المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 389 - بتاريخ: 16 - 12 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٨٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 389

- بتاريخ: 16 - 12 - 1940

ص: -1

‌القمراء

للأستاذ عباس محمود العقاد

انظر القمر، وارقب الخطر، واسأل القدر!

واذكر قول صديقنا الزيات: (ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به وجه القمر. . . إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة)

واسمع من يقولون: (لقد أوشك القوم أن يخيفونا من الأقمار. . .) فأقول: ومتى خلت الأقمار من الأخطار؟

لقد كان آباؤنا ينتظرون من كل قمر سهماً إلى قلب، واليوم ننتظر من كل قمر قذائف نيران!

إنه تقدُّم الزمن!

وهل تتقدم الأيام، إلا لتظهر القذائف بعد السهام؟!

وتخيلت شاعراً من أصحاب (الاختراعيات) وممن يقرنون بين الاستحداث والطيارات والدبابات، يتغزل فيقول:

قمري رمى بقذيفة من عينه

وأذابني برصاصه ولجيته

وأطار نومي فانتفضت لأنني

أنا هالك بحضوره وببينه

فناديت بيني وبين نفسي: الأمان الأمان. الكهوف أسلم من هذا الزمان، والعقول أحوج إلى المخابئ من الأبدان!!

قال بعض الفضلاء من قضاة المصريين: (متى نفهم هؤلاء الغربيين أو يفهمونا؟. . . إنهم يكتبون من الشمال إلى اليمين، ونحن نكتب من اليمين إلى الشمال. وهم يدخلون المعبد فيخلعون القبعة، ونحن ندخل المسجد فنخلع الحذاء. وهم يحبون فيغتبطون ويشكرون، ونحن نحب فنتأوه ونتألم. وهم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر، ونحن نذكر القمر ونؤنث الشمس. وكل أولئك نقيض من نقيض. فمتى نفهم هؤلاء أو يفهمنا هؤلاء؟)

خطرت لي خاطرة ذلك القاضي الفاضل وأنا أذكر الغارات وأقمارها، والأقمار وأخطارها، فعاودني العجب من تذكيرنا القمر وتأنيث الغربيين إياه، وتساءلت: ماذا في القمر من

ص: 1

صفات الذكورة وهو مقرون بالحنين والحياء، موصوف بالاتباع والاقتفاء، قليلٌ فيه ساطي المضاء وساطع الضياع، عارض له من المحاق ما يعرض للنساء؟

أهي زلة من زلات البداهة عند الشرقيين؟ أهم المستضعفون للأنوثة لا يفطنون لهذا المعنى الذي فطن له الغربيون؟ أم هو إمعان في البداهة أدركوا به من سطوة المرأة ما لم يدركه مذكرو الشمس ومؤنثو القمر، وأقاموا به ما عكسه أولئك الخاطئون؟

هو على كل حال من مفارقات الشرق والغرب، ولا بد لهما من مفارقات، ولو من طريق المصادفات!

وجاء البريد الإنجليزي الأخير فعاودتني هذه الخاطرة المتجددة كرة أخرى

في إحدى مجلاته مقال جميل للكاتب (ريتشارد ستراود يستوحي به المعاني التي أوحت إلينا مخافة الأقمار، وأن نقرن بينها وبين الغارات والأخطار، ولكنه جرى فيه على سنة التذكير في موضع التأنيث، والغبطة موضع الألم، والكتابة من الشمال في موضع الكتابة من اليمين، فحمد ليالي القمر، وود لو تتعاقب وتتكرر، وحسب أنهم موشكون أن يفتنوا بالأهلة والبدور، وهم أمة فتنت بالشمس من قديم الدهور.

قال إن التخبط في الظلمات إن هو إلا رمز محسوس لتخبط العالم بأسره في ظلمات رأس مخبول، ودماغ جاهل مجهول، فما أجدر الناس أن يحمدوا ليالي القمر كما يحمدون لمحات الصواب بعد غمرات الجنون! وما أحق هذا الكوكب أن يرمز اليوم إلى العقل والرشاد، وقد كان رمز الهيام والفتون!

ثم قال ما فحواه: إن سخرية القدر هي التي حكمت على عصر الكهرباء أن تقفر لياليه من الضياء. . . فمنذ فجر التاريخ والطرقات ما خلت قط من ضياء مصنوع على يدي ابن آدم: انطفأت المشاعل فأضاءت الفتائل، وانطفأت الفتائل فأضاءت مصابيح النفط والزيوت، وانطفأت هذه المصابيح فأضاءت أشعة الكهرباء، فلما بلغنا هذا المدى شاء لنا القدر أن نرجع إلى يوم لا مصباح ولا فتيلة ولا شعلة! واقترن ذلك بضراوة كضراوة السباع، وأصبحنا نبحث عن القمراء كما كانوا يبحثون عنها في عصور الظلمات، وعاد السؤال عن القمر كالسؤال عن الجو: نشيداً مطروقاً في الأحاديث، وتعلة معادة لابتداء الكلام!

ص: 2

دع هذا ثم اقلب الصفحة إلى حيث تلمح بين سطور هذا الكاتب لمحة مما في سليقة أمته من روح الفن وحب الجمال

فهؤلاء القوم الذين تتساقط عليهم كِسَف الفضاء صباح مساء، والذين ينظرون إلى السماء فلا يأمنون رجوم الموت وصواعق الأعداء.

هؤلاء القوم تشوقهم ليالي القمر لما تعرض لهم من أشعة وظلال، ومشاهد روعة وجلال، ويقول كاتبهم هذا:(إن المدن والحقول وهي محلاة بالفضة القمرية لتبرز لك كأنها في يوم خلقها الجديد. ولقد قيل: إن هتلر فخور بأن يسلك نفسه مع رجال الفنون. فمن الحق إذن أن نقول إنه أفلح فلاحاً يتجاوز الأوابد من أحلام ريمبران. . . لأن الأشباح والظلال في أحقر الشوارع التي يفعمها الأسى والشجى بالنهار، لتضفي على أعطافها في القمراء جمالاً وهيبة كأفخر ما تلقيه هياكل يونان).

قلت: إن الكاتب الإنجليزي استوحى معاني القمراء على سنة الغبطة في موضع الألم وكتابة الشمال في موضع كتابة اليمين، وأخال أن الأمر فيه اختلاف غير اختلاف الشرق والغرب أو غير اختلاف كيلنج الذي قال إن الشرق شرق والغرب غرب وليس لهما لقاء.

فالمغيرون في إنجلترا ألمان، والمغيرون في مصر طليان، والأولون يغيرون ليل نهار، ولا يقصرون الإغارة على مواعد الأقمار.

أما الطليان فيغيرون في (القمراء)، ويخطئون الأهداف في الظلام والضياء على السواء.

فإذا كان أنس الإنجليز بليالي القمر أعظم من أنسهم بليالي المحاق فلا غرابة في ذاك؛ وإذا عكسنا نحن الأمر فما نحن بمخطئين وإن كنا لنرجو أن يكثر فيها المحبون للأشعة والظلال، إلى جانب المجفلين من الأوجال والأهوال.

وخصلة أخرى في هؤلاء الغربيين أنهم يسبغون خيالاً على كل حقيقة، ثم يستخرجون عبرة من كل نكبة، أو كما يقولون فضيلة من كل ضرورة.

هم لا ينامون مع الغارات المتواليات إلا غراراً، وفي النهزة بعد النهزة على غير موعد محدود ولا وتيرة معروفة.

فهل تركوا هذه الحالة بغير عبرتها؟ وهل أبطئوا في استخراج الفضيلة المشكورة من هذه الضرورة القاهرة؟

ص: 3

لا. لم يتركوها ولا أبطئوا في الاستفادة منها. فقد رجع أناس من باحثيهم المتفرغين للملاحظة والدراسة إلى الأصل في النوم المتعاقب بضع ساعات، أو إلى الأصل في زعم الزاعمين أن الرقاد في الفراش ثماني ساعات كل يوم ضرورة لا محيص عنها للإنسان فيما بين الشباب الباكر والكهولة العاملة.

فسألوا: أهذا صحيح؟ ولم يا ترى يكون هذا كذاك؟

وظهر لهم من مجرد السؤال أن هذا الزعم ليس بالحقيقة المقررة، وليس بالرأي المستند إلى أصل وثيق.

فالهرة تنام غفوات غفوات بالليل أو بالنهار، وفصائل شتى من الماشية تنام كما تنام الهرة ولو لم تكن من كوادح الليل.

فما بال الإنسان لا يشبع حاجته إلى النوم على هذا المثال؟

كل ما أوجب النوم المتعاقب من قديم الزمن فإنما هو عادة الإنسان الأول أن يلوذ بالكهوف ويأوي إلى المضجع، لأنه لا يحسن أن يصنع شيئاً غير ذلك قبل اختراع الضياء المصنوع الذي يشبه ضياء النهار.

ولو أنه استطاع في ذلك العهد الدابر أن يعمل بالليل عمله بالنهار لما رسخت فيه عادة الهجوع من مغرب الشمس إلى مشرقها، ولأضاف إلى عمره بتفريق أوقات النوم عشر سنين، وتعوَّد أن ينام ساعة كلما أعياه الكد والكدح ساعات، فإذا هو بعد ذلك مفيق ناشط للعمل من جديد.

ولنرجع إلى الحساب في عصر الحساب.

فإذا صح أن غارات الليل ستعلمنا أن نضيف إلى كل حياة عشر سنين فقد نخرج من الجمع والضرب على أن الأعمار التي كسبها الإنسان أكثر وأغلى من الأعمار التي تضيع الآن!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

(الأيام) لطه حسين

للدكتور زكي مبارك

- 6 -

جواب

دعانا الأديب محمد متولي عوف إلى الإسراع بالكتابة عن (تحرير المرأة) و (ديوان إسماعيل صبري)، وأجيب بأن عند (الرسالة) بحثين جيدين: صدر أولهما عن أحد المفتشين، وصدر ثانيهما عن أحد المدرسين. فإن وجدتُ ما يوجب الكلام عن هذين الكتابين بعد أن تنشر (الرسالة) ما ورد إليها في درس أفكار قاسم أمين وأشعار إسماعيل صبري، فسأعقِّب على ذلك الدرس بما يكمل الصور الأدبية والاجتماعية لموضوعات هذه السلسلة من الدروس، والله هو الموفق.

كتاب (الأيام)

هو قصة واقعية لحياة الدكتور طه حسين في طفولته وصباه، وهو يقع في جزأين لطيفين، بالقِطع الصغير، والمقرر هو الجزء الأول، ولكن النظر في الجزء الثاني واجب، لأنه يكمّل فكرة الطالب عن هذا النوع من القَصص الطريف؛ ويطلب الجزء الأول من لجنة التأليف والترجمة والنشر، أما الجزء الثاني فيطلب من مكتبة المعارف، وثمن الجزء عشرة قروش.

تاريخ (الأيام)

ولهذه الأيام تاريخ لم يُنشر من قبل، فمن الخير أن نشير إليه في سطور، لأنه تاريخ مجهول، ولأنه يصوّر كيف رجع الدكتور طه إلى ألفاف ماضيه لينشر منه صفحات تسير مسير الأمثال من حيث لا يقصد ولا يريد.

في مطلع الربيع من سنة 1926 ثار الأزهريون وتبعهم فريق من النواب على الدكتور طه حسين لآرائه (في الشعر الجاهلي) واشتدت الثورة ثم اشتدت، حتى كادت تزلزل مكانه في

ص: 5

الجامعة المصرية.

كنا في ذلك الوقت صديقين، وكنا نلتقي في كل صباح وفي كل مساء، لإعداد ما نُلقي من الدروس بكلية الآداب، وللنظر في صد الجمهور عن الثورة على آراء أدبية لم تصل إليه إلا وهي محرَّفة بعض التحريف، وإن كان فيها ما يَشُوك رجال الدين.

ظهرت بوادر الثورة في جريدة كوكب الشرق، ثم انتقلت إلى جريدة الأهرام، وكان الشر كل الشر أن تنتقل إلى جريدة الأهرام، لأنها جريدة موسومة بالرزانة والعقل، ولا يُطعن فيها على الرجال إلا حين تصبح أقدارهم أهلاً للتجريح والتزييف.

وقد انزعج الدكتور طه من حملة الأهرام أشد الانزعاج، ولم يعرف كيف يجيب، مع أنه من أقدر الناس على اللجاجة والجدال.

وكان الشيخ محمد عبد المطلب، طيب الله ثراه، بطل الحملة (الأهرامية)، فكتبتُ في الرد عليه مقالاً ضاق به صدر الأستاذ داود بركات رحمه الله ورجاني أن أؤجل نشره على أن يقف حملة الشيخ عبد المطلب، فصممت على أن ينشر مقالي، وله بعد ذلك أن يفعل بهجوم الشيخ عبد المطلب ما يشاء!

وظهر مقالي في صدر الأهرام، ورأى فيه الدكتور طه انتصافاً من خصمه العنيد، وشكر صنيعي بكلمات تدل على مبلغ ارتياحه لدفع قالة السوء عن مركزه المهدد في ذلك الحين.

وفي اليوم التالي حدثني الدكتور طه بعبارة حزينة أن مقالي في الدفاع عنه لم يقع من بعض المقامات موقع القبول، لأني مدرس في الجامعة المصرية، ولأن دفاعي عنه يصور الجامعة بصورة الإصرار على ما في الكتاب المغضوب عليه من مذاهب وآراء.

فما تلك المقامات؟

كان الدكتور طه في ذلك الوقت مسنوداً بثلاثة رجال: عدلي يكن وعبد الخالق ثروت ولطفي السيد. وكان هؤلاء الرجال يريدون أن تمرّ العاصفة بسلام، ولا يتمَّ ذلك إلا إذا سكت طه حسين وأصدقاء طه حسين عن دفع العُدوان بالعدوان.

وكذلك قررت أن أدفع عنه شر خصومه في جريدة المقطم بدون إمضاء لئلا تغضب تلك (المقامات).

وهنا يجيء الشاهد:

ص: 6

قضى الدكتور طه بقايا العام الدراسي بحنق وغيظ، فقد كانت الجرائد الوفدية تنوشه في كل وقت، وكانت المجلات الدينية تسوق إليه التهم الجوارح بلا حساب؛ ولا يملك الدفاع عن نفسه بحرفٍ واحد، وهو الرجل العِرِّيض الذي قضى صدر شبابه في التلهي بعداوات الرجال.

فماذا يصنع؟

رحل إلى فرنسا مع الصيف ليتناسى كروبه الداجية في ربوعها الفِيح!

وهنالك خطر له أن يُملي أشياء بعيدة كل البعد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين؛ فكانت تلك الأمالي وهي تاريخ طفولته بلا تزيين ولا تهويل.

وفي صباح يوم من أيام الخريف في سنة 1926 عرفت من الدكتور طه أنه كتب مذكرات عن حداثته، وأنه قدمها للأستاذ عبد الحميد العبادي ليطمئن إلى أنها مما تجوز إذاعته بين الناس.

وفي صباح يوم آخر حضر الأستاذ العبادي ومعه أصول المذكرات، وهو يقترح أن تحذف الفقرة الخاصة بالضريرة نفيسة؛ فلم ير الدكتور طه أن تحذف.

وفي ليلة شاتية جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث، فسألته عن موضوع تلك المذكرات، فوقف وقفة الخطيب المكروب وقصّ عليّ قصته يوم بدا له أن ينقل اللقمة إلى فيه بيديه الاثنتين، وكيف ضحك اخوته وبكتْ أمه وانزعج أبوه. فعرفت أن تلك المذكرات سيكون لها في تاريخ الأدب مكان.

ثم نَقل الحديث إلى شؤون الجامعة المصرية وإلى المصير المحتوم في مصر لحرية الفكر والرأي، وما نقل الحديث إلى هذا الميدان إلا ليهرب من مكاره تلك الذكريات.

مواهب طه حسين

هذا الرجل موهوب بلا جدال، ولكنه قليل الصبر على تكاليف المواهب، فهو يسطَع في اللمحة الأولى ثم يجنح إلى الأفول.

ترجَم لأبي العلاء فأفلح، ثم ترجَم للمتنبي فأخفق، لأنه لم يصحب المتنبي بقدر ما صحب أبا العلاء.

وأخرج الجزء الأول من الأيام فكان أعجوبة، ثم فتر في الجزء الثاني.

ص: 7

والجزء الأول من (هامش السيرة) سِفرٌ نفيس، أما الجزء الثاني فهو أيضاً (سِفرٌ نفيس).

