الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 388
- بتاريخ: 09 - 12 - 1940
الأخلاق وهذه الحرب
جلست ساعة إلى المذياع أقلب مفاتحه على أفواه المذيعين المختلفين في أقطار أوربا المجنونة، فخيل إلى أني انتقلت إلى عالم آخر من خلق الشيطان تقطعت بينه وبين خلق الله وشائج الآدمية؛ فلا الأيدي تستند في أفعالها إلى العدل، ولا الألسن تعتمد في أقوالها على الحق، ولا النيات تتجه في غاياتها إلى الخير؛ وإنما هو زِياط وعياط من الأضاليل السود والأراجيف الحمق والأفاعيل النكْر يحملها الأثير إلى النفوس الآمنة الرِخوة فترتاع، وإلى القلوب المؤمنة الساذجة فتشك، وإلى العقول الراجحة الوزينة فتدهش.
رباه ماذا جرى لأوربا العالمة العاملة المتمدنة حتى انقلب كل كلامها كذباً لا يستحي، وكل سياستها خداعاً لا يستتر، وكل قتالها تدميراً غاشماً أهوج لا يفرق بين المحارب والمسالم، ولا بين الشاكي والأعزل، ولا بين الرجل والطفل، ولا بين الحصن والكنيسة؟!
كانت الحرب في العصور الخوالي نظاماً من البطولة الإنسانية له سننه وآدابه وعرفه: لا يقاتل القوي من ضعف أو قل، ولا ينازل الكميُّ من هان أو ذل، ولا يطعن الفارس خصمه طعنة الغدر، ولا يعطي المتعهد من ذمته عهداً إلا جعله من ورائه دمه وماله. ثم دخلت الحروب في سلطان الدين فنظمها بقيوده وحدوده تنظيمه للشر الذي لا بد منه، حتى غدت سلاحاً من أسلحة الحق يظهر بها على الباطل. ثم انشعب من نظامها المهذب أنظمة أخرى كالفروسية والفتوة والمرابَطة والكشف وما يدخل في بابها مما يقوم على المروءة والشهامة والشجاعة والإيثار والوفاء والعفة. وجرت المدنية الحديثة في تنظيم الحرب على سَنن الدين والخلق، فكفكفت طغيانها بالقوانين، وقللت عدوانها بالعهود، ووقفتها لدى الحدود التي رسمتها الطبيعة للدفاع المشروع والجهاد المقدس.
وفي الوقت الذي طمحت فيه الإنسانية الأوربية إلى قطع أسباب الحرب بالمجالس التحكيمية والمحاكم الدولية والعصبة الأممية، انبعث من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث مسيخان دجالان فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النِّحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في أجواء برلين وروما انتشار الظلام المضِل والغاز الخانق؛ فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه، ورمت النازية والفاشية جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، حتى أصبح أكثر
أوربا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء. وأشد ما أصاب العالم من هذه الحرب الغشوم ضياع ما ورثته المدنية من حُر الخلال وكريم الأخلاق، فإنها القبس الإلهي في الإنسان تصدر عنه الألفة والثقة والاطمئنان فيكون لكل كلام معناه ولكل عَقد أثره. ومن المستطاع تجديد ما دُكَّ من البيوت وأغرق من السفن، وتعويض ما أزهق من الأنفس وأُنفق من الأموال؛ ولكن تجديد ما انهار من البناء الأخلاقي وهو عمل الأديان المختلفة والحضارات المتعاقبة على كر الدهور أمر لا تتعلق به طاقة المخلوق.
افتح المذياع على أبواق الدعايات الأوربية واصبِرْ نفسَك على مكاره الفجور قليلاً تسمع الأعاجيب من فحش الكذب وسوء البغي: هذا يتبجح مما أحرق وأغرق، وذاك يتمدح بما راع وأجاع، وذلك يفيش بما أسر وقتل؛ وكل أمة إنما تبدأ الكلام وتختمه بلعن أختها ورميها بما تبرأ هي منه من التزيد والافتراء والخور والدس واستغلال الضعف في الشعوب الصغيرة. وكل شيء تسمعه من المذياع إلا الصدق والحق والرحمة. ومن كلال الحس وبلادة الضمير أن يصك المذيع مسمعيك بأخبار الدمار والبوار في كل أمة وفي كل مدينة وفي كل أسرة وفي كل نفس، ثم يرسل إليك في خلال ذلك أفاكيه الغناء وأفانين الموسيقى، كأنما فناء الشباب وثكل الوالدين وحرمان اليتامى وشقاء الأيامي وخراب الأرض أصبحت من توافه الأمور التي لا تنبه الوجدان ولا تمس القلب!
من كان يصدق قبل انهيار الأخلاق في الأمم الدكتاتورية أن روسيا تحارب بولونيا وفنلندة، وألمانيا تهاجم بلجيكا وهولندة، وإيطاليا تغزو ألبانيا واليونان؛ وكل أمة من هذه الأمم الباغية الثلاث تستطيع أن تحشد من الجنود ما يزيد على عدد السكان في كل فريستين من فرائسها الست!
إن الدكتاتورية تدير هذه الحرب على غير قانون ولا خلق. ومن الصعب على العقل السليم أن يفرض القانون والخلق فيما يعقب هذه الحرب من سلم ويقوم عليها من نظام. وإذا كانت الأخطاء لا يتألف من مجموعها صواب، والآثام لا تنشأ من جملتها براءة، والأباطيل لا ينتج من تعددها حق، فإن نزوَ النازية وفِياش الفاشية لا يمكن أن يؤديا إلى عدل شامل وسلام دائم. ولا يزال في الديمقراطية المجاهدة رجاء الحق المضاع والخلق الصريع، لأن السلطان القائم على دستور الحق، يساعدك على الانتصاف لنفسك منه بمنطق الحق.
والنصر مكفول للديمقراطية لا ريب فيه؛ فإن الديمقراطية هي الصحة التي انتهى إليها جسم الإنسانية العليل؛ أما الطغيان والبربرية فهما نكسة المرض؛ والنكسة خلل عارض لا يلبث بحسن علاج الطبيب وصدق إيمان المريض أن يزول!
أحمد حسن الزيات
أخلاق القرآن
الصبر
للدكتور عبد الوهاب عزام
الصبر خلق يعصم النفس من اليأس إذا طال بها الطريق إلى غاياتها، ويمنعها من الارتداد إذا سدّت العقبات سبيلها، ويكبر بها عن الجزع إذا نزلت بها من أحداث الزمان نازلة.
في الحياة أعمال شاقة لا يستطيع الاضطلاع بها إلا الصابرون، وفيها غايات بعيدة لا يبلغها إلا من صبر على مشقة الطريق وبعد المدى.
والأخلاق الفاضلة تنأى بصاحبها عن شهواته، وتعلو به عن سفاسفه، وتكبر به على الهوان، وتسوم النفس ضروبا من الصدود عن الهوى، والعفاف عن الشهوة، ولا يتخلق بهذه الأخلاق إلا أهل الصبر. وفي الحياة عقائد حق ومذاهب خيّرة ينفر منها الناس أول عهدهم بها، وينال الدعاةَ إليها السخرية والأذى والألم في النفس والنقص في المال. فلولا الصابرون ما دعا إلى هذه العقائد داع، ولا ذهب هذه المذاهب أحد.
الصبر توطين النفس على المشاق والمكاره، والإباءُ على الخطوب، والاستكبارُ عن الخنوع للمصائب، والثباتُ في الموقف الضنك، والمقام الهائل، أو المسير إلى الغاية المخوفة حتى يستوفي العملُ أطواره، ويبلغ نهايته، ويُنجح الطلب، ويحمد الدأب.
والصابرون رواسي الأمم كلما زلزلتها الخطوب، وسكينتها إذا طارت من الذعر القلوب. إذا طاشت الأحلام في مآزق الحرب صبروا حتى يتبلج النصر، وإذا خارت العزائم في معارك الحياة دأبوا حتى يشرق الحق. والصابرون قادة الأمم إلى الحق والخير والظفر يسلكون إليها الأهوال حين ينكص غيرهم فزعاً، ويستقيمون على الطريق حين يحيد غيرهم بأساً، ويواصلون المسير حين يقف مَن سواهم عجزاً، ويحتملون المكاره حين تنوء بكل عاجز، ويبسمون للمصائب حين تزلزل كل رعديد. هم الذين يصلون مبادئ الأعمال بغاياتها، ومقدماتها بنتائجها وإن شق العمل وطال الطريق. هم الذين ينصرون كل دعوة إلى الحق، وكل مذهب في الخير وإن عظم ما يلقاهم من المحن، وما يعترضهم من المكاره.
ومن الكلام المأثور: الصبر على الطلب عنوان الظفر. والصبر في المحن عنوان الفرج.
والصبر هو تجلي النفس الإنسانية في أكمل صفاتها وأشرف درجاتها، تجلي النفس الإنسانية في عظمتها تعتز بقواها، وتستكبر على الأحداث، ولا تبالي الغضب والعنت، ولا تخشى الهلاك حتى تبلغ دعوتها واضحة وتؤدي واجبها كاملاً.
ولست أعرف فضيلة أكد القرآن الدعوة إليها توكيده الدعوة إلى الصبر، إذ كان عماد كل نجاح، وقوام كل جهاد، ونظام كل عمل صالح، وقرين كل خلق فاضل.
الصبر في القرآن قرين الحق لأن الحق لا ينصر إلا بالصبر. قال: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
والصبر قرين العمل الصالح إلا صبر النفس عما يزيَّن لها من الشهوات، وإقامتها على منهاج الفضيلة الذي يحرمها كثيراً مما تودّ. يقول القرآن:(إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير).
وقد جعل القرآن الكريم الصبر وسيلة إلى الإمامة والهداية فمن لم يصبر لم يقوم نفسه، ولم يستطع الدعوة إلى الحق والمسير إليه والجهاد في سبيله، قال:(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
وقد أعلى درجة الصابرين وأبان فضل الصبر أعظم إبانة إذ قال: (واصبروا إن الله مع الصابرين) وحسبك بمن كان الله تعالى معه يسدد قوله وعمله وينصره، قد ذللت له كل الصعاب وضمن له كل ظفر. إن الله مع الصابرين لأنهم بصبرهم يستجيبون لدعوة الله ويسيرون في سبيله على قوانينه حتى يبلغوا ما وعدهم به، ومن سار في سبيل الله إلى دعوة الله فأحرِ به أن يوقن بالنجاح وأحر به أن ينال النجاح غير منقوص.
وجعل القرآن الصبر وسيلة إلى إدراك آيات الله في خلقه. وهل كشف الباحثون عن الحقائق إلا بالصبر على الطلب والدأب في البحث؟ قال القرآن في أكثر من آية: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).
وبين القرآن أن الصبر عُدَّة المؤمنين في جهادهم في هذه الحياة إذ قال: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) أمرهم أن يفزعوا إلى الله فيما ينوبهم من النوائب، فيتوجهوا إليه بالصلاة ويصبروا به على المكروه. ونِعمَ هذان عوناً على كل خير.
كما جعل الصبر في آخر درجات الفضائل حين عددها في آية البر فقال: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
وبين القرآن أن الله سبحانه يحب الصابرين الذين يثبتون على الشدائد، ولا يهنون لما يحزُ بهم من النوائب:(وكأيِّن من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) وحسبك بمحبة الله نجحاً وفلاحاً وسعادة.
والصبر قوة أعظم من قوة العدد، تغلب به الفئة القليلة الفئة الكثيرة. قال في قصة طالوت وجالوت:(فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده. قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله). وكذلك أمر القرآن المسلمين أن يلقوا عدوهم الأكثر عدداً وهم صابرون، وبشرهم بأن الجماعة منهم تغلب عشر أمثالها بالصبر، وجعل الصبر أكثر من تسعة أمثال العدو غَناء في الحرب. قال في سورة الأنفال:(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال. إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).
ولما أراد أن يخفف عن المسلمين هذا التكليف أمرهم بأن تلقى الجماعة منهم مثليها فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين). فأقل مراتب الصابرين أن يغلبوا ضعفهم. والحق أن العدد لا يثبت للصبر، وأن كثرة العدد فاشلة إذا خذلها الصبر، وأن قلته ظافرة إذا أيدها الصبر. وربما تغلب الفئة الصابرة مثليها، وربما تغلب عشر أمثال أو مائة مثل. وحوادث التاريخ على ذلك شاهدة.
وأما في غير الحرب فالواحد الصابر يدعو إلى طريقته، ويصبر على دعوته، ويحتمل في سبيلها ما يلقى من عنت وأذى وسخرية حتى يغلب بصبره الأمة الكبيرة ويقودها إلى
الخطة التي يدعو إليها.
وأما جزاء الصابرين فالظفر في الدنيا والطمأنينة التي تلقى الشدائد ثابتة راضية ورضا الله تعالى وحسن الثواب في الآخرة. يقول القرآن الكريم: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). وقال: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا). وقال: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وقال في جزاء الآخرة:
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).
وللصوفية من المسلمين تعليم في الصبر وتربية عليه جديران بأهل القرآن الذين استمعوا له واهتدوا بهديه، وقد كانت أقوالهم وأفعالهم أمثلة في الصبر.
يقول الجنيد: الصبر تجرع المرارة من غير تعبيس. وقال ذو النون المصري: الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقال ابن عطاء الله السكندري: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقال أبو عثمان: الصبار الذي عود نفسه الهجوم على المكاره. وقال عمرو بن عثمان: الصبر هو الثبات مع الله تعالى وتلقي بلائه بالرحب والدعة. وقال أبو محمد الجريري: الصبر ألا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، والتصبر هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة. وقالوا: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيداً، وإن أحياك أحياك عزيزاً.
وقد كانت سيرة الرسول صلوات الله عليه وسير أصحابه والمسلمين من بعدهم امتثالاً لأمر القرآن، وتصديقاً لبشارته، وإكباراً لتربيته، فغلبوا العدد الكثير والخطوب المتزاحمة بإيمانهم وصبرهم، ولم يعسر عليهم مطلب، ولا أملّهم دأب، ولا فاتت عزائمهم غاية، ونالوا جزاء الصابرين في الدنيا طمأنينة وظفراً وغلبة؛ والله ولي جزائهم في الآخرة.
وما كان صبرهم استكانة للمصائب ولكن استخفافاً بها، ولا ذلاَّ للخطوب ولكن كبراً عليها،
ولا خنوعاً للقوة ولكن ثباتاً لها، وتصميماً على صدمها، والظفر عليها. يقول القرآن الكريم:(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين).
صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
المنتخبات للطفي السيد
الدكتور زكي مبارك
- 5 -
المنتخبات - شخصية لطفي السيد - أسرار المنتخبات -
أسلوب لطفي السيد - القول الفصل - وطنية لطفي السيد
حديث اليوم عن الجزء الأول من (المنتخبات) وهو مختار ما نشر في (الجريدة) من 25 إبريل سنة 1908 إلى 5 سبتمبر سنة 1912، بقلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة المصرية.
وجامع هذه (المنتخبات) هو الأستاذ إسماعيل مظهر المحرر بالمجمع اللغوي، وهو باحث معروف بالتعمق والاستقصاء، وقد بذل جهوداً محمودة في الصحافة والترجمة والتأليف، فمن العقوق أن تمر هذه المناسبة بدون أن نخصه بكلمة ثناء، وإنه لخليق بكل إعزاز وإجلال، أسبغ الله عليه ثوب العافية، وكتب له دوام التوفيق فيما يعالج من الدراسات الأدبية والعلمية!
ثم أقول إن الأستاذ إسماعيل مظهر أشار بكلمات قصار إلى أنه آثر أن يخرج هذه (المنتخبات) بدون مقدمة (ذلك بأن المؤلف يجل عن أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الأهل) ولم أفهم المراد من (هذا الأهل) ولعله يريد (هذا الجيل)، وللعبارة وجه، ولكنه لا يخرجه عن الإغراب في غير موجب للإغراب.
