الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 385
- بتاريخ: 18 - 11 - 1940
حول الحرب والشعر
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب بعض القراء الأدباء يعقبون على مقالنا في الحرب والشعر، وطلب إلينا بعضهم مزيداً من الإيضاح، فنحن نجمع هذه الملاحظات التي لعلها تلخص جميع الخواطر التي ترد على آرائنا في ذلك المقال، ونجيب على ما يحتاج منها إلى جواب في شيء من الإيجاز.
قال الأديب عباس حسان خضر: (لما رأيته يسير في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر جعلت أستضيء بالشعر العربي والحروب العربية فرأيت الحرب كانت لدى العرب من أفعل مثيرات الشعر كما يقولون: الشعر يوحيه الحب والحرب والموت) إلى آخر ما قال الأديب في هذا المعنى
والذي نراه أن الشعر العربي الذي قيل في الحرب كان ينبغي أن يبلغ عشرة أضعاف القصائد والمقطوعات التي قيلت في الأغراض الأخرى، لأن القبائل البادية قضت أيام الجاهلية في قتال، ثم أشتغل العرب بحروب الإسلام وفتوحه، ثم أصبحت الشجاعة الحربية معرضاً لمدائح الشعراء في الملوك والأمراء.
ومع هذا جميعه لا يبلغ شعر الحرب في اللغة العربية ما بلغه شعر العشاق في جيل واحد سواء نظرنا إلى قيمة الشعر أو مقداره
وقد استغرقت الحروب الصليبية ما استغرقت من الزمن، وشملت ما شملت من الأمم، وتناولت ما تناولت من الأقطار، وليس محصولها الشعري كله بمساو لقصائد عاشق واحد من المشهورين في معشوقة واحدة. وحسبك هذا دليلاً على مبلغ إيحاء الحروب لقرائح الشعراء حتى في الزمن القديم.
ونقول (حتى في الزمن القديم) لأن للزمن القديم في هذا حكما يخالف حكم الزمن الحديث. إذ كان الشاعر يومئذ يؤدي (وظائف شتى) كوظائف الخطيب والداعية والمسجل والشادي على ألسنة المعهودة في اجتماع الوظائف، ثم تفرقها بالتخصيص والتنويع. وعلى هذا النحو كان الرجل الواحد كاهناً وطبيباً، ثم أصبح طبيباً لجميع الأمراض وبطل عمله في الكهانة، ثم أصبحنا في الزمن الحديث وعندنا الحديث وعندنا خمسون طبيباً لا يعالج أحدهم مرض الآخر، وكلهم أطباء قادرون.
وهذا ما أومأنا إليه في مقالنا السابق عن الحرب والشعر فقلنا إن الملاحم المنظومة كانت (هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين، فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر. . .)
فإذا تعرض الشعراء لموضوعات الخطباء والمسجلين في الزمن القديم فذلك شأن لا يدوم في زماننا هذا الذي تعددت فيه مطالب الخطابة ووسائل التدوين، فأصبح تضييع الشعر فيها من الفضول، أو من صرف الشيء في غير منصرفه المعقول
وقال الأديب يحيى زيادة عضو البعثة اليمانية: (أما الشاعر فلابد له من سويعات يجمع فيها أشتات فكره ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعراً حقاً عبقرياً استطاع أن يغتصب منبر الخطيب ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته كالشاعر الإنجليز كبلنج، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل. ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير ويحملهم على قراءة شعره)
وليس الأمر كما قال الأديب لأن ما نظمه كبلنج إنما كان من قبيل الأناشيد التي قلنا إنها اجتماعية وليست فردية، فحكمها في هذا الصدد كحكم الخطب والمقالات.
وقد حضر الثورات والحروب شعراء فحول في الذروة العليا بين أقوامهم فلم ينظموا فيها إلا قليلاً جداً بالقياس إلى سائر الأغراض والمعاني
فهذا ملتون كان أشعر أبناء عصره من الإنجليز، وكان في حومة الثورة الإنجليزية، فماذا نظم فيها بالقياس إلى ما نظمه في الأغراض الأخرى؟
وهذا فكتور هوجو كان أشعر أبناء عصره من الفرنسيين وقد حضر الثورة وحرب السبعين فماذا نظم فيها؟ وماذا نظم في سائر الموضوعات؟ وما يقال عن هوجو يقال عن شاتوبريان
ولا مرتين وشينيه وجملة الشعراء الذين لابسو الثورة الفرنسية في عهد من العهود.
وكذلك كارودتشي الإيطالي كان أشهر شعراء قومه وحضر الثورات الإيطالية وكان ثائراً أبن ثائر، ولكنه فضل الإعراب عن آرائه السياسية في نشيد الشيطان على تسجيل
الحوادث التي لا تنحصر في الحروب.
وكذلك جيتي وشيلر وهيني أعظم شعراء الألمان في زمانهم لم ينظموا في حروب عصرهم وهو عصر نابليون والثورات الوطنية إلا شذرات مهملة من شعرهم القيم المقدم على غيره.
ولقد شغلت الحرب الماضية أقطار العالم قاطبة أربع سنوات وفيه مئات الشعراء من غربيين وشرقيين ثم لم يعقبوا جميعاً من الشعر القيم ما يضارع ديوان شاعر واحد. وجاء الشاعر الناقد بيتس الذي عهد إليه في اختيار مجموعة أكسفورد من الشعر الإنجليزي في خمسين سنة فلم يثبت من قصائد الحرب إلا النادر الذي نظم بعد أنتهائها، وقال في مقدمة المجموعة إنه أهمل تلك القصائد لأن الموضوع بحذافيره لا يستحق الإثبات.
وتلك هي الحقيقة التي تنجلي لنا من مراجعه دواوين الفحول ومن مراجعة أوقات الحروب الكبرى. فمن أين نأتي بزعم من يزعمون أن النظم في الحروب شرط من شروط الشاعرية، وأن إهماله معيب في أساطين الشعراء؟
ولكن طالباً أديباً في الجامعة كتب إلي يلفتني إلى رأي للأستاذ أحمد أمين أذاعه في يوم ذكرى حافظ رحمه الله وقال فيه عن قراء الصحف إنهم (يقلبونها اليوم فلا يجدون فيها شعراً في غارة ولا في هجرة الريف ولا في بطاقة البترول كما لم يجدوا فيها ما هو أهم من ذلك في آلام مصر والشرق وآمال مصر والشرق. . . قد كان يقول حافظ بذلك كله ثم لم نجد له خلفاً)
ويسألني الطالب رأيي فيما أفتى به الأستاذ أحمد أمين، ورأيي أنه كان أولى به أن يسأل أستاذه علام أعتمد في هذه الفتوى التي قرر بها أن ميزان الشاعرية هو النظم في الغارات وبطاقات البترول والهجرة إلى الريف؟
إن مشاكلنا التي من هذا القبيل لتغرق في نظائرها من مشاكل الأوربيين كما يغرق الجدول في العيلم الزاخر، فما بالهم لم يفرغوا همهم للنظم في تلك الموضوعات التي يقترحها الأستاذ أحمد أمين؟ أليس في أوربا كلها شاعر في طبقة حافظ رحمه الله؟
نحن لا نحرم على الشاعر النظم في بطاقات البترول وما إليها، ولكننا نحرم على الناقد أن يجعل بطاقات البترول ميزان الشاعرية، ونحسب أن إيمان الأستاذ أحمد أمين بخطئه
أحرى به من هذا الجزم العجيب بخطأ الشعراء الذين لا يجارونه في فهمه للشعر، وليس هو بشاعر ولا ناقد ولا صاحب سند فيما يرتئيه، وليست له إحاطة بما نظم الشعراء في مختلف المقاصد ومختلف المناسبات
وورد إلى الرسالة الخطاب التالي من صاحب الإمضاء: (. . . وبعد، نشرتم للأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً افتتاحياً في العدد 381 بعنوان (الحرب والشعر)، اسمحوا لي أن أعلق على هذا المقال الممتع بما يأتي:
1 -
ليس صحيحاً أن مجلة البنش الإنجليزية نشرت قصيدة جون ماك كراي التي عنوانها (في سهول الفلاندرز)، إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها، بل في التفاتهم إليها كما قال الأستاذ العقاد. والحق والواقع كما قال برنهارد راجنر الأمريكي في مجلة نيويورك تيمس إن محرر المجلة قدر ما في القصيدة من جمال ونشرها بالحروف الكبيرة التي لا تستعملها البنش إلا في المناسبات الأدبية العظيمة.
2 -
ذكر الأستاذ العقاد في الترجمة ما يأتي: (كنا أحياء وكنا نحيا) والواقع أن هذا تكرار من الأستاذ المترجم لا معنى له لأن الأصل الإنجليزي هكذا فقط.
3 -
ترجم الأستاذ كلمة بالعنان وهذا غريب، ولو أنه قال شعلة النضال لكان أصدق، لأن الشاعر يقول على لسان الموتى: إن الشعلة أسلمناها إليكم من أيدينا المتخاذلة.
4 -
ويقول المترجم: وارفعوا الشعلة عالية. . . ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات. وليس في كلام الكندي مطلقاً ما يشير إلى هذا الشرط الأخير، أي بقاء الشعلة سنوات. وأظن أن الأستاذ العقاد قرأ وشتان بين الاثنين. . .)
(محمد عبد الغني حسن)
فأما أن تردد البنش في استحسان القراء للقصيدة ليس صحيحاً فهو ليس بصحيح.
وقد يفيد صاحب الخطاب أن يرجع إلى الصفحة (721) من كتاب (بعد عشرين عاماً) في فصل
الشعر والحرب العظمى فيقرأ هناك ما نصه بالإنجليزية:
، -
وترجمته: (إنه بعيد جداً أن الناظم أو محرر البنش الذي نشرها أول مرة توقعا أيّ توقع ما
سيكون لها من السلطان على خيال الأمة)
وأما أن قولنا (كنا أحياء نحيا) تكرار لا معنى له فهو خطأ يدركه من يدرك أن اللغة العربية لغة المفعول المطلق ولغة التوكيد بتكرار اللفظ والمعنى، وأن قولنا (كنا أحياء) غير قولنا (كنا أحياء)
وأما أن ترجمة بالعنان غريب فقد يكون صحيحاً لو كان هناك عنان حقيقي أو شعلة حقيقية؛ ولكنها حين تكون مجازاً لا غرابة فيها ولا سيما إذا كان المترجم لا يجهل أن معناها الشعلة كما ترجمها في السطر التالي حين قال: (وارفعوا الشعلة عالية)
ونحن نترجم إلى اللغة العربية، والعرب يعرفون الأخذ بالعنان حين يراد به الاستلام، ولا يعرفون رفع الشعلة ألا للذكر والذكرى والنضر من بعيد، كما يتحدثون عن العلم الذي في رأسه نار
وأما ذكر السنين فهو مفهوم بمعناه وإن لم يرد بلفظه، وإلا فما هو بقاء الشعلة إن لم يقصد بها البقاء طول السنين؟
ونصيحتي لصاحب الخطاب أن يتعلم قبل أن يتهجم، فذلك أنفع له وأسلم
وبعد، فخلاصة القول في الحرب والشعر أن نصيب الحادث من الشاعرية لا يقاس بالضخامة ولا يحسب بالعدد. فرب شاعر تناول حياة فرد واحد فصور منها فاجعة خالدة تعيش حين تنسى الحروب التي نشبت في زمانها، فربما مات فيها مئات الألوف
وقد تستغرق الحروب ما استغرقته الحروب الصليبية ولا يترك لنا معاصروها أثراً يضارع تلك القصيدة الواحدة التي تدور على حياة فرد واحد.
عباس محمود العقاد
مسابقة الجامعة المصرية
لطلبة السنة التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
نحن اليوم أمام كتاب (وحي الرسالة) لحضرة الأستاذ أحمد حسن الزيات، وهو مختار من افتتاحيات (الرسالة) في ست سنين، ويقع في ثمانين وأربعمائة صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على نحو عشرين ومائة مقالة، فهو محصول غزير لا يستوعبه طلبة السنة التوجيهية إلا إذا أقبلوا عليه إقبال من يدرك ما فيه من معان وأغراض، وذلك ما نحاول تيسيره على الطلبة في هذا المقال الوجيز
الأسلوب
هو أسلوب كاتب يؤمن بأن الكتابة فن من الفنون، فهو لا يكتفي بشرح الغرض الذي يرمي إليه، وإنما يتجه عامداً متعمداً إلى تأدية المعنى تأدية جميلة توحي إلى القارئ فكرة العناية بالأسلوب الأنيق
والزيات يغرب في بعض الأحيان، ومعنى ذلك أنه يوشي كلامه بالألفاظ الغريبة من حين إلى حين ليحوّل تلك الألفاظ إلى الكلام المأنوس، وذلك منهج مقبول في إحياء المهجور من المفردات اللغوية، فلم تخلق تلك المفردات مهجورة، وإنما عاشت دهوراً ثم تناساها الكتاب والشعراء فأضيفت ظلماً إلى الغريب
والزيات لم يبتكر هذا المنهج بين أدباء العصر الحديث، فقد اختطه المرحوم الشيخ حمزة فتح الله والمرحوم السيد توفيق البكري ودعانا إليه أستاذنا الشيخ محمد المهدي، ولكن مزية الزيات هي القصد في الأغراب بحيث لا يقع منه في المقال الواحد غير لفظة أو لفظتين، وذلك يزيد ثروة القارئ من الوجهة اللغوية بدون أن يوقعه في العنت أو الارتباك
ويستطيع الطالب وهو يراجع (وحي الرسالة) أن يقيد هذا النوع من المفردات، فقد ينفعه ذلك يوم الامتحان، لأن إحياء تلك المفردات خصيصة أصيلة من خصائص هذا الكتاب. ولتوضيح هذه المسألة أذكر كلمة (الرّيازة) بمعنى العمارة، ثم أترك للطالب حرية
الاستقصاء ليقنع لجنة الامتحان بأنه قرأ واستفاد
ويضاف إلى فكرة الأغراب فكرة الاجتهاد، ومعنى ذلك أن الزيات يحاول إيجاد ألفاظ عربية لبعض الألفاظ الفنية المنقولة من لغات أعجمية، كالذي صنع في إيثار لفظة (التناظر) بمعنى (السيمترية)
ولهذه اللفظة نظائر في كتاب (وحي الرسالة) وللطالب مسئول عن تقييد تلك النظائر، ليقيم الدليل على أنه ساير المؤلف في ميدان الاجتهاد
الموضوع
قلنا إن هذا الكتاب هو مختار افتتاحيات (الرسالة) في ست سنين، والرسالة مجلة أدبية، ولكنها مع ذلك صحيفة أسبوعية تواجه تطورات الحوادث الاجتماعية والوطنية، والمجتمع في نظر الزيات هو المجتمع المصري والعربي والإسلامي، ومن هنا جاز أن تكون في أبحاثه الاجتماعية آراء متصلة بالعرب والمسلمين في بلاد لا تصلها بمصر غير روابط اللغة والدين. وهذا المذهب يبدو لقصار النظر بعيداً عن (النزعة المصرية) النزعة التي خلقتها أوربا باسم (القوميات) ولكن المصري الحصيف يدرك جيداً أن هذا المذهب متصل أوثق الاتصال بالوطنية المصرية، لأن مصر في سرائر أبنائها الأحرار تريد أن تكون صلة الوصل بين الشرق والغرب، ويهمها أن تحيي العواطف التي تربط أمم الشرق بعضها ببعض، وذلك (الإحياء) لا يتيسر إلا بفهم ما يعتلج في صدور أمم الشرق من آلام وآمال
فإن استطاع الطالب أن يفهم الموضوعات المتصلة بهذا الغرض كان ذلك شاهداً على أنه قرأ الكتاب بعناية وإدراك
فما تلك الموضوعات؟ الطالب هو المسؤول، فقد شبعت من الابتلاء بمكاره الامتحان في جامعة القاهرة وجامعة باريس!
