المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 391 - بتاريخ: 30 - 12 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٩١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 391

- بتاريخ: 30 - 12 - 1940

ص: -1

‌الحرب وكتاب الإنجليز

للأستاذ عباس محمود العقاد

في إنجلترا كتاب عالميون لا يقع فيها حادث كبير إلا كان له شأن معهم أو كان لهم شأن معه، لأنهم أكبر من أن تعبرهم الحوادث منسيين في بلادهم، أو في البلاد الغربية عامة. ومن هؤلاء - إن لم نقل في طليعتهم - الرياضي الفيلسوف الناقد الاجتماعي برتراند رسل

هذا الرجل مؤلف كتاب في الرياضة العليا. سئل القراء العلميون في أنحاء الغرب عن مائة كتاب هي الأولى فيما ألف بنو الإنسان، فكان كتابه هذا واحداً منها وعلى رأسها

وهذا الرجل هو ثالث النبلاء من آل رسل المشهورين، ولكنه نزل باختياره عن لقبه لأنه يقول بإلغاء الألقاب

وهذا الرجل حكم عليه بالحبس وبالغرامة في الحرب الماضية لأنه عارض الحرب اعتقاداً منه بإمكان اجتنابها. ودعته جامعة في الولايات المتحدة لإلقاء محاضراته الرياضية والفلسفية على طلابها فحيل بينه وبين السفر مخافة الرأي الذي قد ينشره هناك، ولم يبال قبل ذلك أن ينشره في صميم بلاده

وهذا الرجل أجرأ من كتب في الأخلاق من الإنجليز، غير مكترث لما يصيبه من جراء ذلك في حياته الخاصة وأعماله العامة، وقد أصابه من الأذى كثير

فلما نشبت الحرب الحاضرة كان قراؤه في أنحاء العالم يسألون: أين برتراند رسل؟ أين برتراند رسل؟. . . لأنهم قدروا له موقفاً لا يتخلى عنه، ثم عجبوا من سكوته كما عجبوا من السكوت عن ذكره، حتى جاء البريد الأمريكي يوماً فإذا بالرجل في الولايات المتحدة، وإذا بهم يحملون عليه هناك وقد كان مظنوناً في إبان الحرب الماضية أن الولايات المتحدة ملاذه الأمين الذي يتقي فيه الحملات!

لكنه تلقى حملة بعد حملة من رجال الدين وهو مترفع عن ردها، على كونه أجرأ الكتاب على المصاولة، ولم تمنع هذه الحملات أن يختاره العارفون به لتدريس الرياضة والفلسفة تارة في كاليفورنيا وتارة في نيويورك. ورأينا له صورة بين الطلبة الفتيان وهم حافون به كأنه واحد منهم وهو في الثامنة والستين مجلل الرأس بالشيب، وهم دون العشرين أو يتجاوزونها بقليل

ص: 1

وقد فتن هؤلاء الطلبة بآرائه فيما يحفلون بحملات رجال الدين عليه. وسئل عن نية الإقامة فقال: نعم، سأقيم في هذه البلاد وأنشئ فيها أبنائي على النشأة الحرة التي أرتضيها!

ورحل إلى الولايات المتحدة خلال هذه الحرب كاتب آخر من كتاب الإنجليز وأصحاب المذاهب الإصلاحية في العصر الحديث هو: هـ. ج. ولز الذي يعارض أفلاطون باختراع المدن الفاضلة على النمط العصري، ويغتنم فرصة الحرب الحاضرة للتبشير بالمستقبل المأمول، وهو على شك في إمكان الوصول إليه، لأنه يريد أن يخلع جذور التفكير الإنساني التي لا تزال متأصلة في العقول من بقايا العقائد الأولى، والتي تغري بالحرب، لأن أشرفها وأعظمها يلاقي أضعفها وأخبثها في تقديس الموت وتفضيله على الحياة.

وكان ولز في الحرب الماضية (دماغ) الدعوة البريطانية التي كتب لها النجاح على يديه. وظن أناس من عارفيه أنه سيعود في الحرب الحاضرة إلى مثل ذلك العمل الجليل؛ ولكنه فضل السفر إلى الولايات المتحدة لخدمة أمته ومذهبه الإصلاحي هناك، وكانت له حملة عنيفة على بعض القواد الإنجليز وعلى الأسلوب الذي اتبعوه في ميادين الغرب والشمال، وربما كان لهذه الحملة أثرها في تنظيم القيادة على نحو جديد. فلما سمح له بالسفر إلى الولايات المتحدة خشي بعض الساسة أن ينطلق بالنقد العنيف بين الأمريكيين فلاموا الحكومة الإنجليزية على الترخيص له في مغادرة البلاد. وقال وكيل الشؤون الداخلية يومئذ بمجلس النواب إنهم قصدوا بالسماح له ألا يحسب الأمريكيون أنهم يكتمون عنهم بعض الآراء ويقصرون الدعوة بينهم على ناحية واحدة دون سائر الأنحاء.

وأبطل الكاتب الكبير مخاوف المتخوفين بمسلكه الذي توخاه في نشر دعوته بين الأمريكيين، فكان أول ما قاله بينهم أنه لم يلجأ إلى مخبأ قط، وأن الذي تخيلوا الإنجليز فزعين ليل نهار لا يريمون المخابئ مخطئون. ولم يطلب إلى الأمريكيين أن يشتركوا في الحرب، ولكنه نادى بكبح الطغيان تمهيداً لكل إصلاح، ونادى إلى جانب ذلك بضرورة إدخال الروسيين في جملة النظام العالمي الذي تسفر عنه الحرب الحاضرة أيا كان هذا النظام.

ولا بد أن يسأل السائلون: وما شأن برنارد شو؟ وماذا يصنع الآن وماذا يقول؟

والجواب أنه لا يريح ولا يراح

ص: 2

فما مضت على إعلان الحرب أيام حتى راح المذيعون وكتاب الصحف في ألمانيا وإيطاليا يزعمون أن برناردشو يائس من مصير الحرب متنبئ منذ الآن بهزيمة الإنجليز

فلما سئل في ذلك قال: إن القوم يتملقونه إذ يشجعون قلوبهم بكلامه، ولعلها في حاجة إلى تشجيع!

وحاول بعض خبثاء الصحفيين أن يصوروه وهو في خوذة الوقاية فأبى أشد إباء

وأحبوا أن يلذعوه بالتسوية بينه وبين ملاكم مشهور، فقالوا له: إنك وذلك الملاكم لثروة وطنية، ومن واجب كل منكما أن يحمي رأسه بخوذة!

فقال: بل عليه - إذا شاء - أن يحمي يديه بقفاز. . . وسألوه: أين تنام إذا سمعت نذير الغارة؟ فقال: حيث ينبغي أن ينام كل إنسان في الفراش!

وقيل له مرة: أليس من رأيه أن تقصر الغارات على الأهداف العسكرية؟ فقال: إن مراكز الحكومة محسوبة من الأهداف العسكرية، ولكنها قصدت مرة فأصابه هو تحطيم نافذتين وطارت الغارة بإفريز من باب ردهته

وليس من الضروري أن يظفر محدثو برنارد شو بجواب، ولكنهم يظفرون لا محالة بجواب لاذع أو جواب ساخر أو جواب يجمع بين الصراحة والروغان، والمقصود هو جواب من شو كيفما كان السؤال أو الجواب!

وفي إنجلترا كتاب عالميون غير هؤلاء مثل موام وبريستلي وهكسلي وجود وطائفة من هذه الطبقة المقدمة بين الكتاب الأوربيين

فأما موام فقد كان في باريس منذ نشبت الحرب الحاضرة وهو في خدمة وزارة الاستطلاع كما كانت في الحرب الماضية. ثم صدر إليه الأمر بالعودة إلى وطنه عندما خيف سقوطها فعاد مع ألف وثلاثمائة من اللاجئين الإنجليز في سفينة فحم قذرة طافت بهم عشرين يوماً بين فرنسا والجزائر وجبل طارق حتى وصلت إلى الجزر البريطانية، ولم ينس وهو يتجاوز السادسة والستين ويعاني متاعب السفر وقلة الزاد وخطر القبض عليه في تلك السفينة الهائمة أن يحصي ما تعوده من إحصاء النقائص الإنسانية ويحدثنا عن السيدات كيف حرصن على صبغة الشفاه والأظافر وهن بين الفحم والشحم ولا ناظر إليهن غير الجائعين الخائفين من أولئك اللاجئين الذين كانوا لا يفرغون من تهديد غواصة حتى

ص: 3

يهددهم حكام هذا الميناء أو ذاك بالاستيلاء على السفينة أو يضنوا عليهم بالزاد القليل!

وحب هذا الرجل للاستطلاع والقراءة لا يقل عن حبه لتتبع النقائص والعيوب، فهو هارب مهدد وفي حقيبته شيء عن ثاكري وشيء عن سقراط، وعقله مشغول بالحكمة السقراطية التي تعرف الجلد على الموت كما تعرف الجلد على الحياة.

أما بريستلي - وقد مثلت له رواية بدار الأوبرا في القاهرة - فهو يوشك أن يتجرد اليوم للدعوة في طريق الإذاعة

وجوليان هكسلي يود لو أنه ولد في سنة 1925 ليفقه شيئاً عن هذه الحرب القائمة ويعيش فتياً في الفترة التي بعدها مشتركاً بعمله فيما يراه حقبة من أمتع حقب التاريخ

وجود الفيلسوف المخلص للفلسفات يعلن أنه طلق الفلسفة السلمية وآمن بأن الحرب واجبة للخلاص من الطغيان

وكنت أود أن أسمع شيئاً عن فئة من الكتاب العالميين غير الإنجليز، وأولهم الكاتب الفرنسي رومان رولان الذي كان له في الحرب الماضية شأن بين الفرنسيين كشأن برتراند رسل بين الإنجليز، ولكني لم أسمع عنه خبراً من الأخبار، ولعله قابع في سويسرا كدأبه حين يسأم النصح وينجو بنفسه من الكيد والضغينة

ومنهم موريس مترلنك البلجيكي وقد لاذ بالولايات المتحدة (خالي الوفاض بادي الأنفاض). . . كان له مال بمصرف بركسل فسقطت بركسل في قبضة الألمان؛ وكانت له دار وعقار في نيس فسقطت نيس في قبضة الألمان والطليان. . . وهو اليوم يستأنف العيش من جديد وقد بلغ الثامنة والسبعين!

أما راوية الألمان الكبير في الجيل الحاضر (ليون فيختوانير) صاحب القصص التي عرض كثير منها على اللوحة البيضاء بالقاهرة فنجاته من ألمانيا ثم من فرنسا رواية كأغرب ما كتب الرواة: فر إلى فرنسا ثم اعتقل فيها، ثم جاءه رجل لا يعرفه فاحتال على إخراجه من المعتقل في ثياب النساء، ثم إخراجه من ميناء طولوز بجواز منحول، ثم عبر به إسبانيا والبرتغال، ولم يكشف عن حقيقته إلا وهو في سفينة أمريكية يلجأ إلى الولايات المتحدة مع غيره من اللاجئين!

لكن العجيبة الكبرى من عجائب الأدب والحرب هي تلك العجيبة التي قرأناها عن إقليم من

ص: 4

أقاليم رومانيا التي احتلها المجريون والألمان

فقد سمعنا أن مائتي شاعر وكاتب هجروا ذلك الإقليم الواحد ولا ندري ماذا كانوا يصنعون فيه!

والحرب والله رحمة إلى جانب مائتي شاعر وكاتب في إقليم، بين أميين وأشباه أميين، ولعلها رحمة بالشعراء والكتاب أنفسهم قبل الرحمة بالقراء ومن لا يقرءون!!

