المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 390 - بتاريخ: 23 - 12 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٩٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 390

- بتاريخ: 23 - 12 - 1940

ص: -1

‌إلى رجال الجامعة ورجال المعارف

كلمة صريحة

لكاتب كبير

لقد هدأت الفورة التي ثارت في صدور طلبة الجامعة المصرية بمناسبة تفكير الوزارة في رفع درجات النجاح في الامتحانات وهي فورة لم يكن لها موجب، لأن من واجب الطلبة أن يرتاضوا على المصاعب، وأن يظهروا بمظهر التحدي الجريء لمتاعب الدرس والتحصيل.

ولكن هناك فورة منتظَرة، فورة حميدة العواقب، لأنها ستصدُر عن الأساتذة لا عن الطلاب؛ وفورة الأساتذة لا تعرف مغاضبة الشرُّطة، ولا تفكر في تحطيم المصابيح، وإنما هي فورة يقع فيها التصادم بين الأفكار والعقول.

ولكن متى يقع ذلك التصادم فنسمع أن فريقاً من الناس رجعوا إلى ضمائرهم فأدركوا أن لهم (فضلاً) عن زعزعة التعليم الابتدائي والثانوي، وأنهم مسئولون عن المصير الذي لا نجاة من شره إلا برفع درجات النجاح في جميع الامتحانات؟

لو ملكتُ حرية الخروج على الذوق لطوّقت رجال الجامعة ورجال المعارف بأطواق من حديد، وكيف وأنا أخاطب أقواماً تؤذيهم خطرات النسيم، ويرون النصحَ - وإن لطُف - ضرباً من التمرُّد والثورة على مقاماتهم العالية؟

وأنا مع ذلك سأحاول تذكير تلك المقامات بما اجترحتْ في ميدان واحد هو ميدان اللغة العربية، فاسأل في ترفّق وتلطّف:

من المسئول عن قصّ حواشي منهج اللغة العربية، بحيث صار من المؤكد أن تلاميذ المدارس الابتدائية قبل عشر سنين كانوا يعرفون من القواعد أضعاف ما يعرف تلاميذ المدارس الثانوية في هذه الأيام؟

ولأي غرض كثُر التغيير والتبديل في ذلك المنهج؟ وبأي حق جاز أن يظفر الشاب بإجازة الدراسة الثانوية، وهو لا يملك القدرة على تشريح فقرة واحدة من الجهات النحوية والصرفية والبلاغية؟ ولأية غاية تدرس اللغة العربية في المدارس إذا كان من حق كل تلميذ أن يجهل من قواعد اللغة ما يشاء؟

ص: 1

ثم قيل: إن كلية الآداب أطالت التأسف والتحسُّر على مصاير التعليم الثانوي، وإنها فرضت على وزارة المعارف أن تكف يدها عن ذلك التعليم لتطبّ له بالأساليب الجامعية المصرية فتصيّره غاية في القوة والعافية.

فماذا صنعت كلية الآداب وقد زعمت أنها تقدر على ما لا تقدر عليه وزارة المعارف من إحياء الموتى وهي رَميم؟

أشارت بالاستغناء عن الواجبات التحريرية في النحو والصرف والبلاغة لتنقلب الدروس إلى محاضرات (!) وأشارت أيضاً بأن يُترك المدرسون لضمائرهم فيما يأخذون وما يدعون (!) ولم يبق إلا أن تشير بحرية المواظبة لتتمَّ (النعمة الجامعية) على أولئك التلاميذ!

فإن قيل: وأين وزارة المعارف؟ فأنا أجيب بأن وزارة المعارف موجودة بالفعل، وإلا فمن الذي يوزع المنشورات التي تصدرُ عن كلية الآداب (وتوزيع المنشورات يحتاج على رجال!).

وهنا أذكر شيئاً من التناقض المزعج، أذكر أن كلية الآداب قد توفَّق إلى خاطر طريف يحبِّب التلاميذ في اللغة العربية، كالذي اتفق في (مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية) ولكنها تترك تحقيق مثل هذا المشروع لمراقبة الامتحانات بوزارة المعارف. ومراقب الامتحانات لم يكلف نفسه دعوة نظار المدارس والمدرسين الأوائل للنظر في توجيه الطلبة إلى هذه المسابقة الطريفة؛ فكانت النتيجة أن اكتفت كل مدرسة باختيار بعض الطلبة للمسابقة في الأدب، كما تختار بعضهم للمباراة في الألعاب!

إن كان مشروع المسابقة من ابتكار وزارة المعارف فكيف تتركه لرجل بعيد من الحياة الأدبية؟ وإن كان مشروع المسابقة من ابتكار كلية الآداب فكيف تتركه لمراقب الامتحانات بوزارة المعارف؟

أين المسئولية في هذا الشأن الدقيق؟ ومن الذي يحتمل وِزْرها الثقيل؟

أشهد أن سيطرة كلية الآداب على السنة التوجيهية حقٌ في حق، فقد أرَّق كاتب جفونها في الأعوام الماضية لاختيارها كتاب (نقد النثر) وكانت حجته أنه لا يصلح للمطالعة بحال من الأحوال، وقد استجابتْ الكلية لندائه فسحبتْ ذلك الكتاب، ولكنها مع ذلك كلفت وزارة المعارف أن تذيع منشوراً يقول: إن كتاب (نقد النثر) مرجع لأكثر النصوص المقررة في

ص: 2

السنة التوجيهية!!

فهل سمع أحدٌ قبل اليوم أن كتاب قُدامة في نقد النثر من مراجع النصوص الأدبية؟

ليتني أعرف إلى من أوجِّه القول! فوزارة المعارف مُدغمة في كلية الآداب، ولن يُفَكَّ هذا الإدغام إلا يوم يُعرَف أن المسئولية لا تتضح إلا بتحديد جهات الاختصاص.

أما بعد فهذا نَذيرٌ من النُّذر الأولى، فإن ظن قومٌ أن مصير اللغة العربية موكول إلى أذهانهم (الثواقب) فسيندمون بعد حين، لأنَّ النقد الأدبي لن يترك أهواءهم بلا تجريح، وإن اعتصموا بأمنع الحصون.

لن يكون مصير الجيل الجديد تحت رحمة الأهواء، أهواء الداعين إلى (تيسير النحو) والقائلين بأن اللغة العربية لغة عصر ذهب وباد.

مصير الجيل الجديد في اللغة العربية لن يصوغه غير أهل الغيرة الصحيحة على لغة القرآن.

(كاتب)

ص: 3

‌مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

(في صحراء ليبيا)

لأحمد حسنين

للدكتور زكي مبارك

- 7 -

بسم الله الرحمن الرحيم

كذلك هتفتُ وأنا أهمّ بكتابة مقال عن هذا الكتاب، لأنه صعب المنال، ولأن المقدمة التي حبَّرها لطفي باشا السيد لم ترشدني إلى طريق تقديمه إلى القراء، وأنا أرجو أن تنفعني بركة (البسملة) فأسجل بعض ما سنح من الخواطر عند قراءته السريعة، وهي جهد المقل في ثلاث سهرات

الرحلة

هي رحلةٌ قام بها حضرة صاحب المعالي أحمد محمد حسنين باشا سنة 1923 من السلوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى الأُبيَض عاصمة مديرية كردفان بالسودان، وهي مسافة قدرُها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر قُطعتْ على ظهور الإبل، وفيها وُفِّق الرحالة إلى كشف واحتين مجهولتين هما (أركنو) و (العوينات)، وكانتا غير معروفتين قبل ذلك للجغرافيين.

وقد سُطِّر تاريخ هذه الرحلة في نحو أربعمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وهي مقسمة إلى جزأين، وفيها كثير من الرسوم العلمية والجغرافية.

شخصية المؤلف

هو رجل لم تلده ولاّدة، كما يعبِّر أهل مصر حين يصفون فتىً من النجباء. وقد حدثنا هذا الفتى عن أهله، فلم نعرف إلا أن أباه كان من علماء الأزهر الشريف، وقد تلطّف لطفي باشا السيد فحدثنا أن جد المؤلف كان من الباشوات، ولم يذكر بأية صفة نال ذلك الجد رتبة الباشوية، وأغلب الظن أنها الباشوية التي كانت تمنح لرجال الجيش، فإن لم تكن كذلك فهي

ص: 4

باشوية لم تقض على وارثي جاهها الفخم بمنحة الترف واللين، وإنما أورثت حفيدها القدرة على أن يقول: إن أهله كانوا من ساكني البادية؛ وعلى أن يقول: نحن أهلَ الصحراء، لا يغنينا النوم عن العشاء.

وقد كان أحمد حسنين في كل أدوار ماضيه من نماذج الفتوَّة واللوذعية، عاش في إنجلترا حيناً فكان صورة للفتى الموسوم بالبراعة والشهامة والصدق والجاذبية، ولم يمنعه تحضّره من الاتصال بالبادية، فاعتُمد عليه أيام الحرب الماضية في السفر إلى الصحراء الغربية للاتفاق مع زعمائها على رعاية واجب الجِوار في احترام الحدود.

ثم طوحت به همته إلى اختراق تلك الصحراء ليكشف واحتين كان لهما في أذهان أهل البوادي خيال، ولم يكشفهما أحد من قبل، فكان التوفيق من حلفائه الأوفياء.

ثم أراد أن يكون طياراً، ولكن الحوادث أرادت غير ما يريد، فقد طار من إنجلترا إلى إيطاليا، ثم سقطت طيارته، فأصلحها وطار، ثم سقطت فأصلحها وطار، وقد صمم على أن يدخل مصر طائراً ولو سقط بطيارته في جوف المحيط، ولكن برقية كريمة صدرت إليه بوحي من الملك فؤاد، فقهرته الطاعة على أن يدخل مصر وقد امتطى الماء، لا الهواء، وتلك أعظم محنة عاناها ذلك العربي الصوال.

الإنسان الكامل

وما أريد الإنسان الكامل في اصطلاح الصوفية، وإنما أريد القول بأن أحمد حسنين كان رجلاً كامل الرجولة حين اخترق الصحراء في سنة 1923، والرجولة التي أعنيها هي الرجولة المبرأة من شوائب الضعف والغفلة والقنوط. كان أحمد حسنين في ذلك العهد رجلاً بكل معنى الكلمة: كان بدويِّا في مواطن البداوة، وحضريِّا في معاهد الحضارة. كان حليما في أوقات الحلم، وجاهلاً في أوقات الجهل؛ فكان له في كل حالة لَبوس، وكان في جميع أحواله صورة من الرجل الذي يرى الخلُق الصحيح في رياضة النفس على مسايرة ظرف المكان والزمان.

ومن المؤكد أن رحلة الصحراء نفعته في مركزه الحاضر، وهو رياسة الديوان بقصر جلالة الملك، فقد وصفته مجلة (آخر ساعة) وصفاً هو أعجب الأوصاف، حين قالت: إن أحمد حسنين يتمتع بأعظم المواهب السياسية، لأنه أقنع الجميع بأنه رجل غير سياسي.

ص: 5

وأعود إلى تأثير الصحراء في عقل أحمد حسنين فأقول:

عاش هذا الرجل نحو ثمانية أشهر في ظلال المخاوف والحتوف، وكانت الرِّيب تحيط به من كل صوب، وكانت الثعابين تداعبه من حين إلى حين، وكان يُؤْثر سُرَى الليل ليتجه بصره إلى ناحية واحدة، ومن هنا عرف أن الظلمة قد تنفع (والسياسي يعيش في عوالم من الظلمات، ولو سطع النور حول أغراض السياسي لتخاذل وضاع).

الرحالة

لا يدلنا كتاب أحمد حسنين على أنه كان رجلاً من المُترفين حين قام بتلك الرحلة العاتية، وإنما يشهد كتابه بأنه كان رجلاً من صميم البادية. كان رجلاً يهمه أن يقيم البراهين على أنه لم يتعلم في جامعة أكسفورد غير حزم الأمتعة، والتعرف إلى مواطن الخوف والرجاء في مفاوز الصحراء.

هو فلاح متحضر، فهو لذلك أذكى الرجال وأعقل الرجال.

وقد عرف هذا الفلاح المتحضر ما في البادية من مكر ودهاء، فهو يلبس حُلة ذكائه في كل وقت، ويشتمل بثوب مكره في كل حين.

وما ظنكم برجل تحيط به الشكوك من جميع الجوانب وهو فريد وحيد ثم ينتصر بلا مشقة ولا عناء؟

ذلك هو أحمد حسنين الذي ائتمنه الملك فؤاد واصطفاه الملك فاروق، ومن الصعب جدَّا أن يكون الرجل أهلاً لثقة الملوك، فذلك مقام لا يظفر به إلا الأقلون من أعاظم الرجال.

وقد فَطِن أسلافنا إلى أن صحبة الملوك تحتاج إلى تثقيف خاص، فوضعوا المؤلفات الطوال في التعريف بما يجب أن يتحلى به أمناء الملوك من شمائل وآداب. وهذا الفن من التأليف لم يكثر إلا في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كان ذلك لأن ازدهار الحضارة يزيد في مشكلات المجتمع من النواحي الذوقية والاجتماعية، وتلك حال تزيد فيها تبعات من يتصلون بالملوك، لأنهم عندئذ يكونون صلة الوصل بين الحاكمين والمحكومين، وعلى ذكائهم وبراعتهم وإخلاصهم يرجع الفض في حل أكثر المعضلات. . . فمن خَطَل الرأي أن يظن بعض المتعاقلين أن إكثار أسلافنا من التأليف في هذه الشؤون دليل على أنهم كانوا يعيشون في عصور الاستبداد.

ص: 6

أغراض المؤلف

للمؤلف في ظاهر الأمر غرض واحد: هو تسجيل رحلته في الصحراء، ولكن من الذي يقف به القلم عند ما كان يريد؟ إن النفس تتفتح عند حمل القلم من وقت إلى وقت، وتتنادى خواطرها من فصل إلى فصل، فإذا بلغ القلم نهاية الشوط كانت النسبة بين ما ابتدأ به وما انتهى إليه كالنسبة بين النواة الضامرة والسَّرحة اللفَّاء.

يقع كتاب أحمد حسنين في عشرين فصلاً، وله في كل فصل مجالٌ خاص، وفقاً لاختلاف الأغراض.

فالفصل الأول عن الصحراء من نواحيها المادية والروحية، وفي هذا الفصل كلام يقوله كل الناس، إلا كلامه عن الشوق إلى ما في الصحراء من متاعب وصعاب، ولا تظهر قيمة هذه النزعة لمن يقرأها في الفصل الأول إلا حين يعاني قدها في الفصل الأخير، ذلك بأنها تواجهه أول مرة وهي أشبه بالفلسفة الروحية، والناس قد يقرءون الفلسفة هادئين، ولكن هذه النزعة لا تواجه القارئ في الفصل الأخير إلا بعد أن يكون شارك المؤلف في الأنس بالصحراء، وعندئذ يحق له أن يتوجع لبلواه حين يقول وقد وصل إلى دار الأمان:

(ودب في نفوسنا جميعاً دبيب الابتهاج بعودتنا إلى الاتصال بحياة الحركة، ولكني شعرت حين انقلبت إلى فراشي بوخزة حزن في قلبي، لأن ذلك اليوم كان آخر أيامي في الصحراء، ورأيتني أضيف إلى صلوات شكري دعاه خالصاً أسأل الله فيه أن يقدر لي العودة إليها يوماً من الأيام).

وفي الفصل الثاني يتكلم المؤلف عن وضع خطة الرحلة فيقول كلاماً يقوله سائر الناس، ولكنه يفاجئك بكلام نفيس عما صنع أبوه رحمه الله، وهو يزوِّده بالبخور والدعوات الصالحات ومن كلامه عرفت أشياء من عادات العرب في التأهب للرحيل.

وقد أطنب المؤلف في الثناء على أبيه، ثم أعرب عن فجيعته لوفاته بعبارات لا تصدرُ إلا عن نجباء الأبناء، وما مات من خلَّف مثل أحمد حسنين.

وفي الفصل الثالث يقف المؤلف موقف المعلم لمن يحاولون اختراق الصحراء، فيقدم من المعارف الضرورية للمغامرين أشياء يحتاجون إليها أشد الاحتياج.

وفي الفصل الرابع تظهر طلائع المخاوف، ونرى كيف يضطر الرحالة إلى تغيير خطة

ص: 7

السير لينجو من مكايد الأعراب.

وفي الفصل الخامس يتحدث المؤلف عن السنوسيين بكلام ينهض على قواعد علمية، فيذكر تاريخهم بإيجاز، ويشرح عقائدهم بالتفصيل، ومن الواجب أن يدرس الطلبة هذا الفصل، لأنه من عيون الكتاب، ولأن موضوعه يهم أعضاء لجنة الامتحان.