وبجانب الموضوعات العربية والإسلامية تنهض الموضوعات المصرية، الموضوعات التي تمثل الزيات كاتباً مصرياً يصوّر ما في الضمير المصري من قلق وتوثب وطموح في ميادين الأدب والسياسة والاقتصاد
فالزيات زار الأقصر وشهد ما خلف المصريون القدماء في ذلك الوادي الأفيح، فما الذي
قال الزيات في وصف ما رآه؟ وكيف كانت تلك الزيارة سبباً في أن يؤمن بأن فكرة (العروبة) لا تطمس فكرة (المصرية)؟ وكيف أطمئن إلى أن تاريخ مصر له في أعناقنا حقوق؟
والزيات شهد نمو المصانع المصرية، فما الذي قال في تشجيع المجاهدين من أقطاب الاقتصاد؟
والزيات تحدث عن بعض المؤلفات الحديثة، فما هي تلك المؤلفات؟ وما رأيه في الأصول التي يقوم عليها التأليف الموصوف بالجودة والابتكار؟
هل تكلم عن حافظ عفيفي؟ هل تكلم عن عباس العقاد؟ هل تكلم عن مصطفى المنفلوطي؟ هل تكلم عن الرافعي؟
والزيات ترجم لبعض رجال العصر الحديث، فما هي آراؤه في لطفي السيد، وأحمد زكي، ومحمد عبدة، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وطلعت حرب، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم؟؟
وتحدث الزيات مرات كثيرة عن المظاهر الإسلامية والقومية، فما الذي قال عن رمضان والأعياد وشم النسيم؟ وما هي الأوصاف الأساسية لمواسم هذه البلاد في مقالات هذا الأديب الفنّان؟
وتكلم الزيات عن الطيران، فما هي المناسبة التي استوجبت ذلك؟ وما هو المعنى (القومي) الذي قصد إليه في مقاله عن الطيران؟
وتحدث الزيات عن الريف، فماذا قال عن الريف؟
وتحدث عن الأوقاف، فماذا قال عن الأوقات؟ ولأي غرض شغل نفسه بالأوقاف؟
وتحدث عن سعد زغلول مرتين أو مرات، فما هو رأيه في سعد زغلول؟
وفي (وحي الرسالة) صفحات موجعات، فما موضوع تلك الصفحات؟
وتكلم عن الأدب المزّيف والأدب الصحيح، فما الذي أوجب أن يثور هذه الثورة؟
ونظر إلى الأزهر نظرة لها معان، فماذا أراد؟ ولأي سبب شغل نفسه يحاضر الأزهر وماضيه؟
وتحدث عن (تنظيم الإحسان) فما الذي قال؟ ومن هو الكاتب الذي شغل بهذا الموضوع قبل
الزيات؟
لا يمكن لطلبة السنة التوجيهية أن يقولوا إنهم اطلعوا على كتاب (وحي الرسالة) إلا إن نظروا في الموضوعات التي أشرت إليها في هذا المقال بعناية وتدّبر وإدراك، لأنها بالفعل أهم أغراض هذا الكتاب. ولأنها متصلة بشؤون أساسية من معضلات الحياة المصرية في هذا الجيل
والزيات يحس هذه المعاني أصدق إحساس، لأن قيامه على (الرسالة) قربه من المجتمع، وأخرجه من (العزلة) التي يفرضها ما فطر عليه من الاستحياء
بين الجمال والتفصيل
قال الزيات في مقدمة (وحي الرسالة) إن مقالاته لم تكن إلا وحي الساعة أو حديث اليوم أو صدى الأسبوع
وتلك دعوى تحتاج إلى بينات!
فليس من المعقول أن يكون الزيات صدق كل الصدق في هذا القول، والكاتب يباح له التمويه في بعض الأحايين؟!
وإلا فمن الذي يصدق أن مقال الزيات في (فنّ الجمال) كان وحي الساعة أو حديث اليوم أو صدى الأسبوع؟
ومن الذي يصدق أن ما كتب الزيات عن الفقر والغنى والبؤس والنعيم كان وحي ساعة أو يوم أو أسبوع؟
هو يخدع نفسه، أو يخدع قراءه، ليقول إنه يأتي بالعجب العجاب في لحظة أو لحظات
والحق أنه رجل ممتحن بنفسه وبالدنيا وبالناس، فأدبه الذي ينشره اليوم قد يكون صدى لتجاريبه منذ أكثر من ثلاثين سنة، والكاتب لا يعرف أين هو من حاضره وماضيه لأنه مشدود إلى قافلة الوجود.
يقول الزيات إنه كان يكتب مقالاته هذه في أصيل السبت من كل أسبوع، فهل يذكر أحد أنه كان يستطيع رؤية الزيات ولو بالتليفون في أصائل تلك السبوت؟
كان الزيات يخلو إلى قلمه خلوة صوفية، وكان في لحظات الخلوة إلى قلمه يكره الاتصال بمن في الوجود من أهل وأبناء وأصدقاء
فما الذي كان يصنع الزيات في تلك الخلوة؟
كان ينظر إلى معضلات المجتمع بقلب راضته الأفراح والأتراح على فهم ما للوجود وما عليه من محاسن وعيوب
والمزية الأصيلة للزيات أنه يخلو بنفسه وإن كان محفوفاً بالرفاق في لحظة صفاء. ولن أنسى أبداً أننا كنا نقضي سهراتٍ كوامل ونحن في أودية بعيدة، وإن كنا في مكان واحد، فلم أكن منه ولم يكن مني، لأن عالم الفكر غير عالم الشهود، ولأن الإقامة في ظرف المكان لا تمنع القلب المتحرك من التجول في آفاق العقول والقلوب والأحاسيس.
وهذه الظاهرة الروحية تفسر الهدوء (الظاهر) في كتاب (وحي الرسالة) فالكاتب يوهم قراءه أن حياته خلت من الابتلاء بالدنيا والناس، وأنه يخاطبهم من شرفة عالية لا تعرف ما يقع في (الشوارع) من انحطاط وانزلاق.
والواقع غير ذلك
والواقع أن الزيات (يعيش) في دنيا العصر الحديث، فتجاريبه ليست تجاريب من يعبر الطريق بلا وعي ولا إحساس، وإنما هي تجاريب من له في كل (شارع) دار وجيران. ويا ويل من كان له في هذه الدنيا دار وجيران، ولو أعتزل في حدود الصحراء!
الزيات أديب له مجلة أسبوعية، ومعنى هذا أنه يعرف الناس من جميع الجناس، ومعناه أيضاً أنه مسئول أمام من يباشرون تلك المجلة من عمال ومراسلين ومحررين؛ ثم معناه أنه مسئول أمام العقليات المختلفات في مصر وفي الأقطار العربية؛ وذلك يوجب أن يواجه الدنيا بعقل يقظ وقلب حساس.
فإن لم تتفق التجارب الصحيحة لمثل هذا الرجل فلمن تتفق؟
ومن الذي يفهم بلايا المجتمع إذا عز فهمها على مثل هذا الكاتب الأسيف للدنيا والناس؟
وهل يملك الزيات في (خلوته الفنية) قدرة الاستهانة بزيارة رفيقة يمن بها طفل كريم لا يعرف أن الأديب له خلوات؟
فما معنى ذلك؟
معناه أن الزيات رجل مسئول ولو أغلق بابه بألوف الأقفال وفي هذا ما يكفي للحكم بأن موقفه في فهم المجتمع موقف الأصيل لا موقف الدخيل.
فهل يفهم طلبة السنة التوجيهية هذه المعاني؟
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على أن الأدباء الذين ظهروا في هذا العهد لم يكونوا لاعبين ولا مازحين، وإن توهم من لا يفهم أن في أدبهم ميلاً إلى اللعب والمزاح في بعض الأحيان.
إن أدب المصريين في هذا العصر هو الفيصل بين عهدين: عهد الأدب الوادع الذي كان يعيش أهله في رعاية الوزراء والأمراء والملوك، وعهد الأدب المكافح الذي يعيش أربابه في رعاية مواهبهم الذاتية، فهم في الأغلب موظفون أو مدرسون أو صحفيون، ومن أجل هذا صح القول بأن أكثر أدباء مصر في هذا العصر رجال أعمال.
وهذه الحال أضرت من جانب ونفعت من جوانب: أضرت حين أيأست الأديب من الأريحية التي كان يعيش في ظلالها أدباؤنا القدماء، ونفعت حين قهرت الأديب على الإيمان بأنه لم يُخلق إلا ليكون قوة فعالة في بناء المجتمع الجديد. وكذلك عاش الأديب مرفوع الرأس، ولو اشترك بقلمه في خدمة الأحزاب السياسية، لأنه في جميع أحواله عضو نافع في المجتمع، ولأن موقفه من الأحزاب قد يكون موقف الهداية لا موقف الخدمة. وأضاع الله من ينسى أن رجال السياسة يدينون لرجال القلم أثقل الدين؛ فبفضل الأقلام صار عندنا سياسة وسياسيون، ولو كره بعض الجاحدين!
والذي يهمني هو دعوة الطلبة إلى التعمق في فهم المؤلفات التي أحدثهم عنها في هذه المقالات، فهي مؤلفات متصلة بحياة المجتمع أوثق اتصال. وهي حين تعبر عن تألم أصحابها من المجتمع أو ارتياحهم إلى المجتمع سجل صادق لما في الحية الاجتماعية من قوة وضعف وتحليق وإسفاف.
فإن نظر الطلبة إلى (وحي الرسالة) هذه النظرة رأوا فيه غير ما كانوا ينتظرون؛ فهو ليس روائع لفظية أو بيانية، وإنما هو تعبير عن الآم وآمال يحسها أبناء الجيل الجديد، حين تصح لهم مواجهة ما يعتلج في صدورهم من آلام وآمال
والزيات لا يتكلم وحده عن تلك المعضلات، وإنما يتم تصوير هذا العصر بتعقب ما ظهر فيه من رسائل وقصائد ومؤلفات، وذلك ما قصد إليه من وضعوا مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية.
وسننظر كيف ينتفع أولئك الطلبة بهذا المشروع المفيد.
اختبار سهل
قال الزيات في مقدمة (وحي الرسالة) إنه أعقب كل فصل بذكر اليوم الذي كتب فيه، ولكنه مع ذلك أهمل تاريخ بعض الفصول، فما هي تلك الفصول؟ ولآي سبب أغفل التأريخ؟
وأرخ فصلاً بالتاريخ الهجري وكان يجب أن يؤرخ بالتاريخ الميلادي، وأرخ فصولاً بالتاريخ الميلادي، وكان يجب أن تؤرخ بالتاريخ الهجري، فما ذلك الفصل، وما تلك الفصول؟ وفي أي المواضع يكون من الحتم أن ينص على تاريخ الهجرة أو تاريخ الميلاد؟
واهم فصل هو ما كتبه المؤلف (في الجمال) وقد وقع في هذا الفصل غلطتان مطبعيتان: الأولى تنافي المعنى، والثانية تنافي السياق، فما هاتان الغلطتان؟
أنا أنتظر من أحد طلبة السنة التوجيهية جواباً عن السؤال الأخير لأشير إلى اسمه في مجلة الرسالة إشارة تزيده ثقة بما فطر علية من فهم والعقل
وفي مقال الزيات (في الجمال) فكرة منحرفة بعض الانحراف، فما هي تلك الفكرة؟
والزيات (في الجمال) تلاقي في بعض مناحيه بكاتب معاصر، فمن هو ذلك الكاتب؟
وما شواهد الأغراب والاجتهاد في هذا المقال وقد احتفل الكاتب فحبره في أربعة أسابيع؟ والزيات متأثر في مناحيه الفنية والذوقية بمؤلف فرنسي مشهور تفرد أحد كتبه بالذيوع حتى طبع اكثر من مائة مرة، فمن هو ذلك المؤلف؟
(يستعلم الطلبة من مدرسي الفلسفة بالسنة التوجيهية) وذلك الكتاب الذائع قد ظهر أثره في مقدمة كتاب لأحد أدباء العصر في مصر، فمن ذلك الأديب؟ وما ذلك الكتاب؟
غرة الكتاب
أهم فصل في كتاب (وحي الرسالة) هو ما كتب الزيات (في الجمال) وهو فصل يقع في ثلاث عشر صفحة، وقد ضمنه ملاحظاته الأساسية على فكرة الجمال وما يحف بها من مشكلات ومعضلات
والزيات لم يبتكر كل هذا الفصل النفيس، وإنما تجرد عن نفسه وأسبغ على الفكرة أثوابا (موضوعية) ليحولها إلى موضوع (كلاسيك) له قواعد وأصول، وهو مع ذلك من
المبتكرين في أكثر نواحي هذا الموضوع الدقيق، فما هو الجمال أو ما هي أهم عناصر الجمال في نظر هذا الكاتب؟
لا أريد أن أحد من حرية الطلبة في البحث والأستقصاء؛ ولكني أعتقد أن من الواجب أدلهم على أن الكاتب قد أستشهد بآراء عربية وأفرنجية، ولا يمكن للطالب أن يدرك هذا الموضوع بصفة جدية إلا إذا رجع إلى مصادر ذلك الاستشهاد، فما هي تلك المصادر في مؤلفات العرب واليونان والرومان؟ وما هي الصور والرسوم التي تشرح الفكرة مع أن ثمنها لا يزيد على بضعة قروش؟ (يستعلم الطلبة من مدرسي الأدب والفلسفة بالسنة التوجيهية)
ثم ماذا؟
ثم أقول أني أنتظر أن يكون في طلبة السنة التوجيهية مئات يظفرون بالفوز في مسابقة الجامعة المصرية
ولو شئت لقلت أني أطلعت على كثير من أجوبة الطلبة عن أسئلة امتحانات النقل والامتحان العمومية فلم أجد ما يرضيني، لان اكثر الطلبة يحفظون ولا يفهمون، ولا قيمة للحفظ إذا انعدم الفهم، فنحن نريد أن يكون أبناؤنا رجالاً يسمعون ويعقلون، لا ببغاوات تحكي ما تسمع بلا إحساس ولا أدراك
إذا استطاع طلبة السنة التوجيهية أن ينجحوا جميعاً في المسابقة بتفوق مرموق، وأن يقهروا الدولة على قبولهم بكليات الجامعة المصرية بالمجان، فسيكون هذا التفوق غرة في تاريخ مصر الحديث.
إن الدولة أمكنتكم من ناصيتها المالية، يا طلبة السنة التوجيهية، فعلموها كيف تهرب من التعرض لذكائكم الموروث، فما كنتم ولن تكونوا إلا أزكى نبات في أخصب أرض، وفي رعاية أصفى سماء.
أنا معكم والله معنا، ونحن بالصدق والعزم أقوى من وزارة المعارف ومن الجامعة المصرية.
وإلى الأسبوع المقبل في تشريح كتاب حافظ عفيفي باشا. فلكتابه مذاق خاص، لأنه يقدم صوراً من أفق بعيد هو بلاد الإنجليز.
زكي مبارك
جيل وجيل!
للأستاذ محمود البشبيشي
من الأجيال ما يطويه الزمن تبعاً لقانون الحياة، ولكنة يطوي الزمن تبعاً لقانون الفكر، فلا يذهب الزمن إلا بأهله، ويذهب فكر أهله في الزمن كل مذهب! والذي يطيل في عمر الأجيال برغم فنائها، ويقصر في عمرها وهي على قيد الحياة، وهو قوة الروح فيها، وحيوية الفكرة في مجموع أفرادها
. . . هذا ما أوحاه إلى حديث بيني وبين ولدي (حسين) وهو شاب له نظرته الخاصة في نثره وشعره، لا يعترف بنظرة غيره إلا بمقدار ما فيها من صلات تربطها بفكرته وبصدق المنطق والعقل. . .
. . . تناقشنا، فكنت أنا وحججي أمثل جيلاً مضى، أو أوشك أن يمضي، يحاول أن يحرج ويقنع ويصلح جيلاً جديداً تجسم في نفس ولدي وفكره. . . وكان هو مؤمناً كل الإيمان بقوله، وإذا وجد الأيمان تفتحت أكمام الحياة والغاية عن ثغور النجاح باسمة جميلة. . .
. . . وحاولت أن أفهمه أن البقاء للقوي، وأن الذي لا يحصن نفسه، ولا يتخذ الأهبة للقاء الشرور والأفراح معاً لا يستطيع أن يقف على قدميه طويلاً، واضطرب أمام النسيم العابر قبل العاصفة الشديدة، وجار عليه كل من أتصف بالقوة وتحصن بها. . . شخص كهذا يقطع مسافة عمره كما يقطعها الحيوان والنبات، لا يسلم من اعتداء القوي والضعيف!. . .
حاولت أن أفهمه هذا فقال: إذن فأنت ترى أن البقاء للقوي، وان الذي لا يتصف بالقوة مثله كمثل النبات والحيوان الضعيف، وظاهر قولك من حكمك على النبات بالضعف أن الإنسان يزرعه ليقلعه! وهذا ما يحدث. . . ولكني لا أرى ضعف النبات كما تراه أنت ضعفاً بمعناه الذي هو ضد القوة، بل أراه قوة البقاء في النبات! فالقوة عندي ليست تلك التي يقع تحت صفاتها التدمير والجور والشدة، وإنما هي قوة الروح فقط!
. . . وهذا الضعف في النبات هو أسمى درجات قوة الروح، فأنت لا تقتلع النبات إلا بعد تمام أكتماله، أي بعد تمام قوة الروح فيه، فتستفيد منه ذلك غذاء وبناء للأجسام، وهذه الفائدة هي قوة الروح في النبات، فهو لا يفنى لضعفه، إنما ليكون حياة أخرى ويجدد بناء آخر، الفضل فيه لقوة روحه الكامنة في عناصره. . .
هكذا النبات، وفلسفة الطبيعة في النبات، يضعف ليخلق قوة، ويفنى ليجدد حياة. . . وليت الإنسان كذلك. . .