وكان أستاذاً في الجامعة المصرية القديمة، أستاذاً عظيماً، أستاذاً يملك القدرة على إسقاط زكي مبارك في امتحانات الليسانس مرتين؛ أما في الجامعة المصرية الجديدة فهو أستاذ هيوب يستر كسله الجميل بالتغاضي عن ضعف الطلاب.

وأمره في الصداقة أعجب من العجب، فهو يؤاخيك ويصافيك إلى أن تظن أنه قطعة من قلبك، ثم يتحوّل في مثل ومضة البرق إلى عدوّ مُبِين.

وهو على الرغم من ضعفه عن الاضطلاع بتكاليف المواهب رجلٌ جذَّاب، لأنه معسول الحديث، ولأنه قد يصدُق في الحب وفي البغض، إلا أن تهديه حاسة النفع إلى أن يعادي من يصادق ويصالح من يعادي، كالذي صنع في طوافه بأركان الأحزاب.

ويشهد الدكتور طه على نفسه بأنه ضرير، وذلك فنٌّ من الإعلان، فقد صحبته نحو عشر سنين ولم أتنبه إلى أنه ضرير. وكيف أصدِّق دعواه وما رأيت رجلاً أرشق منه في تناول الشؤون التي يتناولها المبصرون؟

كنا نخرج من الجامعة المصرية حين كانت في قصر الزعفران فنثب إلى (المترو) بعد أن يتحرك ولا يشعر أحد بأنني أصاحب رجلاً من المكفوفين.

ومن يصدِّق أني لم أفكر في حلق ذقني بيديّ إلا بعد أن رأيته يحلق ذقنه بيديه؟

وهو يمشي بقامة منصوبة تزري برشاقة الرمح المسنون.

وهو - لتوهمه أنه ضرير - يحاول التأثير باللسان حين فاته التأثير بعينيه، ومن أجل هذا نراه أعجوبة الأعاجيب في إبراز مخارج الحروف.

ولشعوره بأن لسانه مصدر قوته يلح في الحديث وفي الإملاء إلحاحاً يترك سامعيه وقارئيه على أهبة الاقتناع بما يُملي وبما يقول.

وخلاصة القول أن طه حسين هو طه حسين، هو الرجل الذي استطاع أن يقيم البراهين على أنه من أقطاب الأدب في هذا الزمان.

ولو كنت أصدق أنه أعمى لكففت عنه قلمي، ولكني واثق بأنه مبصر، وبأنه أستاذ قدير، ومفكر حصيف، وأديب موهوب، وأنا لا أكف قلمي إلا عن الضعفاء.

وما قلت إنه أعمى إلا لأن درس اليوم يوجب ذلك، فليتناس هذه العُنجُهية القلمية، فما كنت

ص: 8

ولن أكون إلا أعرف الناس بواجب الذوق.

وإن استطال ناس على الدكتور طه بقواهم البصرية، فلن يستطيعوا الاستطالة عليه بقوى الفهم والذكاء، وإنه لشاهد على أن الله يؤتي الحكمة من يشاء.

أسرار كتاب (الأيام)

حدثني الدكتور طه بك أنه ينتظر رأيي في كتاب (الأيام) عساه يعرف كيف فتن به الناس حتى جاز له أن يترجم إلى عدة لغات في بضع سنين.

وكلام الدكتور طه في هذه القضية ليس من التواضع المصنوع، فمن المحتمل أن تغيب عنه قيمة هذا الكتاب الطريف، لأنه بالنسبة إليه غير طريف، وإنما تظهر طرافته للمبصرين، لأنه يطلعهم على آفاق من حَيَوات العميان قد تكون عند أكثرهم من المجاهيل.

ويزيد في طرافة هذه الاعترافات أن بعضها معيب، فصدورُها من رجل مثل طه حسين يشهد بأنه فنان يقيم فنه على قواعد من الصراحة والصدق، وإلا فما الذي يضطر رجلاً في مثل مركزه إلى أن يعترف بأنه كان في طفولته يجلس من أبيه ومن سُمَّاره مَزْجَر الكلب؟ وما الذي يقهره على التصريح بأنه كان يرى الدنيا بيديه فيعبث بالنعال الموضوعة حول دكة معلم الأطفال، ثم يمعن في تقليبها واختبارها حتى يعرف بالضبط عدد ما فيها من خروق ورقوع؟ وما الذي يحوجه إلى النص على أن ذمته كانت اتسعت كما اتسعت ذمة (العريف)، وأنه كان يرشو ويرتشي بلا تحرج ولا استحياء؟

وكيف يجوز لرجل أن يهجو اخوته، وأن يعرض بجَده وبأبويه، إلا أن يكون رجلاً سما بعقله وفنه عما في المجتمع من تصنع ورياء؟

يشهد طه حسين بأنه كان يستغفل أباه في بعض الظروف، ويشهد بأن المكاره التي عاناها في طفولته وفي صباه أورثته ألواناً من الاضطراب والخبال، فهل تصدر هذه الشهادة عن رجل يستر ضعفه بتناسي ماضيه؟ أم هي حجة على أنه أكبر من أن ينكر ذلك الماضي البغيض؟

طفولة طه حسين كما صورها بنفسه لم تكن طفولة مهذبة الحواشي، ولكن من الذي يزعم أن الأطفال ينشئون مبرَّئين من الهنوات والعيوب؟

الطفل في نشأته ضعيف، وهو لضعفه يداور ويماري ويحتال، فليس من الغريب أن يلجأ

ص: 9

طه حسين طفلاً إلى المراوغة والمماراة والاحتيال.

وهنا يظهر صدق طه حسين، فقد حدث عن نفسه أنه كان في طفولته سريع النسيان، وأنه لذلك قاسى مكاره الخجل والكسوف بضع مرات، ولو أنه أخبرنا أنه كان يحفظ كل ما يسمع، وأنه لم ينس أبداً ما كان يحفظ، لما كان في ذلك شبهة من تزيُّد أو إسراف، لأن سرعة الحفظ لا تُستَغرب من العُميان، ولكن طه حسين سما بفنه سمواً هو الغاية في الإخلاص للصراحة والصدق، وهما الدعامة الأصيلة للأدب الرفيع.

طه حسين أعمى، فيما يزعم، وهو كثير المزاعم، والأعمى يرى الدنيا بأذنيه ويديه، أما أذناه فهما طويلتان، وقد حدثنا أنه كان يمدهما مداً ليزيدهما طولاً إلى طول، عساه يستوعب ما يدور حواليه من أقوال وأخبار وأقاصيص. وأما يداه فقد قويت فيهما عضلات اللمس إلى أبعد الحدود، ألم يحدثنا أنه كان يعرف الناس بنعالهم لكثرة تقليبه في النعال؟

وخلاصة القول أن الدكتور طه قد التزم الصدق التزاماً تاماً في كتاب الأيام، وكان من آثار ذلك الصدق أن يأسر جميع من قرءوا مذكراته عن طفولته وصباه، لأن الصدق خُلقُ نفيس، وهو يزيد الأديب جلالاً إلى جلال.

يضاف إلى ذلك أن صدقه يوجب العطف عليه، ويحوّل شانئيه إلى أنصار أوفياء.

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أُلاحق الفكرة التي تدور في خاطري عن كتاب الأيام، وهي تنفر وتَشرُد، فمتى أقتنص تلك الفكرة وهي نَفورٌ شرود؟

لعلي أريد القول بأن طه حسين رجلاً قد نسى أنه مسؤول عن طه حسين طفلاً، فهو يشرِّح أوهامه وآثامه بلا ترفق ولا استبقاء، وهو يتجنى عليه كما يتجنى على خصومه الألدّاء.

لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يقيم الدليل على أنه يملك السيطرة على هواه حين يريد، وهل من هواه أن يَسخر بماضيه وأن يعترف بأنه كان نفعياً في طفولته وصباه؟

لعلي أريد القول بأن طه حسين قد انسلخ عن ماضيه كل الانسلاخ، ولم يعد يخشى أن يقال إن طه حسين الرجل ليس إلا صورة من طه حسين الطفل، وإن بقيت في وجهه وعقله وروحه ندوب من معارك ذلك العهد السحيق.

لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يدلل ويبرهن على أن الأشجار البواسق لم تكن

ص: 10

في الحداثة إلا أعواداً أماليد لا تأمن شر العواصف إلا بالانحناء والسجود.

لعلي أريد القول بأن طه حسين من أساتذة الأخلاق، فهو يقصد إلى إفهام الشبان أن العظيم لم ينشأ عظيما، وإنما عظُم بفضل الصبر على متاعب الجهاد، ومن حق طه حسين أن يتسامى إلى الأستاذية في الأخلاق، وهو بذلك التسامي خليق، فقد سمعت أنه أحرص الناس على رعاية واجبات الوفاء.

لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد أن يخرج على نفسه مرةً واحدة فيشهد على نفسه بأشياء لا يعترف بها الرجل إلا وهو عارمٌ عَصوف.

لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد محاكاة جان جاك روسُّو وأناطول فرانس، وقد فاتته صراحة روسُّو وعذوبة فرانس، لأنه طوى أهواءه الجنسية، ولأنه نسى أن الهيام بالجَمال أشرف من الهيام بالنعال.

لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد أن يُفهمنا أنه طه حسين وتلك خدمة لن ينساها تاريخ الأدب الحديث.

صور المجتمع المصري في كتاب الأيام

كنت قضيت عاماً أو يزيد على استخلاص الصور التي رسمها الشعراني عن مصر في القرن العاشر، وهي الصور التي سجلتُها في كتاب (التصوف الإسلامي) والتي نهبها بعض الناهبين بكلية الآداب، يوم كان كتابي محفوظاً في تلك الكلية وهو مخطوط يأخذ عنه من شاء ما شاء، وعند الله جزائي، فما رُعِيَ لي عهد، ولا حُفظ لي جميل.

واهتمامي بتسجيل صور المجتمع المصري في القرن العاشر وأنا أدرس مؤلفات الشعراني جعلني أحرص الناس على تقييد ما سجل صاحب العزة الدكتور طه حسين بك من صور المجتمع المصري في القرن الرابع عشر، وهي صورٌ روائع، لأنها منقولة بأمانة ونزاهة وصدق. ويزيد في قيمة هذه الصور أنها أمست على شفا الانقراض، ولو رجع الدكتور طه إلى مسقط رأسه لعرف أنها أسقطت في غيابة التاريخ.

فعلى طلبة السنة التوجيهية أن يتأملوا تلك الصور، وأن يوازنوا بينها وبين ما يعرفون من أوهام العوامّ في الحواضر والأرياف، لأن في بعض أوهام العوام صوراً شعرية، ولأن خرافات اليوم لها نسبٌ صحيح إلى عهد الفراعين. . . وما أحب أن أزيد!

ص: 11

انتقال مزعج

تمضى في قراءة (الأيام) وأنت لاهٍ عابث، لأن الكاتب لاهٍ عابث، ثم تصطدم فجأةً بانتقال مزعج، هو الصورة المروعة لإحساس أبويه بقسوة الثُّكل في يوم عيد، وما تكاد تفرغ من الجزع لهذه الصورة حتى يفاجئك بصورة أعنف وأفظع، هي صورة أخيه الذي مات وهو مطعون.

فلو قلتَ إن الصفحات التي صوَّر بها طه حسين أحزانه وأحزان أهله لهاتين الفاجعتين تُعَدّ من أروع ما صوّرت به المآسي الإنسانية لكنت قريباً من الصواب.

وطه حسين في هذه الصفحات كاتبٌ قدير، لأنه يفجِّر الدمع في جوامد الشئون، ولقد هممت بأن أرسل إليه برقية عزاء، مع أن الأعوام التي مضت على هاتين الفاجعتين كادت تشارف الأربعين.

أما حديثه مع ابنته وهو يقص أخبار (أوديب) بعد أن فقأ عينيه، فهو حديثٌ يذيب لفائف القلوب، ومن واجب الدكتور طه نحو القَدَر المكتوب أن يذكر أن الله ترفق به كل الترفق، فجعله رجلاً من أكابر الرجال.

جلسنا مرة نسمُر بداره يوم كان يقيم بمصر الجديدة فأطلعته على خبر لطيف في جريدة (لابورس)، خبر يبشر بأن أحد الأطباء قد اهتدى إلى علاج يرتدّ به العميان مبصرين، فهتفت زوجته:(إن صحَّ ذلك فسأبيع آخر قميص لأردَّ إليك بصرك، يا طه!)

وأغلب الظن أن الدهر سيبخل على الدكتور طه بالعودة المنشودة لنور عينيه، وسيبخل على مدام طه بلذة البيع المنشود لآخر قميص، ولكن العمى لن يمنع الدكتور طه من التبريز في كثير من الميادين.

ولعل لله حكمة فيما وقع، فالدكتور طه هو حجتنا على أن مصر أخصب البلاد، وإلا فأين العميان الذين استطاعوا ما استطاع في هذا الجيل؟ ولولا خوف الإسراف لقلت إنه أشجع من أبي العلاء، لأنه رفض أن يعيش رهين المحبَسين، ولأنه وهو أعمى قد مهَّد السبيل لمئات أو ألوف من المبصرين. وأستغفر الله من الإشارة إلى عَمَى الدكتور طه، فتلك أول إشارة تصدر عن قلمي، ولم تصدُر أبداً عن لساني، وإنما استوجبها البحث، والبحث قد يستبيح ما لا يباح.

ص: 12

الأسلوب

للدكتور طه أسلوبان، أسلوب حين يُملي، وأسلوب حين ينظم؛ أما أسلوبه حين يُملي فلا يخلو من ركاكة واضطراب لأنه رهين بما في الإملاء من سرعة وإبطاء، كالذي يكتب لمجلة الثقافة من أسبوع إلى أسبوع.

أما أسلوبه حين ينظم - وله أبحاث ينظمها نظماً - فهو آية في السلاسة والعُذوبة والصفاء، ومن هذا الفن أسلوبه في كتاب الأيام، وهو بهذا الأسلوب من أقدر الناس على التصوير والتلوين، وله ألفاظ وتعابير هي العَجب العُجاب.

أما بعد فهذا طه حسين، كما صور نفسه، وكما صوره قلمي، فإن كان أساء إلى نفسه بعض الإساءة فقد أحسنت إليه كل الإحسان، بلا منّ عليه، لأنه من كتَّابنا ومفكرينا، ولأنه عانى من الصراحة بعض ما أعاني.

والمهم هو أن ينظر الطلبة إلى كتابه كما نظرت إليه، فما كان كتاب الأيام ألفاظاً ضُمَّ بعضها إلى بعض، وإنما هو جروح أضيفت إلى جروح، هو دماء تفجر بها قلبٌ حزين، هو لوعةٌ دامية لرجل طال شقاؤه بالوجود، منذ اليوم الأول لشهوده الوجود.

لقد أبكاني طه حسين وهو يقص بعض مآسي طفولته وصباه، أبكاني وأنا خَصمٌ لدود، فكيف يصنع إذا نفض هموم صدره إلى رجل يحمل بين جنبيه قلب الصديق الشفيق.

زكي مبارك

ص: 13

‌مختار الصحاح

وقيمة العناية به

للأستاذ حسن السندوبي

يحلو لمشيخة في وزارة المعارف، بلغوا فيها بمضي الزمن المراتب ذات الألقاب الملحوظة، أن يشيروا على الوزارة بطبع بعض كتب المتقدمين ليضعوا عليها أسمائهم بعد أن ينظروا فيها ويقوموا أودها ويصححوا أغاليطها، وأن يكون من ذوي الشأن في الوزارة المبادرة إلى إجابة طلبهم مع منحهم الأجر الحسن، وإخراج تلك الكتب في معرض من الطبع الجميل.

وقد قام بعضهم بمراجعة طائفة من هاتيك الكتب وتصحيحها ونالوا أمنيتهم في وضع أسمائهم عليها بعد أن استولوا على المكافأة المرضية والثناء الحسن. غير أن الكثير من هذه الكتب قد صدر دون أن يكون حظها بالقائمين عليها مقارناً للتوفيق، ودون أن يكون القائمون عليها قد أدوا الأمانة العلمية، فلم يحسبوا أن إبلاغ الإخلاف تراث الأسلاف خالياً من الشوائب بريئاً من المعايب، من أفضل الخلائق الكريمة.

