّامَ تَحْكِي لِي المُنَى الذاهِبِهْ

وَقَدْ تَرَاخى الزَّمَن؟

شُحُوبُهُ في وَجْنَتِي الشَّاحِبَهْ

يَكشِفُ مِنْ أسْقامِهِ ما كَمَنْ

مَنْ مُبْلِغٌ آسِرَتي الغَائِبَهْ

أنِّي غريبُ هَاهُنا في الوَطَنْ؟

أمْسُ انْقَضَتْ يا قَلبُ أحْلَامُهُ

فَفِيمَ هَذا العَذابْ؟

لا تَنْفَعُ المَحْزُونَ أوْهَامُهُ

إلاّ كَلَمْحِ السَّرَاب

هَذا الأسَى النَّوَّاحُ أنْغَامُهُ

كالرِّيحِ أنَّتْ في شِعَاب الهضابْ

وَدَمْعُكَ السَّحَّاحُ تَسْجَامُهُ

كما هَمَى في القَفْرِ دَمْعُ السَّحَاب

وَأحَزَنَا هَذَي رِياحُ الخَرِيفْ

نَوَّاحَةً شاكِيَهْ

أرْغُولُها غَنَّى بِهَذا الحَفِيفْ

ألحَانُهَا النَّاعِيَه

حَشْرَجَةٌ فِيها نَشِيجُ مُخِيفْ

لم تَخْلُ من أنَّاتِهَا نَاحِيَه

كَمْ أسْلَمَتْ للسُّقْمِ قَلْبِي اللَّهِيفْ

وَأيقَظَتْ آلَامِيِ الغَافِيَهْ!

تَهَيَّأتْ لِلْمَوْتِ شَمْسُ الأصِيلْ

رَاجِفَةً كاسِفَهْ

مَا زَادَ في العُمْرِ النَّهَارُ الطَّوِيلْ

عَنْ لَمْحَةٍ خَاطِفَهْ!

في مِثْلِ هَذا الوَقْتِ كانَ الرَّحيلْ

والشَّمْسُ في كَفِّ الرَّدَى راعِفَه

لمْ أنْسَ وَالقَوْلُ دُمُوعٌ تَسِيلْ

أفْئِدَةً يَوْمَئِذٍ وَاجِفَه

تَجْهَشُ يا أُمَّاهُ هَذا السَّفَرْ

تَحْزَنُ رُوحي لَهُ

أُمَّاهُ ما أَحْسَسْتُ هَذا الأثَرِ

في سَفَر قَبْلَهُ!

ولا تُحيرُ الأمُّ غَيْرَ النَّظَرْ

في شَجَن ما عَرَفَتْ مِثْلْهُ

وَذَاكَ رَبُّ الدَّارِ مَهْمَا صَبَرْ

يكادُ لا يُبْصِرُ ما حَوْلَهُ

وَالتَفَتَتْ هَامِسَةً بِالسَّلَامْ

بَاسِمَةً دَامِعَهْ

وَحِرْتُ وَاسْتَعْصَي عَلَىَّ الكَلَامْ

وَانْطَلَقَتْ جَازِعَهْ

ص: 33

تَنَاوَحَتْ حَوْلِي بهذَا المَقَامْ

رِيحٌ عَلَى أوْتَارِهَا القَارِعَهْ

كَمْ نَثَرتَ حَتّى احْتَوَاني الظلامْ

سِلْسِلَةً من أدْمُعِي الهامِعَهْ

هَاهِي ذِي فِي اليَأسِ تُطْوَى السِّنون

وَفِي المُنَى البَاطِلَه

يُوحِيِ لِنَفْسِي فِي الخَرِيفِ المَنُونْ

أطْيَافُهَا المماثِلَهْ

الصَّمْتُ في وِديَانِهِ وَالسُّكُونْ

وَالمَوْتُ في أوْرَاقِهِ الذّابِلَهْ

والرِّيحُ غنَّتْ نَاحِلَاتِ الغُصُونْ

ألحَانَ تِلْك الخُضْرَةِ الزّائِلَهْ

فِي الأُفُقِ الغَرْبِّي ألقَى الَمَساءْ

ظِلَالَه الحائَمهْ

وَانْطَفَأتْ فِي لَازَوَرْدِ السَّمَاءْ

جَمْرَتُهَا القَاتَمِهْ

وَأقْبَلَ اللَّيْلُ وَمَاتَ الضِّيَاءْ

وَأنْذَرَتني الظُّلْمَةُ العَارِمَهْ

مَعْنىً جَدِيدٌ مِنْ مَعَاني الفَنَاءْ

يَلمَحُ لِي فِي هَذِهِ الخَاتِمَهْ

فِي كلِّ شَيْء شَاعَ حَوْلي الفُتُورْ

وَدَبَّ طَيْفُ الكَرَى

فِي الدَّوْحِ والزّرْع وَهَذِي السُّطُورْ

مِنَ دُورِ أهْلِ القُرَى

تَجسِّمُ الوَحْشَة تِلكَ القُبُورْ

مَنْظُومَةً فَوْقَ الثَّرَى أسْطُرا

صَائحةً مَهْمَا يَطُل مِنْ غُرُورْ

فِي العَيْشِ هذا مَصِيرُ الوَرَى!