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

(أهل الكهف)

لتوفيق الحكيم

للدكتور زكي مبارك

- 8 -

تمهيد

الأستاذ توفيق الحكيم مَدِينٌ في وجوده الأدبيّ لرواية (أهل الكهف) فهي الحجَر الأول في بناء شهرته الأدبية. وقد ظهرت أول مرة سنة 1933 فظهر معها المؤلف أول مرة سنة 1933 ولم يكن له قبل ذلك في حياة الأدب تاريخ

وكلمة اليوم تشريحٌ لتلك الرواية بلطف ورفق، فما أحسبها شُرَّحتْ قبل اليوم، لأنها استُقبِلتْ بإعجاب، ولأن المؤلف أسرع فشغل عنها النقاد بمحصول وفير من الرسائل والأقاصيص، فإن انتهى التشريح إلى أنها رواية ضعيفة فلا بأس، فتلك باكورة المؤلف، والبواكير لا تسلم من العطب في جميع الأحايين، وإن ظهر أن المؤلف لم يستعد لموضوع الرواية كل الاستعداد فلا استغراب، لأنه رجلٌ قليل الجَلَد على مصابرة المراجع والأسانيد، وإن وصل بنا الدرس إلى أنها رواية جيدة على ما بها من مآخذ وعيوب فذلك هو المصير المنتظر لأثر يصدر عن أديب موهوب مثل توفيق الحكيم

أهل الكهف

هي مسرحية شائقة، مُثِّلت أول مرة في القاهرة سنة 1935 وبها افتُتِحتْ أعمال (الفرقة القومية المصرية) ثم نُقلت إلى الفرنسية سنة 1940 بتمهيد تاريخي للأستاذ جاستون فِيتْ مدير دار الآثار العربية

ولم يتسع الوقت للبحث عن النسخة الفرنسية، للاستفادة بما في ذلك (التمهيد) من معارف تاريخية، فلم يبق إلا النظر في هذه المسرحية بدون التفات إلى ما كتب ذلك المستشرق المفضال

ص: 6

ومن المؤكد أن المتسابقين لن يُسألوا عن ذلك التمهيد، لأن المقرر هو النسخة العربية، ولأنه بعيدٌ عن بعض أعضاء لجنة الامتحان، فلن يكونوا جميعاً من قراء لغة هوجو ولامرتين

أصحاب الرقيم

خصَّص الأستاذ توفيق الحكيم صفحة من كتابه لآية قرآنية شريفة منتزعة من سورة الكهف، فكان معنى ذلك أنه اعتمد على تلك السورة في زَخرفة ذلك التاريخ، والتاريخ المزخرف هو ما يسميه الفرنسيون وكان معنى ذلك أيضاً أنه يجب على توفيق الحكيم أن ينظر في القرآن وتفاسير القرآن قبل أن يزخرِف ذلك التاريخ، فماذا صنع؟

قال الله تعالى في أصحاب الكهف والرقيم:

(سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم، رجماً بالغيب، ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم)

وبمراجعة التفاسير نعرف أن أصحاب القول الأول هم اليهود، وأصحاب القول الثاني هم النصارى، وأصحاب القول الثالث هم المسلمون

وبمراجعة المسرحية (التوفيقية) نرى المؤلف اختار قول اليهود فجعل أصحاب الكهف ثلاثة رابعهم كلبهم؛ وبمراجعة (حمار الحكيم) نرى المؤلف يتخاذل ويتهافت حين يسمع الحفيف (المعبود) لأوراق (البنكنوت) فهل يمكن القول بأن هذا المؤلف (المسلم) له أجداد تنسَّموا أرواح الأصائل والأسحار في أرض الميعاد؟

ما يهمني أن أحقق نسب توفيق الحكيم في هذا الحديث، وهو إن سمحت الدعابة نسبٌ مدخول، وإنما يهمني النص على إساءته لفنه حين اختار قول اليهود

أصحاب الكهف في الرواية اليهودية ثلاثة، وهم في الرواية الإسلامية ثمانية، فأيُّ الروايتين أنفع للفنان؟

لو فكَّر توفيق لأدرك أن المجتمع الذي يكوَّن من ثلاثة أضيق من المجتمع الذي يكوَّن من ثمانية، لأن المجتمع الأول لم يصور غير ثلاث أواصر: آصرة الأسرة، وآصرة الحب، وآصرة المال البسيط الذي يحرص عليه راعي الغنم في حاله الرقيق

ولو أن أصحاب الكهف كانوا ثمانية - كما تريد الرواية الإسلامية - لاتسع المجال أمام

ص: 7

المؤلف، فخلق من مشكلات المجتمع في نواحيه الاقتصادية والسياسية والذوقية آفاقاً رحيبة يجول فيها قلم الباحث ويصول

ثم ماذا؟ ثم وقعت غلطة في اسم الراعي، فهو (يمليخا) عند صاحبنا توفيق، ولكن يمليخا في التفسير (الكشاف) وفي حاشية الجمل على (تفسير الجلالين) لم يكن راعياً، وإنما كان من رجال (البَلاط)، بلاط الملك الوثني (دقيانوس)، أما الراعي فاسمه (فلسطيونيس)

ثم؟؟ ثم سكت توفيق الحكيم عن اسم الملك الذي بُعث في عهده أصحاب الكهف، فلم يعرف إلا أنه (الملك)، ولكن أي ملك؟ لو رجع إلى التفاسير لعرف أن ذلك الملك كان يسمَّى (بيدروس) والنصُّ على اسمه أوجب، لأنه ورد في القصة مقروناً بالتعظيم والتبجيل

العقدة المنسية

وهنالك (عُقدة منسية) في رواية توفيق الحكيم هي عُقدة البعث، وتلك العقدة تنقل القصة من وضع إلى وضع، فنشرُ أهل الكهف كان مصادفة عند توفيق، ولكنه في الرواية الإسلامية وقع في أعقاب أزمة عقلية بين رجال (بيدروس) هي الخلاف حول بعث الأرواح والأجساد؛ وهو خلاف كان كثير الغليان في تلك العهود

ولكن ما قيمة هذه العُقدة المنسية؟

لهذا العقدة قيمةٌ عظيمة جدّاً، فغاية القصة عند توفيق هي انتصار الحب، أما غاية القصة إذا روعيتْ تلك العُقدة فهي انتصار الإيمان، وتلك هي الغاية الأساسية إذا أردنا الوفاء لمكان القصة من العقيدة ومكانها من التاريخ

بطلة القصة عند توفيق هي (امرأةٌ أحبتْ) وكان الواجب أن تكون (امرأة آمنتْ) لو كان توفيق من أصحاب الفكر العميق

استجواب

تحت أي تأثير كتب توفيق الحكيم هذه القصة؟

عندنا ثلاثة فروض:

الفرض الأول هو قوة الشهوة، والفرض الثاني هو قوة الحب، والفرض الثالث هو قوة الإيمان

ص: 8

أما الشهوة فلم يصورها توفيق الحكيم، الشهوة العارمة التي تزلزل أعصاب الرجال

وأما الحب فقد عرض له توفيق بأدب ولطف، كما يصنع العذريون الضعفاء

بقي الإيمان، فماذا صنع توفيق في وصف الإيمان؟ وماذا صنع في تشريح أوصال الارتياب؟ وأين المعركة التي أثارها بين نسائم الهدى وزوابع الضلال؟

(أيها القديس! أيها القديس!)

تلك أنشودته في التذكير بالنشوة الروحية، فأين أنشودته في التذكير بالغيِّ والرِّجس والإثم والفتون؟

المحصول الفني لصاحبنا توفيق الحكيم يرجع إلى صنف واحد هو البهرجة الروائية، أما التعمق في الفكرة، فهو غرضٌ لا يصل إليه إلا بمجهود شاق

لو كان التوفيق من حلفاء توفيق لأدرك أن من المستحيل أن تكون بريسكا لم تحسَّ الحب إلا أول مرة عند لقاء ميشلينا، وقد نشأت في أحد القصور الرومية، وهي قصور أقيمت على قواعد من طغيان الأهواء والأحاسيس، وكان من الخير لفنه أن يخضعها لذلك الطغيان

ولو كان التوفيق من حلفاء توفيق لجعل موت ميشلينا في القصر لا في الكهف، فالقصور هي ديار العطب، أما الكهوف فهي ديار الأمان

وكان من همّ توفيق أن يجرّد الراعي من جميع العواطف، فما سبب ذلك؟

هنا عُقدة إنسانية لم يَفطِن إليها توفيق، وهي احتباس العواطف في النفوس الفطرية، فما الذي كان يمنع من تشريح أهواء العوامّ لذلك العهد، وهم صورة مكررة في التاريخ؟

منع من ذلك أن الأستاذ توفيق الحكيم لم يحدد الغاية من تلك المسرحية، وإنما حصر همه في الرقش والتزيين والتهويل، فكان ما أراد!

والمعروف عند مؤلفي المسرحيات في أكثر الشعوب أن اللون المحليّ يُنتصب له ميزان، فأين اللون المحليّ في مسرحية أهل الكهف؟ هل شعرنا بأن عهد دقيانوس يخالف عهد بيدروس - الذي جهله توفيق - إلا في توافه الشئون؟

الخلاف بين العهدين يرجع إلى اختلاف الملابس والنقود، فأين الخلاف بين العادات والتقاليد وبينهما ثلاثمائة سنة وتسع؟

وأين الخلاف بين ألوان الحقائق وألوان الأباطيل، بعد اعتراك الأهواء والآراء في تلك

ص: 9

العهود؟

كانت المسيحية لعهد دقيانوس تعاني اضطهاد الوثنية، وقد فصّل ذلك توفيق، وهو معنى سجله القرآن من قبل، فكيف كانت المسيحية في عهد بيدروس؟ لقد سكت عن ذلك توفيق سكوت أهل الكهف بعد الرقاد الأخير، مع أن الكلام في هذا الموطن أنفس من السكوت، فقد كانت المسيحية تحولت إلى معضلة عقلية، بعد أن كانت نفحة روحية، ولكن توفيق نسى أن ميدان هذه القصة مَصال فكر قبل أن يكون مجال خيال

الظاهر أن الأستاذ الحكيم لم ينظر إلى عصر الرواية من الوجهة العقلية والدينية، وأريد العصر الذي وقع فيه البعث، وهو الفيْصل في مكان تلك القصة من معترَك الشك واليقين.

وقد اهتم توفيق بأن يجعل في أصحاب الكهف رجلاً مُقلقل الإيمان بالمسيحية - وهذا ينافي الاعتقاد الموروث - فماذا استفاد من هذا التشكيك؟

كنت أنتظر أن يستفيد من هذا التشكيك فيقدم لنا بعض ملامح الوثنية على لسان ذلك المؤمن المرتاب، ولكنه لم يصنع، فلأية غاية فنية أو عقلية أثار ذلك التشكيك؟

كان من واجب توفي أن يشرح تلك الوثنية في صفحة أو صفحتين، ولو على طريق الغمز والتجريح، لأن الوثنية لم تُخلَق من العدم، وإنما هي صورة من أهواء النفوس وأحلام القلوب

توفيق لم يصنع شيئاً ذا بال في هذه المسرحية. لم يصنع شيئاً يضيفه إلى أقطاب الفكر، وإن كان صنع شيئاً يضيفه إلى أرباب الخيال

وهنالك فجوة عميقة في صحة التخيل، فأصحاب الكهف بُعِثوا في مدينة اسمها طرسوس، وكان يجب أن يبلبلهم المؤلف فيذكّرهم بأن مدينتهم كانت تسمَّى أفسوس، وقد تغير ما في المدينة من ملابس ونقود، ولم يتغير قصر المُلك، فكيف وقع ذلك؟ وكيف جاز أن يجد ميشلينا غرفة الزينة على عهدها المألوف قبل يومين وقد مرت عليها ثلاثة قرون؟ وكيف جاز لميشلينا أن يحلق ذقنه بيديه كما يصنع توفيق الحكيم في هذه الأيام؟ ومتى كان حلق اللحية من مظاهر التزيُّن عند القدماء، ولاسيما المتطلعين منهم إلى منازل التكريم والتشريف؟

كان توفيق الحكيم يحتاج إلى هذا الدرس ليعرف أن المسرحيات لا تولد في أيام معدودات،

ص: 10

وقد ترفقت به كل الترفق، لأنه من أعز أصدقائي، وللصداقة حقوق

توفيق الحكيم في أهل الكهف

يتعثر المؤلف في الفصل الأول، وهو تعثُّر توجبه وضعية الرواية، كما يعبِّر أهل العراق، فأصحاب الكهف يستيقظون من سبات عميق، يستيقظون على أهواء كان لها في حياتهم وجود قهّار، ولكنها أهواء مزعزعة الرسوم والحدود، بفضل ذلك السُّبات العميق

فإذا كان الفصل الثاني رأينا المؤلف يصحو مع أهل الكهف فيقرر أن (قلب المرأة يتسع دائماً لله وغير الله) وأن (القصة ضمير الشعب، وأنه لا يمكن للبشرية أن تخطئ حين تتلاقى في قصة واحدة على اختلاف الديانات والأجناس، فنعرف أنه انتفع بكتاب لامرتين في تشريح سِفر أيوب. ثم نراه يقرر أنْ ليس للمحب عُمْر فنعرف أنه انتفع بكلمة الفرنسي الذي سُئل عن عمره فأجاب: ' ' ثم نراه يقول: (أستودعكما الله هانئين بشباب قلبيكما) فنعرف أن هذا من ذاك!

