الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 384
- بتاريخ: 11 - 11 - 1940
بشائر السلامة
أمة التوحيد تتحد. . .
قالت الأهرام في عدد يوم الجمعة الماضي: (إن هناك بحثاً يدور الآن في بعض الدوائر العربية حول تكوين حلف عربي يواجه به العرب الظروف الحاضرة التي يجتازها العالم اليوم. والمفهوم أنه إذا انتهى هذا البحث التمهيدي فستدعى الحكومة المصرية رسمياً إلى الاشتراك فيه. أما الدول التي يشملها هذا الحلف فهي: مصر وسوريه وفلسطين والعراق والحجاز. وقد يتسع نطاقه فيشمل إيران وأفغانستان)
هذا التفكير على أي شكل كان يدل على تيقظ الروح الهاجد في الجسم العربي، ويبشر بتجمع القوى الشتيتة في أعضائه، ويطمئن قلوب الأحرار الأبرار الذين تتفارطهم الهموم على مستقبل العرب والإسلام والشرق. وكان من أعجب العجب أن يرى العالم العربي الخطوب تتواثب على جوانبه، والنوازل تتفاقم في أحشائه؛ ثم تظل كل دولة من دوله سادرة في مشاعب هواها تتلهى بالنظر الغرير إلى حركات زعمائها وهم يتصارعون على المناصب ويتنازعون على الحكم؛ كأن السلامة والسلام أمران يجريان من حياتها مجرى الأمور الطبيعية كالنوم واللذة والضحك، فهي لا تشغل بهما البال ولا تدير عليهما الفكر
ولقد قلنا منذ عام حين تحلبت أشداق النازية على حدود الدول الصغيرة: إن الدويلات الضعيفة كان لها فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حره آمنة، لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني؛ فلما كفر النازيون والفاشيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك، ففسد النظام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق. فليس لها اليوم من عاصم أن تنضوي إلى الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا انتصرت على هذا الطغيان المسلح الكافر نظرت هي في يومها وفي غدها، فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل والقرود، وهو التجمع والتعاون، فيكون بين البلاد المتجاورة كشعوب الإسلام الأربعة عشر شبه ما بين الولايات الأمريكية الثماني والأربعين: من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام، والدستور المشرع،
والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيره يقوم على استعمارها النزاع ويميل من جراها ميزان السلامة
إن من يستمع إلى الإذاعة العربية من بلاد المحور يرتعد فرقاً من هذا الإخلاص الإيطالي للإسلام وذلك العطف الألماني على العرب. ومن شقاء العقل أن نحمله على أن يسيغ هذه الدعاية الغريبة التي اتخذت وا أسفاه ألسنتها من بعض العرب الذين فتنهم المال الغرور لتقول: إن فيالق الدتشي وكتائب الفوهرر لم تحشد في صحراء مصر وجبال البلقان إلا لتنقذ العرب والمسلمين من عذاب الديمقراطية البريطانية!
ليت شعري من الذي حملهم هذه الرسالة وأوجب عليهم هذه التضحية؟ لسنا اخوتهم في الجنس ولا في العقيدة ولا في المنفعة حتى يكون لما يبذلون في سبيلنا من الأموال والأنفس مسوغ. ولسنا من السذاجة والغفلة بمكان القطيع الذي حالف الذئب الجائع الطامع على الكلب الحارس الأمين. إنما نحن شعب مختار حكم العالم في ماضيه، وتمرس بالشدائد في حاضره؛ فله من بصيرته الموروثة نفاذ إلى صميم الخديعة، ومن تجاربه الأليمة سداد في مزالق الفتنه؛ فلا نجهل أننا نحن الغنيمة التي يحتربون عليها، والطعمة التي يختصمون فيها؛ وكلما أرسلوا الأمواج من مذاييع باري وبرلين تحمل إلينا منهم الشوق المبرح والحدب الشديد، تضاممنا من الفزع ليتقي بعضنا ببعض سهام كيوبيد الأثيرية!
هذا التضام هو التكتل الذي يصير إلى الوحدة. والوحدة التي يقتضيها الدفاع عن النفس ويدعو إليها الخوف، أوثق وأصدق من الوحدة التي يوجبها النزوع إلى الأنس ويبعث عليها الأمن
لقد كان العرب والمسلمون فيما غبر متواكلين متخاذلين، لأنهم كانوا هم على هذه الحال يستطيعون في حمي الديمقراطية السمحة أن يعيشوا بوجه من الوجود. ولكن ماذا عساهم يصنعون وهذه الدكتاتورية الباغية تزحف شعبتاها إلى الشرق عن طريقين مختلفين: شعبة تبغي استغلال البلاد لأنها بطبيعة أرضها فقيرة، وشعبة تريد استعباد الناس لأنها بطبيعة عنصرها على زعمها سيدة. وإذا دهمك من اليمين ومن الشمال الجائع السلاب والمتكبر الغلاب فقدت وجودك المادي والأدبي السلب والغلب؛ ثم لا تدري أي شيء تكون بعد ذلك!
فاتحاد الأمم العربية أمام هذا الخطر الهاجم ضرورة خلقتها غريزة حب الحياة. وفي
اعتقادي أن الأمر في هذا الاتحاد لن يقف عند مناقشة الفكرة ومواضعة الرأي؛ ولكنه سيتعداهما إلى إمضاء العزيمة وإنجاز العمل. ذلك لأن كل أمة من هذه الأمم تشعر في وسط هذه الكوارث الداجية بما تشعر به الشاة الشاردة عن القطيع. وإن أسهل على الطبيعة أن تعيد اتحاداً ألفه الله من صلة الدم ونسب الروح من أن تبدأ اتحاداً ألفه الشيطان من النازية والفاشية والشيوعية والوثنية؛ فإن هذه النحل المجرمة أضداد تنسجم في الباطل وتتنافر في الحق، ولا بد أن يدركها داء البغي فتحر ضارعة صريعة أمام قوى الخير والعدل ولو بعد حين!
أحمد حسن الزيات
أخلاق القرآن
الإحسان
للدكتور عبد الوهاب عزام
الإحسان الإتيان بالحسن من القول أو الفعل. والإحسان خلق ينزع بصاحبه إلى الحسن من كل شيء، وينفر به عن القبيح من كل شيء، ويطمح به إلى الأحسن فالأحسن رقياً في درجات الكمال
فعل الخير إحسان وتأدية الواجب إحسان؛ ولكن أكثر ما يقال الإحسان للتبرع الذي يزيد على أدنى درجات الواجب وللتفضل بأكثر مما يطلب
وذلك درجات يعلو بعضها بعضاً حتى تنتهي إلى الكمال
في كل عمل درجات من الإحسان يختلف فيها المتسابقون إلى الخير، ينال أدناها كثير من الناس، ثم يقلون كلما علت الدرجات حتى ينقطع معظم الناس دون الدرجات العلى فلا يبلغها إلا أفذاذ من الأخيار المحسنين
وفي كل صنعة درجات من الإحسان يتنافس فيها الصناع إلى أن يستأثر النابغون بدرجات يقف دونها الدهماء والأوساط
والأفراد والجماعات والأمم وتتفاوت في الضروريات كالطعام والشراب الذين يمسكان الحياة، والملبس الذي يقي الجسم عوادي الحر والبرد، بل يستوي في ذلك الأمم التي لا تزال في درك الهمجية والأمم التي بلغت في الحضارة مكاناً علياً، وإنما يتفاوت الناس في الحاجيات والكماليات تفاوتاً بعيداً، يقاس بما بين طعام الهمج وملبسهم ومعاملاتهم وبين نظائر أولئك في الأمم التي توفر نصيبها من الحضارة
وكذلك يعظم تفاوت الناس في الإحسان. الواجبات يحتمها القانون أو العرف، وفوق الواجبات ضروب من التبرع في المعاملة أو الإتقان في الصناعة يتلاحق فيها الناس إلى درجة الكمال أو ما يقرب منها
وفي الناس من يقنع بأداء الواجب، وهو الدرجة الدنيا من الإحسان، وفي الناس من لا يعرف في الإحسان حدا، ولا في الكمال غاية؛ طماح كلما بلغ درجة استشرف لما فوقها
والنفوس الكريمة تنزع إلى العلاء نزوعاً دائماً، وتتطلع إلى الكمال كل حين. تحس في
سريرتها دعوة من الله العلي تدعوها إلى الرفعة وتهيب بها إلى الكمال، وترى النقص في كل درجة فوقها درجة، لا أعني درجات من الغنى والجاه والسلطان، ولكن درجات من الخير والمواساة والرحمة، وتكميل النفس في معارفها وعواطفها، درجات من النظام والجمال في عقل الإنسان وخلقه وبيئته وكل ما يتصل به. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً
…
كنقص القادرين على التمام
رحم الله النفس الطماعة اللوامة التي لا تحد طموحها غاية، النزاعة إلى الخير والكمال في غير نهاية. إنما يسير الله خلقه إلى الكمال بأمثال هذه النفوس، ويهديهم إلى المثل العليا بأفعالها وأقوالها
وقد جاء في الحديث أن الرسول صلوات الله عليه سئل:
ما الإسلام؟ فقال: (أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان) ثم سئل: ما الإحسان؟
فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فقد جعل الرسول الإحسان تأدية العبادة على أحسن الوجوه، وأن يبلغ بها العابد أعلى الدرجات
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذا في قوله: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طَعِموا إذا ما اتقوا وأمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين). جعل الإحسان نهاية التقوى والعمل الصالح
والقرآن الكريم يأمر بالإحسان كله: الإحسان بفعل الحسن واجتناب القبيح، والإحسان بمجاوزة الحسن إلى الأحسن. وقد أكد الأمر به وكرره وبين مكانة المحسنين من الله سبحانه وجزائهم عنده
بين القرآن أن الله تعالى أحسن خلق الناس وأحسن خلق كل شيء. قال: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين). وقال: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات، ذلكم الله ربكم فتبارك ربكم فتبارك الله رب العالمين). وإذا كان خلق الله كله إحساناً فهذا العالم أولى به الإنسان، وأقرب إلى سنته وإلى مرضاة خالقه
بل بين القرآن أن الغاية من الحياة والموت والعمران استباق الناس إلى الإحسان وتنافسهم
فيه
قال: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) وقال: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً)
أمر الكتاب الكريم بالإحسان في العمل إذ قال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) والإحسان هنا إما أن يكون فعل الحسن وإما أن يكون زيادة على العدل. فالعدل إيتاء كل ذي حق حقه، والإحسان أن يعطي الإنسان ما لا يلزمه ويفعل أكثر مما يطلب منه. ومهما يكن فهذا وذاك يأمر به القرآن ويدعو إليه ويحث عليه
وأمر بالإحسان في القول إذ قال: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن.) وقال: (وإذا جبيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها. إن الله كان على كل شيء حسيباً.) فالمسلم مأمور أن يحسن في فعله وقوله جهد الطاقة، حتى ينتهي به الإحسان إلى الكمال الذي هو أليق به وأقرب إلى مقاصد دينه
وهذا الإحسان الذي أمر به المسلمون عام لا يخص فريقاً دون فريق إلا من ظلم واعتدى فليس له من إحساننا نصيب. يقول القرآن الكريم: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.)
الطريقة المثلى والدين الأحسن في شرعة القرآن أن يؤمن الإنسان بالله ويخلص له ويفعل الحسن. بين هذا القرآن في قوله: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن). وفي قوله (ومن يسلم وجه إلى الله وهو محسن فقد أستمسك بالعروة الوثقى)، وقوله (من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
هذه هي الطريقة المثلى والخطة التي تكفل للإنسان سعادته واجتماع القلوب عليه وتجنبه الشقاء والبغضاء والشحناء مما يجعل الحياة شراً والأرض سعيراً. في الكتاب المبين: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وهذا مطلب عظيم يحتاج إلى رياضة النفس على الخير وصبرها على المكاره. لذلك يقول القرآن بعد هذه الآية (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) وقال في آية أخرى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار)
وبين القرآن أن الإحسان يكون في كل عمل وفي كل قول. فالاعتراف بالحق والإيمان به إحسان. حكى القرآن عن جماعة من القسيسين أنهم آمنوا وقالوا فيما قالوا: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) وقال عقب هذا: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين). فقد عد قولهم المنبئ عن الإيمان إحساناً. وفي آية أخرى يعد العفو عن المسيء والصفح من الإحسان قال: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وعد استجابة المسلمين لدعوة الرسول إلى تعقب المشركين بعد ما أصاب المسلمين في أحد - عد هذا إحساناً في قوله: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) وعد احتمال المشقة في سبيل الحق إحساناً فقال في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
النفس الكريمة الطيبة تنزع إلى كل عمل حسن وتنفر من كل قبيح ولا تقف في الإحسان عند حد، فهي تواقة إلى الأحسن فالأحسن؛ تحسن في كل فعل وفي كل قول وتطمح في كل في كل درجة إلى ما فوقها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والمحسنون مقربون إلى الله سعداء بقربه ومحبته، لا يفارقهم إحسانه ورحمته. يقول القرآن:(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. ويقول إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. ويقول: (إن رحمة الله قريب من المحسنين)
وأما جزاء الإحسان فقد قال فيه القرآن: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان). وقال: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) جزاء الإحسان أن يحسن الله إلى المحسن في الدنيا والآخرة. جزاؤه في الدنيا صلاح النفس وتزكّيها وفتح أبواب المعرفة عليها واستمتاعها بالحياة على أحسن وجه وتمكنها في الأرض وسيادتها وبلوغ الكمال الذي أراده الله للمحسنين. جاء في سورة يوسف: (ولما بلغ أشدَّه آتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين) وقال في السورة نفسها: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين). جزاء الإحسان في هاتين الآيتين إيتاء الحكمة والعلم والتمكن
في الأرض والرحمة. وأعظم به من جزاء
وأما في الآخرة فحسبك هذه الآية من آيات: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار)
ذلكم الإحسان الذي يدعوا إليه القرآن، وذلكم جزاؤه في الدنيا والآخرة. على الإنسان أن يحسن ما استطاع ولا جناح عليه بعد إحسانه أن يستمتع بالطيبات من الرزق في هذه الحياة. وأن يبلغ من هذه الدنيا ما يشاء! وقد تلوت أنت هذه الآية:
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)
وهذه آية أخرى جامعة:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين)
ذلكم هدى القرآن في الإحسان، وقد جاء في السنة حديث جامع:(إن الله كتب عليكم الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) يعني إذا لم يكن بد من قتل إنسان قصاصاً فليقتل قتلة حسنة لا مثلة فيها ولا تعذيب؛ وإذا ذبحتم الحيوان فاذبحوه بأحسن وسيلة، الوسيلة التي تؤدي إلى المقصود دون تعذيب كذلك
وبهذا الهدى سار المسلمون الأولون، فأحسنوا أقوالهم وأفعالهم وأحسنوا إلى الناس وبالغوا في الإحسان والإنفاق فنالوا جزاء المحسنين من السيطرة على الدنيا بالحق والسعادة بها وحسن الجزاء في الآخرة
وإن فيهم لأسوة حسنة للمتخلفين من بعدهم، فليجدوا في الإحسان ولينافسوا فيه. ليحرصوا على الإحسان في العلم والمعرفة والقول والفعل وفي كل صنعة وكل نظام تستقيم به أمور الناس على هذه الأرض، فقد دعا الإسلام إلى الإحسان كاملاً عاماً شاملاً. ومن أخلق من المسلمين بإجابة هذه الدعوة؟
عبد الوهاب عزام
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
تمهيد
كان يراد بالجامعة المصرية، الجامعة التي أنشأنها الأمة سنة 1908، والتي تحولت إلى جامعة أميرية 1925، وقد سميت (جامعة فؤاد الأول) سنة 1938 تكريماً لذلك الملك العظيم، لأنها أنشئت في عهده، ولأنه كان أول رئيس للجامعة المصرية.