وَاللَاغِبُ الفَلاّحُ فِي لَحْنِهِ

أشْجَي مَعَاني الأسَى

لَحْنٌ قَبَسْتُ الشَّجْوَ مِنْ لَوْنِهِ

وَصُغْتُ هَذَا البُكَا

الذُّلُّ وَالحِرْمَانُ فِي فَنِّهِ

وَالخَوْفُ وَالجُوعُ وَطُولُ العَنَا

مِنْ شِقْوَةْ الدُّنيا إلى كِنِّهِ

يَأوِي َوما فِي الكِنِّ غَيْرُ الضّنَى

الخفيف

ص: 34

‌بين الشرق والغرب

آفَةُ الشَّرْقِ اهتِضَامُ الضُّعَفاءِ

وهَوى الظُّلْمِ وَإرْهَاقُ العِبَادِ

وَبَلَاءُ الشَّرقِ خُلْفُ الزُّعَمَاءِ

وانْقِسَامُ الرَّأي في سَاحِ الجِهَادِ

وَبَنُو الشَّرقِ أُنَاسٌ نَبَذُوا

خِشْيَةَ اللهِ وَحُبَّ الوَطَنِ

تَبَعوا الغَرْبَ عُمَاةً وَحَذَوا

حَذْوَهُ فِي القُبْحِ لا في الحَسَنِ

تَرَكُوا نَهْجَ التُّقَي واتخَذُوا

سَبْلَ الكفْرِ وَطُرْقَ الفِتَنِ

وَتَبَاهَوَا بِالمخازِي، بِالرِّياءِ

بالمعاصِي، بِأفانين الفَسَادِ

فاتَهُمْ أنّ العُلَا بِنْتُ الإباء

وَبُلُوغُ المَجْدِ رَهْنُ الاتحادِ

غُلِبَ الشَّرْقُ عَلَى نَيْلِ الأرَبِ

وَأبَى التَّفْرِيقُ أنْ ينْصُرَهُ

ولو أنّ الشَّرْقَ ضَحّى وَدَأبْ

كانَ لُطْفُ الله قَدْ أظْهَرَهُ

إنما أهْلُوُه زَادُوهُ نَصَبْ

قُتِلَ الإنْسَانُ ما أكفَرَه

لَا يَميلونَ إلى غَيْرِ الهُرَاءِ

أو يَهِيمُونَ بِغَيْرِ الانْتِقَادِ

شَأنُهُمِ فِي العَيْشِ شَأنُ الجُبَنَاءِ

خَامِلو الذِّكرِ قلِيلو الاعْتِدَادِ

أيُّهَذَا الشَّرْقُ يَكفْيكَ عَمَى

فَاتَّقِ الغَرْبَ وَكنُ فِي حَذَرِ

لَا يَغُرَّنَّكَ إمَّا أبْتَسَما

بَسْمَةَ البَرْقِ قُبَيْل المَطَرَ

فَهْوَ لم يَعْشَقكَ إلا مِثْلَمَا

يَعشقُ الجزّارُ سِرْبَ البَقَرِ

سَائِلِ السِّكِّينَ عَنْ هَذَا الوَلَاءِ

وَسَلِ المَسْلَخَ عَنْ ذَاَكَ الوَدَادِ

وَأحْذَرِ السُّمَّ بِمعَسُولِ السِّبَاءِ

وَاجْتَنِبْ فِي وَرْدِهِ شَوْكَ القَتَادِ

لَا َتظُنَّ الغَرْبَ ضبَّا مُفْتَتِنْ

بِكَ، فَالغَرْبُ وَلوعِ بفَنَاكا

أوْ تَخَلْهُ الطَّاعِمَ الكاسي المَرِنْ

فَهْوَ مِنْ جِلدِكَ يا شَّرْقُ كسَاكا

وَهْوَ مِن لَحمِكَ غَذّاكَ وَمِنْ

دَمِكَ المَسْفُوكِ عُدوَاناً سَقَاكا

مُستبَدِاًّ جَائراً باسم الإخَاءِ

شَائِقَ الأقْوَالِ شرَّيرَ المُرَادِ

قَدَّسَ الغَدْرَ وَنَادَى بِالوَفَاءَِ

وَيْلُ هَذَا الشّرِقِ مِنْ ذاكَ المنادى

(دار الأهرام)

فؤاد بليبل

ص: 35

‌رسالة الفن

تأملات:

الفن والاطمئنان

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

منذ سنة شاهدت السيدة ميمي شكيب في رواية الدلوعة، فأعجبت بها إعجاباً خفيفاً، لأني لم أجدها أكثر من ممثلة درست دورها على يد أستاذها الريحاني، واتبعت إرشاداته وتعليماته بأمانة وتدقيق.

ومنذ أسبوع شاهدت السيدة ميمي شكيب في رواية الدلوعة أيضاً، فإذا بي أراها شيئاً جديداً، وإذا بشبح الريحاني الذي كان يصاحبها في السنة الماضية ويقودها على خشبه المسرح خطوة خطوة، ويلون صوتها في إلقائها نبرة نبرة، قد اختفى تماماً. . وإذا بالسيدة ميمي شكيب ممثلة أستاذة تعربد على المسرح عربدة حية توحي بها إليها خواطره هي، وتتبع فيها اختيارها هي، ولا تقيد فيها بإرشادات موجهة إليها، ولا تعليمات مدروسة. . .

فما الذي حدث للسيدة ميمي شكيب، حتى استطاعت أن تقفز هذه القفزة، وأن تخرج في عام واحد من صفوف التلميذات النجيات إلى صفوف الأستاذات المجيدات؟

لابد أن يكون شيء ما قد حدث لها، ولا يمكن أن يكون هذا الشيء اجتهاداً في دراسة المسرح، أو اهتماماً بالفن زاد عندها عن ذي قبل. فليس شيء من هذا بقادر على أن يخلق على أن يخلق الإنسان خلقاً جديداً، وإن كان قادراً على أن يصقله شيئاً ما، وأن يهذبه شيئاً ما، وأن يرفعه شيئاً ما. . .

فما الذي حدث للسيدة ميمي شكيب إذن؟

الذي حدث هو أنها تزوجت!

ولكن ما للزواج والفن؟ وكيف يمكن أن يكون الزواج سبباً في النهوض بفنانة نهضة تلفت الناقد هذه اللفتة المحيرة؟ وإذا كان الزواج هو السبب في هذه القفزة التي قفزتها السيدة ميمي شكيب، فإن أستاذها الريحاني نفسه ليس متزوجاً ومع هذا، فهو أستاذها، وهو الفنان الذي لا يشق له غبار. . .

ص: 37

الواقع أن الزواج يبعث في النفس اطمئناناً وارتياحاً وهو يبعثهما في نفس المرأة أكثر مما يبعثهما في نفس الرجل، وكل فنان محتاج إلى الاطمئنان والارتياح كي يتفرغ لفنه ويجيد فيه، وإذا عدم الفنان الاطمئنان والراحة فهو مهدد دائما بأن ينعكس على فنه ذلك يتردد في نفسة، وهومهدد كذلك بأن يصطبغ فنه بلون معتم مظلم أسود هو لون اليأس والشقاء اللذين يعانيهما من قلقة. وكثيرا ما كان هذا القلق سببا في اندحار الفنانين وذبولهم، وكثيرا ما كان سببا في الانزلاق بهم إلى مهاوي الخبل يطلبون الاطمئنان عبثا في الخمر، والمخدرات، والمواخير.

والخمر والمخدرات والمواخير، لاشك في أنها تبعث اطمئناناً عارضاً وارتياحاً وقتياً في نفس الفنان، ولكن آثارها عندما تزول ان يصبح الفنان فإذا به يرى نفسه فارغة كما كانت قبل السكرة، وإذا به يرى نفسه وحيداً هائماً على وجهه لا يدري له مستقراً، ولا يعلم له هدفاً، فيعود إلى ما كان فيه، ويطلب السم الذي يطمئنه ويقتله في الوقت نفسه، ولا يطول به الزمن حتى تتلف صحته، وتتحطم أعصابه، ويخمد عقله، ويتبلط إحساسه، ويخبو من نفسه ذلك النور الذي يهديه ويلهمه، فيصبح في آخر الأمر إنساناً مسكيناً لا حياة له إلا الأوهام، فهو يحسب نفسه قادراً على الإنتاج لأنه يلمح أطيافاً من الفكر تجول في رأسه، ولكنه إذا أراد أن يحصرها، وأن يجندها وأن ينظمها، وأن يطلقها، إلى الدنيا فناً رآها تشق عصا الطاعة عليه، وتستعصي، وتلفت منه وتذوب في رأسه كأنها لم تكن. . . وإذا ابتلى فنان بحال كهذه فمآله الانهيار من غير شك فإما أن يموت كما مات سيد درويش وإما أن ينتحر كما انتحر إيفان مسجوكين، وإما أن ينطلق في الدنيا مشرداً مسكيناً إن عطف عليه الناس اليوم فسينبذونه غداً

والفنانون في الدنيا بأسرها ليسو غائبين عن هذه الحقيقة، كما أنه ليس في الدنيا إنسان غائباً عنها، فلماذا يعرض كثيرون من الفنانين والفنانات عن الزواج، ولماذا يجرؤ بعضهم على أن يدعو غيره إلى الإعراض عنه حتى أصبح هناك مذهب فاسد عشش في رؤوسهم أو في رؤوس بعضهم، واجتذب له أنصاراً يقولون بأن الزواج يعرقل الفن. . .

هناك سبب خفي لهذا وهو أن في الفنانين كثيراً من طبائع النساء، فهم أشد إحساساً من غيرهم من الرجال، ومن شدة إحساسهم هم أشد غيرة من غيرهم، ومن شدة إحساسهم هم

ص: 38

أقل حكمة من غيرهم. ولهذا كان مما يشبه الأمر العسير أن يجمع الرجل بين الفن والمرأة، لأنه من العسير أو من المستحيل أن تجمع بين المرأة والمرأة

وقد نتج من هذا أن كثيرين من الفنانين شذوا عن الحياة الطبيعية، وأصبحوا يطلبون الاطمئنان والارتياح في المغالطات والأوهام. وقد كانت هذه المغالطات وهذه الأوهام مواد لذيذة لكثير من الفنون استمتع بها الناس، ولكنهم كانوا وهم يستمتعون بها يشفقون على أصحابها ويقولون دائماً: يا لهؤلاء من أشقياء مساكين محرومين. . .