ويظهر أن هذا الصديق يفهم أن مقدمات المطبوعات لا يراد بها إلا التنويه بأقدار المؤلفين؛ ومن هنا صح عنده أن لطفي السيد غنيُّ عن التعريف، فهو أجلّ من أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الجيل.
ولو تأمل لعرف أن المقدمات يراد بها أيضاً شرح أغراض المؤلفين، والنص على مذاهبهم في فهم الحياة وسياسة المجتمع، وبذلك يكون من الواجب أن يقدَّم لمنتخبات لطفي السيد،
لأنها تحتاج إلى من يدل على ما فيها من مذاهب وآراء.
يضاف إلى ذلك أن هذا الصديق نصّ على أنه عُنِيَ (بأن يخرج الكتاب مبرئاً من الأوهام) فما تلك (الأوهام) التي يشير إليها بهذا التعبير المريب؟ أيكون تدخَّل في عبارات المؤلف بالحذف والإيصال؟ أيكون طوى بعض الأغراض لأسباب متصلة بتطور أفكار المؤلف، وتبدل ما كان يحرص عليه من أقوال؟
إن كان شيء من ذلك فقد كان من الواجب أن يشير إلى ضروب تلك (الأوهام) لأن لطفي السيد له في الحياة الفكرية تاريخ، ومن كان في مثل مركزه الأدبي فهو جديرُ أن تؤرَّخ تطورات فكره بلا تحسين ولا تجميل.
شخصية لطفي السيد
لا أنكر أني لقيت عنتاً في قراءة هذه المنتخبات، لأن المؤلف لا يصل إلى شرح أغراضه إلا بعسر وعُنف، وإن قيل ما قيل في قدرته على البيان.
ولكن القيمة الصحيحة لأستاذنا لطفي السيد باشا ترجع إلى أنه كان في جميع أدوار حياته (شخصية)، ولو أردت الدقة في وصفه لقلت إنه كان فهذه الكلمة الفرنسية تمثله أصدق تمثيل. . . ألم يقولوا إنه أول كاتب عربي تحدث عن الديموقراطية والديماجوجية؟
كان هذا الرجل ولا يزال قويّ الحواسّ إلى أبعد الحدود، وله في كل مسألة مَلحظُ خاص، وهو يجمع بين البداوة والحضارة فيما يتناول من شؤون الفكر والمعاش. وقد استطاع بقوة الذاتية أن يكون رجلاً مرموق المكانة في آمادٍ طوال، وربما صح القول بأنه أظهر البقية الباقية من الجيل الذي ظهر فيه، ولا يمكن ذلك لرجل غير مزوَّد بالزاد الأصيل من عافية البدن والروح.
وكتابات هذا الرجل لا تصور ما يملك من المواهب، لأن قلمه أضعف من روحه، ولأنه في سريرة نفسه يتهيب المجتمع، وإن اشتهر بالثورة على المجتمع؛ وإنما تظهر قيمة لطفي السيد حين يتحدث إلى أصفيائه بلا تكلف ولا افتعال، فعندئذ يظهر جيداً أنه خليق بما تسامى إليه من التفرد بين رجال العصر بشرح آراء أرسططاليس.
لطفي السيد كاتباً رجلُ هيوب، ولكن لطفي السيد محدثاً رجلُ شجاع، ومن هنا كان تأثيره بالكتابة أضعف من تأثيره بالحديث. . .
والحذَر المأثور عن لطفي السيد هو الذي قضى بأن تمرّ ثورته الفكرية بلا صخب ولا ضجيج، كما مرّت ثورة محمد عبده وثورة قاسم أمين.
فكيف أصيب لطفي السيد بمرض الحذَر، وهو مرض يشلّ عزائم الرجال؟
يرجع السبب فيما أفترض إلى أن الرجل بدأ جهاده الأدبي والسياسي في عصر كانت تغلب عليه فورة الأقاويل والأراجيف، فكان مَثَله فيما يكتب مَثَل من يمشي على الشوك. ثم انتقل من التطبع إلى الطبع، فكان آية من آيات الحذر والاحتراس.
وأضرب المَثَل فأقول: أشرف لطفي السيد على الجامعة المصرية في عهدها القديم وعهدها الجديد عشرين عاماً أو تزيد؛ فهل ظهر له في توجيه سياستها العلمية شأنُ خاص، مع أنه في حقيقة الأمر قد أثَّر تأثيراً شديداً في أكثر ما امتازت به من الشؤون؟
تاريخ لطفي السيد في الجامعة المصرية ليس بشيء، وهو مع ذلك كل شيء، وتلك هي النقطة، كما يعبِّر لافونتين!
وقد عرفت بالتجربة أن لطفي السيد من الحكماء، فقد أراد هذا الرجل في ظروف كثيرة أن يغيِّر من أسلوبي في نقد الحياة والمجتمع، ولكنه لم يفلح، لأنني أردت غير ما يريد. أنا أردت ما كان يسميه في شبابه بالحقيقة العارية، وهو أراد ما هدته إليه التجاريب من مصانعة الناس والزمان.
والمهم هو أن أسجل أنك لا ترى لطفي السيد إلا حكيماً في كل شيء. هو صورة صحيحة من صور العقل الصحيح، لأنه أقام حياته على (الاعتدال) فلا يسرف في الحب ولا في البغض، ولا يجهل الوسط بين النشاط والخمود، ولا يغيب عنه أن اليوم له أغداء، وأن ما توجبه الساعة الحاضرة قد يمتد وقته إلى عام أو عامين، فمن السخف أن يقتل الرجل نفسه ليقال إنه أنشطُ الرجال.
أسرار (المنتخبات)
نحن أمام كتاب ممتع يقع في اثنتين وثلاثين وثلاثمائة صفحة بالقِطع المتوسط. وكلمة (ممتع) لها عندي مدلول خاص، فليس المراد أن هذا الكتاب يجذب القارئ إلى مسايرة المؤلف من الألف إلى الياء، هيهات هيهات! فما استطعت استيعاب موادّ هذا الكتاب إلا بمشقة وعناء.
وإنما المراد هو وصف هذا الكتاب بجودة المحصول، فهو شاهد على ما يملك المؤلف من قوة الفكر والعقل، وهو شاهد على أن المنطق من أقوى خصائص الرجل الذي شغل نفسه بترجمة أرسططاليس، وهو دليل على حصافة الرجل الذي لم ينس العناية بهندامه في لحظة من اللحظات، ولو كان في قرار الخلوة بعقله الدقيق.
لطفي السيد في كتابه هذا مفكر حصيف، وإن تبذَّل في عرض بعض التوافه من الشؤون: كالحديث عن زينة النساء، والحديث عن عيوب (الانتخابات)، والحديث عن أوهام الفلاحين!
ولكن ما نسميه اليوم (توافه) لم يصر كذلك إلا لكثرة ما خاضت فيه أقلام الكتاب، وقد كان قبل ثلاثين سنة من الأمور ذوات البال.
وبهذا نعرف أن ما نراه اليوم من المبتذل كان قبلاً من الطريف.
قد يقال: وما الذي أوجب أن تثبَت بعض الموضوعات البائدة في (المنتخبات)؟
ونجيب بأن تلك الموضوعات لا يراد بها تعليم أبناء اليوم ما لم يعرفوه، وإنما يراد بها تسجيل بعض مشكلات المجتمع في العهد الذي أثيرت فيه، فهي من أسانيد التاريخ، وللتاريخ ألوان.
ومن هذا الباب ما جاء في كلام المؤلف عن صلة مصر بالدولة العثمانية، وما قصّ من أخبار السوريين المقيمين بمصر، وما تحدث عن رحلاته في بعض بلاد الغرب والشرق؛ فكل أولئك لا يهمّ شبان اليوم إلا من جانب واحد هو التاريخ.
لطفي السيد في كثير من آرائه رجل وسط، ولكنه قد يحلِّق من حين إلى حين تحليق الجوارح، كالذي صنع وهو يتحدث عن أحمد عرابي باشا، فقد سجل أن عرابي ليس وحده المسئول عن الثورة التي انتهت بالاحتلال. وحجة لطفي السيد في هذا الحكم الطريف أنه لم يثبت أن العرابيين قتلوا رجلاً واحداً لأنه تنبأ بسوء الخاتمة وحذَّر من عواقب الثورة. ومعنى ذلك أن الثورة كانت فورة شعبية، فليس من العدل أن يطوَّق بآثامها عرابي حين انتهت بتلك النتيجة السوداء.
وفي (المنتخبات) فصل يبدو لأول نظرة من المبتذلات، لأنه في موضوع مطروق، وهو الكلام عن الثقة بين الناس.
ولكن هذا الفصل هو غرة هذه المنتخبات، وليته يضاف إلى مطالعات التلاميذ.
ومن هذه المنتخبات نعرف أن لطفي السيد زار (المدينة المنورة) وكتب عنها فصولاً تعد من الروائع، وكلامه في توديع ولديه يشهد بأن هذا الرجل من أرباب القلوب.
حدَّث ولديه بأنه سيغيب (ثلاثين) يوماً فبكيا، ثم ترفق فأخبرهما أنه سيغيب شهراً واحداً فاستراحا. وتلك دعابة لا تحتاج إلى ما يدل على ما فيها من لطف وظرف.
ولم يفت لطفي السيد عند زيارة المدينة أن يصور شعوره الديني تصويراً هو الغاية في الروعة والجلال.
وقد استطرد فتحدث عن المرأة العربية وعن لغة العرب (في بلاد العرب) حديثاً يشهد بأنه مفطور على التطلع والاستقراء.
وفي المنتخبات فصل عنوانه (أحبوا الجمال تحبوا الحياة) وقد بلغ الغاية في دقة النظر حين قرر أن تقدمنا في الأذواق لا يتناسب مع تقدمنا في العلوم، وهو يشهد بأن وقار بعض الناس ليس إلا صورة من صور الجمود!
وكلامه عن الصداقة كلام نفيس، ولعله استوحى هذا المعنى مما كان بين قاسم أمين وسعد زغلول.
أما كلامه عن الحب العصوف فهو كلام رجل يخاطب عوامّ الناس في صحيفة سيارة، وإن كان صدق حين قرر أن ذلك الحب يفسد الشعوب إذا تخلَّق به جميع الرجال.
وحديثه عن قاسم أمين يدل على إعزازه لحرية العقل والرأي، وفيه عبارة تشهد بأن الخطوب هي التي تؤرث مواهب العبقريين.
وأسفُه على حرمان أهل القاهرة من دخول حديقة الأزبكية بالمجان له مدلول.
وأحاديثه الصوارخ عن الآباء والأمهات والأبناء والبنات تشهد بأن الفكرة الإصلاحية سيطرت على عقله منذ أعوام طوال.
أسلوب لطفي السيد
جاء في المنشور الذي أذاعته مراقبة الامتحانات بوزارة المعارف على نظار المدارس الثانوية أن الطلبة الذين تقدموا لمسابقة الجامعة المصرية سيسألون عن أوصاف الأساليب من قوة وضعف، فما أسلوب لطفي السيد في الجزء الأول من المنتخبات؟
هو أسلوب لطفي السيد قبل ثلاثين سنة، وكان في مطلع حياته الأدبية، ولم يكن تمرَّس على (بناء الجمل) بناءً يعزّ على عوادي التصدع والانحلال.
أسلوب لطفي السيد بطيء الحركة إلى حد الجمود، وهو خال من البشاشة البيانية، وليس في كتابه صفحة واحدة تشهد بأن بيانه من وحي الطبع أو فيض الوجدان.
لطفي السيد كاتب متعمل متكلف، وهو يجرجر كلامه بتثاقل وإبطاء، ولولا البوارق الفكرية التي تلمع في كلامه من وقت إلى وقت لعد من المتخلفين.
ومن المؤكد أن أسلوب لطفي السيد قد مَرَن بعد ذلك كثيراً أو قليلاً، وشاعت فيه الحركة والحياة، ولكن من المؤكد أيضاً أن لطفي السيد قد طبع أسلوبه بطابع نفسه من التهيب والاحتراس، والمتخوِّفُ لا يكاد يُبِين.
أقول هذا وأنا مُشفِق، فليس من الذوق أن أستبيح الحكم على أسلوب لطفي السيد بكل ما أطمح إليه من الحرية والصدق، ولكن لطفي السيد أكبر من أن ينتظر كلمات المداهنة والرياء، ومقامه في التاريخ الأدبي الحديث في غنىً عن التلطف المأثور عن بعض تلاميذه الأوفياء.
وضعفُ الحركة والحياة في أسلوب لطفي السيد لا يمنع من الاعتراف بأنه من المشاهير بين أصحاب الأساليب، فقد يكون مقامه بين كتاب القرن الرابع عشر مقام ابن خلدون بين كتاب القرن التاسع، ومعنى ذلك أنه تحرر من الزخرف كما تحرر ابن خلدون، فكان أسلوبه ملحوظ الخصائص بين أساليب معاصريه من أمثال حفني ناصف وعبد العزيز جاويش.
ولطفي السيد له ألفاظ في المنتخبات تحتاج إلى تعريف:
من ذلك كلمة (الدولة) وهي كلمة لا تُذكر بدون تخصيص إلا حين يريد الدولة العثمانية، فعلى الطلبة أن يراعوا ذلك.
و (التعليم الأدنى) في كلام لطفي السيد هو التعليم الأولي والجامعة المصرية في كلامه لا يراد بها الجامعة التي نُقِلتْ ربوعها الأواهل إلى الجيزة الروحاء، وإنما هي (الرابطة المصرية) أو (الآصرة المصرية).
والمجتمع في كلامه هو الجمعية، وعنه نَقَل حافظ عفيفي باشا.
وهو يكثر من ألفاظ المناطقة من أمثال (المقول) و (المحكومية) و (المصادقات).
وقد يتسامح في بعض الألفاظ الأوربية، فيساير في نطقها عوامّ الناطقين؛ كأن يقول (اللورد كرومر) والصواب (لورد كرومر) لأن (كرومر) مضاف إلى (لورد) وليس عطف بيان. وتلك غلطة وقع فيها الأستاذ أحمد أمين وهو يقدم ديوان حافظ إبراهيم.
والنعت السببي حيران عند إضافته إلى الموصوف، فقد يُعرَّى من اللام كما وقع في أمثال عبارة (الرجل الفلاح طويل القامة، كبير الرأس، كثيف اللحية) وقد يحلَّى باللام في مثل عبارة (الحديث القليل القيمة).
وقد يغيب وجه الإعراب عن أستاذنا لطفي السيد في بعض الأحايين، كأن ينصب (الصفات) بالفتحة كما ينصب (الذات) وهي غلطة غير مطبعية، وقد يُشكل عليه الرسم الإملائي أحياناً فيرسم ألفاً بعد الواو من (يدعو الرجال) وهو ينسى أن الألف الفارقة لا ترسم إلا بعد واو الجماعة، وتلك دقيقة إملائية تخفى على بعض الناس؛ ولعلها لم تخف إلا على مصحح الكتاب.
وقول (أَلفَتَ) والصواب (لَفَتَ).
ويتعرض للغة أحياناً فيخطئ، كأن يمر بكلمة (التقعر) فيرى استعمالها في الذم غير صحيح، وحجته أن الكميت يقول:
البالغون قُعُور الأمر تروية
…
والباسطون أكفّاً غير أصفار
والمتأمل يدرك أن التقعَّر (تفعُّل) وهو من صور التكلف كالتشدّق والتصنّع.
القول الفصل
والقول الفصل أن أسلوب لطفي السيد في المنتخبات هو أسلوبه قبل ثلاثين سنة، يوم كان قليل الاحتفال بالأداء، ويوم كان قليل المحصول من ثروة اللغة العربية، كما صرح هو نفسه بذلك في الصفحة 162.
ويجب وفاءً للحق والتاريخ أن نسجل أن لطفي السيد اهتم بعد ذلك بالتزود من اللغة العربية، حتى جاز له أن يشارك في بعض المحاورات النحوية والبلاغية، وحتى صار بالفعل من أعرف الناس بخصائص الأساليب.