- لقد أصبت في ذلك يا بني، ولكن الذي يصلح للنبات قد لا يصلح للإنسان، والذي تراه أنت فلسفة في طبيعة النبات قد لا تعترف به العقول البشرية - لا لضعف فيه - وإنما لأن هذه العقول قد اختلط بها من صفات الحياة القبيحة الكثير، فامتزج بها الطمع، ودفعها إلى حب السيطرة على أشياء الغير، فكانت العداوة، وكانت البغضاء، وشعر الإنسان بأن لا أمان من جانب أخيه الإنسان، وصار كل فرد إذا صادق ونسج ثوب الوفاء، نسج بجواره ثوب الرياء؛ وإذا أخذ العدة لحسن اللقاء، أخذ الأهبة لدواعي الفراق، فاضطربت الحياة. . . لهذه الأسباب يصعب تطبيق فكرتك على حياة الإنسان، ويصدق منطقها في حياة النبات، لأن الطبيعة عادلة في تصرفاتها، فلم نر نباتاً اعتدى على نبات، فظهر في زمن نبات آخر. كل شيء يسير في الطبيعة وفي منطقه عدل وحكمة، فللقمح ميعاد، وللقطن ميعاد، ولا يصلح الأول في زمن الثاني. وهكذا سائر النبات. . . فهل الإنسانية كذلك؟ لو كانت كذلك ما واشتعلت يا بني اليوم النيران، واضطرب ميزان الحياة، وذهبت الرحمة من القلوب
فقال: ليس معنى هذا أن الفكرة غير صائبة، وأن فلسفة الطبيعة فيها نقص، بل لعل ذلك يثبت ضلال الإنسانية وتحكم شهواتها في ميولها ونزعاتها الفكرية.
- هذا حق يا بني، ولكن ما فرط الناس في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة، وأساء تقديرهم للأشياء، فعبدوا الكم، وابتعدوا عن الكيف! ونشأ فيهم اختلاف الطبقات، فقدروا الغنى بالمال، والفقر بقلته، ما أبعد القوم عن الصواب. . . ما أبعدهم!
ورب فقير له من عزة نفسه ثروة تسجد أمامها جبابرة السنين. . . ورب غني تمر به الأيام كما تمر على الجماد لا تشعر به لأنه فقير الروح!
- أنت ترى يا والدي أن سبب انحدار الإنسانية هو التفريط في أمور الدنيا والدين. . . وأنا أرى أن السبب هو فساد التأمل في أفرادها واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنه!. . . ولكن هناك تأملات نقية وتأملات
ساقطة. . . وأكبر الظن أن سر اضطراب الإنسانية اليوم هو تغلب التأملات الساقطة التي غلب عليها حب الذات. . . ولابد للحياة من تأمل. . . إما في غاية الحياة ومثلها العليا الإنسانية، وإما في الخلاص من قيود الحياة ومثلها الإنسانية العليا. وفرق بين التأمل الأول والتأمل الثاني
يصل بك الأول إلى الغاية - إذا صدقت فيه - ولم تأخذ في ظنون الأمور بيقينها. وهذا النوع كان موجوداً في أيام طفرة الإسلام الأولى، أيام كان تأمل الرسول الكريم يتغلغل في المسلمين جميعاً. . . ما أحوج الإنسانية اليوم إلى هذا التأمل، فإنه إذا وجد في أمة بعث فيها روحاً يجعلها لا تصل بين شريرها ومجاهدها الصادق إلا مقدار ما يُصلح الثاني من أمر الأول، ولا تحث على جوار النقائض إلا بمقدار ما يُشعر الحَسنُ القبيح بأن فيه قبحاً!!
- إذن أنت ترى يا بني أن الإنسانية اليوم تأملت، ولكن في الخلاص من قيود الحياة وثقل مُثلها الإنسانية وتبعاتها. . . هذا حق يا بني، فإن الفضائل اليوم أصبحت قيود الحياة، لأن الإنسان قد غرق في الشهوات وحب الذات، ولأن نفسه قد فسدت فرأى الشرور فضائل!!
وما هذه الحرب الضروس غير صورة لفساد تأمله. . . لقد صبغت الحرب يا بني كل شيء في الحياة بصبغة سوداء، وظاهرها الخوف وباطنها الموت والدمار، فدعنا من فلسفة تقودنا إليها، وعرج بنا على ناحية أخرى. . . فقد عرفت منك أن التأمل أساس الحياة، وأن هناك تأملاً في غاية الحياة ومثلها، وتأملاً في الخلاص من غاية الحياة ومثلها وتبعاتها، وأن الجيل يفسد بفساد تأمله، كما قلت لي إن القوة هي قوة الروح، وإن الضعف والفناء قد يكونان قوة، والفناء يجدد حياة. . . عرفت كل هذا فأحسست أن الجيل الحديث. - متجسماً في روحك وفكرك - يختلف كل الاختلاف عن جيلنا الذي ذهب بعضه وبقى بعضه! وأدركت أن الأجيال تتأثر بالفكرة التي تتولد فيها وتمتاز بها، ولكني لا أزال أشعر بامتياز جيلنا بالقوة والهيبة والشهامة. . . أحس فيه الهيبة الفطرية التي تتجلى في رهبة الابن لوالده والتلميذ لأستاذه، وكل الناس أمام رجل الدين. ولا زالت أشعر بامتيازه بسعة المعارف والمدارك وقوة الصبر والمجالدة. ولعل الدكتور زكي مبارك على حق في ثورته على شباب الأدب اليوم، وقلة صبرهم واضطلاعهم. . .
فقال: هذا حديث آخر أحب أن أطلعك على خواطري فيه، فهنا خزان ماء صناعي يُزود
بالماء في كل وقت، وهناك نبع سيال له من طبيعته مدد لا ينقطع، فأيهما تراه أنفع وأفضل؟ إن الأدباء كذلك: فيهم من استفاد علمه وأدبه في كثرة الاطلاع، فهو مقيد بألفاظ محفوظة، وأفكار مسبوقة، وإذا جاء منه الجديد جاء بعد عناء. وفيهم من فطر على دقة الحس وسهولة الطبع، فهو يغرف من بحر متماوج بين وجدانه وعقله. كل أفكاره جديدة لأن شعوره الفطري يتجدد، ومن هؤلاء الفلاسفة من الشعراء والكتاب، وقد يكون بعض الشباب اليوم من النوع الثاني.
- هذا حق يا ولدي، ولكنك لا تستطيع إنكار فضل الكثير منا، فقد كشفنا لكم ظلمة الطريق وقدنا القافلة وسط تيارات من الشدة والظلم، حتى وصلنا بكم إلى النور، وحتى استطاع الابن منكم أن يجادل الوالد ويناقشه! واضطر الوالد أن يقبل منه النقد لأنه هو الذي هداه إلى سبيله!
- حقاً أنا وغيري لا نستطيع إنكار قدرة الأستاذ الزيات على حسن الصياغة ودقة المعنى وعبقرية الفكرة، وسهولة الدكتور زكي مبارك وجمال عبارته الفني الذي يخيل إلي أنه ينسجها من روحه ودمه، وتسلسل الدكتور طه حسين واختصاصه بأسلوب رائع، ومنطق الأستاذ أحمد أمين وحرصه على الفكرة، لا أستطيع أن أنكر هؤلاء جميعاً وغير هؤلاء لأني أبحث عن الحق، كما أني لا أستطيع أن أنسى الرافعي وسحر الرافعي وشوقي وحافظ والزهاوي، لا أستطيع أن أنكر فضلهم، كما أحب ألا ينكر منا النابغ. . . فقد كان منا الشابي وشقيقي الراحل؛ ولم يزل فينا صالح جودت، والعطار، ومحمود إسماعيل، ومختار الوكيل، والعوضي الوكيل. ولم يزل فينا الذي يقول:
قد عصرتُ الفؤاد خمرة وجد
…
وسكبت العصير في شفتيك
فسكرنا من الغرام وجُنتَّ
…
نشوةُ الحب من سنا عينيك
قبلات الهوى صلاةُ محب
…
قيَّد الحبُّ أصغريهِ عليك!
والذي يقول
داعبت ثغرها بثغري وقالت
…
دائماً أنت في ابتسام وفنَّ
قلت لا غرو لو تبسم ثغري
…
مذُ رأى القلب في الضلوع يغني
ومنا الذي يقول:
لا تهابي الفناء روحي يوماً
…
إنما المرء لا محالة مودي!
وأضحكي واسخري فدهرك يجري
…
ضاحكاً ساخراً لتلك اللحود!
ثم فينا الذي يقول:
فسيري بي يا ربة الآمي إلى السدره
فإني ضقت بالإنسان لما أفسد الفطره
ألا يا ليتني همت كما هامت به فكره
ولم ألق إلى الأرض كياناً سجنه بَشره
وأخيراً ما أجمل أن يتناقش جيل وجيل! وما أروع حديث الأب لولده والولد لوالده! إن في مثل هذا الحديث صلة روحية تسعد الآباء، وتشرح صدر الأبناء، وتخلق في نفوسهم صفة الاعتماد على النفس واستقلال الشخصية.
محمود البشبيشي
حاشية: كل ما جاء على لسان ولدي (حسين حسني محمود
البشبيشي) فهو من فكره ويكاد يكون في ألفاظه.
السنوسيون
للأستاذ حسين جعفر
السنوسيون هم طائفة من الإخوان المسلمين تعتقد بولاية السنوسي. ومؤسس هذه الطائفة هو السيد محمد بن علي ابن السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المهاجري، ويسمى عادة الشيخ السنوسي أو السنوسي الكبير. ولد بالقرب من مستاجانم ببلاد الجزائر، وأطلق عليه أسم السنوسي تيمناً بولي من أولياء الله موجود قبره بالقرب من تلمسان. وتاريخ ميلاده غير معروف بالضبط، والمصادر المختلفة ذكرت السنين: 1791، 1792، 1796، 1803 ميلادية
وهو ينتمي إلى قبيلة ولد سيدي عبد الله، ويتصل نسبه بالسيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينما كان صغيراً قضى بضع سنوات في فاس حيث درس التوحيد والفقه الإسلامي. ولما بلغ الثلاثين غادر مراكش في رحلة إلى المناطق الصحراوية الواقعة في بلاد الجزائر، داعياً إلى إصلاح العقيدة والإيمان، ومن الجزائر رحل إلى تونس ومراكش فالتف حوله كثير من المريدين والأتباع.
ثم ذهب إلى القاهرة حيث عارضه علماء الأزهر الشريف وعدوه مبدعاً في أحكام الدين، فغادر مصر إلى مكة وهناك أتصل بسيدي محمد بن إدريس الفاسي زعيم الطريقة القادرية المراكشية. ولما توفي سيد محمد بن إدريس الفاسي أصبح السنوسي رئيساً لأحد فرعي طريقة القادرية. وقد أسس أولى زواياه في سنة 1835 في أبو قبيس قريباً من مكة، وأثناء إقامته بشبه جزيرة العرب أتصل بالوهابين، وكان لهذا الاتصال أثر محسوس في النظر إليه بعين الشك والارتياب من علماء مكة. وفي مكة نفسها أكتسب السنوسي أكبر وأقوى عضد في شخص محمد شريف أمير واداي الذي تولى ملكها في سنة 1838 وهي أقوى إمارة إسلامية في وسط السودان. وحينما وجد السنوسي معارضة قوية في مكة غادرها في سنة 1843 إلى برقة وهناك بالجبل الأخضر أسس الزاوية البيضاء بالقرب من بلدة درنة. وكان على اتصال دائم ووثيق بجميع المغاربة، وأيده كثير من الأتباع الطرابلسيين والمراكشيين.
وكانت الحكومة العثمانية الحاكمة لطرابلس في ذلك العهد تنظر إلى انتشار نفوذ السنوسية
بعين غير عين الاستحسان. ومن الجائر أن انتقال السنوسي في سنة 1855 إلى جغبوب وهي واحة صغيرة في الشمال الغربي من واحة سيوة على خط عرض 30 كان لرغبته في تجنب الاحتكاك بالأتراك. وهناك في جغبوب توفي إلى رحمة الله في سنة 1859 أو سنة 1860 وخلف ولدين: الأكبر محمد شريف، سمي كذلك تيمناً باسم سلطان واداي ولد سنة 1844، والثاني المهدي ولد سنة 1845. وقد خلفه في زعامة الإخوان المهدي. ويقال إن الولد الأصغر أظهر ذكاء وكفاية أكثر من أخيه، ولذلك قرر الوالد أن يختبرهما؛ وأمام جميع الإخوان في جغبوب أمر ولديه بتسلق نخلتين عظيمتي الارتفاع وسألهما باسم الله ورسوله أن يقفزا إلى الأرض، فقفز المهدي في الحال ولم يصب بسوء في حين رفض الأكبر. وإلى المهدي الذي لم يخش أن ينفذ إرادة الله انتقلت ولاية العهد التي كانت من نصيب الأكبر. ويظهر أن محمداً قبل مصيره هذا بلا تذمر، وقد تولى القضاء والتشريع في زاوية الإخوان تحت رياسة أخيه إلى أن توفي إلى رحمة الله في سنة 1895.
السنوسي المهدي
كان عمر السنوسي المهدي حين خلف والده أربعة عشر عاماً ومع ذلك كان يتمتع بجميع ما كان يتصف به والده من الشهرة والحكمة والعلم. وقد فاتنا أن نذكر أن الأمير محمد شريف سلطان واداي توفي سنة 1858، وخلفه السلطان علي الذي حكم حتى سنة 1874 والسلطان يوسف وتولى الحكم حتى سنة 1898 وكلاهما كان مخلصاً في أتباع تعاليم السنوسية. وفي عهد السنوسي المهدي انتشرت تعاليم السنوسية من فارس إلى دمشق ومن القسطنطينية حتى الهند. وكان للطريقة في الحجاز أتباع عديدون، وفي معظم هذه الأنحاء احتلت السنوسية مركزاً قوياً يفوق كثيراً من الطرق الإسلامية الأخرى. أما في بلاد النيجر وهي تقع شمال بلاد نيجريا فلم تنل السنوسية نجاحاً، ذلك لأن مسلمي هذه البلاد ما كانوا يعترفون إلا بسلطة سلطان سوكوتو، ولكن الحال كان مختلفاً في الصحراء الشرقية وفي أواسط السودان، فإنه من حدود مصر الغربية جنوبي دارفور ووادي وبرنو، وغرباً إلى بيلما ومرزوق، وشمالاً إلى شواطئ طرابلس كان السنوسي المهدي أقوى شخصية وكان له من النفوذ ما يجعله الحاكم الفعلي، ولذلك كانت الواحات المنتشرة في صحراء ليبيا تحتل وتزرع بواسطة السنوسسيين؛ وازدهرت التجارة مع طرابلس وبنى غازي واستقر النظام
والأمن بين البدو الرحل قاطني الصحراء.
وبالرغم من أن والده سماه المهدي فإنه لا يوجد أقل دليل على أنه أدعى أنه المهدي المنتظر ولو أن أتباعه يعتقدون فيه ذلك.
وحينما قام محمد أحمد الدنقلاوي بثورته على المصريين في شرق السودان وادعى أنه المهدي المنتظر قلق السنوسي وأرسل وفداً عن طريق وادي إلى محمد أحمد فوصل الوفد إلى معسكره في سنة 1883 بعد سقوط مدينة الأبيض بوقت قليل. ونترك هنا للسير ريجنالد ونجت وصف ما حدث كما جاء بكتابه عن المهدية والسودان المصري الذي ظهر سنة 1891.
كان وفد السنوسي مشبعاً بتعاليم السنوسية الدينية والأخلاقية فراع الوفد المذابح والخراب البادي حول محمد أحمد أينما حل، وكان الوفد يشعر بأن هداية العالم بواسطة المهدي المنتظر تكون بتأثيره في الغير كي يحيا الناس حياة صحيحة معتدلة عمادها العمل الشريف والاعتماد على النفس. وقد شاطر السنوسي المهدي وفده هذا الشعور وقرر قطع كل صلة بالمهدي السوداني بالرغم من أن محمد أحمد أرسل إليه مرتين ليقبل أن يكون أحد خلفائه الأربعة، رامياً بذلك أن يكسب تأييد السنوسي ذي التأثير العظيم على المصريين، ولكن ظلت رسالتاه بلا رد. وفي الوقت نفسه حذر أهالي واداي وبرنو والبلاد المجاورة بأن ينفضوا أيديهم من كل ما له علاقة بأمور السودان. ويجب ألا يخفي أن الثورة التي حدثت في سنة 1888 وسنة 1889 في دارفور ضد الخليفة عبد الله التعايشي كانت تدار باسم السنوسي.