وأنا حين أقول (الجامعة المصرية)، لا أريد (جامعة فؤاد الأول) بالقاهرة، ولا (جامعة فاروق الأول) بالإسكندرية، وإنما أعني (الجامعة المصرية) التي تنتظم هاتين الجامعتين، وما سينشأ من جامعات في مدائن الشمال ومدائن الجنوب: كالمنصورة وأسيوط
والحال كذلك في غير مصر، فالفرنسيون يقولون (الجامعة الفرنسية) حين يريدون المعنى الجامعي بلا تقييد، فإذا أرادوا التخصيص قالوا:(جامعة باريس) و (جامعة ليون) إلى آخر ما هنالك من جامعات
والمسابقة الجامعية التي أقرتها وزارة المعارف، لا تخص جامعة فؤاد الأول، ولا جامعة فاروق الأول، وإنما تعم جامعة القاهرة وجامعة الإسكندرية، فهي إذاً مسابقة (الجامعة المصرية)
موضوع هذه الدراسات
ويجب أيضاً أن نحدد الغرض من هذه الدراسات فنقول:
هو أولاً توجيه لطلبة السنة الخامسة بالمدارس الثانوية، وهو ثانياً تلخيص لطائفة من أثار الأدب الحديث
ولكن كيف نجمع بين هاتين الفائدتين؟ وكيف نسلك مسلك (التحبيب) وهو منهج من مناهج أسلافنا الفضلاء؟
يجب أن يكون مفهوماً أن هذه الدراسات موجهة إلى جميع القراء، وإن كان الغرض منها توجيه طلبة السنة الخامسة الثانوية إلى الاستفادة من مسابقة الجامعة المصرية. وذلك
يوجب أن ننظر في تلك المؤلفات بترفق وتلطف، بحيث يمكن جذب الطلبة والجمهور إلى إدراك ما فيها من مقاصد وآراء بدون تزيد وبدون إسراف، فما يجوز أن نصف كتاباً بما ليس فيه، أو أن نحمل مؤلفاً ما لا يطيق
تنبيه يفرضه منهج الدرس
ليس الغرض من هذه الدراسات أن يرجع إليها الطالب قبيل المسابقة بيوم أو يومين، وإنما الغرض هو توجيه إلى الاستفادة من تلك المؤلفات، فهو مسئول عن مراجعتها فصلاً فصلاً وجملة جملة ليدرك بنفسه أغراض المؤلفين؛ فإن لم يفعل فهو متواكل مخذول، ولن يظفر من المسابقة بشيء؛ ولو كنت أتوهم أن طلبة السنة التوجيهية سيستغنون بهذه الدراسات عن المراجعة والاستقصاء لطويتها عنهم، فما أحب أن يكون في شباب اليوم من يغنيه الوصف عن تعرف حقيقة الموصوف
قراءة الناقد وقراءة المستفيد
تنقسم القراءة إلى قسمين: قراءة فهم واستفادة، وقراءة نقد واستقصاء
فما قراءة الطالب هذه المؤلفات؟
يجب أن تكون القراءة الأولى - أو القراءات الأولى - قراءة فهم واستفادة، بحيث يهتم القارئ أولاً وقبل كل شيء بتفهَّم أغراض المؤلفين والانتفاع بما يحلون من مشكلات، وما يعرضون من آراء، فإذا انتهى من ذلك وتفهم الكتاب تفهماً صحيحاً رجع إليه فقرأه من جديد قراءة النقد والاستقصاء، والمراد من النقد هو التعرف إلى نفسية المؤلف وإدراك ما في أقواله وآرائه من قوة وضعف، وصحة وبطلان؛ والمراد من الاستقصاء هو ربط أفكار المؤلف بما سبق للقارئ الاطلاع عليه من أفكار الباحثين، لتصح له الموازنات بين القراءات القديمة والقراءات الجديدة بصورة تقنعه بأنه تحرر من سيطرة المؤلف واطمأن إلى قدرته على المفاضلة بين رأي ورأي وأسلوب وأسلوب
وإذا انتفع الطالب بهذا التوجيه فسيفوز حتما وسيخرج بمحصول نفيس يكون من أنفع ذخائره الأدبية في الحياة الجامعية. والله عز شأنه هو الموفق
فيض الخاطر
ونبدأ هذه السلسلة بدراسة كتاب (فيض الخاطر) لحضرة الأستاذ أحمد أمين عميد كلية الآداب، والمقرر للمسابقة هو الجزء الأول فقط، فإذا استطاع الطالب أن ينظر في الجزء الثاني أيضاً وأن يأخذ عنه فكرة مجملة كان ذلك أبلغ في الإحاطة باتجاهات المؤلف ومعرفة ما يعتلج في نفسه من أفكار وآراء
نشر الجزء الأول سنة 1357هـ 1938م وهو يقع في ستين وثلاثمائة صفحة بالقطع المتوسط (إلى أن نضع تحديداً دقيقاً لما يسميه الفرنسيون
والمؤلف يصور محتويات كتابه فيقول إنه (مجموع مقالات أدبية واجتماعية) نشر بعضها في (الرسالة) وبعضها في (الهلال) وبعضها لم ينشر في هذه ولا تلك)
ومقالات الكتاب تُعد بالعشرات، أو هي بالضبط اثنتان وسبعون مقالة، وقد وضُعت في أماكنها من الكتاب بدون ترتيب، لأن الترتيب لم يكن ملحوظاً في إنشاء هذه المقالات، وقد وضعت أيضاً بدون تأريخ، لأن المناسبات لم تكن ملحوظة، فهي آراء يتصل بعضها بالعصر الجديد وبعضها بالعصر القديم، بدون التفات إلى روابط التاريخ
ومع هذا التلطف في الاعتذار عن المؤلف فقد كنا نحب أن يؤرخ تلك المقالات، لأن منهج التأليف يوجب ذلك ولأن الباحث قد يحتاج إلى تواريخ تلك المقالات بعد حين
الأسلوب
يتفق الأستاذ أحمد أمين في أحيان كثيرة أن يقول إنه يراعي في أسلوبه ذوق العصر، كالذي صنع منذ أكثر من عشرين سنة يوم نشر كتاب (الأخلاق)، وكالذي صنع في مقدمة (فيض) الخاطر حين قال:(وخير أسلوب عندي ما أدى أكثر ما يمكن من أفكار وعواطف في أقل ما يمكن من عسر وغموض والتواء، وراعك بجمال معانيه أكثر مما شغلك بزينة لفظه، وكان كالغانية تستغني بطبيعة جمالها عن كثرة حليها)
وهذا القول يشهد بشعور المؤلف بأن أسلوبه خالٍ من الزخرف والبريق والرواء، وبأنه لا يعول على جمال الألفاظ، وإنما يعول على جمال المعاني
والأمر كذلك في أسلوب الأستاذ أحمد أمين، فهو يكتب كما يتحدث، بلا عسر ولا غموض، ولا يهمه حين يؤدي المعنى تأدية واضحة أن يقال إن أسلوبه ليس بالأسلوب الرشيق، وقد
يتفق له أن ينقل العبارة الواحدة من موضوع إلى موضوع حين يراها تصل به إلى ما يريد، كعبارة (رواء في العين، ولا شيء في اليدين) فقد كررها بلفظها في معرضين مختلفين، وقد يأنس بتعابير العوام حين يراها تؤدي الغرض المقصود، كأن يقول:(وراحتْ أيام، وجاءت أيام) وهو مع ذلك ينقل بعض تعابير القدماء إلى كلامه من حين إلى حين؛ كأن يقول في سياق أحد الأحاديث (تجيئك بحمأة وقليل ماء)
أسلوب أحمد أمين ليس بالأسلوب الرشيق، وأحمد أمين ليس من (دهاقين الكلام) كما كان يعبر القدماء، ولا عبرة باعتذاره بأن المهم هو المعاني، ولا قيمة للغض من الزخرف والبريق والرواء، لأنها عناصر أساسية من الأسلوب الجميل
ولكن يجب الاعتراف بأن أسلوب أحمد أمين له شخصية تتميز بالسهولة والوضوح، فهو يعبر عن ذات نفسه تعبيراً صحيحاً، وهو يقنع وإن كان لا يفتن، لأنه يبغي الإقناع ولا ينشد الفتون، وليس ما وصل إليه بالمغنم القليل
موضوعات الكتاب
في كتاب (فيض الخاطر) موضوعات أدبية واجتماعية، وبعض الموضوعات الأدبية تراجم لرجال أنس بذكراهم المؤلف، كترجمة أبي مججن الثقفي، وفي هذه الترجمة تحدث المؤلف عن (الطائف) في الجاهلية والإسلام حديثاً طريفاً، وكان أكبر همه أن يبين قيمة الشخصية الخلقية لشاعر لا ينتهي عن الخمر إلا حين تصبح له من المباحات بفضل ما أبلى في الحروب. والنظر في هذه الترجمة ينفع، لأن فيها معارف تاريخية وجغرافية، ولأنها تصور حرص المؤلف على التنويه بقيمة الاعتزاز بالنفس في بناء الشخصية الخلقية
وأبو محجن هو الشاعر الذي تعقبه عمر بن الخطاب بالنفي والتشريد لهذين البيتين:
إذا مت فادفنّي إلى جنب كَرمةٍ
…
تروِّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما مُتّ أن لا أذوقها
وهنا يقول المؤلف: (ويشاء قاصّ من الظرفاء فيروي أنه رأى قبره بنواحي أذربيجان أو جرجان وقد نبتت عليه ثلاث كروم قد طالت وأثمرت واعترشت)
ونقول إنه لا موجب لعبارة (قاص من الظرفاء) التي تفيد الكذب والاختراع، فليس من المستبعد أن يحقق العرب مثل هذه الوصية، وكان من خير المدح عندهم أن يكون الرجل
(شِريِّبَ خمر مِسْعَراً لحروب) وقد صقلت أذواقهم بالانتقال إلى فارس وطن الأعناب والصهباء، وهل يكثر على العرب أن يصنعوا مع قبر أبي محجن ما صنع الفرنسيون مع قبر ميسيه وما صنع الفرس مع قبر الخيام؟
العرب أظرف مما يتوهم الأستاذ أحمد أمين، و (القاص الظريف) لم يقل ما قال إلا استجابة لما فطر عليه العرب من الظرف في رعاية حقوق الشعراء
وفي كتاب (فيض الخاطر) ترجمة للأحنف بن قيس، وهي ترجمة نفيسة جداً، ويجب على الطالب أن ينظر فيها بعناية، فقد تفيد في الإجابات التحريرية أو الشفوية، لأنها بالفعل من أطايب هذا الكتاب، والأستاذ أحمد أمين يجيد حين يتعرض لموضوع وجدت عناصره الأصيلة في كتب القدماء
وفيه ترجمة لسيبويه المصري، وفي هذه الترجمة فكاهة وأدب وتاريخ، وهي جديرة بالالتفات
ويتصل بهذا النوع ترجمته للون الأصفر في العصر العباسي وهي نبذة طريفة تصور جانباً من الذوق الاجتماعي في ذلك العهد والأذواق تترجم كما يترجم الأشخاص!
أما التراجم الحديثة فأهمها ترجمة عاطف بركات وترجمة علي فوزي، وقد أجاد الكاتب في هاتين الترجمتين، وإن كان انحرف بعض الانحراف في الترجمة الثانية، لأنه صور فرار علي فوزي من المجتمع المصري بصورة العقل، ولو أراد الحق لعد ذلك الفرار من صور الجنون، وعذر المؤلف أنه أراد الترفق بأستاذه وهو يرثيه، وإلا فكيف يكون الانصراف عن الزواج رحمة بالمرأة وهي لا ترى الأمان إلا في رحاب الزواج؟
إن الكاتب حبر هذه المقالة في لحظة غضب على المجتمع، وبذلك استجاز أن يرى الانسحاب من ميدان الجهاد دليلاً على رجاحة العقل، ولو أنه كتب هذه المقالة في لحظة هدوء لرأى أن تصرف المرحوم على فوزي بك لم يكن إلا تصرف رجل مريض صده المرض عن الاضطلاع بأعباء الأسرة، وصرفه عن المشاركة في النهوض بالواجبات الوطنية
وعلى ذلك تكون هذه تكون المقالة من الأدب الذاتي، وهو الأدب الذي يصور الكاتب قبل أن يصور المجتمع، وهي مقالة لها تفاسير في أدب الأستاذ أحمد أمين، فقد شهد على نفسه
في كتابه هذا بأنه قليل الضحك كثير البكاء، وذلك سر نجاحه كاتباً، لأن الأمم التي تعاني الاضطهاد، أو تتوهم أنها تعاني الاضطهاد تميل إلى الكاتب الذي يكثر من شرح معاني الضجر والاكتئاب
وننتهز هذه الفرصة فنشير إلى المقال الذي عنوانه (الضحك) والمقال الذي عنوانه (سيدنا) فهما يصوران شقاء الكاتب بالناس والزمان، فقد ضربه معلمه في الطفولة ضرباً قاسياً عنيفاً، ضربه ضرباً قضى بأن يستريح في المنزل نحو أسبوعين، والذي يواجه بأمثال هذه المكاره وهو في طهارة الطفولة لا يرى الناس إلا قطعاناً من ضاريات الذئاب
ولم يفت الأستاذ أحمد أمين أن يعقب على ذلك السلوك الفظيع من معلمي الأطفال، فقد عده رياضة على تحمل مكاره الحياة، ولعله صدق، فقد قام الدليل على أن الخوف من المجتمع هو أنجح الوسائل في الانتصار على المجتمع
وهذه النظرة تفسر ما يغلب على كتابات الأستاذ أحمد أمين من الميل إلى الجد الصرف، واستهانته بالأزهار البواسم في رياض الآداب والفنون، كالذي وقع في مقال (أدب القوة وأدب الضعف) وهو مقال جيد من حيث التصوير لنفسيته الذاتية، وهي نفسية الرجل الذي صرح في مقالة (الموت والحياة) بأن الأمر في السعادة إلى ما في داخل النفس لا في خارجها، وأن في الدنيا نفوساً قد تشقى في النعيم ونفوساً قد تسعد في الشقاء
وكذلك نرجو أن يفطن طلبة السنة التوجيهية وهم يقرؤون كتاب (فيض الخاطر) إلى أن المؤلف أديب يصور لواعج نفسه قبل أن يصور بلايا المجتمع، وإذا كان أحمد أمين قد نجح نجاحاً ملحوظاً في حياة الأدبية والمعاشية، فهو نجاح السباح المغامر الذي عانى ويلات الخطوب وهو يقارع الأمواج في ليلة داجية مُثقلة الحواشي بالعواصف والأنواء
ونخرج من هذا بأن أحمد أمين لم يكن مرائياً في قصر أدبه على الجد الصرف، فهو في حقيقة الأمر رجل حزين، وإن كان يستريح إلى أحاديث الدعابة والمجون حين يخلو إلى أصدقائه الخواص، وهل يستريح إلي الدعابة إلا الرجل المكروب؟
إن هذا الرجل أعلن في كتابه أنه يشتهي ضحكة قوية يمسك منها صدره، ويفحص منها الأرض برجليه، ضحكة تملأ شدقيه، وتبدي ناجذيه، وتفرج كربه الأليم، وتكشف همه المقيم. ولكن تلك الضحكة القوية لن تتاح لمن كان في مثل حاله من الحرص على الوقار
والتزمت، والخضوع لأهواء المجتمع البليد الذي يرى المرح من عيوب الرجال
وهنا أذكر نكتة قصها رجل سخيف، رجل لا يؤمن بأن الشيخ محمد عبده كان من العظماء، لأنه شهده مرة وهو يضحك بقوة وعنف كما يضحك الأطفال
والنكتة هي ضحك الشيخ (محمد عبده) بتلك القوة وبذلك العنف، والعظيم عظيم في كل شيء حتى في الهزل والمجون، وكان محمد عبده عظيماً في الجد وعظيما في المزاح، ولن تكمل الشخصية الإنسانية إلا إذا استوفت معاني المرارة والحلاوة والقسوة واللين
قال الراوي: كان محمد عبده يضحك ينافي وقار العلماء
وأقول إن محمد عبده لم يكن واحداً من العلماء، وإنما كان أوحد العلماء، وللأوحد مزايا لا يتمتع بها الآحاد
وقد أخبرنا الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه أنه سيحاول الضحك. فهل ضحك؟ كتب الله لي وله نعمة القدرة على الاستهانة بمكايد الناس ومكاره الزمان!
