المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 386 - بتاريخ: 25 - 11 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٨٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 386

- بتاريخ: 25 - 11 - 1940

ص: -1

‌إنجلترا هي المثل

قال شوقي: (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت). . . فقال تشرشل: صدق وإنجلترا هي المثل! وكأنه حين قال: (فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا). . . قال بيتان: صدق وفرنسا هي المثل!

ولكن الذي يضع القاعدة بالقول لا يستوي هو ومن يطبقها بالفعل؛ وشتان بين من يطبقها على وجه السلب بين من يطبقها على وجه الإيجاب!

إن تحريك اللسان في الفم أسهل على المرء من تقليب اليد في العمل. وإن رجل التجربة والخبرة، أصلح للحياة من رجل النظر والفكرة. وإن تنشئة الفرد على حب الفضيلة أدخل في إمكان المربي من بناء الأمة على أساس الخلق. . . ذلك لأن تهذيب النفس عمل البيئة والقدوة والعادة، وتهذيب الجنس أثر الانتخاب الطبيعي والدهر الطويل. ومن الكثير الغالب أن تجد واحداً تصلح فيه كل عريزة، ولكن من القليل النادر أن تجد فيه كل واحد. ولعلك لا تجد في عمر الإنسانية شعباً سلم جمعه بسلامة آحاده غير الشعب العربي في الماضي والشعب الإنجليزي في الحاضر. ومرجع ذلك فيما نظن إلى انعزال العرب في الصحراء، وانعزال الإنجليز في البحر، والعزلة في مثل هذه الحال تنفي خبث الاختلاط عن مزايا العنصر الأصيلة فتنضج وتخلص كما ينضج الدر اليتم في قاع البحر، ويخلص الحجر الكريم في جوف الأرض. فلما خرج العرب للفتح، ثم خرج الإنجليز للاستعمار، ضيع بنو الصحراء خصيصتهم لأنهم انماعوا في الشعوب الأخرى بالمصاهرة، وحفظ بنو الماء مزيتهم لأنهم انقبضوا عن الناس وترفعوا عن الأجناس فظلوا في عزلة

كان الناس يقولون أن إنجلترا أدركتها أعراض الهرم من دوام النعيم وطول السلامة، ويعجبون مع ذلك أن تملك سدس العالم وتستمكن فيه، والإنكليز في كل أرض قله، ووسائلهم في تملق القلوب ومداهنة النفوس قاصره، والتمويه والخداع والاستغفال والمصادفة والحظ عوامل قد تساعد على الغلب، ولكن فعلها لا يجوز على كل الناس ولا يدوم على طول الزمن. فلم يبق إلا أن يكون في هذا الشعب العجيب سر من أسرار الطبيعة تنبجس عنه حياته الدفاقه الخلاقة كما تنبجس الحيوات الدنيوية بمظاهرها وآثارها عن الروح المجهول

فلما أخذت العالم هذه الرجفة النازية ووقعت إنجلترا بقوتها وسطوتها وثروتها ووجودها في سمير المحنه، استعلن في حلك الخطوب ذلك السر فإذا هو الخلق، ولا شيء غير الخلق.

ص: 1

ولم تسفر الأيام عن أصدق من هذا المثل الإنجليزي الحاضر لقدرة الخلق العظيم على حياطة الدولة ووقاية الأمة وخلق المعجزة التي تحيل القنوط أملاً والضعف قوه

كانت أوربا في العام المنصرم من طول ما هولت عليها الهتلرية الباغية قد وقفت صفوفاً متلاصقة متلاحقة من الشباب والحديد والنار ترابط على الحدود لشياطين الصليب الآعقف؛ وكانت إنكلترا من وراء البحر تمدها بالمال والرجال والأسلحة لا تدخر لجزرها شيئاً منها، ولا تكاد تخطر على بالها أن العدو سيجد من بين هذه الصفوف المرصوصة ثغره يقتحمها ليرميها عنها. ولكن هتلر هجم على أخلاق أوربا قبل أن يهجم على جيوشها؛ فهتك أستار الدول بالجواسيس، وبلبل عقائد الناس بالدعاية، وشرى ضمائر الساسة بالمنى، وبث في دخيلة كل أمه دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحميه في كل رأس، حتى تركوا القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم أرسلوا على هياكلهم النخرة الجوفاء الدبابات كما ترسل على هشيم الحنطة آلة الحصاد. فلم تك إلا أيام تضيق عن فناء القطيع بالوباء السريع، حتى استكان الضعيف، واستخذى القوي، وانبسط ظلام النازية، على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً لأحياء وقبوراً للموتى، ووقفت إنجلترا وحدها أمام أوربا الصارعة المصروعة، وقد فرغ لها الطاغيتان وسلطا عليها في الغرب والشرق، وفي الجو والبحر، كل ما ادخراه وارصداه من آلات الدمار والبوار في بضع سنين

كانت خطتها في الدفاع قائمة في أكثر ميادين البر على عاتق فرنسا؛ فلما وهى هذا العاتق ونحل سقطت هذه الخطة على خلاء. فكانت على إنجلترا بعد نكبة جيشها في الشمال وانهيار حليفتها المفاجئ أن تجدد العدة وتسد الخلل وتدفع الموت الهاجم على أرضها ونيلها من الجهات الأربع؛ وكل ذلك كان يقتضي أن يكون لها في كل أرض جيش، وفي كل بحر أسطول، وفي كل سماء أسراب. فلو أنها استجابت لهذه الجدود العواثر ونكلت نكول فرنسا لما خالف ذلك منطق الحوادث

ولكن هنا ظهرت المعجزة، وما المعجزة إلا خلق هذا الشعب المختار! تجرد هذا الشعب عن فرديته، ونزل عن حريته وثروته، وجعل مُلكه وجهده وروحه في يد تشرشل ينفقها حيث يشاء وكيف يشاء؛ وانكب هو على العمل الدائب ليل نهار، لا تعوقه الأخطار ولا

ص: 2

تضعضعه الكوارث، حتى رأيناه في أقل من خمسة أشهر يفسد على الفوهرر خطة الغزو، ويفوت على الدتشى فرصة الهجوم، ويشد على أنفاس أوربا بالحصر، ويلجئ الطغاة العتاة إلى استجداء المعونة من الأقل، وابتغاء النصرة من الأذل! ذلك ولم نسمع خلال هذا الصراع الجبار وذلك الخطر الموئس أن جنديا عبث، أو قائداً خان، أو وزيرأً غش، أو حزباً نفس على حزب ما نسميه نحن نعمه الحكم

إن الله أمد الإنجليز بجيوش لا تقهر من الصدق والصبر والثقة بالنفس والإيمان بالله والحرية والديمقراطية والإمبراطورية

فيا ليتنا حين حالفناهم على السياسة والدفاع، حالفناهم كذلك على الآداب والخلق! لقد كنا بأخلاق القرآن قدوة للأقوياء، فأصبحنا وا أسفاه بضلالات الأذهان عبرة للضعفاء!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌أخلاق القرآن

الصدق

للدكتور عبد الوهاب عزام

الصدق هو الإبانة عن الحق، والإخبار بالواقع. وبه يستقيم التفاهم بين الناس، ويكون التناصح والتعاون، وتسجل الحقائق والوقائع؛ وبدونه يصير تخاطب الناس غشاً، وتفاهمهم باطلاً، وتعاونهم محالاً

يتخاطب الناس ليخبر بعضهم بعضاً عن حقائق واقعة في العالم أو في أنفسهم، أو ليبين بعضهم لبعض عن أمل يأمله، ورأي في بلوغ هذا الأمل. فإن كان الكلام غير مبين عن الحق فهو تضليل يسير أعمال الناس على ضلال، وهو غش يؤدي إلى للتفريق بين الناس لا التعاون

ثم الكذب يجر بعضه بعضاً لأنه لا مكان له بين حقائق العالم فُيضطر الكاذب إلى أن يغير حقائق كثيرة ليخيل كذبه على السامع وليلائم بين ما أخبر به وبين حقائق تخالفه. فإذا قال قائل: قابلت فلاناً أمس في مكان كذا، فقيل له إن فلاناً لم يكن أمس في هذا المكان أضطر إلى أن يقول جاء إليه ثم سافر. وإن قيل إن هذا المكان لم يكن الذهاب إليه أمس ممكناً أدعى من الأباطيل ما يوهم أن الذهاب إليه قد أمكنه، ولم يكن بد من سلسلة من الأكاذيب يربط بها كلامه بالوقائع المعروفة بين الناس

وعلى قدر ما في كلام الناس من صدق توافق أعمالهم حقائق هذا العالم فتنجح، وعلى قدر الكذب تبعد الأعمال من الحقائق فتخيب. . .

وقد أجمعت أخلاق الأمم وشرائعها على الدعوة إلى الصدق، والنهي عن الكذب ووكّدت تجارب الناس ما عرفوا في الصدق من خير، وما رأوا في الكذب من شر. وهل كان التخاذل بين الناس والتنافر والتحارب والضلال إلا بضروب من الكذب والغش والخديعة؟ وهل ذهب كثير من أعمال الناس ضياعاً وكثير من أقوالهم هباء إلا بالكذب ونتائجه؟

والقرآن الكريم، وهو ترجمان الدين الحق والدعوة الصادقة، يؤكد الدعوة إلى الصدق ويشيد بذكر الصادقين، ويشتد في النهي عن الكذب ويلعن الكاذبين. كررت هذا آياته، ودارت عليه دعواته

ص: 4

والصدق، فيما يتبينه قارئ القرآن، يكون في القول والفعل؛ فكما يصدق الإنسان بالإنباء عن الحق يصدق بتأدية الواجب المرجو منه. فمن أوفى بعهده، ومن ثبت في نصرة الحق الذي يدعوا إليه، ومن قام في الخير المقام الذي يجدرُ به، فقد صدقت أفعاله ووافقت ما ينتظر منه في معترك الحياة

وقد عدد القرآن خلالاً من البر كالصدق والوفاء بالعهد والصبر في الشدة وختم الآية بقوله: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون.) فسمي هذه الأعمال صدقاً

ويقول القرآن الكريم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) ويقول: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق وأجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً)

مدخل الصدق ومخرج الصدق أن يدخل الله الإنسان في كل الأمور إدخالاً صادقاً ملابساً للحق والخير، وأن يخرجه من الأمور كلها كذلك إخراجاً مقارناً للحق والخير، فيجعل تصرفه في الأمور كلها كما يجب عليه ويرجى منه، في غير رياء ولا تزوير ولا تضليل ولا غش ولا خداع

وقال القرآن في جزاء المؤمنين والمتقين: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) وقال: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فقدم الصدق يراد بها المسعى الصادق الذي يدخر عند الله جزاؤه، أو المقام المحمود عند الله تعالى، ومقعد الصدق المنزلة التي تفي بما استحقوا من ثواب

والكذب فيما يفهم من الآيات القرآنية يكون كذب الأقوال وكذب الأفعال كذلك. فمن فعل غير ما يقضيه حاله فهو كاذب، ومن حشر نفسه في غير زمرته فقد كذب، ومن اتخذ غير شارته فقد كذب، ومن قعد عن نصرة الحق وهو قادر فهو في مقام الكاذبين، ومن فر عما يلزمه الثبات له أو الدفع عنه فقد كذبت دعواه ومظهره، فان هوْلاء جميعا قد وعدت أحوالهم واْخلفت اْفعالهم، وقد حكى القران الكريم وعن قوم آمنوا بالرسل ثم دعوا إلى الارتداء، اْنهم قالوا:

(قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها). فقد سموا الرجوع إلى الباطل بعد ان استبانت دلائل الحق، كذباً على الله. وقريب من هذا قوله في قصه يوسف:

ص: 5

(وجاءوا على قميصه بدم كذب)

وحسبنا هذا بياناً لوصف القرآن الأفعال بالصدق والكذب كما توصف الأقوال

والقرآن الكريم يأمر بالصدق في كل صُوره، وينهى عن الكذب في جميع أشكاله؛ وكفى بقوله:(أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

واشتد القرآن في تقبيح الكذب ولعن الكاذبين؛ وجعل الكاذب أظلم الناس، ووصفه أشنع الأوصاف

قال: (فمن أظلم ممن أفتري على الله الكذب أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون.). وقال: ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنه الله على الظالمين). وقال:(فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه؟ أليس في جهنم مثوى للكافرين. والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين، ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). وقال: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة. أليس في جهنم مثوى للمتكبرين). وقال: (انظر كيف يفترون الله الكذب. وكفى به إثما ًمبيناً)

وبين القرآن أن الكذب يمنع صاحبه الهدى، ويجور به عن القصد. وكيف يهتدي الكذاب وهو يتعمد طمس الحق، والعدول عن الرشد؟ إنما يهدي الله من أخلص قوله وفعله وتحرى الحق جهده غير مائل مع الهوى، ولا سائر مع الباطل ، قال:(إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار). وقال: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)

وقد بالغ القرآن في عقاب بعض الكذبة فجعل كلامهم مظنة الكذب دائماً وأهدر شهادتهم. وتلكم عقوبة المفترى على النساء الصالحات، قال:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون). وقال: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)

بل أمر القرآن بالتثبيت وحذر من الظن الكاذب وجعله إثماً فقال: (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)؛ ونهى عن مظان الكذب والخطأ فقال (ولا تقف ما ليس لك به علم إن

ص: 6

السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وكذلك بين القرآن أن عاقبة الكذب أن يمرد الإنسان على مخالفة الصدق ومجانبة الحق، حتى يستقر النفاق في قلبه قال (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)

وكثيراً ما يقرن القرآن الكريم الصبر بالصدق، وهما من منبج واحد، هما من المرؤة والكرامة والأنفة والشجاعة التي تقول الحق غير مباليه، وتصبر على الشدائد غير مستخذيه

الصدق في القول والفعل خلق يبين عن صفاء النفس وخلوصها وصراحتها وحبها الحق، وميلها عن الباطل، ونفورها من المداجاة والمراءاة والنفاق والخداع، خلق يأبى التكلف والتصنع ويربأ عن المذلة والخنوع، خلق ينطق بالإباء والشجاعة، وحب الخير للناس، وتحكيم قوانين الله فيما بينه وبينهم لا يبغي صاحبه عن هذه القوانين حولا، ولا يرضى لمنفعة نفسه الاحتيال لإخفاء الحقائق، والتماس غيرها من الوسائل المخترعة المزورة

وذلكم هدى القرآن وشرعه الإسلام، وسيرة المسلمين الأولين نطقت به مآثرهم في الحرب والسلم وفي معامله العدو والصديق. كانوا في أقوالهم وأفعالهم حرباً على الباطل والبغي والكذب، فكانت سيرهم مثلاً من الحق الصريح الذي لا يشوبه رياء ولا مداراة ولا مداجاة، فجزاهم الله بصدقهم أن مكن لهم في الأرض وملكهم أزمة الأمم يسوسونها بعدل الله ابتغاء مرضاه الله كما قال:(ليجزي الصادقين بصدقهم)

وتلكم أيها المسلمون الأسوة الحسنه فاجعلوها نصب أعينكم واتخذوها هديا في رضاكم وغضبكم، ومنشطكم ومكرهكم، وحربكم وسلمكم، وشدتكم ورخائكم. فإنما هي قانون الله وهدى القرآن وصدق الإسلام وميراث السلف الصالح، وذخر الخلف الطامح

(يا أيها الذين آمنوا أتقو الله وكونوا مع الصادقين) صدق الله العظيم

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌مسابقة الجامعة المصرية

لطلبة ألسنه التوجيهية

للدكتور زكي مبارك

الإنجليز في بلادهم

كتب إلي أحد الزملاء يقول إنه كان ينتظر أن أكتب كلمه أنقد بها الطريقة التي اختيرت بها كتب المسابقة، وأجيب بأن هذا يعطل المشروع بعض التعطيل، وهو مع ذلك لن يغير الواقع، فلن تعدل الوزارة مشروع المسابقة في هذه ألسنه، ولن تلتفت إلى انصراف فريق من الطلبة عن بعض تلك المؤلفات، فلم يبق إلا أن نؤجل الكلام عن نقد طريقة الاختيار، وأن نمضي في هذه الدراسات إلى آخرالشوط، تحقيقاً للغرض الذي رمينا إليه وهو توجيه أولئك الطلاب.