وحسب القارئ أن يعلم أن من هذه الكتب كتاب (مختار الصحاح) فقد أصدرته وزارة المعارف بعناية بعض رجالها فجاء عيبة الأغاليط وجعبة الأباطيل. لم يعن فيه العناية الكافية في قيد الكثير من كلماته حتى تصحف منها ما تصحف، وتحرف من عباراته ما تحرف. وإذا علمت أنه كتاب لا يستغني عنه طالب، وكثيراً ما يفتقر إليه الدارس، علمت أي جناية تجنى على اللغة العربية تحت سمع وزارة المعارف وبصرها. وما ظنك بكتاب هو عدة المعلم وعمدة المتعلم في تحرير الكلمات، وضبط الألفاظ اللغوية، يخرج إلى الناس في هذا التشويه والإهمال! ولا يكون همّ القائمين عليه إلا الإسراع في عرضه بالطبع لينساب المال إلى جيوبهم دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة المراجعة والمعارضة، أو يتمثلوا بشيء من مثل التقوى في العمل والإخلاص في حسن القصد!

تفضل صديقي العلامة الأستاذ أحمد العوامري بك بإهدائي نسخة من هذا الكتاب في طبعته الرابعة لسنة 1938، وقد كتب عليها بالطبع أنه عنى بتصحيحها وتنقيحها وإكمال ضبطها وتعليق بعض حواشيها سنة 1916، أي منذ أربع وعشرين سنة، وهو إذ ذاك في سن القوة

ص: 14

وعهد الفتوة. والظاهر أنه لم يراجع طبعات الكتاب منذ ذلك التاريخ، ولذلك شاع فيه التحريف، وعمه التصحيف. وأعجب من هذا ما علمته من أن وزارة المعارف، لكي تيسر إعادة طبعه المرة بعد المرة، قد كلفت بعض الصناع بحفر صفحاته في رواشم (كليشيهات) زنك!!

وقبل عرض أمثلة من أغاليط هذه الطبعة من الكتاب، يحسن أن أعرض كلمة ألخص فيها التعريف بمؤلفه عن كتاب لي أضعه الآن في تاريخ المعجمات العربية ومؤلفيها، وهذه الترجمة لا أعلم أنها نشرت بمصر إلى الآن:

قال صدر الدين القونوي المتوفى سنة 673 هـ - 1874م: الشيخ العالم العامل الفاضل سيد العلماء، قدوة الفضلاء، محيي السنة، ناصر الشرعية، زين الدين أبو عبد الله محمد بن شمس الدين أبي بكر بن عبد القادر الرازي. جاء إلى مصر وأقام بها زمناً، وجال في ربوعها وأخذ عن بعض مشايخها، وأخذ عنه بعض طلبتها. وذكر المقريزي أنه وصف بركة الحبش التي بالقاهرة بهذين البيتين من الشعر:

إذا زين الحسناء قرط فهذه

يزينها من كل ناحية قرط

ترقرق فيها أدمع الطل غدوة

فقلت لآل قد تضمنها قرط

وهو من شعر العلماء الذي لا يعرج عليه الأدباء. ومن الغريب أن السيوطي لم يذكره فيمن وفد على مصر من العلماء أو من الأدباء أو من الحنفية. ثم ذهب إلى الشام وطوف في أنحائها، ومنها دخل بلاد الأناضول وأقام في قونية وبها صحب الشيخ العالم المحقق صدر الدين القونوي وعليه سمع كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير الجزري الموصلي إلى سنة 666 والظاهر أنه توفي أواخر القرن السابع.

وقد ترك من المؤلفات: شرح مقامات الحريري، والذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز، وتحفة الملوك والسلاطين في الفروع، وحدائق الحقائق في الأخلاق والمواعظ، وأنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، والأبيات التي يتمثل بها في الأدب، وروضة الفصاحة في علم البيان، وضعه باسم السلطان المؤيد المنصور نجم الدين أبي الفتح غازي بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب ماردين المتولي سنة 691 والمتوفى 712. ومختار الصحاح الذي نحن بصدد من شأنه، اختصر فيه صحاح الجوهري ووضعه على

ص: 15

ترتيبه وضم إليه الكثير من الفوائد أخذها عن التهذيب للأزهري، وديوان الأدب للفارابي، والمجمل لابن فارس، والمصادر للبيهقي، والمفصل للزمخشري، والفصيح لثعلب، والمغرب للمطرزي، والغريب لأبي عبيد، والغربيين وشرحهما للهروي وقد كتب بخطه في نسخته من المختار، بعد استشهاده بهذا البيت:

ألا يا أسلمي يا دار مي على البلى

ولا زال منهلاً بجرعائك القطر

يقول: تم الكتاب المسمى مختار الصحاح بعون الله وحسن توفيقه على يد مؤلفه وكاتبه بيده محمد بن أبي بكر الرازي عفا الله عنه وغفر له ولجميع المسلمين، ووافق فراغه عشية يوم الخميس غرة شهر رمضان المبارك ليلة الجمعة الغراء سنة 660 الخ.

هذا، وفي المقال التالي نعرض إن شاء الله لذكر أمثلة من الأغاليط التي أشرنا إليها فيما سبق.

حسن السندوبي

ص: 16

‌كتاب تحرير المرأة

للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم

من بين ما قررته وزارة المعارف على طلبة السنة التوجيهية المتسابقين في امتحان اللغة العربية في خلال يناير المقبل كتاب (تحرير المرأة) للمرحوم قاسم بك أمين. وقد يكون من الخير أن نبين - في إيجاز - بعضاً من المناحي والأغراض التي عنى المؤلف بعرضها في كتابه، لعلّ في هذا توجيهاً للطلاب، واستحثاثاً لهم على الاستزادة والاستفادة.

(أ) شخصية المؤلف

ولد المرحوم قاسم بك أمين في أسرة مصرية تنسب إلى أصل كردي، وتربى منذ نشأته تربية أمثاله، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وعاد في سنة 1885 ميلادية. وظل منذ ذلك الحين إلى أن عاجلته المنية في سنة 1908 قاضياً ممتازاً، ثم مستشاراً بارعاً بمحكمة الاستئناف.

وكان من خلقه: الصراحة، وحب العدالة، وحرية الرأي. ولم يكن من القضاة الذين قال عنهم (أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل) بل كان يحب الحق لأنه حقُّ وفضيلة، ويمقت الظلم لأنه ظلم ورذيلة.

ولم يكن يتقيد في قضائه بآراء الفقهاء، وأحكام المحاكم، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه.

وكان مولعاً بالبحث والتنقيب عن كثير من شؤون الإصلاح والاجتماع؛ فدعا إلى تحرير المرأة من رق الجهل، ورق الحجاب. وكانت هذه الدعوة من الأمور الشاقة الشائكة لأنها خالفت العرف المألوف، والتقاليد الموروثة، وأدت إلى ثورة فكرية انقسمت بها الأمة قسمين: معه وعليه. وقد أوضحها في هذا الكتاب، ودعمها بالحجج والبراهين.

(ب) تصوير فكرته التي أودعها كتابه

حمل المؤلف رحمه الله حملة صادقة على الرجعيين الذين رضوا للمرأة أن تعيش في الإسار كما يعيش الذليل المستعبد، وأن تحبس في الدار كما يحبس الطائر المعذب، وأن تقضي أيامها في هذا الوجود كما يقضي السجين أيامه في غياهب السجون؛ فاستنّوا لها أن

ص: 17

يتصرف في شؤونها الخاصة والعامة قيّمٌ قهار يملك عليها إرادتها، ويقبض على ناصيتها، ويسيطر على عملها وحريتها؛ فلا تتحرك في ظلامها الحالك إلا بعلمه، ولا تتصرف في حياتها الضيقة الأفق إلا بمشيئته.

توهم هؤلاء القدامى أنها قليلة العقل، ضعيفة الإرادة؛ ومن ثم لا بد أن تحاط بسياج منيع يحول بينها وبين مشتهياتها، وإلا اندفعت إلى الشر وارتكبت ما يجلب لها الإثم والعار؛ فعطلوا فيها حرية الفكر والرأي، وحجبوها عن الوجود بحجاب كثيف لا تستشف ما وراءه من نور وضياء، وأقاموا بينها وبين حقوقها سداً لا تستطيع أن تظهره، ولا تستطيع له نقباً.

ظن هؤلاء أنها لا تصلح إلا للمعيشة في داخل منزلها فعزلوها عن البيئة الخارجية كما يعزل المريض عن الأصحاء، وفصلوها عن المجتمع كما يفصل العضو من الكائن الحي، وأخمدوا جذوتها، وأطفئوا شعلتها، حتى صارت لا حول لها ولا طول، ولا قوة لها ولا ناصر. فبقيت رهينة المحبسين، وثالثة الأذلَّين أمداً طويلا.

وتحكم بداهة العقل أن في هذا التصرف جَوراً عن الاعتدال وإسرافاً في العسف والإذلال، وأن فيه كَبْتاً لغرائز المرأة وميولها وطبيعتها وسائر قواها، وأن نتائج هذا الكبت ضارَّة بها إلى حد كبير.

ومن أجل ذلك نادى المصلحون في عصور مختلفة بوجوب إعطائها حريتها المشروعة، وهي الحرية الصحيحة المقيدة بالنظم الدينية والقوانين الخلقية، ومن بينهم المرحوم قاسم بك أمين زعيم القائلين بإصلاح المرأة في مختتم القرن التاسع عشر ومفتتح القرن العشرين؛ إذ نادى بوجوب إنهاضها والأخذ بناصرها لتستمتع بما لها من الحقوق الطبعية والأدبية والدينية والاجتماعية ولتؤدي رسالتها التي خلقت من أجلها.

وإنه لم يجهر بهذه الفكرة إلا بعد أن محصها وقلبها على مختلف وجوهها، حتى اقتنع بصحتها، واستوثق من صدقها، وحلت منه محل العقيدة والإيمان، ثم أبرزها في كتابه (تحرير المرأة) وهذا ما عبر عنه في مقدمة هذا الكتاب حين قال: (هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ، استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وزاحمت غيرها، وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها،

ص: 18

وتذكرني بالحاجة إليها. فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر).

(ج) موضوعات الكتاب

اشتمل كتاب تحرير المرأة على مقدمة تمهيدية تصف حال المرأة في الأيام القديمة، وتصوِّر اضطهادها وإذلالها واستحواذ الرجل عليها بقوته وجبروته، ومعاملته لها معاملة فيها قسوة وامتهان وبطش: بسجنها في المنزل، وعدم الثقة بها، والحيلولة بينها وبين الحياة، وتعطيل حقوقها وما وهبها الله من قوى التفكير والإرادة والشعور. وجاء الإسلام فسوّى بين الرجل والمرأة في الحقوق، وهذه الأحكام مقتبسة من تاريخ الأمم، والتاريخ أكبر شاهد عليها.

وعالج الباب الأول من الكتاب موضوع تربية المرأة وأثر هذه التربية في تثقيف عقلها، وتهذيب خلقها، وتنشئتها تنشئة صالحة، وإعدادها إعداداً تاماً للحياة الكاملة، حتى تنهض بنجاح وجدارة في الحياة العملية؛ فتدبّر أمرها وأمر منزلها، وأولادها، وتقوم بوظيفتها في المجتمع قياماً حسناً، وتطرح الخرافات والأباطيل، وتتمسك بالعقائد الدينية والآداب الاجتماعية وتتمتع بما في الكون من علوم ومعارف وآثار.

وقد حرمت فيما مضى - من التربية الصحيحة - فضعفت قواها الجسمية والعقلية والخلقية، وصارت مصدر شقاء لنفسها وبعلها وذريتها وأسرتها. لأن التربية الحقة تحيي في نفوس النساء معاني الشرف والكرامة والعفة، وتصونهن عن الفساد.

وأفاض الباب الثاني في شرح حجاب النساء واعتباره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها متى كان منطبقاً على ما جاء في الشريعة الإسلامية. وقد أنحى فيه المؤلف باللائمة على الغربيين لغلوهم في إباحة السفور والتكشف، وعلى الشرقيين لمغالاتهم في التحجب، وأبان أن الفضيلة وسط بين هذين الطرفين، ولا تتحقق إلا بالحجاب الشرعي. واستدل على ما يقول بما ورد في الشرع الشريف، وناقش موضوع الحجاب والسفور نقاشاً دل على درجة تمكنه من هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة.

واختتم كلامه في هذا الباب بوجوب التدرج في السفور وإلا حدث انقلاب فجائي ينجم عنه ضرر جسيم، ويؤدي إلى عكس المقصود.

ص: 19

والباب الثالث من الكتاب يبين علاقة المرأة بالأمة، فهي النواة للأسرة، إن صلحت صلحت الأسرة، وإن فسدت هي فسدت الأسرة تبعاً لها، فهي المحور والمرتكز. ومن ثم كانت تربيتها أوجب من تربية الرجل. ومعلوم أن الأسرة هي الأمة مصغرة، ومن مجموع الأسر تتكون الأمة. فالمرأة المتمدينة تخدم بلادها أجل خدمة بما تؤديه من أعمال جليلة في مواقف عدة.

ولما كان ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل شتى من أهمها ارتقاء المرأة، وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة من أهمها انحطاط المرأة، لزم العمل على إنهاض المرأة بتهذيبها وتطهيرها وتجميلها بالتربية الكاملة؛ فهي الدعامة لبناء مجتمعها، إن قويت قوي المجتمع، وإن ضعفت ضعف المجتمع وساء مصيره.

والباب الرابع خاص بنظام الأسرة وما يمس حياة العائلة من حقوق وواجبات وأحكام وعادات مما يتصل بمسائل الزواج، وتعدد الزوجات والطلاق. واستند المؤلف في هذا على ما ورد بكتب الفقه والمعاملات، والشرائع والاجتماع.

وقد أساء الناس فهم ما قصد إليه المرحوم قاسم بك أمين فظنوا أنه يدعو إلى الإباحة والمنكر؛ وهو إنما دعا إلى الخير والإصلاح بما يتمشى مع الشرائع ولا يتنافى مع روح الدين.

(د) الأسلوب

في أسلوب هذا الكتاب سهولة واسترسال. فلم يكن المؤلف متأنقاً في اختيار الألفاظ، ولا متحذلقاً في صوغ العبارات، ولم يعمد إلى زخرفة كتابته، ولم يولع بالصنعة التي أغرم بها معاصروه من الكتاب ومن كانوا قبله.

فجاءت كتابته خالية من التكلف والسجع. ولو أن قارئاً اطلع على كتاب (تحرير المرأة) ولم يكن يعرف أنه لقاسم أمين لعدّه من المؤلفات الحديثة في الوقت الحاضر؛ لأن أسلوبه يقارب الأسلوب الذي يتوخاه الأدباء والصحفيون في هذه الأيام من حيث السهولة والسلاسة.

أما المعاني والأفكار والبحوث فهي مرتبة ترتيباً منطقياً سليماً لأنه كان يأتي بالقضايا والأحكام بعد أن يمهد لها بمقدمات موصلة إليها، ثم يدلل عليها بأدلة عقلية ونقلية، ويعززها

ص: 20

بشواهد كثيرة يسوقها من التاريخ ومن الواقع، ليمنع عنها كل لبس، وينفي كل شبهة، ويسد على المعارضين طريقهم بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة. ولم تسلم ألفاظه وتراكيبه من أخطاء لغوية وصرفية؛ ولم تخل تعابيره من التواء في بنائها. والسبب في هذا النقص يرجع إلى أمور من بينها أن اهتمامه كان متجهاً إلى ناحية الفكرة الإصلاحية التي يرمي إليها أكثر من اتجاهه إلى الناحية اللغوية، وأنه لم يكن متضلعاً من فقه اللغة ولا من الدراسة الأدبية العربية في الكتب القديمة التي هي المنبع الفياض للأساليب القوية الجزلة السليمة؛ ونذكر على سبيل الاستشهاد بعضاً من هذه الأخطاء: فقد أكثر من استعمال كلمة (العائلة) وصوابها (الأسرة)، وجمع كلمة (الأهل) على (الأهالي) وصوابها (الأهلون)، وعدي الفعل (أعطى) باللام وهو يتعدى إلى المفعولين إذ قال:(وكثير من الرجال قد أعطوا لنسائهم مقاماً في الحياة العائلية)، كما عدى الفعل (أمكن) باللام إذ قال:(أمكن للأمة أن تنتفع بجميع أفرادها)، وجمع (عادة) على (عوائد) والصواب (عادات).

ومن أمثلة الالتواء في التعبير قوله: (وأذكر ملاحظة واحدة تؤيد ما قدمته - وهو أن نساء الإفرنج على العموم مهما كان حالهن في الباطن يحافظن على الظواهر فيعيش الواحد بين رجل وامرأة يحب بعضهما بعضاً أياماً وأشهراً ولا يكاد تقع منهما هفوة تظهر ما كان خافياً بينهما الخ) إلى غير ذلك من الهفوات اليسيرة التي لا تخفى على الأديب.