فإذا كان الفصل الثالث رأينا توفيقاً كبير العقل حين يقرر أن الحياة المطلقة المجردة من كل ماض ومن كل صلة ومن كل سبب هي أقل من العدم، وهل هنالك عَدَم؟ العدم الحق هو الحياة المجردة من التاريخ

ثم رأيناه يقرر أن الحب أقوى من العقيدة ومن الدين، لأن عقيدة الملائكة لم تكن إلا فناً من الحب العَصوف

ثم نرى غيرة بريسكا من فتاة تقطَّع به الزمن إلى أبعد من ثلاثة قرون فنعرف شيئاً من خلائق النساء

فإذا كان الفصل الرابع عرفنا من توفيق أن (الحُلم أحياناً كالفن، لا ينقل الحقيقة كما هي، بل يسبغ عليها من عبقريته جمالاً لم يكن، أو بشاعة لم تكن) وعرفنا أن (القلب أقوى من الزمن) وأنه لا يهمّ المرأة أن تكون قِدِّيسة، وإنما يهمها أن تكون (امرأة أحبت) فنفهم أن الحب في قلب المرأة أعمق جذوراً من الدين، وإلا فكيف صح أن تخاطب الراهبة فاطر السماوات بمثل هذا التعبير:(زوجي العزيز!)

وصدق شوقي حين قال: (الحياة الحبّ، والحب الحياة) وحين قال:

سَيْطرَ الحبُّ على دنياكمُ

كل شيء ما خلا الحبَّ عَبَثْ

ص: 11

أما بعد فذلك توفيق الحكيم في أهل الكهف

هو أديب موهوب تناغيه الحياة من حين إلى حين. هو أمشاج من الوجد المقهور والحب الدفين. هو قيثارة رنانة لأحلام الشباب والكهول، وإن كانت قيثارة لا تعرف أصول الأنغام، لأنه كاتب بلا أسلوب، ولو كان توفيق من أصحاب الأساليب لأدّى للفكر والبيان خدمات تعزّ على من رامها وتطول

كم تمنيت وتمنيت أن يكون توفيق الحكيم من كتاب اللغة العربية!

لو كان هذا الرجل كاتباً لأتى بالأعاجيب، لأنه قوي الملاحظة وقوي الإحساس إلى أبعد الحدود، ولكن التعبير يعوزه في أدق الشؤون، والتعابير القوية لم تكون ولن تكون إلا شاهداً على عظمة الفكرة وقوة الروح

عيب توفيق الحكيم أنه نشأ مدلَّلاً بين كتاب هذا الجيل، فلم يتذوق صيال الأحقاد والأهواء والأباطيل

ألم يشهد على نفسه في مجلة الرسالة بأنه مَدين لكاتب لم يعرف قدره في جميع الأحايين؟ ومن ذلك الكاتب يا توفيق؟

حظك بيديك، يا ابن آدم، فاعرف نفسك بنفسك، ولا تعتمد على غير واجب الوجود

ثم أما بعد فقد قضى توفيق عشر دقائق وهو ينمِّق العبارة التي يهدي بها إلىَّ (أهل الكهف) فأتت: (إلى الدكتور زكي مبارك إعجاباً بدراساته الصريحة ونقده الحر للأدب الحديث)

فكيف ترى مقامي منك، يا توفيق؟

هل هديتك؟ هل أضللتُك؟

تلك كلمة الحق فيك، فغيِّر ما بنفسك لألقاك وأنت أديبٌ صوّال الفكر، جوَّال البيان

والله يحفظك ويرعاك للصديق الوفي الأمين

زكي مبارك

ص: 12

‌من وحي الحرب

العلم والخلق

للأستاذ قدري حافظ طوقان

إن الخلق من النفحات الإلهية، به يكتب التوفيق وعليه تقام دعائم النجاح. والفرد يخلقه لا بعلمه، وكذلك الأمم ليست بعلومها وفنونها بل بأخلاقها وضمائرها لا تصلح إلا بهما ولا تشاد عظمتها إلا عليهما.

فالعلم إذا دخل دائرة الخلق اتجه نحو الخير والبناء والنمو والإثمار، وإذا خرق نطاقها ولم يتقيد بها أصبح أداة شر وهدم وتدمير، وعلى هذا فمن صالح البشرية والحضارة أن يحيط الخلق بالعلم وأن يسيطر عليه ويرعاه ليسير به نحو الخير والجمال والكمال

لقد تقدم العلم تقدماً نتج عنه انقلاب خطير بعيد الأثر في الحياة والعمران، فقد قضى على المسافات ومحا آيتها، وأتى على معجزة الاتصال بين الأقطار، فجعلها طوع إشارته. كشف المجاهل، وجفف المستنقعات، وأروى الصحاري، ومهّد الأدغال، وأباد أكثر الأمراض، فإذا الأرض أكثر ترامياً وأرجاؤها أعظم اتساعاً. فتح أبواباً كانت مغلقة، ووصل إلى نتائج ما كانت لتخطر على بال إنسان، وتمكن من السيطرة على مصادر الطاقة في أشكالها المختلفة فنمت الثروة العامة نمواً لم يحلم به أحد من قبل، وطغت الاختراعات، وكثرت الاكتشافات، فالعائمات على الماء، والسابحات في السماء، والساريات والراسيات على الأرض وتحتها، والأسلاك الكهربائية تطوف هذه الكرة، والأمواج اللاسلكية تعج في الأجواء حاملة على أجنحتها الأخبار والأنباء والصور، وأصبح كثير من الناس في هذا العصر يتمتعون بأسباب من الرخاء والرفاهة والترف لم يرن إليها القياصرة في الأزمان الماضية

ولكن مهلاً. . . هل هذا التقدم كاف؟

هل هذا التقدم - وقد توافرت فيه كل الوسائل لتسهيل الحياة وتوفير العناء - قضى على المشاكل الاجتماعية التي يعانيها المجتمع؟. . .

إن هذا التقدم قد زاد المشاكل الاجتماعية تعقداً، وسلب راحة البال وطمأنينة النفس، ويمكنني أن أقول إنه وضع الحضارة في مركز خطر.

ولماذا؟. . . لأن الإنسان في تقدمه لم يحسب حساباً للخلق ومعاني الحق والواجب والمثل

ص: 13

العليا، وقد قصرت حكمته عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية.

والذي يخشاه كبار الفلاسفة والحكماء أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم وقواه العظيمة في أغراض الروح والخلق، اتجهت هذه القوى إلى التدمير والتخريب والتقتيل بدلاً من الاتجاه إلى البناء والإنتاج والإثمار والخير والجمال

لقد أصبح شعار هذا العصر (المادية فوق كل شيء) طغى هذا الشعار وتضاءلت أمامه قوة الناس المعنوية وتلاشت به الروابط الأدبية وانكمشت الرحمة والعطف والشفقة في صحف الأديان، وأشاحت الفضيلة بمزاياها عن النفس فإذا الإنسان في غمار من الزهو والغرور يهزأ من العفة والاستقامة والفضيلة والصلاح ولا ينظر إلى الحياة إلا من ناحية المتع والمسرات

لهذا لا عجب إذا قام المفكرون في أمريكا وإنجلترا يدعون الناس إلى حركة إصلاحية غايتها الاتجاه نحو المعنويات والروحيات، والاهتمامُ بتكوين الخلق، وجعلُ الحضارة قائمة عليها، لينقذوا الإنسانية من الشرور المحيطة بها ويضعوا حداً للمشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع. وهذا ما يجعلني أومن بأن العالم - على الرغم مما هو فيه من تخبط - سيتجه نحو الروحيات ونحو الاحتفاظ بمقام الروح فوق مقام المادة، ذلك أنه إن لم يفعل، وسمح للمادة أن تسيطر غير آبه للخلق ومعاني الخير والكمال، فلن تقوم لحضارة قائمة وسيبقى السلم مهدداً، والمثل العليا في خطر، والناس في قلق، والأفكار في اضطراب، والأعصاب في توتر، وتتضاعف مشاكل الإنسان ومتاعبه، وتزيد تعقداً والتواءً، فلا يخرج من فوضى إلا ويجابه فوضى أشد وأنكى فلا اطمئنان ولا أمان ولا راحة ولا سلام

وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حدٍّ لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من المتاعب والصعاب المحيطة به من كل جانب

يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلي من شأن المثل العليا والأخلاق السامية، كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات وتوفق بين المادة والروحيات

وهل تكون حياة آمنة يسودها رحمة وسلام إذا كانت مادية؟

وكيف تكون الحياة ناميةً رائعةً إذا لم تسرْ على هدى الروحيات؟

لن يستطيع الإنسان أن يردّ عن الحياة آثامها وشرورها ومفاسدها إذا سار فيها على العلم

ص: 14

وحده منصرفاً عن معاني الخير والجمال!

بل كيف تكون الحياة سامية ذات أثمار إذا سيطرت عليها المادية من كل جانب؟

وهل يصفو عيش في جو مادي؟

وهل تستقيم حضارة بالمادية؟

لا. لا. لن تستقيم حضارة بها ولن تتخلص الإنسانية من ويلات العلم إذا لم تنزع إلى الروحية وتسر على هدى الخلق وطريق الحق والعدل

بلاء هذا العالم في طغيان المادية، وخلاصه في الجمع بين الخلق والعلم، خلاصه في روحانية تذكى في الناس معاني الخير والكمال وتسمو بهم إلى ازدهار العواطف، إلى حيث نمو الخلق وتفتح المواهب وبروز المزايا النفسية. . . وإن في هذا كله لثماراً يانعات تجني منها الإنسانية الخير والطمأنينة والسلام

إن في رجوعنا إلى عناصر الخلق وإلى الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الأديان، ما يضع حداً للمتاعب التي تواجه الإنسان وتجعل من العلم أداة خير وإصلاح وما يقضي على الفوضى الخلقية التي نراها سائدة في مختلف نواحي الحياة

إن العلم قد وضع في أيدينا قوة، إذا لم نحطها بسياج من الخلق والفضائل، انقلب إلى قوة هدامة مخربة. وعلى المعاهد والمفكرين أن يعملوا على حفظه ضمن هذا السياج، ليجني منه الإنسان قوى الخير والبناء والإثمار؛ وأن يسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا، حتى يعرف النشء كيف يعيشون وكيف يقومون بواجبهم ويؤدون رسالتهم بنفحات روحية وعلى أساس متين من الأخلاق

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 15

‌حول كتاب تحرير المرأة

للأستاذ مصطفى محمد إبراهيم

درجت الرسالة الغراء منذ شرعت وزارة المعارف سنة المسابقة بين طلبة السنة التوجيهية في امتحان اللغة العربية - على نشر مباحث كريمة فيها توجيهات قيمة لأذهان الطلبة في الكتب التي سيمتحنون فيها، وكان المتولي أمر هذه المباحث النافعة الأستاذ زكي مبارك

وقد قرأت في عدد الرسالة الأخير (رقم 389) بحثاً قيماً نفيساً حول كتاب من هذه الكتب هو كتاب (تحرير المرأة) للمرحوم قاسم بك أمين بقلم الكاتب الفاضل الأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف. وقد عنت لي بعد قراءته ملاحظات لم أر بداً من تدوينها تعميما لفائدة أبنائنا الطلاب

تناول الأستاذ شخصية المؤلف بشيء من الإسهاب فأحسن وأفاد، إذ أن التعريف بالمؤلف والإبانة عن مقومات شخصيته ومدى ثقافته له أثر كبير في تفهم آرائه والحكم على أفكاره. ثم عرض الأستاذ مباحث الكتاب عرضاً لطيفاً، غير أني تمنيت لو أنه أسهب فيه قليلاً حتى تزداد هذه المباحث الخطيرة وضوحاً، خصوصاً وأن هذا الكاتب كان له من الأثر الاجتماعي العميق ما بزَّ به كل كتاب في هذا الباب في هذا العصر؛ فكان الطلبة خليقين أن يوجهوا في دراسته توجيهاً واسعاً مسهباً

هذا وقد كنت قرأت كتاب تحرير المرأة هذا فرأيت من المباحث النفيسة التي احتفل لها المرحوم قاسم بك أمين وأعد لها ما استطاع من قوة وعتاد اقتضاه مجهوداً غير يسير - مبحث (الطلاق) وهو بحث سيبدو لمن يقرأه أنه مقطوع النظير

فقد عرض المباحث الإسلامية في هذا الموضوع الخطير عرضاً قوياً مكيناً، وأورد أقوال الأئمة وأصحاب المذاهب والفقهاء من أمثال الزيلعي والشوكاني وابن عابدين، ثم استوعب كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة حول هذا الموضوع

درس ذلك كله دراسة الفقيه المتفهم لروح الدين، ثم هاجم أولئك العلماء الذين اشتغلوا بالتأليف في هذه الموضوعات الخطيرة وكان أكبر همهم تأويل الألفاظ وتخريج الحروف، حتى ملئوا كتبهم بنحو (طلقتك، وأنت طالق، وعلي الطلاق، وبالتسعين! وطلقت رجلك ورأسك) وما إلى هذا من الخيالات الغريبة؛ وغفلوا عن أن الشرع إنما يقوم أولاً وقبل كل

ص: 16

شيء على النية التي هي أساس الدين الإسلامي، وكانت حملة موفقة كل التوفيق فقد ظهر عليهم، ولا غرو فسلاح المرء يقينه

هذا الفصل من الكتاب هو في ظني البحث العلمي الفريد المبني على الدراسة الدينية المستنيرة المدعمة بالحجج الدوامغ، فليت الطلبة يولونه أكبر همهم، ويدرسونه دراسة تثبت وتفهم، ففي دراسة مثل هذا الفصل تنوير لأذهانهم وتعويدهم الصبر على مكاره العلم والقدرة على تخريج الأحكام الصحيحة من الاتجاهات المختلفة

هذه ملاحظاتنا على مباحث الكتاب. ولنا ملاحظات أخرى لغوية تعرض لها الأستاذ أبو بكر بالنقد:

فقد أخذ على المرحوم قاسم بك في كتابه استعماله كلمة (الأهالي) بدل الأهلين جمعاً لكلمة (الأهل). وليس جمع الأهل على الأهالي خطأ. وقد ورد هذا الجمع في الجزء الأول من كتاب (أساس البلاغة) - وهو من مراجع اللغة المهمة - في مادة (أهل)

وخطأه الأستاذ في استعمال كلمة (عائلة) مكان (أسرة) وعندي أن الرفق خير من العنف وأننا نخدم اللغة وأهاليها بقبول الكلمات التي نجد لها وجهاً خصوصاً إذا كانت متواردة على الألسنة والأقلام منذ عهد طويل

ويخيل إليَّ أن الأستاذ الكبير حكم عليها بعدم الاعتبار لأنه لم يجدها في كتب اللغة مع أن المعاجم لا تذكر المشتقات.