اشتباك السنوسية مع الفرنسيين
قلق الأتراك من ازدياد شهرة الشيخ السنوسي مرة أخرى. وقد لاحظ السلطان عبد الحميد الثاني أن سلطة الشيخ في كثير من أجزاء طرابلس وبنغازي أعظم من سلطة الحكام العثمانيين. ففي سنة 1889 زار الشيخ السنوسي في جغبوب حاكم بنغازي التركي على راس بعض قواته. وكان هذا الحادث سبباً في ترك الشيخ لجغبوب ونقل مركزه إلى الجوف في واحة الكفرة، وهو مكان بعيد بعداً كافياً يجعله في مأمن من أي هجوم مفاجئ
وحوالي هذا الوقت بدا خطر جديد على السنوسية، وهو أن الفرنسيين كانوا يزحفون من
الكونغو متجهين إلى حدود مملكة واداي الغربية والجنوبية. وقد رأى السنوسي في سنة 1898 أن يجمع في اتحاد واحد جميع البلاد المهددة من الزحف الفرنسي، ولذلك فكر في التحالف مع رايح الزبير وسلطان بجرمي ولم يكونا من أتباع السنوسية، ولذلك كان سعيه بلا نتيجة.
وفي واداي كان خلف السلطان يوسف وهو السلطان إبرهيم الذي تولي الملك سنة 1898 يهمل نصائح الشيخ، متشجعاً في ذلك بهزيمة الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان. وكان رد السنوسي على هذا أن حرم على أهالي واداي تدخين التبغ وشرب المريسة (البيرة الوطنية) فأرسل السلطان إبراهيم إلى السنوسي بأن شعبه يحارب ويموت في سبيل المريسة، وأنهم قد ينبذون تعاليم السنوسية ليشربوها. وكان السنوسي المهدي حكيماً في تنازله عن رأيه، معلناً أن الله أجاب على صلاته بأنه جل شأنه قبل أن يستثني أهالي واداي من هذا التحريم. ولما توفي السلطان إبرهيم سنة 1900 وقع خلفاؤه تحت سلطان السنوسي المهدي مرة أخرى
وفي سنة 1900 غادر السنوسي واحة الكفرة إلى دار جوران على الحدود الغربية من سلطنة واداي، وهناك في جيرو على قمة التل الصخري أنشأ زاوية وحصنها تحصيناً قوياً رامياً بذلك أن يصد أو على الأقل يعوق تقدم الفرنسيين الذين قتلوا - في نفس هذه السنة - رابح الزبير في معركة واحتلوا بلاد بجرمي. ورأى الشيخ أيضاً أن يمنع الفرنسيين من احتلال قانيم وهي بلاد تقع في الشمال الشرقي من بحيرة تشاد على الحدود الصحراوية. وبذلك للمرة الأولى بدأ احتكاك السنوسية بالقوات الأوربية.
وقد كان هناك اعتقاد بين بعض الرحالة الفرنسيين والإنجليز أن السنوسيين ربما يعلنون حرب الجهاد وأنهم بذلك ينالون مساعدة جميع المسلمين في شمال وغرب أفريقيا، وهذا الاعتقاد كان بعضه مؤسساً على تعاليم السنوسية ذاتها والبعض الآخر على التخيلات المبالغ فيها من قوة السنوسيين.
وكان عدد محاربي السنوسية الذين يدينون بالطاعة للسنوسي مباشرة عدة آلاف قليلة. ولذلك كان السنوسي يعتمد على سلطته الروحية وتأثيره في هؤلاء الذين قبلوا تعاليمه بأن يأتمروا بما يريد ويستدل من تاريخ السنوسي الثاني على أنهما كانا دائماً في صف المدافع.
والسنوسي المهدي في تعرضه للفرنسيين لم يكن في الحقيقة يقوم بحرب هجومية، وقد أضعف مركزه أنه لم يجتمع تحت إمرته من القبائل عدد عظيم.
فاخذ يحارب في قانيم مع أتباعه من البدو متلقياً مساعدات قليلة كان يقوم بها أهالي هذه المدينة، وفي أثناء ذلك أنشأ زاوية في بيرعلالي، وهي ملتقي تجارة طرابلس بالبلاد الموجودة حول بحيرة تشاد، وحصنها تحصيناً قوياً واستؤنفت الحرب واستمرت ما يزيد على السنة، وبعد قتال شديد سقطت بير علالي في يد الفرنسيين في يناير سنة 1902.
وقد تأثر السنوسي المهدي بهذه الهزيمة ومات بعدها بقليل في 30 مايو سنة 1902 في جيرو ودفن في زاوية التاج ولكن البدو يعتقدون حتى الآن بأنه ما زال حياً وأنه غادرهم في مهمة سرية
وكان أبناء المهدي السنوسي صغاراً قاصرين، فانتقلت زعامة الإخوان إلى أبن أخيه السيد أحمد الشريف وهو رجل طموح ذو مقدرة فائقة ولكن تعوزه حكمة من سلفوه. وأستمر سيدي أحمد في سياسة عمه وهي مقاومة الفرنسيين، ولكن رغم جهوده وبعد كفاح طويل دام من سنة 1904 حتى 1911 سقطت واداي في أيديهم، وبذلك أنهار سلطان السنوسية في أواسط السودان.
وكان السنوسيون يحتفظون لمصر وللسلطات البريطانية فيها بأجمل الود. ولما رأى سيدي أحمد نشاط الفرنسيين أستحسن الانتقال إلى الجوف في واحة الكفرة. وهناك وعلى واحات أخرى في صحراء ليبيا كان السيد المطلق، ولم يكن لاعتراف فرنسا بأن الصحراء واقعة في دائرة النفوذ البريطاني أي أهمية لديه
وكان عدد أتباعه في مصر دائماً في ازدياد، وفي الإسكندرية كان يعيش السيد محمد الإدريسي أكبر أبناء المهدي السنوسي وسط أملاكه مستقبلاً أتباع السنوسية من جميع أنحاء البلاد.
(البقية في العدد القادم)
حسين جعفر
المهندس الزراعي
عراك في معترك
أي معترك!
فصل في الرمزية
للأستاذ زكي طليمات
في مقالينا السابقين، دفعنا تهماً مصنوعة لا تقوم على حجج علمية، كما كشفنا عن مغالطات صريحة متعمدة لم يجد الأستاذ محمد متولي سواها مطية للرد علينا، ليوهم نفسه ويوهم القارئ العابر أنه سود ثلاث صفحات تلمع ببهرج الجدل الفلسفي
فعلنا هذا بعد أن جعلنا دبر آذاننا سباباً ومهاترات لفظية من جانبه تقيم الحجة على أن الأستاذ متولي لم ينزل إلى موضوعية النقد فيما نحن بصدده، بل أنحرف إلى أطراف الموضوع يشدها ويشدها، متخذاً منها أرجوحة تطوحت به إلى فضاء ما كنا نحب أن نراه يشغل فراغه!
حول الرمزية الفنية
وإذا قلنا إن متولي لا يريد أن يفهم ما نكتب، أو هو يفهمه ثم يتجاهله، لما قررنا غير الواقع!! وآية ما نذهب إليه - وقد سقنا قبل ذلك آيات بينات - أننا قررنا، فيما سبق أن كتبناه رداً على مقاله الأولى، أن متولي يخلط بين ألوان الرمزية، وأيدنا ذلك بقولة من كلام (ريبو) نفسه، مرجع متولي الأوحد في كل جدل، ثم شفعنا ذلك بتعليق آخر وارد في نفس الكتاب (صفحة 169 - 171)، وهو تأييد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان أن طلع علينا متولي بما زاده إمعاناً في خطئه وفي حيرته، ومرد هذا أن متولي هو أول من أسمى الرمزية الميتافيزيتية، أو رمزية ما وراء الطبيعة، أو الرمزية الفلسفية عند (ريبو)، باسم (الرمزية الفنية) وهانحن أولاء نسجل جملته التي وجهها إلى الدكتور بشر فارس:(ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي كما يقول ريبو). أسمى متولي هذه التسمية عن عدم تثبت أو عن قصد مرسوم - أيهما لا أدري - فلما جاريناه تساهلاً في هذه التسمية التي هي وليدة مخيلته المبتدعة وليست وليدة
مخيلة (ريبو)، وناقشناه على هذا الأساس ليفهمنا ويتبعنا، مدللين على أن متولي يخلط بين ألوان الرمزية لينفي عن مسرحية (مفرق الطريق) طابع الرمزية الأصيل، قام يتهمنا بما أخذناه عليه، وكأنه يأبى أن ينزل إلى حق أو حجة أو برهان. . .
ولكننا أوتينا الصبر والجلد، وهانحن أولاء نقدم فصلاً (في الرمزية) كما أرادها (ريبو) محاولته وليس كما أرادها الأستاذ متولي في مقاليه السابقين، وسنسوق في عرض هذا الفصل الأخطاء التي تورط فيها متولي عفواً أو عمداً.
المخيلة في رأي ريبو
يقسم (ريبو) المخيلة قسمين رئيسيين عامين كلاهما إزاء الآخر مكان الماء من النار.
1 -
القسم الأول، وأسماه (ريبو) المخيلة المصورة وخاصيته وضوح الصور الجزئية وتحددها، وقربها من الإدراك، وإيهامها بأنها حقائق، وتداخل بعضها في بعض لصلات بينها موضوعية، قابلة للتعيين بدقة، ومن ضروب هذه المخيلة: مخيلة المثال والمهندس والشاعر الوصفي، وبعض أرباب العلوم والصناعات.
2 -
والقسم الثاني؛ وأطلق عليه ريبو أسم (المخيلة السيالة) وخاصيته التقريب بين صور جزئية غامضة ملتبسة فياضة، ويكون هذا التقريب على هوى الاستعداد الشعوري من غير قاعدة ولغير سبب منطقي. ومن ضروب هذه المخيلة: أحلام اليقظة، وجولان الفكر، وتلفيق القصص، وبعض التصورات الدينية، وبعض ألوان الفن، مثل فن الرمزية ولا سيما (الأدب الرمزي) الذي كان في عصر (ريبو) حين صدور كتابه، أي قبل عام 1900
ويذهب (ريبو) بعد ذلك إلى أن للمخيلة أنواعاً أخرى أقل عموماً من القسمين السابقين. منها (المخيلة الصوفية). وفي رأي (ريبو) أن هذه المخيلة الصوفية تمت بسبب إلى (المخيلة السيالة) ولا سيما في شكلها الشعوري، وإن كانت لها خصائصها، وهنا يحلل (ريبو) هذه المخيلة، ويميزها عن المخيلة الدينية والمخيلة الفلسفية.
ذلك هو مجمل مذهب (ريبو) في المخيلة على أقسامها وضروبها. والآن نرجع إلى ما كتبه الأستاذ متولي في الرمزية، ونراجع استشهاداته لنتبين مدى فهمه ومقدار أمانته وهو يستند إلى كتاب مطبوع متدوال. وفيما سنورده أقوال جديدة وأخرى سبق أن رددنا بها أخطاء
الأستاذ متولي في مقالاته السابقة، وقد آثرنا تكرارها لترد متراصة في صعيد واحد مع هذا الفصل، بعد إيفائها حقها من الشرح والبيان:
1 -
ظن متولي أن الرمزية في توطئة مفرق الطريق محض صوفية، فخاطب صاحب المسرحية قائلا:(ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي، كما يقول (ريبو)).
والى القارئ نص (ريبو) ص 196س8 - 11 عن التفريق بين الرمزية الدينية، ورمزية ما وراء الطبيعة أو الفلسفية:(إن الرمزية الصوفية إذا اتجهت نحو الدين فإنها تعتمد على عنصرين أساسين: هما التخيل والشعور، وإذا اتجهت نحو الفلسفة أو ما وراء الطبيعة فإنها تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي واهن) فالقارئ يرى من معارضة حديث متولي بنص (ريبو) أن الناقد اعتسف الكلام إذ نسب إلى ما يسميه هو (الرمزية الفنية) ما خص به (ريبو)(الرمزية الصوفية) المتجهة نحو ما وراء الطبيعة أو الفلسفة. هذا، وأما العنصر الذي خص به (ريبو)(المخيلة السيالة) فهو الاضطراب (راجع كتاب (ريبو) المذكور ص 171س10 - 12). وقد تقدم أن (المخيلة السيالة) هي التي تتمثل في فن الرمزيين
' وهذا الفن - ومعظم كلام (ريبو) عليه في ناحية الأدب - وثمة إشارة إلى ناحية التصوير - يصبح بجرة قلم من الأستاذ متولي يحمل أسم (الرمزية الفنية)!!؟
وللقارئ أن يتأمل كيف خلط متولي الرمزية الصوفية بالرمزية في الأدب والتصوير فجعلهما شيئاً واحداً، هذا في حين أنهما عند (ريبو) منفصلان أساساً وتقع كل منهما في باب مستقل عن الآخر
هذا والمتمعن ذو النظرة العلمية السليمة في توطئة (مفرق الطريق) يلحظ أن (الاضطراب) هو من أساس الإنشاء الفني فيما نريد أن نقرره (راجع مثلاً القسم الخاص بالرقص في التوطئة المذكورة).
2 -
يعود الأستاذ متولي إلى الرمزية الصوفية التي في التوطئة الفنية البليغة فيقول مخاطباً صاحب المسرحية: (ألم تحدثنا بهذا أيضاً مع أنه وصف للتخيل الصوفي الذي
يؤلف بين السطور الباطنة المبهجة ويستخرج منها رموزاً يستعملها كما هي بعكس الرمز في الفن الذي يحصل من (تحليل الصور) والحركات والألوان؟).
وإلى القارئ نص (ريبو)(ص187 س17 - 30)
(إن مصدر طرافة المخيلة الصوفية أنها تحول الصور المعينة إلى صور فتستعملها على أنها كذلك لا كما هي، ونوع تعبير المخيلة الصوفية لابد له من أن يكون تركيباً.
وتختلف الرمزية الصوفية - بسبب هذا النوع وبالأدوات التي تستخدمها - عن المخيلة الشعورية
التي وصفتها آنفاً (السيالة) وعن المخيلة الإحساسية (يعني المصورة) التي (تستخدم) الصور والحركات والألوان على أنها لها قيم خاصة)
فالقارئ يرى أن متولي عكس الكلام وقلب الحقائق، إذ نسب إلى (المخيلة السيالة) ما نسبه (ريبو) إلى (المخيلة المصورة) من أن الصور والحركات والألوان (تستخدم) لديها، (لا تحلل كما توهم متولي في الترجمة!) على أن لها قيما خاصة، وقد تقدم بالقارئ أن (المخيلة السيالة) ضد (المخيلة المصورة) وهانحن أولاء نسجل نص (ريبو) في التفرقة بين هاتين المخيلتين كما هو وارد في الكتاب المذكور ص 163س1 - 2، ص 165س4
' ، ، '
3 -
ويقول الأستاذ متولي: (ثم ما رأيك في أن (ريبو) يقصد بالرمز في الفن أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد بينما أنت).
وإلى القارئ نص ريبو (ص170) عند الكلام على أساليب الكتاب الرمزيين الذين يعمدون إلى الإيحاء في التعبير ويترجمون بالألفاظ عن اضطراباتهم أكثر مما يترجمون عن تمثلاتهم: (الأسلوب الأول أن تُستعمل الألفاظ الجارية مع تبديل مدلولاتها المتعارفة، أو أن يؤلف بينها بحيث تفقد معانيها المحددة، وأما الأسلوب الثاني فاستعمال ألفاظ جديدة أو ألفاظ مهجورة، وأما الأسلوب الثالث - وهو الأقطع هنا - فإن تجعل للألفاظ قيمة اضطرابية فحسب).
فأنت ترى أن السيد متولي أستشهد بجزء من كلام (ريبو) ليؤيد نظره المغرض، وإلا فكيف يبرر وقوفه عند الشطر الأول من الأسلوب الأول لكتاب الرمزيين، ثم تركه الشطر الثاني
من هذا الأسلوب، ثم الأسلوبيين الآخرين؟!
سبب هذا الترك المتعمد، ثم هذه الترجمة البتراء، أنه جاء في توطئة (مفرق الطريق) أن مؤلفها يبعد الرمز عن التشبيه والكتابة ومختلف ضروب المجاز - وهو ما قصد إليه (ريبو) في الشطر الأول من الأسلوب الأول - وعلى ذلك فقد زين اعتساف النقد المغرض لمتولي أن يسقط من كلام (ريبو) ما لا يصح أن يكون عكازاً له!!
4 -
وهناك خلط آخر، والعجب ممنوع مقدماً. . .
وقف القارئ في عرضنا لمذهب (ريبو) على أن ريبو يدخل تحت (المخيلة السيالة) بعض التصورات الدينية وبعض ألوان الفن. ويشرح ريبو كيف تدخل هذه وتلك تحت المخيلة المذكورة. وقد عني بأن يفصل بينهما في السياق، فجاء كلامه على كل منهما قائماً بذاته (أنظر صفحة 166 - 171) ثم إنه ضرب مثلاً على التصورات الدينية المخيلة الهندية التي تعمل عن طريق الرمز فتمثل الآلهة بعدة أرؤس وأذرع وأرجل لتدل على الفطنة والعزة اللتين لا حد لهما.