أما بعد ففي كتاب (فيض الخاطر) مقالات نخصها بالحمد بلا تحفظ، وندعو الطلبة إلى فهمها بعناية وحرص، كمقالة (عدو الديمقراطية) وهي من بدع ما كتب بدع ما كتب أحمد أمين، ومقالة (الإشعاع) وهي مقالة رفضت النظر إليها في الكتاب، لأني فوجئت بها في مجلة الرسالة وأنا راجع من فرنسا في صيف سنة 1933 فكان لها تاريخ في تحديد ما بيني وبين الأستاذ أحمد أمين، ومع طول العهد ومع النفرة من مراجعة هذه المقالة فأنا أعتقد أنها من غُرر الأدب الحديث، وقد كتبت هذه المقالة في لحظة من (لحظات التجلي) وهو عنوان لمقال طريف وفق الكاتب في فقراته الختامية إلى معانٍ لا تصدر إلا عن رجل موهوب وأحمد أمين في بعض ما يكتب رجل موهوب
وهنالك مقال (الحلقة المفقودة) وهو مقال صادق، وقد كان له تأثير في بعض البيئات العلمية، والكاتب الحق هو الذي ينقل الفكر من حال إلى أحوال، ويعكر صفو الآمنين من حين إلى حين
ثم أما بعد فكتاب (فيض الخاطر) هو صور ذوقية وأدبية واجتماعية لرجل محترم يعاديه قوم ويصادقه أقوام، رجل له أهل وأبناء وأصدقاء وأعداء، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يفهم سرائر المجتمع كل الفهم أو الفهم أو بعض الفهم، وهو جدير بأن ينصب لآرائه ميزان
أحمد أمين يمثل صورة الرجل المسئول، والرجل المسئول مسكين مسكين مسكين، هو مسئول أمام أهله وأبنائه وأصدقائه وأعدائه، وهو مسئول أما تلاميذه بكلية الآداب، وقد كففت عنه قلمي منذ اليوم الذي عين فيه عميداً لكلية الآداب، لأن الغض من عميد تلك الكلية خروج على ما لها في عنقي من عهود ومواثيق
ومعنى ذلك أنني أحب أن يقرأ طلبة السنة التوجيهية كتاب (فيض الخاطر) بتدبر وإمعان، لأنه حقاً وصدقاً كتاب نفيس، ولأنه صورة لرجل كريم لم يأخذ عليه خصومه غير هنوات لا تغض من أقدار الرجال، ومن الدليل على كمال الرجولة أن يكون فيها ما يعاب، لأن الرجولة الحق مزاج من الرشد والغي والهدى والضلال
ثم ماذا؟ ثم أنتقل إلى كتاب (وحي الرسالة) بمثل هذا الأسلوب من الصدق في تشريح أغراض المؤلفين، وأنا أرجو أن يقبل طلبة السنة التوجيهية على هذه المؤلفات بشغف وشوق، ليكونوا برعاية الله أنصاراً أوفياء للأدب الحديث.
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
اللهجات المحلية
للدكتور على عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تقضي القوانين الخاضع لها تطور اللغات أن تختلف اللهجات في الأمة الواحدة تبعاً لاختلاف أقاليمها وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف وما يمتاز به من خصائص. وقد جرت العادة أن يطلق على هذا النوع من اللهجات أسم اللهجات المحلية وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً في المساحة التي يشغلها كل منها: فمنها ما يشغل مقاطعة كاملة من مقاطعات الدولة؛ ومنها ما تضيق منطقته فلا يشمل إلا بضع قرى متقاربة؛ ومنها ما يكون وسطاً بين هذا وذاك. وكثيراً ما تختلف هذه المناطق اللغوية في حدودها عن المناطق المصطلح عليها في التقسيم الإداري والسياسي. فقد تقسم القرى التي تتألف منها منطقة لغوية واحدة بين مديريتين أو أكثر؛ وقد يجتمع في مديرية واحدة أو مركز واحد عدد كبير من المناطق اللغوية. ولدينا نحن المصريين على ذاك شواهد كثيرة في مختلف أقاليم الصعيد والوجه البحري
وتعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعاً في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهداً في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات. فاللغة نظام اجتماعي، وكل نظام اجتماعي، يحمل في طيه قوة المقاومة والقهر، على حد تعبير العلامة دوركايم
أما محاربة عومل الابتداع في داخل منطقها فتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم. وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوي الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية، ويعظم نفوذها، ويشتد بطشها بالمعتدين. فكل محاولة فردية للخروج على النظام اللغوي تلقى في مجتمع كهذا مقاومة عنيفة تكفل القضاء عليها في مهدها. وبذلك تتقي اللهجة ما عسى أن يوجه إليها في داخل منطقتها من محاولات الابتداع وعوامل التغيير
وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم، وقلة فرص احتكاكهم بهم، وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال. ويظهر هذا على الأخص في البيئات الزراعية التي تقل فيها وسائل المواصلات، وتضعف حركة انتقال الأفراد، ويكاد سكان كل منطقة يعيشون في معزل عن سكان المناطق الأخرى. حقاً إن تزوج بعض الرجال في هذه البيئات إلى نساء من غير مناطقهم، وهجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لها، كل ذلك وما إليه يجلب إلى البلد عناصر أجنبية عنه. ولكن قلة عدد من ينفذ من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة نربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم من سخرية وازدراء، وصعوبة فهم حديثهم أحياناً، كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثير لهجة البلد بلهجاتهم فحسب، بل من شأنه كذلك أن يحملهم هم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها. وأما البيئات التجارية والصناعية والساحلية التي يكثر في العادة احتكاك أهلها بغيرهم، فيرجع الفضل في حماية لهجاتها إلى قلة عدد الأجانب بالنسبة إلى سكانها الأصليين، وانتمائهم إلى مناطق لغوية مختلفة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وقصر مدة إقامتهم، لأن معظمهم يفد إلى البلد في شئون لا تقتضيه إلا إقامة ساعات أو أيام
غير أنه قد يتاح أحياناً للهجة محلية فرص للاحتكاك الدائم بلهجة أخرى. وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراع أهلي لا يختلف كثيراً في مظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بي لغتين مختلفتين والذي عالجناه في مقالات سابقة في الرسالة
وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين: فأحياناً لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ. وأحياناً تكون إحداهما عرضة للتأثر بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة. وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال: فأحياناً يكون يسيراً لا ينال إلا بعض مظاهر، وأحياناً يكون عميقاً ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة
فيكون يسيراً إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان.
ويبدو هذا في تأثر لهجة القرى بلهجة المدنية التي تجاورها أو يكون بها مقر المديرية أو المركز، أو في تأثرها بلهجة البلد الذي يتخذ مقراً لنقطة البوليس أو للعمدة أو التي يقام فيها السوق الأسبوعي. . . وهلم جرا. ففي هذه الحالات وما إليها يقف التأثر عند حد اقتباس الكلمات والتراكيب وطرق استخدام المفردات في معانيها الحقيقية والمجازية. . . وما إلى ذلك. أما الأساليب الصوتية وطريقة النطق بالحروف والكلمات فتظل بمنجاة من التأثر والتحريف. ومن ثم نرى أن القرى المحيطة بقاعدة مديرية من مديريات القطر المصري قد تقتبس عنها كثيراً من ألفاظها وتراكيبها ومدلولات مفرداتها. . .، ولكن لهجاتها تظل سليمة فيما يتعلق بالأصوات، وطريقة النطق بالكلمات. فالقرى المصرية التي تقلب في لهجاتها القاف العربية (جافا) أي جيما غير معطشة (جلنا=قلنا) قد تجاور مثلاً مدينة تختلف عنها في هذا الأسلوب الصوتي (بأن تقلب فيها القاف العربية همزة: ألنا=قلنا)، فنقتبس عنها كثيراً من مفرداتها، ودلالاتها وأساليبها؛ ولكن تظل طريقتها الصوتية حيال القاف العربية بمأمن من التأثر بطريقة المدينة، اللهم إلا في الكلمات التي تقتبسها منها
أما إذا كانت الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي السابق ذكرها، فإن التأثر يكون عميقاً لدرجة تصل أحياناً إلى القضاء على اللهجة المغلوبة. ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، على شريطة ألا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وآداباً. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث. فلهجة باريس حيث كان مقر الحكومة والسلطان، قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس؛ وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الإسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية؛ ولهجة قريش قبيل الإسلام مع اللهجات المضرية الأخرى. . . وهلم جرا. . .
الحالة الثانية: أن تفوق إحدى المنطقتين المنطقة الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى. ولذلك أخذت اللهجة السكسونية بألمانيا تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ
القرن السادس عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الألمانية الحديثة وقبل أن تظهر غلبة براين. وأخذت التوسكانية بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الإيطالية الحديثة، وقبل أن يظهر سلطان روما؛ وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من إنتاج أدبي لا يذكر بجانبه إنتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع
وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعاً لمبلغ قرب اللهجتين إحداها من الأخرى ومبلغ ثقافة المنطقة المغلوبة. فيطول أمده ويشتد عنفه كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين أو قلت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة. فلهجة مدريد لم تقو بعد على التغلب كثير اللهجات الأسبانية الأخرى ولا تزال إلى الآن تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات، ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها، وفي القسم الفرنسي اللغة من سويسرا لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في المناطق الكاثوليكية (فاليه، فريبورج ، على حين أنه قد تم انقراض هذه اللهجات أو كاد في المناطق البروتستانتية (نيوشاتل جنيف) وذلك لأن المناطق البروتستانتية من هذا القسم أرقى ثقافة وعلماً من المناطق الكاثوليكية وأقدم منها عهاً بالمدارس، ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقو بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا ولا يزال يلقى منها مقاومة عنيفة لكثرة الفروق التي تفصلها عنه
واللهجة التي يتاح لها التغلب في أمة ما على بقية أخواتها، أو على معظمها تصبح غالباً (لغة الدولة) أو ما يطلق عليه اسم (اللغة القومية) أو (اللغة الفصحى) أو (لغة الكتابة). فتعلم وحدها في مدارس الدولة، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في معاهدها، وتؤلف بها الكتب والصحف والمجلات، وتصدر بها المكاتبات الرسمية وغيرها، وتستخدم في مختلف مناحي الوعظ والخطابة، وتلقى بها الأوامر ويجري بها التخاطب في الجيش، وهلم جراً. فقد ترتب على تغلب لهجة باريس على معظم أخواتها أن أصبحت لغة الدولة بفرنسا؛ وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغة الفرنسية. وهذا هو ما حدث عقب تغلب لهجة لندن
بإنجلترا ولهجة مدريد بأسبانيا، واللهجة السكسونية بألمانيا والتوسكانية بإيطاليا؛ فقد أصبحت هذه اللهجات هي اللغات الرسمية، وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغات الإنجليزية والأسبانية والألمانية والإيطالية
وتسلك لغات الكتابة في تطورها طريقاً خاصة تختلف عن الطريق التي تسلكها لغات المحادثة. ولذلك نرى أن لغة الكتابة مع اتفاقها في المبدأ مع لهجة المحادثة الغالبة، لا تلبث فيما بعد أن تختلف عنها في كثير من النواحي، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينهما، حتى تستقل كل منهما عن الأخرى. فلغة الكتابة بفرنسا مثلاً تختلف الآن عن لهجة المحادثة الباريسية اختلافاً غير يسير.
علي عبد الواحد وافي
الانتحار وعلاقته بالشخصية
للدكتور محمد حسني ولاية
حفزني إلى تناول هذا الموضوع الاجتماعي الهام انتحار عالمين من علمائنا هما الدكتور إسماعيل أدهم، والأستاذ فخري أبو السعود. وقبل أن أبين العلاقة بين الشخصية والميل إلى الانتحار أقول إن بعض علماء النفس والعقل يميلون إلى تقسيم الشخصيات البشرية (الطبيعية) إلى سبعة أقسام اختيارية على غرار الأمراض العقلية والنفسية الرئيسية
الشخصيات:
1 -
الشخصية الهوسية: يمتاز صاحبها بالنشاط والحركة المستمرة والاعتداد بالذات، وهي تنطوي على كفاح بين الذات والضمير.
2 -
الشخصية الملانخولية: تتصف بالهبوط النفساني، والكسل واليأس، واتهام النفس، واستحواز الأفكار السوداء على صاحبها. وتمتاز أيضاً بكفاح بين الذات والضمير.
