الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 387
- بتاريخ: 02 - 12 - 1940
حكمة الأقاصيص
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت فصولاً كثيرة في التفرقة بين الفلسفات الاجتماعية والسياسية فلا أذكر أنني قرأت في سطور معدودة تفرقة أظرف وأفكه من التفرقة التي تمثلها لنا قصة البقرتين الأمريكية التي نلخصها فيما يلي:
فالاشتراكية هي أن تكون لك بقرتان فتعطي جارك إحداهما. والشيوعية أن تكون لك بقرتان فتأخذهما منك الحكومة كلتيهما وتعطيك من اللبن ما تحسب أنك في حاجة إليه
والفاشية أن تكون لك بقرتان فتبقى البقرتين عندك وترسل اللبن إلى الحكومة.
والنازية أن تكون لك بقرتان فتأتي الحكومة فتأخذك أنت وتأخذ معك البقرتين.
والإصلاح الأمريكي الجديد على طريقة روزفلت أن تكون لك بقرتان فتصطاد الحكومة إحداهما وتحلب الثانية وتريق لبنها على التراب!
والديمقراطية أن تكون لك بقرتان ملكا فتؤدي ثمنها مرة أخرى على التقسيط ضرائب وإتاوات
و (الرأسمالية) أن تكون لك بقرتان فتبيع إحداهما وتشتري بثمنها ثوراً وتنتج منهما عجولاً وبقيرات
وفي هذه القصة من المبالغة ما في معظم الفكاهات والصور الهزلية، ولكن أين هي السطور القليلة التي تفرق بين الفلسفات السبع تفرقة أقرب إلى الفهم وحسن المقابلة من هذه التفرقة الفكاهية؟ وأين هو الجد الذي يسلم من المبالغة كل السلامة على إرادة من صاحبه أو على غير إرادة؟
ويبدو لنا أن المباحث الحديثة أحوج ما تكون إلى كتاب يعالجها على أسلوب القصة الأمريكية، وإننا نحن الشرقيين أولى بإخراج هذا الكتاب لأننا حذقنا فن القصة الحكيمة من عصور بعيدة، ولأننا قليلو الصبر على دراسة المطولات في هذه الموضوعات
والظاهر أن بلاد كليلة ودمنة - ونعني بها الهند - تأبى أن يفوتها نصيبها من هذا الواجب الحديث، وأن الأستاذ الفاضل عبده الزيات قد اهتدى إلى كتاب من قبيل الكتاب الذي نقترحه على العالم الشرقي، حين ترجم إلى العربية (حكايات من الهند) يجتمع لها ما نبغيه
من حسن التقريب وحسن الفكاهة وحسن الإيجاز
فكتاب (حكايات من الهند) ثروة لا تقل في جوهرها عن الثروة الغالية التي ربحها العالم من كتاب كليلة ودمنة، وأنفس ما فيه تلك البساطة التي قد تصغر من شأنه في نظر السطحيين وهي هي مزيته الكبرى وغايته القصوى، بل غاية جميع الحكماء من تبسيط المركبات وتسهيل المعضلات. . . أليس المقصود بهذه الحكمة القصصية أن تمثل لنا الحقائق العويصة في صورة البدهيات التي لا تحتاج إلى بينة ولا إطالة بيان؟
إليك مثلاً قصة الرجل الذي ترك لأبنائه الثلاثة بطيخة يحتفظون بها فظن أحدهم أنه يحتفظ بتراث أبيه إذا أبقاها عندهم حتى تفسد وتفسد ما حولها، وظن الثاني أنه يحتفظ به إذا باعها واشترى غيرها، وظن الثالث أنه يحتفظ بذلك التراث أجمل احتفاظ إذا أنتفع ببذور البطيخة ولم يحرص على قشورها وفضولها
أليست هذه معضلة التجديد في أوضح صورة وأبسطها؟ أليس المحتفظون بالبطيخة حتى تفسد ويفسد ما حولها هم الجامدين الغافلين؟ أليس الذين يبيعونها ويشترون غيرها هم المجددين الذين يستبدلون جديداً بقديم ولكنهم يقطعون الصلة بين هذا وذاك؟ أليس زارعو البذور هم المجددين الصالحين الذين يصونون تراث الآباء ويضاعفونه ولا يخسرون طرافة الجديد في كل موسم؟ أليست هذه حكمة يسيرة عسيرة تستدني النجم البعيد فإذا هو في متناول اليدين؟
ولقد حكى المؤلف حكايته ثم عقب عليها بمغزاها فزاد الحكاية الصغيرة توضيحاً على توضيح حين قال: (. . . أما الاحتفاظ بالبطيخة الفاسدة حتى يأتي الدود عليها جميعاً فمجلبة للسخرية والأمراض ومضيعة للبطيخة. . . وأما رميها برمتها والاعتياض منها بجديدة نبتاعها فتبديد لتراث أبينا وللنقود التي نؤديها في ثمن هذه وأثمان غيرها، هذا إلى أن كل ما نشتريه لابد أن يجري
عليه من الفساد مثل ما جرى على بطيختنا. إن التجديد هو ملاك الحياة والتقدم بيد أن جديد ينبغي أن يتولد من بذور الماضي)
وذلك فيما نعتقد فصل الخطاب في مسألة التجديد.
ولقد رأيت في حياتي ألف مصداق لـ (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، ورأيت
مرات أننا لو أطلعنا على الغيب لاخترنا الواقع، ولكني لا أحسب أن قصة صغيرة تقرب هذه الحقيقة البعيدة كما قربتها قصة المؤلف الهندي التي جعل عنوانها (لم كان الصخر صلباً؟) وروي فيها أن حجاراً تعب من صلابة الصخر، فتمنى على الله لو أصبح هذا الصخر الصلب رخواً كالزبد والعجين، فلما أستجيب دعاؤه قطع في يوم واحد أضعاف أضعاف ما كان يقطع في أيامه السابقة، ولكن الصخر بار وكسد، لأن الناس استغنوا عن البناء به وأعرضوا عن شرائه؛ وعاد الحجار يقول:(رب! إنك لأعلم أين الخير لعبادك، فاغفر لي دعوتي ورد الصخر صلباً ثقيلاً كما برأته أول مرة).
ويعرض المؤلف مزية الصلابة ومزية الرخاوة في معرض آخر حين يروي عن الصخر أنه تكبر على الطينة القريبة منه، فشمخ بأنفه عليها وقال لها:(أنا صلب نظيف جميل حمول قوي. أما أنت فرخوة قذرة متداعية قبيحة ضعيفة. . .).
فلم تنكر الطينة شيئاً من مزاياه ولا شيئاً من عيوبها، ولكنها أجابته قائلة:(إني لأنمي الحبوب والخضر التي يعيش عليها كل حي، فماذا تنمي أنت؟ إن قوتك عقيمة، وأما ضعفي فمثمر)
وكثير ما يستفاد من أمثال هذه المقابلات والمسجلات، كلما عرفنا أن ننقلها من كبار المشكلات وصعاب المعضلات.
كنت في سيارة من سيارات الأجرة فخطر للسائق أن يختصر الطريق فينحرف إلى الشمال مقاطعاً في بعض الميادين الصغيرة بدلاً من الاستقامة على طريقه إلى الأمام.
وفرق المسافة مائتا متر على أكبر تقدير.
ولكنه حسب فرق المسافة بالمتر وأهمل كل حساب آخر، لأن السيارات كانت مقبلة تتري من الجهة الأخرى، فكانت تعبره واجدة بعد واحدة وهو واقف في مكانه، وحاول أن يرجع فإذا هو قد سد المجاز على من خلفه واستعصى عليه الرجوع، ثم تحول المرور وهو في الانتظار حيث كان، ولو مضى من أول الأمر قدماً لوصل من جانب التطويل قبل أن يصل من جانب الاختصار!
هذا السائق لم يخطئ في مسألة علمية أو مسألة سياسية أو عقدة من عقد البحث والفلسفة، ولكنه أخطأ في العمل الذي يعمله كل يوم وينقطع له دون سائر الأعمال.
ولكنه مع هذا قد يشكو ظلم الأرزاق ويرشح نفشه لمهام الدولة التي يظفر بها المجددون ولا يذوده عنها إلا غفلة الحظوظ. وأنه لمثل واحد من أمثلة خالدة قلما يخلوا منها زمن.
وما أكثر ما ذكرت من هذه الأمثلة وأنا أقرأ في الكتاب قصة الوزير والخادم!
خادم سمعه الملك يوماً يقول: (إن هذا العصر عصر ظالم، فأنا أعمل طول اليوم ثم لا أنقد إلا سبع روبيات في الشهر، والوزير الذي يركب السيارات ويضيع وقته في الكسل يقبض ألفين من الروبيات).
فأمتحنه الملك باستطلاع أمر مسافر قادم على بعد، فذهب مرة ليسأل عن أسم ذلك المسافر، وثانية ليسأل عن إقليمه، وثالثة ليسأل عن المكان الذي قدم منه، ورابعة ليسأل عن الوجهة التي يقصدها، وخامسة ليسأل عن المرحلة التي يقف فيها، وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة ليسأل عن غرضه وعمن يلقاه وعن موعد اللقاء إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يذكرها إلا إذا أمليت عليه
ثم بعث بالوزير مستطلعاً فعاد بالخبر كله في لحظة قصيرة وأجمل ما علم في مقال وجيز. فاستدار الملك إلى خادمه وقال له: (أرأيت أن ما كلفك تسع رحلات مضنية وخمس ساعات قد كلف الوزير نصف ساعة ورحلة واحدة؟ لعلك تتعلم الآن لماذا تقبض سبع روبيات في الشهر ويقبض الوزير ألفين. . .)
ومن السهل أن يقال إن من الوزراء من يخطئ خطأ الخادم ومن الخدم من يصيب إصابة الوزير، ولكن الحقيقة الباقية بعد هذا أن من الناس من يعمل في رحلة واحدة ونصف ساعة ما يعمله غيره في تسع رحلات وخمس ساعات، وإن الظلم كل الظلم أن يتساوى هذا وذاك.
وقد أشتمل الكتاب على نيف ومائة قصة من هذا الطراز، ما أظنها أهملت مسألة عصرية أو خلت إحداها من عبرة سهلة عصية، وكلها زاد قراءة سائغ لمن درس تلك المسائل في مراجعها ولمن يكتفي منها بهذه الأشباه المخيلة والعبر الممثلة، وهم أكثر من الكفاية في بلادنا.
عباس محمود العقاد
مسابقة الجامعة المصرية
لطلبة السنة التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
- 4 -
على هامش التاريخ المصري القديم
كلمة اليوم عن كتاب (على هامش التاريخ المصري القديم) لسعادة الأستاذ عبد القادر حمزة باشا، وهو كتاب يقع في أربعين ومائتي صفحة بالقطع المتوسط، وبه كثير من الصور والرسوم التي توضح ملامح ذلك التاريخ.
الأسلوب
أسلوب عبد القادر حمزة أسلوب فريد بين أساليب الكتاب في هذا العصر، وهو في غاية من الجمال، وإن لم يذكرك بأنه جميل، لأن الصنعة فيه أخفى من الخفاء.
وعبد القادر حمزة يقيم تعبيره على قواعد المنطق، فالتعبير عنده مقدمات تصل إلى نتائج، ولا تمر صفحة مما يكتب بدون أن تلمس فيها وضوح الحجة ونصاعة البرهان.
وعبد القادر حر الفكر إلى أبعد الحدود، وما صحبه رجل إلا عجب من الشجاعة التي يمتاز بها عقله والوثاب، مع القدرة الغريبة على ضبط النفس، ومع المهارة في تقديم الحجج (على أقساط)
ليتسع له المجال في تشريح المعاني والأغراض.
ومن هنا كان عبد القادر عدواً خطراً حين يعادي، لأنه لا يحاول الإجهاز على خصمه بمقال أو مقالين، وإنما ينوشه برفق ودهاء من يوم إلى يوم ومن أسبوع إلى أسبوع، ثم يظل يراوحه ويغاديه إلى أن يأتي على مركزه من الأساس.
بين العلم والسياسة
قد يقال إن هذا أسلوب عبد القادر في مقالاته السياسية، لا في أبحاثه العلمية.
ونجيب بأن عبد القادر هو هو في جميع الأحوال، فعبد القادر لم يفكر في درس التاريخ
المصري القديم إلا في سنة 1924، فماذا صنع في هذه الأعوام القصار ليكون من أقطاب المؤلفين في ذلك التاريخ؟
عمد الرجل إلى طائفة من المعضلات الأساسية فدرسها بتعمق واستقصاء، ثم خرج من ذلك الدرس بمحصول يحسده عليه الأخصائيون، وقد تمر أعوام وأعوام قبل أن تظفر اللغة العربية بكتاب يضارع كتابه في دقة العبارة ونفاسة الاستطراد.
حشو اللوزينج
وحشو اللوزينج في تعبير كتاب القرن الرابع يُضرب مثلاً للشيء يكون حشوه أجود من قشره، ومن أشهره قول عوف بن محلم:
إن الثمانين - وبُلِّغتَها!! -
…
قد أحوجتْ سمعي إلى ترجمان
فعبارة (وبلغها!!) حشو، ولكنها أجمل من المحشو، لأنها غاية في الرفق والحنان.
وكذلك ينقسم كتاب عبد القادر حمزة إلى حشو ومحشو، فالحشو هو الهامش، والمحشو هو الأصل، ولم أجد كتاباً يكون فيه الهامش أغزر من الأصل قبل أن أعرف كتاب عبد القادر الذي أغرم بحشو اللوزنيج بعد التفات النقاد إليه بعشرة قرون
فأرجو الطلبة أن يلتفتوا إلى هامش هذا الكتاب أكثر من التفاتهم إلى الأصل، لأن عبد القادر جرى في الهوامش على فطرته الأصلية من التعقب والاستقصاء فأتى بالأعاجيب.
وهل برع عبد القادر إلا في الهوامش؟
إن هذا الرجل يحارب بالأخبار المنثورة أعنف مما يحارب بالمقالات الطوال، وهو قد نقل أسلوبه في الصحافة إلى أسلوبه في التأليف، فليراع الطلبة هذا الفن الدقيق.
شاهد
قلت إن عبد القادر يصل إلى غرضه بترفق وتلطف، فما شواهد ذلك؟
إليكم الشاهد الأول:
قال أبن عبد الحكم: (لما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إليه حين دخل بؤونة. فقالوا: أيها الأمير! أن لنيلنا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها
وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا بؤونه وأبيب ومسرى وهو لا يجري قليلاً ولا كثيراً، حتى هموا بالجلاء، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك. فكتب إليه عمر:(أن قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في النيل إذا أتاك كتابي) فلما قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: (من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر؛ أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك) فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء، لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة وقطع السوء عن أهل مصر في تلك السنة).
فماذا صنع عبد القادر حمزة في تفنيد هذه الأسطورة البلهاء وقد انتقلت من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل حتى احتلت بعض الكتب المدرسية بالمدارس الثانوية، وحتى دخلت في منهج الاحتفال بوفاء النيل بصورة رمزية؟
أخذ عبد القادر يدور ويدور حتى صير هذه الأسطورة أضعف من وهم الخيال
ولكن كيف؟
هل فزع إلى المنطق فقرر أن من المستحيل أن يتوقف فيضان النيل على عروس تُلقى إليه؟ هل سارع فاستغرب قول أبن عبد الحكم إن النيل توقف ثلاثة أشهر عن موعده الموقوت وفي ذلك هلاك لأهل هذه البلاد؟ هل أنكر أن يكون لبطاقة عمر أبن الخطاب قوة الموهوم من آثار التمائم والتعاويذ؟
لو أن المؤلف اكتفى بهذه المحاولات لوصل إلى الغاية في نقص ذلك الحكم السخيف، ولكنه رأى الرجوع إلى المأثور عن المصريين القدماء فلم يجد لهذه الخرافة سنداً تعتمد عليه، فلو كان لها أصل لسُجلت في بعض ما سُجل من أخبار الفيضان، ولو كان لها أصل لعد فقدان عروس النيل سبباً في بعض ما أصاب مصر من مجاعات، ولو كان لها أصل لذكرت في (نشيد النيل) وهو نشيد قد استوفى خصائص هذا النهر العظيم وتحدث عما أطاف به من أوهام وأضاليل، ولو كان لها أصل لذكرت عروس النيل بين الهدايا التي كانت تقدم إليه
في الحفلات، فلم يبق إلا أن تكون خرافة خلقها وهم القُصاص، ثم تبعهم ابن عبد الحكم بلا تمحيص ولا تحقيق
سؤال
من حق طلبة السنة التوجيهية أن يوجهوا إلى سعادة عبد القادر حمزة باشا هذا السؤال:
كيف نشأت هذه الخرافة وهي من المستحيلات؟
وأتطوع بالإجابة عن هذا الصديق فأقول:
يشهد كتاب الأستاذ نفسه بأن النيل كان يلقى فيه قرطاس من البردي يُدعى فيه النيل إلى أن يفيض، وكان الكهنة يزعمون أن للكتابة التي في ذلك القرطاس قوة سحرية
فذلك القرطاس هو الأصل لبطاقة عمر بن الخطاب، والأساطير يستقي بعضها من بعض
بقيت عروس النيل، فما أصل تلك العروس؟
يشهد كتاب الأستاذ نفسه بأنه كان يُتقرب إلى النيل بذبح عجل أبيض، ومن السهل أن نقول إن الذبيح كان بقرة بيضاء يعبر عنها مجازاً بالجارية الحسناء، وفي بعض تعابير الفرنسيين توصف البقرة بأنها
ويؤيد هذا التعليل أن المصريين القدماء لم يعبدوا البقرة إلا لأنهم رأوا فيها مخايل من حنان المرأة المفطورة على الطاعة والسجاحة والصفاء.