والعجب أن هذا لم يكن في يوم من الأيام محرضاً على نبذ هذه المغالطات وهذه الأوهام، وإنما كان دائماً محرضاً على الإقبال عليها، فكلما نشأ فنان صغير وأحس في نفسه شيئاً من الضعف حيال الحياة الطبيعية، وأدرك أن ضعفه هذا راجع إلى قوة إحساسه وحدة نفسه، لم يسرع إلى تنمية عقله التنمية التي توازنه، ولم يسرع إلى توطيد أخلاقه التوطيد الذي يحميه من الوقوع في اضطراب الشذوذ، وإنما طلبته صور هذا الشذوذ، وحسبها نوعاً من الحياة يمكن أن يعيش إلى جانب الحياة الطبيعية التي لا سبيل إلى الخلود إلا بها. . .

وهكذا ضعف كثيرون من الفنانين، وهكذا انهاروا، وهكذا أعقبوا فنوناً لا أنكر أنها لذيذة وإن كنت أسخط عليها وأمقتها مقتاً جد على نفسي ووجدته حقا

وإلى هؤلاء الفنانين أريد أن أوجه الحديث اليوم

فليتصوروا سلماً يصل ما بين الأرض والسماء، وأن الناس جميعاً مطالبون بأن يصعدوا هذا السلم، وليقولوا لي أي الناس أضمن وصولاً إلى قمة هذا السلم!

الإنسان الذي يقبض عليه برجليه ويديه وأسنانه ويصعد درجة درجة فما تفلت منه درجة، أم الإنسان الذي يقفز عليه برجليه فقط بينما يداه يلوح بهما في الهواء، وبينما يزعق بحنجرته مغنياً أو نادباً أو مهللاً؟. . .

لاشك في أن الأول أضمن وصولاً من الثاني، كما أنه لاشك في أن الثاني كلما قطع مع الأول مرحلة كان ذلك دليلاً على أنه أبرع منه وأقدر. . .

فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون هذا الثاني البارع القادر إذا استغل قواه جميعاً، واستخدم جوارحه جميعاً كما يفعل الأول؟. . .

لابد أنه يسبقه بمراحل، ولابد أنه يشعر بعد ذلك بدافع من نفسه يدفعه إلى مساعدة غيره

ص: 39

والأخذ بأيديهم. . .

وهذا هو ما يفعله الأنبياء وأصحاب الرسالات، فهم ليسوا إلا بشراً وهم أشبه الناس بالفنانين، ولكنهم يزيدون على الفنانين قوة العقل وقوة الخلق إلى جانب قوة الإحساس، ولذلك فإنهم ساروا دائماً نحو المثل الأعلى في خطى ثابتة ومن غير قلق، ومن غير يأس، ومن غير شذوذ ولا خروج على قواعد الطبيعة وسننها

ولعل أقوى حجة من حجج أولئك الأنانيين الذين يمقتون الزواج هو قولهم إن مسئوليات الزواج تثقل على كاهل الفنان وتحرمه من الفن وتحرم الفن منه. وهذا قول سخيف، لأن الحياة من غير زواج ليست إلا (رهبنة) أو قرصنة، و (الرهبنة) شيء ليس من اليسير على الإنسان أن يحققه، ولو حققه الناس جميعاً لتعطلت الحياة التي أرادها الله، والقرصنة شيء قد يكون من اليسير على كل إنسان أن يحققه، ولكنه لو حققه كل إنسان لفسدت الحياة واضمحلت وتخاذلت ودبت إليها الأمراض البدنية والنفسية، ثم يعالجها بعد ذلك الموت السريع. ثم إن حياة الأسرة نفسها فيها تلخيص لقصة الخلق لا يمكن أن يتذوقه إلا من يباشرها؛ والعجيب أنه لا يمكن أن يتذوقها إنسان مثلما يستطيع الفنان الحساس العاقل القويم الخلق أن يتذوقها، فهي تجعل منه رباً صغيراً لجماعة من الناس الأحياء، وتمكنه من أن يرزق، ومن أن يعلم، ومن يصلح، ومن أن يوجه، ومن أن يعطي، ومن أن يجازى، ومن أن يحاسب، ومن أن يرحم، ومن أن يشفق، ومن أن يغفر، ومن أن يضمن الذكر لنفسه بعد موته، فيكون هو الوصلة بين الماضي والمستقبل، ومن أن يطلب حقه بلا تفريط ولا تهاون، ومن أن يعز ويعتز، ومن أن ينصر وينتصر، ومن أن يقول لشيء كن فيكون. . .

وهذا هو ما يريده الله لنا، وما يريده منا، ففي هذه الحياة من المعاني ما لو أنتبه الفنان وأستغله لأخرج منها صوراً وسلاسل لا نهاية من الفن الذاخر بالعواطف والفكر والمثل الخلقية العليا التي تفيض بها أنفس الآباء العاديين ويعجزون عن تسجيلها.

وقد يعترض علي معترض من غير المجربين ويقول لي: ما لنا نرى كثيرين من أفذاذ الفنانين الذين مجدتهم أنت نفسك واقعين في ذلك الشذوذ الذي تعيبه وهاربين من الزواج مع أنهم لا تعوزهم الحكمة ولا العقل ومع أن أفعالهم تشهد لهم بأن من الأخلاق الفاضلة ما

ص: 40

ليس لغيرهم، فهم محسنون غير أنانيين، وهم يربون أولاد غيرهم بأموالهم ويصنعون ويصنعون. . .

ولهؤلاء أقول. . . إن غلطة واحدة يرتكبها الإنسان في صغره مختاراً أو مجبراً قد تظل آثارها عالقة بأعصابه وحياته إلى أن يموت. فإذا لم يلفت الإنسان إليها التفاتاً خاصاً، ويقاومها مقاومة خاصة فإنه يظل منساقاً وراء نتائجها ويظل يعاني الأمرين من آثارها، وقد يخيل إليه في ظروف من الظروف أنه مستطيع الانخراط في طريق الحياة الطبيعية العادية إذا ما اعتزامها واصطنعها، فيعتزمها ويصطنعها ولكنه لا يلبث أن يرى نفسه بعد حين عاجزاً عن المضي فيها. . . كما حدث ذلك للفنان الكبير شارلي شابلن فإنه تزوج أكثر من مرة واحدة، وأنجب من زوجه الأول ولداً هو الآن شاب كبير. ومع هذا فإن شارلي لا يزال يتخبط في حياته وإن كان له عذره في تخبطه، وإن كان فنه السامي مما يشفع له، فنحن إذا طالبناه بإصلاح نفسه الآن بعد فوات الأوان فإن ذلك قد يستنفد منه بقية حياته، وإن أنانيتنا نحن لتمنعنا من أن نسدي إليه هذه النصيحة، فخيرنا في أن نستمتع بفنه، ولو كان في ذلك هلاك روحه. . .

إذن فمن الذي يستطيع أن يضع حداً لهذا الاضطراب. . .