يقول فرويد إن محتويات الهوس النفسانية لا تختلف في شيء عن محتويات الملانخوليا، وإن الشخص في كلا الحالين يصارع نفس المعقَّد وإن الذات تستسلم لهذا المعقد في حالة الملانخوليا ولكنها تسيطر عليه أو تطرحه جانباً في حالة الهوس
3 -
الشخصية الوسواسية: يميل صاحبها إلى حسن الهندام والذوق السليم، ولكنه كثير التردد ضعيف الإرادة. وينطوي الوسواس على كفاح بين الذات ومستقر الغرائز الجنسية في العقل الباطن
4 -
الشخصية الهستيرية: تمتاز بتركيز الاهتمام على الذات والأنانية الشديدة، والاعتماد على معونة الغير. وتنشأ التصرفات الهستيرية من كفاح بين الذات ومستقر الغرائز الجنسية في العقل الباطن
5 -
الشخصية القلقة: تتصف بالقلق، وتوجس الشر، وبلبلة الفكر، والخوف من المجهول
يقول فرويد ليس للقلق صفة محدودة لعدم تعلقه بموضوع ما. وهو وليد دفاع الذات ضد خطر غريزي غير معروف. وكثيراً ما تصبح الحاجة الغريزية خطراً داخلياً ويؤدي إشباعها إلى التماس خطر خارجي يمثله الخطر الداخلي، ولكي تتأثر الذات لابد أن يتحول الخطر الخارجي الموضوعي إلى خطر داخلي غريزي
6 -
الشخصية البارانوياوية: تمتاز بإساءة الظن بالناس وتوقع الشر منهم وبهواجس اضطهادية منظمة، وتنطوي على كفاح إيجابي بين الذات والبيئة
7 -
الشخصية الشيزية وتمتاز بالانزواء عن الناس والأنانية وانقطاع التعامل مع البيئة. وينتسب إليها كثيرون من الفلاسفة والأدباء. وتنطوي على كفاح سلبي بين الذات والبيئة
تبرز في كل إنسان (طبعي) ناحية أو أكثر من هذه النواحي الشخصية. والواقع أن شخصياتنا تتكون من خليط متفاوت من هذه الوحدات الشخصية، وكلما ازداد تعدد جوانب الشخصية ازداد تعقدها وتعددت أمانيها
وأكثر الشخصيات التجاء إلى الانتحار الشخصيات القلقة والبارانوياوية؛ أما أكثرها ميلاً إليه فهي الشخصيات الملانخولية والقلقة والبارانوياوية وأحياناً الشخصيات الوسواسية
وكثيراً ما يحول الخمول المستحوذ على الملانخوليين وضعف الإرادة المتسلط على الموسوسين دون قتل نفوسهم. وإن أول ما يفكر فيه البارانوياويون هو الانتقام من الناس فيقتلون الزعماء والعظماء بسبب الهواجس الاضطهادية، غير أنهم ينتهون إلى التماس الانتحار إذا غلب عليهم اليأس. ويندر أن يلجأ الهستيريون إلى الانتحار، لأنهم يحبون أنفسهم حباً أنانياً ويحرصون على سلامة أنفسهم
يقول فرويد في صدد الانتحار (إن السادية هي التي تحل مشكلة النزعة إلى الانتحار. وقد أظهر التحليل أن الذات تعمد إلى الانتحار عندما تنصب عليها طاقة موضوعية، وحينئذ تعالج الذات نفسها كموضوع أي أنها توجه العداء الذي كان موجهاً إلى موضوع ما إلى نفسها)
إن الشخص الذي يميل إلى الانتحار شخص مريض، وهو في حاجة إلى العلاج النفسي ككل مريض بمرض عصبي، فمتى ما حلت المعقدات النفسية وجب إعطاء المريض علاجاً عضوياً كالغدد الصماء والفيتامينات والأملاح المعدنية وغير ذلك لاستعادة النشاط الذهني
ويتصف الراغب في الانتحار ككل مريض بمرض عصبي بالمبالغة في الطموح وشدة الحساسية والتماس الأماني البعيدة المنال دون جهد، والعناد والأنانية
والسبب في أن كثيرين من كبار المفكرين يعمدون إلى الانتحار هو تعدد جوانب
شخصياتهم وطموحهم الشديد وتلمسهم أهدافاً بعيدة المنال
ولابد أن نبين أن إنهاك قوى العقل الواعي يؤدي إلى تقوية الباطن وظهوره على المسرح متحدياً العقل الواعي، وحينئذ تتحكم في النفس نزعات دفينة في العقل الباطن، قد تكون وجهتها التماس الموت
ولما كان للعقل الباطن علاقة وثيقة باتجاهات النفس ونزعاتها ونزواتها وتصرفاتها فقد رأيت أن أختم كلمتي بتفسير حلم رآه أحد مرضى العالم النفساني (يونج) قال:
(حلم رجل مثقف في الخمسين من العمر أنه حاول أنه تسلق جبل عال فكان صعوده في أول الأمر شاقاً ولكنه كلما أمعن في الارتقاء كان التسلق أهون، وبعد أن بلغ القمة مشى في الفضاء ثم استيقظ
وبالتحري علمت أنه رجل متمرن على تسلق الجبال بدون مرشد وأنه يشعر بلذة عندما يرى نفسه في موقف خطر، وقد كان عاثر الجد في زواجه مشمئزاً من عمله، وقد فسرت حلمه بالآتي:
عندما كان متعلقاً بالحياة كان ارتقاء الجبل شاقاً إذ كانت تتنازعه رغبتان متضادتان: الرغبة الظاهرة في الحياة والرغبة الدفينة في الموت، ولكنه كلما أغرق في استسلامه لهواه صار لديه الصعود أسهل
ولم يكن سيره في الهواء سوى تعبير عن رغبته في الموت وقد هوى من قمة جبل ومات بعد مضي نصف عام من هذا)
محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية
شعر الزواج
للأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل
لعل (شعر الزواج) على هذا النهج موضوع جديد، كان لكل جديد غرابة، فقد تزول الغرابة بالبيان
يتناول الشاعر، وسائر أهل الفنون، حوادث حيواتهم بالشعر والتعبير. والزواج من أهم حوادث الحياة. فإذا تزوج شاعر يحسن الشعور بالزواج فكيف لا يكتب القصيد في حياته الزوجية؟! وإذا اقترن موسيقار فلماذا لا يشدو بقرانه؟
ويباح للشاعر وصاحب الفن الجميل الغزل بالفتاة الصبيحة، حتى نسب إلى أبي بكر الصديق أنه تغزل فقال:
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث
…
أرقت، أو اُمْرٌ في العشيرة حادث؟
وحتى أنشد كعب بن زهير النبي محمداً عليه الصلاة والسلام شعراً بدأه بالغزل على عادة العرب فقال:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم إثرها لم يفد مكبول
فهذا الغزل بالفتاة مباح للشعراء فكيف بالزوجية؟! إن الزوجة أحق بالغزل. ومن الغزال لائق وخليع. فللزوجة غزل لائق مهذب
هذا النقص في شعر الزواج يسترعي النظر. فهل وجد معظم الشعراء وأهل الفنون زوجاتهم تافهات؟ فإذا فرضنا هذا فإن لكل جديد فرحة ولو كان تافهاً. على أن الزوجة التافهة قد لا تظهر تفاهتها سريعاً. والناس مختلفون في غنى الشخصية. فقد تفرغ شخصية بعد أيام من الصحبة وتفرغ أخرى بعد أشهر، على حين تفرغ أخرى بعد أعوام، وغيرها لا تفرغ أبداً ما عاشت ثم بعد الممات. ففي فجر الحياة الزوجة تحس النفس المعبرة بتحية صادقة لهذي الحياة الجديدة. هذا منطق الشعور، وتلك طبيعة الإحساس. فإذا ما جاشت النفس وسطر القلم العواطف ثم بدت الزوجة تافهة عز على صاحب الفن وأْد فنه. هنا يجب التفريق بين فن صادق وشيء خادع ألهمه. فهذا (شلي) كتب قصيدة رائعة في فتاة باهرة السطوح بائرة الدخائل، ظهر زيفها قبل أن تتم القصيدة! راحت فرحة الشاعر، وضاع أمله وعراه الخجل، ووشابه الكدر، ومع ذلك أبقى على القصيدة وعاشت وخلدت
وعلى رأسها إهداء تبطنته سخرية الحق من فطنة الإنسان!
في الحق أن نقص شعر الزواج يسترعي النظر!
لقد آن أن يكون أدب داري جنب ذاك الأدب الطليق من كل قيد اجتماعي. آن إنصاف الحليلة. آن أن ينصف الشعراء أنفسهم من ظنة حب ما لا يملكون ومقت ما يملكون لأنهم يملكونه كما يكثر بين البلداء والجهلاء والعامة
وللزواج نصيب عند شعراء أوربا في الأساطير والشعر الكلاسيك. غير أنه نصيب غير كاف وغير شامل عند شاعر واحد فيما أعلم
وله نصيب عند المثقفين
فمن الأساطير هذه القصيدة:
(أخيراً أقاما بيتاً كريماً، ظلة منزلية، والعرش غير بعيد من الأرض، مصنوع من القصب والقش معاً عاش هناك بوسيس وفيليمون، وهناك عاشا زوجين طويلاً، وزوجين سعيدين: والآن هما في الحب قديمان، مع أن ذخرهما ضئيل،. . . والأمر عدم، حيث تبودل الحب المتكافئ، أو الأصح أن كليهما أمر، وكليهما أطاع. . .
(هكذا حينئذ نظر رب الأرباب نظرات هادئة قائلاً: تمن يا واحد الرجال عدلاً؛ وأنت يا مرأة وجدت وحدها جديرة بمثل هذا الرجل في رباط زواج
(همسا هنيهة؛ عندئذ كلما (جوف) هكذا يفضل فيليمون دعاء وصالهما ولأن أي عمل في حياتنا لم يدنسه النزاع الأهلي، نسأل ساعة موت واحدة: فلا هي تبكيني بدموع الأرملة إذا عاشت لتدفنني، ولا أنا بذراعين واهنتين أحمل بوسيسي الهامدة إلى القبر باكياً
(وأشارت رؤوس الرب موافقة)
إلى أن قال بعد تحولها معاً إلى شجرتين مورقتين:
(. . . سنديانة فارعة قرب زيزفونة تنموان. . .)
ومن الكلاسيك:
تزوج لورد تنيسون بامبلي شلوود، و (كان الزواج من كل النواحي ناجحاً، وكان الشاعر يقول فيما تلا من حياته: حين تزوجتها نزل سلام الله على حياتي)
وقد نظم تنيسوون شعراً عنوانه (صباح القران) جاء فيه: (هنا للحب الختام الذهبي، كل
اختطابي قد فُعل) إلى أن قال: (لأن هذا للحب الصباح الذهبي، وأنت نجم صباحه) حتى قال: (قلبي، أأنت كافي العظمة لحب لا يكل؟ أيها القلب، أأنت للحب كافي العظمة؟ فقد سمعت بأوراد وأشواك)
وقد كان لورد تنيسون حيياً شديد الحياء، وكان من الأرستقراط
اقترن شلي بهريت وستبروك، وبعد عامين نظم فيها قصيدة عنوانها (مساء. إلى هربت) ختمها قائلاً:(كذلك كان محبك يا هريت. هل استطاع إطارة أفكار كل ما يجعل عاطفته عزيزة؟ وينشد ثقوباً في نسيج سعادتنا الموصول عائداً بغير حس من مسك الدافئ؟)
وختم قصيدته (إلى أيانب): (وأنت عزيزة أكثر حين تبدي خصائصك اللطيفة رسم جمال أمك)
ثم اقترن بماري جدوين، ومضت سنوات ثلاثة فنظم فيها حينئذ يقول بعنوان (إلى ماري شلي):
(الدنيا موحشة، وأنا تعب من تطويفي بدونك يا ماري؛
(كان في صوتك وبسمك من قبل فرح. وقد ذهب، يا ماري، حين وجب ذهابي كذاك)
ونظم (إلى ماري شلي) يقول: (ماري العزيزة، أين ذهبت وخلفتني وحدي في هذي الدنيا الموحشة؟ في الحق هنا شخصك - شخص جميل - لكنك فررت منحدرة في الطريق الموحش المؤدي إلى أظلم منازل الشجن. . . . . .)
وله غير ذلك في الزواج قصيدة متبوعة ولكنها عامة السياق وليست في زواجه
وكان شلي (جاداً على العموم، وكان مع ذلك قديراً على المزاح وكان كامل الأدب الذي هو طابع الأرستقراط الصغير)
وكان على حياء العذارى، يتورد وجهه من المقابلات أحياناً.
ومن المثقفين:
القائد الكبير الأرستقراطي فون هندنبرج، يقول في سيرته:(وجدت في زوجتي صاحبة محبة قاسمتني بولاء ودون ملل مسراتي وأحزاني، ومهامي وأعمالي)
كذلك للزواج نصيب في الموسيقى الأوربية الكلاسيك.
فقد ألف الموسيقار تشرد شتراوس (السيمفونية الأهلية) و (السيمفونية الأهلية إحدى
كبريات قصائد شتراوس السيمفونية. وتمثل يوماً في حياته هو وقرينته وابنه الطفل)
وألف الموسيقار يوهان شتراوس (فالزاً) سماه (أجراس القران) أيام عرسه
أما نصيبه عند العرب فضئيل، وهو على ضآلته شتيت
قال الحسين عليه السلام في امرأته الرباب وابنته سكينة وقد عاتبه أخوه الحسن عليه السلام في امرأته:
لعمرك إنني لأحب داراً
…
تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي
…
وليس للائمي عندي عتاب
وقال الحسن بن هانئ يحكي عن زوجته:
تقول التي من بيتها خف مركبي:
…
عزيز علينا أن نراك تسير
فقلت لها واستعجلتها بوادر
…
جرت فجرى في جريهن عبير
وهنا نعوج فنذكر من مراثي الزوجات والأزواج، فإنه غزل حزين
قال الوزير الشاعر محمد بن عبد الملك الزيات في زوجته حين ماتت:
يقول لي الخلان: لو زرت قبرها
…
فقلت: وهل غير الفؤاد لها قبر؟
على حين لم أحدث فأجهل قبرها
…
ولم أبلغ السن التي معها الصبر
وقال جرير في قرينته:
لولا الحياء لهاجني استعبار
…
ولزرت قبرك والحبيب يزار
وقال الإمام علي في عقيلته السيدة فاطمة كريمة النبي وهو على قبرها: قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي
و (رَثَت) الرباب بنت امرئ القيس زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت:
إن الذي كان نوراً يستضاء به
…
بكربلاء قتيل غير مدفون
سِبط النبي، جزاك الله صالحة
…
عنا وجنِّبْتَ خسران الموازين
قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به
…
وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتامى ومن للسائلين ومن
…
يغني ويأوي إليه كل مسكين
والله لا أبتغي صهراً بصهركم
…
حتى أغيب بين الرمل والطين
والشعر العربي الحديث مقصر في هذا الباب. وهاهم أولاء جل أعلامه المتزوجين:
البارودي وصبري وشوقي وحافظ وولي الدين والزهاوي وشكري والمازني قد خلت دووانيهم من شعر الزواج الشخصي
ولا تثريب على كل شاعر عزب
أما البارودي فقد تأهل مرتين فلم يستقبلها بالقريض ولم يترنم بالزوجتين بعد ذلك. ولكنه رثى الأولى رثاءً كأنه غزل حزين وكانت الوفاة بمصر والمرثاة بسرنديب. وهذه أبيات مجموعة منها:
لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي
…
تقوى على رد الحبيب الغادي
كم بين عاديٍّ تملي عمرَهُ
…
حقباً، وبين حديثةِ الميلاد؟
سر يا نسيم فبلغ القبر الذي
…
بحمى الإمام تحيتي وودادي
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى
…
هيهات، ما ترْكُ الوفاء بعادي
وأما الأستاذ المازني فحين كان ينظم لم يكن لقرينته نصيب من نظمه، فلما هجر الشعر كان لها من نثره أكبر نصيب؛ وكان النظم والتناول الشعري أولى بهذا الحديث! وهو مع هذا يقول عن نفسه:(. . . ومن متناقضاتي أني على حيائي أراني في كثير من الأحيان ثقيل الصراحة)
أستطرد من هذا إلى علمين من أعلام الأدب هما الدكتور هيكل باشا والدكتور طه بك، فهما وإن لم يطرقا الموضوع فقد طرقا هامشه طرقاً خفيفاً. ذلك أن الدكتور هيكل تحدث عن قرينته في كتابه (ولدي)، وأن الدكتور طه قال عن قرينته يخاطب كريمته:(لقد حنا يا بنتي هذا الملك على أبيك فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملاً، ومن الفقر غنى. ومن الشقاء سعادة وصفواً) وذكر كيف تعرف إليها وكيف كان أثر صوتها في نفسه
ثم أعود إلى حديث الشعر فإني قرأت قصيدة (ليلة الزفاف) للأستاذ إبراهيم العريض، وهي قصيدة (من وراء الستار) كما قال فإنه فصل فيها تفصيلاً ختمه بقوله:(فضمها شوقاً لأحشائه)
ثم قرأت قصيدة (عيد ميلاد سعيد) للأستاذ العوضي الوكيل قال فيها:
يا زوجتي، يا هواي، يا أملي
…
قلبي بمعنى سناك محشود
من منذ عشرين غير واحدة
…
ومعدن الفن فيك موجود
ولكن أين الخطبة وما تلاها إلى (عيد الميلاد) عند الوكيل؟ وأين ما قبل ليلة الزفاف وما بعدها عند العريض؟
فإذا جاز لي أن أمازحهما قلت: ألم يعجب الأستاذ العريض من الزواج غير ليلة الزفاف؟. . . وهل كفى الأستاذ الوكيل نفسه شر غلاء الحرب في هدية العيد فأهدي القصيد؟. . .