شاهد ثان
والشاهد الثاني على منطق الأستاذ عبد القادر باشا هو تحديده لمركز هيرودوت، فهذا المؤرخ اليوناني هو الحجة على مصر في تاريخها القديم، وما عرفت مصر القديمة في شرق ولا غرب بأكثر مما عرفت عن طريق هيرودوت.
فما الذي قال عبد القادر باشا في ذلك المؤرخ (الأمين)؟
لقد قتله بكلمة واحدة حين قرر أنه لم يزر مصر في عهد إشراقها وإنما زارها في عهد الأفول، فكان مثله مثل من يأخذ السيرة النبوية عن سدنة الكعبة في هذا الجيل، وهم لا يعرفون من سيرة الرسول غير أطياف تصور عن طريق الرمز الواهم ما كان عليه الرسول من عظمة وجلال.
شاهد ثالث
تحدث عبد القادر باشا عن (السذاجة المصرية) في تقدير ما للشهور والأيام من غرائب وأماثيل.
ومن رأي هذا الباحث أن ما قيل عن الأيام والشهور في عهد رمسيس الثاني لا يزيد عما يقال في عهد فاروق الأول، فهي هنا وهناك صور لأوهام العوام الجهلاء، وليست حجة على العقل الصحيح لأهل هذه البلاد، فما يقال عن يوم 5 طوبة في عهد رمسيس الثاني شبيه بما يقال عن يوم 5 طوبة في عهد فاروق الأول. ومعنى ذلك أن العوام لهم آفاق غير آفاق الخواص، وإلا فمن الذي يصدق أن أهل مصر في هذه الأيام يبنون أحكامهم المعاشية على ما يرد في مثل تقويم (طوالع الملوك)؟
شاهد رابع
وفي هذا الشاهد تظهر القوة المنطقية لهذا المؤلف الحصيف، فالمدنية المصرية هي أقدم المدنيات في التاريخ، وآثار المصريين هي أقوى وأنفس وأثمن ما أثر عن القدماء في جميع المماليك والشعوب؛ وقد دامت المدنية المصرية القديمة أكثر من أربعين قرناً في وقت لم يكن فيه لغير مصر سلطان ملحوظ في المشرق أو في المغرب، فهل كان يمكن للمصريين أن يتفقوا على العالم القديم بلا علم وبلا أخلاق؟
وكيف كان يمكن للمصريين أن يسودوا إذا صح أنهم صح أنهم كانوا جهلاء؟؟
وكيف يجوز عليهم الجهل وقد خلفوا آثاراً فنية وأدبية هي الغاية في براعة الأذواق ورجاجة العقول؟
وهل من الجائز عقلاً أن تقام الأهرام في بلد لا يعرف أهله قيمة النظام وقيمة التطلع إلى الخلود؟
وهل يستطيع إنسان موهوب أن ينكر أن آثار الأقصر هي أثمن ما خلفت الإنسانية في عهدها القديم، إن صح أنها استطاعت خلق ما يفوق تلك الآثار في العهد الحديث؟
وبأي قوة سحرية جاز لتلك البقعة النائية أن تكون عروش القرون الخوالي؟
لقد شغلت نفسي بأسرار تلك البقعة من الوجهة الطبيعية، فلم أجدها تنتج غير اللحوم
والبقول، فهل يكون سر التفوق في غزارة اللحوم والبقول؟
إن كان ذلك، فكيف انقضى عهد العظمة (الأقصرية) بعد ذلك التاريخ؟
وكيف انتقل مجد مصر من الجنوب إلى الشمال؟
تلك أسئلة توجه إلى الأستاذ عبد القادر حمزة، فهل يجيب؟
أما أنا، فأقول: كان المصريون تحصنوا بالأقصر ليسلموا من عدوان الوافدين من جهة الشمال، وبذلك حصروا نشاطهم الفني والاقتصادي في (كعبة) الأقصر، كما حصر العرب نشاطهم الفني والاقتصادي في (كعبة) الحجاز، والتاريخ هو التاريخ، وإن تلونت الأشعة والظلال.
عراقة المدنية المصرية
شغل المؤلف نفسه بالتدليل على عراقة المدنية المصرية، وهي أقدم مدنية عرفها التاريخ، ولا ينافسها في القدم غير حضارة الكلدان في وادي الفرات
وعلى الطالب أن يقرأ ما كتب المؤلف في هذا الموضوع بعناية وتدقيق، ولكن يجب قبل ذلك أن يعرف الأصل الذي استوجب عراقة المدنية المصرية، وذلك الأصل هو النيل، فالنيل هو النهر الثاني في العالم بعد المسيسيبي من حيث القوة، ولكنه النهر الأول في العالم من حيث المدنية، فهو اقدم نهر قامت على شواطئه كبريات المدائن، وأقدم نهر نُظمت فيه الملاحة واتخذت مياهه مطايا لخدمة الاقتصاد، وهو كذلك أقدم نهر أوحى إلى أهله عرائس الشعر والخيال.
فإذا تمثل الطالب هذا المعنى كان عليه أن يذكر أن المصريين أسبق الأمم إلى حفر الآبار، لأن أرض مصر لينة جداً، ولأن الماء مخزون في جميع البقاع بهذه البلاد، وقد يوجد في سفوح الجبال، وهذا وذاك يشرحان السبب في تعلق المصريين بواديهم أشد التعلق، حتى صاروا مثلاً في بغض الهجرة والارتحال.
أقول هذا لأؤيد حجة الأستاذ عبد القادر حمزة في قوله بأن المدنية المصرية بنت مصر لا بنت شعب آخر، ولو قال إنها نبت مصر لكان التعبير أظرف، لأن المدنية المصرية نشأت في خصائصها الأصلية وكأنها من عمل الطبيعة لا من عمل الناس
والمشكلة هي درس مسألة السبق إلى المدنية، فهل كان السبق للمصريين أم للكلدانيين؟
ولكن كيف خلقت هذه المشكلة؟ خلقها التشابه بين المدنية المصرية والمدنية الكلدانية في كثير من الشؤون. فهل يدل هذا التشابه على النقل؟ أم يكون شاهداً على تبادل الصلات الأدبية والاقتصادية بين هذين الشعبين العريقين؟
هنا تظهر قوة عبد القادر حمزة في التعمق والاستقصاء فقد وصل بالمنطق وبشواهد التاريخ إلى أن المصريين سبقوا الكلدانيين إلى الحضارة والمدنية ولم يترك الموضوع إلا بعد أن صيره غاية في الوضوح والجلاء.
التقويم المصري
وفي كتاب عبد القادر قضية من أغرب القضايا الإنسانية، وهي قضية التقويم، فقد كان العالم كله يعتمد في تقسيم الزمن على الدورة القمرية، وهو تقسيم مقبول ولكنه غير دقيق، لأنه لا يصلح قاعدة لتعيين مواسم البذر والحصاد.
وكذلك كان المصريون أول المتحولين عن التقويم القمري إلى التقويم الشمسي، وقد قسموا السنة إلى ثلاثة فصول، كل فصل منها أربعة أشهر، وهي فصل الفيضان وفصل البذر وفصل الحصاد.
والتقويم المصري هو التقويم الذي حمله يوليوس قيصر من مصر إلى روما، وهو التقويم الذي عدله مجمع الكرادلة تعديلاً طفيفاً في سنة 1582 ثم صار تقويم العالم كله إلى اليوم.
وإذا تذكرنا أن التقويم المصري كان موجوداً إلى سنة 4238 قبل الميلاد، أي قبل حكم الملك مينا بأكثر من ألف سنة، أدركنا فضل مصر في السبق إلى دقة الحساب.
وفيما كتب عبد القادر عن هذا الموضوع عن هذا الموضوع صفحات جديرة بالدرس والتعقيب، فليس من القليل أن نكون دنا أمم الشرق والغرب بذلك التقويم الدقيق.
معركة عقلية
هي المعركة بين الكنيسة وعلم الآثار المصرية، وهي المعركة التي انتهت بانهزام الكنيسة ورجوعها صاغرة إلى أن تفسر التوراة تفسيراً جديداً لتسلم من التصادم مع الآثار المصرية.
فما سبب تلك المعركة؟ ومن الرجل الذي درس البروج المصرية ثم انتهى من درسها إلى
القول بأن الحضارة المصرية ترجع إلى أبعد من خمسة عشر ألفاً من السنين؟ وما الذي قال العلماء المرافقون لبونابارت؟ وما هو البرج الذي نقل إلى فرنسا فبلبل الأفكار الأوربية؟ ومن هو الشاب الفرنسي الذي أدى لمصر أعظم خدمة تاريخية ثم حمله الخوف من سلطان الكنيسة على المواربة في قضية البروج؟ ومن هو العالم الذي قرر أن الثقة بالمسيح لا تمنع من مسايرة الحقائق العلمية؟ وعلى أي أساس بررت الكنيسة خروجها على حرفية العهد القديم لتصح النظرية المصرية في قدم الوجود؟
عقيدة الحساب بعد الموت
ذلك بحث نفيس كتبه عبد القادر في أيام صفاء، فما تفاصيل هذا البحث؟
لهذا البحث عناصر كثيرة، ولكني أرجو أن يفكر الطلبة في الموازنة بين الأخيلة اليونانية ليعرفوا كيف استطاع المؤلف أن يقيم البراهين السواطع على أن المصريين سبقوا اليونان إلى تصور عقيدة الحساب بعد الممات بما يدل على فهمهم لفكرة العدل.
ودرس هذا البحثُ يعين على فهم البحث الذي يليه وهو تأثير المدنية المصرية في المدنية اليونانية وتعيين ما أقتبس وميروس من أساطير المصريين
وهذان البحثان يهمان كل مصري يحب أن يعرف مركز وطنه في التاريخ، فقد استطاعت أرض يونان أن تزعم أنها أثقب فكراً من وطن النيل، وساعد على تأييد هذا الزعم أن كان العرب سفراء العقل اليوناني في الممالك الأسيوية والأوربية، في أوقات لم يملك فيها المصريون أدوات النقض لمزاعم اليونان.
لمحة من التحقيق
المصريون هم أساتذة اليونان القدماء باعتراف الجميع، ولكن العقل المصري كان غفا بعد أن تعب من اليقظة التي هدمت أعصابه في عشرات الأجيال؛ ثم كانت صحوة العقل اليوناني بعد ذلك، وهي الصحوة التي عرفها العرب يوم عزموا على (إحياء) المطمور من آثار القدماء. فمن طاب له أن يزعم أن مصر تعيش بعقلية يونانية فسيقهره المنطق الحق على الاعتراف بأن اليونان لم تؤد إلى مصر إلا بعض ما بعض ما تلقت من علمها الأصيل في العصور الخوالي، ولا بد يوماً أن ترد الودائع، ولو كره كهنة دلف وسَدنة
أنوللون!
قصة الغريق
هي قصة أوحت ما أوحت إلى الآداب العربية والآداب الإنجليزية، فكيف كان ذلك؟
الطلبة هم المسئولون عن مراجعة هذا الفصل النفيس، وعما كتب المؤلف في الاستشهاد بآيات التوراة لتبرير ما جاء فيه من تكرير وترجيع.
رسائل مصرية وفلسطينية وسورية
هو بحث شائق لا يحتاج إلى من يدل عليه، وهو يشرح وسائل قدماء المصريين في تسجيل الرسائل واللوائح والقوانين.
الصور، الصور، الصور
بهذا الكتاب صور فنية نقلت عن المعابد والهياكل والقبور، وهي تحتاج إلى درسٍ خاص، فهل ينظر إليها الطلبة نظرة فحص وتأمل وتدقيق؟
لو كنت أملك الوقت لكتبت أملك الوقت لكتبت عن هذه الصور صفحة أو صفحتين أو صفحات، فهي أروع ما حُفظ من آثار القدماء، ولو كنت أملك المال لدعوت جميع طلبة السنة التوجيهية إلى رحلة فنية نتعرف بها إلى آثار مصر في الشمال والجنوب
فلم يبق إلا أن أوجه أنظارهم إلى أن هذه الصور ستكون حتماً مما تفكر فيه لجنة الامتحان، فقد سمعت أن في أساتذة الجامعة المصرية قوماً يهتمون بالفنون!
ثم اكتفى بهذا القدر في توجيه الطلبة إلى فهم كتاب (على هامش التاريخ المصري القديم)
زكي مبارك
نفسية المرأة الحديثة
مقتبسة من آراء العلامة (يونج)
للدكتور محمد حسني ولاية
لا شيء يضر طبيعة المرأة نفسياً أكثر من قيامها بأعمال الرجال. ولما كانت طبيعة الإنسان مشتملة على عنصري الأنوثة والذكورة معاً، فإن الرجل يستطيع أن يعيش بالمرأة التي في نفسه، كما أن المرأة بدورها تستطيع أن تحيا بالرجل الكائن في طبيعتها، وفي ذلك ما يقيد ذاتية الشخص الأساسية ويقضي عليها. فلا بد للرجل من أن يعيش كرجل، ولا بد للمرأة من أن تعيش كامرأة
إن تصرفات المرأة وانفعالاتها لا تتأنى من عقلها الباطن مباشرة، بل هي من خصائص طبيعتها الأنثوية، فليست انفعالاتها ساذجة، ولكنها ترمي إلى غرض لا تصرح به.
إن ما يصدر من الآراء عن عقل المرأة الباطن يسير بها في طريق شاذة، فهذه الآراء تنتحل
صفة الصدق والواقعية ما دامت لم توضع رهن الانتقاد الواعي.
وهي تشبه تصرفات الرجل في غموضها إلى حد ما، كما أنها تشبهها في عدم وصولها إلى العقل الواعي غالباً، وعلى ذلك يندر أن ندرك ألوانها على حقيقتها
إن الافتراضات والأفكار المنتمية إلى العقل الباطن لهي ألد عدو للمرأة، وذلك لأنها قد تنمو وتكبر في شكل هوى شيطاني يستقبح الرجال ويحنق جاذبية المرأة وأنوثتها، وينتهي مثل هذا الاتجاه إلى انفصام عميق في الذاتية أو بعبارة أخرى إلى عصبية. على أنه ليس من الضروري أن يصل الأمر إلى هذه الخاتمة، لأن تلوين عقلية المرأة بالذكورة يؤدي في حد ذاته إلى نتائج سيئة غير العصبية. فقد تكون مثل هذه المرأة زميلة طيبة للرجل ولكنها لن تشق طريقها إلى مشاعره وعواطفه، وهذا من قبيل تفاعل دفاعي ضد طابع الجنسية الذكرية.
إن كل ما حرم على المرأة في العصور الخالية قد تجمع الآن وتمخض عن حدوث عمليات تعويض نفسي، ورسل هذه العمليات هن كاتمات السر والمختزلات والمشتغلات بالأزياء، وهن اللاتي يقوضن أركان الزواج باتباعهن ملايين من الطرق الخفية وليست رغبة أولئك
النساء موجهة إلى مناصبة العلاقات الجنسية والمجازفات الغرامية العداء، بل محاربة الزواج هي غايتهن، فهن يرمين إلى مطاردة المرأة المتزوجة، ولكن بوسائل غامضة هادئة عنيدة تعمل كالسحر مثل عين الثعبان الجامدة.
