المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 39 - بتاريخ: 02 - 04 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٣٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 39

- بتاريخ: 02 - 04 - 1934

ص: -1

‌المصري الغريب في مصر!

للدكتور طه حسين

هو مختار رحمه الله. فقد كان في حياته مرآة صادقة كل الصدق لنفس مصر الخالدة التي لا تحد ولا تحصر. كنت تجد في هذه المرآة صوراً صادقة لنفس مصر القديمة، ولنفس مصر الإسلامية، ولنفس مصر هذه التي يكونها هذا الجيل، ولآمال مصر ومثلها العليا بعد أن يتقدم الزمان ويتقدم، وترث أجيال أخرى ارض الوطن عن هذه الأجيال التي تضطرب فيها الان.

كان مختار هذه المرآة الصافية المجلوة التي تنعكس فيها حياة مصر على اختلاف أزمنتها وما يحيط بها من الظروف، فكان من هذه الناحية اشد أبناء مصر اتصالا بها وقربا منها وتمثيلاً لها. ولكنه على ذلك كان غريباً في مصر أثناء هذه الأسابيع التي ختمت مساء الثلاثاء حين ختمت حياة مختار. اقبل من أوربا فلم تكد الصحف تتحدث عن إقباله، ولم يكد يخف للقائه من أصدقائه إلا نفر قليلون. وأقام في مصر مريضاً مكدوداً يلح عليه الألم والسقم فلا يكاد يذكره من المصريين الذين كانوا يعجبون به ويحشدون له ويهتفون باسمه ويعتزون بمجده ويرفعون رؤوسهم بآثاره إلا نفر يحصون، ولعلك إن أحصيتهم لم تبلغ بهم العشرين، أخشى ألا تبلغ بهم اقل من هذا العدد اليسير ، ثم اشتد عليه المرض والجأه إلى المستشفى فلم تكد الصحف تتحدث عن ذلك إلا حديثاً يسيراً جداً. وخف أصدقاء مختار إلى المستشفى يسألون عن صديقهم ويريدون لقاءه فحال المرض بينهم وبين اللقاء. أعلن إليهم أن الحجاب قد ألقى بينهم وبين هذا الصديق وان كانت الحياة ما تزال تتردد في جسمه النحيل. ثم اصبح الناس يوم الأربعاء وإذا نعي مختار يملأ القاهرة ويقع من نفوس أهلها موقع الألم اللاذع والحزن الممض. ثم أمسى الناس يوم الأربعاء، وإذا جماعة من خاصة المصريين وقليل من الأجانب عند محطة القاهرة يستقبلون جثمان مختار، ثم يسعون معه إلى المسجد. ثم يفترقون ويمضي مختار إلى مستقره الأخير، ومن حوله قل في إحصائهم ما شئت فلن تستطع ان تبلغ بهم نصف المئة. ثم يصل مختار إلى قبره، ثم يهبط مختار إلى هذا القبر، وهؤلاء الأصدقاء قائمون قد ملكهم وجوم عميق لا يقطعه إلا هذا الصوت الرفيق المزعج، صوت المساحي والمعاول وهي تسوي القبر عليه، وتقطع ما بقى بينه

ص: 1

وبين الحياة من اسباب، والا هذا النداء الذي يتردد بين حين وحين عنيفاً يتكلف الرفق، طالباً الماء الذي يحتاج إليه في تسوية هذا القبر، وإقامة هذا السد بين صاحبه وبين الحياة، وإلا هذا اللغط الذي يؤذي الأسماع، وكان من حقه أن يكون موسيقى عذبة رقيقة تأسر القلوب الجريحة وتهدئ النفوس الثائرة، وترد الجازعين اليائسين إلى ما ينبغي لهم من الإذعان لقضاء الله والرضى بحكم الله. وهو لغط هؤلاء القراء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقد كره الله أن يلوي الناس ألسنتهم بالكتاب، لانه كتاب مبين مستقيم لاعوج فيه ولا التواء. وانما فيه هداية للعقول وشفاء لما في الصدور. ثم ينقطع كل صوت، ويتفرق هؤلاء الأصدقاء يحملون في قلوبهم ما يحملون من حب ووجد، ومن أسى ولوعة، يحملون هذا كله لينغمسوا به في هذه الحياة التي تنتظرهم على خطوات قليلة قصيرة من مستقر الموتى.

وكذلك انتهت قصة مختار مع انتهاء النهار يوم الأربعاء، وكذلك أسدل ستار الموت على حياة مختار في الوقت الذي أسدل فيه ظلام الليل على حياة الأحياء. وما اكثر ما تنتهي قصص الناس في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة. وما اكثر ما يسدل ستار الموت حين تشرق الشمس أو حين تغيب، فلا نحس ذلك ولا نلتفت إليه، لان الذين تختطفهم المنية أو تحصدهم في جميع الأوقات قوم مجهولون لم تميزهم الظروف أو لم تميزهم أنفسهم، فهم يمضون دون أن يحسهم أحد كما يقبلون دون أن يحسهم أحد. ولكن مختار كان غريباً حقاً في آخر حياته، وكان غريباً حقاً في أول موته، وأي عجب في هذا؟ لقد آثر حياة الغربة منذ أعوام، فكان لا يزور وطنه إلا لماما، ولقد تعود الجفوة من مواطنيه. واكبر الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان اكرم على نفسه من أن يشكو أو يظهر الألم. ولقد سمعنا انه احتمل المرض شجاعا، واستقبل المرض شجاعا، لم يدركه جزع ولا فرق. ولو انه رأى بعد ان مات كيف ودعه مواطنوه لما اثر فيه ذلك اكثر مما أثرت فيه جفوة مواطنيه قبل أن يموت. ولعله كان يألم لذلك في قرارة قلبه الممتاز، ثم لا يظهر من ألمه شيئاً كما كان يفعل أثناء الحياة، إنما نحن الذين ينبغي لهم أن يألموا اشد الألم، وان يحزنوا اشد الحزن، وأن يستشعروا شيئاً غير قليل من اللوعة والحسرة وخيبة الأمل حين ترى هذا العقوق، وحين نقدر أثره في نفس صديقنا الراحل العزيز. فقد كنا ومازلنا نتحدث

ص: 2

بأن مختاراً هو الذي رد إلى مصر بعض حظها من المجد الفني، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد مكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل، وهو لسان الفن. وكنا ومازلنا نتحدث بأن مختاراً قد انطق مصر بهذه اللغة التي يفهمها الناس جميعاً وهي لغة الجمال، لغة الفن، بعد أن كانت لا تنطق إلا بهذه اللغة التي لا يفهما إلا جيل بعينه من الناس، وهي لغة الكلام. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد جدد في مصر سنة كانت قد رست ومضت عليها قرون وقرون. وهي سنة الفن، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختار قد لفت الأوربيين إلى مصر، أقام لهم الدليل على أن مطالبتها بالاستقلال لم تكن عبثاً ولا لغواً، وإنما كانت نتيجة لحياة جديدة، ونشاط جديد، وقد لفت مختار الأوربيين إلى ذلك في اشد الأوقات ملاءمة، في وقت الثورة السياسية. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً على حداثة عهده بالفن كان اسبق المصريين إلى إعجاب أوربا، ألم يعرض آثاره في باريس؟ ألم تتحدث صحف الفن عن مختار قبل أن تتحدث صحف الأدب عن كتابنا وشعرائنا؟ ألم تستقر أثمار مختار في متاحف باريس قبل أن تستقر آثار كتابنا وشعرائنا في مكاتبها؟ كنا نتحدث بهذا كله، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد ردإلى المصريين شيئاً غير قليل من الثقة بأنفسهم، والأمل في مستقبلهم والاطمئنان إلى قدرتهم على الحياة الممتازة الراقية. كنا وما زلنا نتحدث بهذا وبأكثر من هذا، ومع ذلك فقد قضى مختار آخر حياته شريداً أو كالشريد. وقد قضى مختار آخر أيامه في مصر منسياً أو كالمنسي وقد عبرت جنازة مختار مدينة القاهرة يطيف بها جماعة من الخاصة ليس غير!! نستغفر الله بل مرت جنازة مختار أمام التمثال الذي صنعه بيديه كما تمر أمام أي شئ لم يظهر على التمثال ما يدل على الحزن أو ما يدل على الاكتئاب، أو ما يدل على الشكر أو عرفان الجميل. وعبرت جنازة مختار مدينة القاهرة تجهلها الحكومة المصرية أو تكاد تجهلها، لم يمش في جنازة مختار ولم يقم على قبر مختار وزير العلوم والفنون. ولم يلق أحد على قبر مختار كلمة الوداع، وإنما كان الصمت يشيعه، وكان الصمت يواريه التراب. وكان الصمت يودعه حينما تفرق من حوله الأصدقاء. ولو قد مات مختار في بلد غير مصر لكان موته شأن آخر. ولو قد كان مختار فرنسيا أو إنكليزيا أو إيطاليا وأدى لبلده مثل ما أدى لمصر لقامت الدولة له بشيء آخر غير الإهمال

ص: 3

والإعراض. إذن لكانت جنازته رسمية تنفق عليها الدولة، ويمشي فيها رجال الدولة، ويخطب فيها كبار الدولة، ولكن مختاراً نشأ في مصر، وعمل في مصر، ومات في مصر فحسبه ما أتيح له يوم الأربعاء من توديع الذين كانوا من أصدقائه وأحبائه ليس غير.

ولا ننس ان رئيس الوزراء قد تفضل فندب من مثله في جنازة مختار. وهذا، وبالسخرية الأقدار، كثير جداً ينبغي أن يشكر لرئيس الوزراء. فقد ينبغي أن لا ننسى أن مختارا لم يكن من أنصار السياسة الرسمية، ولا من الذين يستمتعون بعطفها وحبها ورضاها، فكثير أن يتفضل رئيس الوزراء فيندب من يمثله في جنازة هذا المعارض وان كان صاحب فن، وأن كان قد انفق حياته كلها لمصر لا لحزب من الأحزاب ولا لجماعة من الجماعات. لا اكذب المصريين أن لنا في مثل هذه الأحداث والخطوب مواقف لا تشرفنا ولا تلائم ما نحب لأنفسنا من الكرامة، ولا تشجع العاملين على أن يعملوا. ومن الذي نسى موت الشاعرين العظيمين حافظ وشوقي وموقف السياسة منهما. ذهب المعارضون بحافظ، واستأثر المؤيدون بشوقي، ثم ذهب المعارضون بمختار منذ أيام، وضحى بالأدب والفن في سبيل الأهواء والشهوات، وظهر المصريون في مظهر العقوق الذي لا يليق بالشعب الكريم. لا اكذب المصريين انهم في حاجة إلى أن يرفعوا أنفسهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم عن هذه المنزلة المهينة، انهم في حاجة إلى أن يرفعوا الأدب والعلم والفن عن أعراض الحياة، وأغراض الخصومة السياسية، لان في الحياة أشياء أرقى واطهر واكرم من السياسة وخصوماتها، والأدب والعلم والفن أول هذه الأشياء.

لقد هم أصحاب حافظ أن يخلد واذكر حافظ فلم يوفقوا. وهذا حافظ يخلد ذكر نفسه - ولقد هم المستاثرون بشوقي من رجال السياسة الرسمية أن يخلدوا ذكر شوقي فلم يفلحوا. وهذا شوقي يخلد ذكر نفسه. فهل بين المصريين من يهمون بحماية آثار مختار من الضياع وبتخليد ذكر مختار، وهل هم إن فعلوا موفقون إلى ما يريدون؟ أم هل تدخل السياسة في أمر مختار فتفسده كما أفسدت أمر حافظ وشوقي؟ سؤال مؤلم، ما كان ينبغي أن يلقى، ولكن انظر جوابه لن يكون طويلا، ولعله لا يضيف ألما إلى ألم، وحزنا إلى حزن.

طه حسين

-

ص: 4

‌كاظم باشا الحسيني

بقلم احمد حسن الزيات

حنانيك يا رب أفي الساعة التي يضطرب فيها البحر ويحار المركبويبعد المرفأ، يموت الربان ويختفي القطب؟ وفي الساعة التي يستحر فيه النضال بين حق العرب وباطل اليهود، وبين إيمان فلسطين وطغيان الإنجليز، يسقط القائد ويهبط العلم؟! وفي كل يوم تتجاوب أصداء الأسى في أقطار العروبة على بطولة تؤدى، أو زعامة تخلو، أو نبوغ ينطفئ أو ألفة تفترق أو وحدة تشت؟!

لا باس بالألم يجمع شتى القلوب على الإحساس المتحد، وبالخطب يروض رخو المغامز على المقاومة الشديدة، وبالموت يبعث ضارع النفوس إلى الحياة العزييزة، اما المدامع التي تجدب المشاعر، والشدائد التي توهن العزائم، والمنايا التي تقبر الأماني، فإزراء من الشر المحض والعذاب الخالص كابدتها الأمة العربية واسفاه في مصارع سعد وفيصل وكاظم؟!

روع العرب في عيد التضحية والتلبية مصاب فلسطين في حياة نهضتها وسر وحدتها وروح ثروتها المغفور له موسى كاظم باشا الحسيني، فضجت المآذن بالنعي، وفاضت الصحف بالرثاء، واضطربت الألسن بالأسف، ونال الناس من الجزع الطبيعي ما ينالهم حين يرون الركن يميل، أو النظام ينقطع، أو الدليل يغيب؛ وتساءلوا عن مصير فلسطين المعذبة بعد شيخها الذي أخلصت جوهره السنون، أحكمت رأيه السن، وشيعت قلبة العقيدة وأعلنت صوته النزاهة وقدست شخصه التضحية، فجهل الحزبية، وأنكر الطائفية، وسل أحقاد الصدور، وأذهب تنافس الأسر، وعّبأ الأمةالمغزوّة في دار أمنها، ثم قادها زهاء خمسة عشر عاما في المفاوضات بلندن، وفي المظاهرات والمؤتمرات بفلسطين، لا يقطعه يأس، ولا يردعه وعيد، ولا يخزله طمع، ولا يقعد به عبء السنين التسعين عن قيادة الشباب إلى صراع حامٍ دامٍ بين حق اعزل وباطل مسلح!! لو كانت قضية فلسطين قضية رياسة وسيادة وغلب لكان في كل مكان سبيل إلى الخلاف ودليل إلى الفرقة، ولكنها قضية الحياة والموت: وللحياة طريق تهدي إليها الفطرة، وقافلة تدل عليها الطبيعة: فالأمر من هذه الناحية مختلف بين فلسطين وبين العراق ومصر.

ولا ريب أن المستقبل الذي يتمثل لشباب فلسطين في ابشع صوره سيذهلهم عن نعرة

ص: 6

العصبية، ويلهيهم عن شهوة الخصومة، فلا يرون إلا عدوا واحداً هو الواغل المقتحم، ولا يستمعون إلا قولا واحداً هو قول زعيمهم الخالد وهو يجود بنفسه:

(. . . قضية العرب في فلسطين أمانة في ذمتكم فجاهدوا في سبيلها، فإن فعلتم أرحتموني في قبري).

عزى اله الأمة العربية اجمل العزاء عن فقيدها الغالي، وأحيا في خواطر أبنائها النبلاء مثله العالي، وجعل رضوانه عليه ثواب ما بذل في سبيله من ماله وجهده ونفسه.

الزيات

ص: 7

‌رسالة الربيع

للأستاذ عبد الحميد العبادي

لو تمثل هذا الربيع لكان إنسانا، ولكان شابا رائع الشباب، مشرق الطلعة، حلو الشمائل، معطاء اليدين، يملأ العيون والقلوب مهابة وجمالا. أفلا يرى القارئ تصديق هذا التصوير فيما يأخذه الحس والشعور من الطبيعة في أيامنا هذه من اعتدال جو وانبعاث شمس، وإيراق شجر، وتفتح زهر، وترنم طير، وتتابع خير؟ أفلا يرى أن كل مظاهر الطبيعة قد غدت ولسان حالها يصيح بمن يمر: ألا تراني فتفهم حكمة الخلق العجيب؟ ولكن وا رحمتاه للناس! انهم عن هذه الدعوة الكريمة في شغل شاغل، (وكآي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) لقد شغلوا بالعرض عن الجوهر، وبالسفساف الحقير عن الجميل الجليل. انهم يوشكون أن تموت قلوبهم ويغول نفوسهم الصفق بالأسواق.

رحم الله أسلافنا الأقدمين وآباء الأولين. لقد كانوا اقرب منا إلى الطبيعة، وأبر بهذا الربيع واحسن استقبالاً له. فالمصريون القدماء على شدة تفكيرهم في الحياة الآخرة، لم يهملوا الأخذ بأسباب التمتع في الحياة الدنيا. كانوا كلفين بالطبيعة، وحياة الطبيعة. وهل شئ أبهج للخاطر واسر للقلب من الطبيعة وحياة الطبيعة؟ لقد فتنوا بنهرهم المتدفق الوقور فقدسوه وعبدوه، وكلفوابالزهر حتى لقد اتخذوا منه رمزاً وشعاراً لملكهم السياسي، فكانت الزنبقة رمز مملكتهم الجنوبية، وزهرة النيلوفر رمز مملكتهم الشمالية. وصاغوا تيجان الأعمدة التي تنهض بعمائرهم على مثال برعمة السدر، والنيلوفر، ورؤوس النخيل. وكانوا يحتفلون لمقدم الربيع احتفالاً بقيت لنا منه آثار نلحظها في عيدنا الطبيعي الوحيد المعروف (بشم النسيم).

وكان الفرس القدماء من اشد خلق الله حباً للزهر والماء والجو الطلق، لذلك جعلوا (النيروز) الذي هو أول الربيع اعظم أعيادهم، واسبغوا عليه هالة من التقديس والإجلال، فزعموا أن الله فرغ فيه من خلق الخلائق، وانه يقسم فيه السعادة لأهل الارض، ولذلك سموه (يوم الرجاء)، ولفرط شغفهم بالربيع كانوا إذا هجم الشتاء ألح على بلادهم المطر والبرد والثلج إعتاضوا عن مناظر الربيع الطبيعية بصور لها قد وشيت بها بسطهم

ص: 8

وسجادهم الشهيرة بحيث إذا جلسوا عليها للطرب والشراب خيل إليهم انهم في روضة معطرة من رياض الربيع. وان من يطالع الأدب الفارسي جملة يجده عبقا بعبير الورد والزنبق والبنفسج والياسمين وغيرها من فنون الرياحين، أما العرب فربيع بلادهم هو حياتها على الحقيقة دون المجاز، فإذا اقبل عرفوه بتألق البرق وجلجلة الرعد، بالغيوث الهاطلة والأودية السائلة، فإذا كان ذلك اخضرت المراعي واعشوشبت الوهاد والنجاد، ونعم بآثار ذلك كله الإنسان والحيوان. وكان ملوك بني أمية جريا على مقتضى غريزتهم البدوية إذا اقبل الربيع برزوا إلى بادية الشام فقضوا شهوره في قصور اتخذوها لذلك خاصة. ولا تزال آثار تلك القصور ماثلة إلى اليوم. فلما اختلط العرب بالفرس اخذوا عنهم عادة الاحتفال بالنيروز الفارسي. فكان عمال بني أمية على المشرق إذا اقبل النيروز جلسوا للناس جلوسا رسميا عاما يتقبلون فيه تهانئهم به وهداياهم. ولما قامت الدولة العباسية اصبح النيروز من أعياد الدولة الرسمية، وصار له شأن أي شان، بل لقد اشتقوا منه عيدا رسميا خاصا بالخلفاء وأسموه (نيروز الخليفة) يقول البيروني (انه كان يقع فيه ببغداد من رش الماء وحثو التراب والملاعب ما هو مشهور) وهذا من قبيل النوروز القبطي، الذي يتحدث عنه المقريزي في خططه، ومن قبيل ما يفعل في أعياد المرافع المشهورة في بعض بلدان أوربا لعهدنا هذا والمعروفة (بالكرنفال).

وقد افتن شعراء العرب في وصف الربيع ولنيروز وآتوا في ذلك بالبديع المطرب من الشعر ، ولا يزال ما قاله الطائيان في هذا الصدد هو المقدم والمحتذى سواء اكان ذلك من الناحية الفلسفية التي ينتحيها أبو تمام أم من الناحية الفنية التي ينتحيها البحتري.

قال أبو تمام يصف الربيع من قصيدة يمدح بها الخليفة المعتصم بالله العباسي: -

أربيعنا في تسع عشر حجة

حقا لهنك للربيع الأزهر

ما كانت الأيام تسلب بهجة

لو أن حسن الروض كان يعمر

أو ما ترى الأشياء إن هي غيرت

سمجت وحسن الأرض حين تغير

يا صاحبي تقصيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصور

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الربى فكأنما هو مقمر

دنيا معاش للورى حتى إذا

حل الربيع فإنما هي منظر

ص: 9

أضحت تصوغ بطونها لظهورها

نورا تكاد له القلوب تنور

من كل زاهرة ترقرق بالندى

فكأنها عين إليك تحدر

تبدو ويحجبها الجميم كأنها

عذراء تبدو تارة وتخفر

حتى غدت وهداتها ونجادها

فئتين في حلل الربيع تبختر

مصفرة محمرة فكأنها

عصب تيمن في الوغى وتمضر

وقال البحتري مخاطبا الوزير الفتح بن خاقان:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النيروز في غلس الدجى

أوائل ورد كن بالأمس نوما

يفتقها برد الندى فكأنه

ينث حديثا كان قبل مكتما

ومن شجر رد الربيع لباسه

عليه كما نشرت وشيا منمنما

أحل فأبدى للعيون بشاشة

وكان قذى للعين إذ كان محرما

ورق نسيم الريح حتى حسبته

يجييء بأنفاس الأحبة نعما

وبعد: فأن لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة. فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟ قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وان شئت، فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمدها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. وإلى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!

(أن الطبيعة أيها الناس هي الأول والآخر، والأصل والمال من طيباتها تبنون ابدانكم، ومن جمال منظرها وروعة سحرها نمت عواطفكم وألهمتكم فنونكم وآدابكم. ومن تصرف سنتها واختلاف مقاديرها يسرا وعسرا، أملا وباساً وعافية وبأسا ألهمتهم عقائدكم ومللكم. ومن دقة هذه السنن واطرادها استبنتم أصول شرائعكم ونظمكم، ومن الصبر لأحكامها تكونت أخلاقكم فان تكن أجسامكم قد ضويت، وعواطفكم قد خبت، وعقائدكم قد وهت، وشرائعكم قد قست، وأخلاقكم قد رثت، فما ذلكم إلا لأنكم عققتم أمكم الحنون، وجفوتم ظئركم الرءوم. فإلى الطبيعة ايها الناس، إلى الطبيعة فهي وحدها الكفيلة بإزاحة عللكم، وجبر مصابكم. وهي القادرة على أن تنشئكم نشأة أخرى، وتبعثكم خلقاُ جديداً.

ص: 10

‌الرجوع إلى الباطل خير من التمادي في الحق.

. .!

صفحة من حياة تشليني

للدكتور محمد عوض محمد

(بنفيتو تشليني من كبار رجال الفن الإيطالي في عهد النهضة، ولد في مدينة فلورنسا عام 1500 وتوفي بها عام 1571 وقد نبغ أولا في صياغة الذهب والفضة صوراً وتماثيلا غاية في الدقة والجمال. وبعد ذلك استطاع النبوغ في صناعة التماثيل من الحجر والبرونز، وقد عاش في روما وباريس حيث دعاه فرانسوا الأول ليعمل عنده، وقضى الشطر الأخير من حياته في وطنه فلورنسا، وله مؤلفات في الفنون التي مارسها، وله كتاب ضمنه مذكرات عن حياته الحافلة بالحوادث وعلى إحدى هذه الحوادث قد بنيت القصة التالية)

الرجوع إلى الباطل، خير من التماديفي الحق. . .

ذلك هو الدرس القاسي الذي ألقاه القضاء الساخر والقدر الجائر على فنان فلورنسا العظيم بنفنيتو، تشليني، في يوم بدأ ضاحكا وانتهى عابسا متجهماً. . .

