المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 392 - بتاريخ: 06 - 01 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٣٩٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 392

- بتاريخ: 06 - 01 - 1941

ص: -1

‌الرسالة في عامها التاسع

تدخل (الرسالة) في عامها التاسع والموكب البشري لا يزال منقطع السبيل، ترجف جموعه الجرارة على هوة من هُوى العدم لا يدرك نهايتها الطرف، ولا ينير غَيابتها الأمل، ولا يهتف في جنباتها الموحشة إلا زبانية الردى وأبالسة الشعر! وكان الظن بالعقل الذي عَّبد الجبال وذلل الرياح وسخر الأبحر أن يمهد للناس طريق الحياة فلا يضلوا هذا الضلال، ولا يهلكوا هذا الهُلك؛ ولكن الله الذي خلق العقل كان يعلم انه مهما تقدم وتعلم لابد مفتقر الى وحيه وهديه. وماذا يصنع العقل المحدود المدى والطاقة إذا شغبت به الأهواء وتمردت عليه الغرائز؟

لم يدخل العالم مع الزمن في مرحلة جديدة من عمره الطويل، ولكنما

سار الزمان ووقف الإنسان؛ وقف أمام عقبة كأداء من الكفر بالدين كله

وبالحق كله، تقاطرت على صخورها الصم دماؤه، وتناثرت على

ثناياها الحداد أشلاؤه، والفلك السائر يرقب على مدار العام بني آدم وقد

هاج بهم الضلال فتراشقوا بما في أيديهم وخزائنهم من طيبات الرزق

وثمرات الحضارة وبُلَغ الحياة؛ ولا يعلم غير الله متى تجتاز الهوة

الغامضة وتُذلل العقبة الكؤود، فإن منطق الناس لا تغنى أقيسته مادامت

الأمور تجري على الهوى، وتقوم على الباطل، وتعتمد على القوة!

أجل تدخل (الرسالة) في عامها الصحفي التاسع، ولكنها في عمرها الطبيعي ظلت كما ظل العالم كله واقفة على حدود العام الماضي لاتجد قسطها من النمو والبدانة، لأن الحرب التي ضربت بكل شر وأضرت بكل شيء، كانت أقسى ما تكون على الصحافة: قطعت عنها الوارد من الورق حتى بلغ ثمنه أثنى عشر ضعفاً، فنقصت في الكيف والكم، بقدر ما زادت في النفقة والهم؛ وقطعت عليها السبيل إلى الأقطار الأخرى بصعوبة النقل وشدة المراقبة وعسر المعاملة، فتعذر وصولها إلى البلاد المحاربة، وقل انتشارها في الأقطار البعيدة؛ وشُغل الناس بأخبار الحرب وأفكارها وأوزارها وأطوارها عن النظر في الأدب اللباب والفن الخالص، فلم يقرءوا إلا ما يتصل من