وأذكر أن أستاذنا الجارم بك كان يلقي منذ سنتين محاضرات عن طريق المذياع في موضوع الأغلاط الشائعة في العربية فورد على لسانه ذكر هذه الكلمة (العائلة) فأظهر غيظه وتبرمه من محاربة المعلمين لهذه الكلمة الجميلة البليغة ومطاردتها من كراسات التلاميذ مع دورانها على الألسنة والأقلام أمداً طويلاً، فقد ذكر أنه وجد هذه الكلمة في شعر شعراء الدولة الأيوبية (وإن كان نسى أن يعطينا بيتاً نسكن به الثورة الدائرة حول هذه الكلمة)!. . .

ومما أذكره في تخريج الأستاذ الجارم بك لهذه الكلمة قوله:

إن عائلة وزن فاعلة مشتقة من عال يعيل إذا افتقر؛ فعائلة بمعنى مفتقرة، وزوج الرجل وصغاره مفتقرون إلى من يعولهم ويمونهم - عال الرجل أهله كفاهم ومانهم وأنفق عليهم،

ص: 17

فعائلة فاعلة بمعنى مفعولة أي معولة، وإنما استعمل فاعلة هنا مكان مفعولة لغرض بلاغي لا يخفى، قال تعالى: فهو في عيشة راضية. أي مرضي عنها.

وأحسبه قال أيضاً ما معناه: والمعنى البليغ في أن العائلة بمعنى المعولة أنها تدفعه إلى الكد والسعي، ولولاها ما جاهد ولا ثابر، فكأنهم يعولونه. قال تعالى:(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). فقدم الأبناء على الآباء، لأن الآباء بأبنائهم يرزقون، أو كما قال. . .

فعائلة إذاً صحيحة من حيث الاشتقاق اللغوي

ويحلو لي بهذه المناسبة أن أطلب إلى أستاذنا الجارم بك أن ينشر أمثال هذه المباحث القيمة مما تعرَّض له في الإذاعة وليس أولى بها من صحيفة (الرسالة) حتى لا تضيع مثل هذه الفرائد بدداً فوق أمواج الأثير، وأحسب الكثيرين من إخواني المدرسين يؤيدونني في هذا المطلب والله المستعان

مصطفى محمد إبراهيم

ص: 18

‌الأزهر وبعثاته العلمية

للأستاذ محمود الشرقاوي

في عدد الرسالة الأخير (390) كتب الأستاذ الدكتور محمد البهي مدرس علم النفس والفلسفة بكلية أصول الدين مقالاً فيه صدق كثير، كان عنوانه (شخصية الأزهر العلمية)

وقد قلت إن هذا المقال فيه صدق كثير، وهذا أكبر ما يمكن أن يُمدح به كاتب في هذا الزمن، وفي هذا البلد الذي فيه قول الصدق من أكبر العيوب ومن أكبر المعوقات للذي يريد أن ينجح وأن يصل إلى ما يريد يسلك له كل طريق

وقد أثار هذا المقال الجيّد الصادق في نفسي طائفة من الخواطر أعتقد أن فيها - هي أيضاً - صدقاً كثيراً وفيها صراحة، وهذا حسبي

عندما عاد فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر منذ سنوات خمس، كان من ضمن منهاجه الإصلاحي لتجديد الأزهر والتفكير الديني بعثُ البعوث من علمائه ومن أساتذته إلى أوربا، وكان ذلك في رأينا أجرأ ما أقدم عليه شيخ للأزهر وأعظم ما فكر فيه مصلح شرقي بعد الشاذلي باشا لتقويم الحياة العلمية في الأزهر وتوجيه التفكير الديني وجهة الحياة والنماء والإصلاح، وتقويم هذه الحياة العلمية وتوجيهه هذا التفكير الديني وجهة الخير، هما أمتن العُمد وأرسخ الأسس للإصلاح الشامل في مصر والشرق

وعلى هذا الأمل العريض قابلنا وقابل المخلصون من المصلحين اختيار البعثة الأولى من هذه البعوث الأزهرية إلى أوربا، وكانت بعثة فؤاد الأول إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا

وقام لوداعها فضيلة الشيخ الأكبر ومن خلفه العلماء والأزهريون، ثم خطبها وخطبهم أنه سيجعل الأزهر وتجديده ونماء غرسه الإصلاحي فيه وديعة بين يدي هذه الطائفة المختارة من رجاله ومن أساتذته؛ إذ يعودون من بعثاتهم وقد تلقحت ثقافتهم الأزهرية بلقاح جديد واستفادوا من جامعات أوربا طرائق تفكيرها ومناهج بحثها وخصائص إنتاجها العلمي

وكان جميلاً وكان حقاً ما تحدث به شيخنا الأكبر لو أن الأمور سارت إلى نهايتها كما بدأت

وقد سافرت بعوث الأزهر إلى أوربا واستقر أعضاؤها في باريس ولندن وفي برلين يدرسون في جامعاتها. ومضت سنوات خمس عاد بعدها فريق من أعضاء هذه البعوث وقد أتم دراساته فيها، وفاز بما قصد إليه من الألقاب العلمية والدرجات الدراسية

ص: 19

ومن قبل هذه البعوث أرسلت ثم عادت بعثة المرحوم الشيخ (محمد عبده) التي أرسلها الشاذلي باشا سنة 1931 إلى ألمانيا فدرست وفازت بما قصدت إليه من الألقاب والدرجات. وعاد هؤلاء وهؤلاء أساتذة في الأزهر يشرفون على توجيه الفرق النهائية في كلياته وتخصصاته، حتى قام بعضهم يتساءل عن شخصية الأزهر العلمية، ويريد أن يضع في الميزان إنتاج كبار العلماء وأن يحكم على القيمة العلمية لما ألف جماعة كبار العلماء

الأزهر محتاج إلى لقاح علميّ جديد وإلى ثورة فكرية جديدة وإلى أسلوب من البحث العلمي قائم على الإخلاص للعلم وحده، وعلى الشجاعة في سبيل العلم وحده، وعلى حب الخير للعلم وحده وللأزهر وحده. ولا يزال في الأزهر روح قوي راسخ من الرجعية والردة والعود لعهود الظلم والظلام. وما من أحد يستطيع أن يرفع الشعلة ولا أن يديم اطراد السير لهذه الخطوات البطيئة من خطى التجديد والإصلاح، سوى أعضاء هذه البعوث التي أرسلها الأزهر من خلاصة رجاله، ولهذا وحده أرسلهم وانتظرهم حين غابوا ورجاهم حين عادوا

وأعضاء هذه البعوث العلمية التي فهمت الروح العلمي في جامعات أوربا واستقام تفكيرها على طرائق البحث العلمي فيها، هم الذين يعرفون ويقدرون ما هي الشخصية العلمية، وما هو الاستقلال في التفكير، وما هو النقد الإيجابي، وما هي حرية البحث؟ وهم الذين يعرفون ويقدرون مما شهدوا في جامعات أوربا وفي حياة أهلها ما هي قداسة الفكر

فهم بما عرفوا وما قدروا وما أحسوا هم النواة الطيبة والبذرة المباركة النامية لبعث هذه الطرائق وهذا الروح العلمي في الأزهر. وهم الذين تنبعث من أفكارهم ومن نشاطهم ومن إخلاصهم لهذه الطرائق العلمية الجذوة الأولى لهذا الثورة الفكرية التي يحتاجها الأزهر، والتي بها وحدها يأمن الأزهر وتأمن الحياة الدينية في مصر ما تخشاه من طغيان الرجعة وردة عهود الظلم والظلام.

ذلك ما فهمناه وارتقبناه حين اختيرت البعوث العلمية من رجال الأزهر، ثم عادت لتقود فيه الطليعة من الرواد في حياته الإصلاحية الجديدة

فهل يرى الأزهريون أن هذه البعوث تكوّن فيه الآن (البيئة العلمية) الجديدة؟. . . وهل يرى الأزهريون أن لهذه البعوث طابعاً علمياً خاصاً تتميز به عن أشياخها الذين ذهبت هذه

ص: 20

البعوث لتكمل بما ليس عند هؤلاء الأشياخ من فهم ومن ثقافة ومن تفكير؟. . .

وهل يرى الأزهريون أن هذه البيئة العلمية الجديدة لها (معسكر خاص يتميز بنشاط خاص وبأسلوب خاص، ويقصد في دراساته وفي إنتاجه وفي توجيهه التعليمي مقصداً خاصاً يقوم على حرية البحث وقداسة الفكر والشجاعة في مواجهة ما يلقون من عنت (المعسكر الآخر) القديم؟. . .

وهل يرى الأزهريون أن هذه البيئة العلمية الجديدة قد اجتذبت حولها مدرسة خاصة من تلاميذها ومن مشايعيها تكثّر بهم جيش الحرية والتجديد في الأزهر وتحصن به نفسها وقوتها من جيوش الرجعية فيه؟. . . وهي جيوش لها هجمات، ولها هبوب بعد كل سكون

نحن نسأل ولا نحكم. ولو أننا لا نرى دليلاً على أن البعوث الأزهرية (بعثة الشيخ محمد عبده ومن عاد من بعثة فؤاد الأول) قد أقامت في الأزهر مدرسة للتجديد خاصة ولا نهجت فيه منهجاً دراسياً ولا تأليفا خاصاً ولا لمَّت حولها معسكراً جديداً يرفع معها وبعدها شعلة النور في الأزهر، ولم يبد من آثار رجالها وإنتاجهم ما يدل على تميزهم على أشياخهم، وقد ذهبوا ودرسوا في جامعات أوربا لتكمل ثقافتهم بما ليس عند هؤلاء الأشياخ

نحن لا نرى دليلاً ولا شبه دليل على وجود شيء مما ذكرناه نحن عند ذلك أمام واحد من فرضين: أن تكون هذه البعوث لم تفد شيئاً مما درست في جامعات أوربا ولم ترتفع بتفكيرها عن أشياخها وعن زملاء أعضائها الذين لم يبعثوا ولم يدرسوا

وهذا فرض بعيد يوشك أن يكون ممتنعاً لما رأينا ونرى من تبريز هذه البعوث في دراساتها الجامعية وفي درجاتها العلمية التي نالت بها في أوربا وفي البحوث التي نالت بها ما نالت من الدرجات. . .