وهذا الأسلوب في التمثيل والتعبير معروف، وهو الرمز بشيء إلى شيء آخر، وهو أولي فطري، ولا صلة - من حيث الجوهر - بالرمزية في الأدب (والتصوير)، وهي الرمزية التي ضربها ريبو مثلاً على بعض ألوان الفن كما مر بالقارئ. وقد شرح ريبو هذه الرمزية، وبين أغراضها وطرائقها على حسب مظهرها ومخبرها قبل عام 1900، فدل على أنها تقصد إلى الإيحاء فتبسط الإبهام على الأشخاص والأشياء حتى إنها تطلقها من قيود الزمان والمكان، وربما لم يعين الأشخاص بأسماء فيقال:(هو) و (هي). . . (ص169)
ذلك مجمل حديث (ريبو). . . أفيدري القارئ ماذا صنع السيد متولي؟ خلط رمزية المخيلة الهندية - وهي من باب الرمز بشيء حسي إلى معنوي - بالرمزية في الأدب التي تطلب الإيحاء من باب بسط الإبهام!! ودليل ذلك أنه أستشهد بهذه وبتلك، وهو يتكلم على ما يسميه (الرمزية في الفن) عند ريبو فجعل مصدرها واحداً، أي (فن الرمزيين) ليأخذ على صاحب المسرحية أنه الرمزية في توطئته تعدل عن الرمز بشيء إلى شيء آخر، إلى (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده)!!
والآن ألا يصح أن نقول لمتولي - وقد أخذ علينا مزهواً متطاوساً أننا لا نحمل شهادة ماجستير - إننا نحمد الله على هذا المكروه الجميل ما دام لم يسلمنا إلى ما هو غير جميل، وأن نهمس في أذنه بأن الألقاب العلمية، مهما كبرت، فإنها لا تخلق الرجل المخلص والأديب الحق، وأن هذه الألقاب إنما تزهي بحاملها، وإلا فهي تيجان من ورق على رؤوس من خشب!!
أعتقد أن هذا تساؤل مشروع، ما دام (الصديق) محمد متولي لم يتعوذ باللًه وبالفن من التكلف لما لا يحسن والعجب بما يحسن، ولم يتعوذ بالأدب من السلاطة والهذر!
زكي طليمات
من وراء المنظار
صاحب السلطان
حملني من لا أطيق مخالفته من ذوي قرباي على مصاحبته لزيارة ذلك الذي أنعته بصاحب السلطان، فبلغنا داره وقد متع النهار أول أيام العيد. . .
واستقبلنا صاحب السلطان لدى مدخل حجرته، ونظرت - وهو يمد يده للسلام - إلى وجهه المنتفخ المتورد، فإذا الذي يكون ابتساماً على غير وجهه من الوجوه لم يكن على وجهه إلا شبه ابتسام. وطاف برأسي خيال: ذلك أنه لا يبتسم قط إلا حين يضطره العيد إلى مثل ذلك النوع من الابتسام الذي بدا على وجهه كما يبدو الشيء في غير موضعه وجلسنا فأتممنا حلقة من الزبائن كانوا بين يدي صاحب السلطان قبل مقدمنا، ودرت بعيني أو على الأصح درت بمنظاري في نواحي الحجرة الفسيحة فعجبت لأول وهلة أن رأيت كل شيء حولي تشيع فيه الحمرة، فالبسط حمراء لا أثر فيها لنقش، والأرائك حمراء، والستائر حمراء، ونقوش الجدر حمراء.
واستقرت عيناي على وجه صاحب الدار ونظرت إلى شاربيه الغليظين المرهفين فوق شفته الضخمة وتحت أنفه الذي حرت فيه، والذي لا أزال منه في حيرة أهو الذي زاد الشاربين رهبة أم هما اللذان زاداه غلظاً وفخامة! ولست أدري لم قرنت وأنا أنظر إليه تلك الحمرة التي شاعت حولي في كل شيء بلون الدم وكان الأحرى ونحن في العيد أن أقرنها بلون الورد! ولكن هيهات أن يتعلق خيالي بالورد وأنا أنظر إلى تلك السحنة والأحاديث التي سمعتها عن صاحبها تتواثب إلى ذاكرتي في نشاط عجيب وتتداعى صورة إلى صورة كلما بدت منه حركة أو أرتسم على محياه معنى. . . ولو أن الورد الجني كان في تلك الحجرة ساعتئذ لما رأيت في الورد نفسه إلا لون الدم!
واسند صاحب السلطان ظهره إلى المقعد فظهر بطنه المتكرش أعظم ضخامة، ونزل بذقنه حتى مست صدره فبدت لغاديده أعظم هولاً، وتكلم فإذا صوت كأنه صوت الطبل إذا نقر ينبعث في الحجرة وفيه على نكره صلف، فهو يتضخم مرة في الحنجرة، ويبدو مرة أخرى كأنه ينبعث من الأنف وتسبقه في كل مرة غمغمة يربد معها وجهه ويبدو الشر في عينيه كأنما يتهيأ لما أعتاده في غير ذلك الوقت من سباب وينصت من في الحلقة وكأن أكثرهم
من فرط اهتمامهم كأنهم يستمعون إلى من يتلو عليهم حكم الإعدام، اللهم إلا حين كان يشرق وجهه قليلاً إذ يزهي بما يتلو عليهم من غالي الحكم فيبتسمون ابتسامات عريضة، ويتنافسون في عبارات الموافقة والإطراء والإعجاب وإن لم يفقهوا شيئاً من حكمه الغوالي!
وتقاطر المزارعون والفلاحون للسلام على (البك) فكان يخلع الرجل منهم نعليه عند عتبة الحجرة ويسير حافياً على البساط الأحمر كأنما يخطو على نطع ليضرب عنقه: ففي وجهه من معاني الفزع ما لم يخفف منه إلا تذكره أن اليوم يوم عيد، فإذا بلغ إلى حيث يتكئ البك، ومد إليه البك أطراف أصابعه تناولها وانكب عليها فلثمها ورجع خطوتين دون أن يدير ظهره، ومشي إلى الباب فلبس حذاءه وكأنه ألقي عن كاهله عبئاً أي عبء.
وكان البك ينظر إلى كثيرين منهم نظرات ذات معنى فكأنما يذكر هذا بما بقي عليه من الإيجار، وكأنما يتوعد هذا حتى ينتهي العيد، وكأنما يستنجز غيره ما وعد، وكأنما يقول بعينيه لآخر إنه لولا العيد لما سمح له بالدخول عليه؛ إلى غير ذلك من المعاني التي كانت توحيها إلى نظرات هذا المتجبر المتكبر.
وازدادت الحلقة واتسعت إذ أنظم إليها من يجرءون على مجالسة البك أو من يستطيعون ذلك في العيد على الأقل؛ وكان يسلم على كل قادم ما له من مكانة ولو في عرف الناس، فهو مقتنع بما تنطوي عليه تحياته من معاني الشرف، ولذلك فهو ضنين بها عن الابتذال فلا يجود منها حتى في العيد إلا بمقدار
وأدار صاحب السلطان الحديث إلى الحرب، كأنه وقد رأى في زائريه بعض المطربشين يريد أن يبرهن للجميع على أنه وإن كان من غير أبناء المدارس إلا أنه يعلم من أمور الدنيا ما يغيب أكثره عن الكاتبين القارئين.
وبدأ بألمانيا وأنطلق يتحدث وأنا أعاني في كتمان الضحك ما أعاني وأتمنى أن يجود البك بنكتة من سخيف نكاته لأفرغ في جلبة الحلقة ما بنفسي من ضحك مكتوم كم خشيت أن ينطلق على رغمي فأكون موضع استنكار الجالسين
ومالي حيله في أن أصور للقارئ كلامه وحسبك مما أذكره أنه كان يتحدث عن (هتلر) كما يسميه كما لو كان يتحدث عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة وعنتر بن شداد وإضرابهم من المغاوير
ويحرص إليك أشد الحرص ويتوخى الدقة إذا تحدث عن أقطار الأرض وإن كانت سويسرا وسوريا عنده شيئاً واحداً وأن كانت كندا لتتاخم الهند، وإن كانت دوله البلقان لمن أعظم دول الأرض، وإن كانت استراليا لتقع جهة السودان، وإن كان جبل طارق لذات ثروة عظيمة وبخاصة في القمح والقطن، وذات خطر يحسب له ألف حساب، إلى غير ذلك من الأدلة على سعه علمه بجغرافية هذا الكوكب
ولن يقل علمه بالتاريخ عن علمه بالجغرافيه، يتجلى ذلك في سبب تفضيله هتلر على نابليون، فنابليون كان يحارب منذ أكثر من خمسمائة سنه فكانت أمامه أمم ضعيفة، أما (هتلر) فإنه يحارب إنجلترا التي ملكت العالم وسادت البحار
ويحاول إلبك أن يتكلم العربية كما يفعل المتعلمون، فيأتي بضروب من القافات لم يسبقه فيها سابق ولن يلحقه لاحق إن شاء الله. فالقسطول الإنجليزي قسطول هائل، وقيران دولة صديقة لنا. . . إلى غيرها مما أخشى إن ذكرته أن يحمل على المبالغة
وينتقل صاحب السلطان إلى المباهاة بجاهه فيما يذهب فيه من ضروب الحديث؛ فيصف كيف يقف له سعادة المدير إذا دخل عليه؛ ويذكر من شملهم بعطفه فعينهم في وظائف مشيراً إلى أنه إنما فعل ذلك لا يقصد غير البر والإحسان؛ ويفخر بمن يزور داره من الحكام ومن وجوده البلاد. ويقص الأقاصيص عن خوف رجال الشرطة منه، وآخر ما حدث له معهم أنهم ما كادوا يعلمون أن الحمير (المسلوخة) التي قبضوا عليها منذ يومين ملك له حتى أطلقوا سراحها معتذرين!! وأنهم عاجزون عن أن يقبضوا على رجل من رجال عزبته إلا بأمره؛ وبدهي أنهم متى عجزوا عن الحمير كانوا عن الرجال أعجز
وتكلم عن الفلاحين، وناهيك بحديثه عن الفلاحين، فله في ذلك من جوامع الكلم ومن أصول الاجتماع ما يعجب ويطرب؛ خذ مثالاً لذلك قوله:(اضرب الفلاح على رأسه تأكل خيره)؛ وقوله: (الفلاح جنس ما يستهلش النعمة)، و (الفلاح يخاف ولا يختشي). ولقد كان يذكر هذه العبارات في لهجة الخبير الواثق الذي لا يقبل فيها جدلاً؛ وهل كان في الجالسين من يجرؤ على جداله؟!
وتداعت الصور في ذهني وهو يتحدث عن الفلاحين، فتذكرت منظره وهو بين المزارع تركض به دابته وخلفه فلاح يجري والعرق يقطر من جبينه وأنه ليلهث كما يلهث الكلب.
وتذكرت أني رأيته يركل رجلاً توسل إليه أن يترك له بضعة قروش بقية إيجار لضيق ذات يده، ركلة قلبته على ظهره. وتذكرت أنه أمر بجماعة من الفلاحين فطاف بهم أعوانه القرية عراة بعد أن ألقيت ملابسهم في النار لأنهم اعترضوا سيارة قريب له على غير علم كانت قد دهمت جاموسة لأحدهم. وتذكرت أنه ما من فلاح يستطيع أن يحجز الماء ليصرفه إلى حقله حتى تروي أرض البك كلها وإن تركت أرضه هو قاحلة جرداء
وحمل البك حملة قاسية على ما يسمونه الحرية ورد إليها أسباب جميع الجرائم ولعن العصر وسخافاته وترحم على الأيام الماضية أيام لم يكن يسمع أحد بحرية وانتخاب (ولا كلام فارغ زي ده) ونسي أنه كان نائباً مرتين!
وانصرفنا من لدنه وأنا أقول في نفسي إذا كان مثل هذا يتصدى للنيابة عن أولئك الفلاحين، وإذا كان يفكر هذا التفكير في العصر، فياضيعة العلم ويا خيبة الآمال.
الخفيف
فيض الخاطر
قرأ الأستاذ أحمد الزين كتاب (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد
أمين فأعجب به وحياه بهذه الآبيات:
قد سحرت النهى بسحر مبين
…
فاتق الله يا يراع (أمين)
وسلبت القراء أفضل ما أو
…
دعه الله في سليل الطين
وعجيبُ لسارق حَدُه الشر
…
عيَ فينا تقبيل تلك اليمين
جنة في يراعك الخصب تُؤتي
…
أُكلها طيب الجني كل حين
قلم لم يقده في الطرس إلا
…
رفع شك أو اجتلاب يقين
ما جرى مرة بغل ولا تبصر
…
يوماً بحده من طعين
ويميناً لو أنهم أنصفوه
…
كتبوا فيضه بماء العيون
-
الملق.
. .
للأستاذ الشاعر الرواية أحمد الزين
يا لِسَانَ الْحَقَّ لَا تَنْطَلِقِِ
…
فازَ بالحُظْوَةِ أَهْلُ المَلَق
عَلِّموناَ يا أُولِي الحُظوَةِ مَا
…
قَدْ عَلِمْتُمْ مِنْ طِلَاء الْخُلُق
وامْنَحُوناَ ذَلِكَ الصَّبْغَ الّذِي
…
يُظْهِرُ الْحُسْنَ وَيُخْفِي مَا بَقي
أَوْ فدُلُونا على صُنَّاعِهِ
…
نَجْتَلِبْهُ بِبَقاياَ الرَّمَق
أَيُّ صِبغٍ ذَاكَ مَا أَعجَبَهْ
…
صَادِقُ الْغِشِّ وَإٍنْ لَمْ يَصْدُق
ألْبَسَ الشَّمْسَ ظَلَاماً دَامِساً
…
وَكَسَا الظُّلْمَةَ شَمْسَ المَشْرق
عَلَّمُونَا نَصِفُ الَمرَْء بِمَا
…
لَيْسَ فِيهِ مَنْ يُنَافِقْ يَنْفُق
يَمْنَحُ الْفِطْنَةَ أَغْبَى خَلْقِهِ
…
وَالذّكَاَء المحضَ رَأْسَ الأَحْمَق
إِنْ سَمِعْنَا نَاهِقاً قُلْنَا لَهُ
…
إِيهِ يا مَعْبَدُ بالصَّبِّ أرْفُق
لا تَقُلْ أَفْنَيْتُ عْمرِي دَائِباً
…
وَبَذَلْتُ الْجُهْدَ جُهْدَ المُرْهَق
لَيْسَ لِلدَّائِبِ حَظٌ بَيْنَهُمْ
…
لَا وَلَا الْجُهْدَ سَبيلُ المُرْتَقي
تَزِنُ الْعُمْرَ وَعُمْرَاً مِثْلَهُ
…
لْحظَةُ تَبْذُلُها في المَلقَ
فاسْتَبْقِهَا فُرْصَةً إِنْ سَنَحَتْ
…
إنما الفُرْصَةُ لِلْمُسْتَبق
لا تَقُلْ سُهْدِي وَجُهْدِي عُدَّتي
…
إنما الْجُهْد عَتاد الأَخْرَق
إِيهِ يا عِلْمِيَ عُدْ جَهْلاً عَسَى
…
يَنْهَضُ الجَهْلُ بِحَظٍّ مُوثَق
يا ذَكَائِي عُدْ غَبَاءً أَسْتَرِحْ
…
بِغَبائِي مِنْ شَقَاءٍ مُطْبِق
كَمْ كِفَايَاتٍ نَفَاهَا قَوْمُهَا
…
وَجُهُودٍ أُلْقِيَتْ في الطُّرُق
وُضِعَتْ في مَوْطِئ النَّعلِ وَلَوْ
…
أَنصَفُوهَا وُضِعَتْ في الْحَدَق
فَأْتِ عَليَائَهُمُ مِنْ بَابِهَا
…
لا تُضِعْ عُمْرَكَ بَيْنَ الوَرَق
لمْ أَكُنْ في نَعْتِهِمْ مخْتَلِقاً
…
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى المُخْتَلِق
عَلمُونَا إنَّنَا في بَلَدٍ
…
فِيهِ مَنْ لمْ يَتَمَلَّقْ يُمْلِق
أَوْدَعُونَا فَلَكُمْ دُنْيَا الْغِنَي
…
إِنما نَحْيَا بدُنْيَا الْخُلُق!
أحمد الزين
الحب.
. . .