وحديث اليوم عن كتاب (الإنجليز في بلادهم) لمعالي الأستاذ حافظ عفيفي باشا، فمن المؤلف؟ وما غرضه من تحبير تلك الفصول الطوال؟

نشر هذا الكتاب سنة 1935. أما مواده فقد جمعت بين سنة 1931 وسنة 1933، وكان هذا الرجل سفير المصري في لندن، فهدته فطرته السليمة إلى التفكير في تعريف المصريين بالإنجليز، (الإنجليز في بلادهم) لئلا يعترض معترض بما يضاف إلى الإنجليز خارج تلك البلاد، وكذلك كان التوفيق حليف المؤلف حتى في العنوان

لا أجد ما أقوله في حافظ عفيفي بعد الذي قلته في كتاب (الأسمار والأحاديث) ولكن يجب النص على أن حافظ عفيفي من الشخصيات الدبلوماسية التي تتجه إليها الأنظار من حين إلى حين، وكتابه عن (الإنجليز في بلادهم) صوره من صور الدبلوماسية، ولكن بمعناها الحق، لا بمعناها المألوف، فهو يريد أن نعرف الإنجليز في محاسنهم التي خلا وصفها من الترفق والتلطف، وفي مساويهم التي سلم وصفها من التزيد والافتراء.

و (دبلوماسية) حافظ عفيفي طراز جديد، لأنها تقوم على أساس التعارف الصحيح، وتنأى عن شوائب المصانعة والدهاء؛ ولهذا الطراز من الدبلوماسية عيوب، لأنه يعوق صاحبه في كثير من الأحايين، ولكن العواقب الحميدة لن تكون إلا من نصيب الدبلوماسية القائمة

ص: 8

على المصارحة فيما جل ودق من شؤون السياسة وشؤون الاقتصاد، ومن هنا جاز أن تقع في كتاب حافظ عفيفي عبارات لا يقولها رجل كان سفيرنا في إنجلترا بالأمس وقد يكون سفيرنا عندها في الغد، كالذي وقع حين نص على (أن إنجلترا لم تدخل ميدان الاستعمار لإغراض إنسانية كتمدين الشعوب المتأخرة ولا لفائدة المهاجرين الأوربيين بل سعياً وراء الريح من الاتجار في محاصيل المستعمرات والحصول على ما تحتاج إليه من المواد الأولية، وإيجاد حموله لأسطولها التجاري وسوق لتصريف محصولاتها ومصنوعاتها). وكالذي وقع منه حين أيد هذا الحكم بالقوانين التي أصدرتها إنجلترا، القوانين القاضية باحتكارها للتجاره الخارجية للمستعمرات بالنسبة لأهم المحاصيل، وتحريم تصدير الدخان والسكر والقطن الخام والأصباغ الطبيعية والنحاس ومواد بناء السفن على المستعمرات، والقوانين القاضية بتحريم نقل ما يصدر عن المستعمرات أو يرد إليها على السفن الإنجليزيه، وبعض القوانين التي كانت تحرم على المستعمرات إنشاء بعض الصناعات التي قد تنافس الصناعات الإنجليزية، كصناعة الحديد مثلا؛ وبعض القوانين التي كانت تحرم على المستعمرات تصدير بعض المصنوعات التي تزاحم المصنوعات الإنجليزية

فهذا كلام لا يقوله دبلوماسي (مصقول)، وإنما يقوله دبلوماسي (صريح) والصراحة عيب جميل، ان جازت مجاراة الزمن المقلوب في عدها من العيوب!

ما هو الغرض من هذا الكتاب؟

حافظ عفيفي لم يبتكر هذا الفن من التأليف، وإنما سار في طريق مسلوك عبده الأوربيون من أجيال طوال، فالأدب الفرنسي مثلا فيه عشرات من المؤلفات الجياد لتعريف الفرنسيين بحيوات الإنجليز والألمان والطليان والروس، وأهل مصر والشرق العربي يعرفون الكتاب الذي نقله فتحي زغلول عن الفرنسية منذ أكثر من ربع قرن عن (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) وهو كتاب له نظائر وأشباه قد تصل إلى المئات إذا راعينا النشرات الطويلة والقصيرة التي أريد بها تعريف الفرنسيين بأهم أمم الشرق والغرب. . . ومؤرخو الأدب الفرنسي أم يفتهم أن ينصوا على التطور الذي صار إليه أدبهم بعد ذيوع كتاب مدام دي ستال عن الألمان

حافظ عفيفي لم يبتكر من الوجهة العالمية، وإنما ابتكر من الوجهة المصرية، فهو أظهر

ص: 9

سفير مصري تعقب البلد الذي عاش فيه بالاستقراء والاستقصاء.

ومن الواضح أن في أدباء مصر رجالاً قدموا لبلادهم خدمات من هذا النوع، ولكن السفير يملك ما لا يملك الأديب من نواصي الوثائق والأسانيد، وله أفق يختلف بعض الاختلاف عن أفق الأديب، والمسئولية التي يحسبها السفير قد تجعله أدق من الأديب في الحكم على خصائص الممالك والشعوب

فهل يكون حافظ عفيفي قدوه لسفرائنا في أقطار الشرق والغرب؟ وهل ننتظر إلى أن تضاف إلى الأدب العربي ثروات من هذا الفن الطريف، فنعرف من كل سفير بعض ما عرفنا حافظ عفيفي؟

النظرة المصرية

إلى هنا عرف القارئ أن حافظ عفيفي يريد ضرب الأمثال، فأين نجد النضرة المصرية في كتاب هذا الباحث الحصيف؟

في كلام المؤلف عن الطبقات كلام ينفع أهل مصر، وهو الكلام الذي ينص على ألازمه الزراعية في بلاد الإنجليز. وفي كلامه عن الدستور البريطاني أحاديث تنفعنا أجزل النفع، وهي الأحاديث التي تشهد بقوه (التماسك الإنجليزي) وأريدُ بالتماسك القدوة الذاتي على مقاومة أسباب الضعف والانحلال، فللتقاليد الدستورية في نظر جميع الساسة البريطانيين احترام القانون (يرعاها الجميع حتى تحل محلها حقوق أخرى تكون أوفى منها في تأييد سلطه الأمة)، وتلك التقاليد تتغير دائماً مع الزمن، ولكنها تتغير في سكينه وهدوء. . . وسلطة البرلمان تستند إلى شخصية النواب ثم إلى التقاليد السياسية والسوابق أكثر مما تستند إلى المسطور من القوانين. . . والحركات الشعبية التي قامت في بريطانيا إنما كانت ترمي في أكثر الأحيان إلى رغبة الشعب في التمتع بحقوق الانتخاب أكثر مما كانت ترمي إلى زيادة سلطة البرلمان. . . ولم يحصل في إنجلترا أن يناط بفريق من المشرعين أو بهيئة نيابية مهمة تحرير دستور شامل يرغم على قبوله حاكم مستبد، ويكون فاصلاً بين عهد الاستبداد وعهد الحرية. . . ومع أنه لا يوجد في الدستور البريطاني نص يمنع الملك من حق الرفض لإمضاء إي قانون يقره البرلمان ولا يوافق عليه الملك، فإنه لم يستعمل ملك بريطاني هذا الحق من عهد الملكة آن. . . ومع أنه لا يوجد نص مكتوب في أي

ص: 10

قانون دستوري يحدد مسئوليه الوزارة أمام مجلس النواب ويرغمها على الاستقالة إذا لم تنل ثقته، فمبدأ مسئولية الوزارة محترم كل الاحترام. . . ومع أنه لا يوجد نص دستوري يمنع الملك من رياسة مجلس الوزراء فقد روعيت سابقه وقعت في عهد جورج الأول وكان ألمانيا يجهل الإنجليزية، ولم تر فائدة من رياسته لمجلس الوزراء

وهنا أرجو طلبه السنة التوجيهية أن يقرءوا ما كتب في هذا الكتاب عن (الدستور البريطاني) قراءه فهم ونقد واستقصاء، لأن المجال يضيق عن تشريحه في هذا الحديث، والمهم هو ربط ما جاء في هذا الفصل بما درسه الطلبة في مرحله الثقافة العامة عن التربية الوطنية، فإن فعلوا - وسيفعلون - كان من السهل أن يدركوا مرامي المؤلف في هذه الشؤون

وأقول بصراحة إن المؤلف يهمه أن يبين قيمة الشخصية الإنجليزية من ناحية التماسك السياسي والاجتماعي، فأحوال إنجلترا تتغير من وضع إلى وضع، ولكن في هدوء وطمأنينة وثبات، ولولا ملكة التماسك لاستحال على شعب كان أفراده لا يزيدون على ثلاثة ملايين أن يملك شرف الاستقلال في آماد ترجع إلى عشرة قرون

وينبغي للطالب أن يقرن ما كتب عن الدستور البريطاني بما كتب عن الإمبراطورية البريطانية. فأقدم مستعمرة ظفرت بحقوق الاستقلال الذاتي هي المستعمرة التي وجد فيها سكان بريطانيون، ومعنى ذلك أن الإنجليزي ينقل مبادئه في الحرية إلى أي وطن ينتقل إليه، كما ينقل معه عقيدته الدينية. . . ومن فصول هذا الكتاب نعرف أن الإنجليزي حين يغترب لا ينسى خصائصه الذاتية، ونعرف أنه بطيء في التطور إلى حد الجمود، والبطء في التطور هو ما اسميه التماسك، لأن التطور السريع لا يخلو من ثورة على الشخصية الذاتية، وما يقال عن (البرود) الإنجليزي هو من ذلك، فالإنجليزي بارد أي بطيء التحول، وكذلك كان العرب سادة حين نعموا بمثل هذا (البرود) فكانوا في رياض الأندلس (متطبعين) بطباع أرباب الشيح والقيصوم، وكانت أخيلة الجزيرة العربية هي المثال في التشبيهات والاستعارات والكنايات، حتى صح لبعض الغافلين أن يقول أن العرب لم يتطورا في كثير أو قليل، وإنهم ظلوا مشدودين إلى وطنهم الأصيل

وقد قلت مرة أو مرات (إن العرب كانوا إنجليز زمانهم) ومعنى ذلك أنهم كانوا أوفياء

ص: 11

لخصائصهم الذاتية، فكانوا يتكلمون كما كان يتكلم آباؤهم الأقدمون، وكانوا ينقلون المصحف والمسجد إلى كل أرض، كما ينقل الإنجليز الكنيسة والإنجيل إلى كل أرض. ولو كان التطور الشامل أداة من أدوات النفع لترك العرب قرآنهم في الأندلس، وترك الإنجليز إنجيلهم في الهند، فلم يبق إلا الاعتراف بأن التطور الشامل من صور الانحلال، وإن كان في نظر الغافلين من صور التحرر والاستقلال!

من كتاب حافظ عفيفي نعرف أن الإنجليز تطوروا تطوراً ملحوظاً، ومن كتابه نعرف أنهم ظلوا برغم ذلك التطور الملحوظ إنجليزاً أقحاحاً، فما معنى ذلك؟ معناه أن الرجل الأصيل يحفظ خصائصه الذاتية وإن قهرته الظروف على التنقل من حال إلى أحوال

ومن كتاب حافظ عفيفي نعرف أن الإنجليز يلوحون دائماً بفكرة العدل - وما يهمني في هذا المقام تحقيق الغرض من هذا التلويح - وطواف الأذهان حول فكرة العدل له مدلول، فهو يشهد بأن الإنجليز يهمهم دائماً أن تكون سمعتهم بمنجى من الأقاويل والأراجيف، فكل مشكلة خليقة بأن تعقد لها لجنة أو لجان، وكل ثورة أهل بأن يطب لها بالترفق والاستبقاء، ومن هنا كان الإنجليز أساتذة الأمم في فن (الدعاية) وعنهم تعلم الطليان والألمان. وفن الدعاية يراد به (تحديد الموقف) وموقف إنجلترا في دعواها هو دائماً موقف المصلح المظلوم، وهي سياسة تدل على براعة أولئك الناس في التخلص من مواطن الشبهات. والسياسي الحق هو الذي يهتف في كل لحظة بأنه من الأبرياء، براءة الذئب من دم أبن يعقوب، وإن كان أعرف المخلوقات بمصدر العدوان على ذلك الشهيد!

فإن نظر طلبة السنة التوجيهية إلى كتاب حافظ عفيفي، كما نظرت إليه، عرفوا منه أشياء وأشياء، ولم يفهم غرض المؤلف فيما طواه بفضل براعته الفائقة من دقائق الشؤون، والسياسيون يطوون أغراضهم في بعض الأحيان!

أسلوب المؤلف

هو أسلوب علمي يخلو خلواً تاماً من التحسين والتجميل، ويمتاز بالوضوح والجلاء، وقد تقع فيه ألفاظ تحتاج إلى تعديل، كأن يقول (الجمعية الإنجليزية) وهو يريد (المجتمع الإنجليزي) وقد يقع في تعابيره شيء من الغموض، كأن يقول:(ولم يترتب على عدم وجود نصوص محدودة لسلطة مجلس النواب الإنجليزي تحديد في الواقع لسلطته)، فهذه

ص: 12

العبارة تحتاج إلى تأمل قليل، ومن واجب الكاتب أن يجعل تعبيره أوضح من أن يحوج القارئ إلى تأمل ما يريد.

والذي ينظر في كتاب حافظ عفيفي لا يشعر أنه أجنبي يكتب عن الإنجليز، فقد ملك المؤلف ناصية الموضوع بحيث يظن القارئ أنه ينظر في كتاب ألفه أحد أبناء تلك البلاد، ومع ذلك نلمح في مواطن قليلة أن المؤلف أستأسر للمراجع، كأن يذكر عدد الجرائد في إنجلترا سنة 1828 وسنة 1886 وسنة 1909، وكان المنتظر أن يذكر عدد الجرائد في الوقت الذي ألف فيه الكتاب، ولكنه فيما نرجع وقف عند أحد المراجع التي نشرت من قبل ولم يشغل نفسه بتحديد ما جد في تطور الصحافة بعد ذلك الحين

توجيهات

ينقسم كتاب حافظ عفيفي إلى ستة ابواب، وتنقسم الأبواب إلى فصول، فضلاً عما فيه من مقدمات تشتمل على محصول نفيس. ولن يستطيع الطالب أن يقول إنه استفاد من مراجعة هذا الكتاب إلا إذا جمع لنفسه خلاصة وافية لما كتب المؤلف عن تاريخ الحياة الدستورية، وما قاله عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وما فصل من الحديث عن الصحافة والأحزاب، وحرية التجارة والحماية الجمركية، وما شرح من أحوال الميزانية ونظام البنوك، وما دون من أغراض التعليم وأنظمة الجامعات، وما قيد من خصائص القضاء وأنواع المحاكم ومجالس التشريع، وما تعرض له في سرد أطوار الإمبراطورية البريطانية

تلك ملامح هذا الكتاب، أما جوهر المحصول فهو ثمين إلى أبعد الحدود، وهو مع ذلك سهل المنال على الطالب الذي أجتاز مرحلة الثقافة العامة بوعي وإدراك

ولكن كيف يجمع الطالب لنفسه تلك الخلاصة الوافية؟ لنفرض أنه شرع في الباب الخاص بتكوين الرأي العام فقرأ الفصل الأول عن الصحافة الإنجليزية، فماذا يفيد حين يقرأ هذا الفصل؟

يفيد تطور الصحافة الإنجليزية من أول ظهورها إلى اليوم مع ملاحظة ما مر بها من تطورات مذهبية واقتصادية، ثم يقيد انتقالها من أيدي الأفراد إلى أيدي الشركات مع بيان السبب في هذا الانتقال، ثم يقيد عدد تلك الشركات، ثم يقف وقفة طويلة عند الكلام عن المنافسة بين الجرائد الشعبية وجرائد الآراء ثم يلتفت التفاته خاصة إلى ما أصيبت به

ص: 13

شركة الديلي هرالد، ثم يتعقب ما ابتليت به الصحافة الإنجليزية من الانحطاط بسبب الانحدار إلى استغلال أهواء القراء، ثم يقيد الأخطار التي تعرضت لها السياسة الإنجليزية بسبب طغيان الجرائد الشعبية، ثم يقيد ما صنع فضلاء الإنجليز في تأمين جريدة (التيمس) وجريدة (الإيكونوميست) من جشع الجماعات التجارية، ثم يقيد الصلة بين الحكومة والصحافة ومراكز الصحفيين في تلك البلاد، ثم يقيد ما مر بالصحافة الإنجليزية من متاعب الجهاد في سبيل الظفر بحرية الرأي، ثم يقيد ما للصحافة في إنجلترا من أندية ومدارس (مع الفهم الصحيح لعناصر هذا الفصل الدقيق) ولنفرض أيضاً أنه قرأ الفصل الثاني عن الأحزاب الإنجليزية، فماذا يقيد وهو يقرأ هذا الفصل؟

من واجب الطالب أن يعرف الغرض الذي أنشئت من أجله الأحزاب في بلاد الإنجليز، وأن يعرف الفرق بين دعاية مصلحة الوطن ومنفعة الحزب، وأن يدرك كيف صارت الأحزاب في إنجلترا من الضروريات، وأن يقيد التاريخ الذي نشأ فيه النظام الحزبي بتلك البلاد

وهنا سؤال أو أسئلة:

ظهر في فرنسا كتاب لمؤلف معروف، فما أسم الكتاب؟ وما أسم المؤلف؟ وكيف أختصم الأحرار والمحافظون حول ذلك الكتاب؟ ومن الباحث الذي أتخذ منه دعامة لنظرية الأحرار؟ ومن الباحث الذي أتخذ منه دعامة لنظرية المحافظين؟ وما جوهر الخلاف حول فكرة ذلك المؤلف؟ وما السبب في وصف المحافظين بالجمود؟ وكيف حُرموا الظفر بالحكم زمناً غير قليل؟ ومن المفكر الذي أنتشل المحافظين من ذلك الجمود؟ وكيف ظهر حزب العمال؟ وما هي الفلسفة التي أوجبت ظهور هذا الحزب؟ ومن هو المفكر الذي خلق هذه النزعة؟ ومن أتباعه في بلاد الإنجليز؟ وكيف كان حظ العمال حين واجهوا الجمهور الإنجليزي أول مرة؟ وكيف تخوف بعض الكتاب من أتساع شقة الخلاف بين تلك الأحزاب؟ وكيف نجت إنجلترا من عدوان الاشتراكية؟ وما هي الأسباب التي قضت بأن يكون الاشتراكيون الإنجليز أقرب إلى المحافظة والاعتدال؟ ومن أشهر الرجال في حزب العمال وحزب الأحرار وحزب المحافظين؟ ومن الرجل الذي خرج على حزبه في إحدى ساعات الحرج فأصابه بضعضعة لم يسلم منها إلى اليوم؟ وما مسلك الإنجليزي الشريف

ص: 14

حين يختلف مع الحزب الذي ينتسب إليه؟ وما أخلاق الإنجليز في مصاولاتهم الحزبية؟

فإذا ألم الطالب بهذه المشكلات كان من واجبه أن يدرك كيف يختلف الأحزاب حول السياسة الخارجية، والسياسة الإمبراطورية، والسياسة الاقتصادية والاجتماعية، وأن يعرف كيف تتكون لجان الأحزاب، وكيف تسيطر على الجمهور للظفر في ميادين الانتخابات

كلمة ختامية

قرأت كتاب حافظ عفيفي في ثلاث سهرات، ولم أجد في استيعابه أي عناء، لأنه مفصل أجمل تفصيل وبأوضح أسلوب، ولكن يخيل إلي أن الطلبة لن يدركوا مراميه في مثل الوقت الذي راجعته فيه، لأني على أرجح الأقوال سبقتهم إلى الدنيا بأعوام قصار أو طوال، وللتجارب تأثير في إدراك أمثال هذه الشؤون

فإلى أساتذة السنة التوجيهية أسوق الاقتراحات الآتية:

أولاً: يجب (إن أمكن) أن يحضروا مع تلاميذهم بعض جلسات مجلس النواب ومجلس الشيوخ ليمكنوهم من تصور الحياة الدستورية، وإلا فمن واجبهم أن يقرأوا معهم بعض (المضابط) التي تسجلها (الوقائع المصرية)

ثانياً - من السهل جداً أن يحضروا مع تلاميذهم بعض جلسات المحاكم الأهلية والشرعية ليعطوهم فكرة واضحة عن نظام القضاء

ثالثاً - ليس من الصعب أن يزورا مع تلاميذهم بعض البنوك ليروضوهم على تصور المعضلات الاقتصادية

رابعاً - من واجب المدرسين أن يطلعوا تلاميذهم على ألوان الصحافة وأنظمة الأحزاب ليعلموهم كيف تساس الجماهير في مختلف البلاد

خامساً - في أسبوع واحد يستطيع المدرسون أن يزوروا مع تلاميذهم معاهد التعليم في مراحله المختلفات، ليطلعوهم على الأساليب المعروفة في تكوين الأذواق والعقول

سادساً، وسابعاً، وثامناً، وتاسعاً. . . (؟!) إلى آخر الاقتراحات التي يراد بها أن يفهم المدرسون أن سطور الكتاب منقولة عن سطور الوجود، وأن المدرس الحق هو الذي ينقل تلاميذه إلى آفاق المشاهدة والعيان، ليهديهم سبيل الفهم الصحيح

وعندئذ لن يكون من الصعب أن يقرأ الطلبة كتاب حافظ عفيفي في حدود طاقتهم الفكرية

ص: 15

والعقلية وأن يخرجوا منه بمحصول يرضى عنه أساتذة الجامعة المصرية، وسبحان من لو شاء لجعل أولئك الطلاب طلائع الهداية للجيل الجديد

زكي مبارك

ص: 16

‌في الاجتماع اللغوي

اللهجات الاجتماعية

للدكتور علي عبد الواحد وافي

مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

تنشعب أحياناً لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعاً لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم: فيكون ثمت مثلاً لهجة للطبقة الأستقراطية، وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة، ورابعة للرياضيين، وخامسة للبرادين، وسادسة للنجارين. . . وهلم جراً.

ويطلق علماء الاجتماع اللغوي على هذا النوع من اللهجات الاجتماعية تمييزاً لها عن اللهجات المحلية التي كانت موضوع حديثنا في المقال السابق

ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين الطبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم وتستأثر بقسط كبير من إنتباهم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعتهم وأعمالهم. . وهلم جراً فمن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها؛ فلا تلبث أن تنشعب اللهجة العامة إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالة الألفاظ. . . وما إلى ذلك. وقد تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيداً في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي أنشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخوانها، حتى تكاد تصبح لغة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها: كما هو شأن اللهجات الفرنسية المستخدمة بين طبقات اللصوص والمجرمين وبعض طبقات العمال ،

ص: 17

ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه. ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال واللهجات السرية لجماعات المتصوفين والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم، من أكثر اللهجات انحرافاً عن الأصل الذي أنشعبت منه، وبعداً عن المستوى العامل لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسية

ولا تظل اللهجات الاجتماعية جامدة على حالة واحدة بل تسير في نفس السبيل الارتقائي الذي تسير فيه (اللهجات المحلية)؛ فيتسع نطاقها باتساع شئون الناطقين باتساع شئون الناطقين بها، ومبلغ نشاطهم واحتكاكهم بالأجانب وبأهل الطبقات الأخرى من مواطنيهم، وما يخترعونه من مصطلحات، ويتواضعون عليه من عبارات، ويقتبسونه عن اللغات الأجنبية من مفردات وأفكار، وتختلف أساليبها وطرق تركيبها باختلاف العصور وتطور الظروف الاجتماعية المحلية بالطبقات الناطقة بها؛ فلهجات العمال والمجرمين بفرنسا تختلف بعد الحرب العظمى أختلافاً بيناً عما كانت عليه قبل ذلك؛ وتختلف في القرن العشرين أختلافاً كبيراً عما كانت عليه مثلاً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ولا أدل على ذلك من أن معظم القطع التي كتبها بتلك اللهجات في القرن الخامس عشر الشاعر الفرنسي فرنسوا فيلون لم يستطع بعد في العصر الحاضر حل جميع رموزها وفهم مدلولاتها

وتؤثر اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العادية تأثيراً كبيراً فتستعير منها هذه اللغة كثيراً من التراكيب والمفردات، وبخاصة المفردات التي خصص مدلولها العام واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن أو حرفة وما إلى ذلك. فلغة المحادثة العادية بباريس في العصر الحاضر قد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية وبخاصة لهجات العمال والمجرمين

ولا تتميز في العادة اللهجات الاجتماعية بعضها من بعض تميزاً واضحاً في المدن الكبيرة حيث يتكاتف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتتنوع الوظائف، وتتعدد المهن، ويشتد النزاع بين الطبقات كنيويورك ولندن وباريس وبرلين في العصر

ص: 18

الحاضر وكبغداد في العصر العباسي

وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه باللهجات الحرفية (نسبة إلى الحرفة)، وهي التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرفة الواحدة كالبرادين والنجارين والبحارة. . . وهلم جرا. وتتميز اللهجات الحرفية بعضها من بعض تميزاً كبيراً في المناطق التي يسود فيها (نظام الطوائف) كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة تكون وقفاً على أفرادها لا يجوز لهم ولا لأعقابهم من بعدهم الاشتغال بغيرها كما لا يجوز لغيرهم الاشتغال بها: كما هو الحال في كثير من بلاد الهند، على حين أنه في الأمم الحديثة التي قضى فيها على نظام الطوائف، فأصبحت الحرف حظاً مشاعاً بين جميع أفراد السكان، يزاول كل منهم المهنة التي تروقه، وينتقل، إذا شاء من مهنة إلى أخرى، وأصبحت الطبقات الاجتماعية غير واضحة الحدود ولا موصدة الأبواب على غير أهلها، في هذه الأمم تتداخل اللهجات الحرفية بعضها في بعض، ويتأثر بعضها ببعض، وتقل بينها الفروق، وتضعف المميزات.

هذا، وقد خيل إلى بعض الباحثين أن (اللهجات الاجتماعية) لا تنشا من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقاً، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة والواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها أرتجالاً، وتابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة؛ ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم.

وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو تاريخي. بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً؛ بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشر بين طبقات فقيرة جاهلة منحطة المدارك ضعيفة التفكير، لا يتاح لمثلها أن تنشئ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد، بل لا يتاح لها مجرد التفكير في مثل هذا المشروع الخطير: طبقات المتسولين واللصوص والحدادين والصيادين. . . وهلم جراً

والحق أن (اللهجات الاجتماعية) لا تختلف في نشأتها عن (اللهجات المحلية) التي تكلمنا عنها في المقال السابق. . . كلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده؛ وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث من مقتضيات الحياة الاجتماعية وشئون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيسي في نشأة

ص: 19

(اللهجات المحلية) يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف وما يمتاز به من خصائص. . على حين أن السبب الرئيسي في نشأة (اللهجات الاجتماعية) يرجع اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد وما يكتنف كل طبقة منها من شئون، وما يفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة

غير أننا قد نعثر أحياناً في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقاً في لغة البلد ولا في اللغات الأجنبية. ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعاً من بعض الأفراد وانتشرت عن طريق التقليد. ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة على لهجات الطبقات الراقية، ولا تبدو إلا في عدد قليل من الكلمات. أما معظم المفردات فترجع أصولها إلى كلمات منحدرة من لغة البلد، أو مقتبسة من بعض لغات أجنبية. غير الغالب أن ينالها مع تقادم الزمن كثير من التحريف والتغير فتبعد بعداً كبيراً عن الأصل الذي أخذت منه. وقد تصل في انحرافها هذا إلى درجة يخيل معها للباحث السطحي أنها ابتدعت بالتواضع والارتجال. ولعل هذا هو ما حدا ببعض العلماء على الظن بأن اللهجات الاجتماعية ناشئة عن تأليف واختراع

علي عبد الواحد داني

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 20

‌كتب لم أقرأها

(شتاء في بلاد العرب)

للأستاذ عبد اللطيف النشار

قد يظهر غداً من يترجم هذا الكتاب، وقد يظهر من يكتب عنه بعد الفراغ من قراءته، فلك أن تقول: لم يكتب عنه هذا الذي لم يقرأه؟

والجواب أنه ما من يوم إلا والصحف والإنجليزية تتحدث عن مؤلفات تعد بالمئات وفيها عشرات تهمنا. وقد يمر العام تلو العام ولا تظهر في لغتنا ترجمة لأحدها، ولا كتابة وافية عن ثلاثة أو أربعة منها. وليس بمتسع عمر كاتب لقراءة كل كتاب يقرأ عنه في غير لغته ويتمنى أن تظهر له ترجمة في لغته لما يتوسمه فيما كتب عنه من أهمية عند ذويه

وعن هذا الكتاب (شتاء في بلاد العرب) نشرت مقالتان في عدد 18 نوفمبر سنة 1940 من جريدة الأجبشان غازيت. أما إحداهما فهي افتتاحية الجريدة لمحررها بعنوان (الشرق والغرب) وأما الثانية ففي صحيفة (الكتب) بقلم المستر آرثر بنفولد

أما والكتاب يشغل من جريدة واحدة في عدد واحد خمسة أعمدة طوال، وأما وهو عن العرب، وأما وهو واحد من عشرات تهمنا كلها موضوعاتها فلا أرى بدا من اقتراح أقترحه على أدبائنا. هو تلخيص ما يكتب عن كتب تهمنا ليكون هذا التلخيص تعريفاً بالجديد في الأدب الغربي مما يهم العرب، ولمن شاء أن يزيد فضله؛ وغير مجحود فضل السابق وإن بزه اللاحق، وغير مغموط فضل المشير وإن لم يأت بالكثير

الكتاب من وضع الآنسة فريا ستارك - طبعة موراي. وهو يصف حياتها واثنتين من زميلاتها في حضرموت في فترة الشتاء الذي وقع بين عامي 1937 - 38

أما إحدى الثلاث الأوانس فعالمة في علم الآثار، وأما الثانية فعالمة في علم طبقات الأرض، وأما الثالثة وهي المؤلفة فأديبة ذات شهرة خاصة بجمال الأسلوب وروعة البيان؛ ولها كتب أخرى قبل هذا الكتاب

ويظهر من كتابة الكاتبين أن أداة البيان ضرورية جداً في كتاب مثل هذا يتضمن شطر كبير منه وصف الطبيعة الدائمة التغير في الصحراء، ووصف الحياة بين الرمال وبين الصخور في عزلة عن الناس وفي أجواء وأحوال مغايرة لما ألفه من يكتب هذا الوصف

ص: 21

وقد أقتبس المستر آرثر بنفولد فقرات كثيرات من هذا الكتاب للاستشهاد بها على تمكنها من ناصية اللغة والقدرة على الوصف

فإذا ما تخطينا هذا إلى ما هو أشبه بأن يهمنا وجدنا محرر الجريدة يقتبس الفقرة الآتية من مقدمة الكتاب بقلم السير كينان كورنواليس:

(والعربي إذا عومل كما ينبغي أن يعامل على أساس المساواة والمودة نيل منه خير ما يمكن أن ينال. أما إذا أحس بالتعالي عليه أو الانصراف عنه أو الميل إلى التحكم فيه، فلن ينال منه من يعامله كذلك إلا بما هو أهله. والعربي أكثر حساسية من الرجل العادي؛ فهو سريع اللمحة للدقيق، سريع الاستجابة للود والمحبة. وقد زادت وضوحاً أمامنا قيمة الصلات الشخصية والصداقات مع أهل الشرق الأوسط، كما وضح للجميع أذى الصلف والتعالي. وليس الإنكليزي العادي بالرجل المسرف في إظهار مشاعره نحو أبناء الشعوب الأخرى؛ ولكن الذي يقرأ كتاب الآنسة ستارك يتعرف الفوارق بين ما ينبغي وما لا ينبغي فيفيد من ذلك)

ويقتبس المستر بنفولد من صلب الكتاب فقرات يؤخذ منها فقرات أن في قبائل حضرموت سيادة دينية لرجال من قريش يقال لأحدهم (منصب). وهي تصف (المنصب) هذا بأن الناس يقبلون يده، وأنه مهيب الطلعة، يضع على رأسه عمامة خضراء، وأن سلطانه يتجاوز النفوذ الروحي؛ فهو يفرض ضرائب على الرؤوس، ويستولي على مواشي الذين يتأخرون عن دفع الضريبة حتى يؤدوها

وتقول المؤلفة إن الخطوة الأولى من خطوات الشرقي في سبيل الانحدار والسقوط هي تذمر من عوائده الموروثة، لأنه لن يستطيع أحد في تلك البلاد أن يشعر بالسعادة إلا إذا حرص على عوائدها واقتنع بها. . . إنه متى جنح إلى مثل الذي يجنح إليه الغربي من وسائل الراحة والرفاهية بدت له شدة فقره وصعوبة وسائله في الحياة وتراخي ففقد قوته الروحية، وفقد اعتداده بأهمية القوة الروحية في هذه الحياة

وتقول الكاتبة في وصف المرأة العربية إنها تحتفظ في شيخوختها بالجمال والهداة والعذوبة، ولا تظهر على وجهها تلك التجاعيد التي تظهر على وجه المرأة الغربية، وأحسب هذا نتيجة لنظام الاحتشام القاسي الذي يمنع اختلاف المشاعر المحدثة لتلك

ص: 22

التجاعيد. وإذا كان لدى المرأة الغربية من ضبط النفس ما تقهر به تلك المشاعر، فلدى العربية مما فطرت عليه من الجد ما يذلل مشاعرها التي تراد في الغرب لتذليلها قوة ضبط النفس. ومثل العربية في ذلك كمثل الراهبات اللواتي قلما تظهر على وجوههن في الشيخوخة تلك التجاعيد، واللواتي يحتفظن بالوسامة رغم الشيخوخة، ويحتفظن بعلائم الاطمئنان والراحة

وفي الكتاب أقاصيص ونوادر يسرد منها مقرظة قول الكاتبة:

إن قاضي المدينة أخبرها بأنه سيفتتح دكاناً، وإن غرضه من ذلك تمضيه الوقت

قالت في دهشة: وماذا تبيع به؟ فقال: إن رأيه لم يستقر على شيء. ثم أخرج من جيبه أوراقاً وقال إنه لم يعد من مشروعه غير ما تضمنته هذه الأوراق من قصيدة سيعلقها على باب الدكان تحية للزبائن