أو أن تكون هذه البعوث العلمية قد أفادت من دراساتها الأوربية عقلية جديدة حرة وتفكيراً جديداً حرَّا ومنهجاً في البحث جديداً حراً. وهذا ما نراه ونعتقد به

وعند ذلك لنا أن نسأل: لماذا إذن كانت هذه العقلية الجديدة الحرة عقيما، وكان هذا التفكير الجديد الحر متوارياً، وكان هذا المنهج الجديد الحر مهجوراً من هذه البعوث في دراساتها وإنتاجها وأثرها في نفوس طلابها. . .؟

لماذا لا يفيد أعضاء هذه البعوث بما أفادوا ولا يعلمون ما تعلَّموا. . .؟

ص: 21

وهل يتوجّه اللوم في هذا لهم أم أين يتوجّه. . .؟

يقول صديقنا الدكتور البهي في مقاله الذي فيه صدق كثير:

(فإلى أن تنشر رسائل جماعة كبار العلماء فينا - لأن عملهم وحده أمام التاريخ وأمام الحكم العدل هو الأساس الذي يبنى عليه الآن التقدير والاعتراف أو عدم الاعتراف بشخصية الأزهر العلمية - يجب علينا نحن الذين لم يصبحوا بعد من جماعة كبار العلماء إما أن نسعى في أن نطلع غيرنا على أبحاثنا الشخصية، وبذا نكون علماء، أو نعمد إلى تناول عمل الجامعيين بالنظر العلمي فنؤمن بما يدعونه أو ندلهم على موضع الدعاية فيه)

ونحن نرد عليه ما سأل فنقول:

إلى أن نرى أثركم وإنتاجكم وتجديدكم وما جعلتم في الأزهر من بيئة علمية جديدة وثقافة جديدة وحرية جديدة في البحث. سنقول إنكم لم تفيدوا شيئاً مما تعلمتم ولا تميّز لكم على من لم يبعث ولم يدرس في جامعات أوربا، أو أنكم لا تجدون من نفوسكم شجاعة ولا قوة لكي تكونوا منتجين ولا مقيدين

وذلك قول أقوله لصديقي كاتب مقال (شخصية الأزهر العلمية) وإلى أنداده أعضاء البعوث الأزهرية من أوربا

وقد كانت بعوث النهضة المصرية في أيام محمد علي الكبير وخلفائه سعيد وعباس الأول تكاد تكون في مجموعها من طلبة الأزهر. تعلّم رجالها ثم عادوا فكانوا روَّاد الحياة الجديدة والحضارة الجديدة في مصر كلها ثم في الشرق كله

ولكن الأزهر يبعث البعوث من رجاله ثم يعودون إليه يرجوهم لنفسه حياة جديدة وحرية جديدة وتفكيراً جديداً

فهل نجد عند رجال البعوث الأزهرية الجديدة هذه الحياة وهذه الحرية وهذا التفكير يبثّونها بين رجاله وبين أهله؟

وهل نجد عند الأزهر نفسه ما يمكّن لهذا البعوث أن تعمل وأن تنتج وأن تفيد؟

ذلك سؤال ندع الجواب عليه لمن يجيب!

محمود الشرقاوي

ص: 22

‌خطرات سريعة

قصة كتاب الديارات

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كتب إليَّ أخي من عمَّان يطرفني بما كتبه الأديب السيد كروكيس عواد تعليقاً على المقالة التي أثبتناها نحن عن الديارات

ولقد كنت بين إقبال على الرد وأدبار عنه، فقد عجبت من أمر من يدعي التحقيق والتدقيق (والعناية التي تفوق حد الوصف) ويسوق الدعاوى، ويغرق في الثناء على نفسه؛ ثم يعترف بأن الجهود كلها ليست جهوده، وأن الأساتيذ العلاَّمات أمدّوه بكثير من تلك المعلومات، وأرشدوه إلى تلك الملاحظات، وأن الكتاب بعد ذلك سيحمل اسمه

وقد سنحت لي خطرات أردت أن أثبتها هنا ليتضح للقرَّاء مبلغ صحة ما ذهب إليه الأستاذ

(أ) والحق أنه أتيح لنا نشر قصة كتاب الديارات أن نتمتع - ويتمتع معنا القراء - بأسلوب عربي مبين، وسبك رصين، وعرض لأسماء المستشرقين ثمين، أشباه فيشر وكيشر ولاهين، وأسلوب لا اعوجاج فيه ولا سقطات إلا ما يربو على الثلاثين!. . .

(ب) ولكن الأستاذ - مع الأسف - لم يجد في مقالنا شيئاً ولا أقل مما يريد. . . وما ندري ماذا كان ينتظر من لمح موجزات تنشر في مجلة أسبوعية للتعريف بكتاب سنصدره بعد حين!. . . ترى أكان ينتظر أن نصبّ له فيها كل ما هبّ ودبّ، وما اتصل إلى الكتاب بسبب، وما لم يتصل، وأن نصوغ له قصة كقصته، فيها دعاوى كدعاواه. . . فنرسم للقراء كل خطوة خطوناها إبان عملنا. . .؟ أم كان ينتظر أن يجد الكتاب كله في مقال واحد، مشروحاً مضبوطاً، مفهرساً مهمشاً، كما قدم له ذلك الأستاذ مصطفى والأب أنستاس؟

(ج) وعلى كل فقد كان اتفاقاً طريفاً - كما يقول كوركيس أفندي - أن يقوم باحثان بنشر كتاب واحد. ولا أدري لم ساق الأستاذ تلك المحاكمة التي دارت بينه وبين نفسه. . . فانتهت إلى عزمه على نشر الكتاب (خدمة للعلم بذاته)

مع أن الأمر جلل لا يستحق أن يستغرق ربع عامود في المجلة. . . لأن كتاباً يقوم عليه أستاذ يتقن اللغة الآرامية. . . وتدور فكرة نشره في رأسه منذ سبع سنوات، ويصححه أستاذان علامتان، يضعان له الملاحظات ويضيفان إليه الهوامش، ويحققان فيه ويدققان. . .

ص: 23

إن كتاباً هذا شأنه وتلك قصته لحرى ألا يهمل نشره

ومهما يكن من أمر فإن تنفيذ ما عزم الأستاذ عليه سيكون حادثاً عظيماً وخطوة واسعة نحو التدقيق الصحيح. . . لأنه سيضم الفهارس المختلفة (وكلها في غاية الضبط) والملاحق الواسعة (وكلها على ما يرام)

(د) ومن يدري كيف يكون الكتاب كتاباً إذا هو لم يضم الفهارس التي يفخر الأستاذ بها وقد كنا نتمنى ألا يضيع الأستاذ وقته في الإشادة بها، لأنه عمل آليّ لا يُفخر به يستطيع المبتدئون أن يقوموا به

(هـ) بقيت هذه الإشارات الكثيرة إلى نسخة (فيشر) وإلى نسخة (الكرملي)، وإلى (العناية التي تفوق حدود الوصف) في استنساخ النسخة (الكرملية). وما ندري إن كان تعداد النسخ على هذا النمط يوهم القراء أن هناك طائفة من النسخ لهذا الكتاب

(و) ويصر الأستاذ على قراءة النسخة البرلينية، مع أننا ذكرنا في مقالنا الأول أن للكتاب نسخة قليلة الضبط كثيرة الأخطاء في دار الكتب المصرية، كما ذكر لنا ذلك صديقنا الأستاذ شكري فيصل، وأثبته - كما أظن - صاحبكم حبيب الزيات

(ط) أما الملاحظات التي أراد كوركيس أفندي أن نتغاضى عن ذكره لها فنقول فيها:

أولاً: لم نرتجل الرقم ارتجالاً - كما يفعل بعض من يعرفهم الأستاذ - فقد وجدنا الرقم هكذا على النسخة التي عندنا، ولقد أثبت الرقم نفسه، فيما أظن، السيد حبيب الزيات في كتابه (الديارات النصرانية في الإسلام) وكنا نود لو يهب الله لنا علم الغيب، إذن لاستطعنا معرفة الأرقام الصحاح. . . وقد أثبت ذلك أيضاً تيمور باشا على النسخة. . . ولعلكم تستطيعون أن تسألوه من أين أتى به. . . ولكن. . .

ثانياً: ولقد كان الأستاذ في غنى عن أن يسوق إلى القراء هذه القائمة الطويلة من أسماء المؤلفين. . . فنحن لم نقصد في قولنا إن أول من نقل عن الكتاب هو السيد حبيب الزيات. . . إلى التعميم الذي يشمل كتب المستشرقين في اللغات الأجنبية

ولو دقق الأستاذ لوجد أن السيد حبيب الزيات هو أول من نقل عن الكتاب كما قلنا. أما كتاب (الصليب والإسلام) فلم نتشرف بمعرفته، وأحسب أن الأستاذ كوركيس أفندي يقرنا أن هناك فرقاً كبيراً بين الإشارة إلى الكتاب في هامش مقال أو في ثنايا كتاب وبين النقل

ص: 24

عنه والبحث فيه

وعلى كل فالأستاذ يشير في مقاله إلى كتاب الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري الذي ترجمه السيد أبو ريده، ويحتج بأصله الألماني الذي نشر في سنة 1917، وما من شك في أن الأستاذ لم يطلع على الأصل الألماني قبل الترجمة، ولكنه يوهم القراء أنه بعيد عهد بالكتاب وبمن نقل عنه وأشار إليه، ولو في هامش من الهوامش

ثالثاً: أما الملاحظة الثالثة فقد أجهد الأستاذ نفسه في تقسيم الأديار لينتهي إلى القول بأن ثمانية وثلاثين ديراً كانت في العراق وأنه امرؤ عراقي، وأنه موظف بدار الآثار، وأنه لم يستطع تعيين المواقع الحقيقية إلا لعشرة منها، ولو دقق الأستاذ فيما كتب عن الأديار وخصوصاً ما كتبه ياقوت والعمري والبكري والشابشتي، لوجد أنهم يحدون الدير، ويقولون إنه يقع في شرق كذا، وغرب كذا بجوار كذا على ضفة كذا، وتلك كلها حدود تقريبية يستطيع معها الباحث المدقق أن يعلم موضع الدير منها، ولا شك في أن الأستاذ كوركيس قد لاحظ أن (لوسترانج) قد حدد في مخططه الذي وضعه لبغداد بين سنة (150 - 300) للهجرة أماكن كثير من الديارات، كدير سمالو وغيره، (وإن كان الأستاذ مصطفى يخطئ لوسترانج) وبدهي أننا لم نسلك في تحديد الديارات والإشارة إلى محالها، ما يسلكه موظفو دار الآثار ومأمورو التسجيل، وإنما رأينا أن ذلك يقرب للأذهان محال تلك الديارات

ولعل الأستاذ كوركيس يدري بعد هذا كيف يمكننا أن نضع للأديار مخططاً

(ك) أما وفاة الشابشتي، فنحن لم نكن في معرض ترجمة المؤلف والتحقيق في سني حياته، وما قصدنا بمقالنا إلى الظهور وإيهام الناس أننا نحقق وندقق، وإنما ذلك شيء تركناه لغيرنا! وما كلمتنا عن الشباشتي إلا إشارة سريعة. . . خاطفة

(ل) على أنه مهما يكن من أمر قصة كتاب الديارات التي أطرفنا بها الأستاذ عواد، فإننا أفدنا منها أموراً كثيرة كنا نجهلها، فقد عرفنا أنه ذو اطلاع ومعرفة بأسماء المستشرقين، وأنه سيجمع في كتاب يضع عليه اسمه جهود عالمين، وأنه موظف بدار الآثار وعالم من علماء العراق، وملم باللغة الآرامية

هذا ما بدا لنا على تلك القصة ذكرناه وللأب أنستاس، وللأستاذ مصطفى تحياتي على جهودهما. . . أما كتابنا الذي بدأنا به منذ شهور، ولم نستعن في تحقيقه بأحد، فسيظهر

ص: 25

غداً، وإن غداً لناظره قريب

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 26

‌كلمات.

. .

غرامك علمني النوح. . .!

في سيارة كبيرة من سيارات (الأتوبيس) جلست وجلس من خلفي وإلى جانبيَّ خلق من الناس رجال وسيدات

السيارة تسير في طريق زراعيّ، وكل من الركب مشغول بنفسه، بعضهم يتحدث إلى جاره، وبعضهم - وهو قليل - يطالع صحيفته، وليس في الصحف مكتوب ولا في كلام الناس متحدث في هذه الأيام غير هذه الحرب العاتية التي يتقدم فيها كل جندي في كل أمة، إما إلى النصر وإما إلى الموت. وبعض من في السيارة يتسلى بالأكل وإلقاء الفضلات على أرضها وبين المقاعد

وارتفع من المقاعد الخلفية صوت رقيق، صوت مغنٍّ. . . وكان غناؤه مرتفعاً حتى سمعناه من أماكن جلوسنا، وبينها وبين مجلسه سطور من الناس

وأبصرت خلفي أنظر هذا الذي يتطوّع لتطريب الناس، وهم لا يستطربوه، وهو لا يعرفهم ولا يعرف تهيؤ نفوسهم لقبول الغناء في ذلك الوقت، وعلى هذه الصورة، وفي (الأتوبيس)

وكان الصوت الرقيق يخرج من أشداق رجل عملاق ضخم الجثة، ضخم المنكبين، ضخم الرأس، ذي أكتاف عِراض، قد استدارت حول ذراعه القوية حلقة حمراء، ورصَّعت على صدره أزرار نحاسية صفراء براقة، وأمسك بيمناه عصا المارشالية. . .!

إنه جندي من رجال جيشنا الباسل الذي فتح السودان وأداخ الدراويش والوهابيين في الجزيرة، والذي أوشك إبراهيم بن محمد علي أن يقتحم به على الدولة العثمانية

كان الجندي من رجال جيشنا الباسل يغني ويدير في شدقيه بصوته الرقيق هذه الأغنية:

يا نور العين يا غالي

يا شاغل مهجتي وبالي

تعال اعطف على حالي

وهني القلب ليلة العيد

نظرت ونظر غيري من الركب إلى هذا الجندي يرفع عقيرته يصيح بهذه الأغنية، وكأنما ظن أننا نستزيده فزاد، ولا غرو، فمن خلائق الجندية الشهامة. . .!