ذكَره الله بكل صالحة، فله علينا فضلُ لن ننساه، ولو طال الزمان.
أما بعد فهذا لطفي السيد باشا في أبرز نواحيه، كاتباً ومفكراً ومديراً للجامعة المصرية، ولكن بقيت كلمة يفرضها الواجب رعاية لحق التاريخ.
كنا نسمع في عهد الحداثة أن (حزب الأمة) الذي تعبِّر عنه (الجريدة) يسالم الاحتلال.
فهل في (المنتخبات) ما يؤيد ذلك، وكان لطفي السيد رئيس التحرير لتلك (الجريدة)؟
كان (حزب الأمة) يمثل فكرة الاعتدال، ولكن مقالات لطفي السيد لا تشهد بأنه كان يسالم الاحتلال.
وكيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يقول:
(الديار محتلةُ بأجنبيّ لا هو صريح نقدِّر لشقائنا معه حداً، ولا نحن معه من الرجاء أو من اليأس في إحدى الراحتين)؟
كيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يرثي مصطفى كامل أصدق الرثاء، ثم يعلن رأي قاسم أمين في أن وجيعة الشعب لوفاة مصطفى كامل فرصة لإذكاء الروح الوطني؟
كان لطفي السيد من أنصار الاعتدال، ولكنه لم يكن أبداً من المفرِّطين في حق القومية، ومقالاته هي الوثائق الباقية لجهاده في سبيل الحرية والاستقلال.
والناس يشهدون اليوم تمثال مصطفى كامل في أحد الميادين الجميلة بالقاهرة، فمن يبلغهم أن لطفي السيد كان من أوائل الداعين لإقامة ذلك التمثال مع أنه كان من خصوم الرئيس الأول للحزب الوطني؟
لا يؤخذ على لطفي السيد إلا عيب واحدُ: هو أنه لم يستهدف لأي خطر في سبيل حرية الفكر والعقل والوجدان، وبذلك خَلَتْ آثاره من اللهب الذي احترق به المبدعون من أقطاب الفكر والبيان، والسلامة ليست مَغنماً نفيساً في أنظار أكابر الحكماء.
لا يزال لطفي السيد قوة عاتية، فهل يجرِّب الثورة على نفسه مرة واحدة فيخرج من بعض ماله لينشر مجموعة كاملة للمختار من آثاره في الأعوام الخوالي؟
إن أخذ بهذا الرأي فسيحدّد مكانه الصحيح في التاريخ الأدبي الحديث.
وإلا فسيصير إلى ما صرت إليه يوم عققت نصائحه الغالية في مصانعة الناس والزمان.
وإلى أستاذي وصاحب الفضل عليّ، إلى أحمد لطفي السيد باشا مترجم أرسططاليس ومدير الجامعة المصرية، أقدم واجب الثناء، راجياً أن يتناسى ما مرّ بهذا المقال من عبارات لم
تكن على خشونتها إلا شاهداً على اتصالي الروحي بعقله الحصيف.
زكي مبارك
تعاليم الرجولة
للأستاذ محمد كامل سليم بك
سكرتير مجلس الوزراء
1 -
لا تلم غيرك على إهمالك، واحتمل بشجاعة نتائج أعمالك.
2 -
الاعتذار ضعف، فلا تعتذر لكائنٍ من كان، ولا سبيلَ إلى تلافي الاعتذار إلا إذا آليتَ ألا ترتكب ما يستدعي الاعتذار منه.
3 -
لا تيأس: إذا المرض أصابك، وإذا الحزن دهمك وإذا الإخفاق صدمك، وإذا الصديق خدعك وإذا العدو غلبك، وإذا الحظ نكبك إذ مهما اضطربت الأمور وأظلم الجو فإنك بالصبر والعمل والشجاعة منتصر لا محالة.
4 -
لا ترْجُ من اللئيم أن يصفح، ولا من السفيه أن يحلم، ولا من القويِّ أن يستكين. لأنك إن فعلت أرقت ماء وجهك وعدْتَ بخيبة الأمل.
5 -
لا تكن متحيزاً لأقربائك، ولا محابياً لأصدقائك، ولا باغياً في خصومتك، ولا طاغياً في رياستك. بل اجعل العدل قائدك، والحزم رائدك، والكرم ملطفاً لشهوتك، والمصلحة العامة على الدوام قِبلتك.
6 -
كن شجاعاً تكن صادقاً. فإذا اعتدت الصدق مشت الفضائل كلها في ركابك.
7 -
أفعل ما تراه حقاً وعدلاً، ولا تحاول أن تُرْضي الناس جميعاً، لأنك إن حاولت ذلك أسأت إلى نفسك ولم تُرْض أحداً.
8 -
أذكر دائماً أن قيمة الأعمال بنتائجها، فحذار أن تأتي عملاً تعرف مقدماً أن له نتيجة ضارة، اللهم إلا إذا أيقنت أن كِفَّة الخير للمصلحة العامة أعلى وأرجح.
9 -
إذا كنت تحب الحرية حقاً فلا تحتكرها لنفسك وتنكرها على غيرك.
10 -
حذار من لسانك وقلمك إذا كنت غاضباً أو ثائراً بعاطفة قوية فكلاهما يخونك، واعتمادك عليه يجر عليك الندم أو الألم عندما تهدأ وتستقر.
كتب لم أقرأها
مؤلفات اللورد دنساني
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أما الكتب التي أتحدث عنها اليوم فعشرون كتاباً صفقة واحدة لا أعرف اسم واحد منها ولا عرفت شيئاً عن مؤلفها إلا في هذا الأسبوع حينما نشرت الصحف له صورة ظريفة مع حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي في نادي الاتحاد الإنكليزي المصري.
وكانت مناسبة الاحتفاء به في هذا النادي أنه مر بمصر أثناء سفره إلى أثينا حيث يتقلد منصب الأستاذية في الأدب الإنكليزي بالجامعة اليونانية. وكرسي الأدب الإنكليزي في تلك الجامعة يلقب باسم الشاعر الإنكليزي بيرون. فيقال (كرسي بيرون) للأدب الإنكليزي تكريماً لذكرى هذا الشاعر الذي ساهم في تحرير اليونان بقلمه وبسيفه. وما زالت اليونان تحتفظ له بأطيب الذكرى وله في عاصمتها أكبر تمثال فيها.
ولما مرَّ اللورد دنساني بمصر نظم أبياتاً هذه ترجمتها نثراً:
انتظار طويل
(أيها الملوك الأربعة الجالسون في ساحة أبي سمبل متجهين نحو مشرق الشمس، لقد رأيتم الإنسان يطير).
قلت لهم ذلك وخلت أني أسمع جواب ثلاثة منهم أثناء مرورنا أمامهم بالطيارة (أما الرابع فقد كسر عند منتصفه فانشطر شطرين).
(وأحسب جواب الثلاثة:
(نحن لا نلحظ إلا ما كتب له الخلود. نلحظ نهرنا القديم في فيضانه، والشمس في سطوعها، والمطر في إبانه، وكل خالد في تغلبه على زمانه. ورأينا ورأى معنا هذا الرابع قبل أن ينكسر شعاعاً ذهبياً ينبثق من صخرة فيوقظ الروح في بلدنا هذا المقدس وقد أخذ هذا الشعاع الذهبي من زمن فات يتجه نحو الشمال، ونحن منذ ذلك العهد لم نلحظ ما يستحق أن يلحظ).
هذه الأبيات في أصلها ذات جرس ورنين، وهي كل الذي قرأته له عدا حديثاً له مع محرر
الغازيت. أما الذي قرأته عنه فهو أنه أديب أيرلندي له مسرحيات ودواوين شعر وأقاصيص وروايات، ويبلغ عدد كتبه العشرين، وأسلوبه من السهل الممتنع. وهو رحالة ومن هواة الصيد، وقد قضى معظم الشباب في الجندية وعمره الآن قد تجاوز الستين.
اشترك في حربين: حرب البوير والحرب العظمى. وجاب أقطار العالم في رحلاته، وقلما استطاع البقاء أمداً طويلاً في مكان.
ومن غريب أمره أنه لا يستطيع مزاولة التأليف راحلاً، ولا الرحلة ولديه موضوع يشغله بالتأليف. ويقول إن حياتيه: الروحية والجثمانية ليستا على ائتلاف، فهو يطلق لكل منهما العنان، حتى إذا فرغ من رحلة له عاد إلى وطنه، فاستجم وترك لخواطره متنفساً من يراعه خلافاً لبعض الكتاب الذين يجمعون الجذاذات في أثناء الرحلات، أو يدونون فيها بعض الخواطر أو المعلومات. وهو يقول في حديثه لمحرر الغازيت: إنه لا يرى في الكتابة واجباً يفرضه المرء على نفسه وينقطع له، وأنه لا يرى للكاتب أن يكتب سواء أكان لديه أفكار أم لم تكن لديه.
وحاول المحرر أن يستدرجه للحديث عن وطنه أيرلندا فأبى أن يخوض في ذلك الحديث. ويعرف القراء أن تلك البلاد لم تشترك مع إنكلترا في حربها الحاضرة؛ ولكن هذا اللورد الذي بقى في أيرلندا حتى شهر أغسطس الماضي قد رحل عنها إلى لندن وتطوع جندياً في الجيش الإقليمي (الجيش المرابط) وعدده في إنكلترا مليون وسبعمائة ألف لعل فيهم الكثير من هذا النوع.
ولما سئل عن رأيه في الحرب قال إن هتلر قد خسرها، لأنه أراد تحطيم روح الشعب البريطاني فأخفق، ولن يستطيع تحطيم تلك الروح بعد ثباتها ستة أسابيع على قنابل الغارات الجوية.
وهو يرى أن الحرب ضرورة لا بد منها كتناول الطعام وشرب الماء ما دام بعض الأمم يسبق البعض في اطراد النمو من ناحيتي الثروة وعدد السكان، فلا مناص من الحرب، لأن الذين تضيق بهم بلادهم لا بد لهم من طلب التوسع فتكون الغزوات وتكون الحروب، ولا يرى في الإمكان تدبير وسيلة للاحتفاظ بالسلام.
قال: (بعد الحرب الماضية اجتمع العقلاء من مختلف الدول في مدينة جنيف وحاولوا إيجاد
الوسيلة لمنع الحروب في المستقبل. وأحسب أنهم بعد الحرب الحاضرة سيرسلون عقلاءهم إلى مدينة ما لإيجاد وسيلة لمنع الطعام وسيقولون إنه متعب في إعداده، متعب في هضمه، متعب في تناوله، فلنتدبر في وسيلة تريحنا منه. . . وسينجح هؤلاء الحكماء في محاولتهم منع الطعام بمثل القدر الذي ناله من النجاح من سبقوهم في محاولة منع الحرب. وهو مع رأيه هذا في الحرب يرى أن أذى الحروب أقل من نفعها، ومن نفعها أنها تولد الشجاعة والجرأة والنخوة.
هو متحدث بارع، وقد يدافع عن قضية خاسرة لمجرد الاغتباط بالحرب الكلامية.
ومن رأيه أن حملة الأقلام جميعاً رجال غير عاديين.
قال: وإذا نحن أحصينا من يكتبون وجدناهم قلة ضئيلة بالقياس إلى من لا يكتبون، وهذا وحده سبب كاف لاعتبارهم من الطراز غير طراز الرجل العادي.
هذه بداية تعرفي على المؤلف الذي أدرجت مؤلفاته العشرين في قائمة (كتب لم أقرأها) وليس كل ما في هذه القائمة مندرجاً بالطبع في قائمة (كتب لن أقرأها) فعلى حين أزداد تعرفاً عليه أزيد تعريفاً به.
أو لعل من سبقوا إلى معرفته أن يشركوا أهل لغتهم فيما أفادوه منه.
وبعد كتابة ما تقدم قرأت في جريدة الإجبشيان ميل عدد 28 نوفمبر سنة 1940 أن اللورد دنساني دعي إلى حفلة تكريمية أخرى بنادي الاتحاد الإنكليزي المصري فألقى بها قصة طريفة له عنوانها (بنت رمسيس).
وأنه سيلقي في الأسبوع القادم محاضرة عن الشعر الإنكليزي بالجمعية الملكية الجغرافية، وأرجو أن ألخص القصة والمحاضرة لقراء الرسالة.
عبد اللطيف النشار
حول نقد كتاب الذخيرة في علم الطب
للأستاذ إسماعيل مظهر
قرأت في مجلة الثقافة الغراء منظومة من النقود وجهها الأب أنستاس ماري الكرملي إلى صديقي الدكتور جورجي صبحي ناشر كتاب الذخيرة المنسوب في بعض المؤلفات القديمة إلى العلامة الكبير ثابت بن قرة.
ولنشر كتاب الذخيرة تاريخ لو أن حضرة الأب المهذب الرقيق قد علم طرفاً منه إذن لالتمس للدكتور صبحي بعض العذر عن أخطاء وقعت في الكتاب. فقد كان موعد الاحتفال بالعيد المئيني للقصر العيني قد أزف. وحَسُنَ عند صاحب السعادة الدكتور علي إبراهيم باشا أن يُطْبَعَ كتاب (الذخيرة) إحياءً لأثر قديم وتعبيراً عن اتصال ثقافتنا بثقافة أوائلنا وتذكيراً بتراثنا المجيد. وبُدِئ بطبع الكتاب من نسخة سقيمة سيئة الخط محشوة بالتصحيفات قبل موعد الاحتفال بشهر واحد. وما إن حان الموعد حتى كان الكتاب مطبوعاً معداً للنشر. فكان لهذا العامل أثره فيما يكون قد وقع في الكتاب من تصحيفات لا أشك أقل شك في أن أكثرها موجود في النسخة الأصلية؛ وكان من المتعذر مادياً بحثها وتصويبها في مثل هذا الزمن القصير الذي استغرقه طبع الكتاب. وما قولك في أن حضرة الأب اشترى الكتاب في فبراير من سنة 1934 ولم يستطع أن يحقق ما ورده في نقوده من الألفاظ إلا في شهر يوليو من سنة 1940 إذ بدأ بنشر نقوده التي ألمعنا إليها. يدلك هذا على أن تحقيق هذه الألفاظ كان صعباً والرجوعَ إليها في مظانها أمر يستغرق السنين. فللدكتور صبحي على أية حال عذر إن تعذر عليه تحقيق بعض ألفاظ الكتاب وتصحيح عباراته تصحيحاً كاملاً.
ولا أريد أن أتعرض هنا لشيء مما صوب به حضرة الأب بعض أخطاء الكتاب، ولكن أريد أن أنشر حقائق ثابتة لا يتسرب إليها الباطل، عن الدوافع التي دفعت حضرة الأب المحترم إلى نشر نقوده هذه. فإن وراء هذا النقد ماضياً يجب أن يعرف، وله بداية كانت هذه النقود نهايتها. فقد أطلعني الدكتور صبحي بك على كتاب بخط يد الأب المحترم يسأله فيه أجراً على تصحيح الكتاب، وكان الدكتور صبحي بك مريضاً فلم يعر الأمر اهتماماً وشغل بمرضه عن كل ما عداه. واتصل طبيب بالقاهرة بالدكتور صبحي بك يغريه على
أن يجيب حضرة الأب إلى طلبه فرفض صبحي بك معتذراً. وإلى هنا تنتهي مقدمات النقد. وكان النشر بمجلة الثقافة نتيجة لهذه المقدمات.
ولعل القراء يعجبون كيف أن رجلاً من رجال الدين المنقطعين عن لهو الحياة الزاهدين فيها، المترهبين في سبيل الله والعلم ينزلق في هذا المنزلق ويزل هذه الزلة ولا حاجة له بمال ولا مطمع له في الدنيا ولا زوجة له ولا ولد؟ نعم إن هذا لباعث على العجب مفض إلى طول التأمل. ولكن ذلك هو الواقع مع الأسف. وما كنت لأتطوع جاهداً في كشف هذا السر العجيب لولا أن حضرة الأب المحترم قد تمادى في الهجوم على رجالات مصر، ومن قبل هاجم الدكتور شرف بك ثم الدكتور أحمد عيسى بك ثم حضرة صاحب العزة أحمد العوامري بك، وغيرهم من كبار رجالنا المشار إليهم بالبنان المكبين على العلم لأجل العلم لا لأجل المال. أولئك الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم في الطلب والفحص والتنقيب غير مترقبين من الناس مالاً ولا مستجدين منهم أجراً، عالمين أن أجرهم عند الله أبقى.