وسواء أكان هذا القول من جانبها جداً أم هو هزل يراد به تجسيم محبة العرب للشعر في الكتاب هزلاً ولا شك فيه يراد به لفت نظر الغربيين، فمن ذلك ما زعمته من اعتياد الرجل في حضرموت أن يتزوج خمسين زوجة. وفيه إغراق في الوهم فمن ذلك زعمها أن حاكماً من حكام حضرموت أشترى ألف جارية من الصومال، فلما نقلن في سفن إلى البلاد العربية أتضح أنهن حوامل جميعاً وأنهن تركن في مكان ما من الصحراء حتى يضعن فتنشأ جيل من الناس بهذا المكان لا يشبهون العرب بل تدل ألوان بشرتهم وشكل شعرهم على أنهم من نسل صومالي

وتصف الكاتبة اعتقاد الأهلين بالجن وبالسحر وتنصف علماء الدين فتقول: إنهم ينكرون هذا كله، وتقول: إن مهر العروس هناك لا يجوز أن يزيد على أربعة عشر دولاراً ولكن تكاليف حفلة العرس لا تقل عن ستين دولاراً وتروي عن رجل عرفته أسمه السيد علوي أن نفقات زواجه بلغت ثلاثمائة دولار، وانه تزوج بدافع الحب، وأنه يعتقد إن زواج الحب هو الزواج الصالح وأنه لذلك لن يعدد الزوجات

هذا بعض ما وصف به الكتاب، ولعل فيه ما يكفي للتعريف به أو للاستزادة من التعريف

وأحسب أن في الكتابة عما لم أقرأه معتمداً على ما قرأت عنه ما لا تقل جدواه عن كتابتي عن كتاب قرأته إلى من لم يقرأوه، كلا الأمرين تعريف لمن شاء أن يعرف، وفي مجال

ص: 23

البحث متسع للمستزيد

عبد اللطيف النشار

ص: 24

‌السنوسيون

للأستاذ حسين جعفر

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

غزو مصر:

خضع سيدي أحمد الشريف للحركة الإسلامية التي أحياها عبد الحميد الثاني سلطان تركيا وأستمر فيها خليفته. وذلك أدت السنوسية مساعدات مادية قوية للأتراك حينما غزا الطليان طرابلس الغرب سنة 1911، ولما اضطر الأتراك إلى الاعتراف بالهزيمة أستمر سيدي أحمد في حربه ضد الطليان في حربه ضد الطليان يساعده بعض الجنود التركية الذين ظلوا في البلاد - خلافاً لما قضت به معاهدة لوزان - وفي ابتداء الحرب العظمى الماضية لم يكن للإيطاليين غير جزء ضيق من الشاطئ، وكان السنوسيون حكاماً على داخل البلاد، وقد عرضت شروط للاتفاق بين الإيطاليين وسيدي أحمد في النصف الأخير من سنة 1914 وكاد يتم الاتفاق لولا أن السيد أحمد رفض أن يقبل مركز (باي) تحت الحماية وما جاء ربيع سنة 1915 إلا وكان السنوسيون يهاجمون المواني الموجودة تحت يد الطليان

وحوالي هذا الوقت تمكن عدد من الضباط الأتراك والألمان الذين يتكلمون العربية من الهرب إلى داخل البلاد، وبواسطة العروض المختلفة والتملق أمكنهم أن يؤثروا على سيدي أحمد - على كره منه - فيعلن حرب الجهاد ويغزو حدود مصر الغربية. وكان سيدي أحمد متردداً ولم يكن تردده هذا خافياً على الإنجليز في مصر. ولذلك أرسلوا في نوفمبر سنة 1915 أبن عمه السيد محمد بن إدريس من الإسكندرية ليتفق معه على أن يتخلص من مستشاريه الأتراك في مقابل مبلغ من المال، ولكن كان الوقت قد فات لأن سيدي أحمد كان مثقلاً بالأموال والأسلحة التركية والألمانية

وفي نهاية سنة 1915 غزا سيدي أحمد حدود مصر الغربية بجيش عدده خمسة آلاف مقاتل على أكثر تقدير مع عدد من الجند الأتراك يبلغون الألف عداً. وكان الخطر الحقيقي في أن أي نجاح يناله السنوسيون قد يدفع البدو المقيمين على حدود مصر الغربية وفي داخل البلاد نفسها إلى الثورة

ص: 25

وبسب الاستعدادات الاحتياطية التي قام بها الجنرال السير جون مكسويل - قائد الجيوش البريطانية في مصر إذ ذك - فشل السنوسيون في إحراز أي انتصار. ولم يأت فبراير سنة 1917 حتى هزم سيدي أحمد هزيمة تامة فتقهقر إلى واحة جغبوب. ويظهر أن عدم نجاح هذا الغزو أثبت بصورة جلية أن طريقة السنوسية لم تكن ذات قوة سياسية أو روحية كما تصور الناس من قبل

وقد بذل الألمان والأتراك جهدهم في استخدام قوة السنوسي الروحية لإحداث اضطرابات في جهات غير مصر ففي السودان أمكنهم أن يؤثروا على السلطان على دينار سلطان دارفور ليثور ولكنه هزم هزيمة قاطعة بقوة مصرية تحت قيادة الماجور ب. ف كيلي في مايو سنة 1916

ولم يكن للسنوسي في باقي أنحاء السودان المصري الإنجليزي إلا أتباع قلائل، فإذا ابتعدنا غرباً متجهين نحو بحيرة تشاد نجد هناك أيضاً بعض الاضطرابات ولكن الفرنسيين في تقدمهم نحو الشمال من بلدة كانين واحتلالهم الحدود الصحراوية واستيلائهم على عين جالاكا - في إقليم بوركو وهي قاعدة السنوسي الجنوبية - في سنة 1913، كل هذا مع بعض المراكز الفرنسية الأخرى كونت حاجزاً دفاعياً ضد غارات السنوسي. أما في المناطق الداخلية من طرابلس فقد كان سلطان السنوسي قوياُ أضطر الطليان معه إلى الانسحاب نحو الشاطيء، وكان سيدي محمد العبيد وهو شقيق السنوسي يحكم فزان حتى مدينة فزان صيف سنة 1917

العلاقات مع الطليان

لم يوافق سيدي محمد الإدريسي وبعض رؤساء الجنوبيين على غزو سيدي أحمد لمصر، وكان سيدي محمد من طول إقامته بمصر قد أكتسب معلومات عن الأحوال التي كانت تعوز سيدي أحمد، والإدريس رجل مسالم بطبيعته. وقد عقدت الحكومتان الإيطالية والإنجليزية معه اتفاقاً في سنة 1917، وأقر شيوخ الطريقة سيدي محمد الإدريس على أن يكون السنوسي الأكبر. وفي أغسطس سنة 1918 وجد سيدي أحمد المقهور والمخلوع أن من الأفضل له أن يغادر طرابلس، فغادرها على ظهر غواصة ألمانية من مصراطة إلى تركيا مع استمرار ادعائه أنه رأس الطريقة

ص: 26

وفي سنة 1919 أرسل الإدريس أخاه رضا في بعثة إلى روما وبواسطة اتفاق عقد في نوفمبر سنة 1920 أعترف الإدريس بسيادة الطليان وأعطى لقب أمير وجعل وراثياً في ذريته مع استمرار سلطته على واحات الكفرة وجغبوب وجالو وأدجيلة وجديبة. واستمرت العلاقات السلمية مدة من الوقت ولكن الإيطاليين تحت حكم الفاشيست وجدوا موقفهم هذا متعباً، وكان لديهم أدلة تثبت أن الإدريس كان يشجع الثوار في طرابلس الذين عرضوا عليه أن يكون زعيمهم وأميرهم. ففي أوائل سنة 1923 أعلنت حكومة الفاشيست أن الاتفاق السابق مع السنوسي يخل بكرامة الحكومة ولذلك فهي تنقضه. ولذلك أنسحب الإدريسي في يناير من تلك السنة إلى مصر وظل هناك والظاهر أنه لم يفقد أي سلطان روحي له على الناس وأعلن أتباعه أن السلطان الروحي أهم بكثير من السلطان الزمني. أما في شمال طرابلس فقد ظلت المقاومة السنوسية للطليان تحت زعامة الشيخ رضا وكانت بطبيعتها حرب عصابات

وقد حسن الطليان مركزهم في مقاومة النشاط السنوسي بواسطة اتفاقهم مع مصر في 6 ديسمبر سنة 1925 وقد منحهم الاتفاق واحة جغبوب على أن تكون الحدود جنوب هذا المكان على خط عرض 25 درجة. وبذلك أدخلت واحة الكفرة ضمن الحدود الطرابلسية. واحتلت جغبوب بواسطة الإيطاليين في فبراير سنة 1926 بلا معارضة - وهي بالنسبة للسنوسيين مدينة مقدسة إذ أنها تضم جثمان مؤسس الطريقة السنوسية وكذلك تحتوي على زاوية لتعليم الإخوان

وفي سنة 1927 قام الإيطاليون في شمال طرابلس بحملة منظمة كانت نتيجتها تسليم سيدي رضا في 3 يناير سنة 1928 فنفى إلى صقلية. وفي ربيع نفس السنة احتلت واحة جالو وبعض واحات أخرى واستمرت الأعمال الحربية ضد رجال القبائل بشدة حتى ما جاءت سنة 1929 إلا وكانت واحة الكفرة هي الباقية للسنوسيين

تعاليم الطريقة:

من المحتمل أن عدد الإخوان السنوسيين. ليس كبيراً ولكن لهم أتباعاً ومريدين في كثير من البلاد، وفي حين نجد كثيراً من طرق الصوفيين بلا أساس وبغير ضابط مع تداخل في السياسة تداخلاً غير مجد - نجد السنوسيين شغلوا مركزاً واضحاً ومؤثرا في السياسة، وكل

ص: 27

رائدهم في ذلك أحياء الإيمان وتعاليم الإسلام الأول. ويمكن اعتبار الطريقة مقتبسة من الحركة الوهابية. ويفهم من المصادر التي يمكن الاعتماد عليها أن الطريقة ليست عديمة الأساس، وأنها كذلك ليست محافظة بل مجددة. وهي قليلة الأسرار بالنسبة إلى غيرها من طرق الإخوان المسلمين، واستعمال التبغ والقهوة محرم ولكن الشاي مسموح به، وكذلك لبس الملابس. الرفيعة وفي حين أنهم يعترفون بأنهم على المذهب المالكي فإن علماء القاهرة كثيراً ما كتبوا عن انحراف السنوسيين عن الإيمان الصحيح، ومعظم الاتهامات تنحصر في أنهم فسروا القرآن الكريم والسنة بدون الاعتماد على مصادر معترف بها، ولذلك يعتبر العلماء المصريون أن السنوسيين ينشئون بذلك مذهباً جديداً لا طريقة جديدة في العبادة وهم في ذلك يُشبهون الوهابيين خصوصاً في دقة أتباعهم لنصوص الدين

وبصرف النظر عن التعاليم الدينية نجد أن عملهم الرئيسي - وذلك قبل احتكاكهم بنشاط القوات الأوربية الاستعمارية - الغرض منه الاستعمار وتشجيع التجارة، وقد حفروا الآبار ووزعوا الواحات وانشئوا أماكن للاستراحة على طول طريق القوافل ورحبوا بالتجار من طرابلس وبرنو وواداي ودارفور. كل هذا دونه الكتاب الإسلاميون ووكالات الفرنسيين والإنجليز في تقاريرهم

والسنوسيون كانوا على اتصال دائم بالإدارة المصرية في واحة سيوه، ولسنين عديدة خلت كان ممثل السنوسي على وفاق تام مع السلطات المصرية، وإخلاص السنوسيين لرسالتهم لا شك فيه. وأتباع الطريقة خارج المناطق المجاورة لمركزهم من أوساط عالية على نقيض الطرق الإسلامية الأخرى، ووكلاء الطريقة في البلاد أشخاص معروفون أغنياء متعلمون تعليماً جيداً وخصوصاً في فقه الإسلام وهم عادة على وفاق تام مع حكام البلاد التي يعيشون فيها، وهؤلاء الوكلاء يقومون عادة برحلات سنوية إلى الزوايا المختلفة الموضوعة تحت إشرافهم شارحين لأتباعهم تعاليم السنوسية

حسين جعفر

المهندس الزراعي

ص: 28

‌محاورة أفلاطون الخيالية

حول التربية الإنجليزية

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

- 3 -

المحاورة خيالية بين الفيلسوف أفلاطون وبين أحد المربين

الإنجليز. وقد دارت في المقالين السابقين حول نظام التربية

في إنجلترا والغاية منها، تلك الغاية التي يوضحها المربي

بأنها إعداد الفرد ليشترك في الحكومة الديمقراطية بطريق

انتحاب رجال الحكم، وأعضاء المجالس النيابية وهذه التربية

- كما يقول المربي الإنجليزي - تجربة في الحكم الذاتي، أي

حكم الشعب نفسه بنفسه. ويرى أفلاطون أن تربية الشعب

عامة محدودة ولا تكفي لأقداره على الأشراف على تصرفات

الحكومة، وسياستها الداخلية والخارجية. ولكن المربي يقرر

أن نظام التربية في إنجلترا يسمح لكل فرد أن ينال خبرة

مهنية فنية، وأن يصيب من الثقافة العامة ما يمكنه من معرفة

شئون السياسة العامة للأمة. والفرص متاحة تؤهله مواهبه

الطبيعية لأي نوع من أنواع التعليم أوليا كان ثانوياً أو

جامعياً. وهنا يقترح أفلاطون أن تترك مقاليد الحكم للجامعيين،

ص: 29

وحملة الشهادات العليا، لما هم عليه من ثقافة فلسفية وعلمية.

بيد أن المربي لا يشاركه الرأي. ويقول: إن الحياة جامعة

الجامعات، وأبواب المناصب مفتوحة لكل من تزكية كفايته

وخيرته لأيها، سواء أكان من أبناء الجامعات أم من غيرهم.

أفلاطون: لا شك أنك ستجد ضرورياً أن تفرق بين نوع التربية الملائم للرجال المسئولين، وذوي التبعات الوطنية، وبين نوع التربية الملائم للصناع والعمال. فتربية الأول هي تربية ثقافية عالية، بينما تربية الآخرين تربية فنية مهنية.

المربي: أنا لا أومن بهذا الرأي. إننا نعتقد في بلادنا أن كل فرد يجب أن ينال نصيباً آخر من التربية غير تلك التربية الآلية التي تعده للمهنة أو الصنعة، لأن كل الأفراد قد منحوا صفة البشرية، وصفة التعقل والإدراك، ولهم قوى كامنة يمكن أن تتقبل الثقافة والحكمة. ولهذا يجب أن ينال كل فرد إلى تربيته المهنية تربية ثقافية عامة.

أفلاطون: ولكن أتسمحون بهذه التربية الثقافية العامة للموهوبين وغير الموهوبين على السواء؟

المربي: كلا هذا مستحيل، أولاً لأن السواد الأعظم من تلاميذ المدارس يكتفون بالتعلم إلى نهاية المرحلة الأولية، أعنى إلى سن الرابعة عشرة؛ وثانياً لأنه ليس كل الأفراد صالحين للتعليم الجامعي.