ونظرتْ إليه سيدة من الركب نظرة فهمها الناس. . .! ولكن صاحبنا المغني فهمها فهماً آخر، فعلا صوته يعيد: تعال اعطف على حالي. . . وجعل يعلو بها ويفتن في تنغيمها

ص: 27

كأنما قدر أن السيدة ستجيبه، وقد ناداها: تعال اعطف على حالي. . .

وانتهى الجندي الفخم الباسل من أغانيه، وانتهت بنا السيارة إلى حيث نقصد، وأتممت طريقي حتى صعدت إلى بيتي وما تزال صورة ذلك الجندي وما يزال صوته وما تزال أغنيته الذليلة في خيالي وفي صماخ أذني وفي ضميري

ولقيني من مسكني صوت الراديو بأنغام الموسيقى، ثم استفتحت وجلست أستريح وأستمع حتى انتهى العزف، وأعلن المذيع يقول:

سمعتم سيدات وسادتي فرقة موسيقى (الجيش المصري) تعزف لكم بعض القطع الموسيقية والأغاني المنتخبة وهي:

كذا. . . وكذا. . . وكذا. . . وأخيراً دور:

(غرامك علمني النوح. . .!)

ألا ترى - أيها القارئ - أنني وركب السيارة كنا ظالمين حين نظرنا إلى ذلك الجندي المغني تلك النظرات؟

(محمود)

ص: 28

‌كيف تضاءل التاريخ في الأزهر بعد الجبرتي

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

كان عصر الشيخ عبد الرحمن الجَبَرْتِيْ في أواخر القرن الثاني عشر الهجري وأوائل القرن الثالث عشر فاصلاً بين عصرين من عصور الجامع الأزهر؛ فإلى عصر الشيخ الجبرتي كان الجامع الأزهر يستأثر وحده بالتعليم العالي في مصر؛ وكان لرجاله نفوذ كبير في البلاد يضارع نفوذ حكامها من الترك الجراكسة والعثمانيين؛ أما بعد عصره فإن المدارس المدنية التي أنشأها محمد علي باشا أخذت تنافسه في وظيفته، وتضعف من شأنه، فصار يذوى وينكمش، وأخذ يرضى بالقليل من العلوم الدينية والعربية، ويترك لتلك المدارس كثيراً من العلوم التي كان يعنى بها قبل إنشائها: كالتاريخ والأدب وتقويم البلدان وغير ذلك من العلوم التي كان يعنى بها؛ وكانت تزيد في ثقافة رجاله، وتعلي من شأنهم، وتقوي من عزائمهم. فلما رضى بالقليل من تلك العلوم الدينية والعربية ضاقت ثقافة رجاله، وضعفت فيه الهمم، وفترت العزائم، حتى صرنا نرى من رجاله من يذكر في تعليقه على بيت المتنبي الوارد في كتاب التلخيص للخطيب القزويني:

مُبارَكُ الاسم أغَرُّ اللقبْ

كريم الجرّشي شريف النسبْ

أن سيف الدولة الممدوح بهذا البيت من بني العباس، لقول المتنبي فيه (شريف النسب) مع أن سيف الدولة كان من قبيلة تَغلب، وهي من قبائل ربيعة، فأين هو إذن من بني العباس وهم من بني هاشم، وبنو هاشم من قريش، وقريش من مضر.

وكذلك يزعم بعضهم في تعليقه على قول الفرزدق الوارد في ذلك الكتاب أيضاً:

إن الذي سَمَك السماء بنى لنا

بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ

أن المراد بالبيت فيه الكعبة لأن الفرزدق كان من قريش، مع أن الفرزدق كان من تميم، وهو يفتخر في ذلك على جرير ببيته فيهم، وقد صرح به بعد ذلك في قوله:

بيتاً زُرَارَةُ مُحْتبٍ بفنائه

ومُجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ

ولا غرو بعد هذا في أن يؤلف الجبرتي كتابه الجامع في التاريخ المسمى (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) فيلمّ فيه بأخبار عصره كبيرها وصغيرها، ويترجم لرجاله تراجم وافية شاملة، وفيهم الفقيه والنحوي والأديب والشاعر والفلكي والطبيب والحاكم والقاضي

ص: 29

وغيرهم

فإذا جاء بعده الشيخ أحمد مصلح في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، يحاول أن يترجم لعلماء عصره كما ترجم الجبرتيُّ قبله، أتى بشيء تافه يدل على مقدار ما وصل إليه الأزهر من ضعف في الثقافة قبل نهضته الأخيرة، فيقول بعد حمد الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: وبعد فهذه صورة قائمة أذكر فيها العلماء المستعدين الذين هم موجودون بمصر في القرن الثالث عشر في عام تسع وخمسين سنة، وذلك لما شاع أن مصر لم تزل من قديم الزمان مشهورة بالعلماء والفضلاء الذين هم ذو فطنة وعرفان

ثم يذكر أن الذي دعاه إلى ذلك أن بعضهم قد قال بمقتضى وفور عقله: إن هذا الوقت لا يوجد فيه علماء مثل الذين أدركتهم من المتقدمين، وإنه لا يرى إلا الصم البكم من الجاهلين الجامدين، إلى أن قال: فحملتني حَمِيَّة الحرية على أن أذكر أسماء العلماء المعتبرين، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين، وتذكره للمتذكرين، ولربما بصرف عنايته إليهم تكثر أفراد هذا النوع، وتشتعل العقول الفاترة بنار الفكرة، وينشب فيهم هذا الوصف الذي يتبعه علو الهمة، التي يتبعها عمار المملكة، وقوتها على من عداها من الممالك.

وتقع رسالة الشيخ أحمد مصلح التي قدم لها هذه المقدمة في تسع صفحات من القطع الصغير، وهي رسالة مخطوطة بخط نسخي لا بأس به، وتوجد بمكتبة الجامع الأزهر بين كتب سليمان أباظة باشا رحمه الله، ورقمها الخاص 396 والعام 6688

وهذا مثال مما كتبه الشيخ أحمد مصلح عن أولئك العلماء ليرد على ذلك الطاعن فيهم، وهو عبارة عن القائمة الأولى من علماء الشافعية:

1 -

الشيخ إبراهيم الباجوري عالم فاضل وله تأليف

2 -

الشيخ مصطفى البلقاني عالم فاضل وله تأليف

3 -

الشيخ عبد الله النبراوي كذلك وله تأليف

4 -

الشيخ أحمد المرصفي عالم فاضل

5 -

الشيخ مصطفى الذهبي عالم فاضل

6 -

الشيخ مصطفى المبلط عالم فاضل

7 -

الشيخ حسن البلتاني عالم فاضل

ص: 30

8 -

الشيخ أحمد أبو مصلح كذلك وله تأليف

9 -

الشيخ إبراهيم السقا كذلك وله بعض تأليف

10 -

الشيخ سليم الشرقاوي كذلك عالم فاضل

11 -

الشيخ محمد الطوخي عالم فاضل أيضاً

12 -

الشيخ صقر الأشموني عالم فاضل

13 -

الشيخ محمد الخضري عالم فاضل

14 -

الشيخ دسوقي المحلاوي عالم كذلك

15 -

الشيخ محمد عبد القدوس عالم فاضل

16 -

الشيخ نور الدين كذلك عالم فاضل

17 -

الشيخ خليفة الفشني كذلك عالم فاضل

18 -

الشيخ محمد الخناني عالم فاضل

19 -

الشيخ سيد الأنصاري عالم فاضل

فهؤلاء تسعة عشر عالماً لا يذكر الشيخ أحمد مصلح في ترجمة كل واحد منهم إلا أنه عالم فاضل مرة، وعالم فاضل وله تأليف مرة ثانية، وعالم فاضل أيضاً أو كذلك مرة ثالثة، وهكذا هان فن الترجمة في عصر الشيخ أحمد مصلح إلى هذا الحد، وصار الذي يعنَى به لا يعرف في كل من يترجم له إلا أنه عالم فاضل، أو عالم فاضل وله تأليف، أو عالم فاضل كذلك. ومن الغريب أن الشيخ أحمد مصلح ذكر اسمه في هذه القائمة من علماء الشافعية، وتبرع لنفسه بذلك الوصف الذي كرره فيهم، ولعله تواضع فلم يزدنا تعريفاً بنفسه، لئلا يمتاز بذلك على هؤلاء العلماء ويعنَى بنفسه أكثر منهم. وقد ذكر بعد ذلك ترجمة ستة من علماء الحنفية، ولم يزد فيها على ذلك الوصف السابق، اللهم إلا في الشيخ السادس، وهو الشيخ محمد الكتبي، فقد ذكر أنه عالم فاضل إلا أن ذكره وصلاحه كادا أن يميلا به إلى الجهل. ولست أدري والله الجهل الذي يريده، ولعله يريد جهل الناس به فيكون مصدر المبني للمفعول، لا مصدر المبني للفاعل

ثم ذكر أسماء أحد عشر عالماً من المالكية على ذلك النحو الذي ذكره فيمن قبلهم من الشافعية والحنفية. وقال بعد الفراغ منهم: (هؤلاء هم العلماء الأذكياء الذين هم حقيقون

ص: 31

بالاعتناء،

ومن عداهم فهو إما طالب علم لم يبلغ هذه الدرجة، وإما متشبه بهم في المقال والأفعال، وإما مكتف بشهرة علم آبائه، البعض من هذا القسم قد ظن أنه وارثه، فتصور وتطور بما ليس فيه، وإما صاحب دعوى عمداً أو مع غفلته عن ذلك وإن جل في أعين العوام، وعلامة عدم صحة ذلك له الامتحان، وإما مكتف بتصوره بصورة العلماء، وتلبسه بزيهم، وكونه يركب بغلة على سجادة، وإما بشهرته بذلك بين بعض العوامِّ الذين هم كالهوامِّ، وإما بدعوى الديانة والصلاح، وإما بشقشقة اللسان بما تعورف بين العلماء، فيظنُّ أنه على شيء في صنعة العلوم، وإما بزخرفة الكلام والتنكيتات، والدعابة والهزليات، وعنده في ذلك لكل مقام مقال، وإما بنحو ذلك)

وهذه الخاتمة أهم ما في هذه الرسالة، لأنها ترينا كيف وصل حال الأزهر في عصر صاحبها إلى ذلك الاختلاط والاضطراب والتلبيس، حتى صار كل من يركب بغلة على سجادة عالماً، وحتى صار العلم فيه ينتسب إليه بالوراثة، لا بالجد في الطلب، والاجتهاد في الدرس والتعليم، بل نزل قدر العلم إلى أن صار يحشر في زمرة العلماء من يجيد زخرفة الكلام والتنكيتات والدعابة والهزليات، ولا يعلم إلا الله كيف كان مصير الأزهر في هذه الوهدة التي تردى إليها لو لم يتداركه المخلصون من أبنائه بهذه النهضة الأخيرة، فيقيلوه من عثرته، ويقضوا على ذلك اللبس والاضطراب فيه.

ولا شك أن هذه الرسالة بضعف أسلوبها، وبعجزها عن القيام بما حاولته من الترجمة لرجال عصرها، تمثل الأزهر في ذلك العصر أكثر مما تمثل تلك الشروح المنسوخة، والحواشي المنقولة في العلوم الدينية والعربية التي ألفت فيها، فالنقل عمل سهل لا يكلف شيئاً، وليس كالعمل المخترع في دلالته على القدرة وحسن الاستعداد

ولم يكن لي بعد هذا بد من تسجيل كلمة عن هذه الرسالة الصغيرة في مجلة الرسالة الغراء، ليكون لنا فيها عظة وعبرة، ونعلم فضل حاضرنا على ماضينا، فلا نسمع لمن يحاول النيل منه، ويحن إلى ذلك الماضي مفضلاً له. ومن جهل ماضيه لم ينتفع به في حاضره ومن علمه أيا كان أمره كان له منه العظة النافعة، أو القدوة الحسنة.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 32

‌يا ساعة الصفو.

. .

للأستاذ العقاد

قطعة من قصة شعرية سينمائية ألفها الأستاذ للفنانة (نادرة)

وستغنيها من محطة الإذاعة مساء 30121940 وهي من

تلحين الأستاذ (السنباطي) من مقام (الحجاز). . .

المويلحي

يا ساعة الصفو غبتِ عني

وحيرتْ لوعتي خطاكِ

غريبة أنت في طريقي

هداك نور الهوى هداك!

أبطأتِ يا ساعة التمني

وموعد الملتقى قريب!