لئن كان حضرة الأب قد نشر هذا النقد خدمة للعلم حقيقة فما هي الحاجة التي حملته على أن يطعن حضرة الدكتور صبحي بك في علمه وفي مهنته؟ وإليك بعض أقواله في مجلة الثقافة.
إن هذا لمن أعجب العجب. يتساءل راهب لغوي كيف أن طبيباً مصرياً عظيما، وأستاذاً في كلية الطب، ومن أمهر المشتغلين في القطر المصري بهذه الصناعة: يتساءل كيف حصل على شهادته! ألست تجد أيها القارئ أن مثل هذا الأمر يدل على حفيظة سببها أن هذا الدكتور لم يجُد عليه ببعض المال ليصحح أخطاء كتاب قديم وقف على طبعه؟ كان إذن من الواجب على الذين أعطوا الدكتور صبحي إجازة الطب أن يرسلوه لحضرة الأب أولاً ليجيز لهم أن يعطوه شهادته.
ومن أعجب العجب أيضاً أن يعترف حضرة الأب بأن كتاب الذخيرة (في أصله) مشوه وممسوخ. قال في الثقافة (العدد 84 ص40):
(اتضح أن هذا التصنيف ليس لثابت بن قرة، وبان بالعكس أن واضعه قليل البضاعة بعلم العربية، والكاتب قبطي من أهل المائة السابعة أو الثامنة للهجرة لجهله الألفاظ الطبية وتشويهه لها وجهله الأحكام اللغوية ومسخه لها مسخاً شنيعاً).
هذا اعتراف حضرة الأب الصريح يدل على أصل الكتاب، أي الأصل الذي طبع عنه الدكتور صبحي بك. أفلا يصح أن يكون هذا شفيعاً عند حضرة الأب في بضعة أخطاء اضطر الدكتور لإثباتها كما هي مراعاة للأصل المطبوع عنه التماساً لإصدار الكتاب في شهر واحد من الزمان؟
أما أن يخطئ الإنسان فذلك أمر طبيعي، ولكن من غير الطبيعي ومن غير اللائق بالسداد أن يتمنى حضرة الأب أنستاس أن يصبح وزيراً للمعارف في مصر فيفتتح عهده بالحكم بغرامة 228 جنيهاً، وبالحبس 228 يوماً على الدكتور جورجي صبحي جزاء نشره كتاباً به بعض الأخطاء!
ولقد يدعي حضرة الأب أنه لا يخطئ، لأنه لو كان يسلم بأن الخطأ واقع من أبناء آدم لما انزلق في نقده إلى حيث انزلق، ولكني أقول له إنه يخطئ خطأ فاحشاً يتعدى فيه على العلم وعلى الثابت في مظان العلم.
فقد حدث في دورة المجمع اللغوي السادسة أن قام حضرة الأب يدعي دعاوى عريضة فسقط وكبا كما يؤخذ من رد حضرة العلامة الأستاذ فيشر عليه في محضر الجلسة السادسة عشرة من الدورة السادسة. وأنقل هنا نص رد الأستاذ فيشر عليه لأن به من البيان ما لا محل معه لبياني. قال:
(قرأت أمس في محضر الجلسة العاشرة بحث كلمة (موسيقى)(موسيقا) لحضرة الأب أنستاس ماري الكرملي. وقد أعجبنا جميعاً بكثرة معلوماته وذكائه، ولكن لا معصوم من الخطأ إلا نبي. وعليه فإني أعتقد أن حضرة الزميل العلامة قد زَلَّ في بعض مواضع بحثه إذ قال في صدر بحثه:(فأقول إن العرب لم يأخذوا لفظ الموسيقى عن الروم لاتينيين كانوا أم يونانيين، وإنما أخذوها من الإرميين بدليل أنهم يقولون (هنا كلمة إرمية) وتقرأ موسيقى بالياء. والدليل الثاني أن الموسيقار العربية في نفس الإرمية (هنا كلمة إرمية) وتلفظ موسيقاراً. والدليل الثالث أنهم (أي العرب) قالوا مثلهم موسيقاراً. ولم يراع أن كل ما نقل عن اليونانية كان بواسطة الآراميين كما أن كل ما نقل عن اللاتينية قبل فتح العرب لشمال أفريقية كان بواسطة اليونان وعنهم بواسطة الآراميين.
(ولم يراع أن الكلمة الآرامية (. . . . . .) يرجع أصلها إلى الكلمة اللاتينية وأهم من هذا
ما وقع فيه من خطأ قائلاً: وأما عرب الجاهلية وصدر الإسلام فإنهم قالوا: (المزِيقَة) واستشهد على هذا القول ببيت للشماخ أورده كما يأتي:
له زَجَل كأنه صوت حاد
…
إذا سَمِع المزِيقة أو زَمِير
ولا أدري من أين نقل هذا البيت. فإنه ورد في ديوان الشماخ طبعة أحمد بن الأمين الشنقيطي صفحة 36 ما يلي:
له زجل تقول أصَوْت حاد
…
إذا طلب الوَسِيقة أو زَمِير
(وهذه الرواية صحيحة فإن هذا البيت جاء وصفاً لحمار وحشي في قصيدة للشماخ، ومعناها يتفق مع ما أورده الشنقيطي في الشرح إذ قال: (المعنى أن الحمار الذي يصفه يشبه صوته بأتانة إذا صوت بها صوت حادي الإبل أو صوت مزمار).
(فكذلك لا توجد لكمة المزيقة في شعر الشماخ، ولا توجد في أي شعر آخر ولا في كل العربية.
(وقد ظن حضرة الزميل العلامة، بعد اعتقاده بأن كلمة (المزيقة) قد وردت في شعر الشماخ أن فعل مَرَّق الذي ورد في الشعر القديم بمعنى غَنَّى قد صحف عن مزَّق. وقد قال حضرة العضو الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين في أثناء الجلسة: (لا أوافق حضرة الأب أنستاس على أن لفظتي ممرَّق وتمريق مصحفتان من ممزق وتمزيق. إذ لا دليل على هذا التصحيف الخ).
(وإني متثبت من أنه على حق، فإنه قد وردت في لسان العرب وأساس البلاغة شواهد على فعل مرَّق، وقد بين هذه الشواهد بيت للشاعر (الممزَّق) من قصيدة وردت مرتين في ديوان (المفضليات) - (طبعة تشارلس لايل صحيفة 603)، وفسر الأنباري شارح المفضليات الفعل مرَّق كما يلي):
(ويمرِّق يغني والتمريق الغناء. يقال: قد مرَّق يمرِّق تمريقاً فهو ممرقُ إذا غنى أ. هـ). وورد هذا الفعل أيضاً في كتاب الأغاني (طبعة دار الكتب المصرية في الجزء السابع صحيفة 238) في سياق الكلام كما يلي: قال الحسن وحدثني غانم الوراق قال: خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم فأثبتني بعضهم فقال: هذا الشيخ والله راوية. فجلسوا إليّ وأتوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرُّمة فعرفوه وبشعر جرير والفرزدق
فعرفوهما؛ ثم أنشدتهم للسيد. . . (أتعرف رسما. . . الخ) ثمانية أبيات؟ قال: فجعلوا يمرِّقون لإنشادي ويطربون، وقالوا: لمن هذا؟ فأعلمتهم. . . فقالوا: هو والله أحد المطبوعين. . . لا والله ما بقي في هذا الزمان مثله) أ. هـ عبارات الدكتور فيشر.
أيليق بنا يا حضرة الأب المهذب أن نسأل: كيف حصلت على لقب لغوي ما دمت تسقط في مباحث اللغة هذه السقطات الشنيعات، ثم تتدارى بعد ذلك وراء ألفاظ الهجاء لتخيف الناس من لسانك ومن قلمك، ولتستر بذلك خطأك وحذلقتك وتهجمك على اللغة عفو الخاطر، لأنه قيل إنك لغوي، ولأنه جرى بين الناس أنك كذلك؟. . .
وبعد، فإني لا أود أن ألقي القلم قبل أن أفرغ من حضرة الأب المهذب أولاً وآخراً. فإني اتهمته بأنه طلب من الدكتور صبحي مالاً لينتقد كتاب (الذخيرة) سراً ثم يسكت؛ فإذا أبى الدكتور صبحي بك، نشر الأب نقوده متظاهراً بالغيرة على العلم وعلى لغة القرآن: نسأل للغة القرآن منه العافية.
والواقع أن هذه دعوى عليّ إثباتها: فإن الكتاب الذي أرسله حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك يسأله فيه ذلك، قد مُزِّق وألقي به في سلة المهملات مع الأسف الشديد؛ ولو أنه باق، إذن لنشرته بخط يده. ولكن حضرة الأب قد ينسى أن كتاباً آخر يدل دلالة قاطعة على أنه يأخذ المال باسم اللغة والغيرة على اللغة، ولكن بالسباب والشتم. وإني أقتطف من هذا الكتاب عبارات مع حذف الأسماء. فإن أنكر الكتاب نشرته للناس بخط يده. جاء في ذلك الكتاب:
(نعم إن احسانات الدكتور. . . قيدت يدي ورجلي ومنعتني عن أن أهجم عليه هجماتي المعتادة على أصحاب سائر المعاجم، ولما رَدَّ عليَّ رده المعهود وكله سفاسف وجهل شنيع للقواعد العربية والأصول اللغوية، أخذت القلم لأكشف عوراته ثم فكرت في نفسي وقلت أهذا مكافأة من أحسن إليك وأنقذ مجلتك من أن تغلق في تلك السنة للخسارة التي لحقتها. فكسرت القلم وقلت الإقرار بالفضل والإحسان من شيم كرام النفوس، والغض عن الرد خير من الاستسلام للغيظ. وهكذا سكت، ولو لم يكن بِرُّ هذا الرجل وماله بالفضل علي لسحقته سحقاً، لأن ما في. . . من الأوهام والخبط والخلط يسود عين الشمس في رائعتها. والآن أقول إن. . . نصاب في الأدب ولا يقاربه أحد في نصبه، ولكن إذا كانت أموره
تجوز على بعض السذج، فإنها لا تجوز على من له أدنى إلمام بالأدب).
ثم يقول حضرة الأب المهذب:
(أتعلمني بمنزلة. . . وأنا أعلم علم اليقين أنه لا يرى في مادة واحدة من مواده إلا أغلاط جمة؟ ومع ذلك أقول ولا أخاف لومة لائم إن أغلاط. . . دون أغلاط. . . فإن هذا الأخير أفسد كل مادة فساداً لا تقوم له قائمة، وليس للرجل أقل اطلاع على اللغة ولا على علم. . . ولا على نقل الألفاظ من الإفرنجية إلى العربية. والآن أجيبك على سؤاليك:
(1 - إني تسامحت كل التسامح في نقد. . . لأنه أحسن إلي. ولم أفعل مثل هذا الفعل في نقد. . . لأنه لا فضل له عليَّ فلم أسامحه لأنه زاد فساد ألفاظ. . . وأوهامه زيادة فاضحة.
(2 - إذا نقدت ثانية. . . أهتكه هتكا من غير أن أستعمل كلمة جارحة كما فعلت مع. . . لأن. . . اشتغل أكثر من. . . وعانى مشقات أعظم. أما لو أردت أن أنزله دركات جهنم لما صعب علي لأنه هيأ لي الوسائل والذرائع لإنزاله في تلك المهاوي) ا. هـ
هذا كلامك يا حضرة الأب عندي بخط يدك أنشره على الناس ليعرف الناس لماذا تكتب وتحت أي تأثير تكتب، فإن لم تسكت نشرته في كراسة مطبوعة بالزنكوغراف، ولو أني بذلك سأسيء إلى أصدقاء هم من دمي وأهلي الذين تتهاتر عليهم بعلمك، وأتحمل في سبيل ذلك حساب ضميري على أن أنزل أسماءهم الشريفة المنزلة التي لم أجد بدونها وسيلة إلى إسكاتك أبد الآبدين.
وتحت يدي أيضاً كتاب آخر أرسلت به إلى صديق لك قديم يدل على مقدار ما تعرف من قدر الصداقة، إن أنكرته نشرته أيضاً.
وبعد فقد يكون في كتاب الذخيرة كل الأوهام التي أشار إليها حضرة الأب المهذب، وقد يكون بعض هذه الأوهام من (حذلقاته) المعروفة فإني لم أعن بتحقيق ما جاء بنقده، فإني ما أردت بهذا الرد إلا أن أقرر واقعاً وأنفي عن رجالنا شبهات يكيلها لهم هذا الرجل كيداً وظلماً. وإني لأعلم أني سأتلقى على يده من الإهانات والسباب ما سوف أتقبله.
وكلمة أخيرة أتوجه بها إلى الأستاذ الفاضل أحمد أمين عميد كلية الآداب ومحرر الثقافة فأسأله: هل من اللائق أن يُوَجَّه على صفحات الثقافة ألفاظ وعبارات كتلك التي وجهها حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك وهو له زميل في الجامعة وأستاذ مثله فيها؟
هل يقبل أستاذ أن ترمى الجامعة التي هو أحد أساتذتها وعميد كلية الآداب فيها بأنها فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها وأنها تروج إفساد اللغة وأنها تثبت الألفاظ المشوهة؟
إسماعيل مظهر
كلمات.
. .
تعريف
هذه (كلمات) كنت أكتبها في مجلة أسبوعية أدبية منذ سنوات ست. ثم داومت على كتابتها في جريدة (البلاغ) وفي صفحتها الأدبية والثقافية بعد ذلك بضعاً من السنين.
وهذه (الكلمات) القصيرة التي أرجو أن يشرفني قراء (الرسالة) بقراءتها كل أسبوع لن تجاوز أن تكون نقداً لبيت قديم أو جديد من الشعر، أو إعجاباً ببيت كذلك أو أبيات من الشعر جديد أو قديم، أو نقداً لرأي أو فكرة أو عرَضٍ من أعراض حياتنا الثقافية أو الأدبية، إلى مثل هذه الشؤون الاجتماعية والأدبية التي هي وحي (الرسالة) ورسالتها لمصر والشرق.
كتب صديقنا الدكتور زكي مبارك يعلّق في الرسالة على كلمة الأستاذ محمد عبد الغني حسن بشأن (استهانة الجمهور بقواعد اللغة العربية) على حد تعبير الدكتور مبارك. وكان الموضوع الذي أثار الأستاذ عبد الغني فكتب ما كتب، هو إعلان في صحيفة وجد فيه طائفة من الأغلاط الشائنة.
وإذا كان الأستاذ محمد عبد الغني يثور ويغضب لأغلاط وجدها في كتابة إعلان تجاري حرّره عامل في متجر لم يقرأ سيبويه ولم يعرف ألفية ابن مالك ولا ألفية ابن معطى، وإذا كان الدكتور مبارك يثور ويغضب لأنه وجد صديقاً له من رجال وزارة المعارف يحاضر ويلحن، فإن هذا وذاك - إذا قيس بغيره - ليس مما يغضب ولا مما يثير.
ليستمع صديقنا الدكتور مبارك إلى كثير مما يذاع في الراديو المصري من المحاضرات والأحاديث، فأنه يجد كثيرين من المحدثين وكثيرين من المحاضرين يحرصون الحرص كله على أن يكون نطقهم حين ينطقون الأسماء والأعلام الإفرنجية صحيحاً سليماً، ولا يعنيهم ولا يسوؤهم أن يكون نطقهم للعربي من الأسماء والأعلام عليلاً سقيما. فهم حين ينطقون اسم (بيتان) يحرصون على أن يضموا شفاههم على حرف الباء منه ضماً قوياً ثم يفرجون عنها مسرعة قوية كما يفعل الفرنسيون الأصيلون حين ينطقون به.