ومهما يكن من شيء فالكتاب له قيمته الاجتماعية، ويعتبر أثراً من الآثار الخالدة.

محمد أبو بكر إبراهيم

المفتش بوزارة المعارف

ص: 21

‌من الأدب الإنجليزي

إذا. . .

للشاعر الإنجليزي كبلنج

إذا كان في إمكانك أن تحتفظ بوقارك في مجتمع فقده ثم عابه عليك، وكان في إمكانك أن تثق بنفسك حينما يشك فيك، بعد أن تفهم رأيهم ووجهتهم التي يعيبونك فيها

إذا كان في إمكانك أن تصبر دون أن تمل من الصبر، وتصدق ولو كذب عليك، وتمتنع عن الحقد ولو حُقد عليك، دون أن تفتخر بحكمتك وحسن شمائلك

إذا كان في إمكانك أن تتصرف في أحلامك دون أن تمكنها من نفسك، وأن تفكر دون أن تجعل التفكير هدفاً لك

إذا كان في إمكانك أن تثبت عند الهزيمة كما تثبت عند النصر

إذا كان في إمكانك أن تكبح جماح نفسك فتصبر على أولئك الأوغاد الذين ينقلون كلامك بغير ما أمانة فيحرفونه ويبدلون فيه لغاية يقصدون بها نصب الشراك لأمثالهم الحمقى المجانين

إذا كان في إمكانك أن تصبر على نوائب الدهر فتحاول اليوم بناء ما تهدم معك بالأمس؛

إذا كان في إمكانك أن تجازف بكل مالك في مشروع نافع دون أن تظهر يأساً أو تذمراً إذا كانت عاقبتك الخسران؛

إذا كان في إمكانك أن تسخر قواك لخدمتك في زمن شيخوختك، وتثبت في وقت لم يبق لك فيه إلا إرادتك التي هي مصدر قوتك

إذا كان في إمكانك أن تخالط من هم أقل منك قدراً دون أن تخسر شيئاً من قدرك ومقامك، وأن تماشي الملوك دون أن تفقد شيئاً من تواضعك ولين جانبك

إذا كان في إمكانك أن تتجنب شر أعدائك وأصدقائك ثم تضع ثقتك في الجميع دون أن تسرف فيها مع أحد

وإذا كان في إمكانك أن تملأ فراغ دقيقة يملأك فيها الحقد على أحد بركض مسافة لا بأس بها، لك الدنيا وما فيها، وفوق هذا فستصبح رجلاً بكل معنى الكلمة يا بني. . .

(حيفا. فلسطين)

ص: 22

عبد الواحد الخطيب

المدرس بالمدرسة الإسلامية

ص: 23

‌من وَراء المِنظَارُ

بين (دغف) وصعلوك ومغفل. . .!

أبداً يظل الترام لمنظاري موضع فرجة لا تنعد، وذلك أنه من ناحية، ملتقى ضيق يحشر فيه كل ساعة أنماط من الناس في هذا المضطرب الواسع الذي ندعوه المجتمع، ثم هو من ناحية أخرى المركب الوحيد الذي أتخذه في ذهابي إلى مقر عملي وفي أوبتي من هناك، فما كان لي وقد ضممت الفخر من أطرافه كما يقول مهيار وجمعت بين الحسنيين: وظيفة التدريس وحرفة الأدب، أن يكون لي سيارة، وبحسبي أن أركب كل شهر أو شهرين مع صديق في سيارته أو أن أزحم الناس لأتخذ لي موضعاً بشق النفس في سيارة عامة هي والترام شيء واحد!

كان الترام الجاهد بما يحمل من الخلق يجري جري من تقطعت أنفاسه ذات صباح، وكان بيني وبين موعد الدرس الأول دقائق معدودات، وكنت لا أفتأ أنظر إلى ساعتي وإني لضائق بسرعة عقربها بقدر ما أنا ضائق ببطء الترام أخشى أن أتأخر فلا أدري بماذا أعتذر لتلاميذي ولا كيف أخفي عنهم خجلي. دع عنك (البك الناظر) ونظراته على رأس السلم وغيظه المكظوم الذي لا آمن أن يظل مكظوماً. . .

وظللت أدعو الله ألا تفسد الزمارة أو تخرج (السنجة) عن خيوط الكهرباء، أو تتدلى عجوز لتنزل فتزل قدمها، أو يمر رتل من سيارات الجيش فيقف المرور، أو يدفع القدر أحد الناس إلى حيث يلتهمه الترام. وقضيت لحظة أليمة على هذه الحال أسأل الله وأستعجل الكمساري وأرهف أذني إلى زمارته وأتلفت نحوه كلما أبطأ في النفخ فيها.

وأبطأ الكمساري، والتفتت فإذا شاب (أفندي) يقف على سلم المركبة والكمساري يرجوه ويتوسل إليه أن ينزل، فلا يجود عليه ولو بنظرة؛ ويغلظ له الكمساري شيئاً فشيئاً، ولكنه يظل ثبت الجنان منتصب القامة مرفوع الهامة؛ وأنظر وقد كاد يخنقني الغيظ، وينظر الراكبون جميعاً نحو ذلك الأفندي عسى أن يستحي، فلا يشاء أن يرد أو يلتفت إلى أحد، ويعود الكمساري فيلين ويستعطف مبتسماً ابتسامة فيها معنى ذلك الصفاء الذي يسبق العاصفة ويذِّكر الأفندي بأن منع الوقوف على السلم قد بات أمراً معلوماً لكل الناس، ولا حيلة له في ذلك فهي مشيئة المصلحة والحكومة وعليه وحده الغرم إن تهاون. . . ثم إنه

ص: 24

ييأس أخيراً فيقابل العناد بالعناد، ويقسم أن لن يسير الترام إلا إذا نزل ذلك الأفندي (المتشعبط). . . كل ذلك وصاحبنا لا يزداد إلا إصراراً واستكباراً!. . .

ويضج الراكبون، ويتقدم أحدهم بالرجاء في رفق إلى ذلك الظريف المتعلق بالترام فيرد عليه بقوله:(موش شغلك يا أفندي) وتجري على الألسن عبارات الاستنكار والتقريع والتوبيخ. . . وهو برغم ذلك مصر كأنه يجاهد في قضية من قضايا الأوطان فلا يعرف فيها معنى الهوان أو الخذلان!

ويأتي صعلوك حافي القدمين، حاسر الرأس، في يده عود ضخم من قصب السكر، كأنه مدفع لمطاردة طائرات العدو، وفي جلبابه آثار تمزيق، كأنه قادم لساعته من معركة، ويتعلق هو أيضاً بالترام، فلا يتمالك الناس أنفسهم أن يضحكوا، على الرغم ما كانوا يعانون من ضيق وغيظ!

ويحار الكمساري بين الصعلوك والأفندي، فقد أعلن أولهما أنه لن ينزل حتى ينزل الأفندي، وهو لا يدري أنه بذلك قد علق الأمر على المستحيل وأصبحت المصيبة مصيبتين؛ وراح يتساءل ذلك الصعلوك في حدة: لم يطلب إليه وحده النزول؟ أذلك لأنه (غلبان)؟ ويصرخ الكمساري في وجه الأفندي ضجراً، فيرد عليه أخيراً بقوله (أما مغفل صحيح) ويوقن الكمساري أن الحرب واقعة لا محالة فيرد عليه بقوله (إذا كنت أنا مغفل تبقى حضرتك دغف). . . ويكتفي الصعلوك بذلك فينزل معتذراً وقد كان كفيلاً أن يحطم رأس الكمساري بذلك (المترليوز) في يده لو دعت الحال إلى ذلك.

وينفد صبر المغفل فيجذب (الدغف) من كتفيه ويطول النزال ويعظم هول القتال ويتزاحم المتفرجون من السابلة ويتعطل الطريق ويضيع نصف الدرس وتنجلي المعركة أخيراً عن هزيمة (الدغف). . . ويمضي الترام وأنا أسأل نفسي أيهما المغفل حقاً وأيهما (الدغف) حقاً وأيهما الاثنان معا؟ ولكنى لا أحتاج إلى طويل فكر لأقول إن المغفل لم يفعل ما يستحق من أجله أن ينعت بهذا اللقب، وإن نعته به من جانب ذلك الأفندي المهذب لهو الغفلة بعينها؛ ثم أسأل نفسي كذلك أي الرجلين كان أفضل وأكبر في أعين الناس الصعلوك أم الأفندي؟ وأيهما إذا هو الصعلوك حقاً؟

أولى بنا والله أن نتساءل متى نتعلم النظام قبل أن نتساءل متى نظفر (بالاستقلال التام).

ص: 25

الخفيف

ص: 26

‌وزارة المعارف العمومية

عدوان لطيف

للأستاذ محمود محمد شاكر

حضرة المحترم ناظر مدرسة. . . الثانوية

قررت الوزارة (أي وزارة المعارف) كتاب المكافأة لأحمد بن

يوسف للسنة التوجيهية في العام الدراسي الحالي 4041،

والوزارة تطبع هذا الكتاب الآن بالمطبعة الأميرية، بعد أن

عهدت في تهذيبه وتصحيحه وشرحه إلى حضرتي الأستاذين

أحمد أمين عميد كلية الآداب، وعلي الجارم بك وكيل دار

العلوم.

(وقد ظهرت أخيراً لهذا الكتاب طبعة أخرى قامت بنشرها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، وهي طبعة فيها فحش وتحريف ونقص في الشرح والتعريف بأعلام الرجال، وغير ذلك من العيوب).

فنلفت نظر حضرتكم إلى أن الطبعة التي ينبغي استعمالها والاقتصار عليها بالمدارس الأميرية والحرة هي طبعة الوزارة التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريباً.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

11111940

السكرتير العام

حسن فائق

وكان من قصة هذه النشرة الظريفة التي أذاعتها وزارة

ص: 27

المعارف على المدارس الأميرية والحرة، أني نشرت كتاب

المكافأة لأحمد بن يوسف من المكتبة التجارية الكبرى في

14101940، بعد أن حققت أصله وراجعتُه على الأصول،

وشرحت ما يعرض للقارئ من غامضه، وكتبتُ لأحمد بن

يوسف ترجمة وافية جمعتها من بين سطور كتب التاريخ

والتراجم، إذ أن ترجمة أحمد بن يوسف لا تبلغ عشرة أسطر

في الكتاب الفرد الذي ترجم له، وهو معجم الأدباء لياقوت

الحموي.

وكان حقاً على وزارة المعارف، أو على الأصح، كان من الأدب المتبع أن تشكرني على الجهد الذي بذلته في تصحيح هذا الكتاب. ولكن الوزارة أبت أن تكافئ الجميل من العمل بالجميل من القول، وقذفت الكتاب وناشره وطابعه قذفاً جارحاً لا مسوغ له، وإذ كنت أعلم علم اليقين أن ليس بيني وبينها عداوة مستحدثة، أو حقد متوارث، فقد أذهلني اجتراء هذه الوزارة على الطعن في الكتاب طعن المنتقم المتضرم المغيظ الذي يفقده الغيظ سلطان الإرادة الحكيمة.

والقارئ يعلَم - ووزارة المعارف تعلَم أيضاً - أن القانون يقدعُها ويردها عن الطغيان كما يقدعني ويردني، وأن هذه الجملة التي وضعناها بين الأقواس في نشرة الوزارة، إن هي إلا حشو لا معنى له، وأن قد كان لوزارة المعارف مندوحة عنها، وأن الكلام يستقيم بإسقاطها، وأن أمرها لنظَّار مدارسها وأساتذتها وطلبتها واجب الاتباع. فإذا قالت الوزارة لهؤلاء إن الطبعة التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريباً!! هي الطبعة التي ينبغي استعمالها والاقتصار عليها، فهذا كفاية وفوق الكفاية في منع الأساتذة والطلاب!! من اعتماد طبعتي في الدراسة.

ص: 28

ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن السنة الدراسية الحالية، قد انقضى من عمرها أكثر من الثلث ولم تصدر طبعة وزارة المعارف. أفيكون ثمة بأس على الأساتذة والطلبة أن يوفروا من الوقت المضاع أشهراً أخرى بالنظر في نسختي، حتى إذا ظهرت نسخة وزارة المعارف اتبعوها وألقوا نسختي ومضوا في دراستهم في كتاب الوزارة؟ إنه مهما يكن في نسختي من العيوب، فلا يمكن أن يكون الأصل الذي طبعتُه من الكتاب غير الأصل التي تطبع عنه وزارة المعارف، وما دام الأصل واحداً، والنصُّ واحداً، فليس على الأساتذة والطلبة بأس. فهل تستطيع الوزارة أن تدَّعي أن نص الكتاب الذي طبعتُه - مهما يكن فيه الخطأ والتحريف - غير النص الذي يطبعونه؟ وبالطبع نقول: لا، وكلا، وليس معقولاً!!

وإذن، فالجميل الذي أوليته وزارة المعارف، وإخواننا من الأساتذة والطلبة، جميل يوجب الشكر على من قدِّم له. هذا، وأنت تعلم - ووزارة المعارف تعلم أيضاً - أن الأساتذة والطلبة مكلفون بشراء كتاب الوزارة كما اشتروا كتابي. فأمرُها للأساتذة والطلبة بالاقتصار على طبعة الوزارة التي ستصدُر من المطبعة الأميرية قريباً!! إيجاب عليهم بشراء كتابها وطبعتها، فليس يضير الوزارة على ذلك شيء، ما دامت ستنتهي إلى النهاية الطبيعية وهي بيع كتابها ورواجه بين المكلفين بدراسته.

ونحن نعلم - ووزارة المعارف تعلم أيضاً - أن المفروض في أمر هذه الكتب، أن الوزارة لا تتجر بها للربح، فإذا فرض - وهذا مستحيل بعد أمر الوزارة للمدارس بالاقتصار على طبعتها التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريباً!! - أن بقيت جميع نسخ الوزارة معطلة موقوفة لا تباع ولا تشترى ولا ترهن!! كالأوقاف والحبوس، لما كان في ذلك شيء، ما دام الغرض من طبع هذا الكتاب قد حقق للطلبة والأساتذة على ما قد يكون في طبعتي من العيوب.

وبعد الاقتصار على هذا، أظن وزارة المعارف قد استطاعت أن تفهم الآن مقدار ما أساءت به، مع صرف النظر عن المسؤولية الأدبية والقانونية التي وقعتْ في نشرتها التي أذاعتها على المدارس الأميرية والحرة.

وسأدع المسؤولية القانونية التي يكفلها القانون لي ولصاحب المكتبة التجارية الكبرى - إلى أن يحين حينها وتأخذ طريقها الذي تقتضيه، وأنصرف الآن إلى المسؤولية الأدبية التي

ص: 29

أغمضت فيها هذه الوزارة بغير رفق ولا حكمة ولا حرص.

إن عمل وزارة المعارف ليس إلا الإشراف على التعليم، وكل أمر أو نهي يصدر منها يجب اتباعه على المدارس الأميرية والحرة ونظارها وأساتذتها وطلبتها، هذا ما نعلمه - وأظن وزارة المعارف تعلمه أيضاً -، وليس من عمل وزارة المعارف فيما نعلمه - وأظن هذه الوزارة تعلمه أيضاً - أن تكون حكما قاضياً على ما يصدر من الكتب غير مرسوم برسمها واسمها، وإن كانت هذه الكتب مما قررته الوزارة لمدارسها. وما دمتُ لم أُشر بحرفٍ واحدٍ في كتابي إلى أني قد نشرته لطلبة السنة التوجيهية بالمدارس الأميرية والحرة، فليس من حق وزارة المعارف أن تتعرض للحكم عليه أو الطعن فيه على الأصح.

ومع ذلك فأنا وأنت نعلم - ووزارة المعارف تعلم أيضاً - أن حكمها على الكتاب قد صدر، وأن هذا الحكم ليس نقداً ولا شبيهاً بالنقد، وإنما هو طعنٌ وتجريحٌ وطغيانٌ كلاميُّ مُؤذٍ كان يجب على هذه الوزارة أن تترفع عنه.