هل يبطئ الحزن لو سعى لي

كما سعى الموعد الحبيب؟

أصبحت من لهفتي عليه

أنتظر الليل بالنهار

طال انتظاري له فماذا

في الغيب يا ليل بانتظاري؟

ص: 34

‌من وحي الحرب

أبناء نيرون

للأستاذ عبد اللطيف النشار

أبناءُ برلين لهم عذرهم

خيالُهم طاغٍ على الواقع

إلاّ تكن حقا أمانيُّهم

فإِنهم في حُلمٍ رائع

أهل حروب صادفوا أهلها

فدافعوا عن حسب رافع

إن يخفقوا في الحرب، وليخفقوا،

فقد أتوا بالعجب الرائع

وأنت يا روما بلا عَاذر

شربتِ من سم الوغى الناقع

(وإنما الفتك لذي خسة

شبعان أو ذي كرم جائع)

حسبك يا روما رضى القانع

أو فارقبي عاقبة الطامع

كرامة الدافع والوازع

هما عماد الفاعل المانع

وأنت لا حقٌ ولا قوةٌ

ولست أهلاً للسنا اللامع

وأنت لا شيء سوى نعرة

أبلغ ما فيها أذى السامع

دعتك برلين فسايرتها

هيهات ما المتبوع كالتابع

أبناَء نيرون بكم ما به

من قدرة، لكن على الوادع

أبناء نيرون بكم ما به

من جزع في الموقف الفاجع

أحرق روما طالباً لذة

لذته في موقف الضارع

منتحراً يبكي على نفسه

بين وميض اللهب الساطع

في كفه الموسى وألحاظه

حائرة في المحجر الدامع

أبناءه لم تتركوا نهجه

كلكمو من ذلك الطابع

وكلكم أجرم إجرامه

وما له في الغد من شافع

وكلكم موساه في كفه

فلتثأروا للأمل الضائع

أو هادنوا الإغريق من قبل أن

يتسع الخرق على الراقع

أو أحرقوا روما كنيرونكم

تنجو من المخدوع والخادع

ص: 35

‌القلوب المرضى

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

أَرَى العالَم المجنَون تُبْرِمُ أَمْرَه

عُقولٌ صحيحاتٌ وأفئدةٌ مَرضى

إذا الْعِلْمُ أَسْدَى مِن عَوارفه يداً

تَبَدَّلها هَدماً وَأَتْبعها نَقْضا

لقد سَوَّد الناسُ السَّماَء وقائعا

كما زَلزلوا بالخيلِ والغارة الأرْضا

يَنامون إلا عن تِراتٍ دَفينةٍ

تُؤَجِّجُ نيرانَ العداوةِ والبغضا

نَبَتْ بهمُ اليومَ المضاجِعُ واغتَدوْا

حِذارَ الرَّدَىَ لم يطْعَموا في الدُّجى غَمْضا

تَغَنَّوا بألحانِ السَّلامِ جميلةً

ولم يُمْهلونا نَجْتَنِي زَهرَها الغضَّا

إذا صاحَ فيهم صائح الشَّرِّ أَرْقَلوا

كما يَنْفُدُ السَّهمُ المُنازِعُ أو أَمْضى

عَجِبْتُ لهم قَدْ حَرَّموا القتلَ مُفْردا

ويقتلُ في الهيجاءِ بعْضُهُمو بَعْضا

ص: 36

‌معضلة وجدت حلها

(مهداة إلى كل من وخط الشيب رأسه قبل الأوان)

للأستاذ علي الجندي

شعَرَاتٌ فِي مَفْرِقِ الرأس لاحتْ

كنجومٍ تُضِيءُ فِي الدَّيْجُورِ

غَادَرَتْنِي فِي نَضْرَة العُمْر أبْكي

ذِكرَياتِ الصِّبَا بدَمْعٍ غزِير

وَكَسَتْنِي ثوبَ الوقار، وهل أَسْـ

مَجُ في العين من وقار الصَّغير؟!

يَا لَظُلْم الأيامِ إِذْ وَقَفَتْنِي

بين رأس شَيْخ، وَقَلْب غَرِير

ذاك يدعو إلى الرشاد، وهذا

مُسْتَهَامٌ بِكلِّ وَجْهٍ نَضِيرِ

تَرَكاني في حَيْرَةِ الدَّمْعَة الْحَرَّى

بجفن المتَيَّم المهْجُور

إِنْ دَعَاني الشبابُ قَال ليَ الشَّيْبُ

تَصَابى الشُّيوخُ رَأْسُ الفُجُور

أَنُزُوعاً إلى الصِّبا تحتَ سيفٍ

للمنايا، فوق الشَّوَى، مشهور

هَبْ بياضَ القَذَال لم يَزَع الشَّيْخ

أَلمَّا يَزَعْهُ صَوْتُ الضمير

أَوْ أَطعتُ المشيب صاح بيَ القلبُ

رُوَيْداً فلستُ بعضَ الصّخور

أَتُراني أَرْضَى بجَنْبَيكَ أَنْ أَحْيَا

- بلا صَبْوَةٍ - حياةَ الأمير

وَيَمرّ الشبابُ كالْحُلُمِ السَّا

رِى، وعُمْرُ الشباب جِدُّ قصير

لستَ مِنِّي وَلستُ مِنْكَ فدعْني

سَادِراً فِي غَوَايتي وَغُروري

وَتَخيَّرُ سِوَايَ قلباً يُجَارِيك

غليظَ الإحساس صُلْب الشّعور

لَا أُطِيق الْمُقَامَ بَين حَنَايَا

كَ، كأني أُقيم بين القبور

وَيْكَ رَأْسِي تَركتَنِي أَصْحَبُ الدّنيا

بقلبٍ دامٍ، وطَرْفٍ حَسِيرِ

بَكَّرَ الشّيبُ فِي النّزول بفَوْدَيك

وَيَا شُؤْمَ ذَلِكَ التَّبْكيرِ

قد خضبْنا مَا ابْيَضَّ منه فما جَا

زَ عَلَى فِطْنة العليم الخبيرِ

وَبَرَزْنَا لِلنَّاظِرِين فقالوا:

ذَاك رأْسٌ يُدْلِى بِحقٍّ وَزُور

يا رسولَ الْمَنون يا وافد الأَسْقَا

م يا طيفَ منكر ونكيرِ

أَنتَ شَوَّهْتَ لِي الحياةَ وَأَفْسَدْ

تَ صِلَاتي بمُرْهَفَات الْخُصور

كلُّ غيداَء حين أَبْدُو تُرَاعِيني

بألحاظ كاشِحٍ مَوْتور

ص: 37

ثم تَزْوَرُّ كالْجَواد - عَلَى الطّعْن -

وتَعْدُو كالشّادن المذعور

ليتَ شعْرِي وَمَا نضَوْتُ شَبْابي

كيفَ صَبْرِي على جَفاء الحُور!

عَجباً للحسان يَزْهَدْنَ فِي الشّيْب

وَمَا الشَيبُ غيرُ هالةِ نورِ

قلتُ: يا (نُعْمُ) لَا يرُعْك مَشيبي

إِنّه حِلْيةُ الزُّمِيت الوَقور

هُوَ كالدّر في نُحور الرَّعَابيب

وكالنَّوْر في حِفَافِ الْغَديرِ

نَاسَبَ الأَوْجُهَ الرِّقَاقَ بياضاً

وَحَكى وَمْضُه رفيفَ الثغور

وَهَبِيه قذَى العيون فَمَنْ يَسْطيع

دَفْعاً لِعَادِيَات الدهور

كلُّ طِفْلٍ - مَا أَخْطَأَتْه الْمَنَايا -

سوفَ يلقَى عَلَى الزمان مَصيري

وَإِذَا مَا اجْتَوَيْتِ شَعْرِي فَشِعْرِي

حَلَبُ الكَرْم بالزُّلال النَّمير

لَكِ مِنْهُ وَشْيُ الرُّبَا وَجَنَى الرَّو

ض وَأكْمَامُ وَرْدِهِ المَنْضُور

وَنَسِيبٌ يَسْتَلُّ (قَيْساً) و (لَيْلَا

هُ) من الرَّمْس قبل يوم النُّشور

وَغِنَاءٌ ينْساب في مِسْمَع الكوْ

ن ويَسْرِي على جناح الأثِير

فأجابتْ والزَّهْوُ يَعْطِفُ منها

خُوطَ بانٍ تحت الصَّباح المنير

لا تُحَاوِلْ خَدْعي فشيْبُكَ أَزْري

بنظيمٍ - تُزْهَي بهِ - وَنَثِير

َقسَماً بالصَّفا وزمْزمَ والمَشْعَرِ

والبَيْت حَالِياً بالسُّتُور

لو نظمتَ النّجومَ والشمسَ والبد

ر، وفصَّلْتَها بدرّ البحور

وحَوَيْت البيانَ شَطْرَيْه حتى

فُقْتَ فيه ابْنَ هَانِئِ والْحَريري

لستُ أرضاكَ للغرام فدعْني

أنشُد العيْش في ظِلال السّرور

أَبِرَأْسٍ مِثْلِ الثَّغَامَة عاثَ الشَّيْبُ

فِيهِ عَيْثَ الْجَراد المُغير

وَبِجَيْبٍ كَجُحْرِ ضَبٍّ خَرَابٍ

تَعْمُرُ الرِّيحُ جوْفَه بالصَّفير

تبتغي خُلّتِي وترجُو وِصالي

شَدَّ ما سُمْتَني عذابَ السعير!

يُمْلَكُ الْحُسْنُ بالشَّباب وبالما

ل فما الظنُّ بالكبير الفقير

قد رَضِينا مَشِيئَة الله فينا

وامْتثَلْنَا لِحِكمَةِ المَقْدُور

وَلبِسْنَا عَلَى الصِبا حُلَّةَ الشيب

فأهلاً وَمرحباً (بالنَّذير)

وَلَزِمْنا المحرابَ نَجْأَرُ بالتَّهليل

في صَدْره، وبالتَّكبير

ص: 38

وعكفْنَا على تِلاوة آيِ الذِّكر

زُلْفَى ذلك العزيز الغفور

وَثَنَيْنَا العِنان عن منهل الرَّا

ح إلى منهل القَراح الطّهور

وَأَعَرْنَا الْقِيَانَ سَمْعَ أَصَمٍّ

وَمنحْنا الحِسان طَرْف ضرير

وَغَنِينا بالشمس َمطْلَعٌها الأُفْقُ

عن الشمس تَزدْهي في الْخُدور

وَاسْتَعَضْنَا بالْغُصْنِ يكسُوه آذّا

رُ من الغصن رافلاً في الحرير

وَلَهِينَا عن وَجْنة الطَّفْلَةِ الكا

عِبِ بالوَرد نَافِحاً بالعبير

وَسَلَوْنَا بِأَعْيُنِ النّرجس الغَضِّ

عُيوناً يَقْتُلْنَ بالتَّفْتير

وَوَجَدْنَا الرُّمانَ أَمْلأَ لِلعين

وللقلْبِ مِن ثِمَار الصّدور

وَرَأَيْنَا أَقاحِيَ الروض أَشْفَى

لِصَدَى الروح مِن أَقَاحي الثغور

إِنّ فيِ الشّيب واعظاً لِلّذِي رَا

نَ عَلَى قلبه ضَبَابُ الشُّرور

غَرَّنا الفاحِمُ البَهيمُ فَنمْنَا

وصحوْنا عَلَىَ ضياء القَتيِر

بلِّغوا عَنِّيَ الغوانيَ: أَنيّ

لستُ زِيراً لَهُنَّ أَوْ خِدْنَ زِير

لَا سُعَادٌ أغدُو لها غُرّةَ الشهر

وَلَا هِنْد في سِرَار البدور

رَقأتْ عبْرتي، وعادْ رُقَادِي

وَخبَتْ لوْعَتِي، وَقَرَّ زَفِيِرِي

علي الجندي

ص: 39

‌البريد الأدبي

الأهل والجيل

كنت قلت وأنا أعرض كتاب (المنتخبات) لسعادة الأستاذ الكبير لطفي باشا السيد إن الأستاذ إسماعيل مظهر وضع كلمة (أهل) في مكان كلمة (جيل)، وهي خفية المراد، ثم قلت:(وللعبارة وجه، ولكنه لا يخرجه عن الإغراب في غير موجب للإغراب)

والآن ظهر أن ما فاتني كان فات صاحب (لسان العرب) وصاحب (القاموس المحيط) فهو إذاً إغراب في إغراب

كلمة أهل بمعنى وردت في شعر النابغة الجعدي ثم هُجِرت فماتت منذ قرون حتى فاتت صاحب اللسان وصاحب القاموس، فأين نضع الأستاذ إسماعيل مظهر هذه المرة فقط إن لم نضعه بين المغربين؟

والجيل هو الصنف من الناس، هذا حق بشهادة المعاجم، وهو كذلك دائماً في كتابات ابن خلدون، كما نص بعض المستشرقين، وهو أستاذنا ديمومبين، حين كان يحاضرنا عنه في السوربون