أفلاطون: إنني موافقك على هذا بكل قواي. إن الطبقة قلية الذكاء من أبناء الشعب والتي أسميها العامة في (مدينتي الفاضلة)، لا تفهم الفلسفة ولا تتمتع بها والأفراد القلائل منها الذين يتذوقون طعم الفلسفة يخدعهم أول أفاك يقابلون، أو متطبب، أو متدين محتال يستولي على قلوبهم بعبارات الدين الخلابة. إن ذوق العامة يميل دائماً إلى الدون من كل شيء. ولا يفرق بين التكحل والكحل، ولا بين الحقيقة والخيال. وهذا هو ما دعاني لأن أحظر على العامة دراسة الحقائق والعلوم الفلسفية، وأن أقصرهم على الأساطير، وأحاجي الآلهة، والأقاصيص الخيالية. تلك الأشياء التي أسميها (الأكاذيب النبيلة)، والتي يجب على

ص: 30

الحكومة أن تهيئها للعامة لترضي رغبتهم الملحة في التثقيف والتنوير، ولتمدهم بشيء يتحدثون عنه وتلوكه ألسنتهم، حينما يجلسون ليقتلوا أوقات فراغهم. ولقد سمعت بأمة مجاورة لكم قد عملت وزارة للدعاية وتنوير العامة. وكم أفعم هذا الخبر قلبي سروراً، لأنه يدل على أن من بين أعضاء حكومة الأمة من يقدرون الأخطار التي تنجم ترك العامة يطمعون أخلاط الثقافات والآداب والموسيقى لا فرق بين غثها وسمينها، فتؤثر هذه الأخلاط في نفوسهم، وتحملهم على الثورة وسوء النظام

المربي: أحسب أنك لا تمتاز كثيراً عن الفاشستي! كيف تحل هذا النوع من الدعاية الحكومية التي يقصد بها استرقاق عقول الناس، وحقنهم بالأكاذيب، والأخبار المموهة؟ إن هذا لهو القضاء النهائي على الحرية

أفلاطون: وهل يتمتع حقاً أبناء شعبك بالحرية؟ أليسوا هم أيضاً أرقاء للأكاذيب والأخبار الفجة التي يطالعونها كل يوم في الصحف، وفي السينما، وفي القصص الروائية، ويسمعونها من الخطباء في الأندية والنقابات؟

المربي: يجب أن أعترف بكراهيتي لهذا النوع البخس من الصحف اليومية التجارية، ولهذا النوع الدون من إنتاج السينما. ولكن لا تنس أن الإنجليزي حرمها كانت الحال ليختار لنفسه، فهو ليس مجبراً لأن ينصت لجانب واحد من الدعاية، بل له أن يسمع كل الآراء والقضايا، ويكون هو بعد ذلك حكمه الخاص

أفلاطون: لا تتعجل في نتائجك. أنت تقول: إنه حر الاختيار فكيف يتسنى له هذا إذا لم يكن عنده مقياس للاختيار، ولم يكن له المحك الذي يميز به الزيف من الصحيح؟ من المؤكد أنه لا يستطيع الاختيار. ولذلك فهو زائغ الفكر متحيراً، قد بهرته أسراب الخيالات التي تطن في أذنيه طنين النحل، حتى لا يدري أواقف هو رأسه أم على قدميه. صحيح إن سماع أخلاط من الأخبار المموهة أكثر إمتاعاً من سماع خلط واحد، ولكني لا أستطيع أن أفهم لم تدعي أن الفرد في الحال الأولى حر ليختار وفي الحال الثانية رقيق يقبل كل ما يسمع. إن حقيقة الأمر هي أنه ما دام الفرد لا يستطيع التمييز بين الزيف والصحيح فليس بحر، سواء أكان هذا الفرد إنجليزياً أم ألمانياً أم أثنياً

ولذلك فإنني حينما أفكر نظام التربية القائم عندكم، والذي تقولون عنه إنه تجربة في الحكم

ص: 31

الذاتي لا أجد شيئا من هذا الحكم الذاتي المزعوم، لأن هذه التربية التي تبالغ في حمدها لا تجعل العامة أحراراً، ولكنها تبعث على الغرور والادعاء في نفس متلقيها. والنتيجة هي أن هؤلاء العامة الذين تلقوا هذه التربية قد أصبحوا أكثر تعرضاً لخطر تجار الثقافة والمعارف، وأعني بهم أولئك الدجالين الذين يخدعون العامة بمقالاتهم الطنانة وإعلاناتهم الثقافية لابتزاز المال، لا من أيدي الصناع والعمال، بل من أنصاف المتعلمين. والدليل على قولي هذا بسيط. فلو كانت تربيتكم صحيحة حقاً لما ظل في بلادكم هذا النوع من تجار الثقافة، بل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت فهاجروا إلى بلاد أخرى. أما وهم لا يزالون بين ظهرانيكم فهذا دليل على أن التربية القائمة عندكم لا تكون المناعة الكافية ضد تجار الدين والثقافة والعلوم

وشبيه هذا ما يحصل في ميدان السياسة. فالجمهور لا يستطيع طبعاً أن يفكر في شئون السياسة تفكيراً سليماً. وهو يظن زعماً أن تربيته قد كونت منه سياسياً مفكراً، هذا الظن الذي يجعله أكثر خضوعاً لأنواع الدعاية والإعلان السياسي. ويخيل إلى أن كل صانع أو عامل نال شيئاً من التربية العامة الأولية يعتقد أنه قدير على الفصل في الأمور التي ليس له فيها تجربة أو معرفة

إنك تدرك معي الآن أنه من السهل على أي خطيب من خطباء السياسة مليء الجيب وحاد اللسان، أن يخرج على الناس بمشروعات ضخمة يخدع بها أنصاف المتعلمين، فيرضي فيهم الميول الطائشة، ويستولي على مشاعرهم بإثارة عاطفة الادعاء فيهم ولقد حدثت عن أنواع السفسطائين الذين يحتالون باسم الثقافة والعرفان، والذين يعيشون بينكم ناعمي البال. وأعتقد أنك لا تستطيع أن تنكر أن هؤلاء إنما يرتعون في أموال المتعلمين من أبناء جنسك. على أن هذه الحال إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النفس البشرية لا تخضع دائماً للحقائق والمعارف الصحيحة التي تقدم لها في المدارس والمعاهد، وإنما تجنح إلى شيء آخر: إلى الخيال والكرامات، والمعجزات. وتقبل - كلما سنحت لها الفرصة - الخرافات والخزعبلات، بدلاً من أن تتقيد بقوانين العلم وأسس المعرفة الصحيحة. وذلك لآن الحقائق ليست حلوة المذاق دائماً، وليس لها تلك الجاذبية التي للدعاوى الخادعة

من أجل هذا كله أرى لزاماً عليكم أن تكونوا حذرين فيما تعملون لأجل سعادة أمتكم

ص: 32

وصلاحها. لأن التربية المحدودة تجعل الفرد يخدع نفسه بنفسه، ويظن أن المعارف أمر سهل المنال، وأن أبوابها مفتحة لكل من قرأ كتاباً أو سمع محاضرة

وهذا ينطبق أيضاً على الديمقراطية عندكم. فإنني أخشى أن تكون هي الدكتاتورية التي تكرهونها، ولكن في ثوب الديمقراطية، فيخدع العامة بما يقول مروجوها

وفي ظني أن قادة الرأي عندكم ليسوا أحراراً أيضاً فيما يقولون ويفعلون فمحررو الصحف، وواضعو الأفلام، والخطباء، ورجال السياسة، والناشرون، كل أولئك ليسوا أحراراً يعملون ما يشاءون، ولكنهم خاضعون لميول العامة وذوقهم، حريصون أن يقدموا لهم ما تستسيغ حلوقهم

المربي: لقد تحقق ظني فيك، فقد حسبتك فاشستياً من طليعة حديثك. والآن أصبح الحسبان، يقيناً فأنت لا حرمة عندك للجماعة البشرية، وليس في قلبك حدب عليها ولا حب لها. أنت تريد أن تسيطر على كل فرد، وأن تجعله يعتقد ما تعتقد. وإنني أؤكد لك من الآن أنك لن تجد من يعطف عليك في بلادنا ولا من يشاركك الرأي

أفلاطون: أن ما تقول لجائز، ولكن أعلم أني غير راغب في إخفاء الحق رغبة مني في عطف أهل بلادك على، ومع هذا لا أعتقد أنهم سيكرهونني كما تفكر، إنهم أعقل مما تظن

المربي: إن ما أستطيع استنباطه من حديثك هذا هو أنك تريدنا أن نرجع إلى الوراء، إلى الزمن القديم، زمن جهالة العامة وحكم طبقة الأقلية الخاصة، زمن مدارس أولاد الأعيان

أفلاطون: كلا. أنا لا أريدكم أن ترجعوا إلى الوراء، وإلى الزمن القديم. لأن الرجوع للوراء مستحيل، ولكني أحب أن أذكرك أنه ليس من الضروري أن يكون القديم فاسداً والجديد صالحاً، فقديماً - وقبل الحكم الديقراطي، وقبل التعليم العام - كان شعبكم مكوناً من طبقتين: طبقة الأرستقراط، وطبقة العامة. ولم يكن ثمت ضير. وكان العامة صناعاً وعمالاً وزراعاً وكانوا مسرورين راضين بأعمالهم ومنهم، قادرين عليها وكانوا سعداء قانعين بحياتهم، بالرغم من أنهم لم يتمتعوا بنظام التربية العامة الحالي. وقد تركوا شئون الدولة للأعيان والأرستقراط، وكانوا يؤمنون بالتعليم، الديني، وكل ما يتعلق بالفضيلة والخطيئة والحياة الآخرة، وهل لي أن أذكرك أيضاً أن ذلك الزمن القديم هو الذي بنت فيه بريطانيا إمبراطوريتها، وأنتجت النابغين من رجال الفن ورجال الأدب الذين يحق لها أن تفخر بهم؟

ص: 33

وكان ولاة الأمور في ذلك الوقت ذوي بصر واتزان وحكمة، عليمين بالتبعات الشاقة الملقاة عليهم، وكان الشعب مطمئناً إلى أن السياسة الحكيمة للأمة لا يحسنها إلا الأرستقراط ورجال الدين

(يتبع - بخت الرضا. السودان)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 34

‌يا عروسي. . . في قبرها

(لقد تعجلنا يوم الزفاف. . وتعجل القدر فزفها إلى قبرها. . .

ولم تلبس ثوب عرسها)

للأستاذ علي متولي السيد

. . . منذ أربعة شهور تحقق الحلم الذي أملناه. . . ودنت أو كادت - تلك الأماني التي طالما ترقبناها. . . ووضعت يد في يد. . . وسأل سائل وأجاب مجيب. . . وأخذنا الميثاق. . . وتعاقدنا أمام الله والناس. . . ثم أنفض المجلس وارفض السامر وخلا المكان إلا مني وإلا منك. . . ونظرات الحياء ترمقيني بها في سحر وفتنة. . . والابتسامة البنفسجية الرائعة تحدثيني بها في خجل ومتعة. . . رويداً رويداً ترفع الكلفة بيننا. . . فتنطلقين تحدثيني وأنطلق. . . ونظل زمناً من الزمن بعيدين عن العالم وما فيه. . . الدنيا تبكي ونحن نضحك والعام كله يقف على أسنة الحراب وألسنة اللهب ونحن في نشوة الفرح نرشف عذب الهوى وفي غمرة الحب نسقي بكأس الأمل ونهزج سوياً بأغرودة السعادة. . . وطيور السماء فوقنا تبارك بالنشيد الباسم حبنا الموفق. . . وهمسات الأهل والصحب حولنا تؤيد بالدعاء الصادق عهدنا المقدس. . . ونحن في حلم الهناء نتعجل يوم الهناء. . . فننطلق معاً إلى القاهرة نعد معدات العرس. . . ونختلف ونتفق. . . وأوثر اللون الأحمر وتفضلين اللون الأخضر، ونفتن في اختيار الأثاث نقلبه على شتى وجوهه ونطرق من أجله كل معرض نزاوج بين ذوق وذوق. . . ونرسم معاً - في أنفسنا - حجرة النوم وحجرة الاستقبال وموضع هذا في هذه ومكان هذا في تلك، ثم نعود وقد أعددنا كل شيء ولم تبق إلا أيام قليلة نسعد بعدها بالزواج الموفق الهنيء. . .

. . . ثم تدفعني بعض أسباب الحياة لأسافر سفراً قصيراً، وأعودك بعد العودة، وقد حملت لك باقة من زهرات البنفسج التي تحبين وتعشقين. . . فأجدك طريحة الفراش، وأنظرك فأراك ساهمة واجمة، وأتأمل عينيك فأرى فيهما دمعة حائرة تترجرج. . . وأسألك ما بك؟ فتشكين إلى بذات الجنب. . . وأهدئ جزعك، وأنهنه شكواك وأكتم في نفسي الألم البالغ، وأتعمل الهدوء لأشعرك بأنها نكسة خفيفة. . . ونذهب إلى الطبيب ليفحصك. . . فيهون

ص: 35

الأمر على نفسك وعلى نفسي. ويعطيك دواء حسبنا فيه الشفاء. . . وخلناه جميعاً سحابة صيف سريعاً تنكشف. ولكن المرض يلح، ولكن العلة تزداد. . . ولكن اللون الأحمر الطبيعي الجميل الذي يزين وجهك يتحول إلى صفرة باهتة فيها معنى الموت. . . ولكن عينيك النجلاوين يشوبهما تلون غريب يشعر الناظر إليه بمعنى الفناء

. . . وأقضي الليل مسهداً إلى جانبك مؤرق القلب والفكر مفتوح العين أرمق عينيك الساجيتين فأسمع من نظرتهما معنى الذبول، وأرنو إلى فمك النائم فيهزني صمته بنشيد الموت. وأجدك تحملين يدك بجهد وتمدينها إلي متثاقلة لأضعها بين يدي كما كنت تفعلين. . . وكأنك تطلبين مني اليوم عهداً جديداً على الوفاء. . .

ثم. . . ثم. . . ثم ما زالت يدك بين يدي تزلزلني شهقتك الطويلة وتسلمين الروح لبارئها. . . وتنتقلين سريعا ً - ونحن معاً - من دار إلى دار. . .

يا عروساً لم تلبس ثوب عرسها. . .

إنها دارك. . . وقد زيناها معاً. . . فهي محرمة على غيرك. . . وسأقضي ما بقي من العمر فيها وحدي. . . أرتل - خاشعاً - في محرابها صلوات الهوى الطاهر اعف والحب الملائكي النبيل

هاهو ذا رسمك يا عروسي يطالعني صباح مساء وكأنك أنبته عنك ليكون شاهداً على إن نكثت بالعهد ولعبت بالميثاق. . .

هاهو ذا رسمك يا حبيبتي معي دائماً. . . لن أقبله. . . لن أضمه إلى صدري. . . وكيف؟! وقد تعاهدنا على أن نعيش في الحرمان حتى يوم الزفاف، وضننا على أنفسنا حتى بالقبل البريئة. . . وكنا يهود الهوى فالخزائن ملآى. . . وما بها حلال لنا، والرقباء غفل ولكننا كنا البخلاء تدخر كل لذة وكل متعة ليوم الزفاف. . . يوم نعب كما نشاء في عش الزوجية الجميل. . .

يا عروسي. . . في سمائها!

لقد شئنا. . . وشاء الله. . . فما نملك من أمرنا شيئاً، وإن رحلتك إلى هنا ختامها. وأما شوطي فما زال فيه بقية. . . سأقطعها وفياً لعهدك صائناً حبك. . . مقدساً ذكرك. . . ولن أكون في هذا إلا راداً لك بعض حقك، مؤدياً لك يسيراً من دينك. . .

ص: 36

يا عروساً. . . زفت إلى قبرها. . .!

لقد كنا نتعجل الزفاف، نحشى أن يجرفنا تيار الحرب فنذهب في غباره. . . وكم أعددنا الهدايا الرقيقة الضاحكة نفاجئ بها صحبنا تعجلنا يا عزيزتي. . . وتعجل القدر. . . فاختطفك الحمام وأثواب العرس ما زالت تحاك. ووسائد الفراش ما زالت تنجد. وضمك القبر قبل أن يضمك الحبيب، وأعلام الفرح الخضراء نكسناها في يومك الرهيب. . . والبطاقات الوردية الجميلة التي أعددناها للمدعوين جللناها بالسواد، ونعياك بها للمشيعين والمعزين

يا عروسي. . . في جوار ربها. . .!

وداعاً. . . وداعاً. . . إلى لقاء. . .

علي متولي السيد

ص: 37

‌من وراء المنظار

صاحب السلطان الزائف

ليس لديه من دواعي السلطان غير رتبة البك، أما المال فحظه الحقيقي

منه قد لا يسلكه حتى في أمثالنا من عباد الله القانعين المتواضعين؛

ومع ذلك فقد توافى له من البأس والسلطان ما يندر أن يتوافى لغيره

من ذوي الثراء العميم والحسب القديم. وأتفق له في غير مشقة من

وسائل جمع المال ما لو أنفق لسواه من أهل الكدح والجد لعد عندهم

من أنعم الله التي ينسى معها كل عنت ويهون في سبيلها كل نصب. .

. وهو والحق يقال أحد أفراد أسرة فيها من رزق حظاً عظيماً من

الثراء وإن لم تكن كغيرها من الأسر الكبيرة القائمة حولها معرقة في

الفضل والحسب

كان يتداخلني العجب كلما ترامى إلى شيء من أنبائه، حتى لقد تاقت نفسي آخر الأمر إلى رؤيته كما كانت تتوق وهي غريزة إلى رؤية الغول ولكن على بعد وفي مأمن من أظفاره وأنيابه، وكما قد تتوق اليوم إلى رؤية الدتشي مثلاً وغيره من غيلان الإنسانية رؤية آمنة في غير الورق أو السينما! ولقد تميل النفس إلى رؤية ما تكره كما تميل إلى رؤية ما تحب وهذه من عجائب غرائزها!