ذهب الفنان إلى الحجرات الخاصة في قصر دوق فلورنسا، ليشرف على الأعمال الفنية التي كلف القيام بها: من تزويق وتنميق في الجدران والاثاث، وتحلية بالذهب والفضة، ومن نقوش بديعة وتماثيل بارزة. . . ولم يكن في فلورنسا كلها فكر ابرع، ولا يد اقدر من فكر بنفنيتو تشليني ويده، ذلك الرجل الذي لم يكفه أن نبغ في صياغة الذهب والفضة والأحجار الكريمة، فآتى في هذا الضرب من الفنون بالرائع الساحر، بل أراد أن ينافس المثالين والنحاتين في صناعة التماثيل الضخام، ينحتها من الصخر أو يصبها من البرونز. فكان له ما أراد، وبات نابغة زمانه في الصناعتين الدقيقة والجليلة.

وكان يحلو لدوق فلورنسا أن يمر به وهو يتشغل وعماله في الجناح الخاص بقصر الأمير، فيتحدث إليه عن الفن وعن رجاله وأنصاره. ويناقشه في رأي ارتآه الفنان أو خطة أراد رسمها. وكان بنفنيتو حلو النادرة، سريع البادرة، في شئ من غرور النوابغ وغطرسة الواثق بنفسه.

وفي اليوم الذي نحن في صدده، جاء الدوق فتحدث إليه قليلا، ثم عاد لينظر في بعض أمور الدولة. . . وسألت الدوقة عن تشليني، فقيل لها انه جالس وحده يشرف على الأعمال

ص: 12

التي يقوم بها في جناح الأمير الخاص، فلم تمض لحظات حتى كانت الدوقة جالسة تتحدث إلى تشليني وتطري ما قام به من أعمال الزينة في قصر الأمير، ثم أرته عقداً من اللؤلؤ يشتمل على ثمانين لؤلؤة وقالت: أيعجبك هذا العقد؟ قال انه لعقد جميل يا مولاتي! قالت فأني أريد أن يشتريه الدوق لي. فلابد لك أن تقول له ما شئت في مدحه والإشادة بذكره، وان تبالغ في إطرائه ما استطعت إلى ذلك سبيلا. كان تشليني يظن أن الدوقة قد اشترت العقد وقضى الأمر. ولهذا بادر إلى مدحه وإطرائه، أما الآن - واللآلئ لم تشتر بعد - فقد رأى واجبا عليه أن يطلعها على ما يراه فيها من عيوب، ولم يكن في فلورنسا كلها اقدر منه على نقد الجواهر واللآلئ، ولا ابصر بمواضع العيوب منها.

فقال مولاتي! حسبت العقد ملكاً لك فبادرت إلى مدحه فإما وأنت تهمين بشرائه، فإني أرى لزاما علي أن أطلعك على ما به من عيوب بينة تحط من قدر هذه اللآلئ. ومن اجلها لا أستطيع أن أنصحك بالشراء.

قالت: لقد رضي التاجر صاحب هذه البضاعة أن يبيعنا إياها بستة آلاف دينار. ولو لم تكن تلك العيوب الطفيفة التي تذكرها لما رضي بأقل من اثني عشر ألفاً.

فجعل تشليني يبذل النصح الثمين. ويقول للسيدة الكريمة أن هذه اللآلئ لو كانت خالية من كل عيب، وبالغة أقصى غاية الكمال، لما جاز لأحد أن يدفع فيها اكثر من خمسة آلاف. فأما وقد اشتملت على هذه النقائص فأنها لن تساوي نصف هذه القيمة. وفوق هذا كله، فأن اللآلئ ليست كالأحجار الكريمة نفاسة وقيمة. إنما القيم النفيس هو الماس، والياقوت، والزبرجد، والعقيق، والفيروز، هذه هي الأحجار الكريمة التي تزداد على مدى السنينرونقا وبهاء. أما اللآلئ فليست سوى قطع من محار البحر، وعظام السمك، لا تلبث أن تفقد بهجتها ورونقها بعد سنين قلائل! لكن الأميرة كانت صلبة كصلابة الماس، وقد وطنت النفس على حيازة هذا العقد. وفي رأسها عينا امرأة قد بهرهما لمعان اللؤلؤ. فأوحتا إلى قلب المرأة الذي بين جوانحها، فإذا القلب قد اشتهى ذلك العقد، واتخذ لحيازته إرادة لا تثني، ورغبة لا تقبل الجدل، ورأى تشليني انه غدا بين نارين، فأما أن يغضب الأميرة أو يخدع الدوق. . .

فقالت له: هون عليك الامر، فانا الضمينة بأن الدوق لن يمسك بسوء، بل وستنال أجرك

ص: 13

منى يوم تغدو هذه اللآلئ لي. وقد وطنت النفس على إحرازها. فاذهب بها الآن إلى الدوق. وأطنب في مدحها ما استطعت.

كان من اكبر ما يفخر به تشليني الصراحة والأمانة، ولقد طالما جنيت عليه الأولى، وأفقدته الثانية شيئاً كثيراً من المكسب والمغنم؛ ومن قبل ما جنت عليه صراحته يوم كان في بلاط فرنسوا الأول ملك فرنسا. فرأى نفسه فجأة وقد غضبت عليه مادام (ديتامب) معشوقة الملك، أصبحت له عدوا عنيدا، لا تجدي مع عدواتها صداقة أحد، حتى ولا صداقة الملك نفسه. . . فلم يلبث أن اضطر إلى مغادرة اكبر ملوك العالم أغناهم وأسخاهم. والآن أيغضب الدوقة العظيمة، دوقة فلورنسا! من اجل كلمة تريد أن يقولها، فيرتكب في فلورنسا - وطنه العزيز - ما ارتكبه في فرنسا من قبل؟ ويفقد ما ناله في قصر الدوق من حظوة ومن مقام رفيع؟

تناول العقد، ومشى به إلى الدوق - وقد عزم على أن يقول كلمات قلائل يمدح بها العقد، ولعل الدوق أن يغفر له هذه الخطيئة من اجل الأميرة. . فلما رآه الدوق قال - ما الذي جاء بك يا بنفنيتو؟ قال - عقد جميل من اللؤلؤ أردت أن انصح مولاي بشرائه فأني ما رأيت عمري ثمانين لؤلؤة كريمة قد نظمت في عقد بمثل هذا الحسن الباهر، وهذا التنسيق البديع.

قال الدوق - ما أنا بالذي يشتري لآلئ مثل هذه، فلقد رأيتها من قبل، فلم يرقني منظرها ولا حسنها. وما هي بالنادرة كما تزعم ولا النفيسة!

قال - عفواً يا مولاي! أنها وأيم الحق دررغوال، ولا أعرف أن عينا رأت عقداً منظوما كهذا العقد، حوى دررا كهذه الدرر! قال الدوق - والله يا بنفنيتو! لو إن هذه الدرر من النفاسة بحيث تذكر لما ترددت في شرائها؛ فإنني في حاجة أبداً لإحراز هذه الجواهر الثمينة، حبا في إحرازها، وإرضاء للأميرة زوجي، ولكي تكون هذه الكنوز ذخراً لأبنائنا وبناتنا، وأنا اعلم انك ابصر الناس بهذه الأمور، وأن عينك لن تخطئ في نقدها وتقديرها. كذلك اعلم انك رزقت الصراحة في القول، والأمانة في النصح، فاصدقني الخبر، ولا تخشى بأسا! هل تنصح لي حقاً بشرائها؟

أصغى تشليني إلى كلمات مولاه، فكأنما سقط عن كاهله عبء ثقيل. لقد كان يمدح تلك

ص: 14

اللآلئ بلسانه ويلعنها بقلبه. وكان يعلم وهو يطريها أن هذا المدح يذري به كفنان له رأيه السديد في تقدير الجواهر، ويذري به كرجل أتخذ الأمانة والصدق شعارا. لهذا انكشفت عنه الغمة حين سمع الدوق يناشده الصدق والصراحة، وقال: أني لأخشى يا مولاي - إن صدقتك الخبر عن هذه اللآلئ - أن يشتد علي غضب مولاتي الدوقة، وتصبح لي من ألد الخصوم، فاضطر إلى مغادرة فلورنسا - وطني المحبوب - مرة أخرى. واليوم قد تقدمت بي السن فأن مغادرة الوطن علي شئ عسير. فاستحلف مولاي أن يحميني سخطها؛ إذا لم يضمن لي رضاها! ولقد وعدتني مائتي دينار إن أنا استطعت إقناع مولاي بشراء تلك اللآلئ. وقد كان خوفي من غضبها اكبر من طمعي في جائزتها. أما الآن وقد ناشدني مولاي الصدق، فإني لا يسعني إلا أن اخلص في النصح: إن شراء هذه اللآلئ بذلك الثمن صفقة خاسرة. فإنها لا تساوي اكثر من ألفي دينار؛ فإذا كان لا بد من شرائها فلا يدفع الأمير فوق هذا القدر درهماً واحداً.

قال الدوق - كن مطمئناً! إن الدوقة لن تعلم شيئا مما قلته لي الان، ولن يمسك منها آذى. وسأذكر لك أبداً هذا الإخلاص في النصيحة!

عند ذلك دخلت الأميرة؛ وقد ظنت أن قد مضى من الزمن ما يكفي لإقناع زوجها بشراء العقد. وأن قد آن لها أن تضم صوتها إلى صوت الفنان فقالت:

- عسى أن يكون مولاي قد راقه هذا العقد النفيس فأنه قلما وقعت عين على عقد يضاهيه حسنا ورونقا، وما اشد رغبتي في اقتنائه وادخاره!

- لست ارغب في شرائه.

- لماذا يضن علي أميري الكريم بهذا العقد الثمين؟

- لأني لا أريد أن تذهب أموالي هباء.

- أيظن مولاي إن أمواله تذهب هباء، حين يقتني بها درراً غالية كهذه الدرر التي قل ان يكون لها في العالم نظير؟ كيف وان بنفينتو نفسه - الذي يضع فيه مولاي بحق كلثقته - قد رآها فبهرته وسحرته، وقال إن الأمير لو دفع في هذه اللآلئ ستة آلاف دينار لكانت صفقة رابحة.

قال الدوق: إن بنفينتو لم يقل شيئا من هذا. بل لقد ذكر لي الساعة إنها لآلئ خسيسة؟ وان

ص: 15

شراءها مضيعة للمال. انظري أنت إليها! إنها ليست مستديرة، وليست متساوية في أحجامها. وكثير منها قديم فقد الرونق الحسن. تأملي في هذه. . . وهذه. . . كلا. . أني لن ارمي بأموالي من اجل هذه السفاسف.

دهش تشليني حين سمع الدوق يخاطب زوجه بهذه الصراحة ويفشي لها سره، ولم تمض لحظات على ائتمانه عليه.

ونظرت إليه الدوقة نظرات تلتهب فيها نار الغيظ. ثم خرجت من الحجرة وهي تهز رأسها هزة الثائر المتوعد. فاستولى الرعب علىالفنان وجعلت الحجرة تدور أمام عينيه. وكاد ان يغشى عليه.

وعاد في ذلك المساء إلى داره مهموما منكس الرأس. . . وقد هم ان يعد العدة لمغادرة فلورنسا ليلتمس الرزق في غيرها من المدائن. . . ولكنه رأى أعماله التي اخذ ينشئها، وعز عليه أن يتركها لتهمل وتنسى. أو ليتناولها أعداؤه بالمسخ والتشويه. وعز عليه خاصة ذلك التمثال الضخم الذي أوشك أن يتمه، والذي يمثل فرساوس قابضاً على رأس الميدوزا - وهو يعد اليوم من أبدع مخلفات عهد النهضة - اجل، عز عليه أن يترك أعماله هذه التي يوشك أن يتمها. ويوشك أن يزداد بها صرح الفن علواً وشموخا.

لو إن هذا الحادث جرى له في شبابه لبادر إلى مغادرة المدينة في ساعته تلك، أما اليوم وقد نيف على الخمسين فقد رأى ان يتريث قليلا، لعل الدوق أن يستطيع حمايته ونصره، وان يصلح ما بينه وبين الأميرة.

وفي اليوم التالي غدا تشليني إلى قصر الدوق لعله يلقاه كسابق عادته. ولكنه لم يكد يبلغ القصر، حتى لقيه اعوان الدوقة، واضطروه لان يعود أدراجه بعد أن نال منهم شئ كثير من الإهانة والعنت. واضطر الفنان ان يلزم داره أياما لا يكاد يجرؤ على مغادرتها. ومن قبل كان الدوق يأمر حجابه بأن يفتحوا له أبواب القصر في أي وقت شاء، وألا يحولوا بينه وبين الأمير. أما اليوم فان الدوقة قد أمرت بعكس هذا. وأمرها النافذ. . .!

وزار تشليني أحد الأصدقاء، فأنبأه بان الدوق قد اشترى ذلك العقد! اجل، ولقد دفع فيه ستة آلاف من الدنانير الذهبية راضيا طائعا. . . ذلك أن الدوقة حين أعيتها الحيل. أمسكت العقد بيدها، وجثت بين يدي زوجها، وتناثرت من جفونها دررغوال كانت اكثر بهاء واشد

ص: 16

وقعاً في نفس الأمير من درر ذلك العقد! وقالت له وهي تنتحب، إنها إذا حرمت ذلك العقد فقد حرمت كل سعادة، وقد كتب عليها الشقاء والذل مدى الحياة. وسيعلم الناس جميعاً أن الأمير زوجها العزيز، وسيد أمراء إيطاليا، الذي تفتديه بروحها، قد بخل عليها بعقد من اللؤلؤ. وإنها لن تطيق الحياة متى علم الناس بما هي فيه من هوان وبلاء!. . . عند ذلك أمر الدوق - لساعته - بشراء تلك اللآلئ. . . ولم يكد يفعل حتى رقا دمع الأميرة أبرقت اساريرها، وابتسمت عن لؤلؤ آخر، كان فيه للملك خير عوض عن اللؤلؤ الذي اشتراه.

ومضى تشليني إلى القصر، وهو لا يكاد يصدق ما سمعته أذناه. فراه الدوق مقبلا، فأمر بان يؤتى به إلى حجرته. فلما مثل بين يديه، قال من غير تلطف ولا مجاملة:

ويحك يا بنفنيتو أيها الشقي! كيف بلغت بك الجرأة أن تغضب الدوقة مولاتك، التي طالما أيدتك ونصرتك؛ فجعلتي اعرض عن شراء تلك اللآلئ النفيسة! يالك من شقي لا يعرف معنى للوفاء والإخلاص! اذهب أيها التعس الآن إلى حجرة الأميرة، واجث على قدميك بين يديها. واسألها الصفح والمغفرة عن جريرتك. وارجع إلى الحق أيها الجاهل. فان الرجوع إلى الحق فضيلة. . . وعساها تصفح عنك وتعفو عن خطيئتك!

وفتح تشليني عينين ملؤهما الدهشة والحيرة

- مولاي أي حق. . .!

- لا تنبس أيها الشقي بكلمة. واذهب الساعة فافعل ما أمرتك به. ومضى تشليني مطرقاً برأسه يمشي في بطيء شديد ليلتمس من مولاته الصفح. لان الرجوع إلى الحق فضيلة. . .!؟

ص: 17

‌أزمة الديمقراطية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

هل آن لشمس الديمقراطية أن تغرب؟ هذا سؤال يطرح منذ أعوام في معرض البحث والجدل، ولكنه يغدو اليوم اشد خطورة، ويشغل جميع الأذهان والضمائر الحرة: فالنظم الديمقراطية تتحطم تباعا في أمم كانت بالأمس اشد الأمم تعلقا بالنظم والمثل الديمقراطية، والحكومات الدستورية تختفي. تباعا من الميدان لتقوم مكانها حكومات طغيان شامل، والحريات السياسية والاجتماعية القديمة تخنق وتختفي لتستأثر بها وتتصرف فيها أحزاب وجماعات سياسية جديدة تقوم مبادؤها ودعوتها على القوة القاهرة، والديمقراطية تهتز اليوم حيثما استطاعت أن تبقى وتتسرب إليها عوامل الوهن والفساد: فهل يكون ذلك إيذانا بأن صرح الديمقراطية غدا على وشك الانهيار، وان الديمقراطية تسير إلى مصرعها النهائي في المستقبل القريب؟ هذا ما يتنبأ به أصحاب النظريات والمثل الجديدة القائمة على الطغيان الشامل، والقومية المتطرفة، وإنكار النظم البرلمانية، وخضوع الفرد المطلق، والإيمان بالقوة المادية: أو بعبارة أخرى هذا ما يقوله دعاة الفاشستية والوطنية الاشتراكية الألمانية.

والحقيقة أن الديمقراطية تجوز اخطر أزمة عرفت في تاريخها. ويجب قبل كل شئ أن نعرف الديمقراطية بإيجاز، فهي في الأصل كلمة يونانية معناها (قوة الشعب)، وهي مبدأ سياسي اجتماعي يقوم على المساواة التامة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، وغايتها الجوهرية أن يشترك الشعب كله في إدارة الدولة أو بعبارة أخرى أن يحكم نفسه بنفسه: والنظم البرلمانية اظهر وسائلها لتحقيق هذه الغاية. والديمقراطية الأوربية الحديثة ترجع إلى الثورة الفرنسية. ولكنها لم تستطع ثباتا في البداية، واستمرت نحو نصف قرن تناضل في سبيل مثلها، ولم تتوطد وتزدهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، بيد إنها لم تتقدم إلا في غرب أوربا. أما في شرق أوربا ووسطها، فقد كانت الملوكيات القديمة في روسيا وتركيا والنمسا والمجر وألمانيا تطاردها وتخمد مثلها بكل ما وسعت. ثم كانت الحرب الكبرى، فانهارت الملوكيات القديمة الطاغية، وقويت المثل والمبادئ الديمقراطية، وظفرت الديمقراطية، بإقامة نظمها في الجمهوريات الجديدة الفتية في روسيا، والمانيا، والنمسا،

ص: 18

وتشيكوسلوفاكيا، وبولونيا. أما اليوم فماذا بقى لها من هذا الظفر؟ لقد كان ظفر الديمقراطية في روسيا كالبرق الخلب، وكان اسماً بلا مسمى فلم تمض اشهر قلائل حتى قام طغيان البلشفية مكان الطغيان القيصري القديم، يخمد جميع الآراء والحريات الخصمية؛ ولم تثبت الديمقراطية طويلا في بولونيا، حيث وثبت العسكرية وفرضت سلطانها على الجمهورية الجديدة، واتخذت من الحياة النيابية ستارا تملي من ورائه إرادتها. أما في ألمانيا والنمسا فقد استطال هذا الظفر أعوام طويلة؛ واستطاعت الديمقراطية أن تنشئ الجمهورية الألمانية مكان الإمبراطورية القديمة، وان توطد دعائم الحريات الديمقراطية، وان تقود مصائر الشعب الألماني خلال الأزمات والخطوب التي تعاقبت من جراء الحرب والهزيمة مدى أربعة عشر عاما، ولكنها سقطت أخيرا صرعى الاشتراكية الوطنية والطغيان الهتلري، ومهدت لمصرعها بخلافها الداخلي؛ ومنذ أسابيع فقط لقيت مصرعها في النمسا بعد أن أقامت فيها الجمهورية، وتولت حكمها وقيادتها في أعوامها الاولى، ولبثت خمسة عشر عاما قوية مرهوبة الجانب. وإما في إيطاليا التي تمتعت منذ وحدتها بالحريات الديمقراطية في ظل الملوكية الدستورية، فقد غاضت الديمقراطية عقب الحرب بضربة سريعة، وقامت فيها الفاشستية منذ اثني عشر عاما تخمد كل الحقوق والحريات القديمة، وتتحدى الديمقراطية في العالم كله، وتنوه بقواها السياسية والاجتماعية، وتسير في ميادين السياسة والاقتصاد من ظفر إلى ظفر، وتقدم القدوة والإرشاد لكل نزعة أو حركة طغيان مماثلة.

فالديمقراطية تجوز في الواقع مرحلة عصيبة ربما كانت نذير انحلالها ومصرعها النهائي. بل إنها في البلاد التي ما زالت فيها راسخة وطيدة الدعائم تتخبط في غمار من الصعاب؛ وتفسح بأخطائها وعثراتها لخصومها مجال الاتهام والانتقاص. ففي فرنسا، مهد الديمقراطية الحديثة، تشتد الحملة على النظم الديمقراطية والحياة النيابية لما كشفت عنه الفضائح المالية الأخيرة (فضائح ستافسكي) من فساد شنيع يتغلغل في صميم الحياة العامة، ويصم الحكومات الحزبية والهيئات النيابية بتهم الرشوة واختلاس أموال الشعب، ويصم القضاء والبوليس بفساد الذمة والتستر على الجناة؛ ويقول خصوم الديمقراطية من الملكيين والفاشست، إن مثل هذه الجرائم لا يمكن أن ترتكببمثل هذه الجرأة وهذا الإغراق إلا في ظل الحياة السياسية الحزبية وفي ظل نظام تكسب فيه النيابية عن الشعب بقوة المال

ص: 19

والنفوذ، وغدت فكرة الدكتاتورية من الحلول المحتملة التي تطرح اليوم في فرنسا كوسيلة لانتشالها من هذه الفوضى، وغدت هيبة الديمقراطية هدفا لأشد الحملات. وفي إنكلترا اعرق الأمم الأوربية في النظم والحريات الديمقراطية، يهمس اليوم بكلمة الدكتاتورية، وتلقى المبادئ الفاشستية قبولا من الشباب الإنكليزي، ويوجد اليوم في إنكلترا بالفعل حزب فاشستي صغير لم يحرز بعد أهمية سياسية، ولكنه يعتبر رمزاً حياً لأثر الفاشستية في إنكلترا. ولم تحرز الديمقراطية في الأعوام الأخيرة إلى جانب هذه الأزمات والخطوب أي ظفر أو تقدم حقيقي إلا في أسبانيا، حيث سقطت الملوكية القديمة، لتقوم مكانها جمهورية جديدة مشبعة بأبعد المثل والأمانيالديمقراطية: بيد ان الجمهورية الفتية ما زالت تعاني صعابا وأزمات تكاد تصدع بناءها فماذا يكون مصير الديمقراطية إزاء هذه الخطوب؟ يقول أنصار الفاشستية والطغيان أن الديمقراطية لا تستحق الحياة لأنها برهنت منذ الحرب أنها ليست أهلا لحكم الشعوب في ظروفها واتجاهاتها الجديدة، وأنها دفعت الحريات السياسية والاجتماعية إلى حدود الفوضى، وسخرت الشعوب لاهوائها؛ وان الحياة البرلمانية أصبحت مظهراً من مظاهر التمثيل النيابي، ولا تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية، وإنها تغدو في كثير من الأحيان عقبة في سبيل الأداة الحكومية تمنعها من العمل المجدي. وقد يجد أنصار الفاشستية في تاريخ الحكومات الديمقراطية ما بعد الحرب كثيراً مما يؤيد هذه التهم، ولكنهم يخلطون دائما بين المبادئ والديمقراطية وبين الصور المختلفة التي تطبق بها هذه المبادئ. فهذه المطاعن قد تلحق بعض النظم ووسائل الحكم التي تقوم على الفكرة الديمقراطية، ولكنها لا يصح ان تنسب إلى الفكرة ذاتها، وإذا كانت الأحزاب والحكومات الديمقراطية قد ارتكبت كثيراً من الأخطاء في ألمانيا وإيطاليا، وإذا كانت توصم اليوم في فرنسا بكثير من العيوب والتهم، فإنها ما زالت في إنكلترا والسويد مثلا تعمل في ظل الملوكية بقوة وبراعة وتدلل على أنها امثل طرق الحكم المستنير العادل. والفاشستية لا يمكن أن تزعم أنها بريئة من العيوب، فهي أولاً ابعد صور الحكم عن تحقيق العدالة وصون الحرية، لأنها تقوم على القوة المادية ولا تعف عن ارتكاب أشنع وسائل العنف تحقيقاًلسيادتها، ويكفي ان نسير في ذلك إلى ما ارتكبه الفاشستية الإيطالية في أعوامها الأول من الجرائم والاعتداءات المثيرة، وما استعمله من وسائل البطش والإرغام

ص: 20

قبل أن تثبت أقدامها وتفرض إرادتها على الشعب الإيطالي، ويكفي أن نستعرض ما ارتكبه الاشتراكية الوطنية الألمانية مذ ظفرت بالحكم من ضروب السفك والعنف والانتهاك والمطاردات السياسية والدينية الوضيعة، لتفرض مبادئها وإرادتها على الشعب الألماني، وهذه الوسائل الهمجية التي تلجأ إليها الفاشستية دائما في تحقيق سيادتها حيثما استطاعت أن تشق طريقها لا يمكن أن ترتفع من الوجهة المعنوية إلى مستوى المثل الرفيعة والوسائل السلمية الحرة التي تقوم عليها الديمقراطية وتعمل في ظلها. وما يلاحظ إن الفاشستية شعوراً منها بهذا الضعف المعنوي تحاول أحياناً أن تستتر وراء بعض المظاهر الديمقراطية، فنرى الفاشستية الإيطالية مثلا تحتفظ بالبرلمان حينا وتبقى على بعض صور الحياة النيابية، وتستخدم فكرة النقابات؛ ونرى الفاشستية الألمانية (الاشتراكية الوطنية) تجري الانتخابات وتتظاهر باستفتاء الشعب في الحصول على تأييد أغلبيته الساحقة لتحقق بعض أغراضها السياسية. وقد تتفوق الفاشستية على الديمقراطية أحياناً بالعمل السريع وتحقيق بعض المظاهر والغايات السياسية والاقتصادية التي عجزت الديمقراطية عن تحقيقها، كما حدث في إيطاليا مثلا حيث حققت الفاشستية الإيطالية كثيراً من الأغراض والنتائج العملية القيمة، ولكن هذا النجاح المادي يحقق في معظم الأحيان على حساب الحريات والحقوق الشعبية، وليست وسائله مما يحمد دائماً.