هم الآباء، والمربون، والأمهات قبل هؤلاء وهؤلاء. . . فعلى أولئك تقع التبعة الأولى في المحافظة على تعادل أبنائهم النفساني. وإني لا أشك في أن حضارة القرن العشرين قد بدأت تحس بأنها في حاجة إلى تبديل وتغيير، وعلى الخصوص بعد أن انهارت فرنسا هذا الانهيار السريع الذي لم يكن المعجبون بها يتوقعونه لها؛ وإني لا أشك كذلك في أن أصحاب الرأي والفكر يتربصون اليوم للحرب القائمة يريدون أن تضع أوزارها ليستطيعوا بعد ذلك أن يقولوا كلاماً صريحاً مفهوماً تلخيصه: أن عودوا أيها إلى حياة الطبيعة فلا مفر منها، ولا مهرب من الشر إلا بها، وهي سنة الله

عزيز أحمد فهمي

ص: 41

‌البريد الأدبي

1 -

إلى المفكر الكبير الأستاذ خليل مطران

إليك - وأنت مدير الفرقة القومية - أوجه القول:

هل ترى أن الأدب اليوناني القديم يقدم غذاءً نافعاً للعقل العربي الحديث؟

لقد شهدت تُمثيل رواية أوديب على مسرح الأوبرا الملكية فلم أرها إلا حماقة من حماقات الإغريق يوم كانوا يؤمنون بأن الآلهة أقوام مجانين يتصرفون في شؤون الخلق بلا بصيرة ولا خلق ولا رفق ولا ميزان

ومع أن المآسي تثير دموعي فقد أحسست قلبي وهو يتحول إلى جلمود عند شهود هذه المأساة، لأنها لم تكن إلا صورة من سخف الوثنية اليونانية، وهي وثنية عادت على أصحابها بأجزل النفع، لأنها مثلت أهواءهم وأوهامهم أصدق تمثيل، ولكنها لن تنفعنا بشيء، لأنها بلبلة خلقية وذوقية تلحق الضرر البليغ بأذواق الجيل الجديد. وهل هناك لرياضة الجمهور على التحزن والتحسر والتفجع لمصاير مجهولة خلقها الروح الإغريقي ليوهم بني آدم أن لا قدرة لهم على الخير أو الشر وأنهم لم يخلقوا إلا ليكونوا ألعوبة في أيدي المقادير الهوجاء؟

أنا أفهم أن تترجم أمثال هذه الروايات إلى اللغة العربية لتعين على تصور بعض ما مر بالإنسانية من أوهام وأضاليل، ولكني لا أفهم كيف يتخذ من أمثال هذه الروايات نماذج لروعة الفن، ونفاذ الفكر، ورجاجة العقل؛ وهي قد نشأت في أحضان الطفولة البشرية يوم كان الملوك والوزراء والحكام عبيداً مسخرين لسدنة الهياكل الوثنية، ويوم كانت مصاير الأحكام إلى من يحسنون الرجم بالغيب من الكهنة والعرافين

قد يقال إن في مصر رجلاً أسمه الدكتور طه حسين، وأن هذا الرجل يُقسم بأبوللون أن الفن لفي خُسر إن لم يفلح بأدب الإغريق القدماء

ولكن هذا الرجل لا يزعم ولا يستطيع أن يزعم أن الرأي ما يرى، وأن القول ما يقول، ففي مصر رجال يملكون رجعة إلى الصواب بلا مشقة ولا عناء، وسيرى ما يسره إن هم ينقض هذا الاعتراض، ولكنه لن يفعل لأن كهنة دِلْف أنبئوه أن خير ما يجاب به على اعتراضات زكي مبارك هو الصمت البليغ!

ص: 42

للأستاذ خليل مطران أن يتفضل بالإجابة عن هذا السؤال:

هل استطاعت مأساة أوديب أن تصور مشكلة واحدة من مشكلات العدل والعقل والذوق؟

وكيف ولم تكن تلك المأساة إلا صورة بهلوانية من صور الوثنية اليونانية؟

كانت هذه المأساة مقبولة يوم كان الناس يتذوقون عبث الأساطير، وهي قد تقبل في مدينة روما أو باريس، حيث يطيب للناس أن يتلهوا بخرافات الوثنية بعد أن شبعوا من أطايب الأدب الحديث، وهو عندهم يقوم على نقد خلائق المجتمع بنزاهة وصدق

فهل الحال في القاهرة كالحال في روما وباريس؟ وهل تظن أن الفرقة القومية فرغت من تشجيع الروايات الاجتماعية والتاريخية التي تصور حاضرنا وماضينا، ولم يبق إلا أن تتحفنا بخرافات اليونان؟

الآن تذكرت ما كنت نسيت توجيهه إليك، فقد كنت أحب أن أسأل عما صنعت وصنع زملاؤك في الانتفاع بما في مصر من مواهب وآراء؛ وقد صح عندي أنكم ورجال الإذاعة سواء، فانتم جميعاً لا تعرفون غير من يتعرف إليكم، ولا تذكرون إلا من يذكركم بنفسه، وليست عندكم طريق مرسومة لاستثمار المواهب المكنونة في هذه البلاد. أليس من العجيب أن يكون في زادكم الفني روايات بالية لا ينتظر من بعثها غير إعلان الفاقة والإملاق؟

والآن عرفت ما لم أكن أعرف، فقد تعب المفكرون في البحث عن السبب الذي استوجب أن يهتم العرب بنقل ما عند اليونان من فلسفة وأن يزهدوا في نقل ما عندهم من آداب

أهتم العرب بنقل فلسفة اليونان لأنها وليدة العقل، وزهدوا في آداب اليونان لأنها بهلوانية، تقوم على قواعد واهية من الزخرف والبريق

فهل يظن الأستاذ خليل مطران أنه أعقل من أئمة العقل لعهد ازدهار الحضارة العربية؟

وخلاصة القول أن الفرقة القومية في حاجة إلى العلاج وهي لن تعافى من أدوائها المزمنة إلا بعناية أطباء بارعين لا يكون منهم فلان وفلان وفلان، فللفن والأدب أصول لا يعرفها هؤلاء

فإن لم أكن على حق فحدثوني كيف جاز أن تنفرد الفرقة القومية بالإخفاق وقد جمعت نوابغ الممثلين والممثلات؟ يعوزكم شيء واحد: هو التأليف. فابحثوا عن المؤلفين، لأن التأليف هو الروح، وكل شيء في الفن ما خلا التأليف إخراج وتمثيل.

ص: 43

2 -

مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

ذلك مشروع جميل أقرته وزارة المعارف ودعت إليه، وهو حين يحقق على الوجه المنشود يجذب الطلبة إلى مسايرة الأدب الحديث، ويغرس فيهم الشوق إلى تعقب الآراء الأدبية والمذاهب الاجتماعية.

ولكني لاحظت مع الأسف أن أكثر الطلبة انصرفوا عن الانتفاع بهذا المشروع بعد أن أقبلوا عليه. وقد أخبرني كثير من المدرسين أن طلبة السنة التوجيهية لم يعرفوا كيف يدرسون المؤلفات المختارة للمسابقة. وأن المدرسين أنفسهم لا يعرفون على وجه التحقيق كيف يوجهون تلاميذهم إلى درس تلك المؤلفات، لأن الوزارة لم تضع منهاجاً واضحاً للاستفادة من هذا المشروع الطريف

وقد دعتني الرغبة في معاونة طلبة السنة التوجيهية على الاستفادة من مسابقة الجامعة المصرية إلى درس تلك المؤلفات على صفحات (الرسالة) درساً تحليلياً يستطيعون به الوصول إلى ما تشتمل عليه من مقاصد وأغراض، بحيث يصبح الانتفاع من المسابقة ميسوراً لكل طالب يُقبل على درس تلك المؤلفات بعناية واهتمام وقد وضح أمامه منهج الفهم والاستقصاء

وسنبدأ في الأسبوع المقبل بتحليل كتاب (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد أمين، والله بالتوفيق كفيل

زكي مبارك

معنى القديد

وفق الأستاذ محمد فخر الدين السبكي في حديثه عن (زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أذيع من محطة الإذاعة مساء 21 رمضان - توفيقاً كبيراً

بيد أنه فسر (القديد) - في قول الرسول (ص) للأعرابي حينما دخل عليه فارتاع من هيبته: (خفض عليك فإنما أنا أبن امرأة تأكل القديد بمكة) - تفسيراً لم أسمعه قط.