ولكني أنظر فأرى الجيل بمعنى الطبقة المتعاصرة من الناس قد شاع في تعابير المصريين منذ أزمان حتى قيل في الأمثال: (من عاش في غير جيله عاش غريباً)، وحتى صح للأستاذ البشبيشي أن يصف الخلاف بينه وبين ابنه حسين بأنه خلاف بين (جيل وجيل) وحتى جاء لشوقي أن يصف سلامة حجازي بأنه (كان دنيا وكان فرحة جيل)

الجيل في تعابير أهل مصر هو الطبقة من أعمار الناس، وليس الأمة من الناس، فهل نشأ ذلك الفهم من العَدَم، وللمصريين عرق أصيل في اللغة العربية؟

المنطق يوجب أن يكون تصور المصريين لمعنى الجيل قام على أساس، وهذا ما يجب النص عليه في المعجم الوسيط الذي يضعه المجمع اللغوي، قبل النص على المفهوم البائد لكلمة أهل، لأن العجم المنتظر سيكون معجما حيَّا، لا معجما تاريخيَّا، أعني أنه سينص على مدلول الكلمة في استعمالها الحيّ، قبل أن ينص على مدلولهما المطمور في مهاوي التاريخ

وخلاصة القول أن كلمة جيل أدل على ما نريد من كلمة أهل، وليس من المنفعة ولا من

ص: 40

الفصاحة أن تقهر اللغة على تحمّل ما لا تطيق، فاللغة أداء وبيان (من أقرب طرق الكلام) كما قال عبد الحميد، وليس من الإفصاح أن تعبر بكلمة لم تجدها إلا في حوار النابغة الجعدي مع عمر بن الخطاب

وأنا بعد ذلك أذكر أني قرأت في مواطن كثيرة كلمة تنص على (تعاقب الأجيال) وهي تؤيد ما أقول، فإن لم يقتنع الأستاذ مظهر بهذه البينات، فسألقاه بشواهد جديدة ينحسم بها الجدل حول كلمة جيل

وكنت اعترضت على قول الأستاذ مظهر إنه عُنيَ بأن يخرج كتاب لطفي باشا مبرأً من الأوهام فقلت: إنه تعبير مريب، ثم لقيني أحد المتخرجين في كلية الآداب، فحدثني أن الأستاذ لم يُرد من (الأوهام) غير الأغلاط المطبعية، وأنه أظهر عجبه من أن يجهل زكي مبارك أن الأوهام هي الأغلاط!

أنا لا أجهل أن الأوهام هي الأغلاط، ولكني أُصر على القول بأن بين الكلمتين فرقاً دقيقاً، وهو مع دقته صار من البديهيات - وإن كان الغلط والوهم قريبين جدّاً في المدلول، إذا راعينا مصطلحات القدماء - فإذا قال ناشر (المنتخبات): إنه عُنيَ بأن تخرج سليمة من الأغلاط؛ فهمنا أنه يريد الأغلاط المطبعية أما إذا قال إنه عُنيَ بأن تخرج (مبرَّأة) من (الأوهام) فلن نفهم إلا أنه جردها من أخطاء الفكر والإدراك، وهو المسئول عن هذا التعبير المريب

أما قول الأستاذ مظهر بأن لطفي باشا أجل من أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الجيل، فقد قوبل بالدهشة والاستغرب، لأن لطفي باشا نفسه وضع مقدمة لكتاب أرسطاطاليس في الأخلاق، ولم يقل أحد بأن ذلك غض من منزلة أرسطاطاليس. . . والوثنية في نظر الفكر لا تقل بشاعة عن الوثنية في نظر الدين. . . وإلى الأستاذ تحيتي وثنائي

زكي مبارك

تصحيح خطأ مطبعي في القاموس وشرحه

لدى مراجعة (يَفتنُّون) في كتب اللغة ظهر لي غلطة مطبعية في القاموس وشرحه تاج العروس أحببت التنبيه عليها ليصلحها في الكتابين من ظهر له غلطها مثلي فأقول:

ص: 41

قال في القاموس في نسخة خطية منه في مادة (ف ن ن)(أَفننَ: أخذ في فنون من القول) وشكلت أفنن بوزن أفعل، وفي طبعات متعددة منه قديمة وحديثة:(أفننَّ: أخذ في فنون من القول) بنونين الأولى مفتوحة، والثانية مشددة

وفي تاج العروس: (أفنن الرجل: أخذ في فنون من القول ويقال أفنن في حديثه وفي خطبته إذا جاء بالأفانين، وأفنن في خصومته إذا توسع وتصرف) مورداً جميع الألفاظ بالنون

فأما شكل النسخة الخطية (أفننَ) بوزن أفعل فظاهر الغلط لأنه لا يقال: (أفنن) بفك الإدغام، لأن هذا من باب الإدغام الواجب، وكان الصواب - لو صح ورود هذا الوزن - أن يقال (أفنّ)

وأما (أفْنَنَّ) بالنونات الثلاثة فلا توجد في كتب اللغة، والموجود فيها (افْتَنَّ) بالتاء والنون المشددة بوزن افْتَعلَ

ففي صحاح الجوهري ولسان العرب: أفتَنَّ الرجل في حديثه وفي خطبته إذا جاء بالأفانين، وهو مثل اشْتَقَّ. قال أبو ذؤيب: فافتَنَّ بعد تمام الورد ناجِيَة=مثل الهِراوَة ثِنياً بِكرُها أَبدُ

وذكر في اللسان تفسير هذا البيت، ثم قال بعده: افتَنّ أخذ في فنون من القول إلى أن قال: والأفانين الأساليب، وهي أجناس الكلام وطرقه

وفي أساس البلاغة: أخذ في أفانين الكلام، وافتن في الحديث وتفنّن فيه

وفي مختار الصحاح: الأفانين الأساليب، وهي أجناس الكلام وطرقه، ثم قال: وافتَنَّ الرجل في حديثه وفي خطبته بوزن اشتقَّ جاء بالأفانين

ولا ذكر لهذه الكلمة في جمهرة ابن دريد، وفائق الزمخشري، ومغرب المطرزي، ولا في نهاية ابن الأثير، والمصباح المنير، ولم يذكرها المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه تصحيح القاموس المحيط، ولا الشدقاق في كتابه الجاسوس على القاموس

(دمشق)

محمد الكامل القصار

تأنيث الشمس وتذكير القمر

هذه الفكرة على قدمها حديثة عند الشرقيين، فقد كانوا قديماً يذكرون الشمس ويؤنثون القمر،

ص: 42

فقد كان الساميون في سوريا والعراق يعبدون الإله بعل إله الشمس ورب السماء، كما كان الإغريق يعبدون الإله فيباس أبولو إله الشمس، وكان المصريون في أون أو عين شمس أو هليوبولس يعبدون الإله رع إله الشمس، وكلمة هليوبوليس كلمة إغريقية معناها مدينة هليوس، وهي كلمة من مترادفات أسماء إله الشمس، وقد جاء في كتب التاريخ أن عبادة إله الشمس رع جاءت إلى مصر السفلى من آسيا، أما المصريون في مصر العليا، فكانوا يعبدون آمون ثم حاولوا توحيد الإلهين عندما اتحدت مصر العليا ومصر السفلى، وكل هذا يدل على أن الشرقيين كالإغريق كانوا يذكرون الشمس، وكان القدماء يجعلون الأرض زوجة للشمس ويعبدونها بأسماء 87

مختلفة مثل جيا أو بوناديا عند الإغريق والرومان كما كانوا يعبدونها أيضاً باسم ما أو مايا أو ماما، وأحياناً يعدون الأرض أم الآلهة، وكلمة أم في العربية مقاربة لكلمة ما التي كانت تطلق على ربة الأرض كما أن ربة القمر عند الإغريق كانت تسمى ديانا وهي مقاربة لكلمة الديّانة العربية مؤنثة الدّيّان أي المعبودة والمعبود، وكان الساميون في غرب آسيا يعبدون الإلهة أشتورث أو أرستارت ويسمونها الديانة، وينسبون إليها الصفات التي كان الإغريق ينسبونها لإلهة القمر ديانا، واتصال الإغريق بمدن سواحل آسيا الصغرى والشام أدى إلى تأثرهم بالثقافة الدينية الشرقية، كما أن الرومان في غربهم تأثروا بثقافة الإغريق الدينية حتى إنهم كانوا يوفقون بين كل إله من آلهتهم وكل إله من آلهة الإغريق، ثم جاءت أمم غرب أوربا وتأثرت بالثقافة الإغريقية الرومانية. ولا يزال الشعراء في غرب أوربا يطلقون على الشمس اسم إله الشمس عند الإغريق وهو فيباس أبولو كما أنهم يطلقون على القمر اسم ربة القمر ديانا. ويستنتج من كل ذلك أن الشمس كانت قديماً مذكرة عند الشرقيين والقمر مؤنثاً، وليس من البعيد أن يكون الأوربيون قد أخذوا هذه الفكرة عن الشرقيين.

عبد الله شاكر

الفياس

قرأت مقالكم المعجب (الأخلاق وهذه الحرب) في عدد الرسالة 388 فوقع من نفسي موقع

ص: 43

غيره من مقالاتكم الافتتاحية الممتعة. وأود - لو يسمح لي الأستاذ - أن أبدي الملحوظة التالية:

لقد ورد في المقال المذكور العبارة التالية: (فإن نزوَّ النازية وفياش الفاشية لا يمكن أن يؤديا إلى عدل شامل وسلام دائم) وجاء في أسفل الصفحة: (الفياش: كثرة الوعيد في القتال من غير فعل). والفياش في اللغة، على ما أذكر، هو المفاخرة فقد ورد في قصيدة لأبي الطيب المتنبي في مدحه لأبي العشائر العدوى عند إيقاعه بأصحاب باقيس ومسيره في دمشق البيت التالي:

تزيل مخافة المصبور عنه

وتلهي ذا الفياش عن الفياش

والضمير راجع إلى مواقف الممدوح في الحرب، والمعنى الذي يقصده الشاعر في هذا البيت دقيق معسر، وقد جاء في تفسيره: إذا سمع المصبور بمواقفه المذكورة شجعته وأزللت عنه خوف القتل لما يسمع من ذكر إقدامه واقتحامه للمهالك، وإذا سمع بها المفاخر ألهته عن مفاخرته، لأنه يتواضع لديها فلا يفتخر بنفسه

وأعتقد أن هذا التفسير هو أقرب ما يرمي إليه الشاعر وهو ما يقصده الشارح. وللأستاذ الأكبر تحية المعجب المخلص

(بيرزيت - فلسطين)

سعيد العبسي

تلميذ يجرح أستاذه

ألقى الأستاذ السباعي بيومي بدار العلوم محاضرة عن (أسلوب المبرد في كامله) في مساء الثلاثاء السابع عشر من هذا الشهر

ولقد عقب على هذه المحاضرة أحد المستمعين بملاحظات تخالف ما ذهب إليه الأستاذ السباعي. ويبدو أن المعقب استقى آراءه مما كتب العلامة المرحوم سيد بن علي المرصفي فتملكت الأستاذ المحاضر عاصفة من الغضب الساخط لا على المعقب ولكن على المرصفي؛ فقد وصفه بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد وسطحية البحث والتطاول الذميم؛ ثم تعداه إلى تجريح طوائف العلماء على اختلاف مهنهم، والحكم بأن

ص: 44

طبائع الحسد والحقد والغيرة لا تجد لها مراحاً خصيباً كالذي تجد من قلوب العلماء

ولست أدري ما الدافع إلى كل هذا وكان يكفي الأستاذ أن يدفع الرأي بالرأي في هدوء لا أن يتعرض لمثل ذلك الرجل الجليل بمثل ما تعرض به له، حتى لقد حكم بأن أخلاقه ذهبت بفضله كما تذهب الريح العصوف بسحيق التراب

وإنه ليحزنني جد الحزن أن أرى مثل الأستاذ في علمه وفضله ومكانته يتناول السلف الصالح من الباحثين بمثل هذا الأسلوب العنيف من غير سبب ولا بينة، فإن في هذا نكراناً للجميل وجحوداً للفضل

محمد فهيم عبيد

امرؤ القيس الكلبي

كتب (سائل) فاضل في العدد 389 من الرسالة الغراء يسألني من هو امرؤ القيس الذي جاء في مقدمة كتابي (أغاريد زفاف) أنه أبو الرباب زوجة الحسين عليه السلام، فأجيب بأنه (امرؤ القيس بن عدي الكلبي، كان نصرانياً وأسلم على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فولاه عمر على من أسلم بالشام من قضاعة، وخطب إليه عليّ عليه السلام ابنته الرباب على ابنه الحسين فزوجه إياها فولدت له عبد الله وسكينة عليهما السلام

هذا، وكان يُسمى امرأ القيس صحابيون وشعراء غير الملك الشاعر الجاهلي صاحب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)

عبد المجيد مصطفى خليل

ص: 45