وهكذا لم أجد شاعراً نظم الشعر في حياته الزوجية أو نثره، فشمل بشعره تلك الحياة. وقد وجدت الشعراء المجيدين الذين لا أثر للزوجية فيما رنموا!
في الحق أن نقص شعر الزواج يسترعي النظر
عبد المجيد مصطفى خليل
من وحي المنصورة
الهروب من النفس
للأستاذ حبيب الزحلاوي
صديقي الدكتور مبارك
سواء خُدعت فوقعت في الشرك المنصوب، أو سولت لك نفسك صيد السمك في المنصورة، أو طمعت في سماع أحاديث (الزيات والزناتي) الحلوة وغير الحلوة، أو طاب لك أن تثرثر في رفاق ظننت أنه لا يستوي عندهم كلامك المقول والمكتوب، سواء أكان هذا أو ذاك، فأكبر الظن عندي أنك فزعت إلى البلد الأمين تنشد الهروب من نفسك!! أليس كذلك؟
للهاربين من نفوسهم قصص وحكايات يعرفها ويضمرها السكير والحشاش والمقامر، وأيضاً المتسكع في الطرق، والضارب في الفلوات، والقاعد في المقاهي، وكل هذه أنواع من بواعث، وأشكال من أسباب، يفتعلها المأزوم للخلاص من همه، فيها الظريف المستملح، وفيها المجرح المؤلم
ومن أظرف حكايات الهاربين من نفوسهم حكاية فزع إبراهيم ناجي الشاعر إلى ديوان زميله ونده الشاعر قسطندي داود كلما استحكمت أزمة نفسه أو افتعلها لها من توهماته وظنونه، ومن يقرأ أشعار ناجي ير مسحة من روح (داودية) شفافة تجلي غمامة الصدر وتبعث الضحك؟ ولو كنت يا صديقي ممن قدر (عليهم) أن يكونوا عرضة للأزمات النفسية التي يزنها الشاعر بميزان مزاجه وعاطفته وتصوراته، فعليك بلا توان بواحد من ديواني شعر الدكتور ناجي أو قسطندي داود فالبرء في قراءة أشعارهما لاشك مضمون
وحكاية ثانية عن الهاربين من أنفسهم بطلها (العبد لله) فعندما تغشاني الغاشية وتكون مسببتها الشيطانة (هي) لا أعمد إلى المسكر، ولا إلى أي سبب يمت بصلة إلى تغشية الواقع بالأوهام أو طلائه بالضحك، بل أتناول كتاباً ضخماً أسميته أنت تجوزاً أو اعتباطاً (ليلى المريضة في العراق)
وكنت أقلب، يا صاحبي المبارك، صفحات كتابك صفحة فصفحة، وأمعن وأغذ السير معك، متشوقاً متطلعاً إلى رؤية وجه ليلى الممرضة يصطفق روحها نفسي المريضة، فكان
يجابهني وجه الحريري، أي الصفاح من خدك الأعوس، فأضحك وأضحك! ولكن سرعان ما أطرح الكتاب جانباً، وأنطوي على نفسي أستجمع قواي المبعثرة وذهني المرتكز حيال أمر واحد متكتل كخيوط في الشوك
لسبب لا أذكره ترفعاً وكبرياء، وجدت نفسي في حومة الأزمة الجائحة تحيط بي الثائرة المجنونة من كل جانب، تسد علي المسالك
تعلقت بكل خيوط الفرج من أضراب ناجي وداود ومبارك وأمين في قصة سارة، أطبقت الأزمة على نفسي وألقتني في الأسر والعبودية! وإن من الناس يا صاحبي من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم
تذكرت الخدعة التي أوقعك فيها أصحابك، ووسيلة (صيد السمك) التي حفزتك إلى السفر إلى المنصورة، فلقيت أنت فيها الوحدة والوحشة وانقباض الصدر فأخذت تصرخ وتئن! أما أنا فقد صفقت لها طرباً، فعمدت في التو إلى خداع نفسي، فركبت السيارة إلى المنصورة، وصدفت عمداً عن (الزيات) وكافورته، وألقيت بنفسي في وهاد الوحدة
حقاً إنه لأمر مروع يا مبارك أن يبقى الإنسان منفرداً في عتمة الليل عند شاطئ النيل الساجي لا يسمع إلا رشاش الأمواه تقطر من مجاذيف الفلك، مع من أقامه قاضياً على نفسه ومنتقما منها بالشريعة التي اشترعها، ولكني لقيت الراحة في الانفراد ليقين صادق مني بقول نيتشه القائل:(إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه؛ فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت)
لم أستسلم لهذه الأمنية بل صممت على الظفر بالعواطف والانتصار عليها
كدت أسقط يا صاحبي فريسة سمكة ليلية حاولت اصطيادي مستغلة وحدتي وانفرادي، والمنفرد كما تدري، يمد يده مسرعاً بلا وعي لمصافحة من يلتقي بطريقه، ولم يصدني عن مدها سوى خيال بدا كالشبح أمامي وهمس في أذني:(إن كثيراً من ساميات الأفكار أضراب شيطانتك تعمل عمل الأكرة المنتفخة فلا تكاد تتضخم حتى تضمر) وأردف قائلاً بصوته الأجش وقد شاع شيوع الروح في جوانب نفسي (أأنت عاشق أيها الأديب المنفرد؟ اعشق نفسك أولاً ثم احتقرها، فالأديب العاشق لا يبتدع إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب!!)
غاب الشبح عن ناظري فلقيت نفسي أسير على غير هدى وبيدي ما يثقلها وهو كتاب
لتوماس هاردي ترجمه الأديب فخري أبو السعود. جلست في أول قهوة رمضانية أقرأ روح هذا الشاب المنتحر وقد مزجها بروح المؤلف العبقري
عليك الرحمة أيها الأديب المنتحر فقد عرفت كيف تحب وتنجب وتحتقر، وكيف تتفوق على إنسانيتك، أما أنا فمازلت أحب، وأحب الحياة. . .
وأنت أيها الدكتور مبارك فسلام عليك من صديق يحبك ولا يحتقرك
حبيب الزحلاوي
عراك في معترك
أي معترك!
للأستاذ زكي طليمات
- 2 -
تعسف الأستاذ محمد متولي في رده علينا متسقطاً أخطاء لم تقم إلا في وهمه، وأسف إلى السباب وسقط الحديث في جدل يجب أن يسوده الوقار والحجة العلمية، كما أوضحنا ذلك في مقالنا الأول، فانحرف متولي بذلك عن (موضوعية) النقد الذي تحدث عنها بطرف لسانه دون طرف سنانه
(1)
حكاية الفيلسوف المعاصر
والدليل على ما نذهب إليه - وهو ليس الأول والأخير - أن متولي في غيبوبة ألمه - ومصدر هذا الألم أننا رددنا أقواله بالحجة - أصدر أمراً بإرسالنا إلى (محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته وتعاقبهم على جناياتهم) لأننا وصفنا في سياق حديثنا الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) بأنه (الفيلسوف المعاصر)، هذا في حين أن وليم جيمس هذا توفي عام 1910، وكأننا بالأستاذ متولي يقول إننا تكلمنا عن فيلسوف لا ندري متى انتقل إلى الدار الباقية، وإن كلمة (معاصر) هذه لا تنطلق وصفاً إلا لفيلسوف ما برح يعيش في عصرنا برئتيه وبقلبه!
وحرصنا على أن يزداد الأستاذ متولي علماً، وبرنا بذهن القارئ الذي هو أمانة بين أيدينا يدفعاننا إلى التبسط في حديث ما كان أغنانا عنه لو كان الأستاذ متولي يعرف الموضوع الذي يجادل فيه، أو يعرفه ولم يغالط ويعاند
إن كلمة (معاصر) هذه تعدل على أقلام الكتاب عندنا كلمة الفرنسية، وهي في اصطلاح مؤرخي الأدب ونقاده تطلق وصفاً للآراء والاتجاهات الأدبية والعلمية والفنية التي يأخذ بها عصر من العصور في نواحي من نتاجه الذهني. وقد نص على هذا المعنى المصطلح عليه العلامة في مؤلفه (معجم اللغة الفرنسية) وهو حجة المعجمات الفرنسية بما يأتي:
' '
وترجمة هذا النص: (إن الرأي المعاصر هو مجموعة أشياء يعتبرها مجتمع ما حقيقة في عهد معين)
فإذا نحن وصفنا (وليم جيمس) المتوفى عام 1910 بأنه (معاصر فمعنى هذا أن آراءه الفلسفية مازالت يؤخذ بها في شئون الفلسفة وفي شئون الحياة. (فالبراجماتيزم) أو مذهب (الذرائع)، وهو المذهب الذي صاغه جيمس نفسه ما برحت له أطراف طويلة تمتد على الفلسفة الحديثة وعلى سلوك الناس. فقد قرر (موسوليني) يوماً أنه (يدين لوليم جيمس بكثير من آرائه السياسية، وأنه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً)
ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن (نيتشه) الفيلسوف الألماني المتوفى سنة1900، أي قبل وفاة وليم جيمس بعشر سنوات، له جانب كبير من فلسفته مازال (معاصراً) على الرغم من مرور السنين ووفاة صاحبها. فالدكتاتورية اليوم، ومظهرها النازية والفاشية، بدعوتها إلى استخلاص العنصر الآري ورعايته يهدد جانب العناصر الأخرى، إنما تستمد معينها من فلسفة (نيتشه)، التي تقوم على عبادة القوة، إذ القوة في نظر هذا الفيلسوف، كما هي في نظر الألمان والإيطاليين اليوم، هي الفضيلة السامية، والضعف هو النقيصة السافلة، والشر المستطير الذي يجب القضاء عليه!!
فإذا كان الأستاذ متولي لا يفهم هذا، أو هو لا يريد أن يفهمه مكابرة وعناداً فهانحن أولاء نسوق إليه براهين حسية تنهض حجة على ما نذهب إليه في أن كلمة (معاصر) يذهب معناها إلى ما قررناه، وقرره قبلنا كبار الكتاب والنقاد.
(ا) ألف العلامة دانيل مورنيه كتاباً في الأدب الفرنسي أسماه (تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين المعاصرين 1870 - 1927) درس فيه الشعراء والكتاب منذ 1870، فقدم أبحاثاً عن (زولا) و (دوديه) و (موباسان) و (فلوبير) وغيرهم من الكتاب و (بودلير) و (فيرها رين) و (مالارميه) و (فارلين) من الشعراء، باعتبار أنهم كتاب وشعراء معاصرون في حين أن جلهم توفوا منذ سنوات بعيدة، ذكر (مورنيه) هؤلاء وغيرهم إلى جانب المحدثين باعتبار أن مذاهبهم في الأدب ما برحت تسود نواحي من نتاج الأذهان في هذا العصر
هذا في المؤلفات الأدبية، وفي مؤلف يقرأه طلاب الأدب!
(ب) وفي الفلسفة - والأمثال عديدة - أخذ العلامة بالمعنى الذي ذكرناه لكلمة (معاصر) وذلك في كتابه (المسألة الأخلاقية والفكرة المعاصرة)، وهو كتاب ظهرت له طبعة بباريس سنة 1909، وفيه أنشأ المؤلف بحثاً في آراء العالم الأخلاقي الكبير صاحب مذهب (الآراء على أنها قوى)، وحصل بعد ذلك أن توفي العالم المذكور سنة 1912، وفي عام 1920 أعيد طبع هذا الكتاب بعد الزيادة والتنقيح. فإذا هو لا يزال يحمل اسم (الفريد فوييه) باعتبار أن آراءه في الأخلاق ما برحت قائمة، ولم يأت بعدها ما يعطلها أو يضفي عليها مسحة فوات الأوان!
فما رأي الأستاذ متولي في هذا؟ وبماذا يحكم القارئ؟ أنا متولي الذي يصح أن يقدم إلى المحكمة التي تحاسب المستهترين المتطاولين على العلم؟
(2)
الرمزية وعلم النفس وأيهما أفاد من الآخر؟
وثمة شيء آخر لا أسميه من جانب الأستاذ متولي الذي يحمل من العلم شهادة يزهي بها
ذكرنا عرضاً في مقالنا الذي صححنا فيه أخطاء متولي أن علم النفس أفادت منه الرمزية، فرد علينا متولي بأسلوبه الموصوف:(إن علم النفس عندنا شعبي خاطئ لا يزيد على ما نسمعه من بعض زبائن قهوة بيرون)
وردنا المتواضع أن نكلف الأستاذ متولي مشقة قراءة كتاب (تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين المعاصرين) السابق الذكر (الفصل الرابع الذي عنوانه (في البحث عن العوالم الخفية) صفحة 89 - 92) حيث رسم المؤلف العلامة (مورنيه) اتجاهات علم النفس عند الكتاب الاتباعيين والرومانيين، ثم عند الواقعيين والطبعيين، ليستطرد القول بعد ذلك في اللاوعية ' ونقتطع فقرة مما ورد في صفحة 92 خاصاً بما نذهب إليه ليقف القارئ على جلية الأمر ويحكم لنا أو علينا، وهانحن نترجم هذه الفقرة حرفياً:(وعند الفيلسوف برجيسون وغيره أصبح (اللاوعي) الشكل العادي للحياة الروحية، كما أنه غدا النبع الخفي الواسع العميق الذي تقطر منه حياتنا الواعية المنطقية. وإلى هذا النبع قصد الرمزيون منذ سنوات عديد يغترفون من معينه، وسار على أثرهم القصاصون والمؤلفون المسرحيون)
وإتماماً للفائدة التي نبتغيها للأستاذ متولي من هذا الدرس العابر نحيله إلى (الفصل
الخامس) من الكتاب نفسه (ص107) لنضيف إلى ما تقدم ذكره، تأثير فلسفة برجيسون في الرمزية عن طريق تغليب (البصيرة) على الذكاء والمنطق
وعليه فظاهر مما تقدم أن آراء برجيسون في علم النفس أثرت في الرمزيين ومن ذهبوا إلى استكناء العوالم الخفية، بعد أن نفى برجيسون مقدرة الذكاء والمنطق، وأكد تغليب الحياة الباطنة على الحياة الظاهرية. وكفى هذا دلالة على انبساط أطراف هذه الآراء على الرمزية وما تشعب منها فأفادت منها
(3)
أين هذا النص؟
وهناك في مقال الأستاذ متولي مثال ثالث ساقه لي ليقيم الحجة على أنه (يعرف موضوعه لدرجة تسمح له أن يصحح لي وللدكتور بشر فارس أوهاماً علمية نعيش فيها)
يقول متولي إن كتاب لجورجدوماس (طبعة 1923 - 1924)، وهو الكتاب الذي كان اعتمادنا عليه في التدليل القاطع على أن آراء (ريبو) في الرمزية فات أوانها. . . متولي يقول إن طبعة هذا الكتاب (منسوخة لأنها تطبع الآن في تسعة أجزاء زيادات وتفصيلات، وقد ظهر الجزء الخامس منها عام 1936. . . الخ)
والذي ندلي به هذا أنه من الجائز أن يعاد طبع هذا الكتاب، وأن تدخل عليه زيادات وتفصيلات، ولكن الذي لا نجيزه أن يختلق الأستاذ متولي أن الكتاب قد (نسخ) ولما يمض على الطبعة التي اعتمدنا عليها عشر سنوات، لأن (النسخ) إنما يأتي عن طريق إحلال آراء مكان آراء، وما على وما على الأستاذ متولي إلا أن يقدم النص الجديد في الطبعة الجديدة. وهو النص الذي ينسخ النص الأول الذي سقناه عن كاتبه العلامة (أبيل راي الذي عقد فصلاً بعنوان (الاختراع) في الجزء الثاني من الكتاب المذكور ص426، وفيه طعن في نظرية (ريبو) النفسية. . .