(وهنا أذكِّر الطلبة بأن الامتحان له قواعد، ومن أهمِّ قواعده أن تَرِد أسئلة في الموضوعات الرئيسية، فمن واجب كل طالب أن يُعنَى عناية شديدة بالموضوعات التي لا يجوز جهلها على الإطلاق، فإن التمكن في تلك الموضوعات يغفر الضعف في الموضوعات الفرعية بعض الغفران. . . وأذكِّرهم أيضاً بأن هناك شؤوناً تظهر كالتوافه، ولكنها رئيسية، كوجه التسمية لواحة أركنو، فهي مسألة هينة، ولكن الجهل بها يدل على عدم الاكتراث. . . ثم أذكرهم بأن الطالب الذي يُختَبر في كتاب أحمد حسنين سيسأل حتما عما قال المؤلف في وصف الواحتين الجديدتين. . . وأذكِّرهم كذلك بأن في المقدمة التي كتبها لطفي باشا السيد كلمة مهمة عن ارتياد تلك الصحراء في عهد الفراعين).

وفي الفصل السادس يتكلم المؤلف عن واحة جغبوب، وهي واحة مصرية نهبها الطليان منذ سنين، فليقرأ الطلبة أخبارها، وليذكروا أن لهم إليها عودة بعد حين.

وفي الفصل السابع يتحدث الرحالة عن الولائم والأدوية، فيذكر أشياء تنفع من يفكر في ارتياد تلك البقاع.

وفي الفصل الثامن يتكلم عن الزوابع في طريق جالو، ويصفها وصف العارف الخبير، والبدو هناك يرون الزوابع من عمل الجن، فليذكر الطلبة أن الزوبعة هي الجِنّية في لغة العرب، ولها اسم بهذا المعنى عند عوام المصريين، فهم يرون الزوبعة من الأنفاس الخلفية للعفريت.

وفي الفصل التاسع يفصل القول عن واحة جالو، ويذكر ما بينها وبين الطليان من نزاع وشقاق.

ثم ماذا؟ ثم ماذا؟

لا أرى من الضروري أن أشير إلى بقية الفصول، لأن هذه الإشارات العوابر لا تغني عن المراجعة والاستقصاء.

ص: 8

وإنما أرى من الحتم أن أوجه الطلبة إلى درس هذا الكتاب، ولا يتم ذلك إلا بدعوتهم إلى تعقب ملاحظات المؤلف، وتعرُّف ما كان يجول بنفسه من خواطر وشجون.

وأقول إن المؤلف مولع بوصف الأجسام فلا يرى شخصاً إلا حدثنا عن قوامه وعينيه، فما سر ذلك؟

يرجع السر إلى أن المؤلف عاش دهره موصول الأواصر بالأندية الرياضية، ومن هنا غُرست في نفسه بذور الثقافة الجسمية، فهو ينظر إلى الأجسام قبل أن ينظر إلى العقول، وهي نظرة تدل على أنه رجل هذا معنى غرام الرجل بالإبل والخيل، فهو جمّال إن أردت، وفارس إن شئت، وهو فوق هذا وذاك يحس مذاق الظل، وقد يتذوق طعم الغُبار في بعض الأحايين.

يمرّ أحمد حسنين بعظام رجل ميت فيستأنس، وكان الظن أن يستوحش، وإنما استأنس برؤية عظام الميت لأنها تشهد بأنه يسير في طريق سلكها الناس من قبل.

ويهتم أحمد حسنين بدرس عادات البدو دراسة مضمّخة بعَبير الشوق والحنين، وهو يرد تلك العادات إلى أصولها من العواطف الذاتية، فالفتاة التي يحرق حِذاءها البارود تُزهَي وتختال، لأن ذلك شاهد على أنها تَغُلّ الباب الرجال.

وفي هذه المرحلة يصرخ أحمد حسنين صرخات تنطق بأنه من أصحاب الأذواق.

وهذا الرجل المفتون بالبادية هو أيضاً مفتونٌ بالحاضرة أعنف الفتون، فلا يطيل المكث إلا في المواطن التي يكثُر فيها اشتباك العواطف والأهواء

وهنا أظفر بأحد مقاتله فأصرح بأنه لم يعش طويلاً في الواحتين الجديدتين - وهما محصوله الأصيل في تاريخ الاستكشاف - وإنما عَبَرهما عُبور الطيف، لأنهما خاليتان من مواسم العيون والقلوب.

وما عددت هذا من مقاتله إلا رياءً، فالجمال الحقيقي هو الجمال الإنساني، لأنه يفهم عنا ما نريد؛ أما جمال الطبيعة فهو جمالٌ غبيٌ بليد، ولا يكتفي بالأنس به إلا الممتحنون بالحرمان، وما كان أحمد حسنين من المحرومين.

أحمد حسنين يتفاءل في فرصتين: الأولى أن يَرمِىَ ظبياً فيصميه، والثانية أن يرى في صبيحة السفر وجهاً جذاب الملامح وضّاح الجبين.

ص: 9

فمن يكون الرجل السليم إن لم يكن هذا الرجل نموذجاً للرجل السليم؟

ثم يجب النص على اهتمام أحمد حسنين بأداء الصلوات، والتبرك بالأذان، فتلك شواهد على ما صرح به غير مرة من أن الصحراء تزيد من قوة الإيمان، وهو التصريح الذي أتاح لمعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك أن يقترح إرسال علماء الأزهر إلى الصحراء!! والنكتة الدقيقة من أبرز عناصر الفن الرَّفِيع

الأسلوب

أحمد حسنين ليس من أصحاب الأساليب، فليس له في الإنشاء مذهبٌ خاص، وهو فيما نعلم لم يفكر في أن يكون له مكان بين الكتّاب، وإن كان من أكابر الأدباء

وقد أنشأ كتابه أول مرة بالإنجليزية، ثم ترجمه إلى العربية وهذا يفسِّر ما نشهد من تفاوت الأسلوب من حين إلى حين.

ولكن الكتاب مع هذا على أعظم جانب من الحيوية، فما سرّ ذلك؟

يرجع السر إلى قوة إحساس المؤلف، فكل سطر من كتابه ينطق بأنه يَعنِي ما يقول، وسياق الحديث يدل في كل صفحة على أن الرجل جابَ الصحراء وهو مرهف الحِسّ ذكيّ الجَنان، وملاحظاته فِطريَّة بعيدة من التكلف، فهو يُشعِرك بأنه بدويٌ لا يرى غير ما في البادية من مخاوف وآمال، وهو ينقلك إلى تلك المجاهيل بقوة سِحرية فتسايره بتلهف وتشوق، كأنك عانيت من صابها ما عانَى وذقت من رحيقها ما ذاق.

وإحساس أحمد حسنين يصل به إلى تذوق جميع الألوان، هو إحساس رجل سليم يرى ويسمع ويذوق بقوة وعنف، وكأنه طفلٌ يطَّلع أول مرة على غرائب الوجود

تقدَّم إليه المائدة وهو في البادية فيُقبل عليها إقبال البدوي الغرثان، وينص على أنه أكل بشهية، ثم يصف ألوان الطعام بإسهاب، وذلك لا يقع إلا من رجل مدَّرع بالعافية

ويدرس الوجوه باهتمام شديد، حتى جاز أن يحكم لفتاة بالجمال، ولم ترها عيناه، لأنه لاحظَ أن أخاها جميل

ويدرس عواطف أصحابه بمهارة وحذق فيعرف ما يطوون في صدورهم من لواعج وأشجان، ثم يمضي فيتعقب ما بينهم وبين نسائهم من كدر أو صفاء، وهذا التطلع لا يقع إلا من رجل متشوف إلى درس الغرائز والطباع

ص: 10

وهل ننسى حديث (السبحة) في ساعة أُنْس؟

كان في القافلة فتىً رخيم الصوت، وكان أحمد حسنين يتشهى السماع، ولكن الفتى له عمّ كهل، ومن العيب في البادية أن يتغنى الشباب بحضرة الكهول

وتلطف أحمد حسنين فأستأذن للفتى من عمه الكهل، فانطلق الشاب يغنِّي، واندفع الشيخ يسبِّح، ليشغل نفسه بالتسبيح عن الغناء

فماذا صنع أحمد حسنين؟

أخذ يرصد السبحة ليرى كيف يتواتر خفق الحبات، فعرف أن حباتها تصاب بالبطيء من لحظة إلى لحظة ثم تعود إلى الإسراع، وكان ذلك شاهداً على أن الكهل الوقور كانت له صَبَوات، وأن رنين السبحة لم يُلهه عن تشوف المحبين إلى أوقات الوصال

وأحمد حسنين لا ينسى تسجيل ما مرّ به من عواطف، كأن ينص على أنه استيقظ في أعقاب حُلمٍ رائع على وجه فتاة حسناء، وكأن ينص على أنه كان يتلبّث في بعض المواطن ليزوّد قلبه وعينيه بأطايب الجمال

وجملة القول أن أحمد حسنين شاعرٌ وصَّاف: هو يحدِّق في كل شيء، وهو يصف كل ما يراه وصفاً يشهد بأنه مفطور على قوة الإحساس.

وقد أطال أحمد حسنين في وصف القمر والنجوم، كما أطال في وصف الشروق والغروب، فكيف صنع في هذه الأوصاف؟

نقل إلينا أحاسيس أهل البادية بقوة وحيوية، لأن الكواكب في البوادي لها سِحرٌ يجهله من يأنسون بأضواء المصابيح

ثم ماذا؟ ثم أقول إن أحمد حسنين صوَّر نفسه في كتابه بصورة الرجل الممتحَن بهوى الصحراء، ولو قال له الغادون: ما تشتهي؟ لقال: أعود!! كما عبر الشريف الرضي عند فراق بغداد

وهنالك صورة أبدع وأروع، هي صورة العالم الحصيف الذي أباحه العلم ما لا يباح من هتك أسرار الصحراء

هنالك أحمد حسنين الذي يتمارض ليخلو إلى أجهزته العلمية في غفوة الليل

هنالك الباحث المستقصي الذي يدوِّن كل ما يرى وما يسمع وما يذوق بلا تأجيل ولا

ص: 11

تسويف. . .

هنالك الرجل الذي يرصد الشمس من وقت إلى وقت ليمُدّ العِلم بزادٍ جديد

هنالك الوطني الغيور الذي ينص على قيمة بعض الواحات من الوجهة الحربية

هنالك المفكر الذي يشرح ما في الصحراء الغربية من مذاهب وآراء

أما بعد فتلك هي الملامح الفكرية والعقلية والذوقية للرحالة أحمد حسنين، وهي (الدليل) الذي (يوجّه) الطلبة إلى سرائر كتابه النفيس

وكل ما أرجو أن تكون الفتوّة التي اتصف بها المؤلف من أعظم مطامح الشبان في هذا العهد، فقد رأوا بأعينهم كيف تكون الخشونة أقوى الدعائم في بناء الرجال.

زكي مبارك

ص: 12

‌شخصية الأزهر العلمية

للدكتور محمد البهي

لا أودّ هنا أن أحدد الشخصية القانونية للأزهر فذلك محله عند ما يتعرض لعلاقة الأزهر بغيره لتسهيل الفصل في أموره الخاصة كمؤسسة عامة، وإنما أقصد بيان العناصر التي تتكون منها شخصيته (كجامعة علمية)، وفي الوقت نفسه هي عدته التي ينزل بها ميدان الحياة ليحافظ بها على وجوده الخاص بهذا الوصف

قد يكون عطف الوالي على رجاله ورعايته له من أسباب قوته في وقت من الأوقات، وقد تكون شخصية شيخه إذا علت مكانتها وكانت محببة لدى كثير من نفوس الخاصة من أسباب قوته أيضاً في وقت من الأوقات كذلك، وقد يكون لنفر من علمائه إذا منحه الشعب نوعاً خاصاً من الإجلال والاحترام أثر في قوة الأزهر أيضاً.

ولكن هذه الأسباب خارجة عن شخصيته كمعهد للبحث والدرس العلمي وإن كانت من مقومات شخصيته الدينية لأن عطف الوالي مثلاً على رجاله لما لهم من الصفة الدينية، والاحترام الذي يمنحه الشعب لبعض علمائه لا شك أن القسط الأكبر منه راجع إلى معنى ديني معه، وسيبقى عطف الوالي عليه ما دام معهداً للدين، وسيبقى احترام الشعب لبعض دائر بين علمائه ما داموا ينتسبون للدين، إذ الوالي في بسط سلطانه النفسي على الشعب في حاجة إلى رجال الدين، والشعب أيضاً ما دام يعتقد يمنح احترامه للمشرف على شئون العقيدة، واعتقاد الشعب باق ما دام هناك شعب، فالأزهر من هذه الناحية لا يضمن وجوده الذاتي فحسب، ولكنه وجود عنيف في قوته يتلاشى عند الاصطدام به أي شيء آخر

ولست أعني أيضاً هذه الشخصية، إذ أن للأزهر وصفاً آخر وهو كما أنه معهد ديني هو معهد علمي، فله بجانب الشخصية الدينية شخصية أخرى علمية، وهذه الشخصية الأخيرة بكونها أفراد ولكن لا بوصف كونهم دينيين، بل بوصف كونهم علماء باحثين وإن تناول بحثهم فيما تناول الدين نفسه، وبكونها كتاب ولكن لا بوصف أنه مصدر للأحكام الدينية ولكن بوصف أنه يتضمن إنتاجاً علمياً خاصاً، وعلى عدد من العلماء الباحثين، وعلى قيمة إنتاجهم العلمي تختلف الشخصية العلمية قوة وضعفاً، فإذا وجدنا من بين الأزهريين في عصر من عصور تاريخه عدداً يمتاز بالبحث ورأينا لبحثه قيمة علمية دل ذلك على أن

ص: 13

الأزهر له بجانب قوة وجوده الديني قوة أخرى لوجوده العلمي؛ وإن لم نجد بين رجال من له ولعلمه هذه الميزة كان اعترافنا بوجوده فقط لقوته الروحية الدينية، وهي أبدية خالدة، وأبديتها لا تتوقف على قيمة جوهرها في نظر العقل الإنساني لأنها وجدت فقط لانتسابها إلى شيء خارج عن نطاق الإنسان نفسه

وليس معيار البحث في كثرة الجمع أو الاختصار، وليست قيمته العلمية في الحفظ والتحصيل، بل في الاستقلال في التفكير في النقد الإيجابي. فكثرة عدد (العلماء) ووفرة مواد الدراسة وكثرة الكتب المتداولة في الدرس ليست عنواناً على وجود الشخصية العلمية، بل لا بد من أن نلمس في (العلماء) بوصف عام الاستقلال في التفكير، وتعثر في هذه المواد وتلك الكتب على شخصياتهم

وبهذه الشخصية العلمية فقط يمكن للأزهر أن ينافس غيره من الجامعات الدينية، وعلى نوعها يتوقف (مجاله الحيوي المدني) في الضيق والاتساع ونفوذه على الخاصة في الضعف والقوة. والذي يتولى شؤون الأزهر ننعته بالمصلح العلمي، لا من حيث أنه يغيّر من مواد الدراسة بالزيادة أو بالنقص، أو يعدل في النظام العام مثلاً، ولكن من حيث أن إشرافه كان ذا أثر في الإنتاج العلمي وفي تكوين الشخصيات الباحثة. لا ننعته بالمصلح العلمي لأن في عهده مثلاً يستطيع نفر من الأزهريين أن يخالف فهماً مألوفاً شائعاً في بعض الأحكام الفقهية الفرعية دون أن يتعرض الباقون منهم له بالأذى مجاملة له أو خشية منه، وإنما يستحق وصف المصلح العلمي حقاً إذا كان مبعث عدم التعرض من الباقين الاقتناع الذاتي بحرية التفكير وبجواز الاستقلال في التفكير، ولكنه لا يعدم في كلتا الحالتين أن يلقب (بشيخ الدين) أو بالزعيم الديني إذا قاد مع ذلك مدرسة دينية مخصوصة لها ميزة إيجابية في حياة الإنسان العلمية. فالإمام المرحوم الشيخ محمد عبده زعيماً دينياً أكثر منه مصلحاً علمياً، وإن كانت له شخصية العالم الباحث، لأن بحثه قام على النقد، وإنتاجه يمثل استقلالاً في التفكير إلى حد ما، على الأقل أكثر مما كان مألوفاً في عهده

وفي العشرين سنة الأخيرة من قرننا العشرين، أي في المدة التي أخذ فيها الجامع الأزهر لقب جامعة علمية وأصبح الوصف العلمي جزءاً من شخصيته القانونية نجد نزاعاً متكرراً يأخذ ألواناً مختلفة بين جامعة فؤاد الأول المدنية والجامع الأزهر يدور من جانب رجال

ص: 14

الجامعة على أن الجامعة دون سواها هي موطن البحث العلمي، ومن جانب الأزهر على أن الأزهر يشارك الجامعة في هذا العمل. وبينما يعلل (الجامعيون) دعواهم باستقلالهم في التفكير في البحث - عن التقليد وما ورد من الثقافة الموروثة - إذ بكثير من الأزهريين يلجأ في تعليل المشاركة إلى نظام الكليات والتخصصات في الأزهر، وهو نظام جامعي. وكما يؤخذ على الفريق الأول عدم الدقة في تحديد معنى الاستقلال في التفكير، يؤخذ على الفريق الثاني التعليل بالشكليات. ويجب على الفريقين أن يجاوزا هذا ويحتكما إلى عمل الأستاذ نفسه.