ومع ذلك كله، فالوزارة تقول إن هذه الطبعة التي نشرتها المكتبة التجارية الكبرى فيها (فُحْشٌ)، هذا الحرف، بهذا النص، على هذه الصورة، في هذا الوضع! فأنا أتحدّى هذه الوزارة في هذا المكان وأطالبُها باستخراج (الفحش) الذي وقع في طبعتي، أين هو؟ فإذا فعلتْ، فسنرى أيُّ الفُحشين أفحش، أهذا الذي تدعيه وزارة المعارف على كتابي ادّعاءً، أم الذي هو قائمٌ مقررٌ مثبت في الكتب التي قررتها وزارة المعارف وطبعتها وأذاعتها، وأمرت مدارسها بدراستها أعواماً طِوالاً؟

وتقول وزارة المعارف إن في طبعتي (تحريف)؛ هذا الحرف، بهذا النص، على هذه الصورة، في هذا الوضع! فأنا أتحدَّى هذه الوزارة أيضاً في هذا المكان، وأطالبها باستخراج هذا (التحريف)، ليعلم من لم يكن يعلم أيُّ التحريفين أقبح، ما أقع أنا فيه، أم ما وقعتْ فيه هي في الكتب التي صححتها وشرحتها وأذاعتها وقررت دراستها أعواماً طوالاً؟

ومع ذلك كله، فأنا أقرر في هذا المكان أن (الفحش)! هذه واحدة، وأن (التحريف)! وهذه أخرى، ليسا سوى دعوى من الوزارة لا برهان لها عليها البتة، وأن الجرأة والطغيان قد بلغا مبلغاً في هذه النشرة الرسمية، وأن كتب وزارة المعارف قد عرضت لي صفحتها، فإن شئت قضيت وإن شئت أمسكت.

ص: 30

أما ثالث أقوال الوزارة من أن الكتاب فيه (نقص في الشرح)، فليس صحيحاً بوجه من الوجوه، إذ كان شرحي مختصراً مبيناً عن وجه العبارة والمعنى؛ وقاعدتي في الشرح أن أدع نص أصحاب اللغة في شرح اللفظ اللغوي، إلى عبارة أعبر بها معنى الجملة على الوضوح والبيان. وبذلك أسقط من الكلام ما تحشو به وزارة المعارف كتبها من الشروح التي لا معنى لها. وسأضرب في كلمة أخرى أمثلة كثيرة أزعم أنها هي التي بغضت إلى الطلبة أكثر كتب الأدب التي وزعت عليهم، وصرفتهم عن الاستفادة منها.

هذا، ومن قرأ كتاب أحمد بن يوسف يعلم - ولعل وزارة المعارف تعلم أيضاً - أن الكتاب مجموعة من القصص القصيرة، في عبارة قريبة واضحة ليس فيها من غريب اللغة إلا القليل، ورب غريب فيها يبين عنه سياق الحكاية، فلا معنى لإرهاق نظر الطالب والتهويل عليه بالشروح المستفيضة التي تخوفه أو تثقل عليه. ورب شرح قصير موجز واضح يكون أعظم بركة على القارئ من تعالم غليظ ثقيل وتقعر.

وعندنا أن الأسلوب الذي جرت عليه وزارة المعارف في شرح كتبها أسلوب غير منتج إلا أسوأ النتائج، لأنه يصرف الطالب عن الاستمتاع بالنص، وعن التقليب له والنظر فيه، وعن الترديد لطلب المعنى بالجهد القليل، وتجعله حائراً بين الكلام الذي يقرأ وبين الشرح الطويل الممل الذي تتدلى حواشيه على كل كلمة أو حرف من عبارة قصيرة قريبة المعنى دانية البيان، وأن هذه الطريقة المضحكة هي التي تجعل الطالب لا يهتم كثيراً بالإصغاء إلى أستاذه اعتماداً على ما يتوهمه في الشرح الطويل العريض من الإبانة الصحيحة عن المعنى، فإذا فعل ذلك، ثم رجع إلى كتابه وقرأ شرح الشراح وأصحاب الحواشي لم يفهم، وربما أضله هذا الشرح عن بعض الصحيح من الفهم الذي فهمه قبل قراءة الشرح. وأنا لا أقول هذا عن رجم وتظنٍّ، بل أقوله وقد وقفت عليه من ملاحظتي لأكثر من عشرين طالباً من أبنائنا الذين كتب عليهم أن يتعلموا العربية في وزارة المعارف. ولست أشك أن أكثر أساتذة العربية في المدارس الأميرية، لو أتيح لهم أن يتكلموا لأظهروا هذه العيوب كلها لما يقاسونه مع الطلبة في دراسة النصوص العربية التي شرحتها وزارة المعارف.

ومع كل ذلك، فأنا أوافق وزارة المعارف، على أن كتابي فيه نقص في الشرح! فهل يعيبه هذا؟ إنما العيب أن يطول الشرح ويكثر، وتلج لجاجته، ثم يكون هذا الشرح تضرباً في

ص: 31

خطأ بعد خطأ، وفي سوء فهم للعبارة، وفي إبهام آت من قلة المعرفة بأساليب العرب في كلامها. وأنا أتحدى وزارة المعارف أن تخرج من كل ما صححت من الكتب، بل من كل ما أكتب، شيئاً يدل على ذلك. وما دامت الوزارة تأبى إلا أن تعتدي عليَّ فسأضع يدها على ضرب مدهش من الشروح التي وقعت فيها فيما طبعت من الكتب، يدل كل الدلالة على أن الشراح لم يفهموا حرفاً واحداً مما قرأوا، وأنهم ينقلون من الكتب ما يصادفون من المعاني، لا ما توجبه الجمل من معاني اللغة، وأنهم لا يتذوقون الأدب إلا بالوظيفة وعن طريقها!!

أما النقص في التعريف بأعلام الرجال - كما تقول وزارة المعارف - فلا أظن أحداً قرأ كتاب أحمد بن يوسف ورأى ما فيه وعلم غرض مؤلفه منه، إلا وجد من عيب وزارة المعارف لكتابي بهذا النقص - كما تسميه - أسلوباً مضحكاً في النقد. أتظن الوزارة أنها تستطيع أن تعرف بفلان وفلان وفلان ممن ذكر في هذا الكتاب في سطرين أو ثلاثة، ثم يكون هذا تعريفاً؟ كيف تستطيع هذه الوزارة أن تعرّف قارئ كتابها في سطرين أو ثلاثة: بإبراهيم بن المهدي، وابن طولون، وابن بسطام، والمأمون، وابن مدبر، وخاله العشريّ، وابن أبي الساج، وخمارويه، وفلان وفلان ممن لا نحصي كثرة؟؟ وهل تعتقد أن التعريف بأحد هؤلاء إن هو إلا ذكر سنة مولده أو سنة وفاته أو وظيفته في الدولة؟ وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان! هذه طريقة في التعريف بالرجال مضحكة، لا نلجأ نحن إليها ولا نقرها، ونعلم أن لا فائدة فيها للطالب أو غير الطالب بتة. وستخرج طبعة وزارة المعارف التي تطبع بالمطبعة الأميرية قريباً وسنعلم كيف فعلت! وندلها على الصواب في كل ذلك إن شاء الله.

وأخيراً. . . وأخيراً، أيها القارئ، تقول وزارة المعارف بعد أن أنهكها تعداد عيوب كتابي، وبلغ منها، وكدها، وأوهى منتها، واستصفى نشاطها، وحيرتها الكثرة التي لا تحصى من بلادتي وغفلتي وأخطائي. . . أخيراً تقول: وفي هذا الكتاب الذي نشرته: (غير ذلك من العيوب): (فقطعَ دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).

وأخيراً أيضاً، أشكر وزارة المعارف على حسن جزائها لي في كتاب لم أتقدم به إليها، ولكني تقدمت به إلى قراء العربية، ثم أشكرها على توصيمها لاسمي واسم هذا الكتاب بالنشرة التي أذاعتها على مدارسها. وإذا كانت وزارة المعارف تجهل من أنا، وما عملي،

ص: 32

وكيف هو - ووزارة المعارف تجهل أشياء كثيرة - فكل ذلك لا يبيح لها أن تتهجم على الناس بالسيئ من القول.

إني أعلم كيف كتبت هذه النشرة، ومن الذي أملاها، ولأي غرض أمليت على من كتبها، ومن المضحك أن يجرؤ إنسان كل درجته في هذا الأمر تأتي من قبل وظيفة أو أن يجرؤ إنسان كل علمه يأتيه من قبل شهادة نالها، ثم من وظيفة قدر له أن يحرزها أو تحرزه، ثم من ثالثة الأثافي التي هي الحظ. . أقول: من المضحك أن يجرؤ أحد هذين أن يدعي لنفسه حق الحكم على عمل أعمله مستتراً وراء نشرة تصدرها وزارة المعارف، وهو لو وضعته بين ثلاثتي التي أمسك بها هذا القلم لمزَّقت عنه كل الوشي المصنوع الذي يكتسيه ويتجمل به. . . ومع ذلك فسوف نرى.

محمود محمد شاكر

ص: 33

‌كلمات.

. .

الإصلاح الاجتماعي

قرأنا في الصحف أن وزير الشؤون الاجتماعية يقدم إلى مجلس الوزراء مشروع قانون بإنشاء مجلس أعلى للشؤون الاجتماعية.

وما نظن حكومة من حكومات العالم، ولا أمة من أمم هذه البسيطة، هي أكثر لجاناً ولا أطول لساناً في الكلام عن الإصلاح من حكوماتنا ولا من أمتنا المصرية.

وهذه (لجنة) أخرى جديدة للشؤون الاجتماعية، أي للإصلاح الاجتماعي.

والإصلاح الاجتماعي هو تمدين الأمة ونقلها مما هي عليه - والمثقفون منا يعرفون وتضيق صدورهم مما هي عليه - ويكاد يكون من العجيب أن تؤلف لجنة لهذا الغرض قبل أن يتحدد بيننا هذا الغرض نفسه.

فهل نحن نريد أن نكون أمة أوربية، أم نريد أن نكون أمة شرقية. . . أم نريد أن نكون - كما يقول كثيرون من المترددين - بين هذه الحضارة الشرقية التي ورثناها وبين هذه الحضارة الأوربية التي تغزونا؟

ونحن ليس من همنا في هذه الكلمة أن نقول رأينا فيما يجب أن تكون حضارتنا وثقافتنا بين الحضارات، بل همنا أن نقول: إنه عجيب أمر هذه اللجنة التي يؤلفها وزير الشؤون الاجتماعية للإصلاح الاجتماعي.

وقبل أن تؤلف لجنة لهذا الغرض يجب أن نحدد موقفنا قبل كل شيء، ويجب أن نعرف في أي مكان نريد أن نضع أنفسنا بين أمم الأرض، لا أن نسير فنخبط ونخلط كما نفعل الآن، وكما فعلنا منذ لابسنا الحياة الأوربية وذقنا ثقافة الغرب وتفكيره وحضارة عصره.

ويجب قبل ذلك أيضاً أن نهيئ الرأي العامل لقبول ما نريد أن نسوقه إليه وأن نقوم حياة شعبنا عليه من إصلاح جديد.

وسأضرب مثلين مفردين لتوضيح ما أريد:

فهذا تعليم الأمة وتنوير الجيل الجديد منها تسيطر عليه وزارة خاصة هي وزارة المعارف، وتهيمن على ثقافة الخلاصة منه جامعتان: جامعة فؤاد الأول، وجامعة الأزهر. ولكن هذه الوزارة وهاتان الجامعتان ليس لها ولا لهما سياسة ثابتة ولا منهج مستقر ولا غرض

ص: 34

مقصود من تعليم هذا الجيل الجديد ولا تثقيف الخلاصة منه. فهي تخبط وتخلط، ولها في كل يوم جديد ينسخ ما كان بالأمس جديداً وسينسخه بعد حين جديد.

وما يقال عن وزارة المعارف وعن جامعتينا يمكن أن يقال عن هذا الإصلاح الاجتماعي الذي تؤلف له وزارة الشؤون (لجنة) قبل أن تتحدد غاياته وأغراضه ومراميه. والمثل الثاني هو قانون أصدرته هيئة إصلاحية وصدر به قانون ألزم جميع المحاكم والناس أن يعملوا به: وهو قانون الطلاق الثلاثي يقع واحدة.

فلا يزال كثير من سواد الناس ومن الفقهاء لا يرضى فيه بما رضى الأزهر ورضيت المحاكم الشرعية العليا ولا بما أمرت وزارة العدل وقوانين الدولة، لا يزال هؤلاء الكثيرون من السواد ومن الفقهاء يوقعون الطلاق الثلاث ثلاثاً برغم هذا كله وقد مضت على هذا القانون عشر سنين أو تزيد، فهذا مثل للإصلاح الذي لم نهيئ له الرأي العام ولم نمهد له نفوس الناس حتى يمكِّن لذيوعه ورسوخه رضاهم واطمئنانهم إليه قبل أن تمكِّن له قوة القانون.

فقبل أن تؤلف وزارة الشؤون الاجتماعية لجنة للإصلاح الاجتماعي يجب أن يكون الغرض من هذا الإصلاح وأن تكون الغاية فيه واضحة بيِّنة معلومة الحدود والمراسم والتفاصيل، وأن تُهيأ له قبل ذلك نفوس الناس.

(محمود)

ص: 35

‌رسَالة الشِّعر

من وحي الحرب

أوراق الخريف. . .

(مهداة إلى الأستاذ (العقاد))

للأستاذ محمود الخفيف

يَا هَوْلَ مَا تُوحِيهِ مِن خَاطِرِ

جُمُوعُهَا المَاثِلَهْ

الْمَوتُ في بَطْشٍ لَهُ قاهِرِ

أَلْقَى بِهاَ ذَابِلَهْ

مَضْعُوفَةً بَعَد الصِّبا النَّاضِرِ

مُصْفَرَّةً آلافُهاَ الرَاحِلَهْ

مَطْعُونَةَ الأوَّلِ وَالآخِرِ

مَذعُورَةً مُعْجَلَةً ذَاهِلَهْ!

تَسَابَقَتْ في وَثْبِهاَ للِفْنَاَءْ

صُفُوفُهاَ الوَاهِيهْ

كَأَنَّماَ يَدْفَعُهَا فِي الْخَفَاءْ

لِحَتْفِهاَ طَاغِيَهْ!

أَوْ قَادَهَا للِمَوْتِ كُرْهُ الْبَقَاءْ

في عِيشَةٍ تُفْضِي إِلى الهاوِيَهْ

الذُّلُّ في نَاحِيَةٍ وَالشَّقَاءْ

وَالبَطْشُ وَالطُّغْيَانُ في نَاحِيَهْ

يَا سُوَء مَا تُوحِيهِ لي مِنْ خَيَالْ

أَوْرَاقُ هَذَا الْخَرِيفْ

في حَشْدِها كَمْ ذَا أَرَى مِنْ مِثَالْ

لِكُلِّ عَان لَهِيفْ

كَمْ مُوجَعٍ فِيهَا وَكَمْ ذِي كَلَالْ

مُهَدَّمٍ أَضنَاهُ كَسْبُ الرَّغِيفْ!

ياَ قُبْحَهَا! توُحِيِ لنَفْسِي المَآلْ

لِكُلِّ فَيْناَنٍ بَهِيجٍ رَفيفْ

كَمْ صَوَّرَتْ رِيحُ الشَّماَلِ الطُّغاَهْ

لَمْ تَلْوِهِمْ عَاطِفَهْ

مِنْ كلِّ عَاتٍ شَرُّ مَا في الْحَيَاهْ

حَيَاتُهُ الْعَاصِفَهْ

أَصَمُّ كَمْ تُزْجِى المَناَياَ يَدَاهْ

والأَرضُ مِنْ هَوْلِ الرَّدَى رَاجِفَهْ

مَا وَطِئَتْ أُذْنَيْهِ يَوْماً شَكَاهْ

أَوْ عَطَفَتْهُ الرَّحْمَةُ اللاَّهِفَهْ!

جِنْكِيزُ أوْ تَيْمُورُ هَذا الزَّمَنْ

في عَصْفِهاَ مَاثِلُ

يُتْرِعُ لِلْعَصْرِ كُؤُوسَ الْمِحَنْ

زُعَافُهاَ عَاجِلُ

وَذَلِكَ المِسْكِينُ مَهْماَ افْتَتنْ

في غَدِهِ مِنْ سمِّهاَ ناَهِلُ

ص: 36

مَهْماَ يَكُنْ مِنْ هَوْلِ هَذِى الْفِتنْ

عَمَّا قَرِيبٍ يَزْهَقُ الْبَاطِلُ

هَذِى الْجُمُوعُ الصُّفْرُ كَمْ نَبَّهَتْ

شَجْوِىَ أَوْصَافُهاَ

لَشَدَّ عِنْدَ الَموْتِ مَا أَشْبَهَتْ

بَنِيهِ آلَافُهاَ

في غَمْرَةٍ مِنْ خَلْفِهِمْ مَا وَهَتْ

أَيْدٍ بُرُوقُ الوَهْمِ أَهْدَافُهاَ

فَخَارُهَا في الْعَيْشِ مَا شَوَّهَتْ

وَمُنْتَهَى الْعُمْرَانِ إتْلَافُهاَ!