للأستاذ فؤاد بليبل
الْحُب أَسْعَدَني وَالحُبُّ أَشْقَاني
…
أَبْكى وَأَضَحْكُ مِنْهُ اليَوْمَ في آنِ
وَيْلِي عَلَيْهِ وَوَيْلِيِ مِنْهُ مِنْ أَلَمٍ
…
عَذبٍ وَآسٍٍ شَفَي نَفْسي فأَضناني
طغَى عَلَى القَلبِ عرْبيداً فَقُلْتُ لَهُ
…
يَا حُب رِفْقاً بهذا الْخَافِقِ المْعاني
فِيكَ الشِّفَاءُ ومِنْكَ الدَّاءُ أَجْمَعُهُ
…
كَفَاكَ أَنْكَ أَنْتَ الهادِمُ الْباني
حَتَّامَ تُخمِدُ من وَجْدي وَتُشْعِلُهُ
…
وِتْلْتَقي فيك أَفرَاحي بأحْزَاني
يَا مَنهلاً ظلَّ يَرْويني وَيُعْطِشُني
…
رحماكَ رِفقاً بِراوٍ مِنْكَ عَطْشان
قالوا هُوَ البُعْدُ قَدْ يُنْسِيكَ لوْعَتَهُ
…
وَكُلَّمَا زَادَ بُعْدي زادَ تَحْنَاني
أَبْغي السُّلُوَّ ولا أَبْغيهِ وا أسفا
…
قلبٌ تنازعَهُ في الحبِّ ضِدَّانِ
وللصَّبابةِ أحكامُ رَضيتَ بها
…
ما كانَ أسعدني فيها وأشقاني
أُحِبُّ لِلحُبِّ لا أبْغي به غَرضاً
…
لو كانَ يَرْحَمُ أَحْشائي وأجْفاني
أنا الوَفِيُّ وَعَهْدِي لا يُغَيِّرُهُ
…
بُعْدُ المَزَارِ وَعَذلُ العاذِلِ الشاني
فإِنْ أَرَدْتِ دَليلاً فاسْألي أرَقى
…
سُهْدِي دَليلي ودَمعي خيْرُ برهان
يا من أُحِبُّ وأَخشى أن أُسَمِّيها
…
لا يُثنِّيني عنكِ اليومَ من ثان
فلا تقولي فتىً لُبْنَانُ مَوْطِنُهُُ
…
هَلِ الْكِنَانَةُ كانَتْ غيرَ لُبنان
إنْ يَنْبُ بي وَطَنٌ نفسي الفِداءُ لهُ
…
لم يَنْبُ بي في رُباها مَوْطِنٌ ثان
يا جارَةَ النِّيلِ ما أهْلوكِ لوْ عَلِمُوا
…
إلا رِفاقي وَإخواني وأعواني
يَمَّمْتُهُمْ فإِذا بي منهم وإذا
…
بالرَّبع رَبْعي وبالأوطان أوطاني
أنا الغريبُ بآرائي وَرَوْعَتِها
…
وَصِدقِ قَوْلي وأشعاري وألحاني
أنَا الغَريبُ بُروحي بَيْنَ منْ جَعَلوا
…
لِلْحبِّ مَعْنىً وَضيعاً غيرَ رُوحاني
أنا الغريبُ غريبُ الدار في وَطني
…
ما بَيْنَ أَهْلي وأحْبابي وأخداني
يا مُنْيَةَ الرُّوحِ حَسْبي في هَوَاكَ ضَنيً
…
رُدِّي عَلَى الْجَفنِ صَوْبَ المَدْمَعِ القاني
رُدِّي عَلَىَّ شبابي وارْحَمِي كَبداً
…
غَادَرْتِها نَهْبَ آلامٍ وَأَشْجَان
صِلِي مُعَنَّاكِ لا تَخشَىْ عَوَاذِلَهُ
…
قَوْلُ الْعَوَاذِلِ مَوْسُومُ بِبُهْتَان
لا تَحْرِمِينِيهِ عَطْفاً عَزَّ مَطْلَبُهُ
…
كَفَى بنَفْسي شَقَاَء طُولُ حِرماني
أَنْ يُنكِرِ الأَهْلُ وَالْخلاَّنُ مَوْقِفناً
…
لا الأَهْلُ أهلي ولا الْخلاَّنُ خلاَّني
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل
رسالة الفن
بعد دنانير
عودي فاصحي يا أم كلثوم
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أم كلثوم. عبد الله أباظة. عبد الحليم محمود. زكريا أحمد. محمد القصبجي. رياض السنباطي. أحمد رامي. أحمد بدر خان. عباس فارس. سليمان نجيب. . .
هؤلاء جميعاً ومعهم غيرهم تعاونوا في إخراج (دنانير). وهؤلاء وغيرهم الذين معهم، جميعاً، من جبابرة الفن في مصر، سواء منهم الذين يغذون الفن بالمال، وسواء منهم الذين يغذون الفن بالفكر والجهد، وسواء منهم الذين يغذونه بالشعور والحس
ومع يقيني بهذا، واعترافي به، فإني أريد أن أقول إن فلم (دنانير) الذي تعاون فيه هؤلاء كلهم ومعهم وغيرهم. . . فلم فاشل ميت! فكم من القراء يا ترى سيصدق قولي هذا ويعترف لي بالحق فيه؟ وكم منهم سيقول:(أسكت المفتون عن عبد الوهاب فاندار على أم كلثوم!).
فليقل من يريد ما يشاء أن يقول، فأنا مرتاح إلى حكمي هذا، كما أني أضمن مع صوتي فيه صوتين أثنين على الأقل، هما الصوتان الصارخان في انكتام، المنبعثان من صدري عبد الله أباظة بك والأستاذ عبد الحليم محمود المنفقين على الفلم والمغذيانه بالمال. فقد كانا من غير شك يؤملان في ربح كبير يدره عليهما هذا الفلم ليبعث في نفسيهما بعده التشجع على إخراج غيره وغيره تحقيقاً لما ينزعان إليه من النهوض (بصناعة السينما) على اعتبار أنها صناعة مصرية ناشئة، وعلى رجاء فيها لو نمت وترعرعت وازدهرت أن تنمو معها الفنون الجميلة جميعاً في مصر وأن تترعرع وأن تزدهر، فالسينما هي المعرض الحي الباقي المتنقل الحفيظ على إنتاج الروح من أدب، وتمثيل، وموسيقى، وغناء، وتصوير، وزخرفة، وهندسة، وتزيين، ورقص، وإخراج وغير ذلك. . . وكلما راج هذا المعرض راجت بضائعه، وكلما راجت بضائعه أنتعش تجارها من أصحاب الفنون المختلفة، وكلما أنتعش هؤلاء سرى الانتعاش من أرواحهم إلى أرواح جماهيرهم، وكلما شعرت أرواح
الجماهير بفرحة الفن ونشوته انتفضت أعصابها وارتعشت فيها الحياة، وعندئذ يرجى من هذه الجماهير الخير وعندئذ تراها الدنيا وهي شعوب مقبلة على حياة العمل والحركة والتوثب والسمو
وعندنا المثل على هذا. . . أمريكا فابرز ما في صناعاتها السينما، وأبرز ما في أخلاقها النشاط الذي يكاد يكون جنوناً
. . . هذه من غير شك آمال كانت تخفق بها نفس عبد الله أباظة بك ونفس الأستاذ عبد الحليم محمود، ونزوعاً إلى تحقيقها أنفقنا ما أنفقنا في إخراج هذا الفلم، والذي أنفقناه لابد أن يكون مبلغاً ضخماً جداً من المال، فمناظر الفلم وأثاثه ورياشه وملابسه كلها مما يقصم الظهر إعداده وتجهيزه، وأجر المؤلف وأجر المخرج وأجور الممثلين وإن كانت تقل بكثير عن أمثالها مما يدفع لزملائهم في الخارج فهي من غير شك كانت في مجموعها مبلغاً لا يستهان به، وأجور الملحنين هي وحدها لا أستطيع أن أقول إنها كانت شيئاً مذكوراً فهؤلاء وحدهم هم المظلومون الذين يعطون مادة الغناء للأفلام الغنائية التي ترتكز على الغناء أول ما ترتكز
ضحت شركة أفلام الشرق ما ضحت في سبيل دنانير، وجمعت لأم كلثوم كل القوى التي حسبتها كفيلة بإبلاغ الفلم إلى درجة الكمال التي تتوق إليها، فإلى أي حد أدت كل قوة من هذه القوى واجبها، وحملت أمانة القسط المعهود إليها به؟
وقبل أن أقول كلمتي الهزيلة في هذه القوى وفي أم كلثوم من فوقها يجب أن أذكر لشركة أفلام الشرق تضحية أخرى غير التضحية المالية، بذلتها راضية عن حب وكرامة لتوفر لأم كلثوم كل أسباب الراحة والاطمئنان في العمل، تلك التضحية هي أنها أخضعت إرادتها لإرادة أم كلثوم في اختيار هذه القوى التي ساندتها وعاونتها، اللهم إلا واحداً فقط تشبث به عبد الله اباظة بك وهو زكريا أحمد فقد كان على خلاف مع أم كلثوم، واباظة بك هو الذي ذلل هذا الخلاف وأزاله. . .
أم كلثوم أولاً
والآن. . . ما الذي حدث لآم كلثوم حتى أنها استحالت في نظري من فنانة تشبع النفس إشباعاً مريحاً إلى هذه الجديدة التي حين سيطرت على عمل فني كبير مثل (دنانير) خرج
من تحت يدها وهو فاشل ميت مع وفرة المال الذي بذل فيه وطواعية المعاونين الذين عاونوها فيه. . .؟
لابد أن يكون قد حدث لأم كلثوم شيء وأصاب نفسها وقعد على روحها؟ فما هذا الذي حدث؟ وما هي دلائله؟!
الكاميرا صاحبة العين النافذة تقول لنا ما الذي حدث!
قالت لنا الكاميرا إن أم كلثوم اغترت، وإن إحساسها ركد، وإن بدنها طغى على روحها، وإنها استمرت التكلف والتصنع حتى نضبت سجيتها وجفت عواطفها؛ فانحرمت من الفرح تبعاً للذي أرادته من الامتناع على الألم. وقد قالت لنا الكاميرا أيضاً إن أم كلثوم - لها الله - قد تحجرت.
أما غرور أم كلثوم فشيء رأيته شائعاً في الفلم ولكني لم أستطيع أن أطبق على عنقه متلبساً بحادثة، لأجره وأقفه أمام الأنظار وهو عريان. فللذين يريدون أن يروه أقول إن عليهم أن يشاهدوا الفلم ليتحسسوه فقد يلمسونه.
وأما ركود الحس فقد قبضت عليه متلبساً بحادثة، وقد ظهر على أم كلثوم في موقفها مع الخليفة حين كانت تستعطفه على جعفر فما بدا في هذا الاستعطاف إحساس بجعفر ولا بها ولا بالخليفة.
وإنما الذي بدا منها في هذا الموقف اهتزازات وغمزات بالكتفين وهمزات في الصوت لا يمكن أن تصدر من موجع يستعطف لمنكوب؛ وإنما هي قد تصدر من جارية تغري مولاها إذا هجرها وأما طغيان البدن فظاهر في هذا الموقف أيضاً لأنه مصاحب لركود الحس؛ فكل من ركد حسه طغى عليه بدنه، وهو ظاهر كذلك في مواقف أم كلثوم الغنائية جميعها. فقد كانت تغني وتحرص على أن تضم شفتيها وتصغر فمها فلا تفتحه مهما تطلب الغناء أن تفتحه، كأنما كانت تخشى أن يرى الناس فمها واسعاً وكأنما كانت تخشى أن يرى الناس شفتيها غليظتين؛ مع أن أهل الفراسة يقولون إن الفم الواسع والشفاه الغليظة من لوازم الغناء، لأنهما عضوان من الأعضاء التي يتكون منها جهازه البدني
ولأن أم كلثوم قد فعلت فعلتها هذه، فقد كانت الألحان تخرج من بين شفتيها مخنوقة مصفاة الدم مجهدة الروح، ولو كنت أنا زكريا أحمد لطالبت أم كلثوم بتعويض كبير، لأنها خنقت
لي لحن (بكره السفر) - على الأقل - فهو لحن كان من حقه أن يذيع في مصر من أقصاها إلى أقصاها اليوم لو أن أم كلثوم أرسلته حياً نابضاً كما أعطى لها. . .
وليس (بكره السفر) وحده هو اللحن الذي قتلته أم كلثوم، وإنما هي سامحها الله قد قتلت ألحان الفلم جميعاً، فبعضها مات موتاً، وبعضها أغمى عليه، وبعضها أصيب برضوض وعاهات
أما التكلف والتصنع فقد سجلته الكاميرا على أم كلثوم في هذا الذي رأيته، كما سجلته مع هذا في كل موقف من مواقف الفيلم تبسمت أم كلثوم فيه. . . فابتساماتها لم تكن إلا هذه الابتسامة الجامدة التي عرفت بها السيدة بديعة مصابني.
لقد كانت هذه الفتاة من عامين فقط حقيقة كالحلم الذي يطوف بروح القديس، فأصبحت اليوم حلماً كالحقيقة التي لا تطوف بروح القديس. . .
أختاه. . . لا تقولي ما لهذا الولد يتصدى لنفسي؟ فإني لا أعرف سبيلاً إلى نقد الفن إلا نقد النفس، لأني لا أعرف الفن إلا على أنه ثمرة النفس، ولست أعرف هذا من كتاب قرأته، ولا من (هبسلنتي) ولا من (شرونتسكي)، وإنما عرفته منك ومن غيرك ممن أتلقى غذاء روحي عنهم.
فأفهميني، واسمعي كلامي، وعودي واصحي. . .
وإلى اللقاء. . . إذا شئت.
المؤلف
هو الأستاذ أحمد رامي. . . والأستاذ أحمد رامي لا يؤلف شيئاً في هذه الأيام إلا إذا طلب منه هذا الشيء.
وأظنه لا يستطيع أن يقول إنه يدخر في نفسه أفكاراً وأحاسيس يرسلها حين يطلب منه ويؤلف، وهو لو قال ذلك لما صدقه أحد، لأن فلم دنانير لا يزال معروضاً على الناس وقصته هاهي ذي أمامنا حوادث هادئة متتابعة ومناقشات متتالية ليس فيها مفاجأة واحدة تصدم الفكر العادي مما يمكن أن يقال إنها من مذخرات كاتب فنان. . .
وقد نبلع للأستاذ رامي هذا كله إزاء أبيات قليلة من الشعر أفلتت منه حية إلى حد ما، كما أننا قد نقبل هذا كله لأن الناس اتفقوا فيما بينهم يأساً وقنوطاً على أن هذه الأفلام الغنائية لا
يرجى فيها الموضوع ولا يقصد فيها إلى الاستمتاع بالأدب. . . ومع أني لا أحب أن أخذ بهذا فإني آخذ به إرضاء للأستاذ رامي.
الإخراج
إذا كان الإخراج هو التنسيق والتزيين والترتيب فإن الأستاذ أحمد بدر خان قد وفق في دنانير إلى إدراك هذا كله.
أما إذا كان الإخراج هو نفخ الروح في التمثيل والممثلين، فإن الأستاذ أحمد بدر خان لم يوفق إلى شيء منه، وكان طبيعياً ألا يوفق الأستاذ إلى شيء منه لأنه إنما اختير لإخراج هذا الفلم اعتماداً على أنه رجل هادئ الطبع يرضي من يعمل معهم قبل أن يرضي نفسه. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نعتبر كل ممثل في هذا الفلم مسئولاً عن نفسه وعن تمثيله.
التمثيل
عباس فارس. . . قلت إنه يجود، وقد جود دور الخليفة وإن كان أستهله استهلالاً بدا إنجليزياً في المشية والجلسة ولإشارات والحركات، وقد ساعدته على هذا الموسيقى التي وضعها الأستاذ الشجاعي لهذا الاستهلال، فقد كانت هي أيضاً موسيقى إفرنجية بحتة لو أغمض الإنسان عينيه وأستمع إليها لذكر فرانسوا الأول، أو فردريك الأكبر، أو شارلمان، أو ملك من الملوك إلا هرون الرشيد العربي. . .
سليمان نجيب. . . قد يؤلمه أن أقول إني أراه في التمثيل كما أرى إخواننا من طلبة الجامعة أعضاء فرقها التمثيلية. ولكن هذا رأيي، ولم يكن لرأيي في يوم من الأيام قيمة تؤثر على مكانة إنسان ما. . .
عمر وصفي. . . كان عظيماً في دوره القصير. دور أبي دنانير
فؤاد شفيق. . . كان مكتوفاً في دور أبي نواس. أراد أن يمثل شيئاً ولكن المؤلف أقعده.
التلحين
(بكرة السفر) هو غرة الألحان في هذا الفلم. فهو لحن حي راقص منساب سلس مطرب ثم إنه قبل هذا وذاك لحن شرقي. وهو من ألحان زكريا.
(قولي لطيفك ينثني) غنته أم كلثوم ثلاث مرات بثلاث تلاحين، وهذا تحد فني لا يجرؤ
عليه إلا زكريا أحمد.
(لحن العيد) من ألحان السنباطي الحلوة لولا أنه بعيد عن روح عصر الرشيد. (لحن النبع) من ألحان القصبجي التي أعتاد أن يملأها هندسة وتفكيراً يستعيض بهما عن العاطفة التي اختطفت منه. . .
إني أعتذر
وأخيرا. . . لابد لي من أن أعتذر عن هذا النقد القاسي، فأنا أعلم أن الذي يقرأه من غير أن يشاهد الفلم، ويكون ممن يصدقونني، سيحكم على الفلم - بحكمي. . .