ولكن ليس من السهل علينا نحن الأزهريين أن نحتكم إلى الأستاذ. وبالأخص إلى عمل النخبة من أساتذتنا، إلى عمل جماعة كبار العلماء - وهم أساتذة الأساتذة - لأن من العسير أن يطلع أجنبي عنهم على ما لهم من (رسائل) ومن هنا يصعب تقدير عملهم من الوجهة الفنية

والحكم على عملهم من عناوين رسائلهم فحسب لا يخلو من نقص. فعناوين كثير من رسائلهم وإن احتملت أن مضمونها جمع لمنثور أو اختصار لمطول أو لمعالجة مفككة لمسائل تافهة أي لا تشتمل على عمل علمي بالمعنى الصحيح، إلا أنها في ذاتها قد تكون - مع احتمال آخر - أبحاثاً مؤسسة على استقلال في التفكير ونوع من النقد العلمي.

فإلى أن تنشر رسائل جماعة كبار العلماء فينا - لأن عملهم وحده أمام التاريخ وأمام الحكم العدل هو الأساس الذي يبنى عليه الآن التقدير والاعتراف أو عدم الاعتراف بشخصية الأزهر العلمية - يجب علينا نحن الذين لم يصبحوا بعد من جماعة كبار العلماء، إما أن نسعى في أن نطلع غيرنا على أبحاثنا الشخصية، وبذا نكون علماء، أو نعمد إلى تناول عمل الجامعيين بالنظر العلمي فنؤمن بما يدعونه أو ندلهم على موضع الدعاية فيه

ومتى تنشر هذه الرسائل؟. . . علمه عند الجماعة نفسها!

محمد البهي

مدرس علم النفس والفلسفة

بكلية أصول الدين

ص: 15

‌أومنُ بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

أومن به إيماناً عميقاً بصيراً. . . وأرصده رصداً مستوعباً يطيف به في جميع بقاعه ومختلف أوضاعه، واستوحى نظرة الله إليه ورحمته به تسديده إياه في طريقه إلى مستقبله المجهول. . .

أومن به حتى في هذه الأيام التي ساء الظن به فيها وقبح الرأي بقيمته وكفر هو بنفسه وسخط على حياته، وبدت فيها خبائثه ومكايده وقسوته، وذاق بعضه من بعضه البأس الشديد والشقاء المنكر! وتهددت حياته عوادي فناء صنعها هو على أسلوب الصواعق والزلازل والبراكين وسائر غضبات الطبيعة التي طالما جأر إلى الله بالدعاء والبكاء أن يحفظه منها ويحفظ الأرض بما حملت من مواريث صناعاته وابتكاراته وأمواله وأعماله وعياله من سوء عقباها في التدمير والإبادة. . .

أومن به لأومن بربه. . . فلو طاوعناه على مقتضى قساوته وشقاوته في حياته الراهنة لأنكرنا كل مثل كريم هبط من السماء أو صعد من الأرض. . . ولأخلدنا معه إلى عالم الجحيم الذي فتح أبوابه على نفسه في أكرم البقاع عليها في لندن وبرلين. . .!

وأوصي به الناظرين إلى حاضره في يأس وقنوط وإلى مستقبله في تشاؤم. . . فما ينبغي للذين آمنوا بالمثل العليا، وعرفوا أن الإنسانية كلها مخلوقة لإدراكها أن يزلزلوا عنها ويجحدوها إذا ما أصاب الأرض نكسة إلى جهالة قديمة، وارتداد إلى أعراض السفه الأول. . . بل عليهم أن يرفعوا شعلة تلك المثل وسط احتدام الظلام والظلم حتى يمسك بخيوط نورها من يريد ألا تجرف روحه أمواج الظلمات. . .

وإيماننا بالإنسان هو الذي يوحي إلينا أن نعمل له ونبسط عليه شعور حبنا ونقدم إليه ما نستطيع من خدمة. ولو أنكرناه وكفرنا بقيمته ما بقى لنا شيء في الأرض نلوذ به ونأنس إليه من وحشة الصمت المطلق والسكون المطلق، والبكم والصمم والعمى التي تلف غيره من كائنات لم تدع في الحياة حديثاً مفهوماً عن غايات الحياة. . .

وإنني ما أبصرت شيئاً غيره تَعمُقُ معه الحياة وتتسع وتتركب وبتنوع الإحساس بها. . . ولولاه لكنت صندوقاً أبكم فارغاً إلا من معاني غرائز معطلة وتجارب شهوات قليلاً ما

ص: 17

تتحرك. . . ولا اضطربت بي مجهولات الكون كغريق طاف على أكف الأمواج. . . إن كل شيء في الطبيعة صامت جامد لا يعطي جواباً عن غايات الحياة إلا هذا النوع الذي أحمله في جسدي وأستوحيه في فكري وأبادله ما صح وما فسد!

لقد قلت في مقال سابق: إن الإيمان بالإنسان هو عندي أول المعاني الدينية، فلا يؤمن بالكون ولا خالقه من لم يؤمن بهذا النوع. . . وكان قولي هذا كضربة معول موفقة وقعت على باب كنز مرصود فانفتح! ولست أزعم أن ما رأيته وراء هذا الباب حقيقة ينشدها الناس ويجدون في ظلها راحة وطمأنينة فالله أعلم بموقع هذا القول من نفوس القارئين. . . وإنما وجدت وراء اهتدائي إليه راحة لنفسي وحلاً لكثير من المشكلات التي أجدها فيها وفي الإنسانية والطبيعة.

ولقد علمني الخروج من نفسي ونوعي بعض الأحيان ورصدهما بعين غريب عنهما أن أرى كثيراً مما خفي على الذين يلبثون رهناء سجناء في الشبكة التي تلفهم مع سائر أفراد القطيع

أجل، إني أرصد هذا النوع كغريب عنه فأرى منه ما لا يراه إلا الفارقون لنفوسهم الخارجون بالفكر عن حدود وجودهم الناظرون إلى حياتهم نظرات الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان، والملأ الأدنى مما هن دون الإنسان. . .

فماذا وجدت في الإنسان؟ من قلوبه وعقوله تنبثق المعاني المكتومة المسجونة في أطواء المادة. وفي بيانه أصوات ربطت الكون كله ولاءمت بين نسبه المختلفة ولخصته واختزلته ووضعته أمام الفكر ملموماً. . . وفيه نغمة مفهومة رقيقة وسط صخب الأمواج التي لا عدد لها في البحار، والهبوات التي لا عدد لها في الأجواء. . .

إنه مشبوب الحاجة دائمها، واسع الآمال والخيال في تعظيم المادة وتنويعها وتصريفها والاحتفاء بكل سر فيها، لا يخرج من الأرض إلا بعد أن يصوغ ترابها ومواتها عرائس ومباهج، ويبنيها أجساماً محبوكة ذات أوضاع وفنون. . .

لقد استمرت الأرض من قبله جامدة لا يتغير فيها شيء من موادها إلا الدورات الأبدية المتشابهة من الهواء والماء والفصول وتعاقب الليل والنهار والشهور. . . ولم نر يداً غير يده تضع في الأرض حجراً على حجر أو تحفر قناة مستقيمة تصرف فيها ماء أو تجلب

ص: 18

ماء، أو ترسم صورة أو تقيم تمثالاً أو تمتهن حيواناً لخدمتها. . . وإنما يبدو من الطبيعة أن كل شيء فيها كان ينتظر وجود هذا النوع ليقول ليده وفكره: هاأنذا لكما!

وما زالت المرآة التي فيه وهي عقله تتطبع فيها صور الكائنات واحداً وراء آخر وهو يحولها وينقلها من عالم الجماد والصمت إلى عالم الأسماء والبيان والصور والتعبير حتى فرغ منها أو كاد. . .

وما زال يدور حول ظواهر المادة وصورها وأشكالها ويحللها وينبش فيها ويسبر أغوارها حتى وصل إلى عالم الكهارب والأثير وهو الآن يجري اختباراته وتحليلاته على هذه الأصول الأولى للمادة ليكثفها أو يرققها ويتحكم في إخراج أنواعها بعد أن وصلت يده إلى مفاتيح توجيهها.

إنه تعمق في عالم الأجسام والقوى حتى وصل إلى مصادر الحياة الآلية ومادة الوجود الأولية، وتعمق في عالم المعاني والأفكار حتى وصل إلى الخفقات الروحية العليا والرياضيات العليا التي قام عليها تخطيط الطبيعة وهندستها

وإنه ليركب ما في الكون من المعاني كما يركب ما فيه من مواد، فيقيم الكتب العامرة والمقالات الحكيمة والصلوات المطهرة والألحان الساحرة كما يقيم القصر الكامل الجميل والصرح المشيد والقاطرة والطائرة والباخرة. . . وإنه ليسافر بفكره في الآفاق العليا كما يسافر بصوته وصورته في صندوق الراديو. . . وهكذا هو يتوجه في عالم المادة والقوى العمياء كما يتوجه في عالم الروح الواعي والفكر المميز المبصر الحاكم. . . وهكذا هو رباط بين العالم الساكن الخفي وبين العالم المتحرك المرئي

إن تكن للشرق الإسلامي رسالة جديدة في هذا العصر تضاف إلى رسالاته السابقة في العصور الخوالي فهي رسالة الدعوة إلى الإيمان بالإنسان سيد الأرض، وحبه وخدمته ومعرفة قيمته. . . ثم الضرب على أيدي محترفي السياسة واللاعبين بالشعوب ومؤرثي العداوة بينها في سبيل الأمجاد الشخصية والأطماع والتسلط والاستبداد والإخلاد إلى منطق الغرائز السفلى التي ما وضعها الله في تركيب الإنسان إلا لتكون له كالعجلات ودواب الحمل وآلات الدفع للقافلة السائرة إلى غاية

تاريخه مصباحه

ص: 19

ولنستعرض تاريخ الإنسان على هذه الأرض لندرك مدى مركزه فيها، ولنعطيه من تاريخه مصباحاً يرى به نفسه: إن الله أسلمه الأرض، وليس فيها شيء معقد التركيب غير الأجسام العضوية الحية، وهي أجسامه وأجسام الحيوان والنبات. أما المادة فأسلمها إليه بسيطة في صورها الأولى وخاماتها البكر، فما زال يدور حولها ويعبث فيها وينبش ويخرج أسرارها واحداً بعد آخر حتى حدثته أخبارها، وأخرجت له أثقالها، ووضعت بين يديه أجنتها وعيالها، واستفاد من تجاربه فيها عقله وحكمه - والعقل هو حفظ التجارب والحكم بمقتضاها - وعلمه ووثائق سيرته ومدونات فكره. وكلما أنماها وعقد نموها أنمت هي فكره وعقدته - والتجاوب بين المادة والفكر قانون - حتى ملأ الأرض بما ولد منها وأخرجه من كوامنها وركبه من بسائطها

وشاء الله أن تكون قوة الفكر في الإنسان لا حد لها، فصارت تخاريج المادة وفروقها وتمايزها لا حد لها. . . وتارة يكون كشفه عن أسرارها بطريق الصدفة، فيلقط ويدون، كما هو واضح من نمو علم الكيمياء، فإن كل أمورها تجريبية لا دخل للفروض والظنون والتجريدات فيها. . . وتارة يكون الفكر سابقاً قادراً على الفروض وقياس النسب الغائبة على الحاضرة.

أي تارة تكون الطبيعة سابقة في الوحي إليه، وزيادة علمه وفكره، وتارة يكون هو سابقاً في الوحي إليها وزيادة موجوداتها ومشاهدها

وإني لأستعرض أعماله في الطبيعة منذ أن كان هائماً لا سقف له يصنع من ورق الشجر ستاراً لسوأته، ويتخذ من الحجر خنجراً لسطوته، إلى أن صنع لباسه الأوربي المعقد المنوع المزين الملون، وصنع بيته من ناطحات السحاب، وآلات سطوته من الطوربيد وسلة مولوتوف. . . ومركبه من الحصون الطائرة، واستوعب جميع أجزاء الآلات المعقدة في رأسه قبل تركيبها بمساميرها وحذافيرها. . . وصنع له مجاهر ومقربات يقرب بها مشاهد السموات والسدم ويحلل عناصرها، ويكبر بها أحجام الجراثيم ويقيس بها الخلايا ويحكم بها على كل أولئك حكما صحيحاً خاضعاً لمقاييس الحس والفكر. . . أستعرض أعماله هذه فأراه بعد ذلك قانوناً نامياً لا حد لنموه في ذاته وقانوناً منمياً للطبيعة وصورها وأشكالها لا حد له كذلك.

ص: 20

وجميع قوانين الطبيعة قوانين متحجرة صارمة إلا هذا الإنسان فإنه قانون مرن يذهب في كل اتجاه. أليس فيه نفخة من روح الله ليست في سواه؟! والله خالق هذه القوانين وواضعها؛ فلا عجب أن تدفعه هذه النفخة إلى الأمام في مجاهل الكون دائماً

إن الأطفال يقلدون الرجال بغريزة التقليد والمحاكاة التي فيهم للاستعداد لمستقبل الفرد، والرجال يقلدون صنع الله للاستعداد لمستقبل الإنسانية كلها. وجميع آلاتهم التي ركبوها وجدوا نماذجها أمامهم مما خلق الله. وجسم الحيوان هو نموذج الآلات الكبيرة السريعة التي ابتدأ بها الإنسان يتسلط على المكان والزمان والمسافات والأبعاد. وجميع أعمالهم في الكهرباء والقوى الخفية إنما وجدوا نماذجها من المجموعات العصبية في الحيوان والنبات، فأرسلوا الإشارات والصور والأصوات إلى عيون وآذان صناعية عبر المحيطات والصحارى والقارات والجبال الشاهقات كما يرسل الجسم الواحد خواطره وصوادره إلى كل خلية في أعضائه.

وعلى ذلك صارت الأرض كجسم ينبض ويترابط، وإنسانها فيها كالمراكز العصبية في الجسم الحي: تصدر وتتلقى الجواب

حياة الشرنقة

ولكن هل يجوز أن يقف الإنسان في ضجة ما صنع من الآلات والمفرقعات ضائعاً مغموراً غائباً فيها كما تغيب دودة القز في الشرنقة التي تنسجها، وكما تغيب النواة في النخلة السحوق والبذرة في الدوحة الفارعة؟

إنه يرسل في الطبيعة لمحات فكره وومضات خواطره، وصار الأثير والهواء والماء والتراب مليئاً بهمساته وأزيز محركاته وضربات معاوله إلى أعماق المناجم والركاز.

وهذا حسن لو أنه لا ينسى نفسه وسط الضجة والقوة والجبروت الآلي، والحديد البليد القاسي، حتى يختنق ما فيه من وداعة الروح وتأمل الفكر، والإحساس بالانفصال عما صنعته يداه

أجل يجب ألا يكون الإنسان قوة عمياء تعمل في المادة بدون فكر وروح وإحساس صوفي فيما تعمل ولذة به وإلا استحال إلى قوة متنقلة في عمليات التكوين والتركيب بدون وعي وفي ذهول وغفلات تشبه عمى القوى العمياء

ص: 21

إن طاعة الحديد البليد القاسي للفكر الطليق البارد تركت في أعصاب الأمم الصناعية آثاراً عميقة ستطمر لا محالة جوانب من عواطف الرحمة والمروءة في قلوب أفرادها، وتمحو آثار العصور الصوفية التي أدرك الإنسان نفسه فيها حين كانت النبوات تتلاحق عليه.

وإني لأتخيل الآن ما جرى في ساحات (الفلاندر) فأرى الإنسان وهو يدفع الحديد الجبار فيندفع، ويطلق البارود الصاعق فينطلق، والقنابل الصارخة فتصيح في نكر وشدة، ويملأ الجو بالدخان الأسود والنار الحمراء فيمتلئ، ويسيل النار من (باصقات) النار فتسيل على الأجسام البيضاء الجميلة ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية والجماجم المستوية وتذيبها كالشمع، وتسحقها كالرفات، وتذروها كالرماد. . . ويرفع القلاع الطائرة إلى أجواز الفضاء فترتفع. . . أتخيله وسط هذا كله لا يسمع صوت نفسه إذا تحدث، ولا يعي خروج نفسه إذا تنفس، ولا يحس ألمه إذا تألم، ولا صعق جسمه إذا أصيب؛ فهو في جنون الحرب يضرب الأجسام الحية النامية من شجر أو ضرع أو زرع أو حيوان أو إنسان ويخرب العامر ويهدم القائم فأقول: لقد تحول إلى قوة عمياء، وصار عاتياً كالريح. . . جارفاً كالتيار. . . أعمى كالصاعقة. . . قاسياً كالحديد. . . صابراً كالفولاذ. . . فظيعاً كالنار. . .