لقد انتصرت القوى الرجعية على الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا والنمسا: وقد تنتصر في غيرها غدا، وربما بقيت الديمقراطية أعواما أخرى تعانيالضعف والانحلال. ولكن هذه الفوضى الرجعية لا تقوم على مثل راسخة، ولا تستمد بقائها إلا من القوة المادية وهي في الغالب وليدة ظروف وعوامل مؤقتة، فمتى تطورت هذه الظروف والعوامل فقدت أسباب الحياة ،. والتاريخ يعيد اليوم نفسه في أوربا القديمة. ففي أوائل القرن الماضي، على اثر انتهاء الحروب البونابارتية، اجتمعت كلمة العروش الأوربية القوية على سحق جميع النزعات والحركات الحرة، والتمست لذلك عقد محالفة عرفت بالمحالفة المقدسة (أواخر سنة 1815) عقدت بين قياصرة روسيا وألمانيا والنمسا، واتخذت في المبدأ صبغة ميثاق للعمل على تأييد السلام، وإقامة العدل، وبث الإخاء، ولكنها نظمت وعقدت في الواقع للتعاون على إخماد الحركات الحرة التي آخذت تضطرم من غرب أوربا إلى شرقها، وتبدو

ص: 21

في مطالبات عنيفة بالحريات الدستورية. وكانت الحروب البونابارتية قد شغلت أوربا حينا عن التفكير السياسي وخبت الريح الحرةالتي إثارتها مبادئ الثورة الفرنسية، ولكن الجيوش الفرنسية الغازية كانت تحمل أينما حلت طرفا من هذه المبادئ، فلما هدأت العاصفة التي أثارها نابليون، عادت الأفكار الحرة والأماني الدستورية تشق سبيلها في معظم الأمم الأوربية، ومن ثم كان اجتماع العروش القديمة على مقاومتها وسحقها. وقد انظمت معظم الدول الأوربية إلى المعاهدة المقدسة، وطبقت غير بعيد في ألمانيا والنمسا حيث قيدت حرية الصحافة، وفرضت الرقابة الرسمية على الجامعات، ولكن هذه الجبهة القوية التي نظمها الطغيان لمقاومة الحريات الشعبية لم تغن شيئاً، ولم يمض ربع قرن آخر حتى كانت معظم الدول الأوربية تضطرم بالفورات والثورات التحريرية، وكانت القوى الرجعية ترغم بذل المنح الدستورية المختلفة. وقد استمر هذا الصراع بين الطغيان والديمقراطية طوال القرن التاسع عشر، وانتهى بظفر الحريات في معظم الأمم الأوربية.

ونحن اليوم نشهد هذا الصراع كرة أخرى. ولكنه يتخذ اليوم صورة جديدة. فالقوى الرجعية لا تستند اليوم إلى العروش والحق الالهي، ولكنها تتشح بأثواب شعبية، فالفاشستية تزعم في إيطاليا وألمانيا أنها تقوم بإرادة الشعب وتسير طبقاً لها؛ وتخشى أن تبدو مجردة في ثوبها الحقيقي؛ وهذا دليل على أنها رغم ظفرها المؤقت ما زالت تخشى قوة الديمقراطية الخفية. ونحن ما زلنا نؤمن بمستقبل الديمقراطية وقوتها. وإذا كانت الديمقراطية قد استطاعت أن تصمد طوال القرن الماضي لجميع القوى الرجعية التي هاجمتها وقاومتها مع أنها لم تكن قد استكملت يومئذ كل نموها وقوتها، فأنها اليوم قد رسخت مبادؤها ومثلها في جميع الأمم الأوربية وأقامت لها صروحا قوية شامخة، وأضحت قوام الحياة العامة في كل بلد، لا يمكن أن تستكين طويلا إلى عدوان الطغيان، ولا بد ان تنهض غير بعيد من عثرتها، وتستعيد كل قوتها وسلطانها، يوم تنفض عنها غبار هذه المفاسد الشكلية التي أسبغت ريبا على هيبتها، ويوم تنبذ ذلك الخلاف الذي فت في قواها ومكن لخصومها.

محمد عبد الله عنان

ص: 22

‌مضى عام

للآنسة سهير القلماوي

تسارعت الأيام في سيرها الآلي المنظم السريع. الأيام الطويلة المملة، والأيام القصيرة الطائرة، كلها غرقت في بحر الفناء على ألا تعود. وانقضى العام فإذا الذكرى تتهادى حتى تقف أمامي، ثم تمد يدها لتأتي بأجزائهاالمنزوية في مخيلتي تستكمل بها صورتها المؤلمة. فإذا الصورة هي هي كما كانت منذ عام، وإذا الألم لها وان خففه سلطان الزمان الذي لا يقهر، إلا انه ما زال لاذعاً مذهلا عن كل شئ سواه.

كان صباح العيد منذ عام، فاجتمع أفراد الأسرة كلهم في بيت الوالدين، اجتمع الأخوات والاخوة، والأزواج والأولاد والأخوال والأعمام، واصطفوا جميعا على مائدة الإفطار، وكلهم وجوههم مشرقة مستبشرة. وكانت هي بينهم - ومتى لم تكن بينهم ولو بجسدها - ولكنها كانت تفكر وتقدر. تضحك معهم وتبتسم لابتسامهم، ويشرق وجهها لإشراق وجوههم: ولكن نفسها كانت تتألم يائسة، وعقلها مرتبك، يقدر ويفكر، ويقرر وينثني عما قرر، ثم يعود فيقرر ثانية، فإذا القرار هو هو. وتقلب الاحتمالات والمنتظرات، تستعرض في خيالها الساعات المقبلة، وقد نظمتها حسبما ظنت ان ستكون. ماذا لو نفذت قرارها؟ ثم تعود فتنثني عنه من جديد؛ لم يرقها ما قدرت، ولكن أي مخلص غيره؟ وأخيراً، لا بد من القرار الأول، لابد منه.

لم يلاحظ عليها الحضور شيئاً، فقد كانت الحركة التي تأتيها في رواحها ومجيئها لخدمتهم - لان أمور المنزل أصبحت كلها لها بعد زواج أختها - التي كانت تساعدها كثيراً على إخفاء ما بها. وانتهى الإفطار فانتشروا في الدار، وأصوات الأطفال المرحة الصاخبة تملأ إسماعهم. وانتهزت هي الفرصة وصعدت إلى حجرتها. خافت أن تعود إلى التفكير فترتبك من جديد، ولقد سئمت الحيرة ولا بد ان تنجو منها، لقد كانت تلهب رأسها.

وصعدت وراءها أختها تناديها، ونادتها فإذا بها قادمة نحوها تصرخ وتتأوه، ووجهها اغبر قاتم، وجسمها يتلوى من الألم، ويداها على معدتها تضغطان بعصبية وتقلص، فصاحت أختها ما بك! ما بك؟ وضمتها إلى صدرها تسندها من الوقوع فوقعتا على الدرج معا. وهزتها ثانية ما بك؟ فتمتمت بصعوبة مريرة متألمة (شربت سما).

ص: 23

كلمتان هما آخر ما نطقت، كلمتان قلبتا العيد مأتما، كلمتان حولتا شابة مليئة بالحياة والنشاط إلى جثة هامدة لا تحس ولا تشعر واجتمع الأهل والصحب والخلان حول ضحية العيد، منهم من أسعفه البكاء فبكى، ومنهم من حيرته الفاجعة فذر بلسانه بأسبابها وصاح يستلهم الجثة جواباً عما حير فكره وصدع قلبه. ومنهم من وجم يستعرض في وحدته صورا تتتالى فلا تشعر ارتباطا في تتاليها ولا أثراً لمرورها في مخيلته. وأخيراً منهم من اختل توازن أعصابه وفقد القدرة على حكمها، فراح لسانه ينطق بكل ما يمر في خاطره المضطرب المحموم وفي الصباح جاءتها صديقاتها بورودهم البيضاء وكأنهم آتون لعرسها، ثم أودعوها حفرة ضيقة وعادوا جميعا وكل منهم يظن انه في حلم مروع يتلمس اليقظة منه فلا يصحو. ومتى كانت الحياة إلا رؤى تتتابع! رؤى نراها أفرادا فنختلف في حقيقتها، ورؤى نراها جماعة فنجمع على حقيقتها؟

أودعوها حفرتها، أودعوها سرى معها، ولكن متى دخل لسان الناس أفواههم؟ متى استراح لسان الناس في اشد المواقف استدعاء للاستراحة؟ هل احترموا جلال الموت؟ هل خشعوا أمام فجيعة مريرة للأسرة بأجمعها؟ كلا! لم يخلق اللسان إلا للكلام، فإذا سكت لم يحقق الغرض من خلقه، وإذا لم يحقق جزء من المخلوقات الغرض من خلقه فقد اختل نظام الكون كله!

وفي العيد تجتمع الأسرة لا على مائدة الإفطار وإنما حول قبرها في مدينة الأموات الهادئة، وهناك تناديها فلا تجيب كما كانت تفعل منذ عام، وهناك تبكيها فلا تشاركها شعورها كما شاركتها الابتسامة والفرح منذ عام، وإنما ترفرف روحها من عليائها رائحة غادية لا ترتبك ولا تضطرب، فليس لديها ما تخفيه وقد حجبها الفناء بأستاره الكثيفة المظلمة.

سهير القلماوي

ص: 24

‌التطور وروح الدين

للأستاذ محمود الشرقاوي

(إنا وجدنا الشارع قاصدا لصالح العباد. والأحكام العادية تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة. فذا كان فيه مصلحة جاز)

(الشاطئ)

لكل دين من الأديان روح تسيطر على مجموعة، وتتمشى في أصوله وفروعه. وتميز دعوته وتربط أحكامه جميعاً، وتساوق بين أجزائه وتوجه تيارها إلى غاية خاصة،

والإسلام يمتاز من جميع الأديان بأنه دين عام خالد لا دين بعده ولا رسالة. فهو لذلك قد جمع الله فيه كل ما تحتاج إليه البشرية من الأصول لجميع ظروفها وأحوالها وأزمانها وأماكنها، والحياة البشرية متغيرة سريعة التحول والانقلاب والسير في طريق التطور من حال إلى حال ومن قديم إلى جديد، وبالأخص في عصرنا هذا الذي تضاعفت فيه سير الحضارة، واختلطت الشعوب والأفكار واستولى على الإنسانية كلها ما يشبه الحمى في سرعة التحول والانتقال

فهل روح الإسلام وغايته العليا تعارض سير الحضارة وتقدم العالم؟ وتلزم البشرية بالوقوف عند حال واحد لا تتعداها إلا إذا تركت الدين واستعاضت عنه بأشياء مدنية لابد منها لاستكمال الحياة البشرية واطراد السير فيها والتطور من حال إلى حال؟ أم أنافأجيب بان الإسلام لا يتعارض بتاتاً مع سير البشرية وتحولها. وانه دين لين واسع الافق، نستطيع ان نوفق بين روحه وبين كل مظهر من مظاهر الحضارة، وان تجد في نصوصه ما يساير الأطوار المختلفة التي تتخطاها البشرية في عصورها المتباينة، وهذا ما أريد أن اكتب عنه في هذا الفصل،

ويجب أن نلتفت إلى الفرق بين (روح) الدين وغايته. وبين أحكامه الفرعية وتطبيقها، والفرق بين الدين كشعور وعقيدة وإيمان، والدين كتقاليد وأشخاص دينيين ومظاهر كنسية للحكم والسيطرة. فروح الدين وجوهره هو الشيء الخالد الباقي الذي لا يتعارض مع أي عصر. والذي تجد فيه كل حضارة وكل أمة في كل زمان ما يتفق مع احتياجاتها ويعينها ويسددها في سبيل الغاية العليا والكمال البشري الذي تسير إليه، روح الدين وجوهره هو

ص: 25

الشيء لذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وعلى هذا الفهم نستطيع ان نجد في نصوص الدين الإسلامي وفي تاريخه أشياء تؤكد لنا انه دين يستطع أهله أن يجدوا فيه كل ما يتفق مع مظاهر الحضارة التي تغمرهم وتجذبهم إليها وتستولي عليهم وعلى جميع الدنيا طوعاً أو كرهاً.

وهذه أشياء اذكرها تؤيد ما أقول وتفصح عما أريد:

هذه المسايرة للزمن، وتطبق الأحكام على ملائمات الأحوال والظروف واختلافاتها. مع المحافظة على جوهر النصوص وروح الدين. نجدها عند شخصيات في قلوبها بصيرة للوقوف على مراميها أدراك الغاية منها وعدم التقيد بحرفيتها، ونجدها في بيئة تختلف عن البيئة التي عرفنا فهمها لهذه النصوص ودرسنا ما قالته فيها وما استرشدت فيه بحاجاتها العقلية والمدنية ومميزاتها الجغرافية والتاريخية.

فمثلا إذا كنا في عصر هين لين نحتاج فيه إلى زيادة الإنجاب والنسل، نجد روح الإسلام ما يشجعنا على التكاثر والتناسل والنماء. وان كنا في عصر عسير محرج ضيق نحتاج فيه القصد في الإنجاب والالتفات فيه إلى الكيفية لا إلى الكمية. فنجد من روح الإسلام ما يجعلنا نخفف من نسلنا ونتقلل على ما نريد. بل نمتنع منه إذ نريد نجد صحابيا جليلا وحاكما قادرا يبيح لنا التقليل من النسل. بل يوشك أن ينهانا عن العيال:(يا معشر الناس: إياكم وخلالا أربعة، فأنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة، إياكم (وكثرة العيال) وإخفاض الحال. . . الخ).

وإذا كنا في عصر يتشدد أهله في علاقاتهم الزوجية ولا يمتهنون رباط الأسرة، ويعرفون ان ابغض الحلال إلى الله الطلاق، فنحن نستطيع ان نجد في أحكام الإمام والخليفة عمر بن الخطاب ما يجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا، وإذا كنا في عصر مثل عصرنا الحاضر وهنت فيه العلاقات الزوجية واضطرب رباطها وأصبحت ألفاظ الطلاق على كل لسان، فنحن نستطيع ان نجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، ونجد في نصوص الإسلام ما يتيح لنا ذلك كما وجدنا ما أباح لنا الأول: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو

ص: 26

أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم) وهذا ما فعلناه نحن في مصر،

وإذا كنا في إقليم وفي مجتمع يلزمنا عمرة خاصة للرأس. وكان غيرنا من المسلمين في إقليم أو مجتمع يلزمهم عمرة للرأس خاصة غير عمرتنا، أو يجعلهم يسيرون حاسرين، تجد من روح الإسلام ما يجعلنا نلبس ما نشاء. ويجدون هم من روح الإسلام ما يجعلهم يلبسون ما شاءوا أو يحسرون كما يشاءون:(كل ما شئت واشرب ما شئت ما اخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة)

الإمام الشاطئ من اعلم الرجال في أصول الدين. ومن أبرعهم وأوسعهم ذهنا في تطبيق النصوص الدينية والموازنة بينها وبين الأحوال. وله كلام يجب على كل رجل من رجال الدين ان يتدبره ويعتبره، لما يدل عليه من فهم جيد لروح الإسلام ومسايرته لكل عصر وكل حضارة. وطواعية أحكامه ونصوصه لان توافق كل حضارة وكل جيل.

يقول الشاطئ: (. . . والسكوت عنه من الشارع لا يقتضي مخالفة. ولا يفهم الشارع قصداً دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح. فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه أعمالا للمصالحالمرسلة. وما وجدنا فيه مفسدة تركناه أعمالا للمصالح أيضاً. وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحثات أعمالا للمصالح المرسلة أيضاً).

ويقول (إن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات. واكثر ما علل فيها بالمناسب الذي ان عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك ان الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص).

وللشاطئ أشياء في غاية الجمال والإبداع من هذا الفهم الواسع المحيط. وهذه النظرة الشاملة النافذة إلى جوهر الدين وحقيقته الواعية لروحه الكلي الشامل، على رأس هذا الفصل فقرة هي الدستور الذي يجب ان يستوحيه كل مفكر ديني.

يقول الشاطئ أيضاً: (قد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها. . . والمتبدلة منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس. مثل كشف الرأس فانه يختلف بحسب البقاع في الواقع. فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية. وغير قبيح في البلاد المغربية. فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح، واعلم بان ما جرى ذكره هنا من

ص: 27

اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في اصل الخطاب. لان الشرع موضوع على انه دائم أبدى لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية).

ويقول سيدنا عمر بن الخطاب عن الرمل في الحج: (فيم الرملان ألان والكشف عن المناكب، وقد اظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله. . .؟).

وسرق جماعة لحاطب بن أبى بلتعة ناقة لرجل من مزينة. فلما أرسلوا إلى عمر بن الخطاب اقروا على سرقتها، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم. ثم ردهم وقال:(انهم يجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، ولم يقطع أيديهم).

ولما جاءت المجاعة والقحط في سنة 18 هـ أيام خلافة عمر بن الخطاب لم يقطع أيدي السارقين.

نحن نستطيع ان نسير مع كل حضارة. وان نأخذ عن حضارة الغرب ما يفيدنا وينعشنا ويلقح حياتنا باللقاح المجدد، ولا نجد في روحالإسلام ما يصدنا عن ذلك.

ولكن المشكل هو في وجود الرجال الذين يفهمون روح الدين بالعقل اليقظ الواسع الحر العارف حاجات العصر وتيارات الحضارة والذهن البشري.

محمود الشرقاوي عالم من الأزهر

ص: 28

‌الإسماعيلية الملقبون بالحشاشين

مقدمة

هذا بحث موجز لطائفة الإسماعيلية التي عرفت أخيرا عند أهل التاريخ بطائفة الحشاشين، والتي تركت في تاريخ الإسلام في القرن الرابع الهجري أثرا كبيراً، وتاريخ الإسماعيلية قديم يرجع إلى عام ثمانمائة وأربعين للميلاد، بعد ان أنتشر الدين الإسلامي وساد كثيراً من الأقاليم والبلاد، فقام بانتشاره دعاة في أقاصي الجهات وأدانيها يحاولون الحط من قدر الرسول، ويخترعون الأحاديث الملفقة اختراعا يقلل من هيبة الدين الإسلامي، وينزل به من مستواه الرفيع، وكان انشط أولئك القوم وأكثرهم تحمسا (ابن ديصان) ويقال انه الجد الأعلى لعبد الله المهدي الفاطمي صاحب الدعوة بأفريقية، فقد كان يكره بني العباس ويود لخلافتهم الزوال، فبث دعاته في بلا د الفرس حوالي عام840 م حيث تبعه خلق كثير، وألف كتابا في الزندقة سماه (الميزان) وألف ممن تبعوه عصابة سرية نسبتنفسها إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فسميت بالإسماعيلية، ثم انتشر اتباعه بمرور الزمن في جزيرة العرب والشام وأفريقية، وظلوا نحو قرنين ونصف قرن، تسري تعاليمهم في جسم الدولة الإسلامية كسريان السم في العروق، حتى جعل منهم الحسن (ابن الصباح) أخيراً عام تسعين وألف للميلاد طغمة سياسة تقلب الممالك وتخرب العامر من الديار، وتسفك الحرام من الدم، وتعمل في مختلف البلدان سلبا ونهباً وقتلاً، وتدمن تعاطي الحشيش حتى لقبوهم بالحشاشين وسماهم الفرنجة وأطلقوا هذا الاسم على كل قاتل سفاك، وبقوا على تلك الحال حتى قضي عليهم عام 1256م، أي سنة 654 هـ بوفاة خليفة الحسن ابن الصباح الأخير ركن الدين بن محمد، ولا يزال للإسماعيلية إلى يومنا هذا اتباع ومريدون، ولكن شتان بين مالهم الآن وما كان لهم في تلك القرون الغابرة من قوة وسلطان، وهم متفرقون في فارس والهند، وزعيمهم آغا خان الهندي الثري المعروف.

وقد كان لتلك الطائفة عدا اسم الإسماعيلية أسماء أخرى فسموا بالقرامطة نسبة إلى قرمط إحدى قرى البحرين التي تفشى فيها مذهب ابن ديصان في القرن الثالث الهجري بدعوة من رجل يقال له حمدان قرمط، يقول ابن خلدون (وكان من هؤلاء الإسماعيلية القرامطة واستقرت لهم دولة بالبحرين، وكان من أسمائهم (الباطنية) وذلك لأنهم كانوا يبطنون

ص: 29

دعوتهم وينشرونها متكتمين في عهد المستضيئ العلوي لابنه نزار، وقيل إنما سموا بذلك أيام الحاكم بأمر الله العبيدي الذي انشأ في القاهرة في القرن الثالث الهجري مدرسة سماها دار الحكمة كان الطلاب يعلمون فيها معنى مكتوما لمتن القرآن، وسواء أكان السبب هذا أم ذاك، فالتسمية راجعة إلى تكتم القوم في دعواهم وتعاليمهم. وكان من أسمائهم أيضاً اسم الحشاشين، وقد لقبوا به اخيراً، واطلق على طائفتهم التي عاشت أيام الصليبين. وسنذكر فيما بعد اثر ذلك المخدر عندهم، وكيف استغلوا فعله في قضاء مآربهم. وسموا كذلك بالفدائية لأنهم كانوا يجعلون انفسهم، وخاصة في عهدهم الأخير، فداء لرئيسهم ينفذون أوامره ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس في سبيله. والمصادر الشرقية تطلق عليهم غالبا اسم الإسماعيلية والملاحدة والنزارية. وهذه الأسماء الكثيرة هي لطائفة واحدة تعددت باختلاف الملابسات والظروف. فهم إسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر، وهم فدائية لأنهم يضحون بأنفسهم فداء لرئيسهم، وهم ملاحدة لأنهم عند البعض ينكرون الإله، وهم قرامطة نسبة إلى قرمط وهكذا. . غير ان اسم الحشاشين هو الذي عرفوا به آخر أمرهم.

مذهب الإسماعيلية

كان للسريان الفضل في نشر الفلسفة اليونانية، وخاصة مذهب الأفلاطونية الحديثة في العراق وما حوله، وقد ترجموا الكتب من اليونانية إلى السريانية فانتشرت فيما بين النهرين، وكان من اشهر رجال الدين والأدب من السريان الذين عرفهم المسلمون برديصان أو ابن ديصان، وقد توفي سنة 222م وله مذهب ديني يجمع بين اليونانية والنصرانية ينكر فيهبعث الأجسام ويقول إن جسد المسيح لم يكن جسما حقيقيا بل هو صورة شبهت للناس أرسلها الله تعالى. وله تعاليم أخرى بقيت بعد الإسلام. ومنها استمد الرافضة بعض أقوالهم. وقد انتسب إليه بعضهم كأبي شاكر الديصاني الذي بعث دعاته في بلاد الفرس والعرب والشام وجمع حوله اتباعا وأنصارا نسبوا أنفسهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فسموا بالإسماعيلية وهم غلاة الرافضة. يقول ابن خلدون (افترق الرافضة فرقتين: الاثنا عشرية والإسماعيلية، تلك بعض تعاليمهم أول أمرهم وقد انقلبوا أخيرا إلى فرقة سياسية تعمل على هدم الخلافة العباسية، ولم يعد لهم (مذهب) بالمعنى الصحيح يدعون إليه، وكانوا في العراق يطلق عليهم اسم القرامطة حتى تولى زعامتهم الحسن بن الصباح فلقبوا بعده

ص: 30

بالحشاشين، ونحن نجمل تاريخهم قبل زعامته التي بدأت عام 483 هـ وانتهت عام 518 هـ.