فما هو موقف المرأة المتزوجة من هذا؟. . . لا ريب في أنها تتعلق بالفكرة القديمة التي تلقي اللوم على عاتق الرجل والتي تتضمن استطاعة الإنسان أن يصنع الحب بمحض اختياره، وأنها على أساس هذه التصورات الجاهدة تنطوي على نفسها في جو من الغيرة. على أن هناك أثراً أعمق من هذا، فما من امرأة تستطيع أن تتفادى أثر الحافز الذي يعمل في الخفاء في ذلك الجو الذي ربما غمرتها به. . . أختها مثلاً. . . ذلك الجو القاسي الذي لم تعش فيه بعد وحينئذ يستبد بالمرأة المتزوجة ريب في أمر الزواج.
أن إمكان منع الحمل قد مهد السبيل للمرأة غير المتزوجة لأن تحيا حياة تشبه الزواج، بل هو قد أصبح ذا أهمية للنساء المتزوجات. ولكن التخلص من حوافز نفسية عظيمة متعلقة بإنجاب الأطفال يؤدي إلى حدوث اضطراب في التوازن العقلي؛ فالطاقة التي لا تجد هدفاً واعياً تقوي العقل الباطن وتسبب الشك وعدم الاطمئنان.
ينطوي الزواج في عرف المرأة على علاقة مطلقة لا تربطها بالزوج فحسب، بل بالأطفال والأقارب، فإذا كان الرجل مستحوذاً على المرأة ضاق بهذا الإطلاق ذرعاً لأنه يجدها موزعة بين أطفالها والأقارب وبين نفسه. ولما كان أكثر الرجال عمياً في غرامهم بزوجاتهم فإنهم يعتقدون أنهم ملكوا نواصي زوجاتهم واستحوذوا عليهن كلية
وترى المرأة أن الزواج علاقة روحية، وأن المسألة الجنسية ليست سوى عامل ثانوي مرتبط بالزواج.
وكما ابتدأت المرأة في نهاية القرن التاسع عشر تنحاز إلى الذكورة فقد انحاز الرجل بدوره في شيء من التردد إلى الأنوثة.
المرأة أغنى نفسية من الرجل، فهو يقتنع في أكثر نزعاته بالمنطق فقط، ويعاف ما ينضوي نفسياً تحت لواء العقل الباطن لأنه لا يعبأ إلا بالواقع، ولا يعني بالبدوات والمشاعر التي لا تنطبق على الواقع.
أما بالنسبة للمرأة فإن أكثر ما يهمها معرفته ماهية شعور الرجل إزاء أمر أكثر من فهمها
الأمر نفسه. وكل ما يعده الرجل سفاسف وترهات ينال اهتماماً خاصاً من ناحية المرأة، وإن كثيراً مما يمكن رؤيته بوضوح في المرأة لا يمثل في الرجل إلا عملية ضئيلة غامضة لا يرغب غالباً في أن يعبر عنها.
حملت الظروف المرأة على أن تتحكم في شيء من الذكورة، وهذا هو الشيء الوحيد الذي ينقذها من البقاء في أنوثة عتيقة غريزة. أما الرجل فيضطر لأن ينشئ في نفسه بعض صفات أنثوية وهذا واجب عليه نحو نفسه لا قبل له بأن يتفاداه ما لم يفضل أن يتعثر خلف المرأة في شكل طفلي بائس لأنه مستهدف لخطر سيطرة المرأة عليه.
يرى رجل اليوم أن الزواج الحديث حافل بالمشاكل وترى المرأة الحديثة أن زواج القرون الوسطى لم يعد زواجاً مثالياً، فالذكورة التي اكتسبتها المرأة تجعلها ترفض أن تقول:(إنه سيكون سيدي) فالذكورة تعني أنها تعرف هدفها فهي تعمل كل ما هو ضروري لإصابته.
واكتسب الرجل بدوره أنوثة في نفسه بعد بذل مجهود ليس بالقليل وعلى حساب الكثير من الألم الذي عاناه. وهو لن يفرط فيما اكتسب لاقتناعه بأهميته.
إذا نظرنا عن بعد إلى الرجل الحديث والمرأة الحديثة تبادر إلى ذهننا أنهما لا شك ناجحان في زواجهما، ولكننا إذا رأيناهما عن كثب بدا لنا الأمر على النقيض لأن زواجهما إنما ينطوي على كفاح جديد، فكل ما تريد أن تفعله المرأة كصدى لإرادة وعيها الحديث النشأة لإيلام الرجل، كما أن المشاعر التي يستكشفها الرجل في نفسه ليست مناسبة للمرأة، فهما يريان أن ما استكشفاه في نفسيها حديثاً يمثل الجانب الوضيع من كل منهما؛ ذلك لأن ذكورة المرأة لا تقل ضعة عن أنوثة الرجل. ولكننا من ناحية أخرى نرى أن في المجموعة التي نسميها (الشخصية) ناحية غامضة، فلابد أن يكون الرجل القوي ضعيفاً من جانب ما وأن يكون الرجل الذكي غبياً من ناحية ما حتى يمكن للمرأة أن تعيرهما الثقة، فالمرأة تحب ضعف الرجل القوي أكثر من قوته، وغباوة الرجل الذكي أكثر من ذكائه.
إن حب المرأة يلتمس الرجل كله كوحدة. . . ليس الجانب الذكرى منه فحسب بل ذلك الشيء الذي ينافي الذكورة فيه أيضاً وليس حب المرأة بعاطفة مجردة بل هو رغبة حيوية تخلو أحياناً من العاطفة، وقد تدفع المرأة أحياناً إلى التضحية بنفسها. والرجل الذي تغمره المرأة بمثل هذا الحب لا يستطيع أن يتجاهل الشطر الوضيع من نفسه إذ ليس في مقدوره
أن يواجه المرأة إلا به وأن يكون مغموساً في قرارة نفسه.
وليست قرارة الإنسان متشابهة فحسب بل متكافئة مع طبيعة الإنسان الأبدية التي تربط كل الإنسانية التي تمثلها صورة الحياة البشرية في أعاليها وأعماقها المشتركة بيننا جميعاً، فنحن لن نكون أشخاصاً مختلفين في قرارة نفوسنا بل ندرك الروابط المشتركة التي تربط الإنسانية جمعاء. وفي هذه الأعماق نطرح الفوارق الاجتماعية السطحية من شخصياتنا.
ونصل إلى أساس المشاكل التي تعرض لنا في حياة اليوم. وهذه المشاكل تمثل الحقيقة الواقعة، لأنني هنا أشعر وأعرف أني واحد من كثيرين وأن ما يحدوني يحدو الكثيرين. إننا في ناحية قوتنا مستقلين ومنفردين بحيث يمكننا تشكيل مصيرنا بما نريد، ولكننا في ناحية ضعفنا بعضنا معتمد على البعض الآخر ومرتبط به، وهنا يمثل كل منا آلة في يد القضاء، فليس الفرد هنا هو الذي يحكم بل هي الإرادة البشرية.
ينطوي معنى الحياة الحقيقي على اكتساب الشخص قوة على التغلب العزلة الشخصية والابتعاد عن الأنانية في سبيل اشتراك فعال في حل المعضلات الحديثة.
فإذا أرخت امرأة اليوم تماسك الزواج واعية أو غير واعية ومستقلة استقلالاً روحياً أو اقتصادياً فإن هذا لا يأتي بدافع الرغبة الشخصية ولكن بدافع الرغبة الحيوية ذات القوة المسيطرة المستقرة في أعماق البشر التي تتخذ من المرأة الفردية آلة لها
يمثل الزواج قيمة اجتماعية أدبية لا نزاع فيها، وليس الحط من هذه القيمة إلا من قبيل الفوضى. إن عدم تكامل الإنسانية ليس إلا نشوزاً يقطع انسجام نغمات مثلنا، ومن سوء الحظ أننا لا نعيش في دنيا التي نريدها بل في دنيا الواقع حيث يتناحر الطيب والخبيث ويهدم أحدهما الآخر، وحيث لا تستطيع الأيدي البيضاء التي خلقت للابتكار والإنشاء تفادي التلوث بالدنس. . . وكلما أستجد شيء عرضة للنقد ومحط للريبة فهناك دائماً من يؤكد لنا وسط عاصفة من التصفيق أن لا شيء حدث وأن كل شيء يسير في نظام
وإذا نفذت أبصارنا إلى كثير من لزيجات ألفينا بها كثيراً من أعراض ضعف خفي يتمخض عن مشاكل زوجية تشمل كل تصرفات الزوجة (والزوجة فقط) التي لا يمكن احتمالها كالعصبية والخيانة الزوجية.
إن أولئك الذين يرون أنفسهم غير مضطرين إلى مجاراة ميول العهد الحديث يعتقدون في
مثال الزوجية ويعتنقونه، وعندما يتهدم مثال الإنسان دون أن يحل محله شيء أفضل منه فإن الخسارة لا تعوض، ولذا تظل المرأة مترددة سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة فهي لا تجسر على العصيان بكل قلبها وإنما تظل في حيرة لقد أصبح الزواج أحسن حل وكل من لم يدخل في حظيرته عليه أن ينحني على أخطائه.
لم يعد الزواج سهلاً بالنسبة للمرأة الحديثة. ما دامت هناك فقرات قانونية تشرح ماهية الخيانة الزوجية فإن المرأة لابد أن تظل متخبطة في شباك الشك.
ويصح أن نتساءل (هل تعرف الفقرات التشريعية ما هي الخيانة الزوجية. . . وهل تعريفها لها هو الشكل النهائي الأبدي الصادق؟) فمن الناحية النفسية - وهي الناحية التي تعني امرأة - ترى في هذه الفقرات تشكيلة هازلة كما هو الحال في كل ما يصطنعه الرجل لوضع قوانين تتعلق بمسائل الحب.
وكثيراً ما يتعدى المؤمنون بالقانون حدود قوانينهم بما اتسموا به من غباوة، أو بالخنوع لإغراء المرأة أو لمجرد الرذيلة المختلطة بنفوسهم. وإن المرأة الحديثة لتتساءل عما إذا كانت تنتمي إلى هذه الفصيلة. . . أما من الناحية التقليدية فهي بلا ريب منتمية إليها. وعليها أن تفكر في ذلك لاستجلاء الحقيقة حتى تتهدم أصنام الاحترام التي نصبت في نفسها.
فما معنى أن يكون الإنسان محترماً. . . أمعنى هذا أن يلبس قناعاً مثالياً يستر به حقيقته عن الناس. . . أمعناه أن يكون خادعاً. . . إن الطيبة ليست خدعة، ولكن عندما يحبس الاحترام الروح. . . تلك الروح الحقيقية المقدسة لا يصبح الإنسان إلا ذلك الشيء الذي وصفه المسيح بأنه (القبر الأبيض).
لقد أصبحت المرأة الحديثة على بينة من الحقيقة التي لا نزاع فيها. . . إنها تستطيع أن تبلغ الأسمى والأحسن في مجال الحب فقط؛ وإن هذه المعرفة تحدوها للوصول إلى نتيجة أخرى هي أن الحب أبعد وأسمى من القانون. وإن احترامها الشخصي ليضيق حينئذ بنفسه ذرعاً. ولكن هناك ميلاً غريزياً يوفق بين تفاعلها والرأي العام هذا أهون الشرين. أما أهول الشرين فهو أن يسري هذا الرأي أيضاً في دمها. وهو يبدو لها كصوت داخلي يبعثه الضمير وكقوة كامنة تقفها عند حدها
إنها لم تكن قط واعية للحقيقة المنطوية. على أن أعمق ما تملكه في ذاتها يمكن أن يجعلها تصطدم بالتاريخ؛ ولا ريب في أن هذا الاصطدام يبدو لها مستهجناً وغير منتظر. ولكن أين هي التي فهمت واستوعبت جيداً هذا التاريخ كحقيقة واقعة فليس هذا موجوداً في المجلات الضخمة ولكنه يعيش في الدماء
وما دامت المرأة تحيا حياة الماضي فهي لن تصطدم بالتاريخ ولكن يندر أن تنحرف المرأة عن ميل ثقافي سيطر على التاريخ. والآن نرى أن ترددها أصبح مفهوماً لأنها إذا خضعت لقانون الحب وقعت في هاوية الألم والشك والحيرة، وتعثرت بين عاملين كبيرين: الجمود التاريخي والقوة الإلهية المبتدعة.
ففي النهاية لا تجد حلاَّ سوى أن تنبذ الجمود التاريخي، وحينئذ يتعين عليها أن تبتدع لنفسها تاريخاً جديداً أو أن تتعلق بالتاريخ وتخضع له. ولكنها لا تستطيع أن تبتدع تاريخاً حديثاً ما لم تجرؤ على المخاطرة بكل شيء لتحقيق غرضها ولو ضحت بنفسها، لأن موضوع التجربة هو ذاتها التي تنتهي بها إلى نهاية مريرة. وهي عند هذا الحد لا ترى حياتها خلفاً لسلف بل تبدأ حياتها هنا. وهذا بمثابة تعبير ثقافي موروث يرمي إلى إيجاد شكل إنساني أتم، وإلى إيجاد معنى للحياة، وإلى نبذ انتحاء الإنسان ناحية واحدة من الحياة، وإلى تطليق حياة عزيزة محضة
إن المرأة تعي الآن أن الحب وحده هو الذي يمنحها قوامها، وأن الرجل الآن يستطيع أن يدرك أن الروح فقط هي التي تمنح حياته أسمى معانيها. وكل من المرأة والرجل يسعى إلى علاقة نفسية تربطه بالجنس الآخر، فالحب في حاجة إلى الروح والروح في حاجة إلى الحب.
إنها تشعر الآن بأنه لم يعد في الزواج طمأنينة ولا استقرار حقيقي؛ فأي معنى سام يحمله إخلاصها إذا كانت تشعر بأنها مكبلة بأغلال الشهوة التي ترمي إلى اقتنائها اقتناء قانونياً يحبس روحها. هناك إخلاص أهم من هذا يلوح لها، إخلاص للروح والحب، إخلاص يقوى على غزو الضعف الإنساني وعدم نضوجه ليقضي عليه. وربما تستطيع الوقوف على أن ما هو ضعيف وغير ناضج ليس إلا فوضى مؤلمة أو طريقاً محوطاً بالقلق، وأنه يستطاع تفسير ما استكشفته تفسيراً مزدوجاً تبعاً لطبيعته المشكوك فيها
وهناك في هذه التطورات طريق يؤدي إلى الإنسانية العتيقة التي تهوي إلى مستنقع العقل الباطن، طريق تؤدي إلى هدم الشخصية والقضاء عليها
إن الإنسان الذي يستطيع أن يحتفظ بما اكتسبه هو الذي يستطيع أن يختبر لأول مرة معنى الذات، وحينئذ يستطيع أن يغوص في نفسه حتى يبلغ الإنسان الفطري المستقر فيه
فكيف يستطيع أن يحرر الإنسان نفسه من ذلك الإنسان الفطري المتغلغل في أعماقه. . . كيف يستطيع أن يقيم قنطرة تربط ذاته بالإنسان الناضج؟
كلما أنكر الإنسان ذاته واكتسب الفضائل العليا، كان بعيداً عن ذلك الإنسان الفطري.
إن كلمة الإنسان ذات الرنين الجميل لا تعني في أساسها شيئاً جميلاً أو فاضلاً أو ذكياً ولكنها تعني دركات منحطة من هذه الصفات. إن الكفاح والخوف الذي يراودنا عندما نحاول الانفصال عن الإنسان الفطري يبين لنا أن قوة جاذبية عالمنا السفلي (أي العقل الباطن) ما زالت هائلة، هذه القوة التي لا يمكن إنكارها وإذا أنكرناها فإن هذا لا يعني الخلاص منها
لا يستطيع أحد أن يبدأ حياته بالحاضر ولكنه ينمو إليه رويداً رويداً، ومن لم يكن له ماض فليس له حاضر. فالإنسان الصغير لا يقوى على ابتكار الثقافات، فهو لا يملك شيئاً من المعرفة سوى أنه موجود، وإن العمر الناضج الذي عبر منتصف الحياة هو الذي يخلق الثقافات
مزقت بربرية الحرب الجهنمية روح أوربا. . . وفي الوقت الذي تعكف فيه أيدي الرجال على إصلاح الخراب الخارجي تبدأ المرأة بدافع من سريرتها العمل على التئام جروح البشر الداخلية بتأسيس العلاقات النفسانية البشرية على أساس وطيد، ولا شيء يحول بينها وبين تحقيق أهدافها أكثر من الزواج التقليدي. . . زواج العصور الوسطى. . . ولن تتأسس تلك العلاقات على أساس عرفي ما لم تتعطر بشذى الحرية
المرأة الحديثة في حاجة إلى وعي أوسع مدى حتى تتعرف هدفها وحتى لا تكون آلة الطبيعة العمياء. إن وسيلة المرأة هي وسيلة الطبيعة التي تعمل بطرق غير مباشرة بدون أن ترمي إلى هدف ظاهري، وأن يكون الهدف موروثاً في سريرتها. على أن هذه الطرق الملتوية التي تنتهجها المرأة خطرة، فعبثاً تحاول أن تصل بها إلى أهدافها
إن على عاتق المرأة واجباً ثقافياً كبيراً ربما كان مستهل عصر جديد
محمد حسني ولاية
في مجالس الأدب.