ولست أدري متى يفيق لنفسه ويعني بوضعه وتحولات حياته كما يعني بمستقبل المواد والقوى، ويربط ما بينه وبين الله مفيض الفكر والحياة كما يربط ما بين نفسه وأجزاء الأرض؟!

إن الآلة لا تدركه وهو يعمل فيها ويقوم عليها، وهي لا ترحمه من السحق أو البتر أو الصعق إذا تعرض لها جاهل بقوانين سيرها، فلا قلب فيها ولا فكر ولا حياة دم وعصب وروح. ولكن ما باله هو لا يفكر في الاتصال بمن أنشأه وركبه ونسقه وصوره وهو ذو الفكر والروح والوجدان والنزوع والإرادة والاختيار والتطلع والحزْر والحذَر والقدرة على قياس ما غاب بما حضر؟!

إن الاستسلام لغيبوبة الحياة الآلية ضياع وتطبُّع بطبع الحديد البليد الأعمى الدائر في غير وعي وإحساس، وأخوف ما يخاف على الإنسان أن يترك هكذا فريسة وضحية للآلات يعيش معها ويقدم لها وقودها إلى أن يفني وقود حياته هو وينطفئ مصباحه ويذهب إلى ظلمة القبور بدون بصيرة منيرة يسعى نورها بين يديه في العالم الباقي غير المنظور.

ص: 22

وعلى هذا ينبغي أن تقوم في الناس دعوة إلى الإحساس بالنفس واليقظة الدائمة لها وتزكيتها والرفع من قيمتها، وهذا لا يكون إلا بالدين والفن الرفيع: الدين العقلي الطبيعي المبني على إسلام النفس لله البارئ وللطبيعة الأستاذة! والفن الرفيع الذي يخلق جواً يحضر للقلب بعض المعاني الغائبة التي تري الإنسان وضعه الممتاز الفريد الطليق وسط ما في الكون من المواد والقوى والمخلوقات السجينة. . . تلك المعاني التي تتراءى وراء بيان ذوي البيان النظيف، وألحان ذوي الأصداء البعيدة، وعيون ذوي الصفاء والإدراك. .

عبد المنعم خلاف

ص: 23

‌3 - جيل وجيل

للأستاذ محمود البشبيشي

. . . إذا كنت في فكرك مع الفن الطبعي، كانت كل آثارك من نثر وشعر، صوراً فنية، لا تكلف فيها ولا تعمل، والحيوية في الأثر الأدبي، ترجع إلى الحيوية الكامنة في نفس الأديب، وكلما كانت فطرية كان الأديب ينتزع من الطبيعة صوراً، ثم يخلع عليها من طبيعته ألواناً ضاحكة واضحة لا تنافر بينها. . . وكان موهوباً في كل ما يكتب ويقول. . . وأنت يا بني في كل ما حدثتني موهوب. . .

كنت قادراً على سرد أفكارك بوضوح. . . والحيوية في الكاتب هي قدرته على عرض أفكاره في غير ما تعقيد ولا ضعف.

وكانت لأفكارك القدرة على التأثير. . . والحيوية في الأفكار هي قدرتها على التغلغل في النفوس. . . وكانت ألفاظك لا تحمل غير معانيها. . . والحيوية في الألفاظ هي وجودها في المكان الذي إذا رفعت منه فقدت حيويتها، لا تستطيع أن تنقص منها أو تزيد عليها. . . لأنها وضعت كما توضع المقادير في سجل الوجود لا نقص فيها ولا زيادة!!

- جميل يا والدي أن جعلت للكاتب حيوية وللأفكار والألفاظ، ولكني أحب أن أعرف شأن هذه الحيوية في الكاتب

- شأنها عظيم يا بني. . . فقد يختلف الكتاب باختلاف الحيوية الفكرية فيهم. . . فهذا كاتب يملك ناصية الفكرة ولا يجد صعوبة في عرضها. . . فتخلص خلوص ماء السيل لا يقف ولا يتعثر، وتسطع كلماته أنواراً هي إشعاع نفسه وطبيعته، فتراه في أسلوبه، وتلمس في أسلوبه حيويته. . . وينسيك سحره كل شيء إلا ما أراد هو أن يخبرك به!!

وهذا كاتب يملك ناصية اللغة ولا يملك ناحية الفكرة والحيوية. . . مهما أوجز أو أطنب وملأ كتابته بكل لفظ شارد خرجت أفكاره عارية، لأن ألفاظها لا تكسوها، أو لأنها لا تلبس ألفاظها تماماً. . . مثل هذا الكاتب يا بني تستطيع أن تسميه صانع ألفاظ. . .

- وكذلك الشعراء يا والدي. . . فإنك لتجد شاعراً تسمو شاعريته، ويدق إحساسه، فينتزع من كل مرائي الطبيعة صوراً مهما صغر أصلها، يرتفع بها إلى القمة في تصوير عجيب، وتدفق غريب، لأن في نفسه طبيعة خلق معنوية شاعرية تكسو كل أفكاره حيوية ساحرة،

ص: 24

فيخرج شعره صافياً كمضير الوليد، باسماً كثغر الغيد، راقصاً كالقلب في فرحة اللقاء. . . وهو في إحكام صياغته، وارتباط معانيه بعضها ببعض، وتسلسل أنغامه، كأنه شيء حي تكاد تلمسه وتسمعه، لأن نفس صاحبه وحيويته توزعت فيه نغما وصياغة وتسلسلاً وصفاء

- وأكثر من هذا يا بني، فالحيوية في الشاعر إذا سمت اجتمع لها من الإعجاز ما يفوق حيوية الكاتب، لأنها هنا تقوم بأعمال كثيرة منها الوزن، والقافية الرقيقة، واللفظ الموسيقي، والمعنى الشارد، والروح الشعري. على حين أنها هناك لا يطلب منها سوى صحة العبارة وسلامة المنطق. والحيوية في الشعر لا تكتسب بالاطلاع كما قد تكتسب أحياناً في النثر، لأن الشعراء قوم خلقوا وفي طبيعتهم روح الشعر، بل وفي منطقهم وفكرهم وحديثهم ونظرتهم. فمن قال الشعر من غير طبع وخلق شعري خرج شعره يتعثر في قيود الصنعة وفقد روح الشعر كما فقد تسلسل النثر! أيحسبون أن الشعر حين يكتسب بالاطلاع ويشترى بالحفظ يكون شعراً بمعناه الصحيح! ألا إن الحيوية الشعرية لا تكتسب أبداً ولا تباع. إنما هي تخلق مع الروح

- وكما توجد الحيوية يا والدي في الأديب وأدبه، توجد أيضاً في الرسام وفنه، وكما يختلف الأدباء باختلاف الحيوية فيهم يختلف الرسامون كذلك، فإنك لتقف أمام لوحة زيتية لفنان موهوب، امتزجت روحه بالفن وامتزج بها، وسبح في عوالم لا يصل إليها غير من رقت روحه، وكشفت عن كل خفي من المعاني، وخلع إحساسه الفني على صور الطبيعة ألواناً من نفسه، وخلعت صور الطبيعة على ألوانه ألواناً حية، لو وقفت أمام صورة لمثل هذا الفنان دبَّ في نفسك شعور غريب يملك حواسك، بل يخرج بحواسك عن حقيقتها، فتعتقد أن هذه الشجرة الزيتية شجرة حية تهتز وتتحرك، وهذا النهر الملون تكاد تسمع له خريراً حلواً. ولا غرابة في ذلك، فحيوية الفنان هي سر حيوية لوحته الفنية. وأقسم أني وقفت يوماً أمام لوحة لفنان موهوب، تشع لوحاته إشعاعاً كله حيوية تتحرك وتؤثر وتعجب إلا وانقلب منطق إحساس. فأصبحت أسمع للألوان أصواتاً، وألمس في سكونها حركة. . . واللون الساحر يا والدي إذا وضعه فنان ساحر في موضعه الفني لا يظهر لوناً فقط، بل يظهر لوناً وحقيقة حية!

- والحيوية في الرجال يا بني هي سر الرجولة الكاملة في كل عمل يُعمل، والرجل

ص: 25

صاحب الحيوية هو الذي أحكم دقيق أمره وجليله، وامتنعت صفاته السامية كثيرها وقليلها، واحتوى من قوة الروح وهيبتها ما يغمر الجو الذي هو فيه هيبة غير مصطنعة وكانت فيه قوة ذات رحمة إذا قدرت، وذات بطش إذا ظُلمت! وارتفع بكل هذا عن كل مغمز وكل مقالة. . .

- وحيوية الحقيقة يا والدي هي قدرتها على الذهاب بالباطل، وإن الحقيقة لا تسمى حقيقة حتى تستطيع أن تقول للكذب أنت كذب فيقتنع ويخر ساجداً، لأنه يعلم أنها تخاطبه بلسان الواقع والمنطق. . . وقد تسكن الحقيقة أحياناً وتحتجب إذا كان في نفس صاحبها ميل إلى الاستكانة إلى الواقع ولو كان ظلماً! فتظل مقنعة تحاول الظهور كلما تمردت في طبيعتها نزعة الحق، فإن أفلحت في ذلك خرجت تحمل قوتين: قوة الحق، وقوة الإقناع. وكانت مدفوعة بدافعين: دافع استحقاق الوجود، ودافع حب الانتقام من كل معارضة كاذبة. . .

- وهذا ما كان من أمر حقيقتك وحقيقة إخوانك شباب الأدب، فقد ظلت ساكنة مقنَّعة، راضية بالواقع، حتى تحركت طبيعة استحقاق الوجود فيها فقامت ثائرة تناقش، وكان لها من ثورتها قوة تمطر مطرة من الأفكار والحجج، كلها حق وكلها واقع في المقالين السابقين. . . ولكني أرى أن قوتها ترجع إلى سر الحيوية الكامنة في نفسك وفكرك ومنطقك. وإذا وجدت الحيوية في شيء كان وجوده في الحياة وجوداً للحياة نفسها

- أجل يا والدي كان لا بد أن يشعر الشباب بحقه في الحياة الأدبية، وبأن الواجب تشجيع الموهوبين منا، فليس معنى الحياة أنك تحيا وتتحرك وتسكن، وليس معنى الحياة أنك موجود فيها. . . إنما الحياة الحقة أن تشعر هي بك. . . فتكون في الوجود وجوداً، وفي الحياة حياة!!. . . وفرق بين أن تكون خبراً من الأخبار وأن تكون الحياة خبراً من أخبارك!!. . . إن الرجل من امتلأ حيوية، وظهرت حيويته في أقواله صدقاً، وفي أفعاله فلاحاً، وفي نظراته صواباً، وفي منطقه استقامة، وكانت أقواله وأفعاله ونظراته ومنطقه هي حقيقته التي تقول إن صاحبي خلق في الحياة حياة أخرى. . . وجعلها خبراً من أخباره!!

- هذا قول رائع يا بني ولكن كيف يصل الإنسان إلى هذه المرتبة السامية؟ وكيف يستطيع أن يكون نفسه هذا التكوين؟

ص: 26

- إن الأمر على شيء من الخطر والصعوبة يا والدي، فهو يحتاج إلى خلق شخصية خاصة به فلا يكون صورة لغيره، وعليه أن يتعود الصدق، وإن صعب اليوم تعوده، فلا يدخل في كل خبر كلامه، وأن يجعل ألفاظه من نور ضميره، لا من سواد رغباته وأطماعه!! لأن الرغبات إذا اسودت بسطت سلطانها وسوادها على كل عمل يعمله الإنسان. . . وأن يعرف كيف يكيف صور الحياة التكييف الذي يجعلها باسمة. . . وأن يخلق لنفسه مثلاً أعلى. . . وأخيراً أن يبعث في شخصيته وصدقه وضميره وتكييفه للحياة ومثله الأعلى حيوية تكفل له النجاح في كل سبيل ينهجه، وعمل يعمله، وفكر يتأمله. . . فتشعر الحياة بأنه موجود فيها!!

ولكن ليس من السهل يا بني أن تشعر الحياة بك، وإن هذه الصفات التي بينتها لا تجتمع لكل إنسان، ثم إن الوصول إليها من الصعوبة بمكان. . . وليس في مقدور كل فرد أن يكون رجلاً. . . يحسن مغالبة الحياة ومدافعتها ويجعل فكره وشعوره في الناحية التي لا تقيم للخطوب وزناً. . . وليس الرجل من يبكي لأن الطبيعة وهبته عيناً تدمع! ويصرخ لأنها أعطته لساناً يصرخ! وييأس لأنه عجز، ولأن الحر من طبيعته اليأس إذا لم يقدر! إنما الرجل من يخرج من عينه إشعاع كله حياة وابتسام لأن الطبيعة وضعت السحر في البصر، ويضحك لأنها وهبت فمه معنى الضحك، ولا ييأس لأن الحياة لا يأس معها. . . ولِمَ اليأس. . . وليس في الحياة ما تنقطع عنده حيلة من الخطوب؟ فإذا نظر الإنسان في أحوال حياته، وصدق تأمله، ولم يمنعه إحجام، ولم يقيده تردد، ولم يذهب بجلده رهبة، استطاع أن يجعل كل أمر قريب المتناول، هين المحاولة. . .

- أجل يا والدي. . . كم مرت علي أيام، علم الله لم يك فيها ألم ولا يأس. . . ولكنني استقبلتها وفي نفسي ألم ويأس فغمر إحساس نفسي الحزين كل صور الحياة فرأيتها عابسة قاتمة فشكوت منها قائلاً:

ظلام ببطن الأم ليس له سر

وليل ببطن القبر ليس له سر

لعمري كأن العيش متصل الدجى

فأوله قبر وأخره قبر!!

إذا كان في موت الحياة مرارة

فموت شعور المرء حياً هو المر!

وقلت:

ص: 27

إيه يا قلب كم تعذبت بالدا

ء ودارت عليك شر الدوائر

ومشت فوقك الحياة بشوكٍ

بعد ما بعثرت عليك الأزاهر

وظلال من الفناء ترامتْ

فوق جبينك يا طريد المقادر!

وإن أسعد أيامي تلك التي نظرت فيها إلى الحياة بعين السرور فرأيتها فناً من السرور وجعلت لها روحي قيثارة تغني:

ليتني بسمة على شفة الور

د بفجرٍ مُعطَّر الأنداءِ

وطيور تطير في لهفة الشو

ق إلى دوحها الحبيب النائي

وابتسام يلوح كالأمل الحلوِ

على ثغر كاعب عذراء

ليتني أرغن يُغرِّدُ بالبشْر

ويكسو القلوب ثوب الهناء

ليتني لم أكن من الطين كالنا

س فأشقى بفكرةٍ قتماء

- عرفتَ يا بني كيف تستقبل الحياة، كما عرفت أن الحيوية هي سر وجود كل شيء، وشعور الحياة بأنه حي فيها، وعلمنا أن الكاتب من غير حيوية فيه، يكون صانع ألفاظ، وفهمنا أن الرسام تخرج لوحاته صامتة ميتة إذا حرم الحيوية الفنية. . . وأدركنا أن الرجل من غير حيوية لا يكون رجلاً. . . لأن أعماله تكون وليدة نقص في الخلق والرأي والتأمل. . . وقلنا إن حيوية الشاعر هي كل شيء في شعره. . . أما بعد فهل تتقيد الحيوية بسن؟ وهل هي وليدة اطلاع ومثابرة؟ وهل ظهرت في جيل وانعدمت في جيل. . .؟

- أظنها يا والدي لا تتقيد بطول سراية، وليست وليدة اطلاع. . . كما أنها تكون في كل الأجيال.

فكما تحسها في قول الزهاوي:

هناك نواميس بها أنا عالم

وأخرى على جهدي بها لست أعلم

وما أنا شيء مثلما أنت فاهمي

ولا أنت شيء مثلما أنا أفهم

وكما نلمحها في قول الدكتور أبي شادي:

تتلاقى الشفاه وهي ظماء

ثم تظمى على ارتواء وتنفس

وتتطيل اللقاء وهي سواه

عن حياة بوجدها تتنفس!