بيد أننا نؤكد أن متولي لن يقدم هذا النص، وعليه فسيبقى قائماً طعن (أبيل راي) في (مخيلة) ريبو، من حيث إنها خاضعة بعض الشيء لمذهب (الذرية الذهنية) وهو مذهب لا يؤخذ به اليوم. سيبقى هذا الطعن قائماً على الرغم من أنف الأستاذ متولي، مادام نظر العلماء إلى مذهب (الذرية الذهنية) حتى يومنا هذا يرفض الأخذ به
وقد يتساءل القارئ: لماذا يفتعل متولي هذه الأفاعيل ويفتئت على الآراء الفلسفية متحرجاً
راكباً رأسه؟ والجواب على هذا لا يخفى على من يعرف حكاية الثعلب الذي يطلق من جوفه ريحاً تعافها الأنف إذا أخذته الأيدي من كل حدب!!
نقف هنا وقد كفانا تدليلاً على ما تورط فيه متولي بعد أن ركب من غضبته شر الحمر
وفي مقالنا الآتي درس في الرمزية، كما نظر إليها (ريبو) نفسه، وكما أساء فهمها الأستاذ متولي
(للحديث بقية)
زكي طليمات
رسالة الشعر
جيرة الحرم النبوي
للأستاذ على الجندي
أَتَتْني عَنْكُمُ الأنباءُ تَتَرى
…
فإنْ صحَّتْ فقد عَظُمَ البلاءُ
أَحَقّاً أنكم بِتْمُ جياعاً
…
ولوْلاكمْ لما عُرِفَ السَّخاء
وأَنّكُمُ حِيَالَ (القَبْرِ) صَرْعى
…
أَنِيُنكمُ يَغَصّ به الفَضاء
تَفيضُ دموعُكم مِلَْء المآقِي
…
فَيُمْسِكها التَّصَوُّنُ والإباء
فإِنْ نَاحَتْ صِغَارُكُمْ بَكَيْتُمْ
…
لهَمْ من رحمةٍ وبَكى النِّساء
ولَوْ كُنْتُمْ (لموسى) أو (لعيسى)
…
من الأتباع عَمَّكُمُ الرَّخاء
وَأَمْسَيْتُمْ وَقَفْرُكُمُ ظِلَالٌ
…
وأشجارٌ وأزهارٌ وماء
وكانَ لكم (بأمريكا) حُبُوسٌ
…
وَوَافاكم من (الغَرْب) الحِبَاء
ولكن ضِعْتُمُ ما بَيْنَ قومٍ
…
أَشِحَّاء، وَإِنَّ الشُّحَّ داء
خَبرْتُ المسلمين، فمَا نَدَاهُمْ
…
سِوى الألفاظِ يَذْرُوها الهواء
يَفوقون الحصى والرَّمْلَ عَدّاً
…
وهُمْ - إِنْ نَابَتَ البلوى - غُثاَء
أَيَفْنَى جيِرَةُ الْحَرَمَيْن فقراً
…
ونحن بمصرَ يُفْنِينَا الثَّرَاء؟
وهم مِلْحُ الأنَام وآل (طَهَ)
…
عليهم تحسُد الأرضَ السَّماء
أجيِرانَ (الرسول) دَمي وَرُوحِي
…
فِدَاؤُكُمُ، وإنْ قَلَّ الفِداَء!
شَجَانِي خَطْبكُمُ فبكىَ قَرِيِضي
…
عليكم، والقريضُ له بُكاء
وَلَوْ حِيزَتْ لِيَ الدّنيا جَمِيعاً
…
لُجَدْتُ بها وفي وجهي الحَياء
وكنْتُ كفيْتُكم جَدْوَى أُناَس
…
إِذَا نُودُوا أَصَمَّهُمُ النِّداَء
وكان لكم - وَلَا مَنُّ عليكم -
…
ثوابُ الله - ومن - والجَزَاء
ولكنْ حَسْبُكم - والمالُ يَفْنَى -
…
دُعَائي، رَّبما نَفَعَ الدّعاء
علي الجندي
الفجر
سَكَب الفَجْرُ بالدُّجَى لآَْلَاء
…
عَبَّهُ الشّرْقُ فَانْتَشَى وَأَضَاَء
فَالسَّنَا زَاهِرٌ يُقِّبلُ آثا
…
رَ الدَّياجِي وَيرْشِفَ الأَندَاَء
زفَّت الشَّمْسُ رَكبَهُ ثمَّ أَلقَتْ
…
هُ عَلَى الأُفْقِِ صَفْحَةً بَيْضَاَء
وَالجِنَانُ الْحِسَانُ عَانَقَهَا النُّ
…
ورُ مَشُوقاً فَهَزَّها سَرَّاَء
هَتَفَتْ بينها الطيورُ وَصَاغَتْ
…
وَحْيَهَا الحُلوَ نَغْمَةً وَغِنَاَء
والغُصُونُ الرِّطَابُ حِليَتُهَا الزَّهْ
…
رُ عُقُوداً تُتَوِّجُ الوَرْقَاَء
أَطرَقَتْ والنَّسِيمُ طاَرَحَهَا الشَّوْ
…
قَ فَأَغْضَتْ وَبَاعَدَتْهُ حَيَاَء
تَنثَنيِ كَالقُدُودِ مَالَ بها الدَّ
…
لُّ وَتَخْضَلُ إِذْ تَمُسُّ الماَء
والأَزَاهِيرُ إِنْ تَرِفُّ فَسَكْرَى
…
رَشَفَتْ مِنْ كُؤُوسِهَا الصَّهْبَاَء
أَلفَّتَهْا يَدُ الطَّبِيعَةِ فَالْبَي
…
ضَاءُ حُبّاً تُعَانِقُ الحَمْرَاَء
قَبْسَةَ الفَجْرِ لَمْحَةٌ مِنْكِ فَضَّتْ
…
سُدَفَ اللَّيْلِ فَانْفَلَقْنَ ضِيَاَء
وَرَسُولٌ لِمُجْتَلَاكِ سَنِيٌّ
…
بَلَغَ الشُّهْبَ فَانْتَثرْنَ هَبَاَء
هَلْ لِفَجْرِ الرَّجَاءِ مِنْكِ انْبِثَاقٌ
…
يَطْعَنُ اليَأسَ طَعْنَةً نَجْلَاَء
(بغداد)
مصطفى كامل ياسين
أنا وأنت.
. .
أَناَ السَّماَءُ وَأَنْتِ البَدرُ بَرْعَمَهُ
…
كِمُّ الظَّلَامِ عَنِ الإِشْعَاعِ في صَدْرِي
قَدْ أَوْحَشَتْ رَحَبَاتِي يا حَبِيبُ وما
…
أَجْرَيْتَ أَنفْاسَكَ البَيْضاَء في نَحرِي
هُمْ غَلَّفوُكَ، فَمَزَّقْ سِتْرَ حُلكَتِهمْ
…
وَاسْطَعْ عَلَى أُفقِي المَهْجُورِ يا بَدْري
أَنَا الخَمِيلَةُ، تِيجَانُ الوُرُودِ ذَوَتْ
…
عَلَى ضَفَائِرِ أَشْجَارِي مِنَ الحَرِّ
والطَّيْرُ أَخْرَسَها عُريُ الغُصُونِ فمَا
…
عَادَت تُسِرُّ أَغَاِنيها إلى الفْجَرِ
وَأَنْتِ. . . أَنتِ رَبيعٌ في ضَمِيرِ غَدِي
…
وَسَوْفَ يُلبِسُنِي ثَوباً مِنَ التِّبْرِ
أَنَا الفْيَافِي، وَأَنْتِ القَطْرُ تَحبْسُهُ
…
أَنَاملُ الغَيمِ في العَلْياءِ عَنْ قَفْرِي
قَدْ أَخْمَدَتْ زَفَرَاتُ الْقيْظِ في كَبدِي
…
رُوحَ الحَياةِ وَمِنْكَ البَعثُ يا قَطِري
إنْ يَعقِدُوكَ فَبلُّلورُ السَّحَابِ غَداً
…
تُسِيُلهُ لَفَحَاتُ الشَّمسِ في ثَغرِي
أَنَا البَنَفْسجُ لَمْ يُبقِِ الْهَجِيرُ عَلَى
…
عُودِي سِوَى قَبَسٍ منْ هَالَةِ العُمْرِ
لَكِنَّما أَنْتِ دَمْعُ الطَّلِّ يَنْظِمُهُ
…
جِيدُ السموات أَسمَاطاً مِنَ الدُّرِّ
وفي الصَّباحِ يَرُذُّ النَّسْمُ في وَرَقي
…
بَعْضَ الدُّمُوعِ فَأَحْيَا ضَافِيَ السِّحرِ
أَنَا لَكِ الْعشُّ يَا قُمْريُّ. . . يُحْزنُني
…
أَنْ قَدْ نأَيتَ وَلَكِنْ أَنْتَ لَا تَدْرِي
اعْشَوشَبَتْ جَنَبَاتِي وَالُّلجَينُ جَرَى
…
تَحتِي يُناديك َ يَا ظَمآنُ!! لِلنَّهْرِ
إنْ يُسكِنوكَ بُرُوجَ الْمَاسِ سَامِقَةً
…
سَيحْتَوِيكَ حَنِينُ الطَّيرِ لِلوَكْرِ
(السويس)
عبد الرحمن الخميسي
أين يقيني؟
صَحَتْ بين جنبيَّ الهمومُ وأيقظتْ
…
دفيناً من الذكرى يثيرُ حنيني
حنيني لأيامِ الهوى وملاعب
…
بهن صَبَاباتي وهنّ جنوني
عليهن قضينا الليالي هنيئةً
…
تفيض بدنيا من منى وفتون
مضى الحُلمُ البسام وارفض سامري
…
وغيَّبَ عن عينيَّ نورُ عيوني
وماتت أناشيدي وحطم أرغني
…
ويا دهرُ هل شُوهدت غير ضنين
مضى في هدوءِ الوادعين وأغرقت
…
لياليه في صفو وطيب سكون
وأين الأماني الزهر والدهر باسمٌ
…
وهذي يد الأيام قبضُ يميني؟
وأين ربيع العمر والعود مورق
…
وأين يقيني؟ هل فقدت يقيني
فأصبحت لا ألقى الحياة ونورها
…
وأفراحَها إلا بعين سجين
سجين أضلته الهمومُ فما رأى
…
سوى عصفِ أسقام وعين سنين
(الإسكندرية)
مصطفى عبد الرحمن
رسالة العلم
قصة الفيتامين
الفيتامين ومرض الأسخربوط
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 7 -
غالباً ما يكون حلول الربيع مدعاة لبدء الإصابة بمرض الاسخربوط، وذلك عندما تعم الشكوى من الأمراض الناشئة عن تقلبات الجو كالضعف والخمول وفقد شهية الإقبال على العمل وآلام الرأس والشعور بالثقل في الحركة وآلام في الأطراف. ولم يهتد بادئ ذي بدء إلى تعليل هذه الأعراض ومعرفة أسبابها إلا بعد ظهور المعلومات الحديثة عن المواد الحيوية الموجودة ضمن الأغذية والطعام، ولأنه كان غريباً وداعياً إلى الدهشة والتفكير تفشي هذه الأمراض بين الناس في هذا الوقت من كل سنة، وفي الشهور: مارس، أبريل، مايو، التي ترتفع فيها أثمان الخضر الجديدة (حسب المقتضيات الأوربية)، وصدوف سواد الناس عن شراء الخضروات أو إقلالهم من استهلاكها، وبذا تقل طبعاً كمية الفيتامينات اللازمة لحفظ الكيان والصحة
ويعزى (مرض الربيع) هذا إلى نقص في كمية الفيتامين التي تدخل الجسم، يؤيد هذا القول ظاهرتان هامتان أخذتا من الإحصائيات. وأولى هاتين الظاهرتين هو بطء النمو عند الأطفال في هذه الشهور، وطبقاً لما تردد ذكره من ارتباط النمو بالفيتامينات، فقد تبين أنه تبعاً للنقص في تموين الجسم بالفيتامينات في وقت الربيع ينخفض مستوى النمو الجسمي العام، وثانياً ازدياد نسبة الوفيات في شهري مارس وأبريل؛ وهناك مثل ألماني يشير إلى هذا المعنى ويقول:(إذا أخطأ مارس وولى، كان لأبريل القدح المعلى). وإذا ما علمنا أن وجود الفيتامينات في الجسم يدرء عنه العدوى من الأمراض المعدية، ويحصنه ضد كثير غيرها، وأن خلو الجسم منها يجعله أكثر قابلية للرضوخ لكثير من الأذى والعلل - قام هذا دليلاً آخر على الصلة بين التغذية المفتقرة إلى الفيتامينات، وبين الزيادة الظاهرة في أرقام الوفيات. فإذا تم بهذا ولو لحد ما حصر الأسباب الرئيسية التي ترجع إليها أعراض مرض
الربيع. أي انخفاض مستوى نمو الأطفال وصعود نسبة الوفيات، فقد بقي سؤال آخر بلا جواب ألا وهو: أي نوع يا ترى يكون مرض نقص الفيتامين هذا الذي يسمى أول أعراضه وأولى صورة بمرض الربيع؟
ضمن أعراض مرض الربيع ظاهرة استعداد لحم الأسنان إلى الإدماء السريع حتى بأقل مجهود يبذل في تنظيفها، وتزداد هذه الظاهرة شدة وخبثاً وتتداعى عندها اللثة كلها إلى الإدماء وقد استعمل قديماً اسم الأسخربوط للتدليل على هذا المرض ولكنه نسخ بعدئذ بالتسمية الصحيحة بمرض نقص الفيتامينات. ويقابل الأسكربوط بالألمانية شاربوك، وهي منقولة عن الهولندية، شار بمعنى فتحة أو ثلمة، بك بمعنى فم، فيكون معنى الكلمتين مجتمعتين الفم الجريح أو الفم الدامي
ولقد كانت صورة المرض قديماً من البشاعة فوق ما يتصوره الإنسان، يدل على هذا البقايا العظيمة للجيوش الرومانية في عهود قياصرة الرومان وفي جيوش المحاربين الصليبين. ويُحدث المؤرخ السويدي أولاوس ماجنوس المولود عام 1490 في كتابه (تاريخ الشعوب الشمالية) بإسهاب عن إصابة رجال السفن الشراعية من رائدي القطب الشمالي من البحاثين وتابعيهم ومن صائدي الحيتان والسمك. كذلك كان ينشب المرض أنيابه على اليابسة بين الناس وقت الحروب والأسر والمجاعات، وبلغ من شدة وطأته أحياناً في العصور الوسطى وفي أزمنة الشدة أن أعتبر في المدن الكبيرة بجانب أمراض التدرن من الأمراض المستعصية التي لا يرجى معها شفاء. كما تخذ في عام 1911 في مدينة نوربنرج بألمانيا شكلاً وبائياً كارثاً إثر نكبة في المحاصيل الزراعية
وأعراض المرض في أواخر الشتاء أو أوائل أيام الربيع على المصابين هي التهاب اللثة وإدماء أغشية الفم المخاطية وإدماء ونزيف من الجلد والأنسجة والعضلات، ثم تثقل حركة الأرجل وتهزل هذه وتصاحبها آلام مبرحة في العضلات، وتفقد الأسنان تماسكها وارتباطها، وتضعف العظام وتصير هشة غضروفية. وإذا استمرت التغذية على ما هي عليه رغم هذه الأعراض فمصير المريض إلى التهلكة لا محالة. ولكنه إذا تنوع الغذاء وتعددت ألوانه وأضيف إليه الخضر واللحم الطازج، ولو بمقدار طفيف، تزول هذه الأعراض كما يزول كيد السحر