وهم حريصون على أن يدغموا في أنوفهم حرف النون في نهايته حتى لا يبين إلا غنة قصيرة مثلاً شبه ضعيفة كما يفعل الأصيلون من الفرنسيين.
ولكنهم حين ينطقون اسم محمد أو محمود أو غيرهما من الأسماء والأعلام العربية، لا يحرصون ولا يسيئهم أن يكون نطقهم لها على وجه خاطئ بيّن الخطأ.
وليقرأ صديقنا الدكتور مبارك العدد الأخير من مجلة الراديو المصري فسيجد أنها كتبت اسم الصحابي الجليل (أبا ذر الغفاري) هكذا (أبو زر)(عدد 297 من المجلة)
والراديو المصري هو المجلة الرسمية للإذاعة اللاسلكية المصرية ويشرف على تحريرها كاتب أديب من الطراز الأول هو الأستاذ محمد سعيد لطفي.
ولكن حين كتبت هذا عن المذيعين والمحاضرين وعن المجلة الرسمية للإذاعة المصرية نسيت أننا في مصر كنا إلى سنة واحدة نطبع جداول الجلسات لمجلس وزرائنا باللغة الفرنسية ولا نطبع باللغة العربية. . .!
وبلد هذا مقدار حرصه على لغته في مجلس وزرائه، لا يلام فيه عامل في متجر أو محاضر أو محرر مجلة على اللحن والخطأ. . .!
وأظن صديقنا الدكتور مبارك والأستاذ محمد عبد الغني حسن قد نسيا هذه الحقيقة من قبلي حين كتبا ما كتبا. . .!
(محمود)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
الحرب اليونانية ونتائجها
هل تؤدي الحرب اليونانية إلى انتصار قضية الديمقراطية؟ أو بعبارة أوضح هل يكون الميدان اليوناني الألباني ذا أثر كبير في وضع حد للحرب العامة؟ سؤال وجهه إلى أحد القراء، وهو سؤال طالما سمعته في المجالس، فرأيت أن أوضحه للقارئ. فإن انتصار اليونانيين وتقدم قواتهم السريع أمر غريب كما قال ملكهم. ولم يتوقع أحد أن يكون غزو إيطاليا لليونان سهماً قاتلاً يوجه للحركة الفاشستية، فيكشف عن ضعف عجيب في أحد طرفي المحور.
أما النصر النهائي لقضية الديمقراطية في الميدان الألباني فأمره مستبعد، فإن موقع الميدان الألباني الجغرافي لا يسمح بأن يرى العالم مصرع حكم الإرهاب، وإن كان هذا الموقع يعتبر أحد المنافذ القاتلة لحركات المحور العسكرية والسياسية، فقد كشف عن خطأ كبير، وأتاح للإمبراطورية البريطانية الحصول على مواقع كبيرة الخطورة جعلت الأهداف الألمانية والإيطالية أيسر تناولاً مما كانت عليه.
وليتاح لنا فهم الموقف بسهولة يحسن بنا أن نوضح ناحية من نواحي السياسة العسكرية البريطانية؛ فعندما انهارت فرنسا انهارت معها جميع الخطط العسكرية، سواء في الشرق أو في الغرب، وأصبح الدفاع عن الميادين التي تسيطر عليها أمراً متعذراً فضلاً عن اتباع سياسة الهجوم. ولكن هذا الوضع العسير لم يضعف من عزيمة الإنجليز، فرفضوا الصلح الذي عرضه هتلر وصمموا على مواصلة القتال. ولم يتمكن المحور من استغلال هذه الفترة والقضاء على قوات بريطانيا أو إضعافها في ميادينها بفضل الأسطول البريطاني البحري الذي عرقل مواصلات إيطاليا مع ممتلكاتها في أفريقيا ومنع عنها الإمدادات ومنع ألمانيا أيضاً من غزو الجزر البريطانية.
ويمكن القول أن سياسة إنجلترا العسكرية منذ ذلك الوقت إلى الآن هي سياسة استغلال الفرص. وكانت حماقة موسيليني في غزو اليونان فرصة ثمينة، مكنت القوات البريطانية من الحصول على أربع نتائج باهرة تحقق ثلاث منها وما زالت إحداها في دور التحقيق،
وإن يكن جزء منها قد تحقق.
الدوديكانيز
وإحدى هذه النتائج الثلاث زوال أهمية جزر (الدودكانيز) كقواعد حربية إيطالية، فإن استيلاء القوات البريطانية على جزيرة كريت والجزر اليونانية القريبة من الدودكانيز عزلها عن قواعد تموينها، وأصبح اتصال إيطاليا بها أمراً شديد الخطر.
واقتراب القواعد يتيح للدوريات سواء كانت بحرية أم جوية مراقبة البحر مراقبة دائمة، وسرعة الاشتباك بالقوافل الإيطالية سواء بقوات تقصدها من الإسكندرية أو كريت أو اليونان، ومن ثم أوصد الطريق في وجه القوافل الإيطالية فضلاً عن سهولة مهاجمة جزر الدودكانيز واحتلالها من الجزر القريبة منها.
وكانت جزر الدودكانيز طرف قواعد الارتكاز التي تكون خطاً بحرياً طرفه الآخر على شواطئ ليبيا الأفريقية، والغرض منه عرقلة الملاحة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض، وفقدان جزر الدودكاينز لأهميتها أو احتلالها يفقد إيطاليا كل سيطرة على الجزء الشرقي لحوض البحر الأبيض المتوسط، أضف إلى ذلك أنها كانت تعتبر إحدى القواعد التي يسهل منها تهديد تركيا في منطقة المضايق وسوريا وفلسطين.
الخسائر العسكرية
ومني المحور أو طرفه الصغير بخسائر عسكرية فادحة لها أثرها في استعدادات إيطاليا في الميادين الأخرى وهي النتيجة الثانية، فلم يكن غزو اليونان نزهة كما ظن موسوليني وأركان حربه، ولكنه كان فاجعة إيطالية، كلفتها عتاداً حربياً ورجالاً وهيبة عسكرية. ولا يتاح لنا الآن أن نكشف الغطاء عن حقيقة هذا الخذلان الإيطالي.
وقالت بعض المصادر إن القوات الإيطالية استعملت في زحفها طرقاً ضيقة محصورة بين الجبال، وكانت قوات يونانية تكمن فيها فلما توغلت الوحدات الإيطالية صبت عليها الجنود اليونانية نارها، وفي الوقت نفسه ثارت بعض القبائل الألبانية وهاجمت مؤخرة الجيوش الإيطالية فتعذر عليها التقدم أو التأخر، واضطر الإيطاليون إلى الهرب بأرواحهم مخلفين عتادهم وذخيرتهم في عملية انسحابهم السريعة.
فإذا أضيف هذا العتاد إلى ما أرسلته إنجلترا إلى اليونان من معونة، فإن استرداد الإيطاليين لمواقعهم السابقة يسبب لهم خسائر فادحة لا تتحملها مالية إيطاليا الضعيفة.
ويتبين من خط الزحف اليوناني كما يرى بعض الخبراء العسكريين أن خطة اليونان تعمل على تطويق القوات الإيطالية إذ توالي زحفها إلى الباسان - وهي منطقة ثائرة تؤيد اليونان وتعادي إيطاليا - ومنها إلى تيرانا فالشاطئ؛ فإذا تحققت هذه الخطة فلا يبقى للقوات الإيطالية إلا الانسحاب من ألبانيا.
صدمة سياسية
وثالثة النتائج هي ضياع هيبة المحور السياسية، فإن دول البلقان التي كانت تحرص على إجابة طلباته بدأت الآن ترى في اليونان بارقة أمل في الاحتفاظ بوحدتها، وفي وقف هتلر عند حد، ولاسيما أنها ترى القوات البريطانية والتركية بجوارها، فبلغاريا التي كانت إلى أمد قريب إحدى نصراء المحور قالت له أخيراً: لا. ويوجوسلافيا التي كانت ترى نفسها منعزلة عن العالم لا يتيسر إنجادها إذا دنت الساعة ترى النصير قريباً منها في اليونان وألبانيا.
وأخطأت السياسة الألمانية خطأ كبيراً بما ارتكبه رجالها في رومانيا باسم الحرس الحديدي، فإن جميع الوعود الألمانية لم يكن لها قيمة، وجميع التضحيات التي بذلتها رومانيا بمشورة هتلر لم تنقذ بلادها من الاحتلال واختلال الأمن، فقسمت أرضها بين الروسيا وهنغاريا وبلغاريا، ومع هذا احتل الألمان أرضها، فهل بعد هذا من داع يوجب الاستسلام؟ وإذا كان اغتيال رؤساء الوزارات هو النتيجة، فإن الساسة ليفضلون أن تحتل بلادهم قهراً وأن يموتوا في ميدان القتال على أن تهدر دماؤهم دون ثمن.
الأسطول السجين
والنتيجة الرابعة للحرب اليونانية هي تحكم إنجلترا في مدخل البحر الإدرياتيكي باحتلالها لكورفو وللشاطئ اليوناني الشمالي والألباني الجنوبي. فمنذ احتل الإيطاليون ألبانيا أصبحوا سادة هذا البحر، وزوال سيادتهم عن ألبانيا أو عن جزئها الجنوبي زوال لهذه السيادة، ويتيح للأسطول البريطاني السيطرة على القوات البحرية الإيطالية التي اتخذته قاعدة
حصينة لها فتمعنها من الخروج إلى البحر الأبيض بل قد يتيسر له مقاتلتها فيه.
ونقص القوات البحرية الإيطالية معناه إضعاف مواصلاتها في ليبيا وتعريض قواتها فيها إلى الهلاك جوعاً.
مقتل المحور
والبلقان هو مقتل ألمانيا فليس لها من جهته الخطوط الحصينة التي أعدتها على حدودها الفرنسية، فمنه يسهل غزوها. وكان البلقان في بدء الحرب يتكون من دول محايدة لا يبيح العرف الدولي الاعتداء عليها، وبريطانيا تحرص على هذا العرف، ولكن سياسة ألمانيا الأخيرة أدت إلى كشف هذا المقتل، فأصبحت دول البلقان إما محتلة وإما مشتركة مع المحور باستثناء بلغاريا ويوجوسلافيا ولن تتركهما السياسة الألمانية في أمنهما. فإذا أزال المحور إحداهما زال الحائط المحايد، وسهل على القوات الديمقراطية الوصول إلى الاشتباك بالقوات الألمانية نفسها حيث تتم المعارك الحاسمة.
أما الميدان اليوناني فإن أقصى ما يمكن أن يحدث فيه هو طرد إيطاليا من ألبانيا، ويبقى بعد ذلك احتلال إيطاليا نفسها وألمانيا أيضاً وهو متعذر الآن فضلاً عن أن القوات البريطانية لم تبدأ بعد في تنفيذ سياستها الهجومية فما زالت سياستها حتى الآن سياسة استغلال للفرص.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة
إلى (الملاح التائه)
ما جفاك الإلهامُ يا شاعر الجن
…
دول والحبِّ والجمالِ الحبيبِ
كيف يجفو وما رأى مثل قيثا
…
رك يا صاح لاعباً بالقلوبِ
هبه يجفو! فأنت وحدك نبع
…
عبقري الظلال جَمُّ الطيوبِ
غاب موسى عن قومه فتلقَّى
…
كَلِمَ الله من وراء الغيوبِ
ولقد غاب مثلَه فتنظَّرْ
…
أيَّ فن يأتيك منه عجيبِ
ثم غرَّد به فإِنا ظماء
…
رِيُّنا في غنائك المحبوبِ
دمت يا شاعر الجمال ودامت
…
أغنيات الهزار والعندليب
(طنطا)
إبراهيم محمد نجا
كما يرانا غيرنا
في الطريق. . .
(عن جريدة (الإجبشيان غازيت) عدد 26 نوفمبر سنة 1940)
لمصر وسائل متعددة لتعليم الأوربيين الصبر، ومعظم الذين أقاموا بها
خمسة أعوام إما أن يكونوا:
1 -
قد تعلموا الصبر
2 -
أو استكشفوا فن (معلهش)
3 -
أو انغمسوا في حمأة مرذولة
4 -
أو غادروا البلاد وقد تحطمت أعصابهم
ومن أظرف الوسائل التي يستفاد بها الصبر أن تسير في شوارع القاهرة، وما من مدينة أصلح منها لذلك، لأن الإسكندريين مثلاً قد هداهم بعض الغريب من حيل الأقدار إلى اعتياد المشي على الطوار في غير حاجة إلى المزاحمة بالمناكب، ودفع هذا ومنع ذلك من المارة في الطريق، وبغير أن يضطروا المساير إلى الإلقاء بنفسه تحت عجل السيارة أو الترام أو الدراجة أو تحت أرجل الحمير والخيل والجمال الضالة والثيران. ومعظم أهل القاهرة يسيرون كل خمسة منهم معاً في خطوط متعرجة كالتي يرسم بها الضوء جماعة المصورين على لوحات التصوير، وكأن الرجل متى خرج للمسير في هذه المدينة الغريبة قد نسي أن له غرضاً معيناً من المسير، أو كأنه يغضب إذ يعرف أن للغير من هذا المسير وجهة معينة.
ومن المناظر المألوفة في القاهرة مسير أبوين مع طفل أو اثنين أو خمسة من ذوي الأحجام المتفاوتة يصحبهم خادمان أو ثلاثة يحملون خمسة رؤوس من الخس وستة أعواد من القصب. فإذا ما رأيت جمعاً كهذا فخير ما تصنع أن تقفز من الطوار حتى لا يمر فوقك هذا الحشد الذي تتألف من مجموعه دبابة آدمية. ومن المناظر المألوفة كذلك أن يمر بك أربعة أو خمسة من النوبيين (السفرجية) بيد كل منهم عصا يلوح بها يميناً أو يساراً وارتفاعاً وهبوطاً فإذا ما تخطاك دون أن يصيب رأسك بضربة عصا كان من الطريف أن تبلغ
السلطات عن هذا الشذوذ النادر.
ومن المألوف كذلك في شوارع القاهرة أن ترى عشرة من البوابين قد جلسوا على مقاعد مصفوفة على شكل أفقي أو رأسي أو على شكل صليب في منتصف الرصيف، وقد حذقوا فن البصاق في كل اتجاه، ونصيحتنا لكل رجل أو امرأة أو طفل أو طائر إن رأوا منظراً كهذا أن يعودوا إلى منازلهم وأن يؤجلوا المشي في الطريق إلى يوم آخر.
ومن المناظر المألوفة كذلك مشية (العقدة التي لا تنفصم) وهذه المشية تتكون من اثنين من (الأفندية) متوسطي القامة يد كل منهما في يد الآخر وقد تشابكت أصابعهما وهما يسيران في خط متعرج، ولما يعرف العلم أية وسيلة لفك أحدهما عن الآخر. إنهما يسيران على مبدأ الدبابة التي تسير فوق أي شيء أو تحت أي شيء أو تخترق أي شيء. إنهما شديدا التماسك حقاً ومنهما تتكون وحدة ميكانيكية وإن تسميا بأي اسم آخر.
وأخيراً يرى السائر في شوارع القاهرة امرأة يتراوح وزنها بين المائة كيلو والمائة والعشرين يتبعها أربعة أطفال وخادمان وكلب وزنه ثلاثة كيلو جرام، والأطفال الأربعة يبكون، هذا في طلب كعكة وهذا في طلب موز والآخر في طلب عود من القصب أو رأس من الخس أو صفقة من البندق، والأم في انشغالها بالبحث عن (فستان) جديد لا تعنى بمطالب صغارها بل تضرب هذا وتصفع ذلك وتلطم الآخر وهم لا يزدادون إلا صراخاً والكلب يجري من بينهم تحت أرجل المارة ثم يعود.
إن رأيت منظراً كهذا فأسرع بالفرار قبل أن تصيبك من الأم لطمة أو صفعة.