تَكْرُبُنِي أَشْلَاءُ تِلْكَ الْغُصُونْ

تُذْرَي بِكُلِّ النَّوَاحْ

للرِّيحِ فِيهاَ مِنْ نَوَازِي الْجُنُونْ

عَصْفٌ بِهاَ وَاجْتِيَاحْ

طَيْفٌ لِرُوحي مِنْ طُيُوفِ المَنُونْ

الْوَيْلُ فِيِهِ وَالأَسَى وَالنُّوَاحْ

فِيِهِ الضَّحَاياَ سَاقَهاَ المُبْطِلُونْ

أَشْلَاؤُهَا مِلْءُ الرُّبَى وَالْبِطَاحْ!

انْتَثَرَتْ أَوْرَاقُ هَذِى الشَّجَرْ

وَأَوْحَشَتْ عَارِيَهْ

كَأَنَّهاَ في الأرْضِ بَعْضُ الأَثَرْ

لِهَذِهِ الْغَاشِيَهْ!

لكِنَّهَا خَضْرَاَء لَمْ تُهْتَصَرْ

تُكْسَى حُلَاهَا فِي غَدٍ ثاَنيَهْ

إِنْ أَوْحَشَتْ في الْعَيْن عِنْدَ النَّظَر

فَفِي حَشَاهاَ تَكْمُنُ الْعَافِيَهْ

يَا وَيْحَ لِلإْنْسَانِ مَا إنْ لَهُ

في غَيِّهِ مِنْ قَرِيعْ

تَنْثُرُ كَفُّ الدَّهْرِ آمَالَهُ

وَمَا لَهُ مِنْ رَبِيعْ

وَالْبَغيُ كَمْ يُنْقِصُ آجَالَهُ

وَالْعَيْش عَجْلَان اللَّيَالِي سَرِيعْ

صَرِيعُ هَذا الْبَغْيِ ياَ وَيْلَهُ

يَرْثِي جَنَانِي للِشَّقِيِّ الصَّرِيْع!

الخفيف

ص: 37

‌رِسَالة الفَنّ

شيء موجود

الانجذاب

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

يصف عامتنا الرجل الطويل اللسان الذي لا يكتم الحق، والذي يلقيه على عواهنه يخز به الصغير ويخدش به كبرياء المتكبر، ويجر به الخير ويسبب به الكارثة. . . بأنه (مسحوب من لسانه) وهذا الوصف يفهم فهمين: الفهم الأول هو ما تؤدي إليه هذه الصورة المادية التي يقعد عند إدراكها القانعون بالصور المادية، والفهم الثاني هو ما يدركه الطماحون الذين يسعون إلى المعاني، والموهوبون الذين تسعى المعاني إليهم، وهو أن يُعتبر الرجل المسحوب من لسانه إنساناً إذا رأى الحق انشدَّ إليه فلم يتثاقل عليه، ولم يفكر في الامتناع عنه، ولم يتريث في الذهاب إليه، وإنما هو يندفع قاصداً إياه ليسكن فيه، ولينعم بلذة هي السكنى، ولينتشي بما تبعثه في نفسه من الاطمئنان الذي لا يرتاح إلا إذا حصله والذي يقلق إذا فوّته، وهو في اندفاعه نحو الحق لا يمشي على رجليه، ولا يطير بجناحيه، وإنما يحرك لسانه بالقول يقرر به الحق الذي لمحه من غير جهد يبذله في تحريك لسانه، ولا عناء يتجشمه في تقريره للحق. بل إن الجهد يبذله إذا أمسك لسانه، والعناء يتجشمه إذا قاوم الحق وتعنت معه والتوى عليه. . .

وهذه الصورة المعنوية للرجل المسحوب من لسانه هي نفسها صورة المجذوب الذي يبيع الدنيا بكلمة حق يقولها فيفتقر ويخسر الناس، ويطيح إلى خارج أنظمتهم وقواعدهم، ويعدم النصراء منهم والأنصار ويتلقى على أم ناصيته التهم تكال له جزافاً أشرفها وأنظفها أنه مجنون لا عقل له ولا تمييز، والسخرية تنهال عليه من كل جانب لأنه الإنسان الشاذ الذي يقول ما لا يصح أن يقال والذي يفعل ما تواطأ الناس على ألا يفعلوه. . . وهذه الصورة هي أيضاً نفسها صورة الأديب الفنان الصادق الحس السليم المنطق الصادق التعبير الواضح القصد، فهو نفسه المجذوب وهو نفسه المسحوب من لسانه الذي يقول للمجتمع مهما اغتر المجتمع: إنك يا أيها المجتمع مغرور ومخطئ، والذي يقول للسلطان مهما قوي

ص: 38

السلطان ومهما اشتد: أيها السلطان إنك حائد عن الحق ومنزلق إلى الباطل، والذي يقول للعقيدة مهما تغلغلت في النفوس وتأصلت في القلوب: أيتها العقيدة إنك فاسدة ترتكزين على مغالطة، فانهاري لأقيم مكانك في نفوس للناس عقيدة أخرى تقوم على أساس من الحق الصافي.

وهذا الأديب لا يصل إلى هذه الدرجة من قوة النفس إلا عن واحد من سبيلين. فإما أن يكون قد ولد من أبوين صادقين غربلا نفسيهما قبل أن ينتجاه، ونفيا عن روحيهما كل خدعة وكل أكذوبة، وركنا إلى الحق في إحساسهما وتفكيرهما ونزعاتهما، ولم يعودا يتأثرا بالهوى، ولم يعودا يظنان بأنه كان يصح أن يكون لهما أكثر مما لهما، وهذان أبوان لم يلتقيا. . . وإما أن يكون كبقية الناس قد ولد وقد ورث نواة الخطيئة الحادثة من تفاعل الغرور عند أبيه والطمع عند أمه، وأن يكون قد انتبه إلى هذا على أثر حادثة من الحوادث، فبدأ بأخذ نفسه بمراقبة الحق وتحريه والقصد إليه حتى تنفتح نفسه للحق انفتاحاً فيحبها الحق كما تحبه وينزل فيها كما تنزع إليه، وليست نفس الإنسان إلا حقاً من الحق إذا صفت وانغلقت دون الغرور والطمع نمت خالصة واستدعت من الحق حقاً وحقاً، وكلما أحاطت بحق مثلته فصار منها، وكلما كبر ما فيها من الحق وزاد، اشتدت قوتها على استدعاء الحق الذي غاب عنها، ولا تزال هكذا حتى يكون لها إذا أرادت أي حق أن يلبيها مهما كان نزاعاً إلى التستر.

والإنسان الذي يحاول هذه المحاولة ويعاني فيها هذا العناء، ليس له قصد إلا هذا الحق المجرد، فهو إذا وصل إليه مجذوباً، حدث بينه وبين الحق تصادم هو عناق اللقيا، وكان لهذا التصادم صوت هو قبلة الشوق، وهي من الأديب كلام، ومن سواه فنون أخرى. . .

وقد تعجز أي قوة في الأرض عن أن تحول بين الأديب المجذوب المسحوب من لسانه وبين كلمة الحق يفرقعها رنانة مدوية كما يفرقع العاشق المجنون قبلة التحرق إذا التقى بحبيبه.

وكما أن العاشق المجنون يظل يسعى، ويظل يصبر الزمن الطويل حتى يلتقي بحبيبه بعد أن يكون قد داخ في البحث عنه، وفي الصبر عنه، وفي الشوق إليه، فإن الأديب المجذوب هو أيضاً يظل يسعى، ويظل يصبر الزمن الطويل وهو مملوء شوقاً إلى حق يعلل به حقاً،

ص: 39

أو يقيم عليه حقاً، فكيف يمكنه إذا لمحه وتبينه أن يعود إلى الصبر عنه والصبر مر؟! إنه لا يعود إلى الصبر، وإنه ليتهافت على معشوقه الذي كان غائباً عنه ثم تجلى. . . سبحانه من معشوق وتعالى!

هي دوخة يدوخها المجذوب قبل أن يصل، فلا يلومنه إنسان إذا هتف كذلك الذي هتف وهو عريان في الحمام، وقال:(وجدتها)! وانطلق من الحمام وهو عريان ليعلن أمام مخلوقات الحق أنه قد وجدها، وهي أنه إذا غطس جسم في الماء انزاح من الماء ما يساوي حجمه حجم ذلك الجسم الغاطس. . .

وفي أثناء هذه الدوخة تظهر على الأديب المجذوب المسحوب من لسانه إمارات لا تظهر إلا على الدائخين فعلاً وحقاً فهو إذا انفرد بنفسه أو إذ لم ينفرد بنفسه فهو لا يفتأ يفكر مع نفسه ويتناقش مع نفسه، ويتحدث مع نفسه بالإسرار أحياناً، وبالجهر أحياناً، وإن عقله ليهديه في بعض الأحيان إلى ما يحسبه حقاً ثم يهديه بعد ذلك إلى ما يهدم هذا الذي حسبه حقاً فإذا به يضحك فجأة وهو منفرد أو بين الناس ساخراً من نفسه لأنه حسب باطلاً من الأباطيل حقاً في زمن من الأزمان، وقد لا تقف به الحال عند الضحك. بل إنه قد يلطم نفسه لطمة، وقد لا يقف به الحال عند هذا بل إنه قد يضرب رأسه في جدار إذا كان قد رتب على هذا الباطل الزور قولاً فأعلنه أو فعلاً فأداه.

إنه يعامل نفسه كما يعامل غيره. بل إنه ليشتد مع نفسه ويصارحها بعيوبها أكثر مما يشتد مع الناس وأكثر مما يصارحهم بعيوبهم، فليس هناك ما يدعوه إلى أن يترفق مع نفسه كما يترفق مع الناس مجاملة أو تهيباً أو توقيراً أو عطفاً أو شفقة، وهو مع شدته هذه أشد الناس رحمة لنفسه، فهذا الذي يصنعه ليس إلا تخليصاً لها من أدران البهتان وظلمات الأراجيف.

وإذا كنا قد رأينا أديباً كهذا الأديب قد انشطرت نفسه شطرين وتسلط كل شطر منهما على الآخر يحاسبه ويناقشه ويناضله كمن بينهما عداوة تهدي إلى الحق، فإننا قد رأينا أيضاً مغنين مجذوبين ورسامين مجذوبين وممثلين مجذوبين ومجذوبين آخرين من غير هؤلاء وهؤلاء.

والفرق بين كل واحد من هؤلاء وبين الأديب المجذوب، أن الأديب المجذوب مسحوب من لسانه إلى الحق فهو يعلنه بالكلام الملفوظ أو بالكلام المقيد كتابة، وأن الواحد من هؤلاء

ص: 40

مندفع إلى الحق ومتجه إليه بناحية أخرى من نواحي نفسه المنشقة هي أيضاً شقين، والمشطورة هي أيضاً شطرين.

فالمغني المجذوب تراه وهو في حالة الانجذاب وقبيل أن يستقر على صوت روحه يهتز ويترنح - كما يفعل الشيخ علي محمود - يريد ألا يمر من حنجرته إلى الخارج إلا صوت مبعوث من قرارة نفسه فيه التعبير الصادق عن المعنى الذي يقصد إلى التغني به. وهو لا يزال في هذا الاهتزاز وهذا الترنح المتعبين حتى ينطبق كل شطر من شطري نفسه على صاحبه فإذا تم له هذا التوحد الروحي انطلق الغناء من صدره. . . ومن أعماق صدره. . . وجاز حنجرته منساباً مختاراً لا يتحسس أوتارها، ولا يضغط على مقاماتها، ولا يرعى ما يراه المغنون من وزن النغمات وربط الضرب وتقييد الواحدة، وإنما أرسل الغناء إرسالاً تعبيراً ساذجاً صادراً من نفس تغني. . . وعندئذ يكون المغني كما يكون الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي وهو يقرأ غائباً عن الناس أو في شبه غيبوبته عنهم. . . وكما يكون أيضاً الشيخ علي محمود عندما يتجلى الله عليه فلا يجاريه إنسان.

وقد ينجذب المغني إلى حق التعبير عن نفسه بالغناء فلا يعبأ بالناس أن يستمعوه أو أن ينفضوا من حوله فهو يغني لغير مستمع أو لأي مستمع، وهو يغني منفرداً كما يغني في الجماعة، وهو يغني في مقام الغناء وفي غير مقامه، وهو يحترف الغناء أحياناً ويكف عن احترافه أحياناً كما يفعل الأستاذ مصطفى أمين الذي كانت له (شنة ورنة) منذ سنوات والذي لا يكاد أحد يدري أين هو الآن، والذي قيل لي منذ عام أن نفراً من أصحابه يشتبهون في متسول مغن أن يكون هو الأستاذ مصطفى أمين أرسل نفسه في الدنيا ينشد تسبيحاً لله وصلاة وتسليما على رسوله. . .

والرسام إذا انجذب. . . فيا ويل الأوراق والأقلام والألوان منه. . . إنه يخبط بعضها في بعض، ويخرج من هذا الخبط بأشكال يرضيه بعضها وينفره بعضها، ويرى هو فيها جميعاً ما لا يراه غيره من العيب والنقص، وقد يكون رسمه مؤدياً لما لا تبلغ إليه أيدي الرسامين من معاصريه، ومع هذا فهو الذي يعلم أن عمله ناقص، لأنه هو الذي يحس أنه لا يزال في الطريق مدفوعاً نحو تلك الصورة التي تتخايل أمام عينيه غامضة وراء أحجبة الزور وسحابات الباطل. . . فإذا ما اقترب. . . أو إذا ما وصل فعندئذ ينفجر بالصورة الواضحة

ص: 41

البسيطة التي لا تعقيد فيها، ولا اضطراب، والتي لا أثر فيها لانشقاق النفس وانشطارها، والتي هي أثر من آثار توحد النفس: إحساسها، مع إدراكها، مع خلقها، مع تعبيرها. . .

والممثل إذا انجذب إلى دور كان كالأستاذ عزيز عيد وهو مجذوب إلى دور مجنون ليلى. . .

كل الممثلين، وكل النقاد، وكل الناس كانوا يسخرون منه، وعلى الخصوص بعد أن شاهدوا المجنون من الأستاذ أحمد علام الممثل المتعشق المتأنق اللبق، فلم يجدوا مطلقاً ما يبرر ظهور عزيز عيد في هذا الدور الذي قال الناس جميعاً إنه لا يصلح له لا بجسمه ولا بنفسه. . . وليس الأستاذ عزيز عيد بالرجل الذاهب العقل، ولكن عقله ذهب إلى هذا الدور، واستهان بعلام فيه، كما استهان بحسين رياض فيه، وهو لم يستهن بهما على تمكنهما المعترف به إلا لأنه كان يرى للمجنون صورة أبعد نحو الحق من الصورة التي رأياها هما. . . هي صورة لما رأيتها منه أبصرت فيها من المسيح ملامح. وقد ظل عزيز عيد يخاصم أهل الفن جميعاً في سبيل هذا الدور حتى تعب هو نفسه منه لأنه اقتنع في آخر الأمر بأن مادة بدنه تقعد عن تحقيق الصورة الخيالية اللطيفة التي يتصورها، وأنه لن يستطيع أن ينقل من هذه الصورة إلى أذهان الناس حتى ولا التظليل الباهت الغامض، وأنه محتاج إلى جمهور من الملائكة أو الجن يستشفون روحه من وراء مادة بدنه. . .

عافاه الله من ممثل عاشق لفنه، صادق في عشقه، مجذوب.