. .
بين كاتب وشاعر وخطيب
تثبت هذه الدعاية الأدبية المستطرفة من أسمار ندوة (الأهرام) حيث يجتمع في بعض الأمسيات فريق من أصحاب الرأي وأهل الأدب في مكتب الأديب الكبير الأستاذ (أنطون الجميل بك) فيتناولون شتى الأحاديث بروح الجد تارة والتسلية تارة أخرى. وقد تساءل الأستاذ الخطيب (توفيق دياب) عن وحي الشاعر (علي محمود طه) وكيف طال اختفاؤه وسكوته في هذه الأيام وبدأ بنظم قصيدة على لسان الشاعر في هذا المعنى استهلها بالشطر الأول من مطلعها، وأتم الجميل بك شطره الثاني، وأملى الشاعر البيت الثاني ثم ترسل ثلاثتهم في النظم حتى أتمها صاحب الوحي المفتقد
يا وحيَ شعري أين أنتْ
…
في أيِّ زاويةٍ رَكَنْتْ؟
هل رُحْتَ في إغماءه
…
أم بالمخدِّرِ قد حُقِنْت؟
أم نمت، أم نام الزما
…
نُ، أم اعتُقِلت أم إنسجنت؟
أم خِفْتَ من قلم الرقيـ
…
ب فما أشرتَ وما أبنت؟
أم هل سقاك (كزوزةً)
…
أم هل سقاك (البرمننت)
أم قد شربتَ زجاجةً
…
من صنع بار (الكونتننت)
أم في خزانةِ (صالح)
…
تركوكَ سهواً فاختُزِنْت
أم في البنوك لأزمةٍ
…
حَلَّتْ بأهلكَ قد رُهِنْت
أم ذاك جندولُ الحبيـ
…
بِ إلى لياليه حننت
وإلى عروس البحر هْمِـ
…
تَ وفي شواطئها كمنت
أم زُغْتَ يوم الانتخا
…
ب ولستَ عضوَ (البرلمنت)
لم تَدْرِ ما نال الرئيـ
…
سُ أكان صوتاً أم (كَرَنت)
أنكرت ضَجَّةَ معشرٍ
…
لم ينصفوكَ وقد غُبِنْت
أم طِرْتَ في جوِّ الحليـ
…
فةِ منجداً أبطالَ (كِنْت)
يا وحيُ كم من غارةٍ
…
شعواَء فيها قد شننت
أم ثُرْتَ للحقِّ الطعـ
…
ينِ وبالبطولةِ قد فُتِنْت
فسللتَ سيفَ مدافعٍ
…
عن (كالماس) أو (كُرِنْت)
يا وحيَ شعري ما سكو
…
تك في الخطوب ألا حزنت!
أفقدت رشدك أم شعـ
…
ورك بالحياة؟ إذن جُنِنْت!
عشرون يوماً جاوز التقـ
…
ديرُ فيها ما ظننت
عشرون يوماً أنفق الطلـ
…
يان فيها كلَّ (سَنْت)
عشرون يوماً والبوا
…
رجُ مائلات في (تَرَنْت)
والجيش مرتَّدٌ يولـ
…
ول كلُّ جندي كبنت
يا وحي شعري مذ نأ
…
يتَ وَهَي بياني أو وهنت
بعد القصائدِ كالقلا
…
ع مُشَيَّدَاتٍ (بالسمنت)
من كلِّ بيتٍ مشرق
…
يُزري بقصر (اللابرنت)
أمسيتُ بعدك كلَّ قا
…
فيةٍ نطقتُ بها لحنت
يا وحيَ شعري هل أُسِرْتَ
…
وأنت تهجم أم طُعِنْت
أم غصتَ في لجج البحا
…
ر وفي مجاهلها دُفِنْت
أبكي عليك بكاَء (لا مرتـ
…
ين) قبراً في (سُرَنت)
يا وحيَ شعري أين أنت
…
في أي زاويةٍ ركنتِ؟!
محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 4 -
التربية في كل الأمم وسيلة لإعداد الحكام والمحكومين. ويساير نظام التربية دائماً نظم الحكم القائم. ولما كان نظام الحكم ديمقراطيا في إنجلترا كانت الغاية من التربية فيها أن يعرف الفرد كيف يساهم بنصيبه في الحكم الديمقراطي، أو الحكم الذاتي؛ أي حكم الشعب نفسه بنفسه. وقد أظهر أفلاطون - فيما سبق نشره من محاورته - شكه في أن نوع التعليم الذي يتلقاه الشعب في المدارس الأولية كاف لا مكان الفرد من الاشتراك في الحكم الديمقراطي بانتخابه ممثله النيابي، والاشراف على سياسة الحكومة. ويرى أن يترك أمر الحكم نهائيا للجامعيين الذين هم خيرة أبناء الأمة ثقافة. والمربي الإنجليزي لا يشاركه هذا الرأي، لأنه يقصر الحكم على الطبقة المتعلمة من أبناء الأرستقراط. وفي هذا رجوع إلى الوراء بنظام الحكم إلى العهد القديم الذي كان رجال الحكم فيه هم أولئك الذين تخرجوا في مدارس أولاد الأعيان. وهنا يبدأ أفلاطون هذا الجزء الأخير من محاورته.
ومدارس أولاد الأعيان هذه أقدم مؤسسات التعليم الإنجليزية. وهي طراز من مدارس التعليم الثانوي ومن أشهرها أيتون وهارو. ولا يدخلها إلا أبناء المثرين لكثرة نفقاتها. وفيها تخرج عدد كبير من قادة الرأي، والساسة الإنجليز، وأغلب أعضاء حزب المحافظين. وبالرغم من فضلها التاريخي في نهضة إنجلترا نجد الآن من يقول بعدم صلاحيتها في عصر الديمقراطية.
أفلاطون: لقد ذكرت في حديثك السابق مدارس أولاد الأعيان، وإن ما سمعته عنها يجعلني أوقن أنها كانت يوماً ما ذات آثار جليلة. فقد كانت تأخذ الناشئة من أبناء الأرستقراط، وتبعدهم عن نفوذ الأسرة، وتقدم إليهم نوعاً من التربية السليمة في الأخلاق، وآداب اللغة، والتمارين البدنية والألعاب، من غير أن تحاول تنمية الناحية العقلية الفلسفية عندهم. وبهذا غرست في نفوسهم حب الطاعة، والإخلاص لتقاليد البلاد واحترامها، وصاغت منهم نماذج
صالحة لتكون حكاماً أمناء وجنود أشداء، عقدوا النية على صياغة دستور البلاد، وحماية نظام الحكم فيها، والدفاع عنه ضد أي تغيير. وبإبعاد الناشئة هكذا عن نفوذ الأسرة لم تفسد تكوينهم العواطف المائعة التي يسرف الآباء في إحاطة أبنائهم بها، ولا شواغل المال والفقر التي هي دائماً حديث الأسرة. فعاشوا في أماكن جميلة، واكتسبوا بمعاشرة بعضهم لبعض واشتراكهم في الحياة المدرسية صفات الرجولة النبيلة التي خلقت منهم خداماً لوطن مطيعين وقضاة أو حكاماً أو إداريين نزيهين، رائدهم العدل والحق
وهذا النوع من المعاهد وما يليه من الجامعات أحسبه جديراً بالصيانة والبقاء. ولو كنت أعرف أنه من المجدي حث شخص مثلك لنصحتكم أن تجعلوا نظام هذه المعاهد جزءاً من نظام تربيتكم الحديثة، ولكن يمنعني من حثي هذا اعتقادي أن هذه المعاهد لم تبلغ في تطورها درجة الكمال. وذلك لأسباب حيوية ثلاثة: السبب الأول هو أن أبناء مدارس أولاد الأعيان لم يتخرجوا فيها على فلاسفة، ولكن على أفراد لا يمتازون كثيراً عنهم. ونتيجة هذا أنهم حينما أصبح زمام الحكم بأيديهم لم يستطيعوا توجيه جمهور الشعب من عمال وصناع وتجار التوجيه الصحيح الصالح. ذلك لأن عصر الاختراع العلمي العملي قد أتاح لهذه الطبقة من الشعب أن تجمع القناطير المقنطرة من الثروة بمجهود قليل. ولم يكن عند طبقة الحكام وولاة الأمر من قوة التعقل وفلسفة الحكم ما يجعلهم يتداركون ما حدث من نمو حب المال في نفوس الشعب وروح الطمع والجشع المادي وسرت هذه العدوى لطبقة الحكام أنفسهم، بل لرجال الدين فلم يحاربوا هذه الميول، وأصبحوا خاضعين لها بدلاً من خضوعهم لنداء العقل والحكمة. وإنني أعتقد أن ما اتصف به حكامكم من أخلاق كريمة طاهرة خفف كثيراً من حدة المطامع المادية الاستعمارية. وكثيراً ما قضت أخلاقهم الكريمة على أسوأ ما في هذه المطامع من آثار. وإنني أصدقك النصح أنه لن يمكنكم أن تعيشوا آمنين، وأن تبقوا على ثراء شعبكم إلا إذا حرمتم ملكية الأرض والشركات ورءوس الأموال على حكامكم وأصبحوا هم عقلاء وذوي عزيمة قوية يلجمون بها غريزة حب المال والكسب. والسبب الثاني هو أن هذه المدارس كانت ولا تزال غير خاضع لإدارة الحكومة، ومقصورة على هذه الجماعة الغنية من الشعب التي لها من وفرة المال ما تنفقه بسخاء على تعليم أبنائها. وربما لم تكن هناك فائدة من خضوع هذه المدارس لإدارة الحكومة في الوقت
الذي كان فيه رجال الحكومة أنفسهم من الأعيان ورجال المصارف وأغنياء التجار وإضرابهم. أما الآن والحكومة شعبية، وليس من الضروري أن يكون أفرادها من الأغنياء فإن هذه المدارس يجب أن تكون حكومية لا خاصة، وأن تفتح أبوابها لكل من تؤهله مواهبه للتعلم فيها من أبناء الشعب. والسبب الثالث هو أن جامعاتكم لم تدرك تماماً المهمة الإلهية التي نصبها الله من أجلها، لأنها وهي تحرج الرءوس المفكرة في الدولة لم تصن خريجيها عن المطامع المادية وشهوة المال. والنتيجة هي أن رجال الحكم من أبنائها بدلاً من أن يخضعوا المادة لمبادئهم خضعوا لها.
من كل ما ذكرته تستطيع أن تعرف أي أنواع الإصلاح أريد إدخاله على نظام التربية. يجب ان تبدءوا من القمة فتصلحوا من الجامعات حتى تنتج نوع الحكام الذي تحتاج إليه بلادكم. ولست أزعم أن هذا سهل التحقيق. إن العلماء ولو أنهم يتمشدقون دائماً باسمي، ويذكرونني بالإعجاب والثناء، لم يفهمون جيداً، ولم يفهموا الغاية (من أكاديمي) التي أسستها حتى لقد حرفوا معنى عبارة (التفكير الأكاديمي)، فأصبحت تدل على كل تفكير عقلي لا يمت للحياة العلمية بسبب. وأنا أعرف بالطبع إلى أي حد يكره فلاسفة هذا العصر وعلماؤه الحياة الحالية المحيطة بهم ويحتقرونها، وهم لا يريدون في الوقت نفسه أن يعترفوا أنهم طلقوا هذا النوع من الحياة لا لسبب إلا لأنهم عجزوا عن إقناع ولاة الأمر والمشرفين على شئون الأمة بمبادئهم الفلسفية السامية. ولابد أن تتفق معي أنه لا فائدة من هؤلاء الفلاسفة العلماء، لا لشعبهم ولا للعالم إلا إذا اعتقدوا أن هذا العالم يجب أن يحكم بمبادئ العقل والحكمة التي يدافعون عنها. وأظن أن هذا بعيد الحصول، لأن العلماء والأساتذة الذين يتمتعون بحياة مريحة، ورزق مضمون، وهم مطمئنون لآرائهم وفلسفتهم الشخصية، ليسوا مستعدين إلا قليلاً أن يخاطروا بكل هذه المزايا في سبيل إعانة غيرهم. لهذا ستظل جامعاتكم في الغالب قانعة بوظيفتها، وهي تخريج رجال يخدمون العالم ولا ينتقدونه، فرحين بالقدر اليسير من المعارف التي ينتجونها والعلم الذي يخدمونه وبالعبارات الشفهية التي يفوهون به في محاضراتهم وأحاديثهم عن المثل العليا للحرية العلمية والعدالة العالمية.