إذ قال: أي أنا أبن امرأة تأكل التمر الجاف!

والذي أعرفه في كتب اللغة، وفي كتب اللغة، وفي كتب السيرة أن القديد (هو اللحم المشرر

ص: 44

المقدد، أو ما قطع منه طوالاً). اهـ قاموس

(لحم قديد: مشرح طولاً) اهـ مصباح (هو اللحم. المجفف، فعيل بمعنى المفعول تنبيهاً له على أنه مأكول المساكين) اهـ شرح الشقا، للفاضل علي القارئ

لهذا لزم التنبيه على ذلك في الرسالة الغراء والسلام عليكم ورحمة الله

عبد الحفيظ أبو السعود

حول تفسير بيتي أبن عربي

كتب إلى أديب من القاهرة في رسالة خاصة بشرح لي معنى بيتي أبن عربي اللذين استفتيت فيهما الأستاذ ناجي الطنطاوي على صفحات مجلة الرسالة وهما:

بذكر الله تزداد الذنوب

وتحتجب البصائر والقلوب

وترك الذكر أفضل منه حالاً

فإن الشمس ليس لها غروب

فجاء في رسالته هذه ما نصه (إن ابن العربي يعارض الآية القرآنية (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ويدعى أن الله ليس حتماً أن يذكر لأنه حال فينا (كشمس ليس لها غروب) فالذكر في شرع أبن العربي يبعد بنا عن هذه الشمس، أما الذي يقربنا منها فشيء آخر يسأل عنه هو ومن أتبعه من المتصوفة لا ناجي الطنطاوي)

وقد رأيت في هذا الشرح ما تطمئن إليه النفس نوعاً ما فأحببت أن تتفضل مجلة الرسالة الكريمة وتسجله على صفحاتها فلعل من قرائها من ينتظره.

(الأبيض - سودان)

وجاءنا من صاحب الإمضاء الفاضل هذه الكلمة في هذا الموضوع:

عرفت رجلاً صوفياً وسمعت منه شرح هذين البيتين، وقال:(بذكر الله تزداد الذنوب الخ). في مذهب القوم، إنما يذكر الغائب، والله تعالى حاضر لا يغيب، وخاصة في مقام المشاهدة. فكيف يذكر؟ إن ذكره حينئذ يدل على بعد عن ذاته وجلاله. والبعد حرمان يدل على كثرة الذنوب والعيوب. والبعد عن الذات طمس في البصائر وظلمات في القلوب

وترك الذكر أفضل كل شيء

فشمس الذات ليس لها غروب

هكذا رويت عنه. وهو وجيه في نظري وخاصة لما تضمنه الشطر الثاني من تعليل

ص: 45

طريف. قال: إذا أستغرق العبد من مقام الشهود، وبت أسبابه بالعالم وما فيه من مخلوقات بائدة ليس لها وجود. فلا داعي للذكر حينئذ، لأنه في حال دونها كل ذكر. وكيف يذكر من يراه ومن لا يغيب عنه طرفة عين؟ لا. إن شمس الذات العلية مشرقة لا تغيب، وضاءة لا تحتجب، فذكر الله يدل على غيبته، وهو سبحانه حاضر مشاهد لا يفنى، وهو معكم أينما كنتم. اهـ باختصار.

وحديث القوم لا يفهمه غيرهم لأن لهم رموزاً تدق على الإفهام

محمود محمد بكر هلال

الأدب والانتحار

منذ شهرين أنتحر الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم بأن ألقى بنفسه في أليم ليذيب فيه أحزانه ويدفن أحلامه. وأختار الأستاذ الموت على هذه الصورة ليروي ظمأه ويطفي حرارته

وفي هذا الأسبوع انتحر الأستاذ فخري أبو السعود بأن أطلق على رأسه الرصاص

والأستاذ أبو السعود ليس غريباً عن قراء الرسالة فقد ساهم في تحريرها عدة أعوام

فهل كان اتفاقاً أن ينتحر أديبان لهما قيمتها في المحيط الأدبي؟

أم هي مصادفة ألقت بها المقادير في هذه الأيام التي كثرت فيها العجائب وطغى الشر

وأين أثر البحر الذي يشيد به الدكتور زكي مبارك في أعصاب هذين الأديبين

الواقع أن الأديب رجل مرهف الحس شديد التأثر، له من المنى ما أخفق فيه وما تحقق، وحتى هؤلاء الذين ظفروا ببعض الأماني يشعرون بالغبن ويحسون بالنقص

فلن تكن مصادفة أن ينتحر أديبان في مدة وجيزة وفي بلد واحد هو الإسكندرية

وإنما هو الألم. . . ولعل الأدباء يفكرون في علاج هذه الظاهرة قبل أن تجر عليهم الفناء

رحم الله الأستاذ فخري وأجزل لأدهم الثواب

عبد العزيز سالم

الحرب والشعر

تفضل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد فأتحف قراء (الرسالة) ببحثه التحليلي الممتع في العدد الماضي، وقد قرر فيه أن الحروب لا تشحذ ملكات الشعر، لأن الشعر فردي، وإن ما

ص: 46

يروج في أيام الحروب هو الأغاني والأناشيد، فإن حكمها حكم الخطابة، لأنها تتردد بين الجماهير في الاجتماعات، ثم قال أستاذنا الجليل إن الملاحم في الأمم البائدة ليست هي التي شحذت تلك الأفكار التي نتج عنها تلك المنظومات الشعرية).

فهل يسمح الأستاذ الجليل أن أقول: كيف لا تكون الحروب شاحذة للملكات الشعرية في حين أن أستاذنا نفسه استشهد في ثنايا مقاله شعرية رائعة لشاعر إنجليزي، لو لم تكن الحرب لظل مغموراً في مهنته الطبية؟ فإذا كانت الحروب تخلق من الطبيب شاعراً، فكيف بالشاعر المطبوع؟

وهل يتفضل أستاذنا الجليل ويزيد الموضوع إيضاحاً في منظومات الملاحم؟ ولماذا لا تكون دليلاً على أن الحروب تشحذ ملكات الشعر في حين أنه لو لم تكن الحروب لما كانت تلك المنظومات؟

أجل، إن الشعر ينزر في أيام الحروب، ولعل السر في ذلك (ورأي أستاذنا القول الفصل) أن الأمم في أيام ثوراتها وحروبها تكون منهمكة بشئونها ما بين حاضرها ومستقبلها، ومضطربة الخواطر، جياشة بمختلف الأحاسيس، ليس لديها الصبر الكافي لقراءة الشعر والتروية فيه، فالخطيب يستهويها لأنه يستطيع أن يتخذ من الحوادث اليومية مجالاً لقوله وجلجلته، فهو لا يحتاج إلى ساعات يزور فيها خطبة، بل تأتيه الجمل عفو الخاطر، وقد تكون في أسلوبها عادية، ولكن موقفه الحماسي يجعل لها شأناً آخر، أما الشاعر فلابد له من سويعات يجمع أشتات فكره، ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعراً حقاً عبقرياً استطاع أن يغتصب منبر الخطيب ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته، كالشاعر الإنجليزي (كبلنج)، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل، ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير ويحملهم على قراءة شعره