وكما تتلألأ في قول العقاد:

ص: 28

ليس بين الجنون والعقل إلا

خطوتا سائر، فحاذر وأمسك

أول الخطوتين نسيانك النا

س وأما الأخرى فنسيان نفسك

وتظهر أيضاً في شعر كثير منا. أفلست تحسها في قول صالح جودت:

جريان الغدير يُجري دموعي

ومسيلُ الدموع يُدمي المحاجر

ملأ الصبّ من جمالك سحراً

شفق الخد تحت ليل الغدائر

وفي قول مختار الوكيل:

حبذا أنت تطفرين مع الحلم

يكون من الخيالات نائي

ترسلين الأنفاس وسني كعينيك

عَلى وجْنَتَيَّ كالأنداءِ

وفي قول القائل:

يودعني القلب لو ودَّعك

ويرجع لو قدرٌ أرجعكْ

لقد مزق الهجر زهر الغرام

وضيعني البعدُ إذ ضيعكْ

ولكن تعود لروحي الحياةُ

إذا عاد للقلب عهدي معكْ

أما بعد: فتلك أحاديث لا يسعني إلا أن أقول إنها كشفت لعيني أبعاداً جديدة، وعلمتني أن الحقيقة لا تختفي وراء الظلام، وأن الأجيال تتأثر بحيوية فكرتها، ويؤثر في حيويتها صدق التأمل فتفسد بفساده وتصلح بصلاحه، وإن الضعف والفناء قد يكونان قوة سامية، ما دام الضعف يولد قوة، والفناء يجدد حياة. . .

ورأيت فيها فلسفة تعارض فلسفة، فآمنت بأن الحيوية في كل شيء هي سر وجوده، وليست الحياة ومعناها في كونك خبراً من أخبارها. . . إنما معنى الحياة أن تكون هي خبراً من أخبارك. . . آمنت يا بني بكل ما تقول. . . لأنك قيدت حقيقتي بكل ما تقول

محمود البشبيشي

ص: 29

‌كتب لم أقرأها

بريد الفراعنة

للأستاذ عبد اللطيف النشار

وهذا كتاب إلاَّ أكن قد قرأته فإن قليلين من أدبائنا هم الذين قرءوه. وفي اعتقادي أنه لا عذر لأحد في مصر ألاَّ يكون ذا نصيب منه إما مترجماً أو ناقداً أو قارئاً أو حاثاً على ترجمته أو قراءته.

وهو كتاب يقع في جزأين ويشتمل على الترجمة الإنكليزية لوثائق فرعونية عددها أربعمائة يوجد من أصولها المنقوشة بالخط المسماري على لوحات من الصلصال 194 وثيقة في متحف برلين و82 في المتحف البريطاني و50 في متحف القاهرة، وبقية الأربعمائة مبعثرة في متاحف خاصة وعامة في حواضر مختلفة ومن بينها وثيقتان في نيويورك

هذه المجموعة تعرف باسم وثائق تل العمارنة. وأول عهد اللغات الأوربية بها في برلين حيث نشر العالم النرويجي البروفسور كنودتسون طائفة منها - هي كل ما كان معروفاً منها إلى عهده. وقد استغرق مجهوده في ترجمتها الفترة ما بين عامي 1907 و1914 وترجم هذه المجموعة إلى الإنكليزية العالم الإنكليزي البروفسور كلاي من جامعة ييل، وأفرد لها جزءاً من كتابه (نقوش اللغة السامية القديمة) وأضاف إليها شروحاً وحواشي وقدمها بمقدمة طويلة

وفي المدة بين عامي 1919 و1929 اشتغل الدكتور مرسيه أستاذ اللغات السامية وعلم المصورلوجيا بجامعة ترنتي - بترجمة ما استكشف من الوثائق بعد نشر مجموعة كلاي وأضافها إليها ونشرها وهو يظنها كاملة. ولكن ظهرت بعد ذلك ثماني عشرة وثيقة أخرى فاشتغل بترجمتها أيضاً بين عامي 1936 و1937، وأعاد نشرها فكانت هي المجموعة موضوع هذا الحديث

وقد تحدث عنها المستر ألبرت فيلد جليمور في عدد 21 نوفمبر سنة 1940 من جريدة الإجبشيان غازيت فقال:

(إن أهمية هذه الوثائق إنما تتضح لك إن تخيلت ما يمكن أن يحدث بعد أربعة آلاف عام

ص: 30

من استكشاف مجموعة في مثل عدد هذه المجموعة من رسائل متبادلة بين رئيس جمهورية الولايات المتحدة وبين ملك إنكلترا)

قال: إنه إن حدث ذلك فسيوضح هذا الأثر شطراً كبيراً من تاريخنا ومن أساليبنا السياسية وعلاقاتنا الثقافية وعاداتنا وصناعاتنا وحياتنا الاجتماعية

وأول العهد باستكشاف وثائق تل العمارنة هذه كان في سنة 1887 إذ كانت فلاحة مصرية من سكان قرية قرب هذا التل تجمع سماداً فوجدت قطعاً من الصلصال يختلف طول إحداها بين بوصتين ونصف البوصة وبين تسع بوصات. ويختلف عرضها بين ثلاث بوصات وأربع وعليها نقوش غريبة

وسرعان ما انتشر الخبر بين العلماء في القاهرة وفي باريس وبرلين ولوندرا واكسفورد وغيرها. وتبين أن هذه النقوش كتابة مسمارية، وأن هذه المجموعة ليست إلا رسائل متبادلة بين الملك امنوفيس الثالث وابنه اخناتون، وبين رجال مختلفين من حكام آسيا الغربية، ومعظمهم من حكام بابل وأشور وسوريا وفلسطين، وغيرها من بلدان آسيا الغربية

ويرجع تاريخ هذه الرسائل إلى المدة بين عامي 1411 و1358 قبل المسيح

ويقول هذا الكاتب وهو أستاذ في علوم الدين المسيحي: إن لهذه المجموعة أهمية خاصة لدى الذين يدرسون الكتاب المقدس لعلاقتها بسفر الخروج، وأخبار بني إسرائيل في رحلتهم إلى أرض كنعان، ولأنها تحدد التواريخ الدقيقة لبعض الأخبار التي تضمنها العهد القديم

لما اعتلى اخناتون عرش مصر خلفاً لأبيه امنوفيس الثالث نقل العاصمة من طيبة، ولعل ذلك كان اضطراراً بسبب ما ترتب على تغييره عقيدة مصر من الوثنية إلى التوحيد من خلاف مع رجال الدين. وكان المكان الذي اختاره لعاصمته الجديدة هو المعروف الآن بتل العمارنة. ولقد عاد مقر الملك إلى طيبة بعد أخناتون وأصبحت عاصمته الجديدة أطلالاً وعرفه الوثنيون من المصريين من بعده باسم (الكافر) لمخالفته عقائدهم

ولقد كان أخناتون شاعراً وفيلسوفاً ولم يكن ملكا فحسب.

ومن بين هذه الوثائق خمس تتضمن الحديث عن هدايا تبادلها الملك المصري وبعض الحكام والولاة. وتدل المصارحات التي تضمنتها هذه الرسائل الخمس على أن الحكام القدماء كانوا يحفلون بالقيمة المادية للهدايا

ص: 31

ومن أمثلة ذلك كتاب من أمنوفيس الثالث يشكو فيه اختيار الرسل الذين حملوا إليه الكتاب والهدايا من بين ذوي المراتب الثانوية في المجتمع، وكان هذا الكتاب وتلك الهدايا من ملك بابل. وقد تضمن الكتاب كذلك شكوى من ضآلة قيمة الهدايا ولكنه مع ذلك بعث مع الرد بهدايا قيمة ووعد بأن يرسل أكبر قيمة منها متى قبل الملك البابلي تزويجه من بنته

وبدأت المنافسات بين الملكين المصري والبابلي في عهد أمنوفيس الثالث، ولكن مداها اتسع في عهد أخناتون إذ تفوقت بابل على مصر. وتدل بعض هذه الرسائل على ما كان ملك أشور يعلقه على نفسه من الأهمية فقد كان يلقب نفسه (الملك الكبير الذي يصر على المساواة مع فرعون مصر الذي يخاطبه بلفظ أخي) وهو ينوه في خطابه لأخناتون بقدر الهدايا التي تلقاها جده من فرعون سابق فقد كانت عشرين وزنة من الذهب، وهو يذكر في الخطاب أنه لا يعدو جانب التواضع حين يطالب أخناتون بالا تقل قيمة هديته عن هذا القدر حفظاً لكرامته

وتدل الرسائل أيضاً على أن مصر رفضت التدخل في المنازعات التي كانت بين بابل وبين أشور، عدا أنه لما اقتصر الخلاف على أمر الحدود بين الدولتين قبل أخناتون أن يتوسط لمصلحة الآشوريين لدى البابليين سادتهم القدماء. وهذه السياسة بين الملوك الأقدمين تطرد مع ما يجري في زماننا كأنما التاريخ يعيد نفسه

وأكثر هذه الرسائل مبعوث به إلى ملك مصر، وأقلها مبعوث به من مصر. ومن بين ما بعثت به مصر أربعة كتب للملوك منها ثلاثة لملك بابل والرابع إلى ملك ارزاوا. أما الرسائل التي وردت إلى مصر فمنها ما هو من بابل ومنها ما هو من أشور أو من مملكة الحيثيين أو سوريا، وأحدها إلى أمنوفيس الثالث والد أخناتون. ورسالتان أخريان إلى سيدتين مصريتين

ولهجات هذه الرسائل مختلفة اختلافاً بيناً، حتى لقد وجد المترجمون مشقة شديدة في ترجمتها، فلها من هذه الناحية أهمية لغوية عند علماء اللغات السامية

وفي الرسائل وصف دقيق لبعض عادات القدماء ومراسيم الدين وتقاليد الزواج، كما أن لها أهمية جغرافية، وتدل هذه الوثائق في جملتها على سيادة مصر على آسيا الغربية وعلى هيبتها منذ طردت الهكسوس إلى عهد أمنوفيس الرابع

ص: 32

ولقد كان ملوك مصر في عهد مجدها محاربين، أما أمنوفيس الثالث فبدت فيه ميول أدبية، وأما ابنه أخناتون فقد بدأ به عهد الضعف، وقد كان شديد الكراهية للحرب

(انتهى ملخصاً)

عبد اللطيف النشار

ص: 33

‌القدر والقصص

(بمناسبة شقاء أشخاص روائيين)

للأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل

في عام 1850 قدمت شارلوت برونتي الطبعة الثانية من قصة أختها إميلي برونتي المسماة مرتفعات وُذَرِنج بمقدمة جاء فيها:

(لا أدري أكان صواباً أو ملائماً أن تخلق كائنات مثل هيثكليف، ويصعب أن أظن ذلك، لكنني أدري أن الكاتب الذي يملك الموهبة الخالقة يملك شيئاً لا يسيطر دائماً عليه - شيئاً يريد ويعمل لنفسه بغرابة أحياناً، فقد يضع (الموهوب) قواعد ويبتكر مبادئ، ثم ترقد (موهبة الخلْق) أعواماً في خضوع لهذه القواعد والمبادئ؛ وعندئذ، ومصادفة وبغير إنذار بالثورة، يحين وقت لا تعود تقبل فيه أن (تَسْلفَ الأودية، أو تربط برباط في خط المحراث) - حين (تضحك من زحام المدينة، ولا تهتم بصياح الحوذي) - حين ترفض كل الرفض أن تصنع من رمل البحر حبالاً لحظة أخرى، وتشرع تنحت التماثيل فتجد (أنت) صورة من بلوتو أو جوف وتيسيفون حورية ماء أو مريم كما يوجِّه القدر أو الإلهام. وليكن العمل عنيداً أو مجيداً، مفزعاً أو سماوياً، فإن لك اختياراً ضئيلاً متروكا، غير أنه اختيار هادئ ساكت. أما أنت أيها الفنان الاسمي (الصوري) فإن نصيبك منه كان أن تعمل مستكيناً بإرشاد لم تفهمه، ولا استطعت أن تستوضحه - إنه لا يلفظ في صلاتك، ولا يُلغى أو يغير على هواك. فإن كانت النتيجة خلابة، فسيمدحك العالم أنت الذي تستحق من المدح قليلاً؛ أما إن كانت تشمئز النفس منها، فإن العالم نفسه يلومك، أنت الذي تستحق من اللوم قليلاً كذلك)

وفي عام 1930 قدم هـ. و. جَرُد لطبعة هذا العام من هذه القصة، بمقدمة أيد فيها شارلوت في تفسير قسوة القصة بالقضاء والقدر أو الإلهام، وقال:

(إذا لم يمكن وصف قصة مرتفعات وذرنج بأنها أعظم قصة (غير مسرحية) في لغتنا، فإن لها على الأقل أن تدعونا بعدل إلى اعتبارها أصفى قصصنا إلهاماً؛ وقد أحسنت شارلوت برونتي كشف قوتها العجيبة إذ تكلمت على (القدر أو الإلهام) (إلى أن قال): ليست الطبيعة، بل القدر، يبدو أنه أخذ القلم من الكاتبة، وكتب لها. (حتى قال): لو كان مدبر

ص: 34

القصة شيئاً أقل من (القدر أو الإلهام) لكانت سفينتها غرقت وسط متاعب الأنانية)

هكذا قال مقدماً القصة الغريبة الرفيعة. ولم يكن يسع شارت الموهوبة الملهمة إلا أن تتأمل غرائب القصة وسببها الدافع وإلا أن تجد أنه القدر. أما الإلهام فمن القدر. ولم يكن يسع (جَرُد) إلا أن يُعجب بهذا التوفيق إلى تفسير سبب هذا العمل الأدبي الطافح بالقسوة والغرابة، وإلا أن يؤيده ويكرره في راحة وسرور

ولو لم تتكلم (شارلوت) و (جرد) عن عمل القدر في هذه الرواية لكان جديراً بنصف قراء هذه القصة أن يتساءلوا مستنكرين: لماذا قسمت حظوظ شخصيات هذه القصة كما قسمت؟! ولماذا نجح الشر فيها كل ذاك النجاح؟! ولماذا شقيت شخوصها الطيبة ما شقيت؟!

طالعت كثيراً من المآسي فلا أذكر أني عجبت من المؤلف عجبي من إميلي برونتي وإن تكن قصتها المحشودة بالمآسي ليست في قالب المأساة

الناس يشقون بمكتوب القدر، ويسألون الله اللطف والرحمة؛ وقد يتعجبون في تسليم من الحكمة الخفية كيف تكون. وقد يستغربون وجود غاية مجهولة معقولة لأن عقولهم لا تغني في هذه القضية بغير إيمان ثابت. فقد يسأل القارئ بعد تلاوة هذه المأساة وأمثالها: أما كفى المؤلف شقاء الناس في الحياة فيشقي شخوصه في الورق والخيال وهي من صنع يده لولا أن قَدَر الحياة يتدخل في قَدَر الخيال! إنه لا يجوز أن تشقى هكذا تلك الأحياء الخيالية الطيبة. فإن جاز شقاء شخوص روائية فحين يصف مؤلف أشخاصاً حقيقيين في قصة وصفية غير وضعية إلا أن يكون المؤلف قاسياً وحشياً

ويظهر أن مخرج هذه الرواية للسينما راعى شيئاً من ذلك، فرأيناها خلواً من شر ما فيها من شذوذ وقسوة. وإن يكن قد شوهها بالبتر والاقتضاب والتعديل

هذا، وقد كان كلام شارلوت على القدر والإنسان والاختيار المتروك له، وهو مناط الكسب، كلاماً صائباً يوافق في عمومه رأي السيد جمال الدين الأفغاني في مقالة (القضاء والقدر)

وفي (عهد الشيطان) للأستاذ توفيق الحكيم أقصوصة عنوانها (الأميرة الغضبى). وهي (ريسكا) بطلة قصته (أهل الكهف). والمؤلف يحاور بطلة قصته بهذا الحوار الذي طرق به موضوع القدر:

- قل لي أنت قبل كل شيء: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟. . . لو أن قلمك تمهل

ص: 35

لحظة قصيرة ولم يقصف تلك الحياة لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!

- لست قاسياً يا سيدتي ولا ظلوماً. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر

- لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟

- لا تحمليني يا سيدتي هذه التبعة!

- جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!

- آه، ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود

- نحن الظالمون وهم المظلومون. . . شيء بديع!

- إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم، وهم براء من كل صفة من هذه الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغى إله لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة عين، كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة، ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلا يا سيدتي. إني لم أرد موت مشلينيا ولم أرد بقاءه، ولم أحب ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل، إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد:(التناسق)

فكيف لا يعرف الخالق الذي يحدثنا عنه الأستاذ الحكيم الظلم والعدل والقسوة والحنان والغضب والرضى وهو الذي خلقها؟! وكيف لا يشعر بها وهو يتصف بأكثرها؟ أو أن هذا الذي يصفه الأستاذ طراز من الخالقين طريف: اختصاصه الأبدان وليس من اختصاصه العواطف!