بدء القرامطة:

كان لبدء ظهورهم في البحرين على يد رجل يعرف بيحيى بن المهدي نزل في قطيف على رجل يدعى علي بن المعلي بن حمدان مولى الزيادين، وكان يغالي في التشيع، فاظهر له يحيى انه رسول المهدي، وكان ذلك سنة 281 هـ؛ وذكر انه خرج إلى شيعته يدعوهم إلى أمره وان ظهور المهدي قريب، فأرسل علي بن المعلي إلى شيعته من أهل القطيف فأقرأهم كتاب يحيى الذي زعم انه من المهدي فأجابوه، وكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنابي الذي تولى الزعامة فيما بعد وخلفه فيها ابن الصباح، وظل يحيى يغيب عنهم ثم يعود إليهم، وفي كل مرة يطلب منهم المال زاعما انه يذهب به إلى المهدي. وفي عام 289 ظهر بالشام رجل قرمطي اسمه ذكرويه بن نهرويه يدعو إلى مذهب القرامطة، ولقبه اتباعه بالشيخ، وزعم انه من أحفاد إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستفحل أمره فسير إليه المعتضد جندا ظفروا باتباعه واسروا رئيسهم أبا الفوارس. وهنا نذكر ما دار بين أبي الفوارس والمعتضد حين جاءوا إليه به لنتبين شدة القوم وجرأتهم على خلفاء العباسيين، يقول ابن الأثير (فأحضره (المعتضد) بين يديه وقال له اخبرني، هل تزعمون إن روح الله وأرواح الأنبياء تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل؟ فقال له يا هذا إن حلت روح الله فينا فما يضرك، وان حلت روح إبليس فما ينفعك، فلا تسأل عما لا ينفعك وسل عما يخصك، فقال له وما تقول فيما يخصني؟ قال أقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوكم العباس حي، فهل طلب بالخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك؟ ثم مات أبو بكر فأستخلف عمر وهو يرى موضع العباس ولم يوص له، ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة انفس ولم يوص له ولا ادخله فيهم، فماذا تستحقون الخلافة وقد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها. فأمر به المعتضد فعذب وخلعت عظامه ثم قطعت يداه ورجلاه) فهذا الكلام وتلك اللهجة التي يخاطب بها أحد زعماء القرامطة خليفة المسلمين تدل دلالة واضحة على استبسال القوم وجرأتهم في الإفصاح عن آرائهم ومذهبهم، وقد ظل القرامطة بعد المعتضد في حروب مع

ص: 31

المكتفي ومن بعده من الخلفاء طوال القرنين الثالث والرابع إلى قبيل منتصف القرن الخامس يهزمون ويهزمون، حتى دوخوا الدولة وشقيت بهم الناس، وعانت الدولة العباسية في سبيل قمع حركتهم جهدا كبيراً، وشغلوا بحركاتهم الهجومية جانبا عظيما من وقت الخلفاء فحشدوا لهم الجيوش يقاومون دعوتهم الجريئة وخروجهم عليه، وكثيرا ما انهزمت جيوش الخلفاء أمام جيوشهم واستماتتهم في الدفاع، وكم من غنائم ظفروا بها وأرواح أودوا بأصحابها، وكم من أسرى قتلوهم وصفدوهم بالأغلال. واظهر ما في تاريخهم في تلك السنوات العديدة أعمالهم الوحشية واتخاذهم القتل والتعذيب وسيلة إلى دعوتهم ونشر مذهبهم، وأشنع من ذلك اعتداؤهم على قاصدي بيت الله يقتلونهم ويسلبونهم أموالهم وينشرون الرعب في القلوب حتى قل زائرو الكعبة وانقطعوا عن الحج في بعض السنين، وقد سودوا صحيفتهم بالاعتداء على الحجر الأسود ونقله إلى أحد حصونهم حيث بقي فيه نحو اثنتين وعشرين سنة.

هذه الفئة التي أجملنا تاريخها إلى عام 436 وفيه أوقع صاحب ما وراء النهر بجموعهم وكتب إلى سائر البلاد بقتل من فيها منهم والذي أسرفنا في إجماله حتى لا يمل القارئ من تفصيل الحروب وكثرة المواقع، هذه الفئة هي التي ازدادت شوكتها قوة وأمرها خطرا وسدرت في أعمال القتل والنهب وأمعنت في تعاطي الحشيش واستمرت خداع الناس وفتنتهم عن دينهم، وذلك بظهور الحسن ابن الصباح وتوليه زعامتها عام 483 هـ فجعل منها عصابة سياسية مجرمة ديدنها أن تعيث في الأرض فسادا تقتل وتنهب وتقلق الوادعين. تلك هي طائفة الحشاشين في نهاية القرن الخامس الهجري وقبل أن نشرح أعمالها نتكلم عن زعيمها هذا وكيف وصل إلى زعامة القوم فهوى بهم إلى الحضيض الأسفل من الأخلاق والسلوك.

محمد قدري لطفي ليسانسيه في الأدب

ص: 32

‌2 - تولستوي

اجتماعياته

- 3 -

لن يحقق هذا الحلم مؤتمرات تعقد ومعاهدات تمضى أو نظم تعدل

وقوانين تفرض.

وان مؤتمرا يجتمع ويتلوه مؤتمرات أخرى لا تحل مشاكل العالم. وان سكنت ألم الإنسان إلى حين، والمعاهدات قصاصات ورق لا تغير شيئا ولا تدفع مضرة، ولا يخفف من البؤس الواقع حزب اشتراكي يتولى أو حزب محافظ يتحكم. فليس معنى ذلك إلا إن طبقة حلت محل أخرى. وأفراداً استبدل بهم أفراد. وليس معناه إلا أن يبقى النظام الحالي بضرائبه المرهقة وحواجزه الجمركية المشتطة وميزانيته العجيبة ينفق ثلاثة أرباعها على أعداد الجيوش وتجهيز الحروب.

إن الإصلاحات التي تفكر فيها الجماعات الحديثة من تحديد ساعات العمل أو تنظيم علاقات المالك والأجير على ما فيها من الفائدة لا تجتث الشر من أساسه. فكيف الطريق إذن؟

أثورة دموية لا تبقي ولا تذر؟ تراق فيها دماء الطبقة الحاكمة ويزهق فيها أرواح الأغنياء؟

ولكن تولستوي كان آخر من يدعو إلى العنف وآخر من يفكر في مقابلة الشر بالشر. إن التعاون لا يمكن أن يقوم على سفك الأرواح. والرخاء من المستحيل أن يعتمد على أسنة الحراب. وما كانت الإنسانية التي بشر بها تولستوي ليكون الطريق إليها مغطى بالدماء حافلاً بانين المجروحين وجثث القتلى.

لقد قامت الثورة الفرنسية باسم اشرف المبادئ الإنسانية وعلى أكتاف اشد الناس حماسة وإخلاصا. وحسب الناس إن نوراً جديداً قد اشرق يلوح بالسلام المنشود والهناء الدائم. ولكن الثورة الفرنسية لم تنجح كثيرا. ولم تفعل رغم الادعاءات العريضة التي بشرت بها إلا أن تحل طبقة محل طبقة أخرى وتستبدل اسما باسم وملكية بجمهورية.

وفشلها راجع إلى إنها قامت على العنف وإراقة الدماء. إن الشر لا يجب أن يقابل بالشر،

ص: 33

وإن اكبر ما يعاب على المجتمع الحالي اعتقاده إن الثورة الدموية هي الطريق للخلاص، وان الحرب شر لابد منه. وان القتال قانون طبيعي لولاه لازدحم العالم بالسكان ولما وجدوا قوتا يكفيهم. وليس اسخف من هذا الزعم زعم. فان اشد ما يعتز به الفرد هو حياته، واقدس واجب لديه هو المحافظة على هذه الحياة والعمل على إبقائها. واكبر أمنية للإنسان هو الخلود أو العيش إلى أطول العمر، فتناقض إذن إن تزعم أن قانون الحياة هو الموت أو إن من الضروري أن يقتل الأخ أخاه.

لقد دعا تولستوي إلى السلام والأخاء الإنساني. وأهاب بالإنسانية القضاء على التسلح والمقاومة.

وقد يبدو إن هذا أمر ثانوي لا علاقة له بإصلاح العالم. ولكن ليعتقد الأفراد جميعا أن الشر هو في الحروب. وان بؤس الإنسانية راجع إلى العنف والاستبداد، وليؤمنوا بالسلام وضرورته، وستسقط بطبيعتها جميع النظم القائمة. فلن تقوم حكومة من الحكومات إلا إذا استندت إلى إرادة الشعوب، ولن يوضع قانون إلا إذا رغب فيه الأفراد. ولن تسير دفة العمل من الأعمال إلا إذا كان قائما على التعاون والاشتراك. ولن تجد نزاعا بين دولة وأخرى إلا ويفض في بضعة أيام عن طريق التحكيم. فتولستوي يرى من العبث التفكير في كيف تكون الحكومة. أو على أي أساس تشرع القوانين. إذ الحكومة لديه ليست إلا مجموعة أفراد والقوانين ليست إلا من وضع بضعة أفراد. والدولة لا معنى لها إلا بمجموع أفرادها!

ففي إصلاح افرد وحده. وفي الارتفاع بعقليته والسمو بنفسيته أساس المدنية المستقبلة. ماذايجدي أن تصلح من شان حكومة، إذا كان القائمون بها هم هم لم تتغير نفوسهم.

لن يجدي هذا نفعا. ولكن يكفي أن يعتقد كل فرد بوحشية الحروب في سبيل قطعة ارض أو من اجل شهرة وطنية كاذبة. ويكفي أن يمسي هذا الاعتقاد عملا حتى يشرق الصباح عن اختفاء اله الحرب من الأرض

ويمكن - إذا آمن الناس بضرر الفروق الاجتماعية بين الطبقات وما يساعد على إبقاء هذه الفروق من قانون الوراثة ونظام الملكية - أن تختفي الملكية فجأة وتحل المساواة بين البشر.

ص: 34

ولا شك انه لو أيقن كل إنسان أن سعادته في خدمة اكبر مجموعة إنسانية يستطيع خدمتها لانهارت من أساسها ما نسميها الوطنية التي تراق من اجلها الدماء وتزهق تحت علمها ملايين الأرواح. ويجر باسمها الخراب والدمار والارتباكات المالية الاقتصادية.

فلتقم الشعوب. لا بل لتقم طائفة منها تعلن أن كفاهم رياء وخداع، وانهم لن يخضعوا إلا لما توحيه إليهم ضمائرهم، ولن يعملوا إلا ما تحتم عليه مبادئهم. فلا يذهبون إلى قتال يعتقدونه شرا ولا ينفذون قانون لا يرون فيه خيرا. ولا يدفعون ضريبة لا معنى لها. ولاشك أن كل مساوئ العهد الحالي تصبح في خبر كان.

إن للرأي العام قوة عظيمة تسير الحكومات والدول. فإذا ما أراد الرأي العام شيئا فهو واصل إلى ما يريد. والرأي العام ساخط متذمر من النظام الحالي وهو يريد أن يعمل شيئا، ولكن لا يعرف ما يريد ولا يدري ماذا يعمل.

قد تسأل: ومن له الشجاعة ليقوم بهذه الدعوى ومن له الاستعداد لما قد تجره عليه من اضطهاد وسجن وتشريد؟

ولكن تولستوي يعجب: لماذا تنتظر الإنسانية منقذاً من السماء أو مسيحاً يهبط إلى الأرض.

إن نفسية الجماعات الحاليةلا تحتاج إلا إلى بضعة أفراد بل فرد جريء يرشدها إلى طريق العمل حتى تقوم قومة رجل واحد.

- 4 -

إن صلاح نفوس الأفراد وتربيتهم من اخطر ما يدعو إليه تولستوي، وهذه التربية أما أن تتناول الصغار أو الكبار. فهي للكبار بث العقيد الإنسانية فيهم وإقناعهم أن لا فائدة تعود عليهم من حرب ضروس، والإهابة بهم إلى نبذ العنف وإحلال الوئام والصفاء.

وأما تربية الصغار فهي اجل واعظم شانا.

ولقد سدد تولستوي إلى التربية الحديثة سهاما مسمومة. وكال لها تهما شنيعة، وليس يعنيه من أمر المدرسة علوم تحشى بها أذهان الطلبة المساكين ولكن يعنيه روح التربية.

فالتربية الحديثة تساعد أحط الغرائز على الظهور والنمو، فهي تبث التنافس والغيرة والحقد في نفوس الأطفال وتشبعهم بفكرة العقاب والثواب، وتلقى في روع الطفل الأنانية وحب الفوز على أكتاف إخوانه من التلاميذ. فهو يهنأ على تقدمه عليهم، ويكافأ إذا بذهم وفاقهم.

ص: 35

وهي فوق ذلك تربية عسكرية تهمل شخصيات الأطفال إهمالا وتزعم أنها مستطيعة أن تشكل عقليات متغايرة تشكيلا واحدا. وهي مضطرة في سبيل هذا ان تخضعهم لنظام معين وتجبرهم بالقوة على التزام حركات خاصة والجلوس في غرف ضيقة مما ينفر الطفل من المدرسة والمدرسين، ومما يكبت فيه ميوله الطبيعية ومواهبه.

إن الطفل له شخصية قائمة، وليس يتاح لأي مدرس أن يفهمه على حدة فيعرف ما يلائمه وما لا يلائمه. والمدرسة الوحيدة التي يمكن ان ينال فيها الطفل تربية صحيحة هي البيت.

نعم هي منزله. حيث يجد الحنو والشفقة الأبوية. وهي مسكنه حيث تراعي ميوله وحيث يفهمونه فهما حقا. وبذا يرفع تولستوي من شأن التربية المنزلية ويجعلها في المكانة الأولى. وقد جره هذا، إلى البحث عما إذا كان البيت والعائلة الحالية يصلحان مكانا لتربية الأطفال.

وجوابه أن لا.

فنظام الزواج الحالي نظام عتيق فاسد، والعلاقات العائلية اليوم كبقية العلاقات لا تستند إلا على الرياء والعنف. فالمال يتحكم تحكما في العلاقات الزوجية. والرجل الغني هو كل شئ في الزواج الحديث. مهشما كان أو مريضا، ضعيفا أو منحطا. فهو يرحب به لانه ذو مال، ولأنه اقدر من غيره على الأنفاق. والفتاة الحديثة لا تكاد تفهم مهمتها التي خلقت من اجلها والزوجات يرون فالالتصاق بالبيت عارا أو تأخرا. بل يحسبن في الأطفال عبئا لا يتفق والسهرة ومحال الرقص. ولا ينسجم والرقة والأناقة. ومن هنا دعا تولستوي إلى هدم نظام الزواج هدما يتناول الأساس فالأم كما يرى تولستوي يجب ان تختار لابنتها زوجا قوي الجسم ممتلئ الصحة محبا للعمل ناسية مكانته الاجتماعيةغير ناظرة إلى جيبه انتفخ بالأوراق المالية إن لم ينتفخ.

والزوجة يجب ان تؤمن بأن عظمتها في المنزل، وفي إنشاء طفلها الذي قد يتحكم يوما في مصير العالم. وهي إذا كانت قد تلقت أرقى العلوم فلكي تحسن إدارة بيتها. وهي ان درست ووفقت في الدرس فلكي تجيد تربية طفلها. فالمرأة في يدها مستقبل هذا العالم.

ولكن أي أمرأة؟ ليست هي هذه المرأة المستهترة، ليست هي سيدة الصالونات. ولكن ربة البيت والأم الرحيمة تنشئ أطفالها على حب السلام وحب الآخرين. وتربي فيهم كراهية الشر ومقت العنف.

ص: 36

لقد نادى تولستوي بكل هذا في إخلاص وإيمان وبعد تفكير طويل وتدبر ليس بالقليل، وقد توافق دعوته وقد لا توافق. وقد تحسبها الحكمة بعينها أو خيالا متطرفا. ولكن لا يسعك إلا أن تعجب بالرجل أو تعجب باخلاصه، وان تجد أيضاً في دعوته الحق أو بعض الحق.

ولعلك تشتاق بعد هذا إلى معرفة شئ عن حياة تولستوي أو فهم الظروف التي أحاطت به فخلقت منه رسول السلام والإنسانية على الأرض. هذا ما قد نكتب فيه مرة أخرى.

شهدي عطية الشافعي بكالوريوس آداب

ص: 37

‌من طرائف الشعر

الربيع الباكر

للأستاذ محمود الخفيف

قادني الشوق إلى واد مريع

أسفرت فيه بواكير الربيع

وانجلى آذار بسام الضحى

كابتسام الزهر في زهو وديع

ألبس الزهر أكاليل الندى

ودعا الطير فلبى منشدا

وترى الأغصان مالت طربا

وانثنى الجدول تيها وبدا

ضاحك الصفحة مطلول الأديم

مجتلى للعين منظور البطاح

باسم الضفة عن وشى الصباح

سالت الألوان في قيعانه

وارتدت آكامه أبهى وشاح

وسرت في وجوه ريح الصبا

تنشر المكنون من سر الربا

تملأ الكون حديثا عطرا

كحديث النفس في زهو الصبا

أو كصافي الشعر يرويه النديم

يتبدى الكون موفور الرواء

رفرفٌ خُضْر ووشى ونماء

وصفاء شاع في أركانه

عرف القلب به معنى الصفاء

وفضاء تنعم النفس به

يذَهْل المعجب عن إعجابه

يقف الشاعر في أحضانه

موقف الصوفي في محرابه

غارق الأحلام في فيض النعيم

فطن القلب إلى معنى الحياة

في مجاليه وإشراق ضحاه

ثم في بعث كساه حسنه

أينما دُرت بعينيك تراه

ومراح جال فيه طالما

علق القلب به مستسلما

غرقت عيناي في لجته

فكأني فيه اروي حلما

عن ربا الخلد ومرآها الوسيم

هذه الزهرة في نضرتها

تحسر الألحاظ في وجنتها

خلص الحسن لها فابتسمت

بسمة الحسناء في خلوتها

ص: 38

تعشق الكون وتهوى نوره

أو لم توح إليه سِحرَهُ؟

فتجلى حسنه في حسنها

وحبته من شذاها نشرَه

فلريَّا نفحه عنها نميم

منظر الطير على أفنانها

يملأ السمع صدى ألحانها

نسيت نفسي به أتراحها

وتمشي البرء في وجدانها

وخرير الماء في ظل الشجر

كغناء العود في ليل السمر

نغمات كأحاديث الهوى

أو أغاني الصيف في ضوء القمر

تَدْرأ السقم عن القلب السقيم

يا فراشاً رفّ في جنب الغدير

دائم الوثوب على العشب النضير

هجت أشواقي إلى عهد مضى

أين منى عيشه الحلو الغرير؟

حينما كنت صبيا لاهيا

لن تراني ذات يوم وانيا

عن طِلاب اللهو في ظل النخيل

أعشق الريف ضحوكا حاليا

مشرق الضحوة خفاق النسيم

يا ربيعا أشرقت ألوانه

وتعالت في الضحى ألحانه

يا زمانا راقت الدنيا به

وسرى في جوها ريحانه

ايه يا عهد الصبا المقتبل

أنت رمز الحب، روح الأمل

رفل الدهر به في نعمة

وتحلى الكون بعد العَطل

بنثير من حلاوه ونظيم

شاعر يتلو الورى آياته

يُستنزل الإلهام من ساحاته

عبقري دق في تصويره

وسمى بالشعر عن غاياته

شعره يا حسنه في فيضه

في سماء الكون أو في أرضه

قد وعاه القلب ألحانا على

سرحة فينانة في روضه

ملكته فهي منه في الصميم

هي دنيا من ربيع زاهر

وضحى ضاف ونشر عاطر

ملأت قلبي وعيني بهجة

سوف يبقى وحيها في خاطري

ص: 39

سوف يبقى حسن هاتيك الرؤى

حلما يذهب عن قلبي الأسى

كلما مثلته في خاطري

نسى القلب به حر الجوى

فهو من ذكراه في ظل عميم

ص: 40

‌آذار أغنية الربيع

(مهداة إلى سر شوقي)