لم يبق شك بعد هذا في أن مرض الأسكربوط هو مرض غذائي. وفي أثناء الحملة الاستطلاعية التي قام بها شارل الثاني عشر ملك السويد على أراضي أوكرانيا في مستهل القرن الثامن عشر، عالج أطباء حملته مرضى الجنود بالاسكربوط بالحقن بواسطة إبرة من الخشب بمادة أتت بنتائج طيبة مما جعلها تلقى طريقها إلى مستشفيات برلين للعمل بها في علاج الاسكربوط. وقاوم الإيطاليون من قديم الزمن مرض الأسكربوط بعصير العنب، وصرح أحد الأطباء العسكريين النمسويين في عام 1720 بأن عصير البرتقال والليمون أكثر فعلاً في مقاومة الأسكربوط وقد أخذت برأيه حينذاك رياسة البحرية البريطانية واستعملته في عام 1804 فوق سفنها في علاج رجال بحريتها الذين انتشر بينهم هذا المرض الخبيث
ولقد ساعدت هذه المعلومات القديمة حتى حرب سنة 1914 في مقاومة ودفع مرض الأسكربوط بالرغم من وجود بعض الإصابات الشاذة التي لم تنجح مقاومتها. وانتشر المرض في بعض الأقاليم الريفية في روسيا التي تقتات بالحبوب وظهرت أعراض الأسكربوط بانتظام في بعض جهات ألمانيا والنمسا التي كانت تتناول غذائها من الأطعمة المحفوظة كاللحوم والبطاطس والخضر المجففة واللبن المكثف وتفشي كذلك بين الأتراك وأهل رومانيا ووجد مرتعاً خصيباً بين الأسرى الألمانيين والنمسويين الذين وقعوا في أيدي الروس. أما أثره في الكتائب الإنجليزية في العراق فيكفي أن أحصي عدد المرضى بالأسكربوط بأحد عشر ألفاً من الجند. وكذلك انتشر مرض الأسكربوط بين الأطفال في الجهات التي وقع عليها حصار بحري أو أرضي في الحرب الماضية، إذ تبعا لهذا الخناق وانقطاع الصلات عبر البحر أو الأرض لم يكن هناك غير اللبن المعقم للتدوال في إطعام الأطفال، واللبن المعقم تقل حتى تنعدم فيه الفيتامينات، وأخذ المرض في الأطفال شكلاً خاصاً وكان يخطفهم ويلقي بهم في دور الرعاية والمستوصفات حتى امتلأت بهم. وكانت أعراضه عليهم آلاماً حادة في العظام ومبرحة في الأطراف ومضخمة في المفاصل ومصحوبة بإدماء في الفم والجلد والأغشية المخاطية. وأما الظاهرة الهامة فهي الخوف الذي استحوذ على الأطفال من لمس أي شيء عفواً
وإذا ما أضيف إلى الغذاء أنواع أخرى منه غنية بالفيتامين كالإسباناخ مثلاً أو عصيدة
البنجر فلابد من أمل في الشفاء في أجل قصير. ويجدر بنا أن نورد هنا ما تصنعه كثير من الفلاحات الأوربيات اللائي لا يعرضن أبنائهن بأنفسهن بحكم الضرورة فهن يضعن بعضاً من البنجر المقشور في زجاجات لبن الأطفال
وحتى مع هذه النتائج والتجارب العديدة لم يتوصل أحد آنئذ إلى الكشف الصحيح أو إلى نتيجة حاسمة شافية تميط اللثام عن هذا المرض العضال الذي أخذ أشكالاً متعددة تارة عند الأطفال وأخرى لدى الكبار، وفي كل يبدأ على هيئة (مرض الربيع) وبين عامي 1907 و1912 توصل بعض العلماء النرويجيين بناء على تجارب غذائية دقيقة إلى إثبات حقيقة مرض الأسكربوط بأنه مرض غذائي. فقد حضروا غذاء خاصا من الشعير واللبن والبرسيم والعلف الجافة خالية من الفيتامين الواقي من الأسكربوط وأطعموا منه عدداً كبيراً من الحيوانات، فما لبثت أن ظهرت عليها أعراض شديدة الشبه بأمراض الأسكربوط لدى الإنسان. وفي هذه الآونة فقط أمكن البحث وراء المواد الشافية التي تحتوي على هذا الفيتامين المضاد للأسكربوط، والذي أطلق عليه فيما بعد الفيتامين كما بدأت المحاولات لمعرفة الكميات اللازمة من هذا الفيتامين التي يجب أن تتوفر في الغذاء كي تقف وتحول دون ظهور أعراض المرض
وبما أن عصيري البرتقال والليمون يعتبران من المواد الشافية الواقية من الأسكربوط، فكان طبيعياً أن يبدأ البحث فيها لاستخلاص الفيتامين، وكان لابد من التغلب على بعض العقبات التي اعترضت مجرى البحث في تحضير هذا الفيتامين في هيئة بلورية نقية ثم الكشف عن تركيبه الكيميائي. ولهذا أبتدأ تاريخ البحث عن الفيتامين أشبه شيء بالقصة، وكان من الأمثلة الحية على تعاون العلماء في مختلف البلاد تعاوناً جدياً للوصول إلى الحقيقة رغم بعض الاقتراحات الخاطئة المخلصة التي كانت تعرقل البحث وتؤخره.
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي
البريد الأدبي
اللغة العربية في ورقة رسمية
قال الأستاذ العقاد في مقال له بالدستور:
(وعلى ذكر الكتابة والوزراء والعيد والعيديات نقول إن الحكومة المصرية على ما يظهر قد أرادت أن تعيد على الناس بالورقة الجديدة ورقة ربع الجنيه
فانتشرت هذه الورقة في أيام العيد بعض الانتشار
وما أظن أن نقوداً وصلت إلى يدي قد نغصتني كما نغصتني هذه الورقة الخاطئة
ففيها يقرأ القارئ هذه العبارة: (أتعهد أن أدفع لدى الطلب مبلغ خمسة وعشرون قرش صاغ)
ثلاث غلطات نحويات في سطر واحد. . .!
فهل يسمح بمثل هذه الغلطات في عملة حكومة؟ وأية حكومة؟
حكومة مصر التي هي زعيمة الأقطار العربية!!
وحكومة مصر التي تضن على التلميذ الصغير بالانتقال من السنة الثالثة إلى السنة الرابعة الابتدائية إذا أخطأ مثل هذا الخطأ في ورقة الامتحان
لموا هذه الورقة مهما يكلفكم لمها من الأسواق والبيوت، وافرضوا على حصتي التي تخصني من هذه التكاليف، فهي أرحم من هذه الصدمة مع كل خمسة وعشرين قرشاً صاغاً يكسبها الإنسان)
العربية الغربية في دارها
سيدي الأستاذ الفاضل الجليل محرر الرسالة
تحية الله ورحمته عليك يا محيي العربية، ومعيد شبابها إليها وملبسها قديم حلاها حلة جديدة توائم العصر وتوافق الزمن، ولا تخرج - مع ذلك - عن المسنون من طرقها، والمعروف من مناهجها. وبعد:
فلقد قرأت يا أخي من سنوات في الأهرام قصيدة عصماء لشاعر عربي ممن رمت به مطارح الغربة إلى العالم الجديد يقول فيها هذا البيت عن اللغة العربية:
لغة يهون على بنيها أن يروا
…
يوم القيامة قبل يوم مماتها
وقرأت قصيدة المرحوم حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية وهي مشهورة مذكورة لا يخلو منها كتاب من كتب المحفوظات المدرسية التي تختارها وزارة المعارف
وتابعت - منذ أن تعلقت من اللغة بسبب - كل ما كتب لها وفي سبيلها أو اقترح لأجلها من إصلاح منهج، أو إنشاء خطة أو تبسيط قاعدة. ولستُ في ذلك نسيج وحدي وإنما أنا واحد من كثرة كثيرة يقلق جنوبها أن تصبح العربية غربية في دارها، أعجمية إلى أهلها، بغيضة إلى أحبائها
ومن أعجب العجب أن لغة لا يستهين بها أهلها كالعربية، وأنها على الرغم مما وضع لها من قواعد، وما عمل لها من ضوابط، لا تزال تلقى من الكاتبين أو المتكلمين بها إهمالاً كثيراً وقلة مبالاة، وعدم اكتراث، وذلك أمر لا تجده في لغة أخرى غيرها. فالإنجليزية يكتب بها الإنجليز وينطقون بها صحيحة منحاة؛ والفرنسية - على كثرة شذوذ الأفعال فيها - يكتب بها الفرنسيون وينطقون بها صحيحة منحاة؛ والألمانية - على صعوبة نحوها - يكتب بها الألمان وينطقون بها صحيحة منحاة. . .
أما العربية فهي مسكينة بين أهلها وبين الغرباء عنها، وحق للغريب أن ينظر إليها شزراً مادام ابنها لا يحسنها ولا يبالي أن يحسنها. . .
هذا كلام ثار في نفسي بمناسبة ظهور بمناسبة ظهور الورقة المالية الجديدة ذات الخمسة والعشرين قرشاً. ففيها غلطة نحوية شنيعة أشار إليها كاتب فاضل في إحدى الصحف اليومية وهي لا تخفى على كل قارئ
ثم يشاء الله لهذه الثورة النفسية ألا تسكن، فقد ألهبها من جديد في نفسي إعلان غريب عن نوع من الصابون لا نذكره لئلا يؤخذ ذكرنا له على سبيل الإعلان عنه
وإني لمقتبس من هذا الإعلان (العربي) بعض عبارات وأقدمها هدية متواضعة إلى الأخ الدكتور زكي مبارك مفتش اللغة العربية بالمدارس الأجنبية! فلعل عنده من الرأي ما يسعف، أو من العزاء ما يسلي. . . وإليك بعض العبارات:
(صابون كذا هو محصول فاخر نتيجة اختبارات (ثلاثون) سنة. . . نظراً لكونه (صنف جيد) لتحلية وتنعيم الجلد ويجعله (خملي). . . والحراير يمكن غسيلها بهذا الصابون الذي يستطيع بأن (يبيضوا) بدون ما يؤثر عليها. وبالإطلاق جميع الأصواف يمكن بأن
(يبيضوا) بصابون (كذا). ولا تحصل للملابس أي ضيق أو كشش)
ومن الغريب أنه بجانب هذا (الإعلان العربي) كتب إعلان آخر بلغة فرنسية صحيحة كل الصحة سليمة كل السلامة.
فإلى متى تظل اللغة العربية غربية في أهلها؟ وإلى متى تبقى سقيمة عليلة والمداوون كثبر؟
محمد عبد الغني حسن
سكران طينة
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
قرأت أن الدكتور الأديب أحمد عيسى قد نشر معجماً للمفردات العامية ذات الأصل العربي. وكان أحد عمداء الجامعة قد نشر أيضاً في بعض المجلات الأسبوعية شيئاً غير قليل من هذه المفردات والتعابير؛ وعنى الأستاذ المازني بالتنبيه إلى أنه يتحرى استعمال العربي الذي شاع أنه عامي فنبذ من أجل ذلك. ومثل الذي فعله المازني قد فعله الأستاذ محمد سعيد العريان في أقاصيصه
ويبدو أن أمر الاهتمام باللغة العامية لا يقتصر على أي عدد من الأدباء قل أو كثر وإنما هو ظاهرة من ظواهر النهضة الأدبية، كأن اللغة العربية تبحث عن حقها المضاع وتبدأ أول ما تبدأ باللهجات العامية فتسترد منها ما سلبته؛ ففي غير تنبيه إلى مثل هذا الغرض نشر الأستاذ أحمد رامي وغيره عدة دواوين باللغة العامية، فحرصا على خدمة المحافظة باسم التجديد، جزاهم الله خيراً عن المحافظين
ومن دواعي الدهشة في هذا البلد الشديد المحافظة أن تجد لفظاً جديداً في عاميته، فكلما سمعت كلمة خلتها جديدة أقنعتني مصادفة في كتب الأدب القديم بأنه لا جديد في اللغة،. .!
وآخر ما وجدته من ذلك كلمة سكران طينة؛ ففي شعر كشاجم في قصيدة مطلعها
متى تنشط للأكل
…
فقد كللت الخونة
يأتي هذا البيت
فما عذرك في أن لا
…
ترى من سكرة طينة
أم لعل للفظ معنى آخر، أم لعله من قواقع المطبعة؟
عبد اللطيف النشار
سكان مصر في الإحصاء الأخير
نقتطف هنا بعض ما تضمنه كتاب (الإحصاء السنوي العام) لمصلحة الإحصاء، من بيانات عن أحوال السكان في مصر
قدر عدد السكان في عام 1800، أي في عهد الحملة الفرنسية بنحو 2. 460. 200 نسمة، وكان عددهم في عام 1846 - مقدراً على أساس عدد المساكن - 4. 476. 440 نسمة
أما في عام 1917، وهو التاريخ الذي بدأت فيه مصلحة الإحصاء باتباع النظم الحديثة، فكان عدد السكان 12. 750. 918 نسمة، زادوا في سنة 1937 إلى 15. 904. 525، ثم بلغوا في سنة 1939 - 16. 522. 000 نسمة
وبلغ عدد سكان البحيرة حسب تعداد سنة 1937، 1. 060. 882 نسمة، بزيادة 91. 043 نسمة عن التعداد السابق
وسكان الغربية 1. 963. 654 نسمة مقابل 1. 791. 985 في سنة 1927، والدقهلية:1. 080. 693 نسمة مقابل 1. 119. 456 والشرقية: 1. 119. 456 نسمة مقابل 1. 016. 912، نسمة والمنوفية:1. 157. 433 نسمة مقابل 1. 105. 191، والقليوبية:607. 304 نسمة مقابل 558. 948. .