ع
من أدب الحرب
أجنحة النمل
ضربُ المدائنِ ويْكَ ما سبَبُهْ؟
…
عجبَ الحكيم وما انقضى عَجبُهْ
المجد لا يُعطيه من يهبه
…
كلا، ولا يعطاه مُنْتَهِبُهْ
نبتٌ تزعزع في مواطنه
…
ويعيش حيث يُظلَّه حَسَبُهْ
فتيانَ روما ليس ينفعكم
…
مجدُ ترفع عنكمُ نسبه
شركاؤكم رفعوكمُ صَعَداً. . .
…
جاهٌ معارٌ بَعْدَه صببه
(وإذا استوت للنمل أجنحة
…
حتى يطير فقد دنا عطبه)
ماء (اللوار) يزيدكم سَغَباً
…
لا شهده لكمُ ولا ضَرَبهُ
قد شاء (هتلر) أن يداعبكم
…
فأثار ثائر جدكم لعبه
تغدو فرنسا من توابعكم. . .؟
…
هذا المزاح كثيرة شُعبه
لا، بل يجدُّ بكم ليوقعكم. . .
…
أنتم، وشارد لبكم، سَلَبُه
ويزيدكم بمزاحه طمعاً
…
عجباً، أينفق عندكم كذبه
الشام واليونان ملككمُ
…
والنيل أيضاً بعض ما يهبه؟!
جود ولا كالجود. . . ما سببه
…
لا خوفه منكم ولا رهبه!
وعجزتمُ عن نصر أنفسكم
…
أيكون في أمثالكم رغبه
عودوا بخيلكمُ ورجلكمُ
…
كم طامع قد ساء منقلبه
أو فاستمروا إن حلت لكمُ
…
كثبان (بقبقَ) أوحلت هُضُبه
في مصر متسع لمقبرة
…
للبغي إن لم ينجه هربه
عبد اللطيف النشار
من صلواتي:
هُنا محْرابُها. . .!
هُنَا مِحْرَابُهَا!. . . فَاخْشَعْ
…
مَعِي لِلْحُسْنِ يَا قَلْبِي!
وَبَارِكْ سِرَّ أَلْحَانِي
…
فَهذَا مَعْبَدُ الْحُبِّ
هُنَا وَكْرُ الْهَوَى!. . . كَمْ فِي
…
هِ هَدْهَدْنَا أَمَانِينَا!
وَكَمْ في ظِلِّهِ يَا قَلْ
…
بُ رَدَّدْنَا أَغَانِينَا
فَيَا ذَاتِي!. . . تَعَالَيْ قَبْ
…
لَمَا يَقْضِي مَعِي نَحْبِي
تَعَالَيْ!. . . حُبُّنَا يَا مَهْ
…
دَ أَشْوَاقي يُنَادِينَا!
سَكَبْتُ الرُّوحَ قُرْبَاناً
…
عَلَى مِحْرَابِكِ الظامِي!
وَصُغْتُ الْحُبَّ أَنْغَاماً
…
عَسَى تُرْضِيكِ أَنْغَامِي
فَيَا دُنْيَا تَسَابِيحِي
…
فُؤَادِي مِنْكِ مَسْحُورُ
أَنَا الشَّادِي. . . تَغَنَّتْ في
…
لَهَاثِي بالْهَوَى الْحُورُ
فَعِيشِي في حِمى حُبِّي
…
تَرِفُّ عَلَيْكِ أَحْلامِي
وَيَرْعَاكِ الْهَوَى وَالطُّهْ
…
رُ وَالإيمَانُ وَالنُّورُ!
أَنَا الصَّادِي!. . . وَكَمْ رَفَّتْ
…
أَغَارِيدِي عَلَى ثَغْرِكْ!
وَكَمْ يَا فِتْنَتِي أَغْفَتْ
…
مُنَى نَفْسِي عَلَى صَدْرِكْ!
وَكَمْ ضَمَّ الدُّجى الصَّابي
…
عَلَى شَوْقٍ خَيَالَيْنَا
وَطَافَ السِّحْرُ يَا نَبْعَ الْ
…
هَوَى الشَّافِي حَوَالَيْنَا
فَيَا دُنْيَايَ!. . . مَاذَا لَوْ
…
غَمَرْتِ الرُّوحَ فِي نَهْرِكْ
وَقُلْتِ لَها: مَعِي عِيشِي!
…
وَقَرِّي بِالْهَوَى عَيْنا!
تَعَالَيْ يَا هُدَى رُوحِي!
…
وَعِيشِي لِلْخُلُوِد مَعِي. . .!
تَعَالَيْ!. . . قَدْ مَضَى أَمَلِي
…
لِيَحْيَا فِي دَمِي جَزَعِي. . .
وَمَا يُرْضِيكِ أَنْ تمْضِي
…
حَيَاتِي فِي اليَبَابِ سُدَى!
فَهَيَّا نَسْكُبِ الأَشوَا
…
قَ فِيَ ثغْرِ الزَّمَانِ هُدَى
وَنَسْقِ الْكَوْنَ بِالأَلْحَا
…
نِ حَتّى لَا يَكادَ يَعِي!
وَنَشْرَبْ مِنْ عُبَابِ النُّو
…
رِ، قَدْ كِدْنَا نمُوتُ صَدَى!
القاهرة
محمود السيد شعبان
وحي السويس
لهفات!
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى رِبِيعي النَّضِيرِ
…
أَيْنَ يَمضِي مُطَرَّزاً بِزُهُورِي
وَشَبَابي كالْفَجْرِ غَرَّدَ فِيهِ
…
كُلُّ طَيْرٍ مُسْتَيْقِظٍ فِي ضَمِيرِي
وَأَنَا شَاعِرٌ أُصَلِّي لِفَنِّي
…
وَفَتَاتِي فِي مَعْبَدِ التَّفكِيرِ
الغُيُومُ الْبَيْضَاءُ يَركضْنَ رَكْضاً
…
فِي أَصِيلٍ مُلَوَّنٍ مَسْحُورِ
قُدْرَةُ اللهِ صَوَّرَتْهُ فَجَاشَتْ
…
فِي تَهَاوِيلِهِ فُنُونُ الدُّهُورِ
إِنْ هَذَا الأَصِيلَ، وَالأُفُقَ الْحَا
…
لِمَ، وَالشَّمْسَ فِي أزرقاقِ الأَثِيرِ
كالْبَسَاتِينِ فِي الفَضَاءِ أَفَادَتْ
…
عُمُرَ الوَرْدِ وَانْطِفَاَء الْعَبِير
غَيْرَ أَنّي قَدَّسْتُ أَلوَانَهَا في
…
وَجْهِكِ الْمُشْرِقِ الْبَهِيِّ النَّضِيرِ
فَلأَنْتِ الأَصِيلُ وَالليْلُ وَالصُّبْحُ
…
وَكَوْنٌ من الرُّؤَى والعُطُورِ
عَالَمٌ أَنْتِ. . . عَالَمٌ مُسْتَقِلّ
…
يَسَعُ الْخَلْقَ فِي خَيَالِي الْكَبِير
مَا انْتِشَائي بِحُسْنِ هَذِي الْمَجَالِي
…
وَهْوُ بَعْضٌ مِنْ حُسْنِكِ الْمَفْطُورِ
وَابْتِعَادُ الْمَزَارِ يَقْدَحُ فِي صَدْ
…
رِي لَهِيباً مِنَ الأسَى الْمَسْعُورِ
آهِ لَوْ كُنْتِ يَا شَقِيقَة رُوحِي
…
تَحْتَ جِنْحِي لَا صُورَةً فِي ضَمِيرِي
نَتَنَاغَى تَحْتَ الْجِبَالِ وَنشْدُو
…
كالْعَصَافِيرِ بَيْنَ أَيْكٍ شَجِيرِ
لِلْغُرُوبِ الذَّهِيبِ، لِلْبَحْرِ، لِلأَمْ
…
وَاجِ، لِلْحُبِّ، لِلشَّبَابِ الغَرِيرِ
لِلرِّمَالِ الصَّفْرَاءِ لِلجَبَلِ الشَّا
…
مِخِ لِلعُشْبِ للدُّجَى المَنْشُورِ
آهِ لوْ كُنْتِ يَا شَقيقَةَ رُوحي
…
تَحْتَ جِنْحِي لا صُورَةً في ضَميري
مَالَتِ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ وَأَلْقَتْ
…
جِسْمَهَا الدَّامِي في الْقَنَالِ السَّحيرِ
واكْتَسَى الطَّودُ حُلَّةً مِنْ طُيُوفٍ
…
غَازَلَتْهَا يَدُ الظَّلامِ المُغيرِ
وَسَرَى في الأجْواءِ رُوحٌ جَلِيلٌ
…
شَاعِرِيُّ مِنْ رَهْبَةِ الدَّيْجُورِ
وزَفيفُ الْمَسَاءِ يُمْعِنُ في السَّط
…
وعَلَى النًّورِ أو بَقَايَا النُّورِ
والْيَنَابِيعُ ثَجَّهَا اللَّيْلُ سُوداً
…
في بِطَاحِ السَّماءِ ثَجَّ الغَدِيرِ
وَأَوَاذِي الظَّلامِ مَرْتَطِمَاتٌ
…
في خِضَمّ مِنَ الدُّجَى مَسْجُورِ
خَطَرَتْ فِيهِ سُفْن أَيُّوسَ شَتَّى
…
بَعْدَ مَا صَاغَها مِنَ الْبِلُّورِ
والسُّكُونُ الْعَميقُ يَبْعَثُ في نَفْ
…
سِي حَنِيناً إلى الْبُكاءِ المَرِيرِ
وَأَطَلَّ الْهِلالُ يَغْسلُ بالضُّو
…
ءِ جِبَاهَ الآفاقِ حُلْوَ الْفُتُورِ
وَتَدَلَّتْ ضَفَائِرُ الشَّجَرِ الْبَا
…
سِقِ في الْفَجْرِ رَاقِصَاتِ الشعُورِ
دَاعَبَتْهَا الأَنْسَامُ فِي هَدْأَةِ اللَّي
…
لِ فَهَزَّتْهَا سَكْرَةُ الْمَخْمُورِ
وَانْبَرَى خَافِقِي يُنَادِي نِدَاءً
…
عَاليِاً فِي عُمْقِي قَوِيَّ الْهَدِيرِ
آهِ لوْ كُنْتِ يَا شَقِيقَةَ رُوحِي
…
تَحْتِ جِنْحِي لَا صُورَةً فِي ضَمِيرِي
أَنَا يَا أُخْتُ قَدْ تَعَشَّقْتُ أُمَّاً
…
فِيكِ تَرْعَاني كالوَلِيدِ الصَّغِيرِ
وتَمَنَّيتُ لَوْ عَلَى صَدْرِكِ النَّا
…
هِدِ أَغْفُو إلى صَبَاحِ النشُورِ
لَا أُبَالِي بِضَجَّةِ الكَوْنِ حَوْلِي
…
لَا وَلَا أُصْغِي لاصْطِخَابِ الْعُصورِ
فَارْفَعِينِي إلى سَمَائِكِ. . . إني
…
فِي حَضِيضٍ مِنَ الْخَنَا وَالْفُجُورِ
واسْمَعِيني فَإِنَّنِي سَأُغَنِّي
…
لَكِ لَحْناً مِنْ أَدْمُعي وَزَفِيرِي
آهِ لوْ كُنْتِ يا شَقيقَةَ رُوحِي
…
تَحْتَ جِنْحِي لا صُورَةً في ضَميرِي
عبد الرحمن الخميسي
رسَالة العِلم
من أمراء العلم
ماكسويل
للأستاذ قدري حافظ طوقان
أليس عجيباً أن يستنبط العالم بعض النظريات عن طريق الأرقام والمعادلات الرياضية؟ أليس مدهشاً أن تتنبأ المعادلات عن بعض الأجرام السماوية قبل أن يراها الفلكيون بالرصد؟
لقد رأى فراداي بعين البصيرة النافذة أن هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية في الأثير، ولكنه لم يثبت ذلك عملياً. وجاء ماكسويل وأتى بالعجب العجاب، إذ لجأ إلى الرياضيات في حل هذه المعضلة: هل هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية؟
وكانت محاولة، ولكنها موفقة، وانتصار عظيم للعلوم الطبيعية والرياضية. فلقد ابتدع معادلات أثبت بها أن في الفضاء اضطرابات كهربائية مغناطيسية تتصف بصفات الضوء، أي أن الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تحدث الضوء والحرارة، وتسير جميعها بسرعة الضوء وقدرها 186000 ميل في الثانية! فهو بذلك قد وضع أساس الفنون اللاسلكية التي نراها متغلغلة في العمران ومنتشرة في كل مكان.
كانت معادلات ماكسويل من أعظم الأعمال العلمية التي قام بها عالم، فقد رفعته إلى مصاف العلماء العالميين الذين أدوا للحضارة أجل الخدمات التي قامت عليها الاختراعات العديدة والاكتشافات المختلفة التي تفرعت عن بحوث اللاسلكي.
رأى بعض العلماء أن هناك اضطراباً في فلك أورانوس، وقالوا بوجود قوة تقصيه عن الطريق التي تحددها الحسابات والأرصاد، وأن هذه القوة ليست إلا نتيجة لجذب كوكب غير معروف. وقام الفلكيان (أدمس) الإنكليزي و (الفريه) الفرنسي حوالي منتصف القرن
التاسع عشر للميلاد، بالبحث في هذه المسألة فاستطاعا بقوانين الجاذبية والمعادلات الرياضية وحساباتها المعقدة أن يعينا مكان السيار المجهول وأن يحددا موقعه والطريق التي يسير عليها حول الشمس. وقد وجه الفلكيون فيما بعد مراقبهم إلى مكان السيار الجديد (نبتون) فوجدوه في الموضع الذي تنبأت عنه رياضيات أدمس والفريه.
وكذلك تنبأ العلماء عن طريق المعادلات والأرقام عن موقع سيار تاسع جديد أطلقوا عليه اسم (بلوتو
كانت هذه الحوادث واكتشاف الأمواج اللاسلكية من أجل الأعمال التي أقامت الدليل على صحة القوانين الطبيعية والمعادلات الرياضية، وهي من العوامل التي زادت ثقة العلماء بأنفسهم وبمقدرتهم على اكتناه أسرار الكون وروائع الوجود، كما كانت أيضاً من العوامل التي دفعت بالعلوم الطبيعية والرياضية والفلكية خطوات واسعة إلى التقدم والابتكار.
انحدر ماكسويل من عائلة عريقة في سكوتلاندة، وولد في ادنبرغ عام 1831 وتعلم في جامعتها وفي جامعة كمبردج ونال الجوائز التي لا تمنح إلا للمتفوقين. شغل مركز أستاذ في الفلسفة في مدة أربع سنوات، وكذلك أستاذ في الطبيعة والفلك في كلية الملك التابعة لجامعة لندن مدة ثماني سنوات (1860 - 1868) ثم اعتزل التعليم. وفي سنة (1871) تعين أستاذاً للعلوم الطبيعية التجريبية في جامعة كمبردج، وتحت رعايته نشأ معمل كافندش الشهير بنتائج بحوثه وروائع تجاربه. وتوفى في كمبردج عام (1879) أي أنه مات وعمره (49) سنة. وعلى الرغم من هذا العمر القصير، فقد وصل إلى أعلى المراكز العلمية التي يطمح إليها رجال العلم، وكان له مقام خطير بين علماء الفلسفة الطبيعية.
لقد تفتحت مداركه ومواهبه حينما كان في الخامسة عشرة من العمر فنشر رسائل علمية قيمة منها رسالة تبحث في طريقة ميكانيكية لرسم الأشكال الديكارتية البيضوية، وقد قرأها عنه الأستاذ فوربس في جمعية أدنبرغ الملكية.
وفي سن الثانية والعشرين نشر في مجلة هذه الجمعية رسالتين نفيستين تبحث إحداهما في توازن الأجسام المرنة، ويعترف العلماء بأن هذا البحث هو من الموضوعات الهامة التي تناولها ماكسويل، وكان الأساس الذي بنى عليه ابتكاراته فيما بعد.