لشاعر الشباب السوري أنور العطار

هَلمَّي انظري قٌبلَاتِ الربيع

على مِعطفِ السَّهل والرَّابيَهْ

سَرَتْ في السموات أنفاسهُ

فعطَّرَت الحقلَ والسَّاقيَهْ

وآذارُ يلعبُ فوقَ المروج

كما تلعب الطِّفلةُ اللاهِيَةْ

يُعانقُها وهو جمُّ الحنين

فتُغريه بالمقلة الرَّانِيهْ

ويلقي عليها وِشاحَ الخلود

وألوانَهُ العذبةَ السَّابيهْ

ويَبعثُ فيها شُعاعَ الهوى

فتهتزُ من وَهْجِهِ صابِيَهْ

تألَّقَتِ الأرضُ من وَشيْهِ

فلم تَبْقَ زاويةٌ خاليَهْ

وقد زيَّنَ الغابُ أفياءه

باحلى مَطارفِهِ الكاسيَهْ

خمائله من نسيج النعيم

تأرَّجُ بالنَّفحدةِ الذاكيهْ

جِواءٌ من الطَّيْرِ طفَّاحَةٌ

تُنغِّمُ رائحةً الذاكيهْ

كأنًّ النَّسيمَ أخو سَكْرةٍ

تَعَايَا من الخمرةِ العانِيَهْ

تَعاشِيبُ ناهلةٌ بالطُّيُوبِ

مَفضَّضةُ الثَّوْبِ والحاشيَهْ

كأنَّ على الأرضِ عُرْساً يُقامُ

فتمشي إليه الدُنَا حابِيَهْ

تعالَتْ إلى الله أفراحُه

تَمَايَدُ حافلةً حانَيهْ

وهبَّتْ مواكبُهُ الضاحكاتُ

تجدَّدُ أعيادَها الباهيهْ

رياحينُها قد ملأنَ الفضاء

ولم تخْلُ من عِطْرِها ناحيهْ

ففي الجِّو ذابت أغاني الطيور

بهَيْنَمةِ النَّسمْةِ السَّاليهْ

وفي الحقل ثار ضجيجُ القطيع

حنيناً لِزَمّارَة الرَّاعيهْ

تذوب من الحب أنغامُها

فتخفت من ناره الصَّاليهْ

بَرَاها الهوى وطوت سَّره

فبان من النغمة الفاشيهْ

فيالك عُرسا بهيَّ الإطار

جديد الرُّؤَى والمنى الهانيهْ

هلَّمي افتحي كوة للربيع

لنشرب فرحتهُ ثانيهْ

ص: 41

فقد ملت الروح عبء الظلام

وحنَّت إلى البسمة الضاحيهْ

أكان سجوُّكِ غير الرقادِ

تغلغل في المقلة الساهيهْ

وأغفل بين شعاب الجفون

تصاوير من مهجةٍ باكيهْ

يبين على صفحتيها الأنين

وتخشعُ فيها الرُّؤَى جاثيهْ

توهجُ من ماسها في العيوُن

روايات أحزانها الطاغيهْ

هلميِ اقرأي خافيات الحظوظ وما تضمرُ العيشةُ الباغيهْ

وَنُوحي على حُلُمُ مورِقٍ

تبددَ في السكرةِ الغاشيهْ

سيمضي الشَّبابُ كأنْ لم يكُنْ

سوى ذكرةٍ حُلوةٍ ساجيهْ

تُجددُ أحلامُهُ الغابرات

وترجعُ نشوتهُ الماضيهْ

كأنَّ لهُ ملعباً سامراً

تناستهُ أيامُهُ الخاليهْ

تَموجُ بأفيائه النُّعميَاَتُ

وتلمعُ فيه المنى الغاليهْ

بَدَا والحياة على جانبيهِ

تتيهُ بأحلامها الغاويهْ

محِفَّةُ آذارَ تلقي عليه

أزَاهيرَها الثّرَّةَ الغانيهْ

تعاَلى نُوثَّق عهود الهوى

ونسرُدْ حكاياتها النائيهْ

ونوقظْ لياليَها الغالياتِ

ولولا الهوى لم تكن غاليهْ

أقاصيصُ ملء الرّبا والوِهادِ

تناثْرنَ من أكبُدٍ شاكيهْ

ارِجْنَ وعَطَّرنَ هذا الفضاء

كما تأرَجُ الزهرةُ الناميهْ

ولقِّنَ منه معاني الحياةِ

وأدركن من دائه ماهيهْ

رُويدَكِ ولنْستمعْ سرَّهُ

فأن له ألسُناً حاكيهْ

وإن له سِيرَاً جمةً

تناقُلها الأنفُسُ الصاغيهْ

تعالى إلى الصدرِ تلقىْ به

شكايات أضلاعه الحانيهْ

وأوجاعَ خافِقهِ المستهام

وإرنانَ أفيائه الواهيهْ

فلا البثُّ يُهدئُ تَحنانَهُ

فيرتاحَ من شجوهِ ثانيهْ

ولا الحبُّ يُوليه بعضَ المنى

فيفرحَ بالمِنحة الراضيهْ

ويشدْوُ الأغاريد ضاحكةً

فتحيا بها المهجُ الداميهْ

ص: 42

ولما اقتسمنا دموعَ العيونِ

تفردتُ بالدَّمعة القاسيهْ

فلا هي تسكنُ شِعب الجفونِ

فتخفى ولا هي بالهاميهْ

أطلتِ رُنُوِّكِ نحو السماء

وأطرقت راهبةً خاشيهْ

فهل تبحثين عن الغائبين

ومن غاص في اللجة الطاميهْ

فرابتْكِ ضفَّة هذي الحياة

وخِفْتِ من الضِّفَّة التاليهْ

فنُحتِ وصحتِ النجاةَ النجاة

وأين النجاةُ من الهاويهْ

هنالك لا النور ضافي الجناح

ولا الطير صادحة شاديهْ

خَلَتْ من بهارج هذا الوجود

وأحلامه الحلوة الزاهيهْ

سوى موجةٍ من بنات السماء

تحومُ بأرجائها عاريهْ

يُشِعُّ على جانبيْها الخلودُ

وما ضَمَّ من صُوَرٍ ساميِهْ

كأن عليها إطارَ النَّعيم

وغِبْطَتَهُ اللذَّةَ الشَّافِيَهْ

حنانَيْكِ لا تسبْحَي في الدموع

ولا تَرْهبي الراحةَ النَّاجِيَهْ

فما إنْ تَقِي من إسارِ الرَّدَى

إذا حُمَّ يومُ النوى واقِيَهْ

وليسَ تَرُدُّ عليكِ الدموعُ

سوِى حزُقْةٍ مُرَّةٍ وارِيًهْ

ورُبَّتَ أُمْسيَّةٍ بَرَّةِ

ترِفُّ بها الذِّكَرُ القَاصيَهْ

جلسْتُ على جَنَباتِ الغدير

أُشَيِّعُ أموَاهَه الجاريهْ

أُرَدِّدُ أشعاريَ النَّائياتِ

واستَقبلُ الفكَرَ الآتيهْ

وتشدُو الطيورُ أغاريدَها

فألقطُ من فمِها القافيهْ

وَدِدْتُ من الغَيب كُلَّ الوداد

لو أنيَّ لأشعارها راويهْ

ويُوحى المَساءُ إلى خاطري

هوَاجسَ غامضةً خابيَه

موَشَّحَةً بِطُيُوفِ العَفَاءِ

كأنَّ بها جِنَّةً بادِيَهْ

فأُصغِي إلى همْسِهِ المستَطَاب

وأسمعُ ألحانَهُ الخافِيَهْ

أعُبُّ لذَاذاتِه الطَّافحاتِ

وأكْرَعُ سَكْرَتَهُ الصَّافيهْ

وأنسى مَتاعبَ هذا الوجود

وعِيشِتَه الوَحْشَةَ الجافيهْ

وغيبوبة مثل كهف النُّسور

تضيع بها الأنفسُ الرائيهْ

ص: 43

توشِّحُها مائجات الغيومِ

وأطياف أجْنُحِهَا الضافيهْ

رقيتُ أعاليَها مُفْرَداً

ورُوحيَ سَبَّاقة حاديهْ

وخَلَّفْتُ جسمي في الهامدات

تُطيف به الصورُ الفانيهْ

وأطلتُ من فرجات الضباب

على عالم الرمّم الباليهْ

تجردتُ من صفة الهالكين

وَمُتعتُ بالصفة الباقيهْ

وقد غبتُ عني كأنْ لم أَكُن

سوى نفحة سمحةٍ عاليهْ

وأنسيتُ أني ابنُ هذا التَّرابِ

وَضجعته الُمَّرة الطاغيهْ

بكاءً على أملٍ لامعٍ

تَطايَرَ في الفنية الصَّاحيهْ

وغلغل في عالم غامضٍ

أمانيه ساخرةٌ هاذيهْ

هَلمي افتحي كوَّةً للضِّياءِ

لننسى بها الكوَّةَ الدَّاجيهْ

فليس لنا أملٌ في الرَّبيع

وَنفحته العذبة السَّاريهْ

وما العُمْرُ غيرُ ربيع الشبابِ

ربيع الهوى والرُّؤى الوافيهْ

تجوسُ به الذكريات العذابُ

وَيغمُرُهُ الحبُّ والعافيهْ

إذا طاحَت مسالي الوُجودِ

وغابت مفاتنه الحاليهْ

وَصار إلى عالم موُحشٍ

كصحراء خاليةٍ خاويهْ

أسيتُ لِعمرٍ تولى سناهُ

كايماضة الشعلةِ الوانيهْ

فيا لك من عمرٍ ضائعٍ

كما تُنثرُ الباقةُ الذاويهْ

هوى النجمُ من شرفات الحياة

فأمست على إثرْه هاويهْ

. . . أفاتَك أني جمُّ الجروح

أعيشُ على يَدِكِ الآسيهْ

فوليتِ عني وخلفتني

احنُّ إلى الساعة القاضيهْ

. . . أموت وقيثارتي ما تزال

تنوح على مهجتي الصاديهْ

أنور العطار

ص: 44

‌في الأدب الفرنسي

بيير كورني

للدكتور حسن صادق

حياته وعلاقاته ورواياته

نتحدث في هذا المقال عن عبقرية شعت في معاصريها الحرارة والنور، عن شعلة وهاجة فيها جمالوانسجام، وفي جوهرها هدى وسلام، عن مدرسة عالية تتعلم القلوب فيها السمو والشجاعة، وتتهيأ النفوس فيها للعفة والنبل والصفاء، عن مدرسة علمت الفرنسيين نفاسة الإرادة وبطولة الواجب وجمال التضحية. وسنجعل موضوع المقالات التالية عن عظماء الكتاب الفرنسيين في القرن السابع عشر وهم: بسكال ولاروشفو ولافونتين وموليير وراسين وبوسويه وفنلون ولابروبير وسان سيمون ومدام دي سفنييه.

إذا ولد ابن ملك دقت النواقيس وأطلقت المدافع إيذاناً بمولده، وفرض على الشعب أن يبتهج إن كان شقيا، أو بعث الفرح في نفسه إن كان مجدودا سعيداً. وإذا ولد عبقري، جهل الناس أمره ولم يعرف حقيقته إلا الله الذي يسم جبينه بطابع إلهي ويعين مهمته العالية بين البشر. وبعد أن تكشف العبقرية عن نفسها ويسود مجدها، يبحث الناس في ظروف مولدها وفي حوادث شبابها عن الإمارات العظيمة التي تدل على مستقبله. وكذلك ولد بيير كورني في 6 يونيو عام 1606 بمدينة وارن. ولم يسطع في ذلك اليوم نجم في السماء جديد أو يحدث على سطح الغبراء حادث خارق يعلن إلى الناس مجيء رجل عظيم.

أحبه والداه حباً شديداً، وربياه على التقوى والفضائل، ولم يجدا فيه ما يدلهما على أن اسمه سيكون يوما في شعفة المجد الفرنسي. وما بلغ اشده ادخله أبوه مدرسة يديرها الجوزيت فتلقى فيها تربية قوية صلبة وتعليما متينا. ولم ينس قط لهذه المدرسة الأثر الجميل الذي خلقته في نفسه الغضة. ثم أراد له أهله أن يكون من رجال القانون فكان، إرضاء لهم دون ان يشعر بميل إلى ما أصاروه إليه.

نال إجازة الحقوق في 18 يونيو عام 1624 وترافع أمام القضاء، ولكنه لم يصيب غير الفشل الممض لانه كان خجولايشعر في حضرة الناس باكتئاب بطني يغمز عليه الحيرة

ص: 45

والاضطراب، ويسلط على لسانه الحبسة والحصر. وفجاة حدثت مصادفة سعيدة أظهرت عبقرية هذا المدره الصغير. كان له صديق عزيز عليه يحب فتاة، وقد طلب منه هذا الصديق أن يصحبه في زيارته لها فأجاب سؤله. ولما تكررت هذه الزيارة أدرك كورني أن الفتاة أخذت ترنو إليه دون صديقه، فكف عن زيارته لها لانه بالطبع وفي كريم. هذا الحادث دفعه إلى كتابة قصة مسرحية فكاهية سماها (ميليت) مستمدا قواعد الفن من نفسه وذوقه، ثم سافر إلى باريس وفي جيبه فصول القصة الخمسة، ولم يجرؤ على تقديمها لممثلي (بيت بورجوني) المهرة النابهين، وهو المسرح الوحيد الذي كان موجودا في ذلك العهد. فقدمها في تواضع إلى ممثلين مغمورين فقراء، كانوا يحاولون تكوين فرقة وإنشاء مسرح صغير في شارع (بتي بوربون).

مثلت هذه القصة في عام 1629 ودرت على المسرح الصغير رزقاً كبيراً. ولكن الجمهور الذي اعتاد رؤية القصص التمثيلية المقتبسة أو المنقولة عن (لوب دي فيجا) الأسباني وغيره والزاخرة بالدسائس والعقد، وجد قصة (ميليت) سهلة بسيطة طبيعية، ولم ير في مؤلفها شاعراً كبيراً.

ثم وضع كورني في عام 1632 قصة فكاهية أخرى اسماها (كليتاندر) وقال عنها بعد وضعها ان كل ما هو محتمل فيها الأسلوب ليس غير.

بعد هذه القصة يئس من الحصول على نجاح يرضيه في الكوميديا وشعر في الوقت نفسه بيقظة العبقرية التراجيدية في نفسه، فاستعار من (سنيكا) الحكيم الروماني موضوع قصة سماها (ميديه) أخرجها في عام 1635، فأصابت بعض النجاح ولفتت نظر ريشيليه الوزير الفرنسي المعروف، وكان هذا الوزير يتعشق المسرح والتأليف المسرحي واليه تنسب قصص أربع غيبت كلها في تضاعيف النسيان. ويقال انه لم يكتسب هذه القصص وإنما كان يضع خططها ويشرف على كتابتها.

وبهذه المناسبة نذكر أن مجد ريشيليه الأدبي هو في إنشاء مجمع العلماء (الأكاديمي فرانسيز): ففي عام 1629 اتفق جماعة من الأدباء على أن يجتمعوا مرة في الأسبوع عند أحدهم للبحث والمناقشة في الموضوعات الأدبية. هذه النواة المكونة بادئ ذي بدء من تسعة أشخاص، كبرت سريعا إذ انضم إليها أخصاء الكردينال ريشيليه. ثم اتصل خبرها بهذا

ص: 46

الوزير فرأى في الحال بمهارة رجل الدولة الفائدة التي تجنى من إنشاء هيئة تضم رجال الادب، يجيزها أمر ملكي وتكون تحت رعايته، فيضع بذلك يده القوية على جميع العقول الكبيرة في فرنسا كما كاد يضعها على النبلاء والعظماء. وقد تم له ما أراد وصدر الأمر الملكي في عام 1635.

اتجه نظر ريشيليه إلى كورني كما قلنا، ورآه جديراً بالعمل معه في تصنيف قصصه المسرحية، فعرض عليه رغبته في الانضمام إلى (جماعة المؤلفين) وكانت مكونة من أربعة أشخاص يكتبون باسم الوزير. قبل كورني ذلك لانه شعر بالحاجة إلى عضد قوي يعبد له الطريق، واندمج في هذه العصبة الصغيرة، ولكنه كان حريصا على الاحتفاظ بكنوز عبقريته لنفسه.

وفي أحد الأيام طلب إليه الوزير أن يضع الفصل الثالث لإحدى قصصه وفقاً للخطة التي رسمها له فلم ويوافق كورني على هذه الخطة، ودهش الوزير من جراته واسترد منه شرف العمل معه، وقال عنه:(ليس فيه روح العمل برأي غيره!) أي ليس فيه روح الخضوع والذلة.

نالت هذه الصدمة من نفس كورني منالاً كبيراً فعاد إلى روان ليجد بين أحضان أسرته متلمسا من ألم الفشل، واعتزم العدول عن التأليف المسرحي وهجر الشعر. ثم قابله ذات يوم مصادفة كاتب سر قديم للملكة (ماري دي مدسيس) يسمى (شالون) فنصح له بأن يدرس بإمعان شديد المسرح الأسباني، ولفت نظره إلى موضوع (السد) وكان قد عولج في أغان وطنية إسبانية وفي قصتين من نوع التراجيدي: أحدهما (لدون جوان ديامانت) والأخرى (لجيلهم دي كاسترو).

قرأ كورني القصتين، وخلال غرابة التركيب وضعف الأسلوب استخلص حدثاً درامياً، ومواقف رائعة، وأفكار خلابة: استخلص من التراب تبراً نقياً، فوضع أول قصصه الخالدة وهي (السيد) المشهورة، اول درة في تاج المسرح الفرنسي في عام 1636.

وقد أثارت هذه القصة في نفس ريشيليه الغيرة والحسد، ولكن كورني تعزى بتصفيق الإعجاب الذي ناله من فرنسا كلها، وبلغ من نجاح هذه القصة أن اصبح الناس يقولون: هذا جميل كالسيد. وانتشرت هذه الجملة حتى عدت من الأمثال العامة. وقد سخر (بوالو)

ص: 47

الشاعر والناقد الفرنسي في ذلك الوقت من حسد ريشيليهفقال: (عبثا يثور وزير على السيد، فكل باريس تنظر إلى شيمين بعيني رودريج (شيمين بطلة القصة ورودريج بطلها، وكان بينهما حب شديد رائع). ولكي يطفئ ريشيليه غلة حسده أوعز إلى مجمع العلماء ان يسفه القصة، فأعلن مكرها إن موضوع القصة تافه، وهذا مديح افلت من فم المجمع خلسة، لان كورني استطاع بعبقريته أن يجعل من الموضوع التافه قصة رائعة استدرت إعجاب الناس في عصره واستهوت نفوس الأجيال المتعاقبة.

وقال اكثر خصوم كورني لؤما إن الجمال الذي يعجب به الناس في القصة لا يد لكورني فيه، وإنما هو (لدى كاسترو) الأسباني. وقد نال هذا القول من نفس كورني اكثر مما نال منها رأي مجمع العلماء الذي دحضه وسحقه نجاح القصة في طول البلاد وعرضها. فبحث في التاريخ القديم عن موضوع يخلق منه قصة هامة، فعثر في (تيت ليف) المؤرخ الروماني المشهور على تاريخ الموقعة التي حدثت بين آل هوارس وآل كورياس. واخرج من هذا الموضوع قصته العظيمة (هوارس) في عام 1640. وفي السنة عينها اخرج قصة (سنا) أو رحمة أغسطوس التي نالت اكبر قسط من النجاح، وفي عام 1643 اخرج (بولكيت) و (بومييوس) و (الكذوب) وكلها قصص خالدة أبلغته قمة المجد والعظمة. وعقب قصة (السيد) منح الملك لويس الرابع عشر والد كورني لقب الشرف ووثائق النبل، ثم دخل الشاعر مجمع العلماء في عام 1647.

استمر بعد هذه القصص التي ذكرها والتي بنت مجده على أسس متينة، يصف القصص التمثيلية واخرج كثيرا منها، ولكنها لم تبلغ الدرجة العلية التي بلغتها القصص السابقة وفي عام 1652 اخرج للناس قصته (برتاريت) فلم تنجح.

اشتد عليه هذا الفشل الأليم وهو الشاعر الكبير الملحوظ المنزلة فلزم الصمت سبع سنوات قضاها في روان مع زوجه (وكان قد تزوج في عام 1641) وأولاده الثلاثة. ثم شاءت المصادفة أن يزور (موليير) الشاعر وفرقته روان ويمثلون فيها بعض كوميدياته. ولما شاهد كورني التمثيل انتعش في دخيلته الحنان إلى المسرح. فعاد إليه في عام 1659 أمام جيل جديد من النظارة بقصته (أوديب) فقوبلت مقابلة حسنة. ثم اخرج بعده عدة قصص ولكنها فشلت كلها. ويقال إن سبب الضعف الذي ظهر في قصصه الأخيرة يرجع إلى

ص: 48

إفراطه في العمل وإجهاده القريحة والعجلة في التأليف، لانه كان في حاجة شديدة إلى المال بعد ما استنفذت تربية أولاده كل موارده المالية. ولكن الحقيقة انه كبر ومالت قوة ذهنه إلى الاضمحلال والركود. يدل على ذلك قوله:(شعري ذهب مع أسناني) نعم استطاع هذا الشعر أن يستريح بعد كثير من الآثار الخالدة التي تقص على القرون غرام رودريج وبطولة هوارس ورحمة أغسطوس واستشهاد وبوليكت. وفي الوقت الذي بدء فيه نجم كورني بالافول، كان نجم راسين يعلو ويسطع ويزدهي الناس إعجاباً وطرباً. وفي عام 1670 عرضت هنرييت أخت زوج لويس الرابع عشر على كورني ان يضع تاريخ (برينيس) في قصة تمثيلية. وكان راسين فيالخفاء يراجع هذا الموضوع وهي تعلم ذلك. وأخرج الشاعران القصة في وقت واحد فنجحت قصة راسين نجاحا كبيرا وسقطت قصة كورني سقوطا مروعاً وفي عام 1683 باع كورني منزله في روان إذ استبد به العسر. وكان لويس الرابع عشر قد قرر له معاشا سنويا قدره 2000 دينار بعد وساطة الشاعر شابلان ذي الحظوة لدى الملك. ودفع هذا المعاش بغير انتظام ثم الغي. وقد شعر (بوالو) بحالة كورني فقابل الملك ورجا منه أن يدفع المعاش للشاعر المسكين بانتظام فقبل رجاءه. ومن حسن حظه انه مات في ليلة أول أكتوبر عام 1684 بعد أن ذاق مرارة الفاقة في شيخوخته، والشقاء هو الفدية الضرورية للعبقرية.

وقد قام مجمع العلماء بنفقات دفنه، وكان مديره إذ ذاك القسيس (دي لافو) ولا تنتهي مدة عمله إلا في أواخر أكتوبر من ذلك العام. وجرت العادة ان يؤبن مدير المجمع، العضو الذي يموت. وكان راسين هو الذي سيعين مكان القسيس ولذلك حدثت بينهما مشادة إذ كان كلاهما يريد أن يحظى بهذا الشرف. وتمت الغلبة في النهاية للقسيس. ثم عين (توما كورني) عضواً في مجمع العلماء بعد موت شقيقه، فأهتبل راسين هذه الفرصة وأثنى أجمل الثناء على ذكرى منافسه العظيمة. وان خطبته في ذلك المقام لهي فخر لعبقرية الميت وكرم الحي. وسنذكر نبذة من هذه الخطبة القيمة عند الكلام عن حالة المسرح الفرنسي قبل كورني.

مكانته ومواهبه ومذهبه

كان حساد هذا الشاعر العظيم كثيرين. فلما مات لم يروا فيه غير الشاعر العبقري الذي

ص: 49

خلق أروع القصص، وجاءهم بآيات في البلاغة بينات، ووضعوه في مكانة أعلى من المكانة التي كان يشغلها أيام مجده. ومن الغريب أن مدينة روان لم تقم تمثالا لأشهر أبنائها إلا في عام 1834!

وكان معاصروه من كبار الأدباء لا يستطيعون إنكار قوة ذهنه وعذوبة شعره ومتانة قصصه. ومنهم لابرويير وبوالو ومدام دي سيفنييه. وهذه كانت تصيح في كل مجلس قائلة: (ليحيى صديقنا القديم كورني! إن كتبه آثار أستاذ لا يجارى ولا يقلد! إنها الذوق السليم نفسه!). وكان هو نفسه يؤمن بعبقريته ويتحدث بها في عزة الرجولة وصراحة كريمة تفضل التواضع المصطنع الذي لا يخدع أحدا ولا يخفى ما وراءه من زهو خلق. وقد بقي وفيا لخلقه المزيج من البساطة والكرم والخجل والشجاعة والوداعة والسمو، حتى استوفى أنفاسه.

ونستطيع أن نقول أن كورني قلب كبير ونفس جميلة. والدليل القوي على ذلك هو ما تركه لنا من الآثار الجليلة، وكل العواطف السامية التي يجدها القارئ في قصصه، مصدرها قلبه ونفسه ليس غير.

كانت الأخلاق في عصره هابطة، والبطولة نادرة؛ فلما جاء عمل على إيصال القليل من حرارة الشعلة التي تحركه إلى خمود معاصريه، فتنبهت قلوبهم وهبت تخفق على توقيع ألحانه.

يقال دائما أن الشاعر لا يصور إلا معاصريه، وان كورني استمد موضوعاته من العادات والأخلاق التي كانت تحت بصره. هذه قاعدة صحيحة بالنسبة للاخرين، ولكنها لا تنطبق على كورني لانه كان يصور الناس كما يجب وكما لا يجب ان يكونوا، أي كان يصورهم على طراز نفسه العالية.

ومن يقرأ كتب هذا الشاعر يجد أن الرغبة في جعل الإرادة تتغلب على كل الصعاب والعقبات من عناصر البلاغة الخاصة بكورني، ويجد أن أبطاله سواء أكانوا يريدون قهر أنفسهم أم قهر غيرهم، يبذلون جهدهم في إقامة الدليل الذي يبرر إرادتهم وعملهم. وهم يشرحون حساسيتهم في شعر له نغمات الناي الساحرة، ويعبرون عن أرادتهم في لهجة خطابية. ولذلك يلذ لهم الحوار الطويل والمنطق السليم الذي يؤرث إرادتهم الخائرة،

ص: 50

والبرهانات القاطعة التي تنتصر على ترددهم. وهم فوق ذلك وفي كثير من الأحايين يريدون ان تقر ضحاياهم أعمالهم وتوافق عليها. وكذلك نجد (رودريج) في قصة السيد يريد أن يجعل صاحبته (شيمين) تؤمن بأن قتل أبيها الكونت (دي جورماس) كان واجبا عليه. ونجد في قصة هوارس انه أراد أن يجعل (كورياس) يؤمن بان من واجبه قتله. وكذلك في (سنا) تحاول (راميلي) صاحبه (سنا) أن تجعل الإمبراطور (أغسطوس) يعتقد ان واجبها يأمرها بتدبير مؤامرة لاغتياله.