إذاً، فالحرب تشحذ ملكات الشعر وتجودها، غير أنها تمتاز بأنه لا يقوى على الظهور فيها والشيوع إلا الشعر العبقري الحق فحسب، وأنا في انتظار رأي الأستاذ الجليل والسلام

يحيى زيارة

عضو البعثة اليمانية

ص: 47

‌القصص

فتوة العطوف

للأستاذ نجيب محفوظ

عند هبوط المساء غادر المعلم (بيومي) الفوال نقطة بوليس الحسينية يحمل (إنذار التشرد)، يكاد يتصدع صدره من الغضب والغيظ. وكان يرغي ويزبد ويتمتم ويدمدم بأصوات كالخوار، خشنة مبهمة، ما زالت تعلو وتميز كلما باعدت الخطأ بينه وبين نقطة البوليس، حتى صارت في ميدان فاروق لعناً وسباباً وقذفاً صريحاً مخيفاً عنيفاً. وجعل يهز قبضة يده الغليظة في الهواء مهدداً متوعداً، ويدير في الفضاء عينين يتطاير منهما الشرر صيرهما الغضب كجمرتين ملتهبتين. فوقع بصره على (تاكسي) واقف بالميدان، فقصد إليه، ورآه السائق - وكان يعرفه - ففتح له الباب، فأندفع إلى الداخل وارتمى إلى جانبه. وأحس السائق بالثورة المضطرمة في صدر صاحبه، فسأله عما يقلقه، ووجد المعلم في السؤال متنفس عن صدره، فرما إليه بالإنذار وهو يصيح غاضباً:(أنظر كيف تعاملني الحكومة السنية!)، وشبك يديه على صدره وقال بلهجة تدل على السخرية والحنق:(ألا ترى أنه يحتم عليَّ أن أجد عملاً في ظرف عشرين يوماً، أو يزج بي في السجن مره أخرى؟ ما شاء الله!). وأشتد اكفهرار وجهه، وأرسل من تحت حاجبيه الكثيفين نظره شريرة، وكان صاحبه ساهماً متفكراً يردد ناظريه بين وجه المعلم المكفهر والإنذار المبسوط بين يديه

وكانت هيئة المعلم بيومي من الهيئات التي لا يمكن أن تقتحمها العين، أو تمر بها دون التفات إليها، لأن صورته كانت حافلة بآي القوة والجسارة. نعم كان مظهره الرث وملابسه البالية القذرة تنطق بما هو عليه من فقر وبؤس، ولكن هيكله الصلب وصدره العريض وعضلاته المفتولة دلت على القوة والبأس، ونظرة عينيه وإيماءاته توحي بالكبرياء والعنف، وتلك الندوب تكتنف وجهه وجبينه، وآثار من طعن سكين في صفحة عنقه تثبت أنه خاض معارك عنيفة شديدة الهول، ولذلك أحاط به في غضبه صمت رهيب ألزم ألسنه الأقربين من سائقي (التاكسي) الجمود الثقيل. وقد التفت إلى صاحبه وقال في غيظ وحنق:(أنا. . . أنا بيومي الفوال. تتنكر لي الدنيا إلى هذا الحد؟!) وكبر عليه الأمر فجعل يضرب كفا بكف ولسانه لا يكف عن القذف والتهديد، وأكثر من القذف والتهديد. وقليلاً ما كان

ص: 49

يحرك لسانه ساعة الغضب فيما مضي من زمانه. فكان إذا غضب انطوى على الغضب حتى ينزل عقابه الصارم بعدوه، ولكن لم يبق له من ماضيه ذاك إلا ذكريات تطوف بين الحين والحين برأسه المثقل. فتنشر في ظلماته ضياء منيراً مقتبساً من عز الماضي ومجده وسلطاته

كانت نشأة المعلم بيومي في العطوف. وقد شهد صباه الأول على جسارته الطبيعية، فكان من خيرة صبيان الأعور (فتوة) العطوف الذي أرهب السكان وأعجز رجال الأمن. يجلس بين يديه يستمع إلى قصص مغامراته ويشهد مشاجراته ويخرج في مؤخرة عصابته إذا نفرت لقتال عصابات الدراسة أو الحسينية عند سفح المقطم، يحمل في حجره (الزلط)(وقطع الزجاج) يمد بها المتعاركين من قومه ويلاحظ فنون قتالهم عن كثب ويمتلئ حماسة للقتال وأعمال الجرأة فما شارف الثامنة عشرة حتى أشتد ساعده وانفتلت عضلاته، ومهر مهارة عجيبة في الضرب (بالروسية) والعصا والسكين والكرسي؛ واشترك في معارك فردية وجماعية فأبلى فيها أحسن البلاء. وذاع أمره كمتعارك شديد المراس، يقدم على مقاتلة عشرات الرجال بقلب لا يهاب الموت، ويدمر مقهى كاملاً إذا حدثت النادل نفسه بمطالبته بثمن مشروب، وأكبر الأعور فيه هذه الصفات فاصطفاه وآخاه وجعله ساعده الأيمن، وقاسمه الغنائم والأسلاب. ومات الأعور فخلقه على أريكة (الفتونة) دون شريك. وأبى طموحه عليه الهدوء والراحة؛ فتحدى فتوة الحسينية وظهر عليه، وقاتل فتوة الدراسة فهزمه، وخرج بمجموعة إلى الوايلية فأذل كبيرها ومزق جموعه شر ممزق، ودوى أسمه في تلك الأحياء دوى نذير الغارات، واستكانت له نفوس الفتوات، وأفاد من سلطانه فائدة رمقتها عيون الجسد جيلاً طويلاً. فجعل مركزه قهوة غزال بالخرنفش حيث يجتمع بأنصاره وصبيانه. وفرض الآتاوة على كبار الأغنياء والتجار والقهوجية وشركة سوارس يؤدونها إليه صاغرين، ومن يتردد عن دفع ما يطلب منه عرض نفسه وما يملك للهلاك المبين. هذا غير ما كان يؤجر له من أعمال الانتقام والتهديد وحماية بعض النسوة من أهل الهوى، وتنافس كثيرون في التودد إليه بإهدائه الهدايا الثمينة، فكان يتقبلها تقبل الزاهد فيها وهو من غير الشاكرين وعاش المعلم بيومي في ظل سلطانه عيشة راضية في بلهنية ونعيم. يلبس الجلباب الحرير والعباءة من وبر الجمل، ويتلفع بالشال الكشمير الفاخر

ص: 50

ويركب الدواكر تجره الجياد المطهمة. ثم عشق (عالمة) فتزوج منها وكان فرحه فرح أهل الجمالية والعطوف والدراسة جميعاً، وانتظمت (زفته) الفتوات من جميع الأحياء وعدداً عديداً من أصحاب (السوابق) وحاملي الإنذارات والمترددين على السجون. . . وأحيا ليالي العرس الشيخ ندا وعبد اللطيف البنا وبمبة كشر. ثم مازال يعلو نجمه يوماً بعد يوم حتى تسنم ذروة المجد في الانتخابات الأولى عام 1924. فقد أقر بنفوذه كثير من رجالات السياسة في مصر وسعوا إليه يرجون نصرته لهم ويساومن على شراء أصوات أنصاره وأتباعه، وشهدت قهوة غزال محضر باشوات وبيكوات يجلسون إلى المعلم بيومي الفوال متوددين متحادثين. وكان المعلم لهم ويستولي على نقودهم، ولكنه في يوم الانتخابات ذهب وصحبه إلى أقسام البوليس يعطون أصواتهم لمرشحي سعد زغلول