وكيف يجهل هذا الخالق المفاجآت ولا يحسب حساب الظروف وطارئ الطلبات، والمخلوقات يعرفونها ويعدون لها ما استطاعوا من عدة؟! أفينحل الكون العظيم لو أجاب الخالق دعاء إنسان يطلب شيئاً معقولاً هيناً على القدرة الإلهية؟!

وما عزاء المتدين عن مصائبه إذا لم يكن له أمل في رحمة الخالق وفي نعمة الجنة؟ إذن ما أضيع المخلوق!

ص: 36

وما هذا التناسق الغريب الذي لا يكون إلا مركباً من نسبة من الشر لا تنقص؟! فكيف إذن يكون الحال في الجنة التي لا شر فيها، ألا يكون فيها تناسق؟! كذلك القصص التي ليست مآسي، هل انعدم التناسق فيها؟! فإن يكن المراد (التناسق الذي يقتضيه الحال) فأين إرادة الخالق واختياره؟! وكيف يكون خالقاً من ليست له إرادة ولا اختيار ولا تدبير فيسيطر عليه المقام والسياق والاتفاق! فقد يسوقه التناسق فينساق فيكتب في لوح القدر تراجيدية أو درامة أو كوميدية. . . ثم هو بعد ذلك خالق وله قدر!

وقد انتهى دور أفلاطون في مسرح الدنيا، لكن ديكنسون استطاع أن يهيئ له مرة أخرى دوراً في محاورته (بعد ألفي عام) وهي حوار بين أفلاطون وبين شاب عصري كذلك أسدل الستار على حياة فولتير وواشنطون ونابليون، لكن مادارياجا أنطقهم وبعثهم في الخيال المسطور في (ساحات الفردوس). وقد رقد المعري بعد سهاد دنياه ولكن الأستاذ العقاد أيقظه ليسجل في صفحات (رجعة أبي العلاء) أنباء رحلته في هذا العصر في الدنيا الحديثة. هذا وإن كان الأستاذ العقاد قي استصوب كلام الأستاذ الحكيم في (كناشة الأسبوع) بقوله:

(وهذا كلام جميل أصيل لا يحل به المؤلف مشكلة بريسكا وحدها ولا مشكلة الفن وحده، بل لعله يحل به مشكلات كثيرة، ويكشف به أسراراً كثيرة، من مشكلات القدر وأسرار الوجود)

لقد أراد الأستاذ الحكيم أن يفسر القدر في القصص فنظر إلى القدر في الوجود فلم يوفق إلى حقيقتهما معاً حيث وفقت شارلوت برونتي إلى تفسير أقدار القصص برأي معقول. وللحكيم العذر في إخفاقه لأنه سلك سبيل القدر الإلهي، وهو عصي على الإفهام

شجعني على إبداء هذه الملاحظات على (سُنَّة) الأستاذ الحكيم في (مخلوقاته) الروائية، أنه (خالق) لا يعرف الغضب ولا يشعر به، وأني لست مخلوقاً روائياً فأدخل في اختصاصه. . .

عبد المجيد مصطفى خليل.

ص: 37

‌من وحي الريف

ريف وروح. . .

للأستاذ حبيب الزحلاوي

السرعة إحدى خصائص العصر، وهي على رغم أخذها الناس بالسوط تستحثهم على المضي، تتهيب الأديب، لا تجرؤ على الدنو منه ساعة سبحه في الفراغ الطويل، أو تأمله بدائع الكون العظيم، أو انجذابه بسحر الطبيعة ومفاتنها

للأديب الذي يركب القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، أو منها إلى الصعيد بعض العذر في رمي الريف بالصورة الواحدة ذات الوجه واللون الواحد، وله أن يدعي الملال من الرؤى الرتيبة، لا لأن طبيعة الريف هي كذلك، بل لأن أثر السرعة في نفسه أبلغ من أثر تهيئها لتقبل الجمال ولمح قسمات الروعة والبهاء المطوية والمنشورة، البادية والخافية والتشبع منها على مهل

والريف كالمرأة في مجموع تكوينها سحر يدرك بالغريزة، وفي تفصيل قسماتها فتنة تعيها لطافة الحس بالاشتراك مع الشعور والذوق وتفتق البصيرة

الريف للأديب المتسرع جمال موقوت وبهجة زائلة، ولقرينه المتأمل هيكل في مباءة الأرواح. . .

ما سمعت من أديب ثناء على ريفنا الصامت، بل رأيت ملامح الضجر تضج من الصمت فقلت هو ذا مظهر من مظاهر السطحية لا يقوى صاحبها إلا على مسايرة العصر في سرعته وتسرعه، ويعجز عن مجاراة الروح في سبحه وتأمله وانجذابه

لم ترني (الدقهلية) نخيلاً تبدى لي في الصعيد بقامته الممشوقة، وأغصانه المعروشة، وعناقيده المدلاة، وبلحه النحاسي القاتم والذهبي الصافي اللون، بل أرتني منابت الأرز تلبس عشرات ألوان متناسقة متساوقة من خضرة السندسي المفرح، تسبح في أمواه رقراقة لا تفيض حتى يدرك النبت النضج فيتناوله المنجل، وكأني سمعتها تقول:(نعوم في أمواهنا نستكمل حياتنا فيها كما يستكملها الأديب الموهوب في حب متقطع متواصل يحيا به حياة دائمة التوقد والالتهاب حتى قطعه المنجل!)

رأيت فصول العام مستوفاة في أرض الريف في ساعة واحدة هنا وهناك ربيع وخريف

ص: 38

للقطن والقمح والأذرة والبرسيم، وهنالك صيف وشتاء لأرض تتأهب لغرس جديد

إن تعجب يا صاحبي فاعجب لقطان هذا الريف السمح السخي إذ لا شيء أدعى للعجب بله الدهشة من تلقيك عكس ما كنت تتوقع وتتأمل

في طباع قطان الريف جود وبخل، حلم وسفه، ظَرف وسماجة، ذكاء وبلادة؛ ولعلي لم أتلمس وألتفت إلى الاستكانة وضدها الأنفة، والتواضع وضده الكبرياء، والشجاعة يقابلها الجبن، وسهولة الخلق وتوعره، لأنها وإن كانت من الصفات التي تسم روح الفلاح بميسم الانطلاق والحرية والاعتماد على النفس ولكنها مكبوتة فيه، مخنوقة من الجور الذي لا تبلى جدته، ولا يصدأ معدنه، الجور الناعم الباسم وقد توارثته الأجيال الحاضرة عن الظالمين والمظلومين من أقدم العصور

والريف وضيء الطلعة، واضح السنة، كفتاة في مستهل الصبا، عفيفة الطوية، إن تصدت تتصدى لأليفها، أو للقريب من روحها، وليس للمحة الخاطفة عندها مهما بان سناها سوى أثر البرق. . .

اقتربت من فتيات ريفيات يجنين القطن، وكنت إذ ذاك متيقظ النفس، متشوقاً إلى رؤية جنى محصول مصر العزيز، ولكني ما كدت ألقي بالنظرة الخاطفة حتى غامت الرؤى في عيني. . .

لقد تذكرت الأديب فخري أبا السعود، هذا الرجل الذي صدمته الحياة فتغلب عليها بالموت. . . تذكرته للفصل الممتع من الكتاب القيم الذي نقله إلى العربية لمؤلفه توماس هاردي في وصف فتيات ريفيات يجمعن القمح في الحقل، وإني لأنقل شذرة من الفصل للدلالة على أدب السرعة الذي نأخذ ذواتنا به لسهولته وخفته وعلى الأديب الموهوب الذي يندمج في موضوعه فيمتزج به، فيشيع فيهما روح واحد، فتسمع تجاوب الروح الواحد. . .

(تركت الآلة الحاصدة المحصول وراءها في أكوام صغيرة، كل كومة منها تصلح لأن تكون حزمة، وعليها أكب الحاصدون بأيديهم، وكان معظمهم من النساء، وكان الرجال يرتدون قمصاناً وسراويلات تجمعها حول أوساطهم أحزمة من الجلد) (أما بنات الجنس الآخر فكن أهم شأناً وأمتع منظراً، شأن المرأة حين تندمج في مظاهر الطبيعة يدل أن تظهر بينها مجرد ظهور، كما هي الحال غالباً، فالرجل في الحقل يبدو شخصية قائمة فيه،

ص: 39

أما المرأة فتبدو جزءاً منه، قد فقدت استقلال شخصيتها وتشربت روح المنظر المحيط بها ومزجت نفسها به)

وفي هذا الصباح كانت العين ترتد عفواً إلى الفتاة ذات السترة القرنفلية الشاحبة، إذ كنت أعدل الجميع قداً، وألينهن غصناً، ولكنها كانت قد شدت قلنسوتها على جبينها حتى لم يعد يرى شيء ومن وجهها حين تنحني، وإن كان من الممكن التنبؤ بلون وجهها بالنظر إلى خصلات شعرها الأسود الرمادي الممتد من تحت حافة قلنسوتها، ولعل من أسباب طموح العين إليها أنها لا تحاول اجتذابها، وأن تلتفت الأخريات حولها من حين إلى حين

وظلت تنحني وتقوم في حركة رتيبة كسير الساعة، تستخرج من آخر كومة هيئت ملء يمناها من السنابل، وتضرب قممها براحتها لتسوي رؤوسها، ثم تنحني ملياً، وتتقدم ضامة العيدان بكلتا يديها إلى ركبتيها، وتدفع يسراها ذات القفاز تحت الحزمة لتقابل اليمنى على الجانب الآخر، معانقة القمح معانقة المحب، وتجمع أطراف الحزمة وتجلس عليها وهي تربط، وتدفع أذيالها إلى أسفل كلما عبث بها النسيم، وكان جزء من ذراعها يبدو عارياً بين جلد القفاز الخشن وبين كمها ناعماً رقيقاً، وكلما تقدم النهار ابتسمت عليه الخدوش وبض منه الدم، وكانت تعتدل قائمة من حين إلى آخر لتستريح وتصلح من ميدعها وقلنسوتها، وعندها يرى الناظر وجه فتاة مليحة بيضاوياً ذا عينين سوداوين تحف به خصلات من الشعر الأسود سبطة تعلق بكل شيء تقع عليه، وكان خداها أشد شحوباً، وشفتاها الحمراوان أرق، وأسنانها أكثر تناسقاً مما يشاهد في بنات الريف)

سلام على ريفنا الملهم، وعلى أديب ليستلهم فيصور، ورحمة لفخري أبي السعود فقد عاش وكتب بدمه، ومات وهو يعلم أن الدم روح مسفوكة

حبيب الزحلاوي

ص: 40

‌من وَراء المِنظَار

1 -

صاحب السلطان الحقيقي

وهذا صاحب سلطان آخر لم أدر بادئ الرأي ماذا أسميه، وترددت بين أن أنعته بصاحب السلطان الثعبان وأن أسميه صاحب السلطان المهرج أو المشعوذ أو النصاب، حتى رأيتني أدعوه آخر الأمر على رغمي صاحب السلطان الحقيقي، ولعلها بعد كرامة من كراماته! والحق أني لم أر حتى اليوم من أصحاب السلطان من بلغ من الجاه نصف ما بلغه منه ذلك الألعبان الثعلبان

دخل الحجرة في نفر من حاشيته فسلم مسبل العينين خافض الجناح مطأطئ الرأس يكاد يتهدم من الضعف ويبدو كأنما ينوء بعمامته الحمراء الضخمة التي تعلو جبينه العريض، والتي زاد من حمرتها شدة بياض لحيته وشعر عارضيه وفوديه؛ وجلس وهو يلملم هلاهيله ويضعها بحيث لا تخفى مسبحته العظيمة التي تدور بعنقه وتتدلى إلى منتصف بطنه، وما برح يتمتم ويحرك شفتيه وهو يخلع نعليه حتى تربع على الكنبة وأسند عصاه إلى جانبه

وأحسست وقد استوى على الأريكة جواً من الهيبة يشيع المكان كله، فقد سكت الجلوس سكوتاً لم تتخلله إلا عبارات الترحيب والتحيات تزجى إلى الشيخ من كل ناحية، وهو لا يرد إلا همساً كأنما يحدث نفسه؛ وما دخل إنسان من أهل القرية تلك (المنظرة) التي جلس فيها الشيخ، والتي اتخذها العمدة مكان سهره وموضعاً للفصل بين المتخاصمين، حتى أقبل على الشيخ فتناول يده من فوق المتكأ فلثمها وردها إلى مكانها في خشوع ورهبة وفي نفسه من الغبطة من لثم يد الشيخ ما ينسيه قضيته إن كان صاحب قضية، أو يذهب كربته إن كان ذا كربة. . . وما رأيت قط صاحب قضية جرؤ على الإفضاء بما جاء من أجله في حضرة الشيخ، فليس من اللائق أن ينشغل المجلس عن الشيخ بقضية من القضايا مهما بلغ من خطرها، وإن كان الشيخ ليبدو وكأنه في شغل عمن حوله بما هو فيه من تمتمته وإطراقه

ولبث الشيخ على تلك الحال إلى أن رأيته ورآه من في الحجرة يهز رأسه هزاً عنيفاً ذات اليمين وذات الشمال ثم يدق كفاً بكف قائلاً في صوت مرتفع وعيناه مغمضتان: (الله! الله لطيف بعباده. . حي يا قيوم اصرف عنا الأذى. . . اصرف عنا الأذى يا الله!)

ص: 41

ونهض الشيخ فراح يمشي في الحجرة جيئة وذهاباً وفي وجهه عبوس وضجر وخوف وقد فتح عينيه ولكنه لم يرفعهما عن الأرض كما أنه لم يفتر عن هز رأسه تلك الهزة السريعة العجيبة. . . ودخل الحجرة فتى يلبس جلباباً أبيض فضفاضاً واسع الردنين والطوق إلى درجة غير مألوفة، وتبينت أنه من حاشية الشيخ فقد جلس بين أصحابه دون أن يسلم على أحد حتى على أهل المنزل وهذه أمور يتقنها هؤلاء (المجاذيب) وينفردن بها من دون الناس إلا من المجانين

ورأيت الشيخ يلمحه عند دخوله لمحة خاطفة ما أحسب أحداً لاحظها لفرط سرعتها؛ وبعد أن قطع الشيخ الحجرة في ذهابه ومجيئه بضع مرات عاد إلى مكانه وجلس فأطرق قليلاً ثم هب واقفاً في حركة (بهلوانية) عجيبة كأنما أطلقه لولب خفي وصاح قائلاً: (يا خفي الألطاف) وعاد فجلس والعيون ترمقه في دهشة وحيرة. ودخل الخادم يقدم القهوة فبدأ بالشيخ ولكن الشيخ أشار إليه بيده إشارة عصبية، ونهض اثنان من دراويشه فصرفا الخادم عنه لأنهما يعلمان من حال شيخهما ما لا يعلمه ذلك الخادم الذي التقت الدهشة في وجهه بالرهبة والاحتشام. ثم إن الشيخ عاد فوثب من موضعه وثبة من لدغته عقرب لدغة أطارت صوابه وصاح في صوت مزعج:(يا لطيف! يا لطيف. . . حوش يا رب حوش بحق جاه سيد المرسلين. . . الطف يا لطيف سقت عليك النبي. . . سليمة إن شاء الله، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً. . .)

ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الجالسون صفير الخفراء من أطراف القرية البعيدة، وحضر العمدة ومعه بعض الرجال، ثم عادوا بعد حين يعلنون أن الحرائق الثلاث أخمدت سريعاً والحمد لله. ونهض الشيخ يريد الخروج فقد رأى في وجه العمدة ما لا يخفى معناه عليه، وخرج الناس وراءه وما منهم إلا من يتمسح به ويزحم غيره ليحظى بلثم يديه فإن لم يستطع قنع بلثم ردائه، وقد ازداد الشيخ عظمة في نفوسهم بما أظهر من كرامة لا تنكر، ولما كانوا عند الباب الخارجي سمع لغط شديد وجلبة تتخللها الإيمان بالله والطلاق، وتبينا أن كلاً من هؤلاء يتمسك بأن ينال شرف مبيت الشيخ عنده؛ وفصل الشيخ في الأمر بإشارة منه أذعن لها الجميع فقد اختار من بينهم من يضيفه وأنعم عليه بهذا الشرف العظيم.

ودارت الأيام ورأيت الشيخ في مواطن كثيرة، أرجو أن أسوق إلى قارئي العزيز بعض ما

ص: 42

التقطه منظاري منها ليؤمن معي إن لم يكن قد آمن بعد بأن الشيخ هو على رغم الناشين المنكرين من أمثالي صاحب السلطان الحقيقي.