قلنا إن كورني كان عييا في حضرة الناس، ولكنه كان خطيبا بلسان أبطاله وفي كل قصة نجد ان الحوادث هي نتائج قرارات الأبطال ومشيئتهم. ففي هوارس وسنا مثلا لا يحدث حدث إلا برغبة أبطال القصة، فالإمبراطور أغسطوس بعد أن عرف إن صديقه سنا يأتمر به ليقتله كان في مقدوره إذا أراد، أن يعاقبه بدلا من الصفح عنه، فالإرادة في مسرح كورني هي نابض الحركة الوحيد، لانه كان يعتقد إننا في الحياة سادة حظوظنا. وهذا ما يجعل لهذا المسرح قيمة خلقية فريدة، وان جعل الفعل الدرامي معلقا على مشيئة الابطال، لهو في الحقيقة تخفيض لنصيب الظروف أي تبرئتها مما نتهمها به. وليس هذا حقيقة خالصة، ولكن كورني أراد بذلك أن يرغب الناس عن التواكل والاستسلام ويربي فيهم الاعتماد على الإرادة ولكي نحكم حكما صحيحا على كورني، يجب ان نضع نصب أعيننا دائما انه المؤسس الحقيقي للتراجيدي الفرنسية. كثير غيره جاءوا بعده، متزودين بدروسه ومنهاجه، فماثلوه أو بذوه، ولكنه بقى أستاذ هذا النوع. انه هو الذي ابتكر استعطافا جديدا يقوم لا على الفزع والشفقة، ولكن على الإعجاب، الإعجاب بالمواقف، والإعجاب بالخلق، والإعجاب ببطولة الواجب وروعة التضحية. وهو الذي حدد شكل التراجيدي الفرنسية وجعلها (قضية أخلاقية توضع بواسطة العرض، ثم تحصل المناقشة فيها بواسطة انقلابات الحال ثم تحل في الختام) وعبقريته هي التي جعلت الترجيدي تحليلا نفسيا لشهوة من الشهوات تتدرج في طريقها حتى تصل إلى العنف والحدة ثم إلى النتائج الأخيرة.

اثر كريني في التراجيديا والادب

كانت الترجيديا قبل كورني محاورات طويلة. وكان واضعوها يصورون الوالد والولد والزوج في ظروف شخصية خاصة محدودة. ولكن كورني صورهم بطريقة عامة أي

ص: 51

صور المثل الأعلى للوالد والولد والزوج.

قال (سانت بيف) بحق (إن كورني هو الشاعر الجدير بأن يعاصر الفيلسوف (ديكارت). كان الفيلسوف يبرهن على وجوده بالفكر فيقول: (أني أفكر، إذن أنا كائن، وكان الشاعر يبرهن بالفكر على الحساسية المحركة والحياة، فكل شخص في قصصه يقول أني أفكر، إذن أنا شاعر حي).

وكل ما يعاب على كورني انه لم يصور المرأة في قصصه تصويرا طبيعيا. وذلك لانه لم يحب قط، ولم يسبر غور القلب النسوي، وكل أبطاله النساء لا تمت إلى الطبيعة إلا بصلة ضعيفة لانه خلقهن من إدراكه لا من تجربته وملاحظاته.

كان كل همه أن ينتج الإعجاب بالفضائل. وقد بلغ غايته بجعل الواجب يناضل الهوى ثم ينتصر عليه. أي انه بلغ غايته بتصوير البطولة احسن تصوير. وهذه الغاية أرغمته في بعض الأحايين على أن يبالغ في قوى أشخاصه ويعلو بهم فوق الضعف الإنساني ليحيلهم إلى أبطال.

وقد اعجب (فولتير) في القرن الثامن عشر بكورني إعجابا شديداً، حتى انه تبنى بنت أخته وزودها بمهر ثم زوجها. ونشر كتب كورني وشرحها، وقال في المقدمة:(الشرح الوحيد لكتب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في اسفل كل صحيفة: جميل. جليل. إلاهي!).

وطبعي أن ينهض كورني بالمسرح الفرنسي لانه جاء في عصر زاهر مهيأ لهذا النهوض. إن المسرح من انفع وأنبل ما ابتكر العقل الإنساني لتهذيب العادات وصقل الخلق. لا يمكن أن يصل إلى كماله إلا عند ما تبلغ الجماعة نفسها قمة مدنيتها. ولهذا يتكون الفن الدرامي دائما في بطء بينما يظهر الشعر الحماسي والغنائي في طفولة الأمم بقوة اكثر مما يظهر في عصر نضجها. لان شعراء الملاحم والغناء يستطيعون أن يسلموا أنفسهم إلى جرأة عبقريتهم، وبهذه الجرأة يسبقون القرون. أما شعراء الدراما، ومهمتهم كما نعلم تهذيب الجماهير وإشعال الحماسة في نفوسهم، فأنهم مرغمون على أن يلائموا عبقريتهم مع عادات العصر الذي يعيشون فيه. ولذلك نرى أن الجماعة التي تبلغ شأوا بعيدا في المدينة، لا يشغل المسرح من أدبها إلا مكانا ثانويا. فإذا اقتربت من نضجها، اخذ المسرح مكانه في

ص: 52

الصف الأول من مدرسة الإدراك. وهذا ما حدث في فرنسا في القرن السابع عشر، وما حدث في بلاد الإغريق قبل أن يأتيهم سفوكليس وأوربيدس واريستوفان واسنحيلوس. فقد كان للفرنسيين جودل وبايف وهاردي قبل ان يكون لهم كورني وموليير وراسيين.

وإلى القارئ نبذة من خطبة راسين التي استقبل بها (توما كورني) لما صار عضوا في مجمع العلماء تلخص رأي هذا الشاعر في حالة المسرح الفرنسي قبل كورني ورأيه في كورني نفسه: (أي اضطراب وأي شذوذ يسود المسرح قبل كورني! كان الذوق مفقودا ومعرفة الجمال المسرحي مجهولة. وكان الجهل المعيب يجمع بين المؤلفين والنظارة. وكانت جل الموضوعات تحمل سمة الهوس، وعارية من الصدق. وكانت الألفاظ نفسها اكثر قبحا من الحوادث. وخلاصة القول، إن قواعد الفن حتى قواعد النزاهة والأدب كانت فريسة الفتك والعدوان، في هذه الطفولة أو على الأرجح وسط هذا العماء الذي كان يخيم على الشعر الدرامي في بلادنا، جاء كورني. وبعد أن جاهد وناضل الذوق الدميم مزوداً بسلاح العبقرية ومعتزاً بقراءة القدامى، أظهر على المسرح العقل تحف به أبهة اللغة وروعة البيان، فطغى صوته على صوت منافسيه فأخفاه. ولما يئسوا من بلوغ مكانته عمدوا إلى تسفيه كتبه، وحاولوا أن ينالوا بالنقد الطائش من جدارته، ولكنهم فشلوا وحاق بهم مكرهم السيئ. السيد وسنا وهو راس، ملأت الأسماع وهزت أوتار النفوس وترجمت إلى عدة لغات، ستظل حية على مر العصور في أفواه الناس، كورني فن وقوة وبراعة، وخصوبة ونبل وعظمة).

هذا كلام راسين الذي كان ينافس سلفه، وهو قول حق. وعند ظهور كورني، كان قد مضى على الناس ما يزيد على مائة عام وهم يعالجون التفكير ويتألفون الشعر والنثر دون أن ينجحوا النجاح المرجو. وعبثا نهبوا مؤلفات الأقدمين ومسخوها، وعبثاً سرقوا من لوكريس وفرجيل وهوراس وسنيكا أو من الإيطاليين والأسبان. وعبثا انتحل كتاب النثر لأنفسهم من سيسرون وبلوطارخوس. ثم جاء كورني وديكارت فحررا اللغة والفكر الفرنسي من ربقة الإغريق والرومان، فهما أول من أعطى للأدب الفرنسي صبغته الخاصة وطابعه القومي. فالسيد و (رسالة في المنهج) لديكارت يعينان عهدا جديداً في تاريخ الأدب والفكر الفرنسي. فقد كسرا أغلال اللغة وكانت أسيرة في أطلال اللاتينية، وأنقذا الفكر من محنته وكان يريد

ص: 53

ذلك ولا يستطيعه. وبفضلهما وجد في أوربا كلها بين كل الذين يقرأون ويكتبون أداة عامة جديدة للتفاهم. هي لغة ديكارت وعلى الأخص لغة كورني التي سادت من عام 1648 تحرير معاهدات التحالف والصلح، وأصبحت آخر الآمر اللغة الوحيدة تقريبا للأدب والفلسفة والعلم. وكما يفخر الرومان بان عصر أغسطوس انتج هوارس وفرجيل، كذلك يفخر الفرنسيون بان عصر لويس الرابع عشر اكبر ملك حكمهم، انتج اكبر شاعر لهم هو كورني.

ونختم هذا المقال بكلمة نابليون: (القصة التمثيلية تشعل النفس، وتسمو بالقلب، وتخلق دون ريب أبطالا. وإني اجهر بأن فرنسا تدين لكورني بجزء كبير من أعمالها المجيدة. إن القصص التمثيلية مدرسة عالية لعظماء الرجال، ومن واجب الملوك تشجيعها ونشرها. ولو كان كورني حيا في زمني لجعلته أميراً).

وما قيمة اللقب الرسمي في جانب اللقب الذي ناله من الشعب وهو كورني العظيم؟! ولماذا وهبه الشعب هذا اللقب؟ لانه جاءهم بقصته السيد، وهي الحب في اجمل اثوابه، وبقصته سنا، وهي السياسة في أسمى اشكالها، وبقصته بولكيت، وهي الدين في أروع مظاهره، والحب والسياسة والدين هي (ثالوث) القلب الإنساني.

حسن صادق

ص: 54

‌البؤساء

لفكتور هوجو

في سنة 1862 اخرج فكتور هوجو روايته الخالدة (البؤساء) وكان قد لبث مدى ثلاثين عاما يفكر في أن يكتب كتابا في صنوف البؤس التي يعانيها الشعب ويستجمع له شوارد نظرياته الأخلاقية والسياسية فلم ينضج مشروعه إلا بعد أعوام طويلة من التأمل والبحث، وكان مشروع كتابه الأول يتألف من أربعة أقسام بسيطة هي:

قصة قديس (وهو الراهب ميريل) وقصة رجل (وهو جان فالجان) وقصة امرأة (وهي فانتين) ثم قصة دمية (وهي كوزيت).

ونظم فكتور هوجو هذه الأقسام الأربعة في سلك رواية طويلة متناسقة ساحرة البيان والمعنى، تثير في كل موقف من مواقفها وكل صفحة من صفحاتها أسمى العواطف الانسانية، وتبعث فيه كوامن الإشفاق على جان فالجان الذي دفعه البؤس وحده إلى سرقة رغيف من الخبز، والذي ينبض فيه قلب رجل خير كريم مخلص، والإشفاق على فانتين تلك الفتاة المسكينة التي أغويت ثم نبذت والتي تبيع حتى شعرها وأسنانها لتطعم ابنتها، ولا تبيع شرفها إلا نزولا منها على حبها الأموي، والإشفاق على تلك الصغيرة المسكينة التي تعاني على يد أسرة تاردييه أمر ضروب الاضطهاد والذلة، ثم الإشفاق والحب نحو البؤساء والمساكين الذين يمثلهم القس ميريل، وصلابة الواجب الذي يفهم على غير وجهه في شخص الشرطي جافير.

وهيكل القصة الأولى مؤثر، فهو يتلخص في مكث جان فالجان بالمنفى وفي تحريره، وفي توبته وعيشته رجل خير محب للإنسانية في معمل الزجاج، ثم موت العاملة فانتين، ودخول ابنتها كوزيت في أسرة تاردييه، ثم قضية شان مايتو واتهام جان فالجان لنفسه وتسميه باسم مادلين، ثم أعادته إلى المنفي حيث يفر فيطارده الشرطي جافير ويلتجئ إلى محلة (بتي بكبيس). وتسير القصة بعد ذلك في نسق رواية بوليسية يتخذ معظم أشخاصها أسماء مستعارة وتكثر فيها المفاجئات الغريبة وتأخذ القارئ أخذا عنيفا بمواقفها الشائقة.

وقد عنى فكتور هوجو بأن يلزم جانب الحقيقة دائما في قصته وان يقدم فيها لقارئه أشخاصا حقيقين وأوصافا دقيقة، وحوادث معقولة، فأما القس ميريل فهو يمثل شخصية

ص: 55

حقيقية عاشت وعرفها فكتور هوجو ودرسها منذ سنة 1829 وهي شخصية المونسنيور ميوليس أسقف (ديني). المونسنيور ميوليس قد آوى ذات يوم مجرما بائسا يدعى بيير موران وحمله على التوبة وانتهاج سبيل الخير. وقد وقعت معظم الحوادث التي يقصها فكتور هوجو حقيقة في أسقفية (ديني)، سنة 1806، وهي حوادث يلخصها الواعظ إنجيلان فيما يأتي: - (في ذات يوم من أيام سنة 1806، دخل بيير موران وهو مجرم افرج عنه، مدينة ديني نحو الساعة الخامسة مساء بعد أن قطع يومه سائراً، وكان في السادسة والعشرين من عمره، فلما رده جميع أصحاب الفنادق، وأنهكه الجوع والتعب، قصد بناء على نصح سيد عجوز، باب الأسقفية وطرق الباب طرقا عنيفاً، فلبث الأسقف هادئا، ونزلت خادمته روز شاحبة مضطربة وهي تقول - رباه! من ذا الذي يطرق بهذا العنف؟ ودخل بيير موران، ولم يكن في هيئته ما يطمئن؛ ومع ذلك فقد كان يبدو عليه الوجل والحيرة وعذاب المسبغة، وكان وجله يتعارض مع كتفيه العريضين ووجهه القوي، وكأنهم جبينه ينضح عرقا؛ فراعه محيا القس الوديع وغمغم بعبارات لا تفهم، فهدأ القس روعه وخاطبه بتلك البساطة التي تذهب إلى أعماق النفس؛ وقدم إليه العشاء وهيئت له غرفة للنوم. . .) وشعر بيير موران انه قد تغير وغدا شخصا آخر، فدخل ممرضا بمستشفى متنقل؛ وكان قويا متين البنية مثل جان فالجان، فكان يؤدي عمله كالابطال، وحمل بين يديه ضابطا جريحا، ثم عاد بعد ذلك إلى منزل القس واحب ابنة أخته وخادمته روزالي، ولكنه لم يجرؤ على طلب يدها، فأختفى وقتل في موقعه واترلو ولم يقتصر فكتور هوجو على أن يتحرى الحقيقة بالنسبة لأبطال روايته، ولكنه ذهب إلى تحريها في أوصافهم وأخلاقهم وفي الأوساط والبيئات التي عاشوا فيها مستندا في ذلك إلى وثائق دقيقة. وتبدو عنايته الشديدة بالبحث والدرس حينما يقص حوادث موقعة واترلو، فقد زار مسرح الموقعة الشهيرة ودرس خططها وأماكنها واوضاعها، ورجع في حوادثها إلى تواريخ العصر وسيره ووثائقه.

والحقيقة ان (البؤساء) اكثر من رواية واعظم من قصة؛ (فالبؤساء) بموضوعها وأوصافها قصيدة رائعة للبؤساء، ترتفع إلى السمو، وتشدو فيها العواطف البشرية، ويمثل شدوها في صورها؛ هي تنبؤ بليغ حي، هي نوع من الوعظ الدنيوي يضطرم بنبرات رسول؟

ص: 56

‌العلوم

ماء جديد

للدكتور أحمد زكي

الماء من اقدم أشياء هذا الوجود، فهو لاشك سبق الإنسان وسبق الحيوان، ولاشك سبق النبات، أليس من الماء كل شئ حي؟ هكذا قالت الكتب السماوية، وعليها آمنت الكتب الفلسفية فالعلمية. وقد أدرك خطر الماء الحكماء في العصور الخالية، فعدوه رابع أربعة من جواهر حسبوا الكون بما فيه تكون منها، ومنها فحسب، بنسب تكبر وتصغر فيتألف منها الجسم الذي ترى بخواصه التي تعرف. وجرت على هذه العقيدة قرون تلتها قرون. حتى جاءت الكيمياء الحديثة بعناصرها ومركباتها، وجاءت بجزيئاتها وذراتها، فأفسدت على الحكماء حكمتهم، وطاحت بالأصول الأربعة التي فرضوها على الوجود، وأثبتت إن الماء مركب من عنصرين الأيدروجين والأوكسجين، بنسبة وزنية ثابتة. نعم قد يتغير الماء لونا وطعما وكثافة، فقد يتملح وقد يتطين وقد يتغوز، فالغازات تذوب بالماء كما تذوب الأملاح، ولكن إيت بالماء من الأرض أو من السماء، على أي حال تشاء، ثم رشحه من أوساخه، وقطره ليخلص من املاحه، واتبع لنقائه أموراً أخرى عديدة تجدها في مفصلات الكيمياء، ثم حلله تجد نسبة الأيدروجين الذي فيه إلى الأوكسجين ثابتة لا تتغير.

هذه بديهة من بدائه الكيمياء، فرغ منها العلماء من زمن، أو حسبوا انهم فرغوا منها. بديهة تسئمك قراءتها بلا شك، كما تسئمني أنا كتابتها، لولا إن البدائه كثيراً ما تنتابها الشكوك فتعكر عليها الهادئ في هذا الوجود المضطرب، حتى بدائه العلم.

إن الأيدروجين أخف الغازات المعروفة، وذرته أخف الذرات. ومن اجل هذا اتخذ وزن ذرته وحدة تقاس بها ذرات العناصر جميعاً. ولكن هذه العناصر إن اتحد بعضها بالأيدروجين فأمكن إيجاد ذرته، فأن الكثير منها لا يتحد به وإنما يتحد بالأوكسجين، فيمكن عندئذ احتساب وزن ذرته منسوبة إلى ذرة الاوكسجين، ولكن المراد نسبتها إلى الأيدروجين حتى يكون اصل النسب واحد، فكان لابد من احتساب كم من الأيدروجين يتحد بكم من الأوكسجين واحتساب ذلك بدقة كبيرة لان هذه النسبة سيتوقف عليها ضبط نسب أخرى عديدة.

ص: 58

اتجه الكيمياويون إلى احتساب هذه النسبة الخطيرة، وهي النسبة التي يتكون بها الماء الذي تشربه واشربه، وفي كل عقد وفي كل عام يخرج الباحثون بنسب متقاربة كل التقارب، إلا أن بينها فروقا صغيرة لا تفتأ تظهر عند الحساب! خطأ في الميزان يا صديقي، وفرق لابد منه مادامت يد الإنسان العاجزة تقوم بهذه التقارير، وأجهزته الناقصة هي كل حيلته في الوصول إلى بغيته. حسنوا الأجهزة، ودققوا في صنع الموازين، واتخذوا كل حيطة إنسانية لمنع الخطأ أن يتسرب، ولكن هيهات ان تتفق الأرقام الناتجة.

حتى كان يوم قريب قدروا فيه هذه النسبة من جديد، فتبين لهم من الأسباب ما حملهم على الاعتقاد ان الخطأ ليس في التقدير، ولا عجز في الإنسان ولا في نقص أجهزته، ولكن في الفرض الأساسي الأول: إن ذرة الأيدروجين ثابتة الوزن، وان ذرة الأوكسجين ثابتة الوزن.

عرفت الكيمياء في السنوات الحديثة، إن العنصر الواحد قد تتشكل ذرته من تشكل واحد. فالزئبق والكلور والبروم والكربتون والزينون وكثير غيرها لكل منها شكلان فأكثر تتفارق في الوزن تفارقا صغيرا وتتقارب في الخواص تقاربا كبيرا. وإذن فلم لا يتشكل الأيدروجين أو الأوكسجين أو كلاهما مثل هذا التشكل؟ لم لا يكون للأيدروجين ذرتان، ذرة خفيفة وذرة ثقيلة، وإذن لم لا يكون للماء جزيئان، جزئ خفيف وآخر ثقيل، اعني لم لا يكون الماء مائين، ماء ثقيل يليق بالحلاقيم الغليظة للجنس الخشن من الرجال، وماء خفيف يتفق والجنس اللطيف من الآلي يدميهن الحرير ويؤذيهن النسيم.

العلم يتخيل فيخال، وإذا بالخيال حقيقة. وتلك الحقيقة أتثبتها الأستاذ لويس وذلك بأن أمر التيار الكهربائي في الماء يحلله على ما هو معروف إلى عنصريه، فأثبت إن الأيدروجين الخفيف هو الذي يصعد من الماء أولا، وانه عندما يتحلل اكثر الماء تتبقى منه بقية صغيرة هي الماء الثقيل الذي يحتوي الأيدروجين الأثقل. أعيدت هذه التجربة بصورة أكبر فنتج عنها ماء ثقيل أكثر تركزاً. وخالوا أن الذي يأتي به التحليل بالكهرباء يأتي به التقطير بالنار، فقطروا الماء فحصلوا على نفس النتيجة. كم من ألوف حللو الماء، وكم من ألوف قطروه في الأجيال المنصرمة، وفاتهم جميعا كنه ما يصنعون.

ومن الغريب أن هذا الماء الجديد سم. نعم سم برغم ان الماء اصل الحياة. وضعوا فيه

ص: 59

فراخ الضفدع فماتت في ساعة، ووضعوا فيه سمكا فمت في ساعتين، ووضعوا فيه دودا فمات في ثلاث. ولكن بالطبع كان هذا (الماء الثقيل) مركزا تركيزا كبيرا، فقد كان تركيزه 92 في المائة. ولما أضافوا إليه (الماء الخفيف) حتى بلغ تركيزه دون الثلاثين في المائة عاشت فيه كل هذه الأحياء (والماء الكثيف) يوجد في الماء الشرب العادي بقدر جزء واحد في كل 25 ألف جزء أو نحو ذلك. فهو لا اثر له في الإنسان. بل على النقيض قد يكون فيه نفع له. أليس كثير من العقاقير كالزرنيخ والأستركنين سما زعافا. ومع هذا يعطى للمرضى بمقادير صغيرة فيكون فيه الشفاء من أدواء؟ على أن اثر هذا الماء الجديد في الأحياء الراقية ومنها الإنسان لم يمتحن بعد، فالحصول على المقدار الكافي منه لا يزال عملا عسيرا.

ويختلف (الماء الثقيل) في خواصه الطبيعية عن الماء العادي، فهو لا يتجمد على درجة الصفر المئوي بل في نحو درجة 4، وهو لا يغلي على المائة بل على نحو درجة 101. فإذا ذكرنا أن درجة الصفر ودرجة المائة إن هي إلا درجات اصطلاحية، تعريفها أنها درجة تجمد الماء ودرجة غليانه على التوالي، حق لنا أن تبتسم ابتسامة خفيفة لما حاق بعلم الحرارة من إخلال بأساسات مقاساته، وقد كان عدها الفيزيائيون ثابتة تزعزع الجبال وهي لا تتزعزع.

ونال الفيزيائي غير هذا إخلال جديد في أساس أوزانه. فالجرام ما هو؟ أليس هو وزن سنتيمتر مكعب من الماء ولكن أي ماء، ثقيلة أم خفيفة؟ على أن هذه إختلالات لا تؤثر في حوائج العلم العادية، ومطالب الحياة الجارية، فعين الإنسان قاصرة، ترى الكون كتلا كبيرة ولو ظنتها جسيمات صغيرة، ويده تحس الكون كذلك كتلاً، وانفه يشم الكون أجمالا لا تفصيلا، وأذنه تسمع أنغامه وتظن أنها تستطيع إدراكها نغمة نغمة، ولو إن كل نغمة منها أنغام تحتوي انغاماً، وهو مستمتع في كل هذا بقصور حواسه، قانع برؤية الوجود غبشا وضبابا، مادام لا يحس انه غبش وضباب، فلننس ما كان من تحقيق العلماء وتدقيقهم، ولنشربه زلالا سائغا خفيفه وثقيله، وعلى الدنيا وعلى العلماء العفاء.

احمد زكي

ص: 60

‌القصَص

قصة شابة ريفية

المجنونة

للأستاذ علي الطنطاوي

قالت ربة المنزل، وقد حف بها أولادها وأحفادها، وجلسنا نحن على مقعدين نصبوهما لنا في صدر الغرفة:

قالت أصغوا ألي فأني قاصة عليكم الليلة قصة واقعة. شاهدت حوادثها بعيني رأسي. ولا يزال أشخاصها أحياء يرزقون، وليس كل ما تمتاز به أنها واقعة، ففي الواقع كثير من التوافه، ولكنها تمتاز بأنها مؤثرة وان فيها عبرة.

كنت صغيرة لا أكاد أدرك. . .

إذن فالقصة منذ ستين سنة على الأقل!