ومنذ ذاك العهد وهو يسمى أولئك الباشوات والبيكوات (بالكروديات) على أنه كان يباهي باتصالاته بهم في أحايين كثيرة فيقول في أثناء حديثه (وقال لي الباشا كيت وكيت) وقلت للباشا كيت وكيت

تلك أيام خلت. . . وخلفت وراءها دهراً قاسياً شديد الظلمات. فما يدري أولئك الفتوات إلا والبوليس يضيق بهم ذرعاً ويشمر للقضاء على أعمالهم، وكان من سياسته أن قذف الحسينية بضابط شاب لم تشهد الداخلية له من قبل نظيراً، سواء في قوته أم في شجاعته وشدة عناده. وكان يعلم أن هدفه الأول هو المعلم بيومي الفوال، فلم يحد عنه، ولم ينتظر الأدلة القانونية لأنه كان يعلم أن أحداً من الناس لن تواتيه شجاعته على الشهادة ضده. فهاجمه بجنوده بغتة وقاده إلى النقطة وأمر الجنود بضربه ضرباً مبرحاً. وأصيب المعلم بذهول شديد لذلك العدوان الجريء. فما كان من الضباط إلا أن أعاد الكرة مرة ومرتين حتى كسر شوكته. ثم جعل يسوقه أمامه محاطاً بجموع الجند الشاكي السلاح يصفعونه في كل منعطف طريق، ويركلونه أمام كل قهوة وينزلون بمن يظهر لهم من فتيانه أشد العقاب، فأفاق الناس من غشيتهم وانحلت عقدة الذعر الممسكة بألسنتهم فهرعوا إلى رجل الأمن يشكون ويستعدون، ووجد الرجل الدليل الذي يطلبه وزج بالمعلم في غيابات السجون يذوق أشد الأهوال والآلام. وهكذا أخذ المعلم بالإرهاب الذي أخذ به الناس جميعاً. وقضى في السجن بضع سنين. ولما فارقه لم يجد أحداً من الفتوات في استقباله يهنئه ويقول له:

ص: 51

(السجن للجدعان) فقد لاذ كل منهم بسبيله، منهم من سجن، ومنهم من هجر الحسينية، ومنهم من راض نفسه على العمل كما يعمل الناس جميعاً سعياً وراء الرزق. فألفى المعلم عالمه مهجوراً كئيباً، ومجده ذكرى أليمة لا يترحم عليها إنسان، حتى زوجه ضاقت بفقرة وتسولهٍ فهجرته وعادت إلى بنات فنها في شارع محمد علي. وطحنت الآلام تلك النفس الجبارة العاتية. وترنح صاحبها تحت أثقال الهموم لا يستطيع أن يجأر بصوت الشكوى خشية عيون البوليس المحدقة به من كل جانب، وظل على حزنه وألمه حتى تلقى إنذار التشرد الذي يخيره بين العمل أو السجن

طافت برأسه - في ساعة بؤسه تلك - صور من أيام مجده تراءت راقصة أمام ناظريه خلل أغشية الحزن والألم. وكان صاحبه السائق في تلك الأثناء يراقبه بطرف خفي وأصابعه تبعث بالإنذار الذي أحدث كل ذاك الغضب. وكان يدير أمراً هاماً في عقله. فلما قلبه على أوجهه المحتملة التفت إلى المعلم وسأله:

- ماذا تقول يا معلم لو عرض عليك عمل يدفع عنك غائلة البوليس؟. . .

وحدجه المعلم بنظرة غربية دون أن يفوه بكلمة. وتشجع السائق يصمته فاستدرك قائلا:

- سبق أن علمتك قيادة السيارة. وهي صنعة في اليد تعمر بيوتاً، وما من شك في أنك خبير بالطرق والمواصلات وأستطيع أن أدلك على عمل في (الجراح) الذي أعمل فيه على شرط أن تتنازل وترضى. . . فما رأيك يا معلم؟

ولم يسارع المعلم إلى الفرح كما ينبغي لأي رجل في مكانه، لأن العمل كان التجربة الوحيدة التي لم يعرفها، وهو لم يكن شيئاً عظيماً قط في نظر الفتوات المحترفين، فتوجس منه خيفة، ولكنه لم يكن في حالة يستطيع معها رفض ما يعرض عليه مادام العمل هو المنقذ الوحيد له من السجن. فقال لصاحبه بلهجة لم تخل من الامتعاض: وهل من الممكن أن ألحق بهذا العمل قبل مضى العشرين يوماً؟

- يغير شك ولا ينقصك إلا شيء واحد. فتساءل المعلم قائلاً:

- ما هو؟. . .

- بذلة يا معلم، لأنه لا يمكن أن تكون (شوفيراً) بغير بذلة. فاشتر بذله أو أجرها أو أستعرها كيفما أنفق. ولكن لابد من بذلة

ص: 52

ومال إلى التفكير في الأمر تفكيراً جدياً ووجد نفسه يحاول حل مسألة العثور على بذلة. ولكنه لم يدر له بخلد أن يجد ضالته عند صاحبه السائق أو عند أحد من أقرانه، لأنه كان يعلم أنهم لا يملكون سوى البذلة التي يلبسونها. على أنه لم ييأس لذلك من العثور على بذلة. فعليه بالأفندية الذي كانوا إلى عهد قريب يتقون أذاه ويرجون خيره، فلا يمكن أن يضنوا عليه ببذلة قديمة ناطت الأقدار باقتنائها قوام حياته. واعترض على أولئك الأفندية سلبهم وطرق أبوابهم ورجالهم بلهجة غير التي ألفوا أن يسمعوها منه، أن يتنازلوا له عن بذلة قديمة، ولكنهم ردوا عليه بأوجه من الأعذار لا تفند، فقال فريق إنهم لا يملكون سوى بذلة واحدة غير التي يلبسونها، واعتذر فريق آخر بسوء الحال وكثرة العيال ووطأة الأزمة. وقال واحد بقحة إن خادمه أحق ببذلته القديمة. وعجب المعلم لأولئك اللؤماء واهتاجه الغضب اهتياجاً شديداً وقال لنفسه بإصرار وعناد (ما دامت البذلة تنقذني من السجن فسأحصل عليها مهما كلفني ذلك من العناد) وكان يتخبط في الطريق على غير هدى حين وجد نفسه اتفاقاً أمام دكان كواء عند مبتدأ شارع السبيل، فألقى عليها نظرة سريعة لصقت بالبدلة المعلقة، فتراخت ساقاه عن المشي وأسند ظهره إلى شجرة قريبة ومضى يتفرس في البدل المتراصة تفرس الجائع المنهوم في فرن الحاتي المليء بالشواء من اللحوم، ثم عاين المكان فرأى الدكان قائماً إلى جانب جراج تحدهما من الخلف صحراء العيون. ودارت برأسه خواطر محمومة عنيفة وعزم عزماً أكيدا

وأصبح الصباح وجاء الكواء يفتح دكانه فما راعه إلا أن رأى في ظهرها ثغرة فانخلع قلبه وهرع إلى ثياب زبائنه. ووجدها كاملة إلا بدلة واحدة. . . فكانت دهشته قدر انزعاجه!

وصار المعلم بيومي سائق تاكسي ولم يعد لضابط نقطة الحسينية من سلطان عليه، ولأمر ما أختار الجيزة ميداناً لعمله فاراً بالبذلة التي لم تهده الحيلة إلى صبغها أو قلبها كما كان ينبغي أن يفعل اللص الماهر. وما كان يصبر على نظام العمل لولا أن السجن كان عودة على ما هو أشد إيلاماً ومقتاً، فرضي كارهاً أن يلبي النداء ويحمل الراكبين، ويبدي احترامه لمن كان بالأمس ينظر إليهم شزراً ويدعوهم (بالكرديات). . .