الخفيف

ص: 43

‌رسَالة الشِعر

ميعاد ليلة الأحد

للأستاذ صالح جودت

والضُّحَى، والغدائرِ الذَّهَبِ

والعيونِ الشهباءِ كالسُّحُبِ

وبخديكِ كأْسَيْ العنبِ

وبنهديكِ حُلْوَيْ اللعِبِ

قَسَم صنتُهُ عن الكذِبِ

ذكريات اللقاء لم تَنَمِ

يَقِظَاتٍ في مهجتي ودمي

غَرِداتٍ في نظرتي وفمي

فبحقي، وحَقِّ ذا القَسَمِ

هل تُعيدين ليلة الهَرَمِ؟

ليلة كابتسامة القَدَر

كنتِ فيها أحلى من القمرِ

جمعتْنا بجانبٍ حَذِرِ

من أبي الهول ساخر النظر

ليت لي مثل قلبه الحَجَري!

قد رآنا بطرْفِ مُقلتِهِ

ننقش العهد فوق رَمْلِتِه

يا لجهل الصِّبا وضلَّته

وغرورِ الهوى وغفلته

درس العهدُ منذ ليلِتِه

أين ميعادُ ليلة الأحَدِ؟

أين ميثاقنا إلى الأبدِ؟

أتصونينه؟ بل اقتصدي

وتعاَليْ هنيهةً تَجِدِي

إنني في الثرى دفنتُ غَدِي

نصف عامٍ مضى ولم أَرَكِ

أيُّ أمرٍ جرى فأَخَّرَكِ؟

أحبيبٌ عَلَيَّ غَيَّرَكِ؟

أم طبيبٌ رأى فأخْبَرَكِ

أنني قد وقعتُ في الشَّرَكِ؟

علمي الرفْقَ قَلْبكِ القاسي

ذكِّرِي بي فؤادكِ الناسي

ملأ الحب بالضَّنَى كاسي

فارفقي ساعةً بإِحساسي

أنا ما عُدْتُ غيرَ أنفاسٍ!

ص: 44

‌بعد عام

ثورة. . .

(مهداة إلى أخي الأستاذ محمود الخفيف)

للأستاذ أحمد فتحي مرسي

أَسْبِلْ جُفُونَ الْعَيْنِ يَا سَاهِرُ

وَخَفِّضْ الثَّوْرَةَ يَا ثَائِرُ

اللَّيْلُ حَوْلَيْكَ بَعِيدُ المَدَى

لَا أول يُرْجى وَلَا آخِرُ

والنَّجْمُ رَجَّافُ السَّنَا واهِنٌ

يَنْفُخُ فِيهِ الْعَاصِفَ المَاطِرُ

والكأْسُ في كَفَّيْكَ قَدْ أَوشَكَتْ

تَنْطِقُ: دَعْ جَنْبَيَّ يَا سَاكِرُ

خَوَاطِرٌ زَارَتْكَ مَا تَنْتَهِي

فَزَائِرٌ مِنْ بَعْدِهِ زَائِرُ

أَثَابَكَ اللهُ. . . أَمَا لَحْظَةٌ

يَثُوبُ فِيهَا رَأْسُكَ الحَائِرُ

يَا نَفْسُ قَدْ أَوْهَيْتِ جِسْماً وَهَى

وَهَدَّ مِنْهُ وَحْيُكَ الآمِرُ

مَا الخُلْدُ؟ مَا يُغْرِيكِ؟ مَا لَفْظْةٌ

جَوْفَاءُ قَدْ أَرْسَلَهَا سَاخِرُ

فالنَّجْمُ إِنْ غَابَ عَلَى أُفْقِهِ

لَا يَحْفِلَنْ بالْغَيْبَةِ الْنَّاظِرُ

رفِيقَةَ (الدَّانُوبِ) طَالَ المَدَى

وَنَالَ مِنَّا الزَّمَنُ الْجَائِرُ

وَاسْتَأْنَتْ الأيام في سَيْرِهَا

وَعَادَ يَحْبُو الْفَلَكُ الدَّاْئُر

وَبَيْنَنَا دُنْيَا عَلَى رَحْبِهَا

يَزْحَمُهَا الْقَاتِلُ وَالآسِرُ

يَجُولُ فِيهَا السَّابِحُ المُتَّقَي

في سَبْحِه وَالصَّاعِقُ الطَّائِرُ

تَسَاقَطَ الضَّعْفَى بِأَرْجَائِهَا

وَسَارَ فِيهَا الْغَالِبُ الظَّافِرُ

لوْ تَعْلَمِينَ اليَوْمَ مَا سَطَرتْ

كَفِّي وَمَا فَاضَ بِه الْخِاطرُ

لفَاضَ مِنْ عَيْنَيْكِ - أفْدِيهمَا

بالرُّوح - يَجْرِي دَمَعُكِ الطاهِرُ

أَتَذُكرِينَ اللَّيْلَ إذ لفنَا

وَضَمَّنَا زَوْرَقُنَا ألعابرُ

مُدَلَلُ الْخُطْوَةِ فِي عَبْرِهِ

يبدُو ويَخفىَ صَدْرُهُ الماخِرُ

وَيَنْثُرُ الأَمْوَاهَ فِي هَيْنَةْ

مِنْ حَوْلِه مجْدَافُهُ النَّاثِرُ

وَزُرْقَةُ (الدَّانوبِ) تمضْي بنا

وَيَسْتبَينَا لَوْنُها الزّاهِرُ

ص: 45

تَلَصُ مِنْ عَيْنَيكِ لوْنَيِهِمَا

وَأَيْنَ منها سِحْرُكِ السَاحِرُ

وَالكأسُ فِيّ كفيْكِ قد أشْرقَتْ

وَضَاَء مَنْهَا وَجْهُكِ النَاضِرُ

وَقُلْتِ و (الدَّانوبُ) فِي لَغْوهِ

مَاذَا يَقُولُ الأزرق الهادِرُ

فَقُلْتُ وَالقبْلَةُ فِي خَاطِرِي

يقولُ هيَّا. بادِرُوا: بادرُوا

وَاقْتَربَتَ أعْطافُنا وَاحْتَوَى

صَدْرَكِ صَدْرِي النَّاحِلُ الضَّامِرُ

وَاتَحَدَ النَّبْضَانِ فِي لحظةٍ

فِدَى لها مَاضِيَّ وَالحَاضِرُ

لوْ قُلِبَ الزَوْرَقُ مِنْ تَحْتِنَا

لمْ يَشْعُرَنْ مِنَّا به شاعِرُ

أوْ لفّنَا الزَّاخِرُ فِي مَوْجِهِ

لمْ نَدْرِ مَاذَا فَعَلَ الزاخِرُ

وَأَيُّنَا المبْتَلُّ فِي مَائِهِ

وَأَيُّنَا المرضُوضُ وَالْخَائْرُ

يا قلبُ ما الذِّكْرَى لنا، خَلِّهَا

لَا يَنْتَهِيَ ما يْذكُرُ الذَّاكرُ

يا طَاوِيَ الْصَّحْراَء، فِي ظُلْمَةٍ

ضَللْتَها، ما أنتَ وَالآخِرُ

وَسَائِلٍ أَيْنَ أَغَانٍ مَضَتْ

وَأَيْنَ أَلْحَانُك يَا شَاعِرُ

وَمُسْكِراتُ اللفظْ أَيْنَ انْطَوَتْ

وَأَينَ وَلَّي وَحْيُكَ النَّافِرُ

وَأَيْنَ مِنْ وَجْهِكَ إِشْرَاقَةٌ

وَضاَءةٌ، أَيْنَ الصِّبَا البَاكِرُ

مًرَّتْ بِكَ الْبَسْمَةُ فِي جَفْوَةِ

كما يَمُرُّ العَاجِلُ السَّائِرُ

فقلتُ ما ضَرَّكَ صَمْتُ امرِئٍ

طَوَاهُ جَدُّ مُظْلِمٌ عَاثِرُ

الصَّمت أَحْرَى بِيَ فِي أَمةٍ

أُمِّيُهَا كاتِبُهَا القَادِرُ

يَسُودُهَا العِيُّ وَيَسْمُو بها

وَلَا يَسُودُ النَّاطِقُ الجَاْهِرُ

أَشِرْعَةُ الإنْصَافِ فِي الدَّهْرِ أَنْ

يَسْتَوِيَ الْمَقْهُورُ وَالْقَاهِرُ

وكلُّ ما أَعْجَزَ فِي فَهْمِهِ

بها بَيَانٌ سَائِغٌ بَاهِرُ

لله صَوْتٌ رَنَّ في أُفْقِهَا

أَخْفَتَهُ دَهْرٌ بِهِ غَادِرٌ

وَأَنْكَرَتْ دُنْيَايَ سَعْيِي بِهَا

وَالضوْءُ لَا يُنْكِرهُ النَّاكِرُ

حَتَّى يَكَادَ الصَّبْرُ مِنْ ضِيقِها

يَهْتِفُ لَا كَانَ الفَتَى الصَّابِرُ

إِنْ نَالَ قَلْبِي الْيَأْسُ في سَاحِها

فَغفْرَك اللَّهُمَّ يَا غَافِرُ

كَأنَنِي في يَدِهَا مُصْحَفٌ

ضَافِي السَّنِا يَحْمْلُهُ كَافِرُ

ص: 46

شِعْرِي وَأنْتَ القلب قد صاغَهُ

لفظاً بَنَانٌ صَنَعٌ مَاهِرُ

أَنْتَ مَلَاذِي إِنْ أَلَمَّ الأَسَى

وَسَامِرِي إِنْ أَعْوَزَ السَّامِرُ

كنْ نَاصِرِي في عاَلَمٍ خَادِعٍ

إِنْ عَزَّ فِيهِ الخِلُّ وَالنَّاصِرُ

ص: 47

‌البَريدُ الأدبيّ

تشابه الفكرة عند الأدباء

دعاني الأستاذ محمد الرفاعي إلى الفصل فيما نقل الأستاذ أحمد أمين عن الأستاذ توفيق الحكيم، وأجيبُ بأن هذه القضية لا تحتاج إلى تحقيق، فقد رأى في البحوث التي نشرتها الرسالة عن (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) أن هذا الرجل الفاضل لا يهمه أن يرد الحقوق إلى أربابها إلا في موطن واحد، هو الموطن الذي يقول فيه إنه استأنس بآراء المستشرقين، ليقال: إنه يطلع على أقوال المستشرقين!

وهنا أذكر الغضبة المصرية، غضبة الأستاذ الدمرداش، حين حدثته في بغداد عن تهافت الأستاذ أحمد أمين في مقدمة الجزء الثالث من (ضحى الإسلام)، فقد حدَّث قراءه بأنه كان ينوي تأليف جزء رابع عن الأندلس، ثم نهاه أحد المستشرقين فانتهى، ونصحه فانتصح، ومعنى ذلك أنه لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي يصدُر عن أمثال أولئك الناس!

والأستاذ الدمرداش معذور، لأنه لا يساير حركة الترجمة والتأليف، ولأنه يؤمن بأن أحمد أمين فوق الشُّبَه والظنون، وتلك خصلة تستحق الثناء، لأنها تشهد بأن الأستاذ الدمرداش رجلٌ حكيم، والرجل الحكيم يرى المشكلات الأدبية من وجع الدماغ!

ولو أن الأستاذ محمد الرفاعي رجع إلى أحد أعداد الرسالة في سنة 1934، لرأى أن الأستاذ أحمد أمين لم يعب على صاحب (النثر الفني) غير آفة واحدة، هي النص على ما سرَق منه الدكتور طه حسين، ومعنى هذا أن السرقة لا تعاب، وإنما هي من الرزق الحلال!

والحق أني أخطأت نحو نفسي في التنبيه على ما سرق مني طه حسين، وما سرق مني أحمد أمين. فهذان رجلان فاضلان جدَّا، وفي مقدورهما أن يشهدا صادقَين بأنني الرجل المهذَّب، إذا تواضعتُ فصرحتُ بأنني المعتدي الأثيم على ما لهما من أفكار وآراء

أخطأت، وأخطأت، ثم أخطأت، وإن غضب الأستاذ إسعاف النشاشيبي على هذا التعبير، فقد أنكر وروده في كتاب (ليلى المريضة في العراق)

ولكن الشبهة باقية، شبهة السرقة الأدبية، السرقة التي يستبيحها أحمد أمين وطه حسين، وهما رجلان شهد لهما قلمي بالسبق في بعض الميادين

ص: 48

آه، ثم آه!!

يراد منا أن نخدم الأدب بأمانة وصدق، ثم يراد منا في الوقت نفسه أن نكون متجمَّلين متلطفين، فأين من يدلنا على أساليب التجمل والتلطف في الأخذ بنواصي الناهبين لأفكار الكتاب، وآراء الشعراء؟

النقد الأدبي محنةٌ عاتية، فلنحتمل بلاياها صابرين

زكي مبارك

حول كتاب (المنتخبات)

أخي محرر الرسالة الغراء

سلاماً وتحية وبعد فقد قرأت الكلمة الطيبة التي خَصَّني بها الأستاذ الدكتور زكي مبارك في الرسالة عند ما عرض للكلام في كتاب المنتخبات لأستاذنا الكبير أحمد لطفي السيد باشا والله يعلم أني لموقن بأني لم أنتج شيئاً له من القيمة ما يستحق ذلك الثناء. ولكن الدكتور أبى إلاَّ أن يكون أسبق بالفضل.

أما مأخذه على كلمة (أهل) بمعنى: والتي يستعمل الكتاب كلمة (جيل) لتقابلها فأظن أني على حق في استعمالها في هذا المعنى. فإن (الجيل) في العربية هو: الصِّنف من الناس؟ فالمصريون جيل والإنجليز جيل والفرنسيون جيل؛ أما الأهل فيقصد به الطبقة الواحدة المتعاصرة من الناس. وشاهدنا على ذلك شعر النابغة الجعدي قال:

لَبِسْت أُناساً فأفنيتهم

وأَفنيت بَعد أُناسٍ أُناساً

ثَلاثة أهْلِين أفنيتُهمْ

وكان الإله هو المُسْتآسا

(أنظر الأغاني ص6 ج5 طبعة دار الكتب)

وأنشد (أي النابغة الجعدي) عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أبياته التي يقول فيها: ثلاثة أهلين أفنيتهم؛ فقال له عمر: كم لَبِثتَ مع كل أهْلٍ: قال سِتِّين سنة. (أنظر الأغاني ص7 ج5)

فالأهل إذن هو المعنى الحرفي لكلمة: وكفى بما نقلت شاهداً - ومن العجيب أن هذا المعنى لم يثبت لكلمة (أهل) في القاموس واللسان، فعسى أن يُلتفت إليه في المعجم الوسيط

ص: 49

الذي يضعه المجمع اللغوي.

إسماعيل مظهر

موسى

رداً على كلمة الأستاذ محمود أبو السعود بالعدد 388 من مجلة الرسالة الغراء أقول إني مصر على أن كلمة (موسى) ليست مصرية، وذلك بعد أن بحثت عنها بحثاً هيروغليفياً دقيقاً، وإنها ليست بمعنى عبد كما قال فرويد وغيره ولكني لم أتعرض لأصلها وكانت كل كتابتي أن أبين حقيقتها من الناحية المصرية فقط

وكل ما كتبه حضرات الكتاب الأفاضل عن أنها مشتقة من كلمة (موشا) القبطية التي صحتها موشي (مو) بمعنى (ماء) وشي بمعنى (شجر) على اعتبار أن اللغة القبطية هي الدور الأخير للغة المصرية القديمة، وأولت على أنه وجد بين الماء والشجر فهذا كله من الحدس والتخمين لا أكثر ولا أقل

وأنا أميل إلى أن هذا الاسم عبري لعدم ورود ما يشابهه علينا أثناء دراستنا المصرية القديمة

وهو مشتق من كلمة (موشي تيو) العبرية أي الذي وجد سابحاً على وجه ماء النيل وانتشلته باتيا ابنة فرعون. وتقول القائمة الرسمية للإسرائيليين أن (موسى) ولد بالجيزة قرب منطقة الأهرام 3333

ومن كل ما ذكر لا نشك قط في أن موسى كان عبرياً اسماً وأصلاً

محمد صابر

أخصائي في الآثار المصرية القديمة

التماثيل الملوك

حضرة الأستاذ محمد كامل حتة. . .

قرأت تصويبكم وتعليقكم على أبيات اللورد دنساني وأحسب الشبه قريباً جداً بين موقف البحتري أمام تماثيل ملوك الفرس، وبين موقف اللورد أمام التماثيل المصرية. وقد قال

ص: 50

البحتري:

يغتلي فيهمو ارتيابي حتى

تتقراهمو يداي بلمس

تصف العين أنهم جد أحيا

ء لهم بينهم إشارة خرس

فتحدث عن التماثيل بضمير العاقل وعناها هي لا الذين تمثلهم. وأحسب اللورد دنساني حين خاطب التماثيل وأثبت جوابها إنما عناها هي فهي التي شاهدت تطور الزمن، وهي هي عنده الملوك الأربعة فهي التماثيل الملوك لا تماثيل الملوك. وعندئذ لا أحسب من التصويب أن يقال إنها أربعة تماثيل لملك واحد. بل أحسب أن رمسيس إنما عنى بإقامة أربعة تماثيل أن يجعل منها أربعة ملوك، والمجال في الفن كله من إقامة التماثيل أو من مناجاتها مجال خيال

وللتحقيق التاريخي قيمته على كل حال، ولكن التصويب إنما يكون في موضع الخطأ، ولا خطأ في قول يقول:

وتوهمت أن كسرى أبرويز معاطى. . .