وفي هذه الحال يجب عليك أن تفعل كما فعلت أنا، فتؤسس معاهد تنافس هذه المعاهد
العلمية ودور التربية القائمة الآن، جاعلاً غايتك خدمة الحقيقة، والحقيقة فقط، معلناً أن الحقيقة واحدة لا تتغير في كل زمان ومكان ولكل فرد. وسوف تتهم بالتحيز والتعصب، وأنك تفسد عقول الشباب بتعاليمك، وتحطم المثل العليا للمبادئ العلمية الصحيحة فلا تصغ لهذه التهم واذكر أن الرجل العالم إذا لم يكن أيضاً رجل عمل فليس جديراً أن ينسب إلى أسرة العلماء الأكاديميين، ولتكن الدراسة في جامعتك شاملة للبحوث العلمية وللدربة والمران لمباشرة الإيالة واكتب على باب جامعتك هذا الشعار (يجب أن يكون الحكم للعلم فقط). ومتى ثبتت هذه العقيدة في قلبك فلن يزعجك ما تتهم به من التحيز أو التعصب، ومن إفساد عقول الناشئة، لأنك ستعرف جيداً أن كل حقيقة جديدة يتهمها الناس بالزيف، وأن اسم العدالة أداة تستخدم لإخضاع المصلحين للنظام القائم. وهناك تغيير آخر يجب أن يدخل على عقائد طلابك، إنهم في هذه السن كرام النفوس، بيض القلوب، يعتقدون بسذاجة أن الحقيقة والحكمة يمكن أن تسودا بطبيعتهما على القوة والحيلة! وبهذا ينزلون ميدان الحياة غير مسلحين ليغزو العالم. وسرعان ما يسفر النضال عن رضوخ في الرأس، وانخداع في التفكير، وحينئذ يظهر لهم أن الشر الذي يعيش ويترعرع في القوة عدو لا تمكن ملاينته بالكلمة الطيبة والعاطفة النبيلة، بل يجب أن يضرب ويصفع حتى يخضع ويصفد في الأغلال، وبهذا لا يستطيع النهوض مرة أخرى. وهذا الدرس يجب أن يتلقاه طلبتك كل يوم في جامعتك الجديدة، كما يجب أن يكتب فوق مدخل الجامعة شعار آخر وهو (لن يدخل هذه الجامع محب للسلم) ثم ذكر طلبتك دائماً أن حكم العقل لم يستطيع ولم يفلح أن يسود البشر ولو مرة واحدة في التاريخ باللين والرفق. ولهذا وجب على الفيلسوف أن يكون مستعداً لمواجهة خصومه بقوة وعزيمة أشد من قوتهم وعزيمتهم. وأنا أنصح للفيلسوف أن يدرع بالقوة،
لأني أعلم أن مبادئه ستكون دائماً عرضة لبعض الناس، على عكس المبادئ الأخرى التي يروجها أعداء الفلسفة من حقائق مموهة يخدعون بها غيرهم. ولهذا يجب أن يسلح الفيلسوف نفسه بكل أنواع القوة والشدة حتى يروض شهوات الشر المادية الجامحة فتخضع لحكم المعرفة. دع طلبتك إذاً يعلموا أنهم إذا أرادوا أن ينقذوا بلادهم من الخراب فعليهم ألا يجعلوا روح السلم تسيطر على نفوسهم، بل يجب أن يألفوا نظام الجندية، وأن يدربوا على
الروح العسكرية، تلك الروح لا تقشعر من سفك الدماء في سبيل المصلحة العامة
ومتى ثبتت أركان جامعتك وأصبحت تشرف على شئون الدولة فوجه عنايتك بعد ذلك للمدارس، وهنا يجب ألا تزعجك أخطار مبادئ الفاشستية أو الاشتراكية الوطنية التي ذكرتها أنت في حوارك معي. فأنت توافق على أنه حتى الحكومات السيئة لها بعض الحسنات، وستسر وتعجب حينما تعرف أن ألمانيا وإيطاليا قد اتخذنا كثيراً من تقاليد بلادك وعاداتها، ولا سيما نظام مدارس أولاد الأعيان عندكم، ولكن بشيء من التهذيب يناسب حاجات الوقت الحاضر. وأعتقد أن هذا الخبر سيجعلك أكثر تعلقاً بهذه المدارس فتبقيها كركن قوي للتعليم عندكم في المستقبل، وستقبل عليها مفتحاً أبوابها، معلناً أنها أصلح المعاهد لاعداد القادة السياسيين. فاختر لها حينئذ من بين أطفال الشعب أكثرهم قابلية لتحمل تبعة القيادة السياسية. أما البقية من أطفال الشعب فأعد لهم المدارس الفنية، الصناعية والزراعية والتجارية، حيث يتعلمون المهن التي يصلحون لها. ولما كانت هذه الطبقة من أطفال الشعب ليست بذات خطر فلا داعي لأن يعيشوا في المدارس بل اتركهم يعيشوا في المدارس، ويحضروا للدروس بالنهار فقط. أما أولئك الذين اخترتهم لمدارس أولاد الأعيان فخذهم بتربية صارمة، وامنعهم من رؤية ذويهم إلا في أيام الأعياد والإجازات العامة، وصير هذه المدارس في نظامها الرياضي البدني وفي بساطتها كمدارس إسبارطة القيمة، وخل تلاميذ هذه المدارس يخدمون أنفسهم بأنفسهم، فلا فراشين ولا فراشات، ولا مشرفين ولا ممرضات، ولا أي فرد من هؤلاء الذين يحوطون الأولاد بالعناية والعطف، ويغرسون في نفوسهم النعومة والرقة التي تضعف من خشونة تكوينهم. واجعل التعليم في هذه المدارس للبنين والبنات معاً من غير تميز، ذاكراً دائماً أن غايتك هي إعداد شعب من الجنود والإداريين، لا هذا النوع من الجنتلمان ولا من الجنس اللطيف ذي الغيد والرقة الذي يتخرج في مدارسكم الآن ويجب أن يكون النظام شديداً قاسياً يمرن العقل والجسم معاً على الدقة والطاعة والإتقان، ويكون في ذوق التلاميذ الإعجاب بما هو بسيط ومتين من مظاهر الجمال التي لا يشين الجندي التحلي بها ومن أجل هذا يجب أن يتعلموا مبادئ الحساب والعلوم، وأن يدرسوا اللغة هذا إلى معرفة خير منتجات آدابكم وموسيقاكم، وأنواع الرياضة والألعاب العسكرية
ومتى فعلت هذا وجدت أنه من السهل حل معضلة التربية، التربية العامة لطبقة الشعب التي من أجلها عقدنا هذه المحاورة. وإذا علمت أن طبقة الشعب هذه غير قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها أدركت أنه من الضروري أن تنمي فيها روح الخضوع والطاعة للحكام. وما دام من غير الممكن أن تعيد نفوذ الكنيسة الذي ربي هذه الروح في الماضي، فلابد إذاً أن تكبت كل الكبت المذاهب الدينية المختلفة السائدة الآن في بلادك والتي لا يفتأ بعضها يحارب بعضاً، وأن توجد أنت ديناً سياسياً من عندك يقضي بالإعدام على كل من يؤيد غير مذهباً الديني. ولن تستطيع أن تفعل هذا إلا إذا كان لك الإشراف المطلق على النشر والطباعة وعلى الإذاعة وكل وسائل الإعلان، وتسن إلى جانب هذا قانوناً يحظر تعليم أفكار أو مبادئ - كتابة أو شفهياً - من غير ترخيص من الحكومة، وإلا فالعقوبة الإعدام. فإذا ما فعلت كل هذا كان لك أن تأخذ الشعب بأي نوع من التربية تشاء، بشرط أن تتأكد أن هذا النوع الذي تختاره من التربية لا يشمل شيئاً من الحقائق أو العلوم، ولكنه مجموعة أكاذيب نبيلة تلائم أولئك الذين لا تسمو بهم عقولهم إلى مرتبة إدراك الحكمة الصحيحة ومعرفة الله.
المربي: شكراً جزيلاً على اقتراحاتك، وليس عندي من شك أنها تتفق ومبادئ حزب جديد نشأ عندنا يسمى الحزب الفاشستي فعليك برئيسه.
أفلاطون: لم أتشرف بعد بمعرفة رئيس هذا الحزب، فإذا كانت اقتراحاتي تروقه، فسأعمل على لقائه
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
إلى جمهرة أهل الأدب
للأستاذ إسماعيل مظهر
أوجه هذه الكلمة إلى جمهرة أهل الأدب في مصر والأقطار العربية على صفحات الرسالة إقراراً لحق يجب أن يُقر، ورداً لعادية ينبغي أن ترد، وتأييداً لدستور العرف المرعي بين الأدباء والناشرين وأصحاب الصحف على مختلف أنواعها
فقد نشرت مجلة الثقافة الغراء بحوثاً لحضرة الأب أنستانس ماري الكرملي نقداً على كتاب الذخيرة الذي نشره حضرة الأستاذ الدكتور جورجي صبحي بك الطبيب المصري المعروف، فتناول حضرة الأب ما شاء له علمه وبحثه أن يتناول من تصويبات في الكتاب، وحشا نقده وتصويبه بعبارات نال بها من حضرة الدكتور صبحي بك أشد النيل وأسف فيها شر إسفاف، فقد جاء نقده العبارات الآتية:
1 -
وهذا هو الجهل المركب الذي لا تركيب بعده وإن اجتمع جهلة العالم كله (العدد 81 ص 37 من الثقافة)
2 -
حقيقة أني لا أفهم كيف أن مثل هذا الطبيب حصل على شهادته وكيف يجاز له أن يكون أستاذاً مساعداً في الطب في الكلية المصرية وطبيباً معالجاً في القصر العيني وأستاذاً للغة القبطية والدهماوية (الديموطيقية) إلى آخر ألقابه العديدة (العدد 82 ص 40 من الثقافة).
3 -
لما اتضح أن هذا التصنيف (يعني كتاب الذخيرة) ليس لثابت بن قرة، وبان بالعكس أن واضعه قليل البضاعة في علم العربية، والكاتب قبطي من أهل المائة السابعة أو الثامنة للهجرة لجهله الألفاظ الطبية وتشويهه لها، وجهله الأحكام اللغوية ومسخه لها مسخاً شنيعاً، لم يبق ذريعة لإصلاح هذه الأضرار المتنوعة إلا جمع النسخ المطبوعة - وتبلغ الألف عداً صادقاً - وإحراقها وإزالتها من عالم الوجود صيانة لشرف ثابت بن قرة، وشرف الجامعة المصرية التي فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها لأنها سعت ببعثها في الدنيا، مروجة إفساد العربية، وباثة الألفاظ المشوهة، وصيانة أيضاً لشرف الدكتور جورجي صبحي الذي خسر كل ثقة من صدور عارفيه، إذا اشتهر عنه أنه لا يفهم ذرواً في العربية ولا يحسن الإنجليزية، ويسئ النقل من لغة إلى لغة، ومثل هذا الأمر في طبيب طامة
عظيمة لا تقدر نتائجها الوخيمة (العدد 84 ص 40 من الثقافة)
4 -
لو كنت وزيراً للمعارف في الديار المصرية لحكمت في أول يوم أتولى فيه الوزارة على الدكتور جورجي صبحي أن يؤدي جنيهاً مصرياً عن كل صفحة من صفحات هذه المذكرة المنسوبة ظلماً وكذباً إلى ثابت بن قرة. ولما كانت هذه الصفحات 186 في اللغة العربية و42 في اللغة الإنجليزية، فيكون مجموع ما يؤدي 228 جنيهاً، ويزاد على ذلك حبسه يوماً واحداً عن كل صفحة أيضاً، فيسجن 228 يوماً. فهذا أقل ما يستحقه هذا الرجل حتى لا يدفعه الغرور إلى نشر كتاب طبي آخر على هذا المثال المشوه ضناً بحياة الناس، وصوناً للغة الضاد، وتأديباً لمن يجرؤ على مجاراة هذا الدكتور في نشر الكتب وتشويهها تشويهاً شنيعاً فظيعاً، يكره في عيون الناس اللغة العربية والطب والعلماء على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم، لأن نتائج مثل هذا العمل السيئ إهلاك الناس أولاً وإفساد لسانهم ثانياً، ودفعهم إلى المباهاة بأضرار الخلق ثالثاً.
صاننا الله من هذه الشرور العظام الجسام، ووفقنا لخير الناس من خواص وعوام (العدد 84 ص 40 من الثقافة)
هذا طرف مما جاء في نقد الأب أنستاس الذي نشرته مجلة الثقافة الغراء. ولقد اتفق أني كنت عالماً بأن حضرة الأب سينتقد الكتاب، وأن لهذا النقد تاريخاً قديماً ووقائع ينبغي أن يعرفها أهل الأدب ليظهروا بنشرها على لون من ألوان الأدب في هذا العصر، وليعرفوا شيئاً من العوامل التي تختفي وراء كثير من النقود التي ينشرها حضرة الأب أنستاس في مختلف المناسبات فكتبت نقداً لما نشر حضرة الأب أنستاس وخصصت به مجلة الثقافة الغراء كالعرف السائر، وأرسلت النقد مع كتاب إلى حضرة الأستاذ أحمد أمين محررها. ولقد أرسلت النقد في الثامن والعشرين من أكتوبر فرد إلي في التاسع من نوفمبر مع كتاب من حضرة محرر الثقافة الغراء نصه الآتي:
(جاءنا مقالكم والذي دعانا لنشر مقال الأب أنستاس ما فيه من تصحيح علمي يسوغ لنا نشره. ولكن مقالكم - مع قيمته - معظمه تعريض بالأب أنستاس من غير مناقشة علمية فإذا سمحتم باختيار مقتطفات منه نشرناها وإلا فنحن معتذرون.)
أحمد أمين
ولقد توقعت أن نقدي سوف لا ينشر في الثقافة وكان السبب الأول لهذا أني وجهت بعض اللوم لحضرة الأستاذ أحمد أمين لأنه نشر في مجلته ألفاظاً وعبارات كتلك التي وجهها حضرة الأب إلى الدكتور جورجي صبحي وهو له زميل في الجامعة وأستاذ مثله فيها، ولأنه قبل أن ترمى الجامعة المصرية التي هو أحد أساتذتها وعميد كلية الآداب فيها بأنها فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها، وأنها تروج إفساد اللغة العربية وأنها تثبت الألفاظ المشبوهة!!
ولئن كبر على حضرة الأستاذ أحمد أمين أن يوجه إليه هذا النقد من كاتب، وعسر على نفسه أن ينشر هذا اللوم في الثقافة، فما كان أجدره أن يهذب نقد الأب ويطلب منه أن يرفع منه تلك الأقوال الثقيلة الجارحة، ولكنه قد أجاز نشر كلمات الأب ورضى بأن يحكم على زميل له في الجامعة أن يدفع غرامة مالية وأن يسجن تلقاء نشره كتاباً قديماً مشوه الأصل، فكيف لا يرضى لنفسه أن يلام وأن يوخز وخزة واحدة تلقاء ألف وخزة نال بها من أستاذ زميل له في الجامعة؟
وبأي حق يطلب الأستاذ مني ألا أعرض بالأب أنستاس ما دام قد أجاز للأب نفسه أن يعرض برجل من أفذاذ المصريين؟ أحرام علينا أن نعرض بالأب، حلال للأب وللأستاذ أحمد أمين أن يعرضا بالدكتور صبحي؟ ومن ذا الذي أعطى حضرتيهما هذا الحق وجعلهما فوق التعريض واللوم ما دام قد أجازاه لنفسيهما؟
فإلى جمهرة أهل الأدب عامة وإلى حضرة الأستاذ محرر الرسالة خاصة، أحتكم وأطلب الحكم، وآمل أن أنصف وأن ينصف معي الدكتور صبحي بك فينشر نقدي في الرسالة في العدد الذي يتلو العدد الذي تنشر فيه هذه الكلمة إحقاقاً لحق لا ينكره علي وعلى الدكتور صبحي إلا جرئ على حقوق الناس
إسماعيل مظهر
من وراء المنظار
مصري من الخارج
عرفته قبل أن يسافر ولقيته بعد عودته من الخارج، وأشهد لقد آمنت إيماناً لن يكون بعده جحود بما للخارج من عظمة، وتعاظمني ما بيننا نحن الشرقيين من بون في الحضارة وبين سادتنا الغربيين، حتى لقد أوشك يتملكني اليأس من أي إصلاح لحالنا، إلا أن نرسل جميعاً عالمنا قبل جاهلنا وكبيرنا قبل صغيرنا - اللهم خلا من سلف له أن سافر - بعثة واحدة في وقت واحد إلى بلاد الغرب لعود بعدها كأهل تلك البلاد لنا ثقافتهم ولنا ذوقهم ولنا أسلوبهم فيما يأتون من ضروب التفكير والأعمال ما جل وما هان
ولا يحملن القاري كلامي على اللهو والمبالغة، فالأمر أجل وأخطر من أن يسمح بشيء من هذا، ولو أنه رأى ذلك الذي أتحدث عنه، كما رأيته قبل سفره وبعد أوبته، لأيقن أني جاد كل الجد مقتصد غاية القصد فيما أقول، وحسبك أنه اغترب زمناً ثم عاد إلى وطنه العزيز وهو شخص آخر قد تغير تغيراً جوهرياً من جميع نواحيه إلا ناحية واحدة ستعلم نبأها بعد حين؛ وقد تم له ذلك على صورة أرى من الميسور معها على أن أصدق أن لماء التاميز وغيره من أنهار انجلترة فعلاً سحرياً، فما هو أن ينزل المرء فيه، أو أن يغترف منه غرفة فحسب، حتى يصبح مهما كانت جنسيته، بل إنه ليصبح وإن لم تك له جنسية إلا تلك الحلقة المفقودة التي لفقها خيال العلماء، إنجليزي المظهر والجوهر والخلق!
ما ذهب صاحبنا هذا مذهباً في حديث له إلا جعل غايته تلميحاً أو تصريحاً أن يلقي في روع السامع أنه كان في انجلترة، وأنه بذاك فوق مستوى من لم يتواف له مثل حظه مهما تكن مكانته؛ وكيف يكون لمن لم يحظ بذلك مكانة في نفسه على أية صورة من الصور؟ كذلك يعتقد ذلك الأستاذ الذي يتندر تلاميذه فيما أعلم من عبثهم أنهم يحصون عليه إشاراته إلى ذلك الشرف في دروسه، وإن أحدهم ليراهن صاحبه على درس يأمل أن ينسى فيه الأستاذ ذكر ذلك، ولكنه يخسر كل مرة، حتى لتحدثه نفسه أخيراً أن يذهب إلى أستاذه فيتوسل إليه أن ينسى مرة واحدة وله ما شاء بعدها من الإذعان والمودة!
وكيف ينسى الأستاذ، وإن هذا الأمر ليجري في نفسه مجرى النفس في رئتيه لا يكاد يستغني عنه لحظة؟ وأول ما يستطيل به عليك - إذا اغتررت بنفسك فطاولته، وأول ما
يشتكي به إليك إذا اطمأن إليك فأفضي إليك بهمه على الرغم مما يتقلب فيه من نعمة أنه رجل وليعذرني القارئ إذا ذكرت عبارته كما يوردها، فإني لأخشى ألا يؤدي تعريبها ما يريد من معنى، فيضيف بذلك إلى أدلة جهلي عنده دليلاً آخر، ولا تنسى أن من لم يذهبوا إلى الخارج هم عنده جميعاً جهلاء أدعياء!