واعترف معاصروه بفضله وعبقريته فمنحوه جائزة أدمس من كمبردج وذلك على أثر نشر
رسالة مبتكرة في حلقات زحل، فقد بين فيها أنها ليست مناطق جامدة أو سائلة وأنها مؤلفة من نيزكان. وكذلك منح جائزة رومفرد من الجمعية الملكية لبحوثه وتجاربه في اللون والألوان الأساسية في الطبيعة. وعنى بنظرية الغازات وحركاتها، وكانت من أهم البحوث التي طرقها، وظهر فيها كعالم جمع بين التجربة والرياضة فقد قدم سنة (1860) إلى مجمع تقدم العلوم البريطاني موضوعاً يتعلق بنظرية (برنوي) القائلة بأن الغازات مؤلفة من دقائق عديدة متحركة في حالة تصادم شديد، فأثبت في هذا الموضوع أن السنتمتر المكعب من الهواء (على درجة عادية) يحدث فيه (8000) مليون اصطدام بين دقائقه. وكذلك كشف قانون توزيع السرعات في ذرات الغازات ويعرف هذا القانون بقانون (ماكسويل).
وألف كتاباً نفيساً في نظرية الحرارة ورسالة قيمة في المادة والحركة واشتهر بتبسيطه بعض البحوث الطبيعية، تشهد بذلك محاضراته التي كان يلقيها أحياناً في مجمع تقدم العلوم البريطاني في (الجزئيات) و (المادة والحركة) و (التلفون) وبحوث أخرى في الغازات ولزوجتها.
درس الرياضيات وجال فيها وغاص في أرقامها ومعادلاتها فرسخت قدمه فيها رسوخاً مكنه من تسخيرها لميادين الطبيعة، وفي ذلك كشف أعظم مكتشفاته، وبلغ درجة جعلته من المقدمين في تاريخ تقدم الاختراع والاكتشاف. لقد فسر (ماكسويل) بحوث فراداي في خطوط القوة رياضياً، وكان من ذلك أن مكَّن العلماء فيما بعد من توسيع نطاق هذه البحوث وتطبيقها في ميادين الاختراع.
رأى في انتظام برادة الحديد خطوطاً في أشكال معينة عند نشرها على ورقة تحتها مغناطيس، دليلاً على وجود قوة مغناطيسية وأن خطوط هذه القوة هي شيء حقيقي أكثر من مجرد تفاعل بين قوتين، ويقول:(. . . ولا يسعنا إلا الظن بأنه حيث توجد هذه الخطوط لا بد من وجود حالة طبيعية أو فعل طبيعي على جانب كاف من الطاقة لإحداث ظاهرة انتظام برادة الحديد. . .) وفوق ذلك فرض ماكسويل أن للتيارات الكهربائية وجوداً مستقلاً في الفضاء والمواد المعزولة، وقد أسند إلى هذه التيارات الخواص التي تسند إلى التيارات الكهربائية التي تجري في دورات كهربائية مقفلة، وعلى ذلك فمن شأن هذه التيارات إحداث حقل مغناطيسي وتيارات بالتأثير بالإفاضة إلى حقلها الكهربائي. . .
وضع هذه الفروض أساساً وسخر الأساليب الرياضية، فإذا هو يستنتج وجود الأمواج الكهرطيسية وخرج بالقول إنه (. . . إذا تغيرت قوة (الحقل الكهربائي) تغيراً دورياً في السعة والاتجاه كان لا بد من حدوث موجة كهربائية. . .) وأوضح أنه إذا طبق هذا الأسلوب على الحقل المغناطيسي أمكن إحداث أمواج مغناطيسية، وقال:(إن الموجة الكهربائية يصحبها موجة مغناطيسية، والمغناطيسية يصحبها موجة كهربائية وأن الواحدة لا تحدث إلا والثانية معها، وأثبت أن قوة الحقل الكهربائي عمودية على قوة الحقل المغناطيسي، وأن كلا منهما عمودي على اتجاه التيار. . .) وظهر له أيضاً أن هذه الأمواج مستعرضة تشبه أمواج الضوء وأنها تسير بسرعة الضوء.
ولا يخفى أن هذا الاستنتاج ذو أهمية عظمى وكان له شأن كبير في تقدم اللاسلكي، وقد حمله على القول بأن الضوء قد يكون نوعاً من أنواع الطاقة الكهرطيسية لولا بحوث ماكسويل ومعادلاته لما تقدمت المخاطبات اللاسلكية تقدمها الحاضر، ولما كان في إمكان العلماء أن يملئوا الأجواء بعجيج الأمواج اللاسلكية وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والصور.
إن ماكسويل من الذين وضعوا الأسس التي يقوم عليها الاختراع في هذا العصر، ومن الذين أنعم الله عليهم بقوى خارقة عملت على ترقية الفكر العلمي وكشفت عن أسرار الطبيعة وغرائبها وأخضعت قواها لمطالب الإنسان، فهو من مفاخر الإنسانية ومن كبار العلماء المقدمين الذين تركوا آثاراً خالدة ومآثر جليلة في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية. إن ماكسويل وأضرابه من المستنبطين من أغلى الممتلكات التي تملكها الأمة ويقول هوفر:(. . . إن كل مبلغ من المال مهما يعظم ضئيل إزاء عمل هؤلاء الرجال الذين يملكون قوة الإبداع والتفاني والمثابرة على ترقية الفكر العلمي خطوة خطوة حتى يصلوا به إلى البيوت فينشروا فيها أسباب الصحة والراحة والرفاهة. إننا لا نستطيع أن نقيس ما عملوه لترقية العمران بكل أرباح البنوك في جميع أنحاء المعمورة)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
البَريدُ الأدبيّ
حول مسابقة الجامعة المصرية
1 -
كنت دعوت طلبة السنة التوجيهية إلى الإجابة عن طوائف من الأسئلة وأنا أوجههم إلى درس كتاب (وحي الرسالة) فأجاب الأديب فوزي مختار منصور الطالب بالمدرسة الخديوية إجابة تدل على فهم وذوق، وإن كان انحرف قليلاً عما رميت إليه من النص على الغلطتين المطبعيتين.
وأنص على الغلطة الأولى فأقول: جاء في كلام الزيات (كان جمال المرأة (داعي) الرغبة خافض الجناح)؛ والغلطة في (داعي) وصوابها (وادع) كما يشهد السّياق. وقد يقول الزيات إنها من القلب المكاني، فما هو القلب المكاني يا تلاميذ السنة التوجيهية؟
أما الغلطة الثانية، ففيها شبهة نحوية، فما تلك الشبهة يا صديقنا العزيز بمدرسة الخديو إسماعيل؟
2 -
كنت وجهت إلى الطلبة سؤالاً وأنا أدرس كتاب حافظ عفيفي باشا عن (الإنجليز في بلادهم)، والسؤال خاص بالفيلسوف الفرنسي صاحب العقد الاجتماعي، وقد ظهر أن حافظ عفيفي أخطأ حين قرر أن كتاب روسو شغل عند ظهوره مفكرَين إنجليزيين هما هوبس ولوك. أما وجه الخطأ، فيرجع إلى أن روسُّو لم يكن مفكراً معروفاً إلا بعد ظهور هوبس ولوك بعشرات السنين، فمن المستحيل عقلاً أن يكون كتابه أثَّر في هذين المفكرين.
وإلى الأستاذ شفيق غربال أقدم واجب الثناء.
3 -
قال قومٌ: إني بهذه الدراسات عطلت الغرض المقصود من مسابقة الجامعة المصرية، وأجيب بأن هذا المذهب في توجيه الطلبة مألوف في الجامعات، ولا سيما جامعة باريس، وقد أديت امتحاناً من هذا الطراز في أروقة السوربون، فلم أر توجيه الأساتذة ينفع غير الطلبة النجباء.
4 -
وقال آخرون: إني غيرت مذهبي في النقد الصريح، وأجيب بأن المقام لا يسمح بغير ما صنعت، لأني وقفت موقف المدرس، وقديما قيل: لكل مقامٍ مقال.
وأنا مع ذلك قلت كل شيء بأسلوب ينفع الطلبة ولا يؤذي المؤلفين.
5 -
واعترض أحد الباحثين بأني لم أشر إلى الناشرين، وهو اعتراض وجيه، وأقرر أن
ناشر كتاب (فيض الخاطر) هو لجنة الترجمة والتأليف والنشر، وناشر (وحي الرسالة) هو إدارة مجلة (الرسالة)، وناشر (الإنجليز في بلادهم) هو مكتبة النهضة المصرية، وناشر كتاب (التاريخ المصري) هو صاحب (البلاغ)، وناشر (المنتخبات) هو مكتبة الأنجلو المصرية.
وفي الأبحاث الآتية سأنص على أسماء الناشرين، بدون منّ عليهم، لأنهم أصدق أعوان المؤلفين، والله الموفق.
زكي مبارك
سكان المريخ في الشعر العربي القديم
لم يكتف الشاعر أبو العتاهية بالنص على أن في المريخ سكاناً بل هو يصف سكان هذا الكوكب باصفرار الشعر واحمرار الوجوه وزرقة العيون.
قال في وصف والبة الشاعر:
وكأن وجهك حُمْرة رئةٌ
…
وكأن رأسك طائر أصفر
فعرفنا من ذلك أنه أحمر الوجه أصفر الشعر
وفي قصيدة أخرى يقول في وصف والبة:
أراك ولدت بالمريخ
…
يا ابن سبائك الذهب
فجئت أقيشر الخدين
…
أزرق عارم الذنب
ولقد نقر أبا العتاهية على أن هذه المجموعة من الألوان تصف أهل المريخ لأنها صفات الجنس النوردي وهم فيما يقول الألمان أرقى البشر، وسكان المريخ مفروض فيهم أنهم أرقى من سكان الأرض.
ولكن بقيت مسألة أخرى هي عرامة الذنب. فإن صح أن سكان المريخ من ذوي الأذناب العارمة كما يقول أبو العتاهية فإن الجنس الذي يحارب الألمان من أجل سيادته من ذوي الأذناب العارمة كذلك. . . أم ليس ذلك كذلك؟
النشار
حكايات من الهند
لصديقنا الأستاذ عبده حسن الزيات ملكة أصيلة في القانون وقريحة بصيرة في الأدب؛ تجلت هذه وتلك فيم بحث من مسائل الفقه والاجتماع، وفيما ترجم من عيون الروايات والقصص. واختياره لما يترجم كاختياره لما يكتب موسوم بطابع الجد والجمال والفائدة. وآخر ما أخرجه إلى قراء العربية (حكايات من الهند) وهي أمثال حكمية كتبها بالإنجليزية الكاتب الهندي (إيار) وأودعها الخلاصة الخالصة لفلسفة الهند وتصوفها وآدابها وأخلاقها وعاداتها؛ ثم جلاها في معرض أخاذ من البلاغة العالية والفن المحكم، فجاءت (بعيدة المغزى على قرب منالها، عميقة القاع على هدوء سطحها، قوية الإيحاء على بساطة مظهرها). ثم ترجمها الأستاذ (عبده الزيات) ترجمة أمينة رصينة جلتها على الوضع الأصيل من سلاسة الأسلوب وسلامة الإيجاز ودقة الأداء. وترجمة هذا النحو من الأمثال القصيرة أشق على المترجم وأدل على براعته، لأنها لقصرها تكره الفضول، ولإيجازها تخشى الغموض، ولبساطتها تنكر التكلف. فإذا لم يتح الله لها قلماً كقلم الأستاذ الزيات رصيناً بطبعه بليغاً بفنه، ذهب الجمال المستسر فيها، وبعدت الغاية المقصودة منها. والكتاب بعد ذلك أنيق الوضع والطبع؛ فنشكر للأستاذ الزيات هذا الجهد النافع. وننصح لقرائنا ألا يفوتهم الأنس بهذه الأقاصيص، فإن في معاريضها متعة وفي مغازيها عبرة.
وفاة الأستاذ محمد مسعود بك
في يوم الاثنين الماضي استأثر الله بالأديب البارع والعالم المحقق والمترجم الصادق الأستاذ محمد مسعود بك عن 69 عاماً أنفقها في رياضة القلم وخدمة الثقافة وتصحيح المعرفة. ففي شبابه حرر (المؤيد) ثم أصدر (المنبر)؛ وفي كهولته ولي إدارة المطبوعات فوجه الصحافة والنشر التوجيه الصالح في الطريق البالغ. وفي شيخوخته عكف على البحوث التاريخية والجغرافية واللغوية، فنشر منها في الصحف الطريف الممتع. وكان في غضون عمره المبارك لا يفتر عن التأليف والتحرير والترجمة حتى ترك للمكتبة العربية ثروة قيمة لا ينقصها إلا الجمع والترتيب والنشر. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض اللغة والأدب منه خير العوض.
موسى عليه السلام
نقل الأستاذ (شيبوب) عن العلامة (فرويد) أن موسى كان مصرياً لا عبرياً، وأيد رأيه بأن كلمة (موسى) مصرية بمعنى عبد، وفي العدد 387 من الرسالة سأل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي عن موسى عليه السلام أمصري هو أم عبري، وذكر ما قرأه في بعض الكتب القديمة من أن كلمة (موسى) سريانية مركبة من كلمتين (مو - شا) و (مو) بمعنى ماء، و (شا) بمعنى شجر، فهي بمعنى ماء وشجر، لأنه وجد بين ماء وشجر.
وأنكر الأستاذ محمد صابر أن كلمة (موسى) مصرية وأنها بمعنى عبد، ولكنه لم يذكر رأيه في أصلها.
والحقيقة أن كلمة (موسى) هي اسم مفعول من الفعل (مَشَاهْ) بمعنى انتشل بالعبرية؛ والتوراة تنص على ذلك، ففي سفر الخروج - الإصحاح الثاني ص89 (10) (ودعت اسمه موسى وقالت: إني انتشلته من الماء) (فتقراه شموموشى فتومركي من هاميم مشيتيهو) فموشى بمعنى المنتَشل في العبرية.
وأما أصله فعبري أيضاً يدل على ذلك ما جاء في العهد القديم في سفر الخروج - الإصحاح الثاني (6)(ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبي يبكي، فرقت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين)
وفي القرآن الكريم (. . . فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه). وفي سفر الخروج نجد (11)(فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من اخوته).
كل هذا يقطع بأن (موسى) عليه السلام عبري أصلاً واسماً.