ولا في قول من يقول: فتخيلت ما أجابني به الملوك الثلاثة لأن رابعهم كان قد كسر عند منتصفه فانشطر إلى شطرين، ولم ينكسر ملك وإنما انكسر تمثال. . .

ولكم خالص الشكر. . .

عبد اللطيف النشار

تأنيث الشمس وتذكير القمر!

يستنكر الأستاذ العقاد على العرب أن يذكِّروا القمر (وهو مقرون بالحنين والحياء، موصوف بالاتباع والاقتفاء، قليل فيه ساطي المضاء، وساطع الضياء، عارض له من المحاق ما يعرض للنساء)، ويؤنثوا الشمس وهي مصدر الحياة والحيوية؛ وذلك على عكس أكثر اللغات. ثم تساءل:(أهي زلة من زلات البداهة عند الشرقيين، أم هم المستضعفون للأنوثة لا يفطنون لهذا المعنى الذي فطن له الغربيون؟ أم هو إمعان في البداهة أدركوا به من سطوة المرأة ما لم يدركه مذكرو الشمس ومؤنثو القمر، وأقاموا به ما عكسه أولئك الخاطئون؟)

ص: 51

والحقيقة أنها ليس بزلة من زلات البداهة عند الشرقيين أو الغربيين، وليست إمعاناً في البداهة من أي الفريقين، ولكنها اختلاف نظر وملاحظة

فالغربيون لاحظوا في التأنيث الرقة والوداعة، والاستسلام والليونة فكان (القمر) مؤنثاً، ولاحظوا في التذكير القوة والفتوة، والقسوة والغلظة فكانت (الشمس) مذكرة عندهم.

أما الشرقيون فلاحظوا في الأنوثة الخصب، والإنتاج، والإخراج والولادة فكانت (الشمس) مؤنثة. والشمس هي التي ترسل بأذرعتها إلى معانقة الأكمام فتنفتح، وتبعث بها إلى الثمار فتنضج، وتبخر المياه في البحار، وتحرك السحاب في السماء فهي منتجة أي إنتاج، مخصبة أعظم إخصاب. ولاحظوا في الذكورة العقم، وعدم الإنتاج والإخراج، فكان (القمر) مذكراً والقمر لا أشعته تذيب جلمداً، ولا تهيج ساكناً

ومنشأ ذلك - كما يقول المازني، عافاه الله - (لأن آباءنا الأولين كانوا يقيسون حياة الطبيعة على حياتهم، ويتصورونها قائمة على ما تقوم عليه حياتهم من التناسل وغيره. ومن هنا أنثوا الشمس في لغتنا والريح وغيرها) من أرض ونخلة وروضة.

فالريح - مثلاً - أنثت دون الهواء، لما بينهما من فرق في الخصب والإنتاج؛ فالهواء الهادئ لا يحمل الديم، ولا ينقل اللقاح، وعلى العكس من ذلك (الريح) فهي تفعل ذلك وأكثر منه.

(الزقازيق)

السعيد جمعة

أسرة الشعر بدار العلوم العليا

كون لفيف من أساتذة الأدب العربي بدار العلوم العليا أسرة للشعر تنتظم الطلبة الشعراء بالدار، وقد أسندت رياستها للشاعر الكبير صاحب العزة الأستاذ علي الجارم بك. وعقد الاجتماع الأول بمكتب الرئيس لرسم الخطوات البدائية للاحتفال بموسم الشعر بدار العلوم. وقد اختير (أحمد عبد المجيد الغزالي) للقيام بأعمال سكرتارية الأسرة

وفيما يلي أسماء الأعضاء من مختلف سني الدراسة:

توفيق محمد جبر، عبد الحليم داود، عبد الرءوف عون، عبد الستار فراج، عباس العماوي،

ص: 52

محمود شافع، تمام حسان عمر، عبد الرحمن أيوب، أحمد شلبي، عبد العزيز المندوري، عبد العظيم دسوقي، سيد أحمد باشا، مصطفى زيد

ص: 53

‌القَصَصُ

عبء السلطة

للروائي اليوغسلافي ميلان بوجلج

ولد (ميلان بوجلج) سنة 1883 في مدينة ستيريا على الحدود

بين سويسرا وبين الجانب الجنوبي الغربي من النمسا، وكان

أبوه مدرساً في قرية. وبدأ (ميلان) ينظم الشعر وهو طالب.

ثم اشتهرت كتاباته النثرية حتى أصبح من كتاب لغته

المعدودين. وهو من أنصار المذهب الواقعي وفيه فكاهة قوية،

وله مجموعات قصصية كثيرة. وقد تولى إدارة المسرح

الملكي في يوغسلافيا في وقت ما.

كان كاتب العمدة جالساً إلى مكتبه وهو شاب طويل القامة نحيل، وكان على أذنه قلم وفي يده قلم آخر يكتب به في سكون على ورقة أميرية

وكان يجلس في ركن الحجرة رجل من السوقة تبدو عليه علائم التشرد والشر وهو غريب عن القرية، وكان قد دخلها بغير مبرر ظاهر منكراً اسمه ومسقط رأسه

دخل العمدة وظل واقفاً عند الباب حتى تنبه الكاتب إلى وجوده فحياه، فاقترب العمدة من المكتب ونظر إلى الورقة وقال ويداه في جيبه: ما الذي تكتبه في هذا الصباح؟

قال الكاتب: لقد استدعيت هذا المتشرد وأجلسته بجانب الموقد وبدأت أكتب تقريراً عن صفاته الجثمانية لأرسله إلى المركز

ثم لمس الكاتب جبينه واستأنف الكتابة، ومشى العمدة نحو المتشرد البائس فتأمل ثيابه الخلقة وقدميه الحافيتين وعينيه الرماديتين الدائمتي الاختلاج وصاح به:(ما الذي جاء بك إلى هنا أيها المتشرد؟ هل سقطت علينا من السماء؟ قل الحق من أين جئت وإلى أين تريد الذهاب؟)

ص: 54

فهز الرجل كتفيه وقال: (لا أعرف! لا أعرف)

واستمر العمدة يسأل واستمر المتشرد يجيبه نفس الجواب ولما كاد صبر العمدة أن ينفذ طرق الباب طارق، ودخل طحان القرية وهو قصير هزيل ورفع قبعته في احترام وتنحنح قليلاً، ثم قال:(على شاطئ النهر بقرب الطاحون وجدت غريقين أظنهما انتحرا. . . إن شكلهما غريب وقد وجدت كلاً منهما مستلقياً على ظهره فوق الحشائش، ويد كل منهما في يد الآخر - يده اليمنى مشتبكة في يدها اليسرى. إنني لم أشهد بغير الحق).

بدت علائم الدهشة على العمدة ومد ذراعيه ونظر إلى كاتبه الذي نهض سريعاً، ورفع القلم الذي في أذنه واستعد لكتابة ما شهد به الطحان

وهنا صاح المتشرد بشكل يدل على الاهتمام: (هل هما ميتان؟) فضرب الطحان بيديه على ركبتيه وهو يضحك: (نعم ميتان بالطبع)

وأمر المعمدة المتشرد بلزوم مكانه ولزوم الصمت، وقال الطحان للعمدة:(لقد جئت لأخبرك لكي تأمر بنقل الجثتين من مزرعتي)

فقال العمدة وهو يلمس بأصابع يديه جانبي رأسه: (حسن! حسن! اذهب وسأتبعك لأعاين الجثتين)

ومشى الطحان وظل يعبث بأظافره في شعر رأسه ثم التفت إلى المتشرد وقال: (أنظر أيها الوغد الذي لا يصلح لشيء. هذه هي أعمال أصحابك المتشردين، إنهم يذهبون مع الشيطان في كل طريق ونحن الذين لا ذنب لنا نعاني نتائج شروركم)

ثم التفت إلى الكاتب وقال: (ما الذي تفعل؟ عندنا الآن متشرد حي ومتشردان ميتان، فما الذي نفعله بهم؟ لعنة الله على هؤلاء المتشردين)

فهز الكاتب رأسه وقال: (إن حياتهم معصية لله وخزي للناس، وهم حتى بعد الموت يضايقون خلق الله)

قال العمدة: (ولكن علينا عملا نعمله قبل كل شيء).

فقال الكاتب: (نعم يجب علينا أن نبلغ السلطات ثم ندفن الميتين على نفقة البلدية)

قال العمدة بلهجة التوكيد مناقضاً كاتبه ومستشاره: (كلا فإن أموال القرية لا تنفق على هؤلاء المتشردين الأفاقين. يجب أن نعرف من أين أتوا، ثم. . . ثم. . .)

ص: 55

فقال الكاتب وهر أكثر تجربة من العمدة: (إن هذا لا يصلح، وإن النهر يحمل الجثث من أماكن بعيدة، وأنا أتذكر أنه حمل إلينا مرة جثة من مدينة تبعد أربعة عشر ميلاً، وقد بقيت تلك الجثة أربعة أيام قبل الدفن، فكتبنا إلى جهات متعددة، فلم نهتد إلا بعد ثلاثة أعوام إلى المكان الذي غرقت فيه)

قال العمدة: (إذن فلماذا نكتب إلى السلطات؟ - ثلاثة أعوام!) فقال الكاتب: (نحن في هذه الأيام مضطرون إلى إبلاغ السلطات ولو كان القتيل هرة)

قال العمدة: إذن فاكتب إلى السلطات في الحال. فقال الكاتب وهو يحاول صياغة جملته في الصيغة الرسمية: ولكن يا حضرة العمدة أنا الآن مشغول جداً بكتابة التقرير عن هذا المتشرد وذهني مركز في هذه القضية فقط ولا أستطيع تركها للاشتغال بقضية أخرى. . . أسمع يا حضرة العمدة. . . ثم رفع عن المكتب ورقة وأخذ يقرأ:

حضرة صاحب العزة مأمور المركز. . .

بالنظر إلى مرور أحد المتشردين في زمام هذه القرية، وبالنظر إلى أن هذا المتشرد ينكر اسمه واسم بلده فقد حررنا هذا التقرير بتشبيهه:

(متشرد غير معلوم موطنه، مجهول الاسم، حافي القدمين، نحيل، إصبع قدمه الكبرى معوجة، في ذقنه شعر قليل مثل شعر الثعلب، أنفه محدودب رفيع مائل قليلاً إلى الجانب الأيسر وعندما يتكلم تهتز لحيته مثل الأرنب، ومشيته كمشية الثور. أي أن خطوته قصيرة، وركبته بطيئة الحركة، وإذا شده إنسان من أذنه اليمنى تهدلت شفته السفلى وأغمض عينه اليسرى)

وكف الكاتب عن القراءة وبدا عليه الزهو وشعور الثقة بالنفس وقال: (من المحال أن أقف عند هذا الحد من التقرير، فإن أفكاري مركزة وقد حرصت على الدقة)

ظن العمدة أنه قد فهم وقال: (هذا حسن فاقتصر أنت على نظر قضية المتشرد وسأنظر القضية الجديدة. هات ورقاً وقلماً جديداً وسأفكر وأكتب تقريراً للمركز)

وبعد دقيقة كان العمدة يبدأ في كتابة الخطاب. وبعد ساعة فرغ منه

استدعى العمدة كاتبه القدير وقال: (اسمع وقل لي رأيك؟

حضرة صاحب العزة مأمور مركز. . .

ص: 56

إن النهر ألقى على زمام القرية غريقين وجدا عند الطاحون. . . وجاء الطاحون وقال لي: يا عمدة أبعدهما عن أرضي. . . فأنا العمدة أرجو من عزتكم بإخباري بما أفعل. . . إن الناس يشيرون بدفنهما، ومن رأيي ذلك، فأرجو صدور التعليمات اللازمة)

هز الكاتب رأسه وقال: (من المستحيل إرسال هذا الخطاب فإن لهجته غير رسمية)

قال العمدة في نفسه: (غير رسمية؟ وماذا يكون الخطاب الرسمي إذن؟)

تناول الكاتب الخطاب وقال: إن في المركز موظفين محترمين ولن يعجبهم خط هذا الخطاب

قال العمدة: ولماذا لا تكتبه أنت؟ أليس وجودك هنا من أجل هذا الغرض؟

فقال الكاتب: نعم، عفواً يا حضرة العمدة، الأفضل ترك هذا التقرير مؤقتاً

ثم قام الكاتب فجلس أمام العمدة ووضع القلم في سنَّا جديداً وبدأ يكتب. ووقف العمدة في وسط الغرفة يتأمل في خط كاتبه والمتشرد متبلد في مكانه يراقب هذين الموظفين، وكان وجه الكاتب مخضباً بالاحمرار لزهوه وتحمسه وثقته بأهمية نفسه

وانتهى من كتابة الخطاب فوقف وأخذ يتلو خطابه مرتلاً كما لو كان يقرأ قصيدة من الشعر، وكان العمدة يصغي وهو معجب بهذا الأثر الرسمي البديع، ثم قال وهو يعبث بأظافره في شعر رأسه: يجب أن تذهب الآن إلى الطحان

وأدخلا المتشرد في سجن (الدوار) وذهبا فقادهما الطحان إلى مكان الغريقين عند حافة الماء، فلم يريا على وجهي الجثتين ما يدل على أثر جريمة، بل كانا يظهران كما يظهر وجها نائمين يحلمان ببعض أحلام الحب، وبدأ الكاتب يهز رأسه الضيق الجبين وقال: يظهر لي أنها جريمته هو

فقال العمدة: بل هي جريمة الشيطان

وقال الطحان: اسمح لي يا حضرة العمدة أن أقول إنه لا يمكن أن نعرف جريمة من هذه

وانتهت المحادثة والتحقيق عند هذا الحد، وعاد العمدة والكاتب إلى القرية، وقال الأول: ألا يستطيع الإنسان أن ينعم بيوم راحة؟ عندنا الآن متشرد حي ومتشردان ميتان، فكيف ننتهي من أمرهم؟

فقال الكاتب: لقد كانت الأمور كلها تسير سيراً حسناً لولا اضطرارنا إلى مخابرة السلطات،

ص: 57

فإن الصعوبة كلها ناشئة من تحرير المكاتبات

وأعقب هاتين الملاحظتين مسير نصف ميل في صمت. ثم ضحك العمدة فجأة ضحكة عالية وقال وقد بدا له أنه سيدهش الكاتب بفكرة موفقة: لقد عرفت الحل فلا تكتب شيئاً إلى السلطات

كاد الكاتب أن يغمى عليه، واستمر العمدة يضحك وكانت ضحكاته تزداد ارتفاعاً وقال:(لقد عرفت الحل وسأختصر الطريق؛ لكن عليك أن تسكت، وأن تخبر الطحان بلزوم الصمت).

وفي المساء ذهب العمدة إلى المتشرد وقال: (أخبرني ألم تعمل في حياتك أي عمل نافع؟)

فحملق المجرم في وجهه ولم يجب

قال العمدة: (ألا تعرف الطريق إلى الطاحون؟ إنها بجانب النهر) فقال المتشرد: (نعم قد عرفتها)

قال العمدة: (بجانب الطاحون عند المزرعة ستجد جثتي رجل وامرأة. هل سمعت؟ اذهب وألق الجثتين في النهر حتى يحملهما الماء. هل سمعت؟)

هز المتشرد رأسه علامة على الموافقة وافترقا، وبعد قليل كانت جثتا العاشقين طافيتين على الماء

وفي الصباح التالي كان الكاتب ماراً بجوار الطاحون وكان وراءه على مسافة قريبة حفار القرية يجر عربتيه الصغيرة وكان عليها إذ ذاك غطاء أسود، فلما وصلا إلى شاطئ النهر نظر الكاتب إلى الماء فلم ير فيه أثراً لميت أو لحي، وقال الكاتب:(بالأمس وصل بلاغ إلى (الدوار) بأن غريقين وجدا هنا على الشاطئ). وقال الحفار: (هكذا سمعت ولكن يظهر أن البلاغ كاذب)

فقال الكاتب: لعله (كذلك)

وقال الحفار: (ربما عاد الماء فحملهما كما أتى بهما)

فهز الكاتب رأسه وقال: (ربما كان ذلك)

ثم مشى كل منهما في طريقه.

(ع. ا)

ص: 58