وتحققت لي رؤيته أخيراً في قريتنا وهي ملتقى عدد من القرى بينها قرية ذلك الآمر الناهي. وكان ساعة رأيته يجلس في حاشية من (محا سيبه) أمام مقهى من المقاهي على الطريق العام، وهو لا يحلو له الجلوس إلا حيث يراه الغادون والرائحون، فما يراه أحد من ذوي المكانة إلا أقبل عليه مرحباً مسلماً، وما من صاحب حاجة إلا ويشكو إليه حاجته ويلتمس عنده طلبته

وجلست غير بعيد أنظر إليه في جلبابه الفياض وقد دفع طربوشه إلى مؤخر رأسه، واتكأ على عصاه تحت إبطه، وشمخ بأنفه، ورفع رأسه إلى آخر ما يسمح به وضع طربوشه

ص: 38

الذي ضللت أتوقع من حين إلى حين سقوطه وراء ظهره حتى رأيته يهوى ولكن ليرفعه أحد الجالسين في أقل من ارتداد الطرف، وقد تزاحم عليه نفر منهم بطمع كل واحد أن يحظى بشرف إزالة ما علق به من التراب بكم جلبابه

وجاء الندلُ مذ رأوه فأحنوا جباههم ورفعوا أيديهم يحيون (سعادة البك) في ابتسام واحتشام، ودارت أقداح الشاي والقهوة على الجالسين؛ وكان لا يني البك عن طلبها لكل قادم في لهجة كريمة حازمة

وشكا البك من غبار الطريق، وسأل محنقاً: ماذا يصنع المجلس القروي إذا؟ ووعد أن يتحدث في ذلك إلى المأمور فسيلقاه في المركز غداً. . . وإذ جاء ذكر المأمور تقدم رجل في يده عريضة وهو يقول: (يا سعادة البك الله يخليك. . .) وقطع عليه سعادة البك كلامه متسائلاً: ألم تنته مسألته بعد؟ ثم تناول منه ورقته ودمسها في جيبه وصرفه طالباً إليه أن يقابله عند باب المركز صباح الغد، وما لبثت العرائض أن تزاحمت على جيب البك. . . فهذا يرجوا أن يكون خفيراً، وذلك يطمع أن يعين فراشاً، وفلان يرجو نقل أبنه إلى بلد قريب، وآخر يستعجله ما وعد في أمره، وهو يكرر لهم جميعاً وعوده مؤكداً مستمهلاً إلى أمد قريب. . .

وتسلل أحد جلسائه إلى هؤلاء فتحدث إلى كل منهم على انفراد برهة، ثم عاد إلى حيث يجلس سيده وفي جيبه هو أيضاً ورق ولكن من نوع آخر!

ولاح ضابط الشرطة مقبلاً فأفسح الجالسون له مكاناً قبل وصوله، وأقبل فسلم على البك في اهتمام عظيم لا تفلته عبارة من عبارات الترحيب ولا يفوته شيء مما يحفظ من التحيات يشفعها جميعاً بألقاب التعظيم والتبجيل؛ وبدا لي أنه ضابط ذكي إذا كان يزيد في ترحابه وتحياته كلما رأى أثرها الطيب على قسمات البك، وقل في الضباط من لا يتقن هذا التهويل في مناسبة كهذه، فهو لا يكلفهم شيئاً، أما ما يعود عليهم منها فأقل ما يرجونه أن يكف عنهم أمثال صاحب السلطان هذا ألسنتهم عند أولى الأمر إن لم يجودوا عليهم بالثناء والإطراء بل وبالشفاعة والرجاء إذا اقتضى الحال شفاعة أو رجاء

وأرتاح البك إلى حضور الضابط فانطلق يتحدث عن مقابلاته التي ضاق بها ذرعاً، فحسبه أن قابل فلاناً وفلاناً من الوزراء في أسبوع أكثر من ثلاث مرات، أما مقابلاته للمدير فأكثر

ص: 39

من أن يحصرها عد؛ ثم يمسك البك قليلاً ويعود فيقسم بحياة أبيه وقد تصنع الغضب أنه لولا ابتغاء وجه الله لما رضى بأن يسود وجهه من أجل الناس على مثل تلك الحال الأليمة

وتعلق منظاري بمرآه فما يكاد يتحول عنه؛ وذكرت ما ترامى إلي قبل من أنبائه وصدقت ما كنت أحمله قبل رؤيته على المبالغة؛ فهذا الرجل جدير حقاً أن يذهب بنفسه، كما علمت وقد توسلت به بغي معروفة، فيرجو لها من بيدهم الأمر ألا يحول الشرطة بينها وبين ما تأتيه من الفجور في أحد الموالد، لا لشيء إلا ليثبت جاهه في ساحة المولد. . . وهذا الرجل جدير بأن يوهم أغرار الناس بأنه قادر حتى على أن يحول بينهم وبين العدالة، وإلا فكيف ذهب يتوسل إليه، كما قد علمت علماً لا يداخله شك، من كانت تهمتهم جريمة القتل؟ وهذا الرجل جدير حقاً بأن يفهم كل من له به صلة بأن جاهه لا يقف عند الخفراء والفراشين وإنما يتعدى هؤلاء إلى العمد وإلى من هم أكبر خطراً من العمد من جماعة الموظفين. . . وهذا الرجل جدير بأن يحتجز سيارات النقل عند مدخل قنطرة على حدود قريته فلا تمر إلا أن تدفع قدراً معيناً من المال، وأخيراً هذا الرجل جدير بأن يصب نقمته على من يشاء وأن يختص بنعمته من يشاء، وله في مجال النقم حديث طويل أراه نقمة بالغة أن أوذي به أنفس القراء

أما زرعه إذا حان وقت الزرع وأما حصاده إذا أراد الحصاد فحدث عنهما ولا حرج، فأهل قريته جميعاً لا يسألونه على جهودهم أجراً إلا الرضاء. . . على أن حظه من الزرع والحصاد لا يتطلب عظيم مشقة لقلة ما يمتلك من الأرض إلا إذا شاء له جاهه فأستجر أرضاً من أصحابها وزرعها في نظير أجر لا يحظى بمثله غيره من الناس

وحمدت الله أن لم تقع علي عين البك فلقد كنت منه كالجن أراه من حيث لا يراني، فما لي طاقة بأن أتلقى منه نظرات الكبرياء والاحتقار التي رأيته يشيع بها كل فرد ممن يسميهم المتعلمين سواء من سلم عليه منهم أو من أعرض عنه، وكان لا يفوته أن يسأل عمن يعرض عنه ثم يذكر آباءهم متسائلا ً - وإنه ليعلم - تساؤل الساخر المستطيل، وهو يرد إلى هذا الصنف ممن يسمون المتعلمين في القرى كل أسباب الفساد والرذيلة، ولست أدري ماذا كان عسياً أن يحدث بيني وبينه إذا أخذتني عيناه فنظر إلي وهو لا يعرفني هاتيك النظرات؟ على أنه لم يفطن إلى مكاني وكفى الله المؤمنين القتال!

ص: 40

وأرسل البك في طلب سيارة فحضرت، ووقف السائق حتى نهض البك للركوب فخف به جلساؤه، ونادى أحد الندل ووضع يده في جيبه، ولكن الندل أسرع قائلاً:(الحساب خالص يا سعادة البك) وأشار إلى أحد الحاضرين وتظاهر هذا بالحياء وشكره البك واتخذ مكانه في السيارة بعد أن سلم على مودعيه، وركب معه من يستصحبهم من أهل قريته

وانطلقت السيارة تحمل ذلك الوجيه العظيم ومن عجيب أمره أنه على عظمته التي رأيت لا يملك سيارة ولكن كل سيارة في هذه الجهة ملك له، فهي جميعاً رهن إشارته، ولن يعدم أن يجد (الحساب خالص) إذا أتخذ إحداها على يد رجل ممن يصحبونه وهو غالباً لا يتخذ سيارة إلا إذا أحضرها له صاحب حاجة يرجو قضاءها على يديه؛ فإن أتخذ سيارة في أمر خاص به وركبها وحده فهو لا يمسك الأجر عن صاحبها إلا إذا سهى، وقليلاً ما يسهو لأنه قل أن يتخذ سيارة وحده

وبعد، فأمثال هذا العظيم في الريف غير قليلين، ولكنا نقول على رغم ذلك: إننا في عهد العرفان والنور، وليت شعري إذا كان هذا عهد النور، فكيف كانت الحال في عهد الظلام، وكيف تكون حالنا غداً إذا نحن أغمضنا العيون عما يشين، ولم نتلمس السبل للخلاص منه؟

الخفيف

ص: 41

‌الحرب في أسبوع

للأستاذ فوزي الشتوي

هل تنتصر اليونان

هل يتاح للأمة اليونانية النصر في صراعها الحالي مع إيطاليا؟ أو هل يتاح لها على الأقل أن تحتفظ باستقلالها من العدوان الفاشستي؟ سؤالان لا أكاد أجلس في مجتمع حتى أسمعهما، فأسمع أحاديث المتشائمين والمتفائلين، وأسمع حججاً تبرر التشاؤم والتفاؤل، وأسمع مقارنات تدل على الحيرة والتردد في الأخذ برأي قاطع؛ ويرى كثيرون أن مأساة الحرب الروسية الفلندية تتكرر بين إيطاليا واليونان

ومن الواجب أن يقف الباحث لحظة أما هذه الأسئلة الدقيقة، فيستعرض موقف الدول الأربع مما يسمي الناحية العسكرية بما تضم من استعدادات عسكرية، والقرب أو البعد من البلاد الحليفة والمؤيدة، وسهولة صلتها بها أو صعوبتها، وانشغال الدول المعتدية بالحرب في ميادين أخرى

فبين إيطاليا وروسيا كثير من وجوه الاتفاق، وبينهما أيضاً كثير من وجوه الاختلاف ولا يسعنا إلا أن نرجح فيها كفة اليونان؛ وبين فلندا واليونان كثير من وجوه الاتفاق والاختلاف أيضاً؛ ولكن الاختلاف في مصلحة اليونان أيضاً

فعدد سكان الروسيا 185 مليون، وعدد سكان فلندا ثلاثة ملايين؛ وعدد سكان إيطاليا 40 مليوناً وعدد سكان اليونان ثمانية ملايين. كانت الروسيا تحارب فلندا وحدها أما إيطاليا فتحارب إنجلترا في مصر وفي شرق أفريقيا، ثم اشتبكت بالحرب مع اليونان.

فلندا واليونان

حقيقة إن الروح المعنوية في فلندا كانت عالية، فباع جنودها أرواحهم بيع السماح، ووفقوا في أول أمرهم توفيقاً كبيراً وهو ما نرى مثيله عند اليونان وإن كانت اليونان تمتاز بعدد أوفر من الرجال تستطيع أن تضعه في ميدان القتال، فلا شك أن عدد المجندين الذين يمكن الانتفاع بهم في ثمانية ملايين يزيد على ضعفي العدد الذي يستطاع تقديمه من ثلاثة ملايين فقط

ص: 42

وأن اليونان تمتاز - في وضعها الجغرافي - بميزة عظيمة، فميدانها قريب من الميدان الشرقي؛ ومواصلاتها معه سهلة لا تعترضها صعوبات تمنع من إمدادها بالمساعدات العسكرية السريعة، وتجهيز جيوشها الباسلة بالعتاد الحربي الذي كان نقصه السبب الأساسي في هزيمة فلندا التي تعذر إمدادها بالذخائر والجنود لصعوبة مواصلاتها مع إنجلترا، ولعدم وجود مرا فيء لها على بحر الشمال، ولمعارضة النرويج أثناء الحرب الفلندية في السماح للجنود المحالفة بالمرور في أرضها، فكانت هذه المعارضة وحدها عاملاً كافياً لحبس المساعدة عن فلندا

أما في اليونان، فالجزء الشرقي في البحر الأبيض المتوسط يقع تحت السيطرة الكاملة للأسطول البريطاني، ويقع في منتصفه تقريباً جزيرة كريت اليونانية التي احتلتها القوات البريطانية، واتخذت منها قواعد حربية لإفساد خطط إيطاليا، ولإمداد اليونان بما يستطاع تقدمه من الرجال والمعدات، وإذا كانت بريطانيا قصرت معونتها لليونان على المعونة البحرية والجوية الآن فالغرض من هذا الاحتفاظ بقوتها البرية في ميادين أكثر أهمية وهو الميدان المصري الذي يعتبر تعزيزه تهديداً قوياً يشتت شمل القوات الإيطالية ولا يسمح لها بتوجيه ضربتها الحاسمة إلى اليونان

من ألبانيا

وقع في إيطاليا صعوبة أخرى فهي تهاجم اليونان من ألبانيا، ونظرة واحدة في خريطة البحر الأبيض تبين الفاصل البحري بين إيطاليا وألبانيا، وتبين أن طريق الإمدادات الإيطالية يجب أن يعبر البحر، فيسهل على أسلحة الطيران تهديده من جزيرة كورفو أو من غيرها، فضلاً عما يحتاج إليه النقل البحري من وقت واستعداد يفوق النقل البري؛ أضف إلى ذلك أن ألبانيا من الدول المحتلة التي تسعى للخلاص من الفاشست، فإذا كان أهلها لا يستطيعون الثروة بضغط الحديد والنار، فإنهم يكفون يد المساعدة للقوات الإيطالية على الأقل

والحوادث العسكرية في اليونان تشابه إلى أمد بعيد مثيلتها في فلندا، ففي الحرب الفلندية أحرز الفلنديون عدة انتصارات حربية، وأوقعوا بالشيوعيين خسائر فادحة حتى أعجب العالم ببسالة ذلك الشعب الصغير، إلا أن الحظ أو الموقع الجغرافي للمدن السوفياتية لم

ص: 43

يسعفهم بقدر ما أسعف زملاءهم اليونان، فلم يستيسر لهم الإحداق بمراكز الهجوم الروسية كما أتيح لليونان الإحداق بكوريتزا مركز الزحف الإيطالي

فإذا قدر لليونانيين الاستيلاء على هذه المدينة التي تقع في الميدان المتوسط للزحف الإيطالي تيسر لهم إحباط جانب كبير من خطط الغزو الإيطالي لبلادهم، أو وقفوا الزحف الإيطالي مدة طويلة وأنقذوا سالونيك التي تقع على إحدى الطرق المتفرعة من هذه المدينة كما يهددون طرق المواصلات الإيطالية في الجهتين الشمالية الممتدة إلى فلورينا في الجبهة الممتدة إلى الشاطيء في جبال أبيروس

ولو وفق الزحف الإيطالي في الوصول إلى سالونيك لتيسر له أن يشطر بلاد اليونان إلى قسمين ولأصبحت مقاطعة تراقية اليونانية لقمة سائغة سهلة الهضم، كما يتاح لإيطاليا الحصول على قواعد بحرية وجوية تعزز مركزها في جزر الدوديكانيز فتستطيع منهما أن تهدد القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط وتسيطر على بحر أيجة بأجمعه وعلى منطقة المضايق

الصمت التركي

وأثبتت الساسة الترك في حوادث اليونان الأخيرة مبلغ خبرتهم كرجال عسكريين وساسة حكماء بابتعادهم الحالي عن الاشتراك الفعلي في الحرب مع ولائهم لقضية الديمقراطية والمدنية. فإن صمتهم الحالي أفعل وأجدى، وهم بصمتهم يقدمون إلى اليونان مساعدة أجل من مساعدتهم المادية فيكرهون طرف المحور الآخر (ألمانيا) على الوقوف موقف المتفرج

فلو تقدمت الجيوش التركية في تراقية لمساعدة اليونان لاستولت ألمانيا على بلغاريا ومنها تهاجم اليونان ومنطقة المضايق في الدردنيل والبسفور. إلا أن تركيا وفرت قوتها لفترة أكثر مناسبة فأصابت طائرين بحجر واحد، فصانت مصالحها أولاً، واضطرت ألمانيا إلى الانتظار وفوتت عليها فترة كانت ترجوها، حتى يتيسر لها الزحف إلى الشرق حيث منابع البترول في العراق وإيران، ثم تهديد قنال السويس

فاحتفاظ الجيوش التركية بمواقعها وانتظارها لخطط المحور الأصلية التي يستبعد - كما يرى بعض الساسة والعسكريين - أن تكون اليونان واحدة أساسية منها، ينذر بفشل تحقيق هذه الخطط. فالجندي التركي خبير ببلاده متمرن على وعورة أرضها ورداءة جو جبالها

ص: 44

بعكس الجندي الألماني أو الإيطالي. أضف إلى ذلك ما يتكلفه اجتياز منطقة المضايق من أوربا التركية إلى أوربا الآسيوية من ضحايا عسكرية تزيد خطورة كلما زادت القوات الحامية لها في الاستعداد، وخصوصاً إن ألمانيا أو إيطاليا لا تملك القوات البحرية التي تستطيع أن تمهد للاستيلاء على هذه المناطق

وشعرت إيطاليا في الأسابيع الماضية بخطورة المقاومة اليونانية فغيرت القيادة هناك، ورأى القائد الجديد أن يسحب الجنود الإيطالية من مواقعها ليبدأ خطة جديدة تعيد لإيطاليا كرامتها العسكرية، وهذا يدل على مقدار الخسارة التي منيت بها الجيوش الإيطالية حتى أقتنع القائد فشل الخطط السابقة وفضل أن يبدأ حركاته من جديد دون أن يسيل لعابه من أجل المواقع التي تحتلها قواته

والخلاصة أن ظروف القتال في اليونان تختلف عن مثيلتها في فلندا وتبعث على التفاؤل أكثر مما تبعث على التشاؤم. وإذا كانت بريطانيا لم تمدها بالرجال فليس معنى هذا ضعف الأمل في نجاح اليونان بل ربما تجد القيادة البريطانية أنه سابق لأوانه الآن

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 45

‌بين أثينا وبين روما

للأستاذ عبد اللطيف النشار

بين (أثينا) وبين (روما)

تغوص بالفكر أم تطير؟

في ظلمات بِقاعِ يمٍّ

ليس بها ذَرَّة تنير

تختنق العين في دجاها

والنفس والروح والضمير

فتلك (روما) التي يباهي

بمجدها جيلها الأخير

ضخامة ما لها رواء

ينكرها الحس والشعور

يا زهرة ما لها عبير

في ظلك الضيقُ والنفور

يا زمناً لم يزل يدور

مبدأ روما هو المصير

شعب ضعيف يسير كرها

كما يرى حاكم كبير

هيهات هيهات يا أثينا

لن تقبلي الحكم إذ يجور

دنيا من الحسن يا أثينا

لا برحت شمسها تنير

يريد إطفاءها غشوم

هذا لعمري هو الغرور

قد عاش حراً ومات حراً

ذلكمو الشاكر الصبور

وأرث سقراط في حجاه

تعجز عن كيده الدهور

في الحرب والسلم يا أثينا

تشرق في جوك البدور

فيك بشير بكل ما لم

يأت بمصر له بشير

لو لم تكن مصر لي بلاداً

لقلت في أرضك النشور

لبيك لبيك يا أثينا

أسمعني صوتُك الجهير

ما جن (بيرون) في هواها

لكنه شاعر بصير

طلع الفجر. . .