ولذلك أبادر فأقول: إن فلم دنانير لا يزال في طليعة أفلام الدرجة الأولى التي أخرجت في مصر، وإنه يستحق أن يشاهد مرتين وثلاثاً وأربعاً. . . وإن الذي يشاهده لا ريب سيخرج منه بمتعة ومتعة ومتعة. ولكنني إذ أقف أمامه هذه الوقفة المنكرة أرجو أن يصادف كلامي آذاناً مصغية، وقلوباً واعية، فإذا تحقق هذا انتفت من أعمالنا الفنية هذه العيوب التي أعيبها وأحب الخلاص منها.
وقد كنت أستطيع أن آمالي هذا الفلم بكلام يرضى أصحابه ولكنني أعلم انهم في غير حاجة إلى الممالقة، فهم ليسوا صغاراً، وليسوا ضعافاً، وليسوا فقراء إلى مثلي. . . بل ربما كنت أنا الفقير إليهم، أغناني الله عنهم. . .
وعلى هذا فإني أهدي إليهم تهنئتي القلبية الصادقة، كما أؤكد لهم أن (الرسالة) ليست مسئولة معي عن هذه القسوة، وكما أعيد عليهم قولا قالته (الرسالة) يوماً نقدت فيه (جندول) الأستاذ عبد الوهاب، وهو أنه في أغلب الظن ليس كثير من النقاد ينضم إلي في رأيي. . .
عزيز أحمد فهمي
البريد الأدبي
أغلاط نحوية وصرفية
قرأت في (الرسالة) كلمة للأستاذ محمد عبد الغني حسن عن استهانة الجمهور بقواعد اللغة العربية، وقد ضرب الأمثال بما يقع من الأغلاط النحوية والصرفية في الإعلانات، وتلطف فقدم إلي تلك الأمثال (هدية متواضعة) لأطبْ لها ونظائرها في المدارس الأجنبية، كأن إنشاء الإعلانات بالعربية مقصور على المتخرجين في تلك المدارس!
وأجيب بأن الأستاذ قد أشتط في تصور لغة الإعلانات، فمن القبيح حقاً أن ينصب جمع المذكر السالم وملاحقاته بالواو فيقال (ثلاثون) في مكان (ثلاثين) كالذي وقع في الإعلان الذي نص عليه، لكن من الواجب أن نتسامح حين نرى الإعلان يقول:
(نظراً لكونه صنف جيد)
فنصبُ كلمة (صنف) في خبر الكون من الدقائق النحوية، وهي لا تُطلب من موظف صغير في مخزن بنزيون أو مخزن سمعان، وكيف وهي من الألغاز عند طلبة الأزهر الشريف؟
ولو أن الأستاذ تأمل لعرف أن الموظف الذي نصب ثلاثين بالواو لم يقصد إلا الإفصاح، فهو يسمع الناس جميعاً يقولون ثلاثين، ومن هنا صح عنده أنها لا تكون منحاة إلا إن كانت (ثلاثون) لأنه يتوهم أن العامي هو الذي يسير على ألسنة الناس!
ومثل ذلك ما وقع في الإعلان عن رواية سينمائية أسمها:
(الرجل ذو الوجهان)
وما رسمها الخطاط كذلك إلا لتوهمه أن (الوجهين) عامية لأن الجمهور لا ينطقها في لغة التخاطب إلا بهذه الصورة في جميع الأحوال.
والحق أننا نسرف في محاسبة الناس على الأغلاط النحوية والصرفية، ولو أنصفنا لعرفنا أن التمكن من النحو والصرف لا يتيسر لجميع الناس. وإلى هذا الصديق أسوق العبرة الآتية:
كان من عادتي حين يتحدث رجل مسئول في الإذاعة اللاسلكية أن استمع وبيدي قلم وأمامي قرطاس لأسجل ما يقع في الحديث المذاع من الأغلاط النحوية والصرفية، ثم
أطلب المتحدث بالتليفون فأنبهه إلى تلك الأغلاط برفق، إن كان من الأصدقاء أو أشير إليها في مقالاتي إن كان (أيضاً) من (الأصدقاء).
ثم اتفق أن أذاع الأستاذ الدمرداش مراقب الامتحانات بوزارة المعارف حديثاً عن رحلة في (وادي دجلة) شرقي المقطم فاستمعت وبيدي قلم وأمامي قرطاس، وما زلت أعد الأغلاط النحوية والصرفية حتى مللت، مع أني أصبر الرجال على المكاره وأقدرهم على تحمل الأرزاء.
فكيف كانت حالي بعد ذلك؟
هل تراني نفضت يدي من الثقة بكفاية الأستاذ الدمرداش مراقب الامتحانات بوزارة المعارف؟
وكيف وهو رجل فاضل بشهادة الجميع؟
لم يتغير رأيي في الأستاذ الدمرداش من حيث أنه موظف كبير يؤدي واجبه بنشاط ملحوظ، وإنما اكتفيت بإضافته إلى من تصعب عليهم مراعاة قواعد اللغة العربية في الخطابة والحديث وهل أدعى الأستاذ الدمرداش أنه من أقطاب الأدب العربي حتى نحاسبه على الخطأ في النحو والصرف؟
يكفي أن يستطيع مثل هذا الرجل الفاضل أن يؤدي أغراضه بعبارة واضحة جلية، وإن خلت من الدقة في التعبير، لأن الدقة في التعبير لا تطلب ولا تنتظر إلا من أعيان البيان، ومن كان في مثل عقله لا يدعي ما لا يطيق.
قد يقال إن من حق التلامذة أن يطلبوا التغاضي عما يقع في أجوبتهم من أغلاط يقع في مثلها مراقب الامتحانات بوزارة المعارف.
وأجيب بأن هذا اعتراض مردود، فالأستاذ الدمرداش بعُد عهده بقواعد النحو والصرف، ولا يُطلب فيمن كان في مثل حاله غير الوصول إلى الغرض بأسلوب مفهوم وإن كان غير دقيق.
ولم يكن الأستاذ الدمرداش أول من حار بين الخطأ والصواب، وإنما اتخذت الشاهد مما وقع في حديثه الجميل، لأنه رجل تهمه الدقة في كثير من الشؤون، ولأنه بحكم وظيفته العالية يسره - أو لا يؤذيه - أن يكون النقد صدقاً في صدق
أما بعد فهل يكون اعتذاري عن الأستاذ الدمرداش إيذاناً باني أبيح حرية الخطأ في النحو والصرف؟ هيهات هيهات، فلن يكون جميع المخطئين في منزلة هذا الرجل المفضال!
زكي مبارك
الانتحار
سيدي الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء:
يبالغ بعض الكتاب مبالغة غير معقولة في التنويه بما بين الانتحار وبين المشاعر السامية من صلات، حتى لقد قال أحد الشعراء العصريين:
وحدثت نفسه عيسى بقتلهما
…
وكاد أحمد يقضي غير مذكور
وفي أعداد الصحف الأخيرة رسائل لكثيرين من الأدباء ينظرون فيها إلى الانتحار كأنه بعض فضائل المنتحر، وذلك بمناسبة انتحار أدبيين من أدباء الإسكندرية شملتهما رحمة الله.
ولقد نشرت كبرى الصحف اليومية أن أحدهما لم يمت منتحراً بل كان يجرب مسدسه فانطلق. والقول منسوب إلى رجال من أسرته في الذروة العليا من المجتمع المصري الكريم.
وسواء أكان ذلك أم كان غيره فإن الفاضل فاضل والنابه نابه بسبب أعماله وأقواله الطيبة لا بسبب انتحاره، والانتحار إن كان سبباً للإشفاق والرثاء، فما يصلح أن يكون سبباً للإعجاب ولا يجوز اعتباره عذراً عاذراً
ينسب إلى أحد الحكماء قول أظن الحكمة في عكسه. وهذا القول هو أن الناس لا يموتون بل ينتحرون، وهو يعني أن الموت الطبيعي إنما يكون نتيجة لخطأ
وأحسب القول الصحيح أن المنتحرين لا ينتحرون بل يموتون، لأن الانتحار لا يقع إلا والمرء مسلوب الحيوية فاقد التدبير فهو في حكم الميت حين اختار لنفسه الموت
على أن العرف لا يقف عند هذا الحد من تقديره، وبعض القوانين تنظر إليه نظرة أقسى
ومهما تكن النظرة إليه فإن التغاضي عن استنكاره يوشك أن يكون أذى لطائفة يبلغ بها العجز مبلغ التفكير في الانتحار
للكاتب في نجواه أن يجامل أفراداً ولكن عليه ألا ينسى أن المقال المنشور موجه إلى سواد القراء لا إلى نفر من الأصدقاء والأهلين، وأن المقال المنشور يجب أن يصف شعور الكاتب نفسه نحو الحياة لا شعور من فارقوا الحياة نحوها
فإلى الذين قرءوا كلمة الأديب عبد العزيز سالم في العدد الأخير من الرسالة بعنوان (الأدب والانتحار) تلك الكلمة التي تعقد العلة بين الأدب وبين الانتحار وتحذر الأدباء من هذا المصير، إليهم أقول:
يا شاكياً عنت الدنيا وقسوتها
…
دع لي الشقاء ودع لي فسحة الأجل
وإليهم أقول:
لو مدَّ عمر الكون في عمري
…
لرميت هذا العمر بالقصر
وإليهم أقول:
انشق نسائمها فلم يك راحل=عنها لينتشق النسيم عليلا
أسأل الله أن يطيل أعمارهم وعمري وأن يهبنا التدبير للخروج من المآزق من غير هذا الطريق، ولا أسأل الله رد القضاء ولكني أسأله اللطف فيه
عبد اللطيف النشار
إلى الأستاذ النشار
إن العبارة التي تعود العامة أن يعبروا بها حين يريدون وصف السكران بأنه شديد السكر وهي قولهم (سكران طينة) قد وردت أيضاً في كتاب (شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل) لشهاب الدين الخفاجي
قال في الكتاب المذكور ص 126 ما يأتي:
(سكران طينة) تقوله لمن سكر سكراً شديداً كأنه لوقوعه في الطين، ومن ملح المعمار قوله:
وجرةٍ أبرزوها
…
والروح فيها كمينة
شممت طينةَ فيها
…
فرُحت سكران طينة
وقد قالوا: الطين غالية السكارى. . . الخ.
آنسة
سناء محمد
بين الكتاب والقراء
أخذ بعض القراء على الدكتور عبد الوهاب عزام أنه حين روى هذا البيت في مقالة أخلاق القرآن:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً
…
كنقص القادرين على التمام
نسبه إلى (أبي الطيب) ويرى أن الصواب أن ينسب إلى (المتنبي)
وأخذ قارئان آخران على صاحب مقال (شعر الزواج) أنه نسب البيتين الآتيين:
تقول التي من بينها خف محملي
…
عزيز علينا أن نراك تسير. الخ
إلى (الحسن بن هانئ) والصواب أنهما (لأبي نؤاس)
وتحب (الرسالة) أن تذكر للقراء الأفاضل أن (أبا الطيب) هو (المتنبي). وأن (أبا الحسن بن هانئ) هو (أبو نؤاس).
دار الثقافة بالسودان
جاء في جريدة (المؤتمر) السودانية ما يأتي:
افتتحت أبواب دار الثقافة بالخرطوم ليجتمع بها السوداني والمصري والبريطاني جنباً لجنب يتناظرون ويبحثون في العلوم والفنون والآداب، وينهلون من بحر مكتبة ضافية بالمراجع العلمية في شتى ما وصل إليه الفكر الإنساني من المعارف
وحكومة السودان كانت حريصة كل الحرص لنشر الثقافة العامة عن طريق هذه الدار، وما زال أعضاء هذه الدار يواصلون محاضراتهم - منذ أن أنشئت - في مختلف الشؤون التي تهم الرجل المثقف. والدار فوق ذلك يراد بها أن تكون حلقة اتصال ثلاثي بين إنجلترا ومصر والسودان، أو إن شئت فقل محور ثلاثي ولكن للتعاون الثقافي وخلق التفاهم بين عناصر قد يكون من الخير لها جميعاً أن تتفاهم فكرياً حتى يأتي اليوم الذي تتفاهم فيه على أمور حيوية أخرى، ونحن نأمل أن يكون قريباً إن شاء الله
وكثيراً ما سمعنا همسات وكلمات لا ينقص بعضها الصراحة نشرت في الجرائد اليومية عن هذه الدار وعن الأغراض التي أنشئت من أجلها، ولست أرى معنى للتخوف والتردد
في كل أمر جديد إذا اقتنعنا بأننا أفراداً أو جماعة لا يمكن أن يغرر بنا أو نساق سوق البهائم ما دمنا مدفوعين برأي وعقيدة!
لكن هناك مسألة أراها جديرة بالذكر والتعقيب تلك المسألة هي خوف بعض الناس على (ثقافتنا التقليدية) أن تطغى عليها تيارات أخرى غريبة عنا في وسط لا تتكافأ فيه عناصر المحور الثلاثي، ومع احترامي لهذا الرأي فلست أرى وجهاً لهذا التخوف للسبب الآتي:
تقوم دعائم الثقافة السودانية على أسس عربية إسلامية وهذا هو الوضع الطبيعي لبناء الثقافة في قطر كالسودان يدين بالإسلام ويمت إلى العروبة بوشائج الدم والرحم - والإسلام كما يعرف الناس جميعاً هو عقيدة وحضارة معاً ولا يمكن لأي حضارة أخرى مهما بلغ سلطانها واجتمع نفوذها أن تطغى معالم الحضارة الإسلامية - والثقافة في رأينا تمثل جوانب عامة من النواحي العقلية والنفسية وأساليب العيش والتفكير التي تفرضها عادة الحضارة على الناس
ولست أريد هنا أن أتعرض لمن يتوهمون بأن السودانيين والشرقيين عامة يمكن أن يتخذوا الثقافة الغربية ثقافة عالمية تشمل الشرق والغرب وتقرب أوجه النظر بين الشعوب والأجناس المختلفة، ذلك وهم ساد بعض العقول فظنت أنه حقيقة وأنكرت ميراث الناس واختلاف بيئاتهم ونزعات عقولهم ومناط تفكيرهم وما لهذه العوامل من الأثر الفعال في خلق الثقافة العامة وتوجيهها في الطريق الطبيعي الذي تسلكه
إن ثقافة هذا الشعب عربية إسلامية، وهذه الثقافة قد كتب لها البقاء والتغلب لأن من خصائصها أنها تأخذ وتعطي في وقت معاً فهي لا تأبى الأساليب الجديدة والأفكار والمبتكرات والاتجاهات بل تأخذ هذه كلها ثم تصهرها في قوالبها الخاصة وتزيل عنها عوامل الضعف والفساد مما لا يتمشى مع روحها العام ثم تعيدها مرة ثانية وهي حرة خالصة عميمة النفع سليمة الأصل.
لهذا لا خوف على (ثقافتنا التقليدية) من هذا الاختلاط ما دمنا مدفوعين بعقيدة، وهذه العقيدة هي أننا أبناء أمة ناشئة تريد أن تبني مجدها على ميراثها العربي الإسلامي، وأن لا تتخلى عن مثقال ذرة من هذا الميراث الذي يأخذ ويعطي بطريقته الخاصة، والذي غالب الزمن فغلبه، وما زال حياً باقياً وسيظل كذلك ما دامت في الدنيا حياة
حول تفسير بيتين
قرأت في الرسالة الغراء أن الأستاذ السعيد جمعة رأى لزاماً عليه أن يتقدم لتفسير هذين البيتين
بذكر الله تزدادُ الذنوب
…
وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه (حالاً)
…
فإن الشمس ليس لها غروب
والتفسير الذي تقدم به مقطوع الاتصال بالمعنى المطلوب. والذي أراه أن لرجال التصوف نظرات عكسية تقلب الحقائق المعلومة إلى حقائق أخرى عليا لا يدركها غير أهلها. فالشاعر يشير إلى علمه بعيوب بشريته ومساقط نفسه ويرى أن مقام العزة الإلهية أجل وأعلى وأرفع من أن يتلوث بذكر لسان غير منزه عن فحش القول ويرى أن جرأته على ذكر العظمة القدسية وهو في دائرة عيوبه النفسية ذنب، وهذا المعنى العكسي ينبعث من مقام تنزيه الألوهية عن الحاجة إلى التنزيه
أما الشطر الثاني فليس المراد به ذكر اللسان الذي يترك القلوب مطموسة والبصائر مغلقة. وإنما المراد به وصف (الحال) في أرفع مقامات الشهود حيث يكون الذكر نفسه حجاباً للذاكر عن مذكورة.