أما سكان محافظات أقسام الحدود فكان عددهم 121. 493 نسمة مقابل 94. 588 في سنة 1927
وبين سكان مصر 1. 670. 895 يلمون بالقراءة والكتابة، منهم 1. 386. 843 من الذكور و248. 052 من الإناث أما عدد الأمين فبلغ 12. 506. 969، بينهم 5. 671. 203 من الذكور و6. 835. 739 من الإناث
كلية التأريخ في أنقرة
من أنباء أنقرة أن الدكتور رفيق سيدام رئيس الوزارة التركية فتح كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا بحضور جمهور من الكبراء والعلماء، وقد ألقى خطبة قال فيها: (يسرني أن
أفتتح كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا التي أمر أتاتورك العظيم بتشييدها، وهي تعد من الأعمال المجيدة التي أنجزت خلال السنوات الأربع الأخيرة. وإني أشكر زملائي في العمل الذين وقفوا حياتهم على تلقين الشبيبة التركية مختلف العلوم
وقرأ الرئيس بعد ذلك فقرة من الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية التركية في حفلة افتتاح المجلس الوطني الكبير جاء فيه:
(إن أهم ما يتضمنه برنامج التربية الوطنية إقامة المعاهد الثقافية الكبيرة في أنقرة، لأننا نريد أن نجعل من هذه المدينة مركزاً للأناضول بما فيها من كليات ودور للأوبرا ومسارح ومعاهد، فيجب أن تعد أنقرة نموذجاً روحياً للجامعات الأخرى في البلاد. وبعد أن يتحقق ذلك لا نحجم عن تشييد مراكز ثقافية أخرى)
إلى علماء التاريخ
يقول الأستاذ الباحث صديق شيبوب في الرسالة الغراء عدد (383) أثناء تحليليه للعالم النفساني الكبير سيجموند فرويد ما نصه: (كان موسى من رجال حاشية الملك إخناتون الذي كان أول من قال بالتوحيد عند قدماء المصريين
ويقول الأستاذ طه الساكت في مقال ترتيب الأنبياء بمجلة الإسلام عدد (39) أول نوفمبر سنة 1940: (كليم الله موسى عليه السلام. . . بعثه الله تعالى رسولاً إلى فرعون وقومه ومنقذاً لبني إسرائيل من الذل والاستعباد. وكان فرعون موسى - وهو رمسيس الثاني على ما رجحه بعض الباحثين - يضطهد الإسرائيليين ويذبح أبناءهم). وقص علينا أساتذتنا أثناء دراسة التاريخ القديم أن فرعون موسى - هو الملك منفتاح - فهذه ثلاثة آراء متخالفة، فإلى أي رأي نتجه؟ وبأي قول نقول؟
فإلى علماء التاريخ وأساتذته يوجه الاستفهام والرجاء. وإنا لتحقيقهم لمنتظرون
محمود محمد بكر هلال
وصية أمين الريحاني
روت المكشوف أن السيد ألبير الريحاني عثر بين أوراق شقيقه فيلسوف الفريكة، على وصية مكتوبة بخط يده، تحتوى على عشرين بنداً، ومؤرخة في سبتمبر 1931
وتتناول هذه الوصية شؤوناً في الأدب والسياسة والدين ولكنه لا ينتظر في الوقت الحاضر نشرها. وقد حفظت بين آثاره الكثيرة التي يعمل شقيقه ألبير على جمعها ومراجعتها وترتيبها بحسب تواريخها وموضوعاتها
ومما تجدر الإشارة إليه أن أمين الريحاني كان يحتفظ بنسخة من كل رسالة يبعث بها إلى صديق، ومن كل بحث يرسله إلى صحيفة، كما أنه كان يحتفظ بكل صحيفة له فيها مقالة.
القصص
الملازم ألبير
للأستاذ محمد محمد مصطفى
كان يحمل أملاً بساماً بين جنبيه، وبشراً طافحاً في عطفيه وهو ينهب الطريق إلى قريته. لا يحس مسغبة وبطنه طاو، ولا يشعر بظمأ وحلقه جاف. وبدا الطريق كئيباً موحشاً وسوق القرية خالية وعهده بها غاصة بالوافدين. . . لشد ما غيرت الحرب معالم الطريق فلا ظل وارف ولا طير غرد وهذه الحفر من فعل الطائرات، وتلك الغابة أحرقها الألمان فامتد لهيبها إلى الحقول وأهلك ما فيها من زرع وضرع
ورأى قسيس قريته مقبلاً عليه فخيل للفتى أن فاجعة ألمت به فهو يمشي وئيد الخطى أغبر الوجه، كأنما يحمل على كاهله وقر السنين. ونراه يدنو من الفتى فيعرفه ويسلم عليه ويسأله:
- أحقاً يا بني سقطت بروكسل وألقيتم السلاح؟
فسقطت دمعة كبيرة من عين الفتى وقال:
- كان ذلك حقاً يا أبتاه. . . وإلا فكيف تراني هنا. . . أمرنا الملك بإلقائه فأطعنا وما كان لنا أن نختار وآلات الألمان تفتك بنا فتك الوباء
- ليغفر الله لليوبولد زلته. . . وإلى أين يا بني؟
- إلى أمي وخطيبتي يا أبتاه. إلى قريبتي الحبيبة (فورنتيه)
- خير لك يا بني أن تعود. فقد مسحت القرية من خريطة الوجود
- ماذا. . .!
- أقول إن الجيش الألماني لم يترك حتى ما يدل عليها
- وأمي يا أبتاه!
فربت القسيس على كتف الفتى، فكاد يسقط لفرط ما دهاه، وقال له:
- يا لها من ليلة هائلة يا بني. تعال، اجلس هنا على حافة الطريق، فقد هدني من يومها الهم وتضافرت على جسمي الأمراض. . . وسكت قليلاً كأنما يستعيد ماضياً بعيداً ثم أردف:
- كانت فرقة من الجيش البلجيكي تعسكر في غابة القرية حينما هاجمتها الطائرات وأشعلت فيها ناراً أمتد لهيبها إلى عنان السماء، فبدت القرية على وجهها هدفاً ممتازاً دكته الطائرات. . .
وضرب الفتى في الطريق إلى بروكسل تنوء بحمله ساقاه وتخذله قوته، فيسقط في الطريق
- أماه. . . انظري! إنه ضابط من فرق القناصة يحتضر
- ماء يا فلورندا من النبع الرقيب
ويفيق الفتى ليرى رأسه على حجر امرأة فيشكرها، وتعاونه الأم وابنتها على المسير إلى كوخهما القريب
- تفضل فاجلس على هذه الحشية فلم يعد لنا بيت ولا أثاث
وبدا على وجه الفتى آيات من الألم الممض والحزن العميق. ولما قدمت له فلورندا شيئاً من الحساء، أحس بالدفء والراحة واستطاع أن يتكلم. . .
وانتشرت نفس الأم عليه رقة ورحمة، وأحبته الفتاة في صمت. ولم يأبه بذلك الفتى، ولم يجد له فراغاً بقلبه المعذب المفؤود
وجمعتهم نكبتهم المشتركة في قريتهم وأعزائهم فكان جل حديثهم يدور حول دمار بلادهم. وتصعب معرفة من كان منهم أشد سخطاً على الألمان، ولكن الفتى كان أكثرهم جنوحاً للصمت والتفكير العميق
. . . ويوماً قال ألبير:
- ليست فلاحة الأرض صناعة ضباط القناصة ولا يليق بي وقد رزئ وطني باحتلال النازي أن أكون هنا
- فأين يجب أن تكون يا ألبير؟
- في العاصمة أو حولها ليشعر الألمان أننا لم نستكن لحكمهم، وأن في بلجيكا رجالاً
فأدركت الأم مرماه وقالت: إنك تلقى بنفسك في أوار الجحيم
قال: لأشارك أمي ميتتها وقريتي محنتها
وعبثاً حاولت الأم ثني عزمه. . .
أما الفتاة فقد بكت قائلة:
- أرجو أن تبقى هنا إلى جانبي أعوضك من حناني ما فقدته من حنان الأم. . . ألا تسمع. . .؟ إنني أرجو. . .
- أرجو أن تسكتي فقلبي عنك في شغل. . .
صادفت دعوت ألبير هوى في نفوس المنكوبين المغامرين الذين سرحوا من فرقته، وكان عملهم منظماً شأن رجال الجيش، فبعضهم لنسف الكباري، والبعض الآخر لقطع الجسور، وهؤلاء للسطو ليلاً على المخافر الصغيرة، والاستيلاء على الأسلحة والذخيرة، وأولئك لاقتناص البارزين من رجال الحملة الألمانية وغير ذلك من الأعمال التي سببت للمحتلين شتى المتاعب
وشاع أسم ألبير في وطنه وأكبر مواطنوه ووضع الألمان جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً
وكانت فلورندا تتلهف شوقاً لأخباره وقلبها الطاهر الغض يذوب إشفاقاً عليه، وكان جل مناها أن تراه فتتبعه رضي أم كره وتعنى به، فمن يطبخ له يطبخ له ويوقد له النار ويرتق له الصدار. . . كانت غارقة في الحب مسبوهة اللب، وكأنما كان ألبير يضفي على الحقل بهاء والدوح رواء والسماء صفاء، فلما ذهب أضحى الكون موحشاً كئيباً والجو خانقاً والشمس مصفرة حزينة كأنما تشاركها الألم وتقاسمها الشجون
وتأسى الأم لذهول ابنتها وإغراقها في حب رجل أهدر دمه. . . ولن يعود، فتقول:
- وهبك ملأت الأرض أنيناً، أفتظنينه يسمعك يا فلورندا
وتحطمها كلمات الأم فهو حقاً رجل هالك كان في حياتها كل شيء فلما ذهب خسرت كل شيء ولكنها لا تطرف ولا تجيب وتلوي عنانها إلى الحقل تطوف بمجالسه، وتلثم آثاره، حتى إذا ما ألقى الليل غواشيه قفلت عائدة وفي صدرها سعير من الوجد يذيب الحشا ويرمض الجوانح
ولم يذكرها ألبير فقد ملكت عليه ثورته لوطنه كل جارحة فيه، وكان ينفث من حميته الهائلة وفكره الجبار ناراً تدفع بزملائه إلى أهول الأخطار. فإذا انكفأت إليه ذكرياته وألح عليه ماضيه بدت له فلورندا شبحاً باهتاً يظهر ويختفي كلما سلب من حياته الجديدة ساعة فراغ
وضجت قيادة جيش الاحتلال من فعاله فشددوا الرقابة وبثوا في مظان وجوده العيون
ويوماً شاع في العاصمة أن قطاراً قادماً يحمل زائراً عظيما فسرى بين الناس أن هتلر هو راكب القطار
وكيفما كان الراكب فقد عزم ألبير على أن يفجع الألمان فيه.
وكان بارع التدبير حار الحماسة لتدمير القطار
ووقف على شاطئ خياله ليرى هتلر تبعثره الألغام وإذا الدنيا كلها بين يديه تسأله أي جزاء يختار. . . حقاً. . . ماذا يختار؟
قال لنفسه: (أأكون ملكا. . . ولم لا. وأنا منقذ العالم من الدمار؟)
ودخل من خياله إلى قصره الملكي الموشى باليانع من الزهور الملفوف بالباسق من الأشجار تشدو عليها الطيور، فإذا العرش ممرد منيف والفراش وثير، وإذا المائدة تزخر بألوان من أشهى الأشربة وأطيب الآكال فيأكل ويروى ويسلم جسده لأريكة من فاخر الرياش
ويطير بأحلامه صفير القطار. . . إن نوره القاتم يشق غياهب الظلام وهو يقبل مسرعاً إلى حتفه المحتوم - فتهيأ ألبير للعمل العظيم. . . قال: القطار الآن فوق المنطقة الملغومة. فلأشعل الفتيل
وي. . . أن الألغام لا تنفجر. . . أترى رفعها خائن أم أخطأ في تركيبها زملائي المفاليك
وسمر ألبير في مكانه ليرى بغتة صرح آماله ينهار بينما يجري القطار على قضبانه متطامناً سلس القياد
وأخذت تنتاب رأسه فورات من اليأس والحزن العميق. فجلس على أنقاض حلمه وقد كست عينيه غشاوة حجبت عن ناظره المرئيات. وسمع قهقهة عالية فريع قلبه ونظر فإذا جنود تحيط به كأنما قد تثاءبت عنهم الأرض
- لقد أجهدتنا كثيراً يا ألبير
قالها قائد القوة في تهكم وتشف
وأسقط في يد ألبير ولكن روعه أفرخ حينما ذكر أنه أدى لوطنه رسالته وإن كانت لم تتم، وكان رافع الرأس شامخ الأنف وهو يمشي بينهم إلى حيث لا يعود
وطلعت الصحف بنبأ القبض على الثائر ألبير وقرار إعدامه في ساحة عامة ليكون عبرة
لمواطنيه
وزلزلت فلورندا ومادت برأسها الدنيا واحلولكت مرائيها
وضربت في الطريق إلى بروكسل تتقصص أثره وتتسقط خبره، بينما يصهرها الأسى ويفري أحشاءها العذاب، وشاطرتها الطبيعة الألم، فاربد وجه الجو وهطل المطر غزيراً كأنما فتحت ميازيب السماء
وكنت ترى في شوارع بروكسل فتاة ذاهبة العقل تمشي الهوينى مرتهكة الأوصال والناس يقتحمونها بأنظارهم مشفقين
ولم يجد قائد حامية بروكسل في مظهر الفتاة القروية ريبة فسمح لها بوداع (شقيقها) ألبير
ومشت فلورندا في ممرات السجن الرهيب تتلمس سبيلها كالعميان، ونزلت إلى قبو رطب تنفذ أشعة ضئيلة من كوة فيه، وكان ألبير يقبع هادئاً في ركن منه. . . وتبينته بعد لأي فرمت نفسها على صدره، وطوقت عنقه وراحت تقبله:
- أواه يا ألبير. . . ألا تنبئي. . . أنا الوالهة فلوراندا
وأرتج على ألبير. . . وشدهته زيارتها الطائرة وفاض صدره بالسعادة التي أقبلت عليه في غمرة همه. . . أي مفاجأة هذه. . . أو كانت تضمر له هذا الوجد وهو عنها لاه بالفتك بالألمان؟ قال:
- ولكن ذلك يحببني في الحياة يا فلورندا وقد نفضت يدي منها
ويغص فم الفتاة بالأنين والزفرات، وتخرج كلماتها كحشرجة المحتضر؛ وقد بح صوتها فلم يدرك منه ألبير إلا أنها مريضة مدنفة، وأن نبأ إعدامه دمرها فهي راغبة عن الحياة. . . قالت:
- إنني جد ظمأى يا ألبير
ولما قام ليأتي لها بماء أخرجت من ثنية في ذيل ثوبها ورقة بها مسحوق قاتم الزرقة، وفي غفلته وضعته في الكوب
وداعاً يا ألبير. . . والى اللقاء. . . في أطباق السماء. وبدأت تتسلل روحها وتهمد أنفاسها
وبدت في غفوتها الأدبية كطائر وسنان، وكأنما أزال الموت ما رسمه الهم على محياها اللاغب الوهنان؛ فأشرق وجهها وانتشرت عليه علائم الاطمئنان
وحدق فيها ألبير وحدثه نفسه:
- لقد تجرعت سكرة الموت من هذا الكوب ما في ذلك ريب، وفيه بقية تذهب بي إليها وتنقذني من إصر الألمان. . . وصبها في جوفه!
وانبعث من خلال أوهامه شبح فلورندا يناديه:
- تعال. . . تعال إليّ يا ألبير
فأجابها وهو يلفظ نفسه الأخير:
- هاأنذا قادم على أثرك يا فلورندا. . . ألا ترين جسدي يدب فيه الفناء؟!
محمد محمد مصطفى
بإدارة مدرسة البوليس