للأستاذ أمين عزت الهجين

طلع الفجر يا حبيبي وغنى الط

ير بين الغصون لحن الصباح

فاصح يا حلو، قد صحا الور

د وطاف النسيم بالأقداح

ص: 46

خمرة هوت الغصون فمالت

تتناجى تناجِيَ الأرواح

هاهو الغصن على الغصن يميلْ

والفراشات جرت بين الحقول

وحلت جلستنا تحت النخيل

هاهي الأزهار حولي ابتسمت

ذكرتني بك فاشتقت إليك

فتعال إن روحي ظمئت

والكؤوس وامتلأت بين يديك

أيها الساحر ماذا فعلتْ

بفؤادي مقلتاك

صفق القلب وروحي سكرت

حينما لاح بهاك

وهموم العيش يا بدري ومَضَت

كلها عند لقاك

يا حبيبي كتب الله لنا

أن تُقضى في الهوى أعمارنا

فتعال إنه يوم الهنا

يا حبيبي. . . . . .

هاهي الأطيار تشدو حولنا

وتغني للروابي حبنا

أنت دنياي ودنياك أنا

يا حبيبي. . . . . .

ساعة في العمر تقضيها معي

لا أبالي بعدها ماذا يكون

فإذا ما حان يوماً مصرعي

وبدت في الأفق أطياف المنون

سوف لا أذكر إلا قبلة

منك توجتَ بها هذا الجبين

ما أكذب الأحلام

للأستاذ فؤاد بليبل

لَا الحُبُّ عَادَ وَلَا جَمَالُكِ دَامَا

فَعَلَامَ أشْقَي في هَوَاكُ عَلامَا؟

أَغْرَيْتِنِي بِالمَالِ حَتَّى خِلُتني

نِلْتُ المَرَامَ وما قَضَيتُ مَراما

خَاب الرَّجَاءُ فَيَا لَشَقْوَةِ شَاعِر

ضَلَّ الحِسَاب وَأخْطَأَ الأرْقاما

وَقَفَ الحياةَ عَلَى الدُّمَى مُتَجَرِّداَ

مِنْ قَلْبِهِ وَتَعَشَّقَ الأصْنَاما

وَمَضَى يُخَادِعُ نَفْسَهُ في وَصْلِهِ

مَنِ لا يُحِبُّ وَهَجْرِهِ الآراما

أغْرَتْكِ مِنْهُ صَبْوَةٌ كَذَّابَةٌ

فحسبتِهِ بِهَوَاكِ جُنَّ هُيَاما

ص: 47

وَسَبَتْكِ رِقَّتُهُ وَعَذْبُ بَيَانِهِ

فَظَنَنْتِهِ أرْعَى الأنَامِ ذِماماً

هَلْ كانَ حُبُّكِ غَيْرَ طَيْفٍ عابرٍ

نَادى الغُرورُ بهِ فَزَارَ لِماما

حُلْمٌ مِنَ الأحْلَامِ مرَّ بخَاطِري

يَوْماً وأجْفَلَ مُعْرِضاً أعْواما

حُلٌم تَوَسْمتُ المسرَّةَ وَالرِّضا

فيه، فكانَ كآبةً وَخِصَاما

حُلْمٌ، رَجَوتُ به الشِّفاَء وَلم أكُنْ

لا أظُنَّ أن الَّداَء كانَ عقاما

حُلْمٌ، نَعَمْ حُلْمٌ تَصَرَّمَ وانْقَضَتْ

أوْهَامُهُ، ما أكذَبَ الأحْلَاما

أغْنِيَّةُ الحُبِّ الذي ألهَمْتني

أسْرَارَه، فَنَظَمْتُهَا أنغاماً

ماتَتْ عَلَى شفَتَيَّ حَتىَّ أصْبَحَتْ

أنْاتِ حُزْنٍ تَبْعَثُ الآلاما

يا خَيْبَةَ الآمالِ كيفَ تَصَرَّمَتَ

لم تشفِ جُرْحاً، أو تبلَّ أوَاما

خِلْتُ السَّعَادَةَ فِي غَنَاكِ حَقِيقةً

وَطلبتُهَا، فَوَجَدْتُها أوْهَاما

والمالُ! ساَء المالَ! كم مِنْ شاعِر

لَمَحَ الرَّدَى بِبَرِيِقِه فَتَعَامَى

ليسَ السَّعَادَةُ أنْ تعِيشَ عَلَى الِقلَى

إنَّ السَّعَادَةَ أن تَموت غَرَاماً

ص: 48

‌البريد الأدبي

كتب لم أقرأها

تفضلت الآنسة سناء محمد فأرشدتني إلى مرجع قيم لموضوع كنت قد ألممت به في كلمة لي نشرتها الرسالة. أما المرجع فهو شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، وأما موضوعي فيتعلق بالكلمات العامية. وسيرى القارئ أي فضل أسدته إلي الآنسة حين نبهتني في رفق ولين إلى وجوب البحث في المراجع قبل تناول ما يتصل بها من الموضوعات

على أني إن شكرت لها هذا الفضل فإنها قد أوحت إلي بخاطر سأظل معترفاً لها بالعجز عن الشكر عليه. وهذا الخاطر هو أن أنشر كتاباً عنوانه (كتب لم أقرأها)

أقسم إنه لعنوان رائع. . . ولئن وفق كاتب إلى الإتقان في وضع كتاب كهذا فهو بالغ به الذروة في عالم التأليف! ألا يتاح له بث مشاعره كلها نحو المجهول؟ (كتب لم أقرأها). . . إنها لملايين وإن لدى الكاتب من الشوق إلى بعضها ومن العلم بشيء عن البعض، ومن الأوهام والجهالات عن أكثرها، ما تتسع له طوال الأعمار وطوال الأسفار

وفي غير هذا المكان من الرسالة كلمة عن أحد الكتب التي لم أقرأها، ويبين منه أسلوبي في تناول هذا الموضوع فلن أغرب وإن لم أعجب، ولن أتبع طريقاً غير مألوف بل سأتحدث عن كتب قرأت عنها في لغة أخرى وهي مكتوبة عنا ونحن أحوج إلى قراءتها

فإلى التي أوحت إلي بهذا الخاطر أهدى هذا المقال وما يتبعه تحت عنوانه - إن أفسحت الرسالة صدرها لهذه الرسائل

وإلى الرسالة وإليها أهدي خالص التحية.

عبد اللطيف النشار

حول الحرب والشعر

يؤسفني أنني أغضبت الأستاذ العقاد بملاحظات متواضعة على ترجمته لقصيدة سهول الفلاندر المشهورة للشاعر الكندي جون ماك كراي

وإذا كان الأستاذ تفضل فأسعفني بالنص الإنجليزي من كتاب (بعد عشرين عاماً) الذي

ص: 49

أعتمد عليه في كتابه مقاله، فإنني أهدي إليه النص الإنجليزي من مقال الأديب الأمريكي المشهور برنهارد راجز وهو في مجلة نيويورك تيمس يناير سنة 1938والنص هكذا

، - ،

وترجمة هكذا (ولما أدرك محرر البنش ما في القصيدة من جمال نشرها في حروف كبيرة لا تستعملها الصحيفة إلا في المناسبات العظيمة) وهذا الكلام هو ما قلناه بعينه في خطابنا المنشور بالرسالة في صلب مقال الأستاذ للعقاد

أما ترجمة كلمة بالعنان فلا زلت أخالف الأستاذ العقاد فيها لأنه كان الأصح أن يقول:

خذوا بأيديكم عنان النضال مع الأعداء

أيدينا المتخاذلة ألقت إليكم (بالشعلة)

فارفعوها أنتم أنفسكم عالية

أما ترجمته بقوله: (كنا أحياء وكنا نحيا) فهو تكرار لا وجود في الأصل كما قلتُ

وأما ذكر الجملة الشرطية في ترجمة الأستاذ بقوله (ارفعوها ولو بقيت في أيديكم) فهو شرط لم يرد في الأصل

بقيت نصيحة الأستاذ المخلصة لي بأن (أتعلم قبل أن أتهجم) وهي نصيحة سأعمل بها، وأجد من الشرف دائماً أن يكون الإنسان محتاجاً إلى العلم في كل لحظة وعليه منا ألف تحية وسلام.

محمد عبد الغني حسن

تقسيم الجيش الحديث

تنشر هذا التقسيم لنساعد القارئ على فهم المصطلحات العسكرية التي ترد في البرقيات اليومية، وهي لا تكاد تختلف في مختلف الجيوش

مجموعة جيوش جيشان فأكثر

فأكثر

فأكثر

الفرقة جيش صغير كامل العدة (1)

ص: 50

أو ثلاثة (2)

الآلاي كتيبتان أو ثلاث أو أربع

أربعة أو ستة مدافع بمعداتها

الكتيبة (مشاة) 3 أو 4 أو 5 سريات

الكتيبة 3 أو 4 أو 5 سريات

أو 4 فصائل

سرية خيالية أو 4 فصائل

أو 4 جماعات

الجماعة (الصنف) أصغر وحدة عسكرية

إلى الأستاذ الباجوري

1 -

شرحنا البيتين يا أخي شرحاً أيدتنا به كتب التصوف التي بأيدينا ووافقنا عليه أديبان في العدد 383، وإليك اليوم بعض أقوال الصوفية لتكون الحجة:

قال الشاعر:

(بذكر الله تزداد الذنوب

وتحتجب البصائر والقلوب)

(وترك الذكر أفضل منه (حالاً)

فإن الشمس ليس لها غروب)

والشطر الأول من البيت الأول يفسره قول الجنيد: (من قال (الله) عن غير مشاهدة فقد افترى)، وقول الشاعر:

(وذكر يعزي النفس عنها لأنه

لها متلف من حيث تدري ولا يدري)

ويقول ثالث: (. . . معناه أن التقرب إليه بالأعمال تفرقة). وسخر شاعر من (الذاكرين) فقال:

(هبني أراعيك بالأذكار ملتمساً

ما يبتغيه ذوو التلوين بالغير)

ويفسر الشطر الأخير منه، ويبين كيف الذكر باللسان (يحجب البصائر ويغلف القلوب) قول القائل:(إنما يحجب العبد عن مشاهدة مولاه (أوصافه))

وفي البيت الثاني أنتقل الشاعر من الذكر اللفظي إلى الترغيب في الحال الذي هو الغيبوبة عن هذا الوجود، والاتصال بالله تعالي مباشرة، وإلى هذا يشير (محمد بن إسحاق) في

ص: 51

كتابه (التعرف لمذهب أهل التصوف) قال: (فكأن جمعي به فرقني عني فيكون حالة الوصل هو أن يكون الله عز وجل مصرفي، فلا أكون أنا في أفعالي، فهو الله لا أنا، كما قال لنبيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وهذا لسان الحال ولسان العلم. . . الخ) ويشير إليه أيضاً بقوله: (يكون فانياً عن أوصافه باقياً بأوصاف الحق) والحال هذا هو الذي يفسرونه أحياناً بالمعرفة الحقة: (المعرفة إذا وردت على السر ضاق السر عن حملها كالشمس يمنع شعاعها من إدراك نهايتها وجوهرها)

وهنا أحب أن أقول للأديب (الباجوري) إنه ذكر أن (أصحاب البصائر والقلوب حال)، وليس الأمر كذلك، وإلا لما اضطر إلى النص في البيت الثاني على (الحال)، ولاكتفي بدلا عنه بالضمير

2 -

نحن لم نتهمكم بما لا تعلمونه يا سيدي، وأنت وإن كنت صوفياً لا تقول (بالحلول) إلا أن غيرك من السادة آمن به وقال عنه بل وأستشهد في سبيله، وصنف له الكتب. وما (الظرفية) التي تتحدث عنها إلا السلاح الذي يشهره أعداء الصوفية في وجوههم، ولنقرأ معاً بعض ما نقلوه وقالوه عن مذهبهم في (الحلول)

نقلوا عن أبن عمر أنه قال: (كنا (نتراءى الله) في ذلك (المكان) يعني الطواف) ونقلوا قول محمد بن واسع: (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه)، ونقلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (كنت له سمعاً وبصراً ويداً في يسمع وبي يبصر)، كل هذا نقلوه ليقولوه:(من أدعى شيئاً من ملكه - وهو ما سكن في الليل والنهار - من خطرة وحركة أنها له، أو به، أو إليه أو منه فقد جاذب القبضة، وأوهن العزة) وليقول الجنيد: (هو العارف والمعروف)، وليقولوا ما تقدم:(فهو الله تعالى لا أنا فيكون (المعبود والعبد))

وبعد كل هذا أحيل الأديب على الدكتور زكي مبارك الذي دون في كتابه (التصوف) ما يقرب من نحو سبعين صفحة في تحليل هذا المذهب - مذهب الحلول - وهو يفاخر بأنه استطاع أن يحصره

السعيد جمعة

بين الرسالة والكتاب

ص: 52

كَثُر ما يرد على الرسالة مقالات وملاحظات لأسماء مستعارة فلا نستطيع نشرها لأن كتابها الأفاضل ينسون أن يذكروا أسمائهم الحقيقية بجانب أسمائهم الاصطلاحية ثم يلوموننا على إغفال النشر. وقد رجوناهم من قبل ألا يقفونا موقف المحرج بين رغباتهم الأدبية وبين واجباتنا الصحفية، ولا بأس أن تكرر اليوم هذا الرجاء.