فرمت المرأة صديقي بنظرة تأنيب على هذه الإهانة التي تلقاها بها، واستمرت في حديثها:

. . . كنت بنت سبع سنين يوم دخل (رظا) أفندي البلد. وأني لا ذكر ذلك بوضوح على الرغم طفولتي وقدم العهد. . . لان بلدنا كان يومئذ معتزل العالم، وكان مرور الجند في البلد. أو زيارة غريب أو سفر أحد الفلاحين إلى دمشق، يعد حادثا تاريخيا يلهج به الفلاحون شهورا. ويتخذون منه مادة لأحاديثهم في أسمارهم، وكان اليوم جمعة فلم يرع الناس وهم منصرمون من الصلاة إلا شبح شخص يلوح في الحرة المحيطة بالبلد، ثم يبدو واضحاً وإذا هو رجل طوال منحن يمسك بيمناه عصا طويلة قد علق بها صرة كبيرة، ويجر بيسراه طفلة له، وكانا يجدان عناء في تسلق هذه الصخور والقفز على هذه الأحجار السوداء الحديدة الجوانب، حتى أن الطفلة سقطت اكثر من مرة. فكان الرجل يقبلها، ويصب في أذنها كلمات حلوة معسولة، ويشير لها إلى البلد، فتعاود المسير يحفزها أمل بارق، في ظلام من اليأس تجمع الناس في رحبة البلد، ينظرون إليهما، وتطوع فريق منهم للأخذ بأيديهما ومساعدتهما، واخذ رجل حماره ليركبهما، وعمد آخر إلى شئ من الخبز والجبن وقمر الدين فأخذه إليهما زاعما إنما قد حطمهما الجوع، وحملت امرأة جرة ماء

ص: 61

مؤكدة أن ليس بهما جوع ولا تعب. ولكن الضرب في هذه الحرة المحرقة ثلاث ساعات من الكسوة إلى زاكية، ثلاث ساعات في هذه الظهيرة اللاذعة قد قتلهما عطشا.

ولم تشأ المحدثة أن تثبت هذه المناسبة دون أن تعظ أولادها وتصف لهم جلال الأخلاق الماضية وجمالها فقطعت قصتها وقالت:

أرأيتم؟ هكذا كان الناس: يساعدون الغريب يواسونه بنفوسهم، لا كما تصنعون انتم اليوم.

فقلت: ولكن الرجل؟ هل أكل ما حملوا إليه من طعام؟

قالت: كلا، كان مريضا فلم يأكل شيئا. أما البنت فقد كانت سابغة لاغبة. فأكلت وشربت ثم نامت مكانها من التعب.

حملوا الرجل وابنته إلى دار الشيخ، وكان المرض والضعف قد بلغا بالرجل. فأرادوه على الطعام ليشتد أزره فأبى. فعرضوا عليه الدواء الذي يتخذونه لمثل علته فرفض أيضا: - لا أريد. لا أريد شيئا. لا تفكروا في. أني ميت. قد انتهيت، ولكني موصيكم بهذه الطفلة فهي أمانة في أعناقكم. . لقد غالبت الموت حتى بلغت بها هذه القرية، قد حملتها فوق ما يطيقه إنسان، لقد جابت معي البلاد كلها من القسطنطينية إلى هنا، من القسطنطينية إلى زاكية في ست سنين لم نذق فيها ليلة هناء واحدة.

وأطبق عينيه وفمه. وسكت، وحاولوا أن يفهموا منه شيئا آخر فلم ينبس. واعترته حال غريبة لم اكن اعرف يومئذ ما هي، ولكني فهمت منها، ومن صوت الرجل الذي خرج خافتا رهيبا كأنه خارج من قبر، ومن وجهه الشاحب المخيف، وأنفاسه المتقطعة ولهجته الغريبة، انه ليس كمن أرى من رجال، وان له شأنا. . . ولكني لم استطع البقاء اكثر مما بقيت فعدت إلى الدار كيلا تضربني أمي.

وفي الصباح سمعت إن الغريب قد مات - مات ليلة قدومه كأنما قد طوف في بلاد الله هذا التطوف لينام إلى الأبد على هذه الحجارة السوداء، ويستمتع بحلم طويل اثر رحلة شاقة!

بقيت الطفلة وحيدة فكفلتها زوجة شتيوي، وكان شتيوي من شيوخ البدو المقيمين في هذا البلد. وكان غنيا موسرا، ولكن زوجه عاقر لم تأته بولد طيب صالح يعلمه الفروسية والرمي، ويستخلفه في أهله وماله، على الرغم من أنها راجعت الأطباء والمنجمين والمشايخ والمشعوذين في دمشق وفي قطنا، واصطنعت عشرات الأدوية والتمائم فلم ينفعها

ص: 62

ذلك كله فتيلا. فيئست. . . ولما كفلوها هذه الطفلة تلقتها بسرور. واتخذتها ابنة لها. . .

كانت الطفلة في التاسعة من عمرها يوم مات أبوها. فلم تلبت في بيت شتيوي سنين حتى نمت واكتملت، وغدت اجمل فتاة في البلد، ولكنها كانت غريبة عن نساء البلدة فهي شقراء، لها عينان زرقاوان، وجسم متناسق جميل، كأنما هي إحدى الفتيات اليونانيات اللاتي عرفناهن في حي المهاجرين في دمشق.

بل كأنما هي ديان، غادية إلى الصيد!

وكانت تجول كل يوم في هذه الصخور؛ لا كما يجول نساء دمشق إذ يمشين متباطئات متكاسلات نصف ساعة في طريق المنشية، أو في شارع بغداد، ثم يعدن في عربة، بل كما يجول الراعي النشيط ساعتين أو ثلاث تقفز فيها كما تقفز الغزال الشارد، كأن لها خفته وملاحته.

وكانت غريبة في طباعها وأخلاقها، كما كانت غريبة في شكلها، وصورتها، فلما اكتملت أنوثتها وتفتحت زهرة الحب في قلبها، لم نجد لها قاطفا، إذ لم يكن في الناس من يجرؤ على الزواج بفتاة لقيطة لا تعرف أسرتها ولا يعلم نسبها، فضلا عن إنها تقرأ، وإنها قد قرأت كل ما كان مع أبيها من كتب وحفظت ما فيها من كفر وترهات.

كانت الفتاة تعود إلى البيت حينما تعود الشمس إلى خدرها، فتملأ البيت طربا ومرحا، فلما كان ذلك اليوم الذي قلب عليها حياتها، لم تعد إلا في ظلمة الليل، وكانت تهبط الصخر بحذر تحمل شيئا ثقيلا حتى بلغت الدار فولجتها وقد أنهكها التعب، ولكنها كانت هاشة باشة ككل فتاة في السابع عشرة من عمرها، فوضعت حملها برفق على إحدى الأرائك، وقالت لامها في سذاجة:

هاك زوجي، وجدته طريحا عند الصخرة الشرقية. وقد أغمى عليه من هذا الجرح، ستعنين به اجمل عناية حتى إذا ما شفي تزوج بي. . . أليس كذلك؟

فهزت المرة رأسها وقد حدثها قلبها وقلب المرأة (ترمومتر) الحياة - بكارثة، ولكنها لم تجد مجالا للقول فانصرفت إلى العناية بالجريح - وكان ضابطاً ألمانيا جميلا قد خرقت صخرة قذاله وشجته شجا عميقا. ودعت المرأة زوجها فشرع يعالجه بالبلسم والحراقة وما إليها من الطرق البدوية التي قلما تخطيء في مثل هذه الحالات. والفتاة متعلقة به تسأله عن مبلغ

ص: 63

الأمل في شفائه، وترجوه ألا يدخر وسعا في معالجته، لأنها تود شفاءه ليكون لها زوجا، ولما تمت العملية ألقت المريض على سريرها. وألحت على الرجل وزوجه أن يدعا خدمته لها. ففعلا.

جثت أمام السرير كما يجثو العابد في صلاته. وراحت تتأمل وجهه وعينيه المغمضتين في ذهول عميق ونشوة غريبة. وتجرؤ أحيانا على مس شعره الأشقر المتهدل على العصابة مسا رقيقاً، كما يمس المرء شيئا يقدسه ويخشاه ثم تقبض يدها في سرعة. . .

نديدة! نديدة!

نعم يا بابا

ألم تنامي بعد؛ دعي المريض فانه لن يفيق من غيبوبته قبل الصباح

نعم سأنام

ولكنها لبثت جاثية أمام السرير

لبث الرجل وزوجه ينصحانها. يحاولان أن ينزعا غرس الحب من قلبها قبل أن يقوى ويشتد، فكانت تعرض عنهما وتعيد أبداً كلمتها الأولى: هذا هو زوجي.

مر على هذه الأمسية عشرون يوما لم تفارق فيها الفتاة الضابط ولم تعد تجول كما كانت ولم تعد تفكر في شئ. . . وكان الناس يتساءلون عن صلة هذا الإفرنجي الكافر بأسرة شتيوي، فإذا قيل لهم انه مريض وانهم يعالجونه. انصرفوا إلى أعمالهم ساخرين.

وصحا الضابط وذكر كيف خرج يتصيد فجره الصيد إلى هذه القرية، وكيف زلت قدمه فوقع من ذروة الصخرة، وأحس بالدم الحار يسيل على عنقه، ثم لم يعد يذكر شيئا. . . إلا انه فتح عينيه فوقعتا على عيني فتاة جميلة، حسبهما في الوهلة الأولى، عيني زوجته الفاتنتين الزرقاوين، وانه وجد نفسه على سرير نظيف محاطا بالعناية والعطف، وانه لبث ينظر إلى الفتاة في صمت وخشوع وشكران نظرات طويلة، ثم مد يده إلى يدها الرخصة اللينة فأخذها إلى فمه، ليخط عليها أول كلمة من القصيدة التي تضطرم بها نفسه، قصيدة الشكر للجميل، والشوق للجمال، وان الفتاة لازمته بعد ذلك ملازمة الظل، وحرصت على سروره وهنائه، فكانت تحدثه أطيب الأحاديث البدوية وألذها، فكان يجيبها بعناء ومشقة، لضيق العربية عليه، ويعجز ان يأتي بالكلمة المناسبة فيأتي بها بالألمانية فتفهمها الفتاة

ص: 64

وهي لا تعرف من الألمانية كلمة، كأنما هي في قلبه، أو كأنما هو - وذلك اصح - في قلبها، ولكن شيئا من ذاك لم يتجاوز في رأيه صلة المجاملة والمتعة بالجمال.

أما الفتاة المتفتحة للحب فقد كانت ترى في هذا كله علامة على الحب الصادق الذي كانت تتوق إليه وتحلم به. وقد ابتغى لها الضابط شتى المعاذير في هذا الموقف حينما اخبره به الشيخ شتيوي، وأعطاها كل الحق في أن تحب. أما أن تصر على اتخاذه زوجاً لها وهو الرجل الألماني المتزوج، وهو الموظف الذي لم يبق من إجازته غير أسبوعين. فأمر مضحك لم يستطع برغم احترامه لشتيوي وشكره إياه إلا أن يتلقاه بقهقهة طويلة مجلجلة.

ما هي جريرتي إذا هي قد أحبتني؟ لم أني أشجعها على هذا الحب. ولم اقطع لها أي وعد بالزواج. وما وقفت منها إلا موقف الرجل المهذب الشاكر. ففسرت ذلك بأنه الحب.

ولكنه تألم إذ يحمل إلى الفتاة التي حملت إليه البرء والحب الألم واليأس. وجرب الإعراض والإساءة إليها علها تنساه. وتنقطع هذه الصلة بينهما من غير أن تخلف وراءها قلبا داميا. فلم يفده ذلك شيئا، وازداد حب الفتاة اضطراما. فأزمع السفر مضطراً وأزف الوداع فتعلقت به وأبت أن تفارقه. وأعرضت عن كل نصيحة، ولم تنفع فيها موعظة ولا زجر. فاقتربت زوجة شتيوي من الضابط وهمست في أذنه كلاما فعاد طلقا مستبشراً. فامسك بيدي الفتاة بحنو وقال لها:

ساعود لأتزوجك. فدعيني اذهب لأعد عدة الزواج. سأعود. . . فتركته الفتاة مصدقة ووقفت على الصخرة التي لقيته عندها تبكي وتشير إليه بمنديلها حتى اختفى. فعادت إلى البيت تقول لامها:

لقد وعدني ان سيعود. سيتزوجني!

نعم سيعود!

مر شهران تصرّم فيهما صبر الفتاة. فكانت تمضي نهارها حيال خريطة قديمة كانت بين كتب أبيها تنظر فيها. وتحاول أن تعرف أين تقع ألمانيا من وجه الأرض، وكم هي المسافة إليها. ولكنها لم تكن تعرف شيئا عن البحار ولاعن الوسائط النقلية. فكانت تصوراتها لا تعدو أن تكون أحلاما مبهمة.

وكانت تبكي بكاء خافتا وهي مكبة على الخريطة. وتستعيد في نفسها صورة الضابط

ص: 65

وصوته وحركاته. ثم تعاود البكاء والنشيج، أما هو فقد نسيها. ولم يذكر اسمها إلا مرة واحدة. في كتاب أخرجه عن الشرق.

وقطعت المرأة حديثها لان الباب قد انفرج عن عجوز منحنية على عصا طويلة تصرخ صراخا مزعجا. وتهذي بكلمات مبهمة. ووراءها سرب من الصبيان يقرعون بأيديهم الحجارة ويصيحون مج. . مج. . مجنونة! مج. . مج. . مجنونة!

فلما نجت منهم، ألقت بنفسها على عتبة الباب، وجلست تبكي بكاء أليما. . .

فهمست في أذن ربة الدار:

من هذه المجنونة؟

إنها صاحبة القصة يا سيدي. .!

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 66

‌2 - شهر بالغردقة

للأستاذ الدمرداش محمد

مدير إدارة الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف

مدير المحطة الدكتور كرسلاند كما أسلفنا وهو عالم بيولوجي له خبرة حسنة بحياة المرجان وأجناسه وتطوراته، وهو في العقد السادس من عمره، طويل القامة، صحيح الجسم، وسيم الوجه، لطيف المعشر، إذا تكلم رفع صوته لثقل في سمعه، وهو جم النشاط تجده في المعمل، ثم تراه في المكتب، ثم تلقاه في الطريق، ثم تعثر عليه في الجراج، ثم تبصره في البحر، ثم تعلم انه في مركز الشركة ينظم وسائل نقل الماء مثلا، وهكذا فهو حركة دائمة تلقاه في كل مكان. ولعل من احسن فضائل الرجل حبه الشديد للمحطة ورضاه التام عن حالة العزلة التي يعيش فيها.

كان الجو طوال المدة التي مكثناها بالغرفة معتدلا، فلم تتعد درجة الحرارة في معظم الأيام درجة الثلاثين على الترمومتر المئوي، مع جفاف شديد في الهواء قل أن تجده على شواطئ البحار، ونسيم البحر دائم الانطلاق، وأحيانا يشتد حتى لينقلب في بعض الليالي إلى ريح عاصفة، تثير الأمواج وتهز البيوت وتقلق المضاجع.

وماء البحر بالقرب من الشاطئ دافئ لا يجد فيه الكثيرون ممن ألفوا الاستحمام في الشواطئ المصرية الشمالية متعة البحر ولذته، كما إن السباحة فيه أحيانا غير مأمونة العاقبة لوجود سمك القرش بكثرة في هذه الجهات.

كان الباعث للرحلة عمل مباحث واسعة النطاق على الطفيليات التي تعيش في اسماك البحر الأحمر، وقد استحضر معه الدكتور عبد الخالق بك جميع ما يلزم لهذا البحث من أجهزة علمية ومواد كيميائية، ملأت صندوقين كبيرين من الخشب، وعقب وصولنا وضع الدكتور الخطط الكفيلة بتحقيق الغاية على الوجه الذي أراده، فكان صيادو المحطة يخرجون كل يوم للصيد في قواربهم الصغيرة (الهورى) ويعودون بها عند بزوغ الشمس موقرة بأنواع السمك المختلفة بين صغير وكبير، وعند وصولها يستقبلها الدكتور ومساعدوه، ويشرعون في الحال في ترتيبها إلى فصول ثم تشق بطونها وتفحص محتوياتها بالمجهر بالعناية والتدقيق وطول الأناة التي يستلزمها البحث العلمي.

ص: 67

وكانت هذه العمليات المتشعبة وما تستلزمه من كتابة أسماء وتدوين مشاهدات، وضبط أسماء الأنواع وقيد الصفات ورسم الأشكال وحفظ العينات والنماذج، تستغرق اليوم كله، وأحيانا شطرا من الليل، ومع تشابه هذا العمل وتكرار اليوم بعد اليوم فأنه لم يزد الدكتور إلا إمعانا في البحث، وتوافرا عليه من غير كلل أو ملل، فيذهب إلى معمله مع بزوغ الشمس. ولا يفارقه إلا إذا خيم الظلام، وكثيراً ما كان يعود إليه بعد العشاء، مستضيئا بنور شمعة أو مصباح ضئيل لأكمال بحث النهار: همة عالية تدلك على أن الشهرة العلمية لا تأتي الناس عفوا، بل هي غالبا نتيجة الكد والمثابرة والتدقيق والاستقصاء.

3 -

اسماك البحر الأحمر

اشتهر البحر الأحمر منذ القديم بالغنى في أنواع للسمك وأجناسه ومقاديره، فهناك في بطن الماء ثروة هائلة لمن يسعده الحظ فيكشف عن وسيلة للتغلب على شعب المرجان التي تحول حتى الآن دون استغلال هذا المورد الخصب استغلالا واسع النطاق.

أما عن الأنواع والأجناس فتبارك الله مبدع الكائنات: سمك صغير رقيق بطول العقدة، ووحش بحري هائل، بطول أربعة امتار، وسمك عريض الفك جاحظ العينين مبطوط الرأس، وآخر استطال فمه كأنه الحربة غارت عيناه وبرزت وجنتاه، وسمك ناصع البياض مع تناسب في الوجه ورشاقة في القد حتى كأنه شركسية من أهل الشمال، وآخر اسود الجلد غليظ الوجه ضائع الشكل حتى كأنه زنجية من خط الاستواء، وسمك مقوس الظهر مدكوك الرأس حتى كأنه القزم، وسمك ممشوق القامة طويل الذيل ممطوط الرأس حتى كأنه العملاق، وسمك رفيع طويل كأنه الثعبان وآخر ممدود الرأس مجنح الزعانف كأنه الطير، وسمك كالصندوق شكلا وهيئة، وسمك على شكل الفرس القافز، وآخر على شكل قطعة من الصخر في اللون وعدم الانتظام، وسمك احمر ذهبي واصفر واخضر وازرق واسمر، وسمك مخطط بخطوط سوداء وبيضاء أو سوداء وصفراء، أو حمراء وزرقاء، أو جمعت هذه الألوان بالطول أو بالعرض، وسمك هادئ وديع، وآخر هائج عنيف، وسمك سام يلسع بإبرة مثبتة في جسمه أو على ظهره أو في طرف ذنبه كأنه العقرب، وبعض هذه الأنواع مسلح بزوج من هذه الإبر واحدة على كل جانب، وسمك يغطي جسمه زغب صغير سام من مادة صلبة كأنه الشوك وهكذا، وقد عددنا من هذه الأشكال مائة وخمسين نوعا وهو

ص: 68

قليل من كثير يقطن الأبعاد والأعماق، ولهذه الأنواع أسماء دارجة يعرفها الصيادون، وقلما يخطئون في التمييز بينها مع وجود تشابه كبير بين بعض هذه الأنواع. وهاك بعض الأسماك التي تعيش في منطقة الغردقة بالقرب من الشاطئ نذكرها على سبيل المثال لا لغرابتها فحسب بل لدلالتها: الحجم والجلخ والبشراكة والمعجبية وشك الزور والقضبة والدراك والبومة والسيبيا.

ومن العجيب أن اكثر هذه الأنواع تفقد ألوانها البراقة الجميلة بعد إخراجها من الماء بقليل وتصطبغ بلون اسمر قاتم - وسمك القرش اكبر حيوانات المنطقة واشدها بأسا، وهو كبير الرأس عظيم الجسم واسع الفم حاد الأسنان تهلع من رؤيته الأسماك ويخافه الصيادون، ومنه نوع يهاجم الإنسان ويحاول اختطافه، وربما ينهش منه ساقا أو ذراعا - ومن الغريب ان سمكة صغيرة بطول القدم تعيش طفيلية عليه فيحملها على رأسه لاصقة بجلده تتغذى من فضلات طعامه وهو بذلك راض مسرور.

(4)

في حقول المرجان

يفاخر الدكتور كرسلاند بحديقته المرجانية ويشيد بذكرها ويشوقك لزيارتها فكنت أصغي لوصفه الشعري وأنا بين الشك واليقين إلى أن رأيت حديقته بل بساتينه بعيني فقلت في نفسي تالله لقد قصر الرجل، فحديقته اجمل وأبدع مما وصف:

ركبنا (لنش) المحطة صباح أحد الأيام فخرج بنا إلى عرض البحر على مسافة أربعة كيلومترا، ثم وقف بنا أمام جزر متتابعة متلاصقة عنها فجوات كأنها بحيرات، ويغطي سطح الجزر ماء البحر على عمق قليل، فنزلنا من اللنش وأخذنا نخطو فوقها ونحن غائصون في الماء إلى ما فوق الركب، وبعد سير شاق فوق العشب لم يتجاوز بضع دقائق وصلنا إلى شاطئ غاطس تتكسر فوق حوافيه أمواج البحر بشكل يهيج يسر الخاطر، وبعد خطوات أخرى أشرفناعلى جرف مواجه للأمواج يغوص في الماء بأنحدار، ولم تكد تقع عيوننا على سطح المنحدر حتى أرسلنا صيحات الدهش والتعجب: منظر ملك علينا المشاعر، فقاع البحر قد كسته لمسافة كبيرة خمائل كثيفة ذات الوان زاهية جميلة بين حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء وسمراء، وقد امتدت على الجوانب وفوق المرتفعات وبين الصدوع على أشكال متباينة متآلفة تخالها خمائل الأزهار في بستان الأمير وقت

ص: 69

الربيع.

يتبع

الدمرداش محمد

ص: 70

‌النقد

كتاب النثر الفني في القرن الرابع

تأليف الدكتور زكي مبارك

للأستاذ أحمد أمين

إن كان أخي (المازني) قد استطاع بلباقته أن يكتب عن هذا الكتاب مقدمة بلا موضوع، فلا حاول في مقالي هذا - لموازنة - أن اكتب عنه موضوعا بلا مقدمة، وان هو وقف الكلام عند محاولته أن يأخذ الكتاب من المجلد، فلأصل ما قطع واكتب من حين تسلمت الكتب من المجلد.

أول ما يطالعك من الكتاب شكله وحجمه، فيعجبك شكله، ويبهرك حجمه، وما ظنك بكتاب طبع في دار الكتب على ورق جميل في جزأين يقعان في نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؟

ثم المقدمة، وفي الحق أنها لم تعجبني كثيرا، فقد تحدث المؤلف فيها عن نفسه طويلا (فالكتاب أول كتاب من نوعه)(والكتاب أول منارة أقيمت لهداية السارين في غيابات لك العهد السحيق)(والمؤلف أول من كشف النقاب عن نشأة النثر الفني في اللغة العربية وقهر المستشرقين ومن لف لفهم) وهكذا يمضي المؤلف في تعداد أولياته وهي طريقة لا استحسنها ولا أستسيغها، وأظن أن كثيرا من القراء لا يستحسنونها كذلك ولا يستسيغونها، فخير للمؤلف أن يتوارى وراء ما كتب، ويدع الناس يحكمون له أو عليه لا أن يتقدم هو بالحكم لنفسه، ويقطع الطريق على القراء والنقاد، ويعجبني في ذلك ما نقله المؤلف عن نفسه في ثنايا الكتاب عن أبي هلال قال (ومن صفات الشعر التي يختص بها دون غيره أن الإنسان إذا أراد مديح نفسه فانشأ رسالة في ذلك أو عمل خطبة فيه جاء في غاية القباحة، وان عمل في ذلك أبياتا من الشعر احتمل) نعم إن المؤلف لم يرتض هذا الرأي، وأباح إذا جرى مجرى الدفاع والمفاخرة، ولكن الكتاب ليس موضوع دفاع ولا مفاخرة، وإنما هو موضوع تقرير لحقائق يراها ويعرضها على القراء، ثم قد يخالفونه فيها وقد يوافقون، وقد يقدرونها تقديرا عاليا وقد لا يقدرونها. وعلى كل حال فلهم القول الفصل لا

ص: 71

للمؤلف، فمن المؤلفين من لم يعجبهما ألف ولم يرقه ما كتب، وإنما كتب الخلود لما قدره الناس لا ما قدره المؤلف - شعر المؤلف بذلك وأراد أن يعتذر عنه (بأنها ثورة نفسية، انطقه بها ما رآه في زمانه من غدر وعقوق) ولكن هل هذا القول يداوي الجرح ويبرئ المرض؟ أخشى أن يحمل الناس على الإلحاح في العقوق والإمعان في الغدر، لان النفس مولعة أبدا بكراهية الحديث عن النفس، ومن طبيعتها أن يحملها إمعان المادح في مدح نفسه على إمعانها في التنكر له وجحد فضله، بل أخشى أن يكون هذا بعينه هو السبب في الغدر والعقوق، فقد اعتادت النفوس ان تقابل الإفراط بالإفراط والغلو بالغلو.