وهذا ما يشير إليه في البيت الثاني بأنه راسخ القدم في (الحال) الشهود الرفيع الشأن كما تشهد الشمس عياناً فتستغني بشهود ذاتها عن ذكر أسمها. وهو في مقام شهوده لا يشهد في ذاته غير أنه عين شمس الوجود فشمسه ليس لها غروب. ويشير الأستاذ السعيد جمعه إلى هيام رجال التصوف باللغز والرمز وأنهم يشيرون بمثل قولهم (معبودكم تحت قدمي) و (ما في الجبة غير الله) إلى مذهبهم في الحلول. وما هي حيلتنا مع من يتهمنا بما لا يعلم. فأهل الحقيقة ليس لهم مذهب يسمى (الحلول) لأن (الحلول) يستلزم الظرفية بقولك (حل في كذا) وهذه الظرفية باطلة فلا يشهدون في الوجود غير الله إذ لا غيرية ولا أثنينية، فهو الله الظاهر والباطن إلّه واحد لو كنتم تعلمون.
أحمد فهمي الباجوري
جريدة الواجب في عامها الخامس عشر
دخلت جريدة الواجب التي تصدر عن المنصورة لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد جاد جمعة في عامها الخامس عشر وبالرغم من تلك الأزمة التي انتابت الصحف بسبب ما وصلت إليه حالة الورق، ستظهر الواجب على عهدها صباح الاثنين من كل أسبوع في ثوب قشيب بالألوان والصور مدبجة بأقلام مجموعة من كبار الكتاب والأدباء.
القصص
أمنية تحققت. . .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت (سمية) جالسة إلى مكتبها في الغرفة العليا من إدارة (شركة المبيعات الوطنية) وبين يديها الآلة الكاتبة تنقر عليها بأصابعها وهي تترنح وتهتز في مرح ونشوة كأنما توقع لحناً موسيقياً تناجي به أمنية عزيزة من أمنيات الشباب، وكان على شفتيها ابتسامة راضية كأنها من الأمل الذي تأمله على ميعاد؛ وإنها لجالسة مجلسها ذلك منذ ساعات لم ترفع رأسها ولم تبرح مقعدها، ولكن في وجنتيها حمرة ناضرة كأنما هي عائدة لساعتها من مجلس قصف وشراب؛ وكان في السماء برق ورعد ومطر، ولكن في قلبها هدوء الثقة وروح الاطمئنان.
وفرغت (سمية) من نقش الرسالة التي بين يديها، فكفت أصابعها عن الحركة وراحت تخلص الورقة من بين أضراس الآلة الكاتبة وهي تغني في صوت هامس أغنية من أغنيات الهوى والشباب. ثم نظرت في ساعتها وهمت أن تنهض لميعاد الغداء؛ ودق الجرس، وهبت سمية واقفة لترد تحية المدير الشاب، ثم استأذنت ومضت معجلة إلى مثواها حيث تتوقع أن يكون أخوها في انتظارها لموعده على الغداء. . .
لقد كانت سمية سعيدة بحياتها على ما فيها من نَصَب وجهد ورزق محدود؛ إذ كان لها نفس راضية قنوع، لا تتطلع إلى ما لا تملك، ولا تعرف من أيامها غير اليوم الذي تعيش فيه؛ فلا هي تذكر ماضياً تأسى عليه، ولا غداً تتشوق إليه؛ فوجدت سعادة الرضا حين فقدت سعادة المال ورفاهة الغنى، وتعوضت من شيء بشيء.
على أنها لم تكن كذلك في ماضيها؛ فقد كان أبوها رجلاً من رجال المال، وكان له جاه وصيت وشفاعة، ولكنها لم تدركه حين أدركته إلا شيخاً حُطمة قد لبسه الدهر فأخلقه وذهب بماله وجاهه، فلم يترك لها حين آن أوانه إلا حطاماً من الذكريات، وخلفها وأخاها وحيدين فقيرين تتدافع بهما أمواج الحياة من شاطئ إلى شاطئ غُثاء من غثاء البحر أو زبداً طافياً على الماء!
على أن من كرم الله على سمية أنها لم تفتح عينيها للحياة إلا على نور ذبالة توشك أن تنطفئ؛ وباكرها اليُتم والفقر قبل أن تذوق سعادة الاجتماع ورفاهة الغنى؛ فلم تشعر بمرارة
لما صارت إليه، إذ كانت لم تشعر قبل بما كانت فيه؛ وتناولت الحياة كما عرضت لها. . .
وراحت سمية وأخوها يسعيان لرزقهما في رضاً واطمئنان، كما يسعى كل ساعٍ إلى رزقه في غير تبرم ولا سخط؛ ووجد أخوها عملاً في مصرف من مصارف المال يضمن له الكفاف؟ واستخدمتها شركة المبيعات الوطنية كاتبة حاسبة لقاء أجرٍ معلوم يقوم بحاجتها ويفضل؛ وزادها شعورها بأنها كاسبة مأجورة - وإنها لفتاة - زهواً وسعادة واعتداداً بنفسها. ولم يكن هيناً أن تجد فتاة مثل سمية عملاً ففي مثل الشركة التي استخدمتها؛ لولا أنها ابنة أبيها وأنه كان، وكانت له على شركة المبيعات الوطنية أياد تتقضيها الوفاء، فاستخدمت سمية عطفاً عليها وعرفاناً بأيادي أبيها، ولكنها لم تكن تدري، وكان أكثر من تعرف عطفاً عليها وتشجيعاً لها المدير الشاب (شفيق)
. . . إن غداً يوم العيد؛ هذه أسراب الفتيات يزحمن الطريق ويملأ السيارات العامة ومراكب الترام، رائحات غاديات من متجر إلى متجر ينتقين ثياب العيد؛ وهذه أفواج الشباب يخطرون في مرح ونشوة على أرصفة الشوارع وعلى أبواب المتاجر يتأهبون لاستقبال العيد؛ وهؤلاء آباء وأمهات، وصبيان وبنات، في عيونهم نظرات البشر، وعلى قسماتهم آيات المسرة؛ وسمية بين هؤلاء وأولئك لا تلقى بالاً إلى أحد منهم، مُسرعة عجلى إلى مثواه حيث تتوقع أن تلقى أخاها في انتظارها لموعده على الغداء. . .
لقد أوشك شهر أن ينتهي ولم تجلس معه مرة واحدة إلى المائدة، فإن مواقيتهما لمختلفة، وإن عملها في المكتب ليقتضيها أن ترابط هناك كل ليلة إلى لمساء؛ فلا تلقى أخاها إلا رائحاً إلى فراشه، أو غادياً على عمله في الصباح وهو عجلان؛ ولكن غداً يوم العيد؛ فما أحرى أن تفرغ له قليلاً ويفرغ لها وأن تعد له المائدة التي يشتهيهاً، وأن يجلس إليها ساعة وتجلس إليه!
وهيأت سمية المائدة وجلست تنتظر، وأُذنها إلى كل خفقهِ نعل على سُلم الدار تترقب مطلعه. . . وسرحتْ عينيها على المائدة بين ألوان الطعام فاستشعرت الرضا؛ إنها لمائدة حافلة؛ ولكن أين أخوها؟ إنه لم يحضر بعدُ وقد مضى على موعده ساعة. . . وسمعتُ طرقاً على الباب فخفتُ إليه؛ وكان الطارق ساعي المصرف يُؤذنها أن أخاها لن يحضر لموعده، لآن عمله هناك يشغله اليوم عن مشاركتها في مائدة العيد!
وأغلت سمية الباب ودخلت الدار وحيده؛ ووقفت في الشرفة برهة تنظر عيدها وعيد الناس؛ وكان في الشرفات المقابلة رجال ونساء، وبنون وبنات؛ وهتفت: يا أخي! الله لك ولي. . .!
بًلى، لم تكن سمية من بنات جيلها؛ ولكن في أعرقها من دمٍ أُمها حواء؛ وألقى الشيطانُ في قلبها أمنيه. . .
وعز عليها أن يكون غداً عيد الناس جميعاً ولا عيد لها، فتمنت، وكانت متواضعة في أمنيتها. . . فلم تبلغ بها المنى أن تكون مثلَ فلانة وفلانة ممن رأت وعرفت، ولم تتسامَ إلى الأمل بأن تكون من ذوات الغنى والجاه والدلال، ولم تنس الحقيقة التي تعيش فيها فتأمل أن تتغير حياتها من حال إلى حال؛ ولكنها تمنت. . . تمنت على الله الذي يهب للناس سعادة العمر أن يذيقها حلاوة هذه السعادة حيناً ثم. . . ثم يسلبها. . .
ورفعت يديها إلى الله داعيه: يا رب! لا أريدها ألا مذاقاً أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك. . .!
وأومضتْ في حواشي الأفق بارقة من نور، ثم خبت. . .
وسمعت سمية طرقاً على الباب، فأسرعتْ إليه لترى. . .
(شفيق. . .!)
وظل المدير الشاب واقفاً بالباب وعلى شفتيه ابتسامه مستحية وفي عينيه رجاء، وهَمسه: أتأذنين يا سمية!
وأذنت له، فدخل ودخل وراءه ساعيه يحمل إلى سمية هدية العيد؛ وقال الفتى وقد اطمأن به المجلس: سمية، لعل زيارتي لا تسوءك يا آنسه! لقد طالما راودتني نفسي فنهنهتها، ثم هاأنذا وتضرَّجتْ وجنتاها من حياء ثم أطرقت، واستطرد شفيق: ولعلي إذا اخترتُ هذه الليلة لأزورك هنا، أن يكون رجائي مقبولاً لديك. . . انظري إليَّ. . . ولا يضيقْ صدرك بي يا آنسة؛ إن عليَّ لك حقاَ، ولعلني أستطيع أن أصارحك في يوم قريب؛ أما اليوم. . .
وخفق قلب سمية وترادفتْ أنفاسها؛ وأحس الفتى خجلها فلم يثقل، وتهيأ للنهوض، وتواعدا على اللقاء!
وتمتمت الفتاة شاكرة وفي عينيها دموع للتأثر!
وخلت سمية إلى نفسها تفكر. . . وخرج الفتى يفكر. . .
أما هي فتبدَّلتْ نفسها منذ الساعة واستغرقها حُلم عميق، فراحت تعرض ماضيها وحاضرها وما تأمل أن يكون في غد، وذاقت أول ما ذاقت من طعم السعادة معنى القلق. . .!
وأما هو فقد خفَّت نفسه وحلقت في سماواتها وأحس شعور الراحة والرّضا والاطمئنان، فمضى يدبر أمره، أطيب ما يكون نفساً بما فعل وبما يريد أن يفعل من أجل الفتاة التي رفعه أبوها وهيأ له سبيل الغنى والجاه والرياسة، فإنه ليحس بأن له عليه ديناُ ثقيلاً يقتضيه الوفاء لابنته!
واسترسلت الفتاة في أحلامها. . .!
لقد شعرت منذ زارها شفيق وأهدى إليها هديته شعوراً لم يكن لها به عهد، فراحت تذكر ماضيها منذ رأته أول مرة، ثم كيف كانت بعد؛ ومضت تعلِّ وتفسِّر وتستنبط وتستشف حجاب الغد. هذه الابتسامة التي كان يلقاها بها كل صباح، وتلك النظرة التي يوِّدعها بها كل مساء، وذلك الإحسان في المعاملة، وهذا السخاء في المكافأة، وهذه الهدية في ليلة العيد. . . إنها آيات بينات، وإنها لتزعم لنفسها أنها تعرف دلالئلها؛ بل إنها لتحاول الليلة أن تقنع نفسها أن ذلك الشعور الذي تشعره منذ قريب، ليس جديداً عليها، ولكنه سر يستعلن، وضمير يتكشف، وحب كان يستره الحياء فانكشف عنه حجابه؛ بلى إنها لتحبه حباً صريحاً رسخت جذوره على الأيام في أعماق قلبها إلى أبانه! هكذا قالت لنفسها قبل أن تأوي إلى فراشها لتتم في منامها الحلم اللذيذ الذي بدأته في يقظتها. . .!
. . . وقال شفيق لنفسه وهو في طريقه إلى داره: حسن! لقد فعلت اليوم شيئا ولكن عليَّ أشياء؛ إن روح أبيها لتتمثَّل لي لتذكرني بواجبي أن أكون لها كما كان أبوها لي. زهرة غضة لفحتها أعاصير الحياة الهوج فاقتلعتها من منبتها إلى حيث ألقتها دامية على الشوك فلم تشك حظها ولم تتسخَّط، ما أحراها وأًحر بي أن أذيقها طعم السعادة التي حُرمتها، وأن يكون لها عيدُ مثل عيد الناس!. . . هؤلاء الفتيات اللاتي يغدون ويرحن مع أزواجهن أو آبائهن يحملان هدايا العيد ويرفلن في مطارف الشباب وإيراد السعادة، لسن أولى بما يتمتعن من سمية. . .! دينُ طالما هممتُ بالوفاء به، ثم نهنهت نفسي حذر أن أجرح كبرياءها إن مددت إليها بالإحسان يداً؛ ولكنه دين الحي للميت، لا حل منه ولا براءة، وقد
استأذنتها فأذنتْ. . .
وراح شفيق لموعده صبيحة يوم العيد؛ وخرجا معاً يرودان مغاني الشباب ومجالي الأنس والمسرة ذراعاً إلى ذراع، وفي كل قلب حديثه ونجواه. . .
عاطفتان من أسمى ما غرس الله في قلوب البشر؛ أما قلبُ فيخفق بالحب وسعادة الآمل؛ وأما قلب آخر فتغمره سعادة الرضا وتملؤه عاطفة أسمى وأنبل؛ وأن في الحياة لما هو أسمى من الحب وأنبل. . .
وشعر كلاهما أن الله يظلهما بجناحي رحمته حين تحققت لكل منهما أمنيته. . .
ومضت الأيام بها وبه سعيدين لا يكاد يشغلهما عن أمرهما شيء؛ والشباب يجدد لسمية كل يوم مناها ويوقظ أحلامها وهي نائمة؛ ثم استيقظت فجأة. . .
وغدا عليها شفيق ذات صباح ينبئها. . .
. . . كانت سمية قد ذاقت في أيام قلائل من ألوان السعادة ما لم تتوقع أن يتهيأ لها في عمر مديد، ونالت - بمعونة صديقها - حظوة ورياسة في العمل الذي تتولاه لا تتسنى لمثلها بعد سنين من المثابرة والدأب، وزاد أجرها زيادة مرموقة تهيئ لمثلها العيش الرغد في أمان وثقة بالمستقبل؛ ولكن الغد السعيد الذي كان يتخايل لها في أحلامها ويقظتها، وتتنوره على البعد قريباً قريباً دون مد ذراع - كان يشغلها عن الشعور بما هي فيه؛ فلم تكن من كانت، فتاه تعيش ليومها بلا ماض تأسى عليه ولا أمل تتشوق إليه؛ وهل يعيش العاشق إلا في أحد يوميه: أمسه وغده؟. . . ولكن هذا الغد الذي كانت تتوهم أنها تنظر إليه - حين تنظر - من وراء ستر رقيق، لم يكن إلا صورة في إطار ليس وراءه إلا الحائط الصلب، على حين كانت تظن أنها بالغة إليه بين صبح ومساء؛ ومدت يدها تهتك الستر لترى، فإذا الإطار الذي يمسك الصورة الخادعة يردها إلى حقيقة دنياها فيوقظها من أحلامها. . .
. . . وقال لها شفيق: أنت مدعوه غداً يا صديقتي إلى حفل زفافي. . .! وفغرت الفتاة فاها مدهوشة وهتفت: (حفل زفافك!)
إذن فهو لم يكن يحبها، ففيم كانت هذه العناية بها؟. . . وعرفت بعد لأي، فسكتت؛ ثم خلت إلى نفسها فأرسلتْ عينيها أسفاً وندامة!
نعم، إنها لم تخسر شيئاً، ولكنها فقدت الأمل الذي عاشت له أياماً من حياتها كانت كفيلة بأن
تنشئها خلقاً آخر؛ ولم يخدعها صديقها أو يزور لها الحقيقه، ولكنها هي خدعتْ نفسها فباءت بالخسران والحسرة!
قلبان كانا يخفقان لمعنيين متباعدين لم يتكاشفا معنى لمعنى، ألقى الشيطان بينهما أمنية فرقت بينهما على حين كان يرجى بقاء الوداد؛ ما ذنبها؟ وما ذنبه؟ ذلك حكم القدر!
وعادت سمية وحيدة إلى مثواها، كعادتها يوم كانت، ولكنها اليوم فتاة غير من كانت!
لقد نالت كثيراً مما كانت تتمنى، وحظيت من حظ الحياة بما لم تكن تأمل، ولكن. . .
وذكرت موقفها ذات ليلة، يوم رفعت يديها إلى الله داعية:(يا رب! لا أريدها إلا مذاقاً أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك. . .!)
هكذا كانت دعوتها، فهل كان شيء غير ما أرادت؟
لقد استجاب الله دعاءها، فأذاقها من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع، وزادها على ما أرادت؛ ولكنها لم تكسب شيئاً. . .
لقد باعت الغالي بالخسيس، يوم باعت سعادة الرضا بسعادة الأمل. . .!
محمد سعيد العريان