عزيز أحمد فهمي

ص: 42

‌البَريدُ الأدبيّ

تشابه الفكرة عند الكتاب

إلى الدكتور زكي مبارك

لاحظت أثناء مطالعتي كثيراً من التقارب بين أفكار المؤلفين مما يثير

حب استطلاعي في معرفة سبب ذلك وهل هو تأثر بعضهم ببعض، أو

تشابههم في وجهة النظر والتفكير، أو نقل أحدهم عن الآخر، أو تشبع

أحدهم بآراء مشابهة لآراء الآخر. فمن ذلك أني لاحظت مثلاً في أثناء

قراءتي مقالاً للأستاذ أحمد أمين منشوراً بمجلة الثقافة تحت عنوان (في

المدنية الحديثة) بتاريخ 19111940 في عددها رقم 99 - أن بعض

أفكاره خصوصاً عن الحقيقة العقلية في آخر الصفحة الثامنة وأول

الصفحة التاسعة من المجلة - تشابه أفكار الأستاذ توفيق الحكيم السابق

نشرها في كتابه (تحت شمس الفكر) في صفحة 10 و11 وما جاء

بكتابه (عصفور من الشرق) في صفحة (111). كما أني قد لاحظت

من قبل في مقال سابق للأستاذ أحمد أمين في مجلة الثقافة عدد 2

بتاريخ 10 يناير سنة 1939 تحت عنوان (بين الشرق والغرب) نفس

التشابه في الروح والأفكار لما جاء في بعض صفحات (عصفور من

الشرق) خصوصاً في صفحاته 90 إلى 94 وصفحة 203 و204.

فالرجاء إذا كان لديكم متسع من الوقت لمراجعة مثل هذه المسائل أن تفيدونا في مقال من مقالاتكم الطريفة الممتعة في الرسالة عن رأيكم في مدى ملاحظتي هذه، وفي مدى العلاقات الفكرية التي تربط الكتاب من حيث الاتحاد في وجوه النظر وطرائق التفكير.

محمد الرفاعي

ص: 43

المحامي

جرائم أدبية!

هذا التعبير الفظيع هو الذي يصور ما أريد، وتلك الجرائم هي جناياتي على أدبي، الأدب الذي رجوت أن يكون صورة صحيحة لما يثور في القلب والعقل والوجدان، ثم لم يكن مع الأسف إلا شاهداً على أني أساير الناس وأصانع الزمان.

أقول هذا وقد مزقت بالأمس صفحتين أنشأتهما في لحظة صفاء، وقد عرفت أن أصحاب (الحب الغاضب) لا يزالون أحياء، وأنهم لم يكونوا غائبين، وإنما كانوا غاضبين ألم أقل لكم إن القطيعة المقصودة من فنون الوصال؟

ولا أعرف كيف مزقت هاتين الصفحتين وهما عُصارة قلبي وروحي؟

هل كنت أخشى أن تكونا وثيقة جديدة على أني رجلٌ مفطور الفؤاد؟

وما العيب في ذلك وما ظهر في الدنيا أديب بلا قلب؟

هل كنت أخشى أن يقول السفهاء إن أصحاب القلوب لا يصلحون لكبار الأعمال؟

وكيف أخاف أقوال السفهاء ومنهم عرفت أن التجريح لا يصوب إلا إلى الأديم الصحيح؟

أمثلي يخاف الناس وهو يعبد الله كأنه يراه؟

لقد فكرت في أمري مرات فوجدتني أصدق من توكل على الله، ورأيته عز شأنه يرعاني رعاية رفيقة هي البرهان الساطع على حمايته لأرباب القلوب.

فما خوفي من زماني، وأنا بفضل الله في أمان من مكاره الزمان؟

النفاق عمل ضائع، والمنافقون ضائعون، ولن يبقى في صحيفة الخلود غير القول الصادق الصريح، ولو كان في ظاهره رجساً من عمل الشيطان.

كنت أقسم ثم يسوقني الهوى إلى الحنْث، فلما أقسمت بالله الذي أقسم بالقلم لم يعرف الهوى كيف يسوقني إلى الخُلف في اليمين.

فهل أُقسم بالذي أقسم بالقلم لأفينَّ لوحي القلب أصدق الوفاء؟

أخشى أن تكون في صدري بقية من الشِّرك، وللشِّرك دلائل منها تهيب الناس، وأنا أكتم بعض آرائي عن الناس.

ص: 44

فمتى يرحمني الله من هذا الشِّرك الموبِق؟ ومتى أنظر فلا أرى غير ما لذاته العالية من عظمة وجلال؟ ومتى أعرف أن جُموح القلم من أشرف الأرزاق، لأنه من شواهد الاعتماد على صاحب العزة والجبروت؟

زكي مبارك

سؤال إلى علماء الآثار عن المحيا النبوي بالأزهر

جاء في كتاب الخطط الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة للعالم الجليل علي مبارك باشا وهو الكتاب المعروف باسم الخطط التوفيقية - كلام عن أثر بالجامع الأزهر يسمى - المحيا النبوي - في أثناء ترجمة الشيخ أحمد شهاب الدين الكلبي المالكي (جـ15 ص101) وقد نقلت الخطط هذه الترجمة وما جاء فيها من ذلك الأثر عن كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، فذكرت أنه ممن ولد بمنفلوط الشيخ أحمد بن عيسى بن غلاب بن جميل المنعوت بشهاب الدين الكلبي المالكي شيخ المحيا النبوي بالجامع الأزهر نشأ بمنفلوط ثم تحول مع أبيه إلى مصر فحفظ القرآن وعدة متون وأخذ عن والده وأعيان العلماء. إلى أن قالت: وجلس بالمحيا بعد والده، ووالده بعد البلقيني، والبلقيني بعد الشيخ صالح، والشيخ صالح بعد الشوني المدفون بزاوية الشيخ عبد الوهاب الشعراني. ثم ذكرت أنه توفي سنة سبع وعشرين وألف ودفن بالقرافة الكبرى بمصر.

وهكذا عنيت الخطط كما عني كتاب خلاصة الأثر (جـ3 ص382) بسرد شيوخ هذا المحيا من الشيخ شهاب الدين الكلبي إلى الشيخ الشوني، ولم يرد فيهما شيء يبين هذا المحيا نفسه، فلم يعرفانا أمره، ولم يهتما ببيان مكانه بالجامع الأزهر، ولم يشرحا الغرض المقصود منه فيه، وقد أردت أن أعرف الآن شيئاً عن هذا المحيا النبوي من بعض شيوخنا بالأزهر، فلم أجد عندهم شيئاً من خبره، إذ نسي الآن أمره، ولم يعد له شيوخ يجلسون فيه كالشيوخ الذين جلسوا فيه سابقاً.

ولعلي بعد هذا أجد من قراء مجلة الرسالة الغراء - ولا سيما علماء الآثار - من يكون عنده علم بهذا المحيا النبوي، فيبين لنا مكانه بالجامع الأزهر، ويشرح لنا أمره فيه.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 45

تصويب وتعليق

ترجم الأستاذ النشار في العدد الماضي من الرسالة أبياتاً نظمها (لورد دنساني) أثناء مروره بمصر جاء في مطلعها:

(أيها الملوك الأربعة الجالسون في ساحة أبي سنبل متجهين نحو مشرق الشمس، لقد رأيتم الإنسان يطير).

ولقد قرأت هذه الترجمة فسحرني خيال الشاعر المحلق وتعبيره الجميل، واستمتعت بلحظات نشوى حوم فيها خيالي على تلك الربوع الجميلة الساحرة من بلاد النوبة التي قضيت خلالها أربعة أعوام كانت ربيع العمر وفجر أحلامه. ثم حلق خيالي في أطباق الزمن إذ تمر مواكب القرون مطأطئة الرءوس أمام ذلك الأثر الخالد في أعماق الجنوب. . .

ولكني أفقت من هذه السبحات الجميلة على هتاف ينبعث من ثنايا الذاكرة أفسد عليّ ما أنا فيه من متعة بجلال الفكرة وجمال الأسلوب! فليس ثمة أربعة ملوك يجلسون في ساحة أبي سنبل، ولكنها أربعة تماثيل لملك واحد هو رمسيس الأكبر استقرت على واجهة معبده العظيم الذي أقامه هنالك تخليداً لذكرى انتصاره على الحثيين. . .

يا لله! لأحببت والله أن تتغير معالم التاريخ فتصير هذه التماثيل الأربعة لملوك أربعة لا لملك واحد، ليظل هذا التعبير الجميل الرائع في قصيدة لورد دنساني خالداً خلود هذه الآثار!

فإن في مخاطبة هؤلاء الملوك الأربعة وإشهادهم على ما وصل إليه الإنسان من عظمة مادية ومدنية شامخة، وفي جواب هؤلاء الملوك من معاني الخلود والروحانية والسمو، ما يفتح أمام الفكر عوالم من التأمل العميق والافتتان البالغ، لا يكشف عنها التعبير التاريخي عن حقيقة هذه التماثيل فلنسجل هذا التصويب للحقيقة والتاريخ، ولنستمتع بما في أبيات لورد دنساني من أدب رفيع.

(حلوان)

محمد كامل حتة

ص: 46

قصر اللابرنت

قرأت في عدد الرسالة رقم (387) تحت عنوان: (بين كاتب وشاعر وخطيب) البيت الآتي:

من كل بيت مشرق

يزري بقصر اللابرنت

ووجدت في هامش التفسير ما يبين أن اللابرنت كان قصراً من قصور الفراعنة لا يزال بالفيوم إلى يومنا هذا.

ولكن الحقيقة أن اللابرنت هذا كان معبداً لهرم الملك (أمنمحيت الثالث) سادس ملوك الأسرة الثانية عشرة المصرية التي اتخذت إقليم الفيوم قاعدة لحكمها.

إذ كان المتبع أن يشيد كل فرعون معبداً جنازياً شرقي هرمه تقام فيه الطقوس الدينية والصلوات.

وكان ينقسم إلى قسمين: الرئيسي المتصل بالهرم وهو خاص بالكهنة وأقارب الملك المتوفى.

ثم القسم الثاني وهو ما نسميه بمعبد الوادي وكان خاصاً بالشعب لإقامة الشعائر الدينية على روح الملك المتوفى حتى يهنأ بالراحة الأبدية في الدار الآخرة. وكان يصل المعبدين عادة طريق طويل مسقوف ينحدر بميل من معبد الهرم إلى معبد الوادي.

ولكن تسمية معبد هرم الملك (أمنمحيت الثالث) بقصر اللابرنت أخذت عن كتاب اليونان الذين رأوا كِبر المعبد واتساعه وتعدد حجراته أثناء زيارتهم لمصر فظنوه قصراً.

ومع كل ما أظهره الكشف الحديث من تصحيحات فنية فإننا لا زلنا مع الأسف نجد المعبد منعوتاً باسمه القديم حتى في الكثير من كتبنا المدرسية. وغير ذلك من الأعلام الأثرية الكثيرة.

محمد صابر

أخصائي في الآثار المصرية القديمة

ومؤلف كتب الفراعنة.

ص: 47

اقتراح

سيدي الأستاذ رئيس التحرير. . .

في العدد (357) من الرسالة الغراء عقب الأديب حسن أحمد باكثير مقالة الأستاذ عبد العزيز الدوري في تفسيره للهند الصينية (بإندونيسيا) بما نصه:

لا شك أن الأستاذ يقصد بذلك جزائر الهند الشرقية الهولندية لا الهند الصينية الخ. نعم لا شك في ذلك ولكن الواقع - مع الأسف الشديد - أن أكثر كتاب العرب ليس لهم أقل معرفة عن (إندونيسيا) بما فيها من نهضات مباركة. إن إندونيسيا التي لا ينقص عدد سكانها - حسب الإحصاء الأخير - عن خمسة وستين مليوناً ليتكون مسلموها من نحو ثمانين في المائة أي لا ينقص عن خمسين مليوناً، وإن فيها جمعية - وهي الجمعية المحمدية - هي أكبر جمعية دينية في العالم الإسلامي. . . فكيف إذن يجور لأديب من أدباء الإسلام أن يجهلها. . . لذا كم يكون نبيلاً من الرسالة - وهي على ما لها من نفوذ - لو ازَّيَّنت صفحة من صفحاتها بأبحاث عن العالم الإسلامي لسد هذا النقص. . .

(مكة المكرمة)

صلاح الدين سليمان هاشم

أخلاق القرآن

ذكر الدكتور عبد الوهاب عزام في مقاله (أخلاق القرآن) المنشور بعدد الرسالة 388 الآية الكريمة هكذا: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده). والصواب (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).

سليم الحجري

امرؤ القيس

إلى الأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل

بعد التحية. . . قرأت مقدمة كتابك (أغاريد الزفاف) المنشورة بالعدد 384 من الرسالة إلى

ص: 48

أن وصلت إلى:

ورثت الرباب بنت امرئ القيس زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت:

إن الذي كان نوراً يستضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون. . . الخ

فمن هو امرؤ القيس هذا؟ أرجو الإفادة على صفحات الرسالة الغراء

(سائل)

ص: 49

‌القَصَصُ

(سانياسي) أو الزاهد

مسرحية رمزية رائعة لشاعر الهند طاغور

ترجمة الأستاذ فخري شهاب السعيدي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

(يدخل رجال حاملين شخصا في فراش)

الأول: إنه لا يزال نائماً

الثاني: ما أثقل هذا اللعين

مسافر (خارج عن الجماعة): من هذا الذي تحملون؟

الثالث: إنه (بندى) الحائك الذي ينام نوم الأموات، وهانحن أولاء قد حملناه لننأى به

الثاني: ولكني تَعب أيها الرفاق فدعونا نهزه هزاً عنيفاً لنوقظه

بندى: (مستيقظا): إيه؟. . . آ. . . أو. . .

الثالث: ما هذا الصوت؟

بندى: من أنتم يا هؤلاء؟ إلى أين تذهبون بي؟ (يضعون عن عواتقهم الفراش)

الثالث: ألا تستطيع المحافظة على السكينة مثل سائر الأموات المحتشمين؟

الثاني: تلك حماقته، توجب عليه الكلام وإن يكن ميتاً!

الثالث: لقد كان يخلق بك أن تلتزم جانب الصمت

بندى: إني لآسف إذ أخلف ظنكم يا سادة، لأنكم أخطأتم فما أنا بميت وما كان اعتراني غير سنة من النوم العميق

الثاني: إني لأتعشق سلاطة هذا الرجل تعشقاً! فهو لا يموت فحسب، وإنما يموت مجادلاً

الثالث: إنه لن يعترف بالحقيقة؛ فلنذهب لإعداد شعائر الميت وإتمامها.

بندى: أقسم لكم بكرامة لحاكم هذه إني حي مثلكم

سانياسي: لقد استغرقت الفتاة في نومها متوسدة ذراعها تحت رأسها الصغير، وما أرى إلا أن أدعها وأذهب الآن. ولكن هل يجب أن تلوذ بالفرار، أيها الجبان؟ هل تلوذ بالفرار من

ص: 50

هذا الكائن الصغير؛ إنما هذه في الطبيعة أنسجة عناكبها وما ينال خطرها غير الفَراش ولا يتجاوزه ليبلغني أنا الزاهد سانياسي

(تتنبه (فاسنتي) مذعورة)

فاسنتي: هل تركتني يا سيدي؟ هل ذهبت عني؟

سانياسي: وما الذي يوجب ابتعادي عنك؟ مِمَّ أخاف؟ أو أرتاعَ من ظل؟!

فاسنتي: هل تسمع اللغط في الطريق؟

سانياسي: ولكن السكينة مخيمة على نفسي

(تدخل امرأة شابة ومن ورائها بعض الرجال)

المرأة: اذهبوا الآن، غادروني لا تتحدثوا إلي في الحب

الرجل الأول: وَلِمهْ؟ ما هو ذنبي؟

المرأة: إن قلوبكم - يا أيها الرجال - قد قُدّت من الصخر

الرجل الأول: كلام لا سبيل إلى تصديقه. إذا كانت قلوبنا مقدودة من الصخر فكيف تمكنت منها سهام (كيوبيد) إذاً؟

رجل آخر: أحسنت. صدقت

الرجل الثاني: والآن، فبماذا تجيبين على قوله يا عزيزتي؟

المرأة: أتريد جواباً؟ وهل حسبت أنك قلت شيئاً حسناً؟ إنما هذا هذر محض

الرجل الأول: إني أحتكم إليكم أنتم أيها السادة. لقد كان قولي: إنه لو كانت قلوب الرجال قد نحتت من الصخر، فكيف. . .