إن يكن المؤلف قد خانه التوفيق في المقدمة فقد صحبه إلى درجة كبيرة في الكتاب، فهو نتيجة مجهود صادق وبحث طويل شاق، أتي فيه بالمقدمة في الموازنة بين الشعر والنثر، ثم تطور النثر من عصر النبوة إلى القرن الرابع، وتكلم في نشأة النثر الفني، والسجع واطواره، وخصائص النثر في ذلك العصر وانواعه، ثم اشتهر الكتاب في كل نوع ونماذج من كتابتهم، وتحليل لأثارهم.

وطريقة بحثه في كل ما بحث سليمة، جارية على الأسلوب الحديث في العرض والنقد واستقصاء ما في الوسع في الرجوع إلى المصادر ومقارنة بعضها ببعض، والشجاعة في إبداء الرأي، والقارئ قد يخالفه في بعض ما قالوا يرى رأيا غير ما ذهب إليه، ولكنه على كل حال يقدر ما بذل المؤلف في تكوين رأيه وتأليف حججه. ثم هو قد وفق إلى آراء جديدة له الفضل في استكشافها ولفت النظر إليها، وآراء صقلها وعرضها في حلة جديدة. وإني إن احترمت الكتاب من الناحية العلمية والعقلية، فإني ناقده من جهة الذوق، وذلك أن الدكتور زكي مبارك كلما رايته أو استحضرت صورته، أشع علي معنى غريبا يصعب تصويره، وربما كان اقرب تصوير له رجل يمسك بيسراه كتابا قيما فيه علم غزير، وأدب وفير، وبيده اليمنى عصا اشهرها، ثم هو يطلع الناس على ما في كتابه من طرف فمن هم أن يفتح فاه بنقد أو مخالفة قنعه بما في يمناه، بل قد يؤمن من الناظر بما يعرض عليه، فلا يعجبه الاستسلام وهذا الإيمان فلا يزال يهيجه حتى يبدأ بالمخالفة أو يظن انه سيبدأ بالمخالفة فيشهر عليه العصا، بل قد يكون السالك على علم بذلك فيتنحى عن كتابه وعن عصاه ويتنحى ناحية أخرى فيسرع الدكتور ليسد عليه المسلك ويأبى أن يفسح له الطريق

ص: 72

حتى ينظر في الكتاب، فإذا نظر فالنتيجة محتمة، وإذا لم ينظر فالنتيجة هي هي ايضا، وهي العصا.

هذا ما كان يشعه على الدكتور زكي، فلما قرأت كتابه النثر الفني تأكد هذا المعنى وتجسم، وما ادري أقرأت الكتاب بهذه العين التي تكونت، أو قرأته محايداً وقراءته زادت هذا المعنى وضوحا.

تجلى هذا المعنى في انه يعرض آراء قيمة وأفكارا عنى بدرسها ثم إذا به يطفر فيحتك بمؤلف أو كاتب فلا ينقده نقد عالم لعالم ولكن نقد مصارع لعالم. إن شئت فأنظر إليه وهو يعرض لرأي الأستاذ مرسيه - أستاذه وشيخ المستشرقين في فرنسا - إذ يقول (وهناك رأي مثقل باوزار الخطأ والضلال وهو رأي المسيو مرسيه ومن شايعه) ثم تقرأ رأي الأستاذ مرسيه ومن شايعه، فإذا هو رأي جدير بالاحترام باعث على التفكير، صالح لحسن التقدير، وهبه كان رأيا سخيفا وفكرا تافها، وقولا لا يؤبه له، فليست هذه لغة العلماء في النقد، ولا طريقتهم في الرد.

نعم قد يكون نقدهم في بعض الأحيان لاذعا، ولكنه - على كل حال - يصاغ بلباقة، وقد جرى المؤلف على هذا السنن مع الأستاذ مرسيه وغيره مما لا شأن لنا بتفصيله، ومما يزيد الأمر عجبا انه شديد قاس في بعض النقد - كما رأيت - ولطيف لبق في البعض الآخر، ولا ندري من الناحية العلمية لم كان لطيفا لبقا هنا، وقاسيا صارما هناك، فقد قلبنا الأمر على وجوهه فلم نجد ذلك يرجع إلى قوة رأي مخالف وضعفه، ولا قوة الحجة وضعفها، إلا أن يكون لشيء غير الرأي وغير العلم وهذا ما لا أدريه.

كذلك آخذ عليه أشياء لم تتفق والذوق قرأتها فضربت أذني وانقبض خاطري. مثال ذلك ما جاء في صفحة 9 و 13 وذيل ص 60 و 61 وذيل 65 الخ.

ثم هندسة الكتاب لم تخل من نقد ولم يشع فيه التناسق، فحجرة صغيرة وحجرة كبيرة، بل وحجرة لم تكن كان يجب ان تكون، وباب كبير وباب صغير، وقد يكون هذا معقولا إذا دعاه الحال واقتضاه المقام، ولكن لم يكن كذلك في هذا الموقف، فقد تحدث مثلا عن المقامات ونشأنها فأفاض وانفق عن سعة، ولم يحدثنا كثيرا عن رسائل إخوان الصفا ونشأتها. قد يتبادر إلى الذهن انه عنى بالمقامات لأنها الصق بالأدب، ولم يعن برسالة

ص: 73

إخوان الصفا لأنها ادخل في الفلسفة والعلم، ولكنه في الكتاب تعرض للأسلوب العلمي كما نعرض للأسلوب الأدبي. على أن في رسائل إخوان الصفا نواحي أدبية عديدة اقر بها المؤلف فأقتبس منها رسالة الإنسان والحيوان، وقد اعتذر عن ذلك بأن الباحثين أطالوا فيها القول قديما وحديثا، وهو عذر لا نوافقه عليه بحال، فمجال القول في إخوان الصفا ذو سعة. وإلى الآن لم تبحث الرسائل بحثا وافيا، ولم يقل فيها ما يشفي النفس ويثلج الصدر.

وفيما عدا ذلك فالكتاب قيم، يقف القارئ على أشياء كانت دفينة، وآراء نظمت كانت شتيتة، ويلفت نظر الشباب إلى جمال في الأدب العربي كان قد عفى عليه الزمان، ويعبر عن ذلك كله بلغة العصر فيقربه من نفوسهم، ويحببه إلى أذواقهم، ويفتح أبوابا لبحث العلماء وتفكيرهم فله على ذلك الشكر.

شهرزاد

رواية للأستاذ توفيق الحكيم

كلمة تحليلية بقلم: عبد الرحمن صدقي

هي تحفة فنية أخرى للأستاذ الحكيم. وهي أدق في ذوقها الفني وارق، وهي ارهف في الحس والطف، وجوها الشرقي أمتع منظرا وأوقع سحرا، وروحها الصوفي اعرق تأصلا واعمق سراً.

ونحن نعرف الأميرة شهرزاد، تتمثل فيها عبقرية القصص وروح السمر، ونتمثلها بأحاديثها المشوقة المتنوعة الأفانين، وحكاياتها الممتعة التي لا ينضب لها معين، بين يدي الملك الآسيوي شهريار وقد تحجر قلبهوغلظ طبعه، تتنقل به ليلة بعد ليلة مأخوذا مدهوشا من قطر إلى قطر في أجواء شتى وآفاق سحيقة، من أنحاء فارس، إلى بلاد الصين أو الهند العجيبة، إلى وادي مصر الخصيب، بين أجناس البشر المختلفة الألوان، وبين طبقات المجتمع ونماذج الأفراد على تفاوت الطبائع والدرجات، من ملوك ومماليك، وسراة وصعاليك، وتجار وحمالين، وصاغة وصيادين، ومقاحيم يجوبون القفار ويركبون أهوال البحار، وفوق ذلك بين عناصر طبيعية وغير طبيعية، إنسية وجنية. رحلة كقصيدة (الاوديسة) شائقة طويلة، طافها الملك شهريار وهو في المقصورة مضطجع يصغي إلى

ص: 74

شهرزد في كل مساء في ألف ليلة وليلة.

هذه الرحلة المعهودة للملك شهريار، لم يعرض لها مؤلفنا العصري. وإنما خلص منها رحلة باطنة للرجل شهريار، هي رحلة النفس تحركت فجازت أطوارا بعد أطوار.

فلقد كان شهريار عبد الجسد يبني كل ليلة بعذراء يستمتع بها وفي الصباح يقتلها، وكذلك كان ليلة استقبل شهرزاد يشتهي منها المتعة بالجسد الغض. حتى إذا سمعها تحدثه حديثها الساحر الممتع وتفتح له خزائن القصص والخيال والشعر، تفتحت مغاليق قلبه الموصد وتحرك جامده وارتجفت نياطه، فإذا هو يحبها وإذا بهذا الجسد الشهواني يحبها حب القلب والوجدان. غير أن نار العاطفة بدورها لم تلبث مشبوبة طويلا حتى تصفت إلى نور هادئ شاحب، فإذا هو لا يأمن للشعور بل ينشد المعرفة، وإذا به لا يريد لوقفة عند الظواهر والاعراض، بل الغوص إلى الجوهر ولب اللباب، ولا يريد الاحتباس في الحدود الضيقة بل الانطلاق، إلى حيث لا حدود، فهو فكر محض يجوله التأمل النظري والتجريد الفلسفي.

وهذه الأطوار النفسية الثلاثة التي اتفقت لشهريار على إناء متفرقة، يجلوها أيضاً المؤلف على مسرح قصته في آن واحد موزعة على شخوص ثلاثة: فهذا العبد اسود اللون وضيع الأصل قبيح الصورة رمز للشهوة الحيوانية، تلقاه شهرزاد في حلك الظلام، وتلزمه ألا يطرقها إلا خفية مع الليل، وتستكره معه العلن وتحذوه من أن يدركه الصباح فيقتل. وهذا الوزير الفتي، مثال الجمال في الخلقة والخلق، يحب شهرزاد كما يحب رجل جميل امرأة جميلة، فهي معبودته لا عشيقته، وقد بلغ التسامي بعواطفه منتهاه، فلم يعد غير قلب شاعر. وهذا الملك قد أفادته حكايات شهرزاد حبرة، وكشفت لبصيرته عن أفق للتأمل بلا حد، ونقلته كالطفل من طور اللعب بالأشياء أو التعبد لها إلى طور التفكير فيها، فهو اليوم فكر شارد أبداًينقب عن الكنه ويطلب المجهول:

أما شهرزاد فهي كالطبيعة لا رفيع عندها ولا وضيع، وهي كالطبيعة تتراءى لهؤلاء الثلاثة فيرى كل فيها مرآة نفسه. فهي عند العبد حس مادي ولذة مشبعة، وهي عند الوزير مثال أعلى للجمال قلبا وقالبا، وهي عند الملك سر عميق ينطوي على نواميس خالدة تجري على مقتضاها حركات الحياة وسكناتها ويتحدى لغزها المعرفة.

ومن عجائب الاتفاق إن هذه المعاني التي اقتضت القصة الرمزية اجتماعها في شهرزاد،

ص: 75

لها سندها المفعم في الحكاية الأصلية:

فشهرزاد إلى كونها مثل غيرها من بنات حواء تخضع لمطالب المرأة الجسدية. فأنها ابنة وزير، كريمة المحتد، كما يدل اسمها نفسه في الفارسية، وقد شاء لها طيب أرومتها أن تتقدم طواعية ليتزوج منها الملك الغشوم قاتل زوجاته، وان تجعل مختارة جيدها الغض عرضة لسيف جلاده، مفادية بحياتها على ضعف الأمل إنقاذا للعذارى من هذا الحيف الراصد لهن. ثم هي لا محالة بطبيعة التربية في القصور ذات ثقافة عالية، وحذق لفنون الأدب والشعر، وعلم بالتواريخ ومضارب الأمثال والعبر. فليس هنالك تجوز معتسف في تصويرها جامعة للجسد المنعم النضير والقلب الفياض بالشعور والفكر الواعي المحكم بالتدبير.

ولقد احتاط المؤلف لرموزه هذه من ان تظهر مجرد رموز متحركة تشخص لما وضعت له في خطى آلية وعزيمة صماء حديدية:

فأضفى عليه مخايل الأحياء من تردد وتشكك، ونوبات ضعف وانتكاس، لما هو مركب في الطبيعة البشرية من العوامل المتضاربة، والدواعي المتداخلة، بحيث إذا صحت الغلبة لإحداها فأن المغلوبة لا تنعدم، بل لها في النفس بين الفنية والفنية تخبط المقيد، وانتفاض المضغوط عليه. فترى الوزير وان كان في حبه للملكة شهرزاد عذريا طاهرا يحفظ لصديقه الملك غيبته، ويرعى حرمته، ويذكر مودته، فانه ليضطرب اشد الاضطراب عند خلوتها به، كما يسوؤه أن تعطف على صديقه وزوجها ايسر العطف ويتجرع المرارة من غيرته الخفية. كذلك ترى شهريار وقد باشرت الحسيات حواسه حتى مل جوارها، وتشبعت بالعواطف مشاعره حتى لفظها ومجها، وتعالى عن كل ما هو حس وشعور يعود في فترة يأس من المعرفة إلى شهرزاد، يسكر عطشه من كأس ثغرها اللؤلؤي، ويستظل من رمضائه بعناقيد غدائرها المتهدلة، ويوسد رأسه المتصدع حجرها، ويريدها على ان تنشده شعراً، أو أغنية، أو تقص عليه قصة.

وما تبدلت الرموز غيرها من اجل هذا، وإنما هي عوارض من إمارات الضعف البشري، ثم تستأنف هذه الرموز البشرية سيرتها المرسومة، ودرتها المقدورة في افتنان وروعة.

ولقد اختار مؤلفنا للقصة بداية اصلح منها مدخلا للراوية من حيث تهيئة الجو والدلالة على

ص: 76

المعنى. فثمت طريق قفر والليل حالك، وإلى ناحية منزل منفرد على بابه مصباح مضيء. وفي هذا الموقف يقفك المؤلف على سحر الساحر، وضعف الجسد، وسطوة الشهوة باللمسات الأولى من ريشته:

الساحر (يقود جارية إلى المنزل): ماذا يقول لك هذا الغريب الأسود؟

الجارية: يسألني عن سر فرح المدينة، فأجبته هو عيد تقيمه العذارى للملكة شهرزاد.

الساحر: وما لفرائصك ترتعد؟

الجارية (همسا): لست ادري!

الساحر: ألم أحذرك أن تقربي هذا العبد الهرم، فأن في عينيه نظرات الفجرة؟

الجارية (همسا): ليس هرماً

الساحر: بم تهمسين كمن به مس؟ هاتي يدك ولندخل. لعلك ارتعت من فبح هذا الرجل؟

الجارية (همسا): ليس قبيحا

(يدخلان المنزل. يظهر العبد يتبع نظراته الجارية. . .)

العبد: ما اجمل هذه العذراء! وما اصلح جسدها مأوى!

صوت (من خلفه): مأوى؟ أللشيطان؟ أم للسيف؟

العبد (يلتفت): أهذا أنت؟

الجلاد (يظهر): عرفتني

ثم لا يطول بك الانتظار في هذا الموقف بمسمع من هذه الكلمات المتقطعة المتبادلة حتى تعلم كل ما طرأ على حياة شهريار الذي كنت تعرفه، من تغير بعيد الأثر، وما يحيط به اليوم من ملابسات وظروف، وحتى تتسلم بين أصابعك أطراف خيوط القصة جميعها، وتتابع في لذة مشوقة حركات نسجها سداة ولحمة.

وترى كيف يعارض حائك القصة بين شهرزاد وقلب الوزير المتأجج في منظر، وبينها وبين عقل الملك السابح في زرقة أحلامه الصافية في منظر، ثم بينها وبين العبد الأسود في منظر. وهو في خلال هذه المناظر وما بينها يداول الخيوط المختلفة الأصباغ فيخرج لنا منها نسيجا خسرواني الوشى، ساحر الألوان كقوس الغمام. حتى إذا أزف الختام أبى المؤلف (الحكيم) على العبد قتله استرخاصا له وكرامة للمنية أن تكفر عن خسته، بل ادخر

ص: 77

المصرع الفاجع للوزير الذي ضاق الواقع عن قلبه الكبير، أما شهريار فقد ذهب في سفر بعيد مجهول.

ولئن كان المؤلف قد نحا نحو الرمزيين في قصته، إلا انه لم يصنع منها لغزا مغلقا ولا شبه مغلق، ولا هان عليه أن يترك رموزها على قرب منالها وقلة تعويضها - للقراء، وبخاصة الذين ألفوا نحوها في التأليف الغربية ليستنبطوا استنباطا، بل اثر ان ينص على تفسيرها نصا في ظهر سطوره أثناء الحوار، فلا يدع لأحد دون فهمها على وجهها حجة.

وقد اصطنع صاحبنا ما يصطنعه أهل مذهبه من أساليب العرض والكتابة. فشخوصه معروفة النظائر في الواقع، ولكنها تبدو لعياننا من مادة اشف من مادتنا، وتروح وتجئ في جو أخف مما نعيش فيه. فكأنما هي من عالم الأحلام نحسها بالحس الباطن، وكأنها لا تتحرك بمحرك فيها من إرادتها بل تحركها قوة مستعلية عليها خارجة عنها، فهي مسوقة من حيث لا تدري إلى حيث لا تدري ولا طاقة لها على التوقف والمغالبة. ثم هنالك السحر والكهانة، والفلتات المنبئة، وأحاسيس النفس السابقة المؤذنة بوقائع غامضة لاحقة. وهذه جميعا مفرغة في سياق شعري يتمشى فيه النغم، وتنتظم الموسيقى نسقه من مبدئه إلى منتهاه، ويعتمد على الإشارة المقتضبة والتلبيس ويتجنب البسط والتقرير، وتتكرر فيه العبارة الواحدة مرات وتكثر فيه الكلماة البارعة والكنايات المحجبة.

شهرزاد: أترى شيئا في ماء هذا الحوض. أليست عيناي أيضاً في صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرا من الأسرار؟

شهريار: تبا للصفاء وكل شئ صاف. . .! لشد ما يخيفني هذا الماء الصافي. .! ويل لمن يغرق في ماء صاف. . .!

شهرزاد: ويل لك يا شهريار

شهريار: الصفاء. . .! الصفاء قناعها

شهرزاد: قناع من؟

شهريار: قناعها هي، هي، هي. . .

شهرزاد: إني أخشى عليك يا شهريار.

شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء. السماء صافية، الأعين صافية، الماء الصافي،

ص: 78

الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف! ما بعد الصفاء؟؟ إن الحجب الكثيفة لاشف من الصفاء!

فلنسجل إذن لمؤلفنا المسرحي النجاح مرة أخرى مغتبطين، ولنردد قولنا فيه واثقين (هذا الفتى فنان حتى أطراف أنامله)

عبد الرحمن صدقي

اتحاد الممثلين

لناقد (الرسالة) الفني

في مساء السبت الماضي ابتدأ اتحاد الممثلين، عمله على مسرح الهمبرا برواية (هرناني) لفكتور هيجو وترجمة الأستاذ خليل مطران، وهي من الروايات الأنموذجية التي ترجمت تحت إشراف وزارة المعارف.

وقد ذكرنا في كلمتنا عن (مديري الفرق والممثلين) إن اتحادا قويا متنا تألف من بين ممثلي الدرام في مصر، من الأكفاء الذين شهد لهم الناس بالمقدرة، وتقدموا للجنة تشجيع التمثيل في وزارة المعارف يعرضون عليها تحت إشرافهاوبالشروط التي ترتضيها. وذلك بعد إن فشلت الجهود التي بذلت مع مديري الفرق، وبعد أن تعنت هؤلاء مع اللجنة وأرادوا ان يملوا عليها شروطهم.

ذكرنا هذا واهبنا باللجنة أن تنتهز الفرصة السانحة فتمد يدها حازمة قوية لهذا الاتحاد وترحب به ولا تضن عليه بالمساعدة المادية التي يستحقها. ويسرنا أن اللجنة كانت عند حسن ظننا بها، وان كلمتنا وجدت منها آذانا صاغية، فقررت ان تمد يدها إلى هذا الاتحاد في سخاء وكرم، وان تعينه على العمل في خطاه الأولى فوضعت تحت تصرفه بضع مئات من الجنيهات يعد بها الوسائل الضرورية ليبدأ العمل على بركة الله.

واتحاد الممثلين اليوم لا ينقصه الرجال الأكفاء ولا المخرج النابه. ولا المال المعين، ولا يعوزه تعضيد الصحافة وتشجيع الكتاب والنقاد، وبالجملة وفرت كل وسائل العمل التي تكفل النجاح فالاتحاد يحمل عبئا عظيما ومسؤولية خطيرة أمام هذا البلد وان الأنظار لترعاه من كل مكان تترقب خطاه وتنظر ماذا هو صانع بالأمانة التي رضي بحملها وبالثقة التي وضعت فيه وبالآمال العريضة التي نيطت به فهو لا ريب الأمل الأخير في إنعاش

ص: 79

المسرح في مصر وإنهاضه إلى المستوى الجدير به. وإنها لتجربة لها ما بعدها، فإن فشلت فليس لنا ألا أن ننفض الأيدي جميعا من المسرح ونتركه للقدر يبعثه حين يشاء، في جيل غير هذا الجيل، وما نتحدث عنه بعد اليوم أن تحدثنا إلا كما نتحدث عن عزيز قضى، أو حلم تبدد.

لو تحقق النجاح لهذه التجربة لسارت القافلة على بركة الله إلى غاية الطريق، ولا استطعنا أن نطالب الوزارة بمزيد من المعونة. ثم لعلنا ننتهي إلى لفت الأنظار إلى العناية بالفن عناية مجدية فتكون لنا الفرقة الرسمية، ويكون لها مسرح خاص مزود بأحدث مبتكرات الإخراج المسرحي، ويقوم فيه معهد الفن من جديد لتلقي أساليبه ودرس وسائله، وتنهض بكل هذا ميزانية من آلاف الجنيهات كما هو الحال في سائر الممالك الحية وتنشط حركة التأليف وتخرج الرواية المصرية إلى النور، وترفع عنا وعن المسرح هذا الخمول الذي نعانيه.

بقي أن نقول أن الاتحاد خطا خطوة طيبة بطلبه من الأستاذ زكي طليمات أن يتولى إخراج رواياته وقد لبى الأستاذ طليمات هذه الدعوة بصدر رحب ونفس مطمئنة.

إن المسؤولية الكبرى التي يحملها الاتحاد إنما يحمل العبء الأكبر فيها فناننا النابه، وهذه المادة التي بين يديه مادة ثمينة في يد الصناع الماهر، ولا شك إننا سنلمس اثر جهوده واضحا، وسنكون سعداء إذ نتحدث إلى قرائنا عن هذا الجديد الذي بتنا نرقبه طويلا.

سينجح فأننا وسيكتب له الفوز، وستخفق لنجاحه وفوزه قلوب، بعضها من الفرح وبعضها من الحسد، قلوب تفرح لأنها ترى المسرح ينهض ويشتد عوده بعد أن طال احتضاره وركوده، وقلوب تتآكل ألماً لان هذا النجاح يفوت عليها كثيرا من المآرب الشخصية والمنافع العاجلة أو يقضي على ادعاءات كانت تصك بها مسامعنا طوال هذه الأعوام.

محمد علي حماد

ص: 80