حول كتاب

كنت أتصفح عرضاً كتاب (شرح المحفوظات والنصوص العربية) للمدارس الثانوية (الجزء الثاني - الطبعة الرابعة)، فاستوقفني شرح المؤلفين شرح لبيت المتنبي:

ولو أن الحياة تبقى لحي

لعددنا أضلنا الشجعانا

فقد جاء في شرحه: (لو فرض أن إنساناً يخلد حياً لكان هذا الإنسان من الجبناء الذين يفرون من مواقف الخطر على النفوس دون الشجعان الذين يحافظون على كرامتهم وشرفهم في أحرج المواقف التي تعرضهم للهلاك. والواقع أن كل نفس ذائقة الموت متى حل أجلها)

ورأيت أن شرح البيت على الصورة المتقدمة لا ينطبق على معناه. والذي يدل عليه البيت هو أنه لو كان هناك خلود وان الإنسان يبقى حياً مهما أمتد به العمر لا يموت موته طبيعية لكان بالغ الطيش وعين الحماقة ومنتهى الظلال أن يكون شجاعاً يواجه الموت مختاراً. ولكن لما كان الموت مصير كل حي فإن في التشبث بالحياة والتنحي عما يمليه الواجب مذلة وهوناً. ويتم هذا المعنى البيت الذي سبق البيت المذكور والبيت الذي تلاه

وقد عن لي أن أطلع على شرح ديوان المتنبي للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي فرأيته قد أورد شرحاً للبيت ما يلي:

(لو كانت الحياة باقية لكان الشجاع الذي يتعرض للقتل أضل الناس؛ يعني أن الحياة لا تبقى وإن جبن الإنسان ولزم عقر داره وحرص على البقاء، ثم أكد هذا بالبيت التالي

ولعله لا يسوء الأساتذة الشارحين هذا التعليق ودافعي عليه وجه الحق وحدَه

محمود أحمد وصيف

أمة التوحيد تتحد

سيدي الأستاذ صاحب الرسالة الغراء

ص: 53

كان لافتتاحيتكم البليغة في العدد 384 تعليقاً على ما نشرته الأهرام عن مشروع تحالف بين الدول العربية رنة استحسان عظيمة في الأوساط كلها لأنها عبرت عما يتمناه كل مسلم وعربي من لم شمل العربية والمسلمين وجمع كلمتهم وتوحيد قوتهم حتى يتألف منهم حلف يستطاع الانتفاع به في هذه الظروف المدلهمة

وفي الأهرام الصادرة في 7 الجاري خلاصة لخطبة العرش التي ألقاها سمو الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق يوم 5 الجاري وقد جاء فيها: (إن الأحوال العالمية لم تزل تتطور تطوراً خطيراً يدعوا إلى أشد اليقظة والانتباه إلا أنه مما يستدعي ارتياحنا أن تكون حكومتنا ساهرة على مصالح البلاد واضعة نصب عينيها صيانة سلامة المملكة باتخاذها كل التدابير الممكنة، كما أنها لا تنفك عن مواصلة الجهود في سبيل ما تصبو إليه الأقطار العربية المجاورة من الأماني القومية. أما علاقتنا الحسنة مع المملكتين الشقيقتين العربية السعودية واليمن وكذلك مع جارتينا العزيزتين تركيا وإيران فتزداد وثوقاً ولا سيما في الظروف العصيبة هذه)

وللعراق فضل كبير في سبيل توحيد كلمة العرب منذ ما تبوأ مقعده بين الدول المستقلة ومنذ بدأ بعقد أواصر الإخاء والمودة مع جارته وأولاها المملكة العربية السعودية وكان بينهما جفاء شديد فعقد معها محالفة ثم عقد مثلها مع دولة اليمن وشرق الأردن، ثم دخل العراق في حلف سعد آباد فعقد أواصر الإخاء مع جاراته كلها، ولم يقتصر على ذلك بل سعى في بلاده وفي لندن وباريس وتركيا لخدمة فلسطين وسوريا

إن أول نواة كان لها أفعل الأثر في كيان العرب هو عمل جلالة الملك فيصل رحمه الله مؤسس مملكة العراق إذ سعى سعيه المشكور للاجتماع بجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، ذلك الاجتماع التاريخي على ظهر باخرة بريطانية، فقد أظهر الرجولة الملك فيصل في كل تضحية في سبيل نسيان العداء، وتأسيس وحدة عربية قوية فعلت فعلها، والعمل على ما فيه خير العرب والمسلمين، وهاهو ذا خطاب العرش في عهد جلالة الملك فيصل الثاني حفيد مؤسس العراق يشير إلى خدمة العروبة في هذه الظروف المدلهمة وهو صادق في إشارته

فإذا تحققت الوحدة العربية والإسلامية كان العراق أفعل الأثر في هذا المضمار العظيم.

ص: 54

وسيدي الأستاذ الزيات من أعلم الناس بفضل العراق على البعثات العربية في بلاده وكيف يرسل البعثات العسكرية والعلمية والعملية إلى جاراته مثل اليمن والمملكة العربية السعودية للخدمة الفعالة في الأقطار الشقيقة. وهذه كلها مقدمات لوحدة عربية عملية سريعة.

نسأل الله أن يحقق للعرب والمسلمين وحدة تزيدهم قوة وأن يتولانا بلطفه وكرمه وينقذنا مما حولنا، إنه خير مسئول.

(القاهرة)

محي الدين رضا

ص: 55

‌القصص

هل كان حلماً

عن الفرنسية

أحبتها إلى حد الجنون! ولماذا يحب الإنسان؟. . . لماذا يجب؟ ما أغرب الحالة التي يصير إليها من لا يريد أن يرى غير امرأة واحدة ولا يفكر إلا في فكرة واحدة ولا يضمر إلا رغبة واحدة ولا ينطق إلا باسم واحد يخرج من أعماق نفسه متدفقاً كالماء من الينبوع ولا يزال يعيده في وحدته كأنه بعض الصلوات والأدعية!

سأخبرك بقصتنا وهي قصة لجميع المحبين، فإن للحب سيرة واحدة. . . قابلتها فأحببتها وبقيت عاماً كاملاً أعيش في حنانها ورحمتها. . . بين ذراعيها وثوبها. في كلماتها ونظراتها وكنت مغموراً في كل ما يصدر عنها فلم أعد أعرف الليل من النهار، ولا الحياة من الموت، ولا هل كنت في الأرض أم في مكان آخر

ثم ماتت ولكن كيف؟

لست أدري، لم أعد أذكر!

جاءت مبتلة الثياب في ليلة ممطرة، وفي اليوم التالي أصيبت بالسعال، ثم اشتدت الحالة بعد أسبوع فلزمت الفراش. ولست أدري ماذا حدث في خلال هذه المدة أن الطبيب كان يأتي ويكتب ورقة وينصرف. . . وكانت امرأة في المنزل تحضر الدواء وتسقيها. وكانت يداها حارتين وجبينها يكاد يحترق. وعيناها تسطعان في حزن. وكنت أكلمها فتجيب، ولكنني لا أعي ماذا كنا نقول. . . لقد نسيت كل شيء! كل شيء. . . كل شيء! وماتت وأنا لا أزال أتصور شهيقها الخافت الضعيف

وقالت الخادم إنها عرفت كل شيء. . . فأما أنا ففقدت إدراكي؛ ثم رأيت القسيس يوجه الخطاب إلى ويقول: (خليلتك. . .)؛ فخطر لي أنه يريد إهانتها، ولأنها قد ماتت فما ينبغي أن يشير أحد إلى ما كان بيني وبينها، ولذلك طردت القسيس. . . وجاء رجل في غاية الشفقة واللطف فكلمتي عنها كلاماً أجرى دموعي

واستشاروني في أمر الجنازة ولكني لا أدرك كلمة مما قالوه، وإن كنت أتذكر شكل الصندوق وصوت الفؤوس، وحينما فتحوا القبر، عفوك اللهم ورضاك!

ص: 56

(دفنوها! نعم دفنوها! هي في القبر. . . وجاء صواحبها وهربت، ولم أزل أجري من طريق إلى طريق. وفي اليوم التالي بدأت السياحة. . .

وفي الأمس رجعت إلى باريس، ولما رأيت غرفتنا القديمة وسريرنا وأثاثنا وكل شيء يبقى من الحياة إنسانية بعد الموت، لما رأيت ذلك أصابتني نوبة جديدة من الحزن حتى كدت أفتح النافذة وألقى بنفسي منها

ولما لم يكن في وسعي البقاء بين تلك الجدران التي كانت تضمها فقد حملت قبعتي أريد الخروج، فلما وصلت إلى الردهة رأيت مرآة طويلة كانت وضعتها هناك لتصلح من هندامها وهي خارجة فوقفت أمام المرآة وكدت أرى صورتها مطبوعة عليها

وقفت أرتعش ونظري معقود بتلك الصفحة الصقلية العميقة المصنوعة من البلور في تلك المرآة التي كانت تحتويها. وشعرت بأنني أحب هذه المرآة فلمستها ووجدتها باردة. ما أوجع الذكرى أيتها المرآة المحزنة، المرآة المحرقة، المرآة المفزعة التي جعلتني أقاسي كل هذه الآلام!

سعيد من يستطيع أن ينسى كل ما انطبع على صفحة المرآة وكل من مر بها وكل من نظر إلى نفسه فيها. لقد كان الوجه الذي يرتسم عليها هو وجه الحبيبة الراحلة. فما أشد ما أعاني

خرجت من المنزل من غير رغبة ولا مقصد، وظللت أمشي حتى وجدت نفسي بين المقابر، وجدت قبرها البسيط وعليه صليب صغير من المرمر قد نقش عليه (أحبت وماتت)

هاهي ذي هناك ولكن جسمها أصبح بالياً، فما أكبر المصاب، بكيت هنالك ورأسي منحن على القبر، وظللت واقفاً مدة طويلة حتى أظلم الليل؛ ثم قامت بذهني رغبة جنونية غريبة رغبة المحب اليائس؛ أردت أن أقضي الليل كله باكياً لدى القبر وخشيت أن يروني فيطردوني فماذا أفعل؟

ابتعدت عن القبر وظللت أمشي في مدينة الأموات وما أضيقها بالقياس إلى مدن الأحياء! ثم ما أكثر الموتى وأقل الأحياء بالقياس إليهم! نحن نحب المنازل العالية والطرق المتسعة، ونحب أن نشرب الماء من ينابيعه والخمر من كرومها، ونأكل مما تنبت الأرض، ولكن ليس للموتى شيء غير أن الأرض تأكلهم كما أكلوا نيتها

ص: 57

وعند نهاية المقابر وجدت أجداثاً قديمة تكاد الأرض تعلوها وقد بلي ما عليها من الصلبان والأحجار وامتنع زوارها، وعند هذه الأجداث وجدت أشجاراً كثيفة وحديقة صغيرة جميلة تبعث الحزن لأن أعوادها تستمد الغذاء من لحوم الموتى

ولم يكن في هذا المكان أحد غيري فاختبأت وراء شجرة كثيفة متشبثاً بالثمامة كما يفعل الغرقى

ولما أشتد ظلام الليل تركت مكاني ومشيت بخفة وبطء حريصاً على ألا يسمعني أحد وإن كان المكان خالياً إلا من الموتى؛ وظللت أمشي مسافة طويلة ولكنني لم أهتد إلى قبرها فبسطت يدي وصرت أتلمس بها كل قبر فلم أهتد إليه. وكنت أمشي كما يمشي العميان فعثرت مراراً بقطع من الصلبان والأحجار والحدائد وبأسلاك معدنية كانت في وقت من الأوقات تلتف حولها أزاهر الأكاليل، وصرت أقرأ أسماء الموتى المنقوشة على قبورهم. فما هذه الليلة؟ ما هذه الليلة الرهيبة! لقد كادت تنقضي ولم أهتدي إلى القبر

ولم يكن في السماء قمر ولا نجوم وكنت خائفاً في هذه الممرات الضيقة بين صفوف القبور. . . القبور القبور، ولا شيء غير القبور. . .! عن يميني وعن يساري وأمامي وحولي قبور. . . جلست على أحدها لأني لم أعد أستطيع موالاة السير، وكنت اسمع دقات قلبي، وكنت أسمع صوتاً آخر يشبه ذلك الصوت. . . ما هو؟ جلبة ضعيفة قد اختلطت فيها الأصوات، فهل كانت في رأسي من التعب أم كانت تحت التراب الممتلئ بالرمم؟

نظرت حولي ولكنني لم أتبين كم ساعة قضيت. وكنت كالمشلول من كثرة الخوف والانزعاج، وكدت أصرخ، بل كدت أموت

ثم تخيلت فجأة أن قطعة الرخام التي جلست فوقها قد بدأت تتحرك، وانتقلت منها إلى التي يجنبها، ورأيت القبر الذي تركته قد أنفتح وظهر الميت الذي كان به ولم يكن غير عظام عارية من اللحم وكان هو الذي يدفع غطاء قبره ليفتحه

نظرت إلى السم المنقوش على القبر فرأيت هذه الكتابة: (هنا جاك أوليفانت الذي مات في الحادية والخمسين، وكان محباً لأسرته رحيما شريفاً)

وقرأ الميت أيضاً هذه الجملة، ثم أخذ من العظم قطعة حديدة الطرف، وصار يمحو هذا النقش بعناية حتى طمسه ونظر بثقبي عينيه الأجوفين، وكتب بقطعة العظم الباقية بين

ص: 58

إصبعيه:

(هنا جاك أوليفانت الذي مات في الحادية والخمسين وقد عجل بوفاة أبيه عقوقاً منه وشرهاً إلى الميراث، وأشقى زوجته وعذب أولاده وخدع جيرانه وسرق كل ما استطاع أن يسرقه ثم مات منكوداً)

لما فرغ الميت من هذه الكتابة وقف بغير حراك ونظر إلى ما كتبه، ونظرت أنا فرأيت كل من في المقابر قد فتحوا قبورهم ومحوا الأكاذيب التي كتبها أقاربهم عليها وأثبتوا الحقائق بدلها ووجدت أكثرهم من أهل الحقد والدناءة والرياء والكذب والخداع والحسد، وقد ارتكبوا أبشع الآثام. وقد كان منقوشاً على قبورهم أنهم أبرياء بررة وزوجات أمينات وأبناء رحماء وبنات طاهرات وتجار شرفاء

وظننت أنها قد كتبت شيئاً على قبرها، فجريت غير خائف بين صفوف الموتى عرفتها وإن لم أنظر إلى وجهها بل كانت معرفتي لغطاء القبر الذي كان منقوشاً عليه:(أحبت وماتت) فرأيتها تمحو ذلك وتكتب: (خرجت يوماً لكي تخون حبيبها فأصابها البرد ومرضت فماتت)

ويظهر أنهم وجدوني في اليوم التالي بجانب القبر في حالة إغماء.

(ع. ا)

ص: 59

‌المسرح والسينما

في الفرقة القومية

تسنى لي أن أستمع إلى الألحان التي وضعها الأستاذ عباس يونس لرواية القضاء والقدر فقلت: كيف لم تتح الفرقة القومية من قبل لهذا الشاب أن يبرز هذه الكفاية الموءودة بعد ما انتهى إلى أن تأريخه الموسيقى يشهد له بالتفوق

إن العمق في الموسيقى يحببها إلى ذوى الأفئدة النابضة من الناس، ولسنا نقصد بالعمق عمق المستنقع الراكد العفن، ولكنا نعني به عمق المحيط وعمق الفجر وعمق الليل، فمن الناس من يعجب بائتلاق في راد الضحى، وهو لا يدرك الجمال الخافت في اهتزاز السحر بين جوانح الظلماء

وعباس يونس فنان عميق أتمنى أن يستمع إليه الصديق الأستاذ عزيز أحمد فهمي فهو أقدر مني على تحليل فنه وعلى التسرب بإحساسه إلى أغوار موسيقاه. وليس يسعني هنا إلا أن أحمد للأستاذ الشاعر خليل مطران بك الأخذ بيد هذا المغني راجياً كل الرجاء وملحاً كل الإلحاح في إعطائه الفرص الكافية لإظهار مواهبه الغريزة فقد تجمع له الإلهام والطبيعة الفنية والأداة

السينما المحلية

كثرت في هذه الأيام الأفلام المصرية التي في سبيلها إلى الظهور، فشركة تلحمي تعد فلم (انتصار الشباب) لفريد الأطرش وإسمهان. وستديو لاما يعمل في فلم (صلاح الدين الأيوبي) وآسيا داغر وتوجو مزارحي وكثيرون غيرهما يواصلون العمل في أفلام عديدة تتراوح بين القوة والضعف. وإنا لنكبر هذه الروح التي تحفز أصحاب الشركات إلى الإنتاج، وخاصة في حالة الحرب؛ ولكنا نأسف كل الأسف حين نصطدم بحقيقة مؤلمة، وهي أنهم ينتجون لأن السينما صناعة رابحة تدر عليهم من المال ما ينسيهم جلال الفن السينمي ودقته؛ فتخرج أفلامهم إلى الناس عرجاء مشوهة، ولو توخوا العناية لخدموا الفن وخدموا أنفسهم، وإنا لفي انتظار المشاهدة. . .

عند بديعة

ص: 60

أقامت السيدة (بديعة مصابنى) حفلة للصحافيين كعادتها السنوية عرضت فيها فرقتها مجهوداً طيباً من تمثيل ورقص وغناء وقد دلت بذلك على مقدار ما بذلته من تضحية لإقامة المسرح الدائر ولاستكمال عناصر فنية قوية يرجع إليها نجاحها الدائم.

أخبار هوليود

* سيظهر الممثل نلسن أيدي في ثلاثة أفلام موسيقية كبيرة، وهي:(قرصان النيومون)، (تزوجت ملاكاً)، بعد ما صادف نجاحاً منقطع النظير في فلم (بالاليكا)

* سيعود الكوكب شارلز وونجر في فلم (نيلي كيلي الصغيرة)، وهذا الفلم من إنتاج آرثر فريد منتج فلم (مائة فتاة وميكي واحد)، ومن إخراج نورمان نورج. وسيشترك في هذا الفلم جودي جارلاند والكوكب الراقص جورج مارفي الذي سنراه قريباً في (أنشودة برودواي لعام 1940) ودوجلاس ماكفيل كوكب قصة (مائة فتاة وميكي واحد)

* يسرنا أن نزف إلى رواد السينما نبأ رجوع النجمة هيلين جيروم إيدي إلى حلبة العمل؛ وهي صاحبة الشهرة الواسعة أيام السينما الصامتة فستظهر في رواية

عبد الرحمن الخميسي

ص: 61