وهو لا يسمح أن تكون كفايته موضع شبهة من أحد رئيساً كان أو مرؤوساً، وإنه ليخطئ الخطأ في جدله لا يختلف اثنان في أنه خطأ، ومع ذلك فإنك لتزحزح الجبل الراسخ من موضعه ولا تزحزحه هو عن موقفه بأية وسيلة من الوسائل؛ ويظل في مكانه لا ينحرف قيد شعرة، ولن تزداد أنت بمحاولتك عنده إلا أنك تمعن في المكابرة وتسرف في الحمق وتبالغ في الغفلة؛ وإنه لن يؤمن أنه يخطئ إلا إذا كان أحداً ممن اغتربوا ولو إلى قبرص!
وليته يقف عند هذا الحد، فإنه ليقحم نفسه في كل جدال فيستمع لحظة حتى إذا قرر أحد المتكلمين أمراً جابهه بأنه يقرر الخطأ قائلاً:(لا، هذا خطأ) يقولها في غير مراعاة منه لأي وضع من أوضاع الذوق، ثم يزيدك نكداً بأن يسمعك نصف عبارته الإنجليزية ونصفها بالعربية، ولقد يستكثر النصف على العربية أحياناً فلا يأتي منها إلا ببعض ألفاظ؛ ويمعن في الكيد لك فيستدل على رأيه بما قرأ من كتب يذكر أسماءها، والله يعلم نصيب كل منها من الوجود! ولن يذكر فيما يستدل به من الكتب اسم كتاب عربي. وكيف يفعل هذا وهو لا يتورع أن يقول في صراحة إنه يضن بريال من ماله على شراء أي كتاب عربي بينما يدفع جنيهاً كاملاً ثمناً لأي كتاب إفرنجي؟!
إذا صرفت النظر عن طربوشه وسحنته فأنت منه - إذا تبقى بعد ذلك شيء - حيال إنجليزي لا حيال مصري؛ فسرواله وحلته وحذائه كلها إنجليزية اللون والتفصيل، وغليونه إنجليزي الوضع والهيئة والحجم، وأسلوبه في تفريغ ذلك الغليون بدقة على كعب حذائه وفي حشوه وإشعاله أسلوب إنجليزي على رغمي ورغم غيري من الذين ينكرون عليه كفايته، لأن الغيرة تملأ نفوسهم والحقد يوغر صدورهم.
وإنه ليدق الأرض دقاً بحذائه الغليظ إذا مشى، ويومئ برأسه مع كل دقة إيماءة الكبرياء، فيكون في ذلك إنجليزياً أكثر من الإنجليز أنفسهم؛ وهو يكمل بذلك أدلته على أنه قد صار أحد هؤلاء الإنجليز الذين أخذ عنهم؛ وإني لن يسعني مع هذا إلا أن أسلم له بأنه حقاً، وإلا
ثمة من فرق بينه وبين من يشتبه بهم؟
ويسيطر على سلوكه خيال إنجليزيته سيطرة عظيمة عند علماء النفس تأويلها؛ أما أنا فعملي عمل المصور الخبيث، فأراه إذا تكلم الإنجليزية مثلاً - وقل أن يتكلم غيرها - يلعب بفكيه لعباً لن أستطيع أن أنكر ما فيه من مهارة، وإلا كنت مكابراً حقاً. وأراه يلعب دور الملحن أيضاً فهو لا يقنع بالمبالغة في إمالة ما يتطلب الإمالة من الحروف، ولا بتفخيم بعض الألفاظ وترقيق البعض، ولا بمد أواخر كلمات واختطاف أواخر كلمات غيرها، ولا بالإتيان بغنة هنا وشنشنة هناك، ولا هناك، ولا بقلقلة لسانه فيما يقابل (الراء) عندنا من الحروف ليخرجه بعد حشره بين وسط اللسان وسقف الفم. . . لا يقنع بذلك كله وإنما يحاول أن يكون صوته كصوت الإنجليز فلا يتسق له وا أسفاه إلا خليط من اللغط والمواء يحمل أشد المحتشمين على الضحك. ولقد رأيت أحد الإنجليز يستمع إليه وهم أهل كياسة ودماثة، فلم يتمالك نفسه من الضحك فحجب وجهه بورقة في يده وضحك ملء نفسه ثم عاد يحاول في جهد الاحتشام والوقار. . .
وإذا اضطره إلى العربية جانب من عمله جاءك بها في ثوب إنجليزي وتسمعها على لسانه غريبة أكثر عوجا ولكنه في جرسها وإخراجها مما لو جرت على لسان أحد أساتذة إكستر أو لفربول وقد تعلمها منذ أسبوعين!
وهو برم بمجتمعنا وتقاليده، فكل شيء فيه سخيف عنده؛ وإنه ليتعرف لديك في غير تحرج أو استحياء أنه لا يزور ذوي قرباه إلا كل عامين أو ثلاثة لأن صدره يضيق بما يرى بينهم من تقاليد وعادات بالية عتيقة. رجا منه مرة أحد أصدقائه ألا ينسى أمراً من الأمور، فهال الصديق أن يراه يغضب أشد الغضب ثم يصعر خذه ويشمخ بأنفه قائلاً: (أنا أنسى ، ?
وليس للفن المصري في رأيه أثر في الوجود، ولا للموسيقى المصرية وقع في النفس، ولا للأدب نصيب من لا حياة، ولا للحياة المصرية كلها وضع من أوضاع الذوق. . .
وبعد فليت هذا الذي يتشبه بالإنجليز هذا التشبه؛ يحاكيهم في غير الحلة والحذاء والغليون واللهجة! نعم ليته ينقل عنهم بعض ما بهروا به العالم من خلفهم، بل ليته علم أن الإنجليز أبعد الناس عن التقليد السخيف لأنهم لا يرون بينه وبين الصعلكة كبير فرق!
ليته نقل علمهم وأتقن أسلوب تفكيرهم، ثم اقتنع بهذا الجد وحافظ على مظهر قوميته وروح وطنيته، وإن بعض إخوانه ليعود إلى وطنه وما أغناه ماء التاميز عن ماء النيل، وما إن يرضى بأن يقيم من نفسه دليلاً على شعوره بحقارته!
وما لهذا المتكلف وللعلم وبيده (رخصة) بأنه كفء على الدوام أحسن أو أساء؛ وما به حاجة إلى أن يعمل فهو سابق غيره إن جد وإن أهمل بحكم هذه الوثيقة بل هذه الحجة الدامغة التي تغني عن كل شيء! وإن وثيقته هذه لتذكرني (بصكوك الغفران) التي كانت تبيعها الكنيسة للناس في العصور الوسطى فتغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، أو بما يكون لصوم يوم عاشوراء عند السذج من عامة المسلمين من جزاء في الدنيا والآخرة. . .
وإن إكبار المجتمع لمثل هذا المصري الآتي من الخارج ليجري على أسلوب كأسلوب العوام الذي تراه في مثل قولهم: (فلان متربي في بلاد بره) أو كأسلوب بعض جهلاء الذوات في الجيل المنصرم عندما كانوا يقولون (فلان جي من استنبول)
لقد ذهب الزمن الذي كان يراد فيه وضع هؤلاء القادمين من الخارج مهما يكن من عجزهم موضع التفوق ومات الغرض من ذلك بتيقظ قوميتنا وانبعاث نهضتنا؛ فختام نشهد على أنفسنا بالضعة ونقدح في كفاية معاهدنا وأساتذتنا؟
يا معالي وزير المعارف! لأنت أحد أساطين نهضتنا القومية المباركة، فمن غيرك اليوم يقتلع هذا الداء من أصوله ويقول لمن يعمل: المكافأة على قدر العمل، وقيمة كل امرئ ما يحسن! بذلك تقضي معاليك على عيب من أهم عيوب التعليم في هذا الجيل الذي يرتقب الخير على يديك.
الخفيف
-
بواب مصر.
. .
السنيور (جرزياني)
بوابَ مصرٍ قف بجنب الباب
…
أرأيت في الصحراء غير سراب
حرب ولا مثل الحروب، عجيبة
…
دعوى المودة من عِدىً أو شاب
تركتك مصر بموضع ما اختاره
…
من قبلُ أقوامٌ ذوو ألباب
سجل أسرت به جنودك طِّيعاً،
…
حسناً فعلت بجيشك الغلاب!
فلتبق حيث اخترت في مهجورةٍ
…
واسمع صداك جوابَ غير مجاب
يكفي عقاباً للجهول وقوفُه
…
في موقف يكفيه كل عقاب
البحر عن يسراك فارشف رشفة
…
وانعم بأمواه لديك عِذاب
والرمل عن يمناك فأطعم سائغاً
…
ما شِئت بين رُبى وبين هضاب
بابٌ لمصرٍ لم يجادلك امرؤ
…
فالزم مكانك فيه كالبواب
عبد اللطيف النشار
غَنّ.
. .
أيها الشاعرُ قُمْ وانْقُرْ عَلَى
…
عودِك الحانِي وَرَدِّدْ أغنياتِكْ
إنما أنتَ شُعَاعْ
…
عن قريبٍ يغربُ
وأمانيكَ خداعْ
…
وسرَابٌ يكذبُ
اركب الزَّوْرق واسْبَحْ فغداً
…
لا ترَى الزَّوْرقَ يجْري ويَهيم
واجمع الطيرَ حواليْك وكنْ
…
أوَّل الشادينَ ألحانَ النعيم
وارْتَشِفْ أكوابك السكري ففي
…
هذه الأكوابِ صفوٌ مستديم
وابتذِلْ دنيا الجياعْ
…
فهي هم يَنهبُ!
وهي عنْف وصِراعْ
…
وضَجيجٌ متْعبُ!
موكبُ الدنيا يُغَنِّي لحَنه
…
فانَتِظمْ في موكب الدنيا وغَنِّ
العذارَى يتهادين به
…
راقصات فيه في صفْو وأمْنِ
قُمْ تَرَنَّمْ، قمْ وسَبِّحْ للهوى
…
وانْسَ ما تحمِل من وهم وحزْن
وانهب الحسن المشاعْ
…
فقريباً يذهبُ
إنما الدنيا متاعْ
…
ونعيمٌ طيبُ
عبد العليم عيسى
رسالة الفن
شيء قديم
السلطنة
(مع سلام الله ورحمته وبركاته إلى فضيلة الأستاذ عبد الفتاح
خليفة، مفتش الخط المتصوف بوزارة المعارف العمومية)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
الذين يسمعون الغناء في هذه الأيام معذورون إذا كانوا لا يعرفون ما هي السلطنة، وهم معذورون أيضاً إذا سخروا من ذكرها وحسبوها رقاعة قديمة كان المغنون القدماء يصطنعونها تهريجاً منهم وتحلية لبضاعتهم، وكان الجمهور القديم يحتملها صبراً منه، وتضييعاً لوقته الطويل الرخيص الذي لم يكن ينتفع منه بشيء. . . وهم معذورون في هذا وذاك لأن السلطنة قد انعدمت من عند المغنين في هذه الأيام أو كادت تنعدم. والجمهور اليوم يسمع عنها - إن كان يسمع عنها - فلا يتصورها إلا نوعاً من أنواع التحكم الثقيل الممقوت يفرضه المغني فرضاً على جمهوره تهياً منه ودلالاً واستكباراً، فقد قيل لهذا الجيل إن المغني القديم كان لا يرد إلى المكان الذي سيغني فيه إلا بعد أن تمضي من الليل ساعات. . .
وإنه بعد هذا كان يطلب خمراً أو شيئاً آخر غير الخمر يقلب به دماغه ويغيب به عن وجوده، وإنه بعد ذلك كان يرجو أن إنساناً حلواً يقرب منه ليشاهده وهو يغني، وهو فوق هذا وذاك كان يصر على أن يصحب معه نفراً من الناس لا هم عازفون ولا هم مغنون وإنما هم مستمعون فقط يحبهم ويؤثرهم ويجرهم وراءه من حفلة إلى حفلة، ويجرون هم وراءه من فرح إلى فرح، والواحد منهم يعدل عنده ألفاً من وجهاء الناس الذين يدعون إلى سماعه والذين يجاملونه بالتطيب الرقيق والتشجيع الناعم. . .
وإنه بعد هذا كله لم يكن حضرته يغني إلا إذا تسلطن، وهو لا يتسلطن إلا بعد أن يقضي أفراد تخته زمناً طويلاً في تصليح آلاتهم، وبعد أن يعزفوا بشرفاً، وبعد أن يغنوا توشيحاً،
وبعد أن يقسم صاحب العود بعوده تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يتلوه صاحب القانون فيقسم هو أيضاً تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يعقبه صاحب الكمان فيقسم كذلك تقسيمات كثيرة أو قليلة، ربما بعد أن يغني واحد من أفراد التخت أغنية طويلة أو قصيرة، هذا كله وبعد طلوع الروح يبدأ حضرة المغني فيغني، فإذا نشط في غنائه قيل إن حضرته تسلطن
هذه هي الصورة التي يتصورها أهل هذا الجيل عن السلطنة، وهي صورة تنطبق على الحق وعلى الذي كان واقعاً، وإذا كان أهل هذا الجيل الذي نعيش فيه يكرهونها ويسخرون منها ولا يطيقون أن يرزءوا بها فإنما ذلك يرجع إلى أنه قد فاتهم تعليل كل ظاهرة من ظواهر هذه الصورة. . .
ولو أنهم عرفوا لأي سبب كان القدماء يحبون السلطنة من المغنين ويستجدونها منهم استجداء ويتكلفون تهيئتها لهم تكلفاً قد يرهقهم في أغلب الأحيان. . .
لو عرفوا هذا. . . إذن لأسفوا لأنهم قد حرموا اليوم ألذ متعة فنية قضى عليها جيلنا الحديث المتعجل الذي يستمع الناس الغناء فيه وكأنهم راكبون في قطار، يعدون على المغني أغانيه كما يعد ركاب القطار عليه المحطات؛ ويهرعون إليه قبل موعد الستار كما يهرع الركاب إلى القطار قبل موعد القيام، وينفضون عنه بعد الوصلة الأخيرة كما ينفض الركاب من القطار في محطة الوصول. . .
فلا تذوق، ولا استسلام، ولا واحد من المستمعين هؤلاء يتأخذ بالغناء، ولا واحد من المغنين هؤلاء يغزو نفساً من نفوس مستمعيه. . . وإنما هو (سلق بيض) كما يقول عامتنا الحكماء. . .
كان المغني القديم لا يحافظ على ساعة محددة يحضر فيها إلى الحفلة، وإنما كان يجعل موعده ليلة الحفلة بأكملها، فيحضر إليها وقتما يحضر. قد يبكر وقد يتأخر غير متعمد تبكيراً ولا تأخراً وإنما الذي يتعمده هو أنه لا يذهب إلى هؤلاء الناس الذين جاءوا ليستمعوه إلا بعد أن يستوفي راحة بدنه على الأقل، بأي صورة ما من صور الاستجمام تريحه هو.
ثم إذا جاء إلى مكان الحفلة طلب الخمر أو غير الخمر من قالبات الدماغ، لأن الغناء عورة
من عورات النفس، لا يسهل على الإنسان أن يكشفها لغيره وهو يقظ منتبه إلا إذا كان فاجراً، فإذا كان فاجراً لم يكن مغنياً، لأن الغناء فن يستلزم في النفس حناناً ورقة ورحمة وشوقاً وأملاً ولهفة ورجاء وحباً وعطفاً ورضا وتضحية، وكل هذه عواطف بعيدة عن نفوس الفجار. . .
فإذا انقلب دماغه واستخفته الخمر وغاب عن رشده وهان عليه أن يفضح نفسه وأن يكشفها عارية للناس، لم يرضه أن يكشفها لكل الناس، وإنما يرضيه أن يتعرى أمام الذي يعجبه هذا العري، والذي يرحم هذا العري، والذي يستجيب لهذا العري، والذي يكشف بالسماع من نفسه مثلما المغني من نفسه بالغناء. . .
وهذا هو الإنسان الحلو الذي كان المغني القديم يطلبه قريباً منه ليشاهده ويغني له، ولينسى به أنه قد تعرى أمام جمهور من الناس
والحلاوة في الإنسان تختلف، ولكل مغن ذوق هو ناشئ عن تكوين نفسه، فكما كانت حلاوة روحه كانت حلاوة مشهده. . .
والناس أجسام هي صور لأرواح محبيهم وعشاقهم. . .