الرجل الثالث: نعم، نعم، ليس على هذا الكلام من جواب

الرجل الأول: والآن، فلأشرح لكم هذا: قالت إن قلوبنا نحن الرجال، مقدودة من الصخر، أليس كذلك! حسن؛ فأجبتها إن كانت قلوبنا من الصخر حقاً فكيف استطاعت سهام (كيوبيد) أن تنالها بالتخريب؟ أتفهم؟

الرجل الثاني: لقد كنت أبيع الديس منذ أربعة وعشرين عاماً في المدينة يا أخي، أفتظنني لا أفهم ما تقول؟ (ينصرفون)

سانياسي: ماذا تصنعين يا طفلتي؟

ص: 51

فاسنتي: إني أحِّدق في راحتِكَ الواسعة يا أبتِ! وكأن يدي طير صغير قد وجد عشه فيها. إن راحتكَ فسيحة كهذه الأرض التي تتسع لكل شيء: هذه الخطوط أنهارها، وتلك فيها التلال. (تضع خدها على راحته)

سانياسي: إن مَلمسَكِ لناعم يا بنيتي كملمس النوم، وإنه ليخيل إلي أن في هذه اللمسة أثراً عظيماً من آثار الظلام الذي يجرح النفس جرح الأبد الخالد؛ ولكنك يا طفلتي لست سوى فراشة النهار: لك طيورك وأزاهير حقولك. فماذا تستطيعين أن تجدي فيّ أنا الذي حصرت مركزي في الوحدانية؟

فاسنتي: لا أريد شيئاً آخر غير حبَّك هذا فإنه يكفيني

سانياسي: تتوهم الفتاة أني أحبها، فيا لَذَات القلب الطائش! إنها سعيدة بهذه الفكرة فلتنمِّها وتشجّعها! دعها تتعلّل بي لأنهم قد نشئوا في أحضان الوهم فلا بد لهم منه لِتسليهم

فاسنتي: يا أبت، هذا العُصْبَةُ التي تمتد على العشب في التماس شجرة تلتف حولها إنما هي عُصبتي: لقد تعهدتها وأرويتها منذ أن نجمتْ منها ناجمتان من صغار الورق في الهواء كأنهما صرخة الطفل الصغير. إني أنا هي تلك العصبة: نشأتْ على جانب من الطريق، فمن السهل أن تقتلع. هل ترى هذه الأزهار الصغيرة الجميلة ذات اللون الأزرق الفاتح المنقّطة قلوبها بالنقاط البيض؟ ما هذه النقاط سوى أحلامها! دعني أمسحْ جبينك في لطف بهذه الأزهار، فعندي أن الأشياء الجميلة إنما هي مفاتيح كل ما لم أرَ وما لم أهتد إلى فهمه.

سانياسي: كلا، كلا، ما الجمال سوى ضرب من الخداع. وإن الزهرة والتراب في نظر الحكيم العارف لشيء واحد. ولكن ما هذا الضعف الذي يدب في عروقي ويسدل على بصري نقاباً خفيفاً من ألوان قوس قزح جميعها؟ هل هذه هي الطبيعة تحوك أحلامها من حولي لتضل حواسي؟ (ينهض فجأة ساحقا الأزهار) حسبي هذا، فإنما هو الموت. ما لعبك هذا، يا أيتها الفتاة، معي؟ إني أنا هو الزاهد (سانياسي) لقد قطعت عُقد نفسي كلها فأنا الآن حر طليق. كلا ثم كلا، لا تذرفي الدموع فإني لا أطيق احتمالها؛ ولكن أين كانت تختبئ هذه الحية في قلبي أين كان هذا الغضب الذي زحف خارجاً من ظلماته مرهف الناب؟ كلا. . . إذاً فهي لم تمتْ بل ظلت حية لإنشاء المجاعة: هذه المخلوقات الجهنمية قد جَمَّعتْ هياكلَها المقعقِعة وقامت تتراقص بينا أخذت أستاذتُها الساحرة الخطيرة، في إيقاع ألحان

ص: 52

شبابتها السحرية في قلبي. لا تبكيْ يا طفلة، وتعالي إليَّ تعالي. إنك لتشبهين في نظري صرخة عالم ضائع، أو نشيد نجم جوال. إنك لتطيقين بذهني شيئاً أوسع من هذه الطبيعة سعة لا تحد. بل هو أوسع من الشمس والنجوم جميعاً. . . إنه لعظيم كالظلام، وإني لا أدرك كنهيه، ولم أدر ما هو، وذلك ما يبعث الرعب منه في نفسي، وعليَّ أن أفارقَك، فعودي من حيث أتيت يا رسالة المجهول

فاسنتي: لا تفارقني يا أبت، فإنه ليس لي في الدنيا من أحد سواك. . .

سانياسي: بل يجب علي أن أذهب. لقد حسبتُ أنني عرفت ولكني لما أعرف، ومع ذلك، فيجب أن أهتدي إلى العرفان؛ فأنا أغادرك لأعرف من عساك تكونين!

فاسنتي: أبت، إن غادرتني كنت في الهالكين.

سانياسي: أطلقي يدي ولا تمسكي بي، فإني يجب أن أتحرر

(يخرج راكضا)

- 3 -

(يشاهد (سانياسي) الزاهد جالسا على صخرة في شعب جبل. يمر صبي راع مغنيا)

الأغنية: (لا تشح، يا حبيبي، بوجهك عني؛

(فهذا الربيع قد فتح صدره،

(وهذه الأزهار تبوح بمكنون سرها في الظلام.

(وحفيف أوراق الغابة يرتفع في الفضاء

(مثل ارتفاع حسرات الليل؛

(فتعال يا حبيبي، تعال وأرني وجهك. . .)

سانياسي: إن ذهب الأصيل ليذوب في قلب البحر الأزرق وهذه الغابة التي تقوم على سفح الأكمة ترشف آخر أكؤس أنوار النهار. تلك أكواخ القرية ترى إلى اليسار من خلال الأشجار، وكأن مصابيح المساء المضاءة فيها أم مبرقعة وقفت ترقب طفلها المستغرق في النوم

يا أيتها الطبيعة إنما أنت أمتي، لقد نشرت بساطك المهول في القاعة الفسيحة التي أجلس فيها وحيداً جلسة ملك، أرقبك تتراقصين وعلى صدرك تلتمع ونيتك المنظومة من النجوم.

ص: 53

(تمر صبايا الراعيات منشدات:)

(تجيء ألحان الموسيقى مما وراء النهر المشمول بالظلام فتناديني

(لقد كنت في الدار؛ وكنت فيها سعيدة؛

(ولكن لحن الشبابة تعالى في سكون الليل،

(فإذا بفؤادي تنتابه وخزة من الألم،

(ألا فلتدلني على الطريق يا من تعرفها،

(دلني على الطريق التي تقود إليه؛

(فسأذهب إليه بزهرتي الصغيرة الواحدة لأضعها عند قدميه

(وخبره بأن موسيقاه وحبي شيء واحد!)

(يبتعدن)

سانياسي: أحسب أن مثل هذا المساء قد طرأ علي مرة واحدة طوال حياتي؛ فأترع كأسه إلى حافته بالحب والموسيقى، وجلست مع شخص يعيد ذكرى وجهه إلى مرأى نجمة المساء. . .

ولكن أين هي فتاتي الصغيرة ذات العينين السوداوين الحزينتين اللتين تترقرق فيهما الدموع؟ أهي جالسة هناك خارج كوخها تحدق في نجمة المساء ذاتها من خلال وحدة المساء الجليلة؟

ولكن لا بد للنجمة من أفول، ولا بد للمساء من إغماض عينيها في الليل؛ فأما الدمع فسيرقأ حتماً، وأما الحسرات فسيهدئها النوم بغير شك. لا، لن أقفل راجعاً، ولتثبت لأحلام العالم أشكالها؛ لن أعترض سبيلها، ولن أختلق لها أوهاماً جديدة، فلسوف أبصر، ولسوف أتفكر وأعرف

(تدخل فتاة في أسمال بالية)

الفتاة: أنت هنا يا أبت؟

سانياسي: تعالي واجلسي بجانبي يا طفلتي. وبودي أن لو استطعت لملكت دعوتكم لنفسي. لقد دعاني بعضهم بـ (يا أبت) مرة، وكان الصوت يشبه صوتك بعض الشبه، وها إن الأب يجيب الآن، ولكن أين هو النداء؟

ص: 54

الفتاة: من أنت؟

سانياسي: إني (سانياسي) الزاهد؛ فخبريني أيتها الطفلة ما مهنة أبيك؟

الفتاة: إنه يجمع الأحطاب من الغابة

سانياسي: وهل لك أم؟

الفتاة: كلا، لقد ماتت إذ كنت طفلة

سانياسي: وهل تحبين أباك؟

الفتاة: أحبه الحب الذي ما فوقه شيء في هذا الكون. إني ليس لي في الدنيا سواه

سانياسي: لقد فهمتك، أعطني يدك الصغيرة، دعيني أمسكها في راحتي، في راحتي الكبيرة هذه

الفتاة: وهل تحسن يا (سانياسي) قراءة الكف؟ هل تستطيع أن تقرأ كل ما في حاضري ومستقبلي من كفي؟!

سانياسي: أحسب أنني أستطيع، ولكن عسير علي إدراك معناه، ولسوف أعرف المعنى ذات يوم

الفتاة: يجب أن أبادر للقاء والدي

سانياسي: أين؟

الفتاة: في الطريق المؤدية إلى الغابة، فإنه سيفتقدني إن لم يجدني هناك

سانياسي: قرّبي رأسك مني يا طفلتي. تعالي أقبّلك قبلة التبريك قبل أن تذهبي

(تغادره الفتاة)

(تدخل امرأة وطفلتان)

الأم: ما أقواكما وما أثقلكما يا ابنتي (ميسيري)! أما إنهما لمتعة للنظر! وما أراكما، كلما أطعمتكما إلا قد زدتما هزالاً يوماً فيوماً!

الطفلة الأولى: ولم أراك تلوميننا على هذا يا أماه؟ هلا فهمنا هذا!

الأم: ألم آمركما بالإخلاد إلى الراحة؟ ولكنكما لا تفتآن تتراكضان من هنا وهناك

الطفلة الثانية: ولكنما نركض في خدمتك يا أم

الأم: كيف تتجرئين على هذا الكلام؟

ص: 55

سانياسي: إلى أين تريدين يا ابنتي؟

الأم: لك تحيتي واحترامي يا أبت. إننا في طريقنا إلى الدار

سانياسي: وكم شخصاً أنتم؟

الأم: زوجي وأمه وطفلتان أخريان غير هاتين

سانياسي: وكيف تقضون أيامكم؟

الأم: صعب علي أن أعرف كيف تمضي الأيام. أما رَجلي فيخرج إلى الحقل، وأما أنا فأنصرف إلى منزلي أدبر شؤونه؛ فإذا أقبل المساء جلست مع كبريات بناتي للغزل (مخاطبة الطفلتين) اذهبا فحييا الزاهد. باركهما يا أبت

(يخرجن)

(يجيء رجلان)

الأول: أرجع من هنا يا صديقي ولا تعد أبداً

الثاني: نعم، أدري، فالأصدقاء إنما يجمعهم الاتفاق، والاتفاق هو الذي يحملنا إلى بعض الطريق معاً ثم تحين اللحظة التي يتحتم فيها الفراق

الصديق الآخر: ولكن لنحمل أمل الاجتماع بعد الفراق

الصديق الأول: إنما يعود اجتماع الشمل وتشتته إلى سير العالم كله، ولن ترعانا النجوم رعاية خاصة بنا!

الصديق الثاني: فلتحي النجوم التي جمعتنا إذا سواء، فإن ذلك لو كان للحظة واحدة فهو خير كبير

الصديق الأول: تريث للحظة قبل أن تذهب. هل تستطيع أن ترى لمعان الماء القليل في الظلماء، وأن ترى أشجار (الجزورين) على الضفة الرملية من النهر؟ لكأن قريتنا كومة من الظِّلال القاتمة السود. إنك لا تتبين منها غير الأنوار فهل تستطيع أن تقول أي هذه ضوؤنا؟

الصديق الثاني: نعم احسبني أستطيع

الصديق الأول: إن ذلك النور هو نظرة التوديع التي تلقي بها أيامنا الخالية على ضيوفها الراحلين، ثم إذا أوغلت قليلاً فهنالك تجثم الظلماء

ص: 56

(يخرجان)

سانياسي: هذا الليل يشتد ظلمة ووحشة، وكأنه في جلسته هذه المرأة المهجورة. وهذه النجوم دموعها قد انقلبت ناراً. لقد ملأ حزن قلبك الصغير يا طفلتي جميع ليالي حياتي حتى الأبد. ويدك المشتاقة الصغيرة قد تركت أثر ملمسها في هواء هذا الليل! وكأني أحسها على جبيني مخضلة بدموعك. أي حبيبتي! إن حسراتك التي تابعتني يوم أن هربت قد تعلقت الآن بقلبي، وسأحملها إلى مماتي.

- 4 -

(سانياسي في مخرفة القرية)

لتذهب نذور زهدي هباء، فقد كسرت عكازي وحطمت كشكولي، وهذه السفينة العظيمة، هذا الكون الذي يشق عباب الزمان ليحملني على متنه تارة أخرى كيما أدرك الحجاج ثانية، واهاً للمجنون الذي يسبح في البحث عن السلامة وحيداً رافضاً أشعة النجوم ونور الشمس معتمداً في التماس سبيله على ضوء مصباحه الدوري. إن الطير ليحلق في الفضاء ليعود إلى هذه الأرض العظيمة، لا لكي يضل في الفراغ! إني طليق من أغلال الانتفاء غير المجسدة. إني متحرر من قيود الأشياء والأشكال والغايات والمحدود هو في الحقيقة غير المحدود! وإن الحب ليعرف حقيقته. يا فتاتي إنما أنت روح ذلك كله، فلن أستطيع إلى تركك سبيلاً

(يجيء رئيس القرية)

سانياسي: هل تعلم يا أخي أين تكون ابنة (رافو)؟

رئيس القرية: لقد غادرت قريتها وإنا بذلك لفرحون

سانياسي: وإلى أين ذهبت؟

الرئيس: وهل تتساءل إلى أين ذهبت؟ لا فرق عندها حيثما كانت

(يخرج)

سانياسي: لقد ذهبت عزيزتي لتبحث لنفسها عن مكان حيث لا مكان في الفراغ، فيجب أن تهدي إلى

(يدخل جمهور من القرويين)

ص: 57

الرجل الأول: وإذا فسيتزوج ابن ملكنا الليلة

الرجل الثاني: وهل تستطيع أن تخبرني عن ساعة الزفاف متى تكون؟

الرجل الثالث: إنما ساعة الزفاف للعريس وعروسه فما لك ولها؟

امرأة: ولكن ألا تراهم سيعطوننا من أجل هذا اليوم السعيد بعض الكعك؟

الأول: بعض الكعك؟ ما أبلدك! لقد سمعت من عمي الذي يعيش في المدينة أنهم سيوزعون علينا اللبن والرز المشوي

الثاني: شيء عظيم

الرابع: ولكن ثقوا بأنا ستنالنا كمية من الماء أكبر من كمية اللبن

الأول: ما أبلدك يا (موتي) أفي حفلة زواج الأمير يشاب اللبن بالماء؟

الرابع: ولكنا لسنا بالأمراء يا (بانجو). إنما لنا - نحن الفقراء - حيلة المذق بالماء الوفير

الأول: اسمعوا، ذاك ابن الفحّام ما يزال منكباً على عمله فيجب أن نقفه عما هو فيه

سانياسي: هل علم أحد منكم أين تكون ابنة (رافو)؟

المرأة: لقد خرجت مهاجرة

سانياسي: إلى أين؟

المرأة: ذلك ما ليس يعلمه أحد

الرجل الأول: ولكنا واثقون بأنها ليست هي عروس الأمير!

(يتفرقون ضاحكين)

(تدخل امرأة ومعها طفلها)

المرأة: تحياتي أرفعها إليك أيها الأب. دع طفلي هذا يحني رأسه عند قدميك، إنه مريض فباركه يا أبت

سانياسي: غير أني لستُ كما كنتُ زاهداً يا بنيتي فلا تسخري مني باحتراماتك

المرأة: فمن عساك أن تكون إذاً! وماذا تصنع؟

سانياسي: إني أبحث. . .

المرأة: وعمن تبحث؟

سانياسي: إني أبحث عن عالمي الضائع - هل تعرفين ابنة (رافو)؟ أين تكون الآن؟

ص: 58

المرأة: ابنة (رافو)؟ لقد ماتت!

سانياسي: لا. . . إنها لا تموت. . . كلا. . . كلا

المرأة: ولكن ما أنت وموتها أيها الزاهد؟

سانياسي: ليس أنا وحدي الذي يعنيني موتها؛ بل ذلك يعني موت الجميع

المرأة: إني لست أفهمك

سانياسي: إنه لا يمكن أن تموت قط!

(تمت المسرحية)

فخري شهاب السعيدي

ص: 59