محمود السيد أبو السعود
مجلة الحديث تصدر عدداً خاصاً عن الدكتور أدهم
من شهرين ونصف تقريباً أعلن الأستاذ إبراهيم أدهم شقيق الدكتور إسماعيل أدهم بمجلة الرسالة عن صدور عدد خاص بالفقيد من مجلة الحديث وفاء منها لأحد كبار كتابها الذين خدموا الأدب العربي الحديث بتلقيحه بثمار الفكر الأوربي ونتاج البحث الاستشراقي. وقد دعاني الأستاذ إبراهيم للاشتراك في تحرير هذا العدد كما دعا هو والأستاذ سامي الكيالي -
صاحب (الحديث) - الكثيرين من كبار الأدباء والمفكرين في الشرق العربي للمساهمة في ذلك العمل النبيل. وكان المنتظر أن يكون أول المجيبين لتلك الدعوة الأدباء الذين قدّم لهم الفقيد الخدمات الأدبية الخالدة. وهل ينتظر فناننا المصري توفيق الحكيم من يكتب عنه أمثال تلك الدراسة التي كتبها عنه الدكتور أدهم وصدر بها عدد خاص من مجلة الحديث، تلك الدراسة التي لم تخدمه فقط بل خدمت القصة المصرية جمعاء لعرض تاريخ كتابها كمقدمة للكتابة عن الفنان الحائر توفيق الحكيم. ولا يسعني أيضاً إلا أن أعجب من موقف الدكتور طه حسين الذي لم تلفته وفاة الدكتور أدهم لكتابة كلمة وفاء لذكراه التي إن لم تكن خالدة بالنسبة لما قدمه لأدبنا فهي خالدة لما قدمه من دراسة وافية عن الدكتور. وليسمح لي الأستاذ الكبير الزيات بأن أعرض عرضاً سريعاً لمواد ذلك العدد من الحديث. ومجلة الحديث قبل كل شيء مجلة تخدم الفكر الحر وتعمل في نهضة أدبنا الحديث بجد وإخلاص، إلا أن ظروف الحرب قد اضطرتها كما اضطرت غيرها من زميلاتها في الشرق العربي إلى أن تنقص من كمِّها بدون أن يؤثر ذلك على كيفها. وقد ظهر ذلك في العدد الخاص بالدكتور أدهم لمن يعرف الحديث قبل ذلك، وزين العدد بصورة للفقيد وقت تخرجه من جامعة موسكو، كما صدر العدد بكلمات قصيرة لبعض كتاب العربية من أمثال المرحوم الرافعي والأستاذ الزيات والأستاذ سلامة موسى والدكتور أبي شادي. وتأتي بعد ذلك كلمة وافية لمحرر المجلة الأستاذ سامي الكيالي تتبع فيها الفقيد في جميع أدوار حياته كما كتب الأستاذ صديق شيبوب عن ذكرياته مع الدكتور أدهم. وأودع صديق الفقيد الشاعر حسن كامل الصيرفي عصارة قلبه المكلوم قصيدة من أروع شعره الرمزي الطليق الخيال. وقد تناول الأستاذ محمد عبد الغني حسن أسلوب أدهم بالتتبع والنقد. وثم كلمة أخرى للأستاذ السحرتي المحامي. وعداها لا توجد كلمات أخرى لكاتب مصري غير كلمتي عن (أثر الرياضيات في حياة أدهم الفكرية والعملية) لا العلمية كما وقع خطأ في المجلة. وما كنا ننتظر ذلك من أدباء مصر ولا كانت تنتظره مجلة الحديث فقد كاتبني الأستاذ سامي الكيالي متأسفاً (لتقاعسهم) عن أداء الواجب عليهم.
وقد ختم العدد بمقال لشقيق الفقيد تحت عنوان (مع أخي في فترات حياته).
وغير هذه المقالات التي نشرت مقالات أخرى ضاق العدد عن نشرها فاضطر المحرر
لتأخيرها إلى الأعداد التالية من الحديث.
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار
القَصَصُ
(سانياسي) أو الزاهد
مسرحية رمزية رائعة لشاعر الهند طاغور
ترجمة الأستاذ فخري شهاب السعيدي
- 1 -
((سانياسي) خارج الكهف)
- إني لا أميز بين النُّهُر والليالي، ولا أعرف فارقاً بين الأشهر والسنين، لأن تيار الزمن الذي يتراقص العالم على متن أمواجه تراقص العُصَافةِ والعساليج ساكن لدي. إني في هذا الكهف المظلم وحيد، مغمور في نفسي؛ والليل الأبديّ ساجٍ كبحيرة في جبل خائفة من عمق ذاتها؛ والماء يرشح ويَنْقُطُ من الشقوق، والضفادع القديمة سابحة في البُركِ. فأجلس مترنماً بترانيم العَدم؛ وحدود الكون تتناءى خطّاً إثر خط. أما النجوم فإنها تنطفئ انطفاءَ الشرر المتطاير من سندان الزمن؛ وأما سروري فهو سرورُ الإله (شيفا) الذي يستيقظ بعد دهور يقضّيها في حلمه فيجد نفسه وحيداً في قلب الفناء الذي لا حَدّ له. إني حرّ طليق. إني أنا هو الأحد الصمد العظيم. إني إذ كنتُ عبدَكِ يا أيتها الطبيعة: سَلْطْتِ قلبي على ذاته، وجعلتِهِ يثير حرب الانتحار الشعواءَ في عالمه. وقد أثارتْ فيّ سَورْة الغضب تلك الشهوات التي لا غاية لها غير نهش ذاتها والتهام كل ما يقترب من أفواهها، فركضْتُ ركضَ المجانين في مطاردة ظلي. لقد سقتِني بأسواط ملذاتكِ الخاطفةِ إلى خلاء الشبع، ومشاعر الجوع، وقادَتني دوماً مغرياتُكِ إلى القحط الذي لا انتهاء له حيث انقلب الطعام إلى تراب واستحال الشراب إلى بخار!
وإلى الوقت الذي كان فيه عالمي مُبقعاً بالدموع والرماد أقسمتُ بالانتقام منك يا أيتها السيدة التي لا حَدَّ لمظهرها وتنكّرها. لقد لذْتُ بالظلام، معقل اللامتناهى، وكافحتُ النور الخادع يوماً فيوماً إلى أن فقد جميع سلاحه وارتمى منخذلاً عند قدمي. والآن، وأنا منعتق من رق الخوف والشهوات؛ الآن، وقد زال الغمام وانبعث من عاقلتي نور الطهارة والذكاء. فَلأخرج
إلى عالم الأكاذيب ولأجلس على قلبه غير ملموس وبلا حراك.
- 2 -
((سانياسي) على الطريق)
- ما أصغر هذه الأرض وما أضيقها، وما أشد هذه الآفاق ثباتاً في تطويقها! إن مرأى الشجرِ والدور وجميع الأشياء ليضغط على عيني ضغطاً. والنور! إنه مثل قفص في حبسه ظلام الأبدية عن الدخول. والساعات! إنها لتصرخ وتتواثب داخل حواجزها كأنها الطيور إذ تُحبس. ولكن ما لهؤلاء الرجال الصاخبين ينطلقون راكضين ولأي مقصد يِسعون؟ لكأنهم خائفون من أن يضيعوا شيئاً لا تستطيع أيديهم بلوغه!
(تمر زحمة من الناس)
(يدخل شيخ القرية وامرأتان)
المرأة الأولى: يا لله إنك لتضحكني
المرأة الثانية: ولكن من قال إنك عجوز؟
شيخ القرية: إن بعض الحمقى يحكمون على الناس من مظاهرهم.
المرأة الأولى: وا حسرتاه! لقد كنا نرقب مظهرك منذ عهد حداثتنا، وهو باق على ما عهدناه لم يتغير في خلال هذه السنين
شيخ القرية: مثل شمس الضحى
المرأة الأولى: أجل مثل الشمس في رائعة النهار
شيخ القرية: أيتها السيدتان، إن في ذوقكما ميلاً إلى الصرامة في النقد، إنكما تعنيان بتوافه الأمور
المرأة الثانية: دعك من هذا اللغو يا (أناكا) ولنسرع في العودة إلى البيت وإلا ثار ثائر زوجي
المرأة الأولى: أستودعك الله يا سيدي. وأرجو أن تحكم علينا من ظواهرنا فلن نعير ذلك اهتماماً
شيخ القرية: ذلك لأنه لا ذات حقيقية لكما يمكن التحدث عنها غير هذا الظاهر!
(يخرجون)
(يدخل ثلاثة قرويون)
القروي الأول: أيشتمني الوغد؟ لَيقْرعنّ سنّ الندم إذا
القروي الثاني: يجب أن يلقن الدرس بليغاً
القروي الأول: الدرس الذي سيتبعه إلى الرمس
القروي الثالث: أجل يا أخي، فلا تنثن عزيمتك ولا تترك له الفرصة السانحة
القروي الثاني: لقد أخذه الغرور والتعاظم
القروي الأول: تعاظم ينتهي به إلى الانفجار
القروي الثالث: إذا نجحت أجنحة النمل كان في ذلك هلاكه
القروي الثاني: وهل أحكمتم لأنفسكم منهاجاً؟
القروي الأول: لا منهجاً واحداً فحسب، بل مئات المناهج سأقلب عالي بيته سافله بمحراثي، وسأطوفه على حمار في المدينة مشهراً به صابغاً وجهه بالصباغ الأبيض والأسود، وسأثير غضب العالم كله عليه و. . .
(ينصرفون)
(يدخل تلميذان)
التلميذ الأول: إني واثق بأن الغلبة في المناظرة إنما كانت للأستاذ (مدهب)
التلميذ الثاني: كلا، بل الأستاذ (جاناردان) هو الذي فاز
الأول: لقد ثبت الأستاذ مدهب على رأيه حتى النهاية وقال بأن الرقة بنت الخشونة
الثاني: ولكن الأستاذ جاناردان قد أتى بالبرهان القاطع على أن الرقة هي أصل الخشونة
الأول: يستحيل ذلك
الثاني: بل هذا أمر واضح كالنهار
الأول: إنما أصل البذور الشجرة
الثاني: بل البذرة هي أصل الشجرة
الأول: ما قولك يا سانياسي؟ أي هذا هو الحق؟ أي هذين الأصل: الرقة أم الخشونة؟
سانياسي: لا هذه ولا تلك
الثاني: لا هذه ولا تلك؟ إن في هذا الكفاية
سانياسي: ما الأصل إلا النهاية، وما النهاية غير الأصل. إنها حلقة، وإن من جهلكما ينشأ الخلاف بين الرقة والخشونة.
الأول: الأمر واضح جداً. وما أرى في هذا غير قول أستاذي
الثاني: بل إن هذا لينطبق على تعاليم أستاذي أنا بغير شك
(ينصرفان)
سانياسي: هذه الطيور لواقط كلم، وما سعادتها إلا بالتقاط اللغو الملتوي الذي تملأ به أفواهها.
(تدخل بائعتا زهر)
تغنيان: (تمر الساعات بطيئة؛
وتذوى الأزهار المتفتحة في النور
فتسقط في الظل
وقد خيل إلي أنني سأضفر إكليلاً
في سجسج الصباح لمحبوبي؛
ولكن الصبح يجر ذيوله متثاقلاً،
والزهر على غصونه لا يجد قاطفاً،
لأن حبيب النفس مفقود. . .)
أحد السابلة: ولم هذا الأسف يا عزيزتي؟ إذا ما تهيأت الأكاليل فالأعناق حينئذ متيسرة
إحدى الفتاتين: وكذلك الأرْسان!
الفتاة الثانية: إنك لشجاع مالك دنوت مني هذا الدنو؟!
الرجل: يا فتاتي، شجارك هذا لغير ما داع، فبيني وبينك ما يتسع لمرور فيل.
الفتاة الثانية: أفي الحق هذا؟ أمخوفة أنا بهذا القدر؟ إني ما كنت لآكلكَ لو أنك دنوت مني
(يخرجون ضاحكين)
(يجيء سائل)
السائل: أيها السادة الرحماء، اعطفوا، فلعل الله أن يكتب لكم التوفيق. أعطوني يسيراً من
خيركم الوفير.
(يجيء جندي)
الجندي: هيا ابتعد من هنا، أما ترى ابن الوزير قادماً؟
(يخرجان)
سانياسي: هذه ظاهرة النهار. إن الشمس لتستطع وتتوهج، والسماء كأنها طاس من النحاس منكفئة تتقد، وهذه الأرض تزفر بأنفاس حرار فتتراقص الرمال المائجة. كم من مشاهد هذا الإنسان رأيت فهل في استطاعتي أن أتراجع ثانية في صغر هذه المخلوقات لأكون منها؟ كلا، بل أنا طليق لا يعوقني في هذا الكون شيء. إني إنما أعيش في قفر موحش!
(تدخل (فاسنتي) الفتاة وامرأة)
المرأة: ألست ابنة (رافو) يا فتاة؟ عليك أن تبتعدي عن هذه الطريق، ألا تعلمين بأنها مؤدية إلى الهيكل؟
فاسنتي: إني يا سيدتي على الطوار الأبعد منها
المرأة: حسبت أن قد مسك ثوبي. إني حاملة هداياي إلى الآلهة، وأرجو ألا تكون نجِّست
فاسنتي: أؤكد لك أن ثوبك لم يمسسني (تذهب المرأة) إني (فاسنتي) ابنة (رافوا) فهل أدنو منك يا أبت؟
سانياسي: ولم لا يا طفلتي؟
فاسنتي: لأني رجس كما يدعونني؟
سانياسي: ولكنهم جميعاً دنسون. إنهم يتمرغون في تراب الوجود؛ وليس من نقيّ غير من نقَّى ذهنه من هذا الكون، ولكن ماذا بدر منك يا ابنتي؟
فاسنتي - لقد استهزأ أبي الذي اخترمته المنون بقوانينهم وآلهتهم، ولم يكن يقيم شعائرهم
سانياسي - مالك تقفين بعيدة عني؟
فاسنتي - وهل سَتَمُسُّني؟
سانياسي - نعم، لأني لا يمسني في حقيقة الأمر شيء. إني موغل في اللانهاية، إذا شئت أن تجلسي هنا فافعلي.
فاسنتي - (متحسرة) لا تأمرني بمغادرتك إذا ما قربتني مرة منك
سانياسي - كَفْكِفي عبراتك يا طفلة، إني أنا سانياسي الذي ليس ينفذ في قلبه شيء من ضغينة ولا هوى، وإذا لم تكوني لي فليس بوسعي أن أطردكِ. إن مَثَلَكِ إذا قيس بي كان كمثل هذه السماء الزرقاء. إني أراك كائنة وغير كائنة - أنت - في نظري
فاسنتي - أبتاه، إني منبوذة من الآلهة والناس على حد سواء
سانياسي - وكذلك أنا، لقد نبذتُ الآلهة والناس
فاسنتي - أليس لكَ أم؟
سانياسي - كلا
فاسنتي - ولا عندك أب؟
سانياسي - كلا
فاسنتي - ولا اصطفيْتَ خِلاَّ؟
سانياسي - كلا
فاسنتي - فسأكون معك إذاً. أفلا تغادرني؟
سانياسي - لقد استغنيتُ عن الفراق. في إمكانِكِ أن تظلي بجانبي ومع ذلك فأنت بعيدة عني!
فاسنتي - إني لا أفهمك يا أبتِ! خبرني أليس ثمة ملجأ لي في هذه الدنيا كلها؟
سانياسي - أتريدين ملجأ؟ ألم يبلغْكِ أن هذا العالم هوّة سحيقة لا تنتهي إلى قرار؟ هذه جماهير الخلق خارجة من حفرة اللاشيء في البحث عن ملجأ لها، فإذا هي تدخل في هذا الخواء الفاغر فاه وتضلَّ فيه! وتلك هي أخيلة الأكاذيب ملتفةً من حولكِ تقيم سوق أوهامها؛ وما الأطعمة التي تبيعها سوى الظلال! وإنها بذلك لتخدع جوعَكِ ولكنها لا تُشبِعُكِ، فاخرجي من هنا يا ولدي، اخرجي
فاسنتي - ولكني أراها في هذا العالم سعيدة يا أبتاه! أفلا نستطيع أن ننتبذ من هذه الطريق مكاناً نرقبها منه؟
سانياسي - إن هذه الجماهير لا تعي شيئاً ويا للأسف. إن بصائرها لا تدرك أن هذا الكون إنما هو الموت الأبدي الذي لا انتهاء له؛ إنه ليموت في كل لحظة ومع ذلك فلن ينتهي إلى الغاية. وأما نحن مخلوقات هذا العالم فإنما نحيا وقوام قوَّتنا هذا الموت.
فاسنتي - إنك لتملأ نفسي رعباً يا أبتاه!
(يدخل مسافر)
المسافر - هل أستطيع أن أتخذ لي ملجأ بالقرب من هذا المكان؟
سانياسي - يا بني ليس ثمة ملجأ إلا في أعماق نفس الإنسان. فابحث عن هذا وتمسك به إن أردت نجاة
المسافر: ولكني متعب وفي حاجة إلى ملجأ ما
فاسنتي: إن كوخي على مقربة من هذا المكان فهل تجيء معي؟
المسافر: ولكن من عسيت أن تكوني؟
فاسنتي: وهل لا بد لك من معرفتي؟ إنني ابنة رافو
المسافر: بارك الله عليك يا طفلتي؛ غير أني لا أستطيع بقاء
(ينصرف)
(البقية في العدد القادم)
فخري شهاب السعيدي