ولا ريب أن هذه حال تشبه أن تكون موقعة بين المغني ومشهده الحلو، والمواقع لابد أن يحضرها شهود، والشهود هؤلاء ليست مهمتهم الحكم على المغني في آخر الليل بأنه انتصر أو بأنه فشل، وإنما مهمتهم أن يرقبوه وأن يرقبوا سامعه، وأن يتابعوهما بالإيحاء والتنبيه والتحريض و (تسجيل النقط) والتحميس والتطيب وغير ذلك من وسائل تفتيح النفس وإرهاف الحس وإشعال الروح. . . وهؤلاء الشهود هم أولئك المستمعون الذين يجرهم المغني وراءه من حفلة إلى حفلة، والذين يجرون وراءه من فرح إلى فرح. وهو يحبهم وهم يحبونه. أما هو فيحبهم لأنه يشعر بأنهم يتلقون خفقات نفسه ووثباتها فلا تضيع منها خفقة في الريح، ولا تذهب منها وثبة إلى العدم، فهم مسكن روحه ومأوى نفسه ونصراؤه المستجيبون له.
وأما هم فيحبونه لأنهم يرونه كأنما هو قائد لهم، إذا أن فكما كانوا يريدون أن يئنوا هم لو أن نفوسهم تفتحت تفتح نفسه، وإذا حن فكما كانوا يريدون أن يحنوا هم لو أن نفوسهم فاضت كما تفيض نفسه، وإذا هم فكما كانوا يريدون أن يهموا هم لو أن نفوسهم فزعت
وارتعشت كما تفزع نفسه وترتعش. . . هم من لونه وهو من لونهم ولكنه أشدهم تميزاً في لونه، وأشدهم تمكناً من لونه وأشدهم انطباعاً على هذا اللون. . .
هم جمهوره. . .
فإذا جاء المغني إلى مكان الحفلة أو الموقعة، وتسلح بالخمر واستحضر شهوده، وواجه غريمه الحلو الذي ينتصر له الحاضرون جميعاً، والذي تجندت مع روحه أرواح المئات من المستمعين قاصدة تعزيزه، أو غير قاصدة وإنما تعززه بطبيعة الفضول المنساب منها إلى روح المغني يناوشه ويهاجمه ويقلقه. . .
إذا ما كان هذا استنجدت روح المغني بأرواح أفراد فرقته وهم جيشه، فما تلبث هذه الأرواح حتى تهب له ملبية، ولكنها قبل أن تبدأ الهجوم تستشير فيما بينها إن بالكلام وإن بالصمت عن موضع الضعف الذي يمكنها منه أن تبدأ الغزو فإذا لمست في الغريم ألماً وشجواً أرسلت إليه الحنين (سيكا) وإذا أحست منه استعصاء وصلابة رققته بالحجاز، حتى إذا ما اتفقت على مدخل روحه من أين هو، أرسل المغني وهو القائد أول رائد من رواده يناوش الغريم فإذا هي تقسيمات من الكمان أو القانون، هذه التقسيمات ليست إلا ومضات من الروح تعرض على السامعين وعلى رأسهم السامع المقصود بالذات، وهو كما علمنا من البدء معشوق للمغني بالفعل أو بالقوة، فبينه وبين المغني وأفراد جيشه وشهوده تلاؤم وتعارف مستكنان، وود متحفز للانطلاق، فإذا لم يقو على إطلاقه الرائد الأول بالكمان، استثاره الرائد الثاني بالقانون، فإذا لم يقو عليه هذا أيضاً نكثه الثالث بالعود، ثم كان البشرف كالنفير الذي ينفخ فيه نداء وتحفيزاً، ثم كان التوشيح كالمارش الذي يعزفه الجيش في أول الهجوم، ثم يبدأ المغني بعد ذلك يسدد طعناته طعنة في كل (ليل) يهتف بها، وفي كل (آهة) ولكل ليل معنى يتضمنه نغمها، ولكل آهة رجع مبثوث فيها، وليست هي أشكال صوتية صماء من المعنى والروح كهذه الآهات والليالي التي نسمعها اليوم فلا نعرف إن كان فيها فرح، أو كان فيها يأس، أو كان فيها رضا، أو كان فيها هم أو كان فيها غم
ويبدأ الهدف الحلو يضعف وينساق، ويبدأ المغني يعلو ويتمكن، ويجر الهدف الحلو وراءه تابعاً، ثم تابعاً وأفراد الفرقة والشهود يجذبون هم أيضاً الأتباع أفواجاً أفواجاً. . . حتى يشعر المغني بأنه لم يعد يتحرج ولم يعد يخجل من أن يكشف نفسه لأمة لا لفرد، فكل
عيوب نفسه الآن فضائل ما دامت لها أصداء في نفوس الناس جميعاً وما دام هو وحده القادر على نثرها مستطابة مشتهاة. . . لا يقصد منها قضاء الوقت، ولا تحصيل الأجر، فما خلف واحد من هؤلاء ثروة. . .
عندئذ وعندما تكمل له السيطرة على هذا النحو يقال إنه تسلطن، وهو في الحق تسلطن على كل من في حضرته فما ينفذ من سلطنته إنس ولا جان. . . إلا لسلطان
وهذه حال لا يشبهها إلا حال الشيخ أو الأمام مع أتباعه. . .
ولكن أي إمام؟. . . إمام من غير المحترفين. . . قلبه يعرف الله. . .
عزيز احمد فهمي
البريد الأدبي
عراك في غير معترك
أرسل إلينا الأستاذ محمد متولي كلمة بعنوان (صورة) يرد بها على الأستاذ زكي طليمات فرأينا أن نقتصر منها على الجملة الآتية إيثاراً لخطة الرسالة من جهة، وإبقاء على ما بين الصديقين من جهة أخرى، والموضوع على كل حال لا يحتمل أكثر مما قيل فيه. قال الأستاذ متولي:
ولقد أقرر أن زكياً يهزل ولا يجد فلا يليق أن نشركه في المسائل العقلية، وإلا أضعنا وقتنا هباء دون أن نصل معه إلى نتيجة، وسأضرب مثلاً بمسألة واحدة مما هو شائع في مناقشاته
1 -
قال في رده الأول (وقبل أن ننتقل من هذا نود أن يقف القارئ على آراء علماء اليوم فيما كتبه ريبو) وبعد سطور قال أيضاً إن كلام ريبو (قد أصبح موضع نظر بعد أن بين الفيلسوف الأمريكي المعاصر وليم جيمس) كيت وزيت
2 -
وأنكرنا عليه أن يصف جيمس بالمعاصر وقد توفي قبل ريبو بست سنين، فعاد إلى كلمة معاصر يحاول أن يفسر معناها، وأنا شخصياً أعرف هذه الكلمة منذ خمسة عشر عاماً، وقد طالما سمعتها في دروس الجامعة المصرية من أستاذي أبل راي وأندريه لالاند، وكثيراً ما استعملتها بين أيديهما فلم أعرف لها غير معنيين وردا في معجم لاروس، في قوله
- وهذا معناه أن المعاصر هو من يعيش مع غيره في وقت واحد فنقول إن فولتير وفرانكلين كانا معاصرين. كذلك المعاصر هو من يعيش في الوقت الحاضر فنقول معاصرونا
ونحن حيثما ذهبنا مع زكي وبشر لن نجد أكثر من هذين المعنيين لكلمة معاصر - ولنذهب لتروا ضلال الفارسين
(1)
ينقل زكي أن قال. ' ' وهو كلام صحيح، لا كما فهمه بشر وزكي، ولكن لأن معناه أن روح العصر هي مجموع الأشياء التي تقبلها جماعة على أنها حقائق في فترة معينة، فما دخل هذا في أن ريبو أحدث من جيمس؟! ربما أراد الفارسان أن يضيفا
إلى كلمة معنى لا يعرفه أهل اللغة الفرنسية، وربما يصدران غداً (أمراً عسكرياً) باعتبار أرسطو أو نتشه أو كانت سبنسر أو غيرهم ممن تنفذ تعاليمهم خلال القرون نقول ربما يصدر الفارسان (أمراً عسكرياً) باعتبار أولئك جميعاً معاصرين برغم ما بيننا وبينهم من مئات السنين
(ب) إميل زولا (المتوفى 1903)، وألفونس دوديه (1840 - 1897) وفلوبير (1821 - 1880) وموباسان (1850 - 1893) وشارل بودلير (1821 - 1867)، وفيرهارين (ولد 1855) وفرلين (ولد 1844) ومالارميه (ولد 1842). كل أولئك عاشوا معاً أياماً بعينها، كما هو واضح في تلك التواريخ، فهم معاصرون بنسبة بعضهم إلى بعض، ثم هم يمثلون الفكر الفرنسي في عصر بذاته، والحال هنا كما لو أردنا أن نؤرخ للفكر المصري في هذا العصر، فتحدثنا عن: شوقي والعقاد وحافظ والزيات ومحمد عبده وطه حسين وقاسم أمين ومن إليهم فهؤلاء يمكن أن يمثلوا روح عصر مجتمعين
في أجرومية اللغة الإنكليزية
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير الرسالة الغراء:
ذكرني تعليق الأستاذ عبد الغني حسن على ترجمة الأستاذ العقاد بحادثين لاثنين من المدرسين أحدهما إنكليزي يدرس العربية، والآخر مصري يدرس الإنكليزية، وكلا الحادثين يدل على أن الاجتهاد والجدة ينشئان نوعاً من (الحنبلية) قد يسفر عن ظرف محض، وإن كانت الحنبلية في أغلب الأحيان لا تسفر عن ذلك
أما المصري الذي كان يدرس الإنكليزية فهو مجتهد مثابر على حفظ القواعد الجديدة عليه حتى كادت تنسيه قواعد لغته. قيل له أعرب كلمة جداً في قولك أحبك جداً، فأجاب على الفور: أحب فعل والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به، وجداً يا أفندم، وجداً. . . جداً إنها ليست وصفاً فهي لا تصف الاسم ولكنها تتمشى مع الفعل
أما الحادث الثاني فهو لمدرس إنكليزي كان يؤدي امتحاناً في وزارة المعارف المصرية وقال له الممتحن أسند فعلاً إلى الضمائر، فأجاب وهو لاجتهاده قد حفظ الضمائر ونسي الأفعال:(أنا مالكش دعوى. أنت مالكش دعوى. أنتم مالكش دعوى. نحن مالكش دعوى. هم مالكش دعوى. هن مالكش دعوى. هي مالكش دعوى. أنتن مالكش دعوى. . .)
عبد اللطيف النشار
المجمع العلمي المصري وكتاب الأخلاق
عقد المجمع العلمي المصري جلسته الأولى بعد العطلة الصيفية فألقى حضرة القس بولس سباط أحد أعضائه محاضرة عن كتاب نفيس عنوانه (علل اختلاف الناس في أخلاقهم وسيرهم وشهواتهم واختياراتهم) لقسطا بن لوقا العالم الكبير والطبيب الشهير في القرن التاسع
ذكر القس سباط في هذه المحاضرة أن لقسطا بن لوقا ثلاثة وستين مصنفاً وأن كتابه في الأخلاق أثر ثمين من الآثار العلمية التي تركها لنا العلماء المسيحيون القدماء، وختم المحاضرة بقوله:(أنشر هذا الكتاب راجياً أن يستفيد القارئ بمطالعته ويقدر عبقرية المؤلف وعلمه، فقد وصف قسطا بن لوقا في هذا الكتاب فوراق البشرية وصفاً بديعاً ورسم لنا بخطوط بارزة صورة للنفس الإنسانية يرى كل واحد منا صورة ميوله وشهواته ويلم بأسبابها فيجتهد في تهذيبها بما حباه الله به في القوى العاقلة التي تميز بين الخير والشر والنافع والضار)
عثر القس سباط على مخطوط من هذا الكتاب في مدينة حلب فاهتم بدرسه والتعليق عليه وترجمته إلى اللغة الفرنسية وسيبادر المجمع العلمي المصري قريباً إلى طبعه مع الترجمة فيضيف مأثرة جديدة إلى المآثر العديدة التي من بها على العام العربي.
وفاة السير جوزيف طمسن
توفي السر جوزيف طمسن وهو من كبار علماء الطبيعة في العقد التاسع من سنه
واشتهر السر جوزيف هذا بإعلانه سنة 1897 اكتشاف ما يعرف الآن باسم الإلكترون وهو أصغر ما عرف من أجزاء المادة وأصغر مما كان يعرف باسم الجوهر الفرد.
ولما أذاع اكتشافه هذا في العهد الملكي قول بالشك الممزوج بكثير من السحرية. قال يصف مقابلة خطبته التي أذاع بها في المعهد هذا الاكتشاف:
(فلم يصدق كثيرون وجود هذه الأجسام التي هي أصغر من الجواهر بل إن عالماً طبيعياً مشهوراً قال لي بعد زمان طويل من إلقاء الخطبة إنه ظن أني أسخر بسامعي. فلم يدهشني
قوله لأني أنا نفسي كنت أشك في اكتشافي وتعليله)
هل موسى عليه السلام مصري أو عبري؟
نقلت مجلة (الرسالة) الغراء في العدد (383) عن الأستاذ (فرويد) أنه كان يذهب إلى موسى عليه السلام كان مصرياً لا عبرياً، وقد أيد رأيه في ذلك بأن موسى كلمة مصرية بمعنى عبد وذلك كما وردت في كلمة (تحوتمس) بمعنى عبد تحوت، ولكن هذا لا يمكن أن يؤيد رأي الأستاذ فرويد في أن موسى عليه السلام كان مصرياً لا عبرياً، لأنه لا يلزم أن يكون الشخص من أهل لغة من اللغات إذا سمي باسم من أسمائها، وهانحن أولاء الآن نسمى أولادنا بأسماء غير عربية، ومع هذا يبقي أولادنا عرباً ولا تؤثر فيهم هذه التسمية
على أن هناك أمراً أهم من هذا في هذه المسألة، فقد قرأت في بعض الكتب القديمة أن اسم موسى سرياني مركب من كلمتين (مو - و - شا) مو هو الماء بالقبطية، وشا هو الشجر، فعرب وقيل موسى، وإنما سمي به لأنه وجد بين ماء وشجر، ولا شك أن هذا النص صريح في أن كلمة موسى سريانية أو مصرية، ولكنها ليست بمعنى عبد، بل بمعنى ماء وشجر، فبأي الأمرين نأخذ في هذه الكلمة؟ ولا شك أن جواب هذا عند علماء الهيروغليفية، وليس عندنا معشر علماء العربية
عبد المتعال الصعيدي
موسى
ذكر الأستاذ صديق شبيوب أن فرويد قال في كتابه عن (موسى) إنه كان مصرياً مستدلاً على ذلك باسمه لأن كلمة (موسى) مصرية معناها الطفل أو العبد بدليل اسم الملك (تحتمس) أو (تحت موسى) أي عبد (تحوه) فيكون اسم موسى اختزالاً كما نقول بالعربية عبده أو عبد الله والصواب أن كلمة موسى ليست مصرية وليست بمعنى (عبد الله) كما التبس ذلك مرة على الدكتور زكي مبارك عندما قال إن كلمة شنوده بمعنى عبد الله أيضاً. فكلمة عبد الله عند الفراعنة هي (باك) مثل (باك إن أمون) أي عبد الإله أمون وغير ذلك
ولما كان فرعون هو الشخص المؤله على الأرض أمام شعبه فكان على بعض الفراعنة أن يتخذ لنفسه اسماً يثبت به أنه الوارث الشرعي للعرش وأنه من نسل الآلهة ومن هنا أتت
كلمة (تحتمس) أي (تحوه مس) المولود من صلب الإله تحوتي إله العلم والحكمة عند قدماء المصريين والأمثلة على ذلك كثيرة، ولذلك أساطير طويلة
أما الرد على الأستاذ بكر هلال فيما يختص بسؤاله عما إذا كان موسى من حاشية الملك الفيلسوف أخن أتون أو غيره فلم يهتد إلى ذلك أحد قط، وكل ما ذكر هو من الحدس وبالاستنتاج ولم تذكر الآثار شيئاً، وكل ما هنالك عن خروج بني إسرائيل من مصر مكتوب على لوح من الجرانيت موجود بالمتحف المصري من عهد الملك منفتاح، ولكن هذا لا يبرر خروجهم في عهد هذا الملك إذ المفروض أنهم خرجوا من مصر قبل ذلك بكثير.
ونرجو الله تعالى أن يوفقنا إلى البحث عن حل لهذه المعضلة التاريخية الدينية قريباً.