ولم تخل حياته في ذاك المهجر من حوادث، ففي ذات أصيل وكان مضى عليه ما يقارب الشهر في عمله. وكان ينتظر في موقفه برز رجل وجيه من باب الفانتزيو وناداه ولبى

ص: 53

المعلم مسرعاً وترك مقعده ليفتح الباب للسيد الوجيه ومضت دقيقة وهو ينتظر والرجل لا يتحرك، فعجب المعلم للأمر ونظر إلى الرجل فرآه ينظر إليه بإنكار بل رآه ينعم النظر في بذلته وخفق قلب المعلم. واضطرب وأحس كمن وقع في فخ، وهم بالتحرك ولكن الرجل دنا منه وأمسك بالياقة بسرعة وثناها ليقرأ اسم الطرازي ثم قبض على ذراع المعلم وصاح به بغضب:

- قف يا لص. . . من أين لك هذه البدلة؟

ونادى الشرطي بصوت عال. فحدجه المعلم بنظرة نارية وكان يستطيع بغير شك أن يبطش به لو أراد، ولكنه استشعر بأساً غريباً خرج به عن وعيه فما يدري إلا والشرطي يقبض عليه. . .

والظاهر أن الحظ الذي حالفه قديماً تخلى عنه إلى الأبد، وإنه ليعاني الآن السجن؛ والله وحده يعلم ما هو صانع به بعد ذلك

نجيب محفوظ

ص: 54

‌الفنون أسرار

للأستاذ عبد اللطيف النشار

كانت غرفة المكتبة في منزل المسيو (بنديبي) محتوية على (دواليب) قصيرة ذات طبقتين وفوق ظهورها عدد غير قليل من الصور والتماثيل الصغيرة والعاديات والتحف المختلفة الأنواع والأشكال، وكان (بنديبي) على فقره رجلاً على درجة من الأهمية لاشتغاله بالآداب والفنون، وكانت التحف الموضوعة فوق دواليبه مجردة عن النظام والترتيب، وكانت زوجته مدام بنديي الضعيفة البصر تعاني جهداً في تنظيف الدواليب وما فوقها بمكنستها الصغيرة المصنوعة من ريش النعام

وفي يوم من الأيام أدت واجبها بالمنزل وجلست مستندة إلى ذراعي مقعد كبير تنتظر عودة زوجها فعاد وعلى وجهه كل علائم الاهتمام وقال: (انظري إلى هذه القطعة) وأشار بإصبعه إلى شيء فوق الدولاب واستمر يقول: (لقد استكشفت أن هذه القطعة الفنية تساوي مائة ألف فرنك). فأدارت السيدة نظرها الضعيف إلى حيث يشير إصبعه ورأت طبقاً عادياً من أطباق الحساء (سلطانية) فقالت: (أحقاً إنها تقوم بهذا الثمن؟)

قال المسيو بندبي: (نعم والذي قومها بهذا الثمن من أشهر هواة العاديات، وقد رفضت بيعها مع إلحاحه في طلبها. وماذا أفعل بالمال؟ إنني لست تاجراً ولكنني هاو. وأذكرك أيضاً بأني كلما اشتريت تحفة من هذه التحف كنت تقولين لي إنها حقيرة لا تساوي شيئاً، فهل تقدرين الآن أنني كنت مصيباً لما اشتريت هذه القطعة بسبعة فرنكات؟)

ومن ذاك اليوم لم تكن الزوجة تجرؤ على أن تمس الطبق خوفاً عليه من الكسر. وكانت تنظر إليه فتتذكر أنه كان في بيت جدها آنية مثله تماماً وأنها كسرت فلم يحزن عليها أحد، فكانت تقول في نفسها:(حقاً إن الفن كله أسرار. وكان زوجها يقول: (انظري إلى بهجة لونها وإلى الرنين الذي تحدثه عند لمسها بالإصبع). فتنظر ولكنها لا تجد جديداً في اللون ولا في الرنين. وكان الأولى بها أن تقول ما تعتقد؛ فيحاول زوجها إقناعها، وتنكشف لها الحقيقة فتعرف خطأها.

ولكنها كانت توافق زوجها إذعاناً. وكان ذلك من سوء حظها، فمات زوجها بعد أمد قصير ولم يبين لها سر الفن الذي يعرفه هو وجامع العاديات الذي عرض عليه مائة ألف فرنك

ص: 55

في القطعة الأثرية. ولم تكن القطعة هي الآنية، ولكنها تمثال فتاة كان موضوعاً خلف الآنية. وكانت تلك المسكينة لضعف بصرها تحسب زوجها يشير إلى الآنية. وبعد موته رأت مدام يندبني أن تبيع كل ما تركه زوجها إلا الاتية؛ واستدعت أحد الهواة فأرته المكتبة وما فوق دواليبها، وقالت إنها تريد أن تبيع ذلك كله صفقة واحدة. وكان التمثال لسوء الحظ لا يزال موجوداً وراء الآنية، فنظر المشتري إلى كل الأشياء فأدرك قيمة التمثال وأشار إليه وقال:(وهل تدخل هذه القطعة ضمن الصفقة؟) فصاحت الأرملة محتدة (الآنية! فإنني لا أبيعها، فهي أنفس شيء عندي إنني لا أبيع هذه الأشياء لأني محتاجة إلى الثمن، ولكن لأنه ليس لها لزوم عندي) ونظر المشتري إليها وقدر أنها مجنونة فلم يناقشها، وأشترى التمثال بخمسين فرنكاً ثم باعه بعد ذلك في أمريكا بنصف مليون وباعت السيدة سائر التحف والمنزل وما فيه. وأخذت الآنية معها وذهبت إلى الريف. ولاحظ خدمها الجدد وأقاربها وجيرانها أنها لا تخشى على شيء غير الآنية، وأنها تحذرهم من المساس بها كل التحذير. وشاع في القرية أنها تعبد آنيتها هذه، وأن عقلها غير سليم

وأخذوا يناقشونها وهي تحتد في طلب سكوتهم، وتزيد في حرصها على آنيتها وإيصاء الخدم بها، فاستدعى أهلها طبيباً، وسألها الطبيب عن سر هذه الآنية. فقالت: إنها مستعدة لإطلاعه على الحقيقة على شرط أن يعادلها على الكتمان فالأمر سر عظيم؛ وقالت: (لقد اشترى زوجي هذه الآنية بسبعة فرنكات وهي الآن تساوي مائة ألف فرنك كما قرر ذلك أحد الهواة) قال الطبيب: (أظنك يا سيدتي تمزحين، فإن هذه الآنية لا تساوي شيئاً وأكثر العائلات تملك نظائرها) فقالت: (أو بمثل هذه البهجة في اللون؟ وهل تحدث مثل هذا الرنين؟!)

فأضطرب الطبيب ودهش لثقتها بشيء لا وجود له، فلم يكن للآنية لون مبهج ولا لها أي رنين. ولم يشأ مجادلتها لاعتقاده أن مرضها هو (الجنون بالفكرة الواحدة) وأنها إذا عولجت فقد تشفى. وبناء على قرار الطبيب نقلها أقاربها إلى مستشفى الأمراض العقلية، فدخلته راضية ومعها الآنية؛ ولم يهمها هذا الانتقال ما دامت معها هذه الثروة العظيمة، ولم يضن أهلها عليها بها ولكنها انتقاماً منهم لكيلا يرثوها أوصت بها لمتحف (اللوفر)

ومن يدري كم بالمتاحف من أمثال هذا الأثر؟ أليست الفنون كلها أسراراً؟

ص: 56

(عن الفرنسية)

عبد اللطيف النشار

ص: 57