محمد صابر
مؤلف كتب الفراعنة
معنى سوى
جاء في كلمة الأستاذ على متولي السيد عدد 386 هذه الجملة:
(نهزج (سوياً) بأغرودة السعادة). . . فقد استعمل (سوياً) بمعنى (معاً). والذي ورد في كتب اللغة أن سوياً بمعنى مستو
جاء في القاموس في مادة (سوى): (ومكان سوى كغني وسي كزي مستوٍ، وسواه تسوية جعله سوياً)، وفي القرآن الكريم:(فتمثل لها بشراً سوياً) أي مستوياً تام الخلق.
فخري الدين غزي
ملاحظة على قصيدة طلع الفجر
قرأت في العدد 386 من (الرسالة) قصيدة عنوانها (طلع الفجر) للأستاذ عزت الهجين، فأعجبني فيها قوة الأسلوب وبراعة التصوير. . . إلا أن كلمة أرى من حق الأدب على أن أبعث بها إلى الرسالة
بدأ الأستاذ قصيدته بلون من الشعر أسبغه على ثلاث أبيات منها، ثم تحول فجأة إلى لون
آخر، وإن كان المعنى ما يزال موصولاً. وقد ورد البيت الثاني هكذا:
فاصح يا حلو قد صحا الور - د وطاف النسيم بالأقداح
ولعل صحة البيت:
فاصح يا حلو واستمع قد صار الور - د وطاف النسيم بالأقداح
حتى يستقيم الوزن ولا يختل المعنى. وما عن هذا أتساءل؛ ولكن أما كان يصح للناظم إذ نظم من بحرين مختلفين أن يجعل للأول نصيباً من باقي أبيات القصيدة حتى لا ينتقل القارئ أو السامع من نغم موسيقى إلى نغم آخر من غير وجود آصرة تربط بينهما حتى النهاية؟؟
وقد ورد لحضرته أيضاً: فتعال إن روحي ظمئت (يخاطب حبيبه)، ثم عاد فكرر الكلمة - فتعال - في قوله:(فتعال إنه يوم ألهنا) مما يضطر إلى إشباع اللام حتى يستقيم الوزن، على أن مثل هذا الإشباع لا يجوز إلا في القوافي من القصائد
وبهذه المناسبة أقول إن الرسالة كانت قد نشرت بالعدد 293 قصيدة للأستاذ إيليا أبو ماضي، عنوانها (ابنة الفجر) وقد ورد فيها مثل هذا الإشباع - غير الجائز - لحرف من الحروف فنبهت إليه وعلقت عليه
علي سرور
القصص
عبث أرستقراطي
للأستاذ نجيب محفوظ
في ذلك المساء من شهر مارس أزيَّن قصر الوجيه حامد بك عرفان بحلة لألاءة من الأنوار المتموجة ذات الألوان، مدت أسلاكها الكهربائية على سور الحديقة فتعانقت مع الياسمين والبنفسج. وتعلقت بأفرع الأشجار والنخيل، وتوجت بها شجيرات الورود المنتثرة على هيئة أهلة ونجوم. وكان أعجب ما في القصر هو ذاك البهو المتسع الأنيق الذي فرش بفاخر الأثاث وحليت جدرانه وأركانه بروائع الفن من صور وتحف، وترك في وسطه مكان رحب للراقصات والراقصين، أما في صدر المكان فقد امتدت ردهة إلى مقصف حافل، وإلى يمينها فيما يلي الشرفة المطلة على الحديقة احتلت فرقة الموسيقى الإيطالية مكاناً جميلاً. . . وانتشر فيما بين البهو والشرفة والمقصف والحديقة المدعوات والمدعوون الذين لبوا الدعوة للاحتفال بعيد ميلاد كوكو الصغيرة ابنة الوجيه عرفان بك وزوجه أنجي هانم عرفان. . . كانوا يجلسون أزواجاً وجماعات يتجاذبون أطراف الأحاديث حيناً بالعربية وأحياناً بالفرنسية ويتضاحكون بأصوات عالية رقيقة وخشنة وإذا دعت الأنغام قاموا للرقص والعناق. وقد شاع في الجو عطر وأنس وحرارة كأنها أنفاس المودة نفثتها الأعين والشفاه والصدور والأماني الهامسة
وكانت الأحاديث متنوعة، ولكنها تدور في الغالب حول موضوع واحد يتجاذبها كما يتجاذب النور الفراشة، وهو المرأة، ولا يُستثني من ذلك الجماعة التي كان محدثها الأول الأستاذ على الجميل الصحافي المعروف والنائب المحترم، فما خرج الحديث فيها عن الزواج واختيار المرأة الصالحة، وكان النقاش يحتدم بين المتجادلين من الجنسين بصورة عنيفة مضحكة. أما الوجيه نور الدين فكان يتوسط حلقة أخرى يروي فيها ما اتفق من قصص مغامراته الغرامية في العواصم العالمية ذوات الشهرة في الحب والجمال؛ وفي ركن منعزل امتاز وفرة من حوى من الشابات والشبان أقيمت مسابقة سرية لاختيار أقبح امرأة بين المدعوات واتجهت أبصار المحكمات والمحكمين إلى امرأة اتخذت مكانها تحت صورة الفنانة وابنتها (لفيجيه لوبرين)، وكانت عجوزاً إلا أنها تتصابى وتستعير من ألوان الجمال
ما تظن أنه يغني عما استرده الدهر من حياة شبابها، فبدت تحت طلاء الأصباغ في هيئة مضحكة، وكانت تتجنب الناس وتقنع بالجلوس منفردة حتى تعود إلى مجالستها ربة الدار أنجي هانم كلما تاقت نفسها إلى الراحة. أما اسمها فدولت هانم وقد راضت نفسها على العزوبة بعد تجربة أربع زيجات غير موفقة، وكادت تيأس من الرجال والحب وقنعت من متاع الدنيا بمضغ الأعراض والخوض فيما تعلم وما لا تعلم من أسرار الناس فصارت معجماً لتواريخ السوء. وكانت في تلك اللحظة التي اختيرت فيها سراً ملكة للقبح. . . تجالس أنجي هانم، وكانت تلوذ بالصمت قسراً بعد أن لم تبق على أحد من الحاضرات والحاضرين، حتى أتيحت لها فرصة جديدة للكلام بحضور الوجيه الأستاذ محمد جلال المحامي وزوجه الحسناء صفية هانم جلال. وكانا يلفتان الأبصار حيثما سارا لثراء الزوج المالك لأربعة آلاف فدان في الصعيد، وجمال الزوجة ورشاقتها، وقد استقبلتهما أنجي هانم بمودة ظاهرة وباطنة، ولما عادت إلى جوار دولت هانم مالت هذه على أذنها وقالت بصوتها الخافت المبحوح:
- يا لهما من زوجين سعيدين جميلين!
فقالت السيدة بحماس:
- الأستاذ جلال شاب يندر أن يوجد نظيره بين الشباب الناجح الثري. . . ألا تعلمين أنه مرشح لكرسي النيابة؟. . . وأما صفية فهي آية للجمال والصفاء. . .
فابتسمت المرأة ابتسامة باهتة وقالت:
- نعم، نعم. . . لا شيء يعيبه إلا أنه يقال إنه قد يتبارز من أجل راقصة، أما إذا استثيرت غيرته الزوجية فقد يغضي. . .
وضاقت أنجي هانم ذرعاً بحديث صاحبتها، فلم تسألها إيضاحاً وتشاغلت عنها بمشاهدة بعض الراقصين، ثم استأذنت لاستقبال بعض صواحبها. . .
وسلم الأستاذ محمد جلال وزوجه على عدد عديد من الأصدقاء والصديقات، ثم اختار أن يجلسا إلى زوجين جميلين مثلهما هما الوجيه طه بك العارف وزوجه الحسناء هدى هانم العارف، وكان الأستاذ جلال يبدي إعجاباً خاصاً نحو السيدة هدى. فلما عزفت الموسيقى دعاها إلى الرقص معه وقبلت بسرور ورقصت زوجه مع طه بك. . .
وطرب الجميع طويلاً وشربوا كثيراً، فدارت رؤوس وثرثرت ألسنة كتومة، وفاضت الأحاديث، وامتلأ الجو برنين الضحكات ووميض الابتسامات وإيماءات الغزل، والتقت أعين وتماست أنامل وارتعشت شفاه. . . حتى جاءت تلك الساعة المختارة من الليل فتوسطت المدعوين السيدة أنجي هانم وقالت بصوتها الرخيم:
- اسمحوا لي سيداتي وسادتي أن أقدم إليكم مفاجأة العيد السعيد
وتطلعت الوجوه إليها من كل صوب وتجمع حولها المبعثرون ما بين الشرفة والمقصف ينتظرون فرحين. وبغتة أطفئت الأنوار بغير نذير وساد المكان ظلام دامس دام خمس دقائق ما كان يسمع خلالها سوى همس خافت أو ضحكات مكتومة، ثم أضيئت الأنوار مرة أخرى فرأى القوم منظراً بديعاً. . . مهدا على قوائم أربع طويلة، مسقفاً بستار من حرير على هيئة هرمية، وفيه جلست كوكو متكئة على يديها الصغيرتين في قميص أبيض كأنها وردة بيضاء يانعة، وكانت ترمق الناظرين بعينين دهشتين صغيرتين ينعكس النور على زرقتهما الصافية! فصفق الجميع تصفيقاً رقيقاً وهتفوا باسمها، وقبل الآنسات يدها الصغيرة، ثم قدمت الهدايا النفيسة حول مهدها الجميل، وشمل القوم سرور عظيم فاستأنفوا لهوهم بإرادة أشد نزوعاً للصبا والمسرة. على أن فترة الظلام القصيرة لم تمر بسلام كما توهم الجميع. فقبيلها بدقائق كان الأستاذ محمد جلال يجالس هدى هانم في المقصف وقد دل عبثهما المرح على أنهما ثملان، فلما أطفئت الأنوار لم يتردد الشاب فدنا برأسه منها حتى كادت تمس شفتاه أذنها وهمس قائلاً:(هدى) وارتجفت المرأة كالمذعورة ولم ترد عليه فقال لها همساً وهي تحس بلمس شفتيه لأذنها: (هذه فرصة طيبة. قومي واتبعيني)
وكان بودها لو تتباله كما يقضي الدلال ولكنها خشيت أن يضاء النور بسرعة، فقالت همساً:
- إلى أين؟
- إلى حجرة التدخين في الطابق العلوي!
- قد يفتقدوننا
- وماذا يهم!. . . سيظنون أننا في الشرفة أو في الحديقة أو في المقصف أو هنا أو هناك، وسنعود من طريقين متباعدين. . .
وأمسك بكفها وقام واقفاً فقامت بدورها، واتجه نحو السلم وهي تتبعه، وارتقياه بسرعة، فوجدا نفسيهما في ردهة مضاءة بنور بنفسجي هادئ، تطل عليها أبواب متباعدة، فساروا إلى هدفهما ودخلا معاً ثم ردا الباب في سكون، وكان الجو مظلماً شديد الظلمة، ولكنه كان يعرف المكان فانعطفا إلى اليمين وتقدما خطوات، حتى عثرت يده بكنبة كبيرة وثيرة، فجلس وجلست، وتنهد من أعماق صدره، وقبض على كفها فوجدها ترتعش كالمقرورة، فسرت رعشتها إلى قلبه ووجد به غمزاً لم يبرأ منه حتى ضمها إلى صدره بعنف وانهال على وجهها يقبله بشغف وجنون، كم لبثا منفردين؟ إنه لا يدري ولكن المحقق أن تلك الخلوة السعيدة لم تخل مما ينغصها، فقد خيل إليهما أن أقداماً خفيفة كالمحاذرة تدنو من باب الحجرة، فتباعدا قلقين وأرهفا السمع واتجهت أعينهما في الظلام ناحية الباب، وخالا أكثر من هذا أن يداً تعالج الباب بلطف. . . ترى أحق هو أم وهم!؟ ولكن الباب تحرك ونفذ إلى الحجرة شعاع هادئ كروح محتضرة، فاشتد بهما الرعب وودا لو تبتلعهما الأرض، وما لبث أن تسلل شبح في حذر وتبعه آخر، ثم رد الباب إلى ما كان عليه فساد الظلام مرة أخرى، وكان الداخلان شديدي الحذر فلم يبديا حركة، ولم يصدرا أصواتاً، وكأنهما ذابا معاً في الظلمة الجاثمة. . . فسكن ذعر الآخرين وأحسا بشيء من الارتياح بل والطمأنينة، وخطرت لهما فكرة معاً هي أن الضيفين الجديدين مثلهما وأن لا خطر عليهما منهما، وتأكد هذا الظن حين شعرا بهزة تصيب الكنبة فعلما أن صاحبيهما اختار كنبتهما مقعداً لهما أيضاً، وتريث في قلق صار بعد حين ضيقاً وكدراً لأنهما لم يستطيعا أن يأتيا حركة خشية أن يتنبه الآخران فيفزعا، وربما حدث ما لا تحمد عقباه!
أما الجديدان فكانا يظنان نفسيهما في أمان وخلوة فلم يحاذرا إلا مقدار، واستطاع العاشقان أن يسمعا همساً وهمهمة وأن يسمعا الرجل يهانغ صاحبته وهي تهانغه ولم يكتفيا بذلك، بل قال الرجل بصوت استطاع الآخران أن يميزاه:(حبيبتي. . . صفية. . .) وارتجف محمد بك جلال كأنما قطعة من الثلج ألقيت على ظهره، وأحس بارتجاف يد صاحبته في يده. . . كان الصوت صوت طه بك العارف. . . ومن هدى؟ أليست زوجه هو!. . . أي كارثة تجمعت في هذه الحجرة المظلمة! ودق قلبه بعنف وغلى دمه غلياناً كاد يفجر الشرايين في دماغه، ولكنه لبث ساكناً صامتاً وزوجه على قيد ذراع منه في أحضان خليلها! ولم يكن
يأسف على عجزه عن تحطيم رأس الرجل - فمثل هذا العمل يثير فضيحة حرية بالقضاء على مستقبله السياسي ومعركة الانتخابات على الأبواب - ولكنه كان مغيظاً محنقاً لأن غريمه لا يدرك في تلك اللحظة أن زوجه بين يديه هو أيضا. . .
وانتظر دقائق كالأجيال، وشعر أخيراً بحركة استدل بها على قيام الرجل وسمعه يقبل زوجه بحرية ويقول لها:(لو تعدل الدنيا. . . فزوجك الغبي ليس أهلاً لك وزوجتي ليست أهلاً لي. ولكن ما العمل؟!). . . ثم تسللا خارجين كما أتيا. . .
وكان الغضب قد أفسد على جلال بك مزاجه فقام هائجاً، وبحث عن سترته حتى عثر عليها وأخذ بيد صاحبته وخرجا في حذر ثم افترقا في الردهة. . .
ولبث ضيق الصدر شديد الكدر ساعة طويلة يلعن طه بك ويلعن زوجه المستهترة ولم تكن هذه أولى خيانتها، ولكنها وقعت على كثب منه بشعة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة فسحقاً لهما!. . . وقام يتمشى في الحديقة فاراً بوجه الممتقع من الأعين جميعاً فؤاده المضطرم. وصح عزمه في تلك اللحظة على أن يسلم قياده لمغامرات الغرام الجنونية غير مبق على شيء ولو أدى الجنون إلى الظهور مع هدى في المجتمعات العامة وميادين السباق. وتملقته هذه الخواطر فأحس بارتياح ومضى يفيق من همومه ويتنبه إلى نفسه فاستطاع عند ذلك أن يشعر بتغير غريب، فعجب لشأنه وتناسى انشغاله، وبحث عن أسباب هذا التغير فوجد يديه تجسان السترة وكأنها أوسع مما كانت. . . ماذا حدث لها؟ يا للعجب. . . إنها أوسع مما يتصور. وخطر له خاطر غريب اضطرب له فؤاده، ولكي يتحقق من وساوسه وضع يده في جيب السترة وأخرج حافظة، لم تكن حافظته، ووجد بها بطاقة مكتوباً عليها (طه بك العارف).
ووضح الأمر، وعاوده القلق والحنق، ولم يكن ثمة خوف من الفضيحة، فسترات بدل السهرة متشابهة، ولكنه كان يشعر بحيرة شديدة ويسائل نفسه:(كيف يمكن أن تتبادل السترتان؟!)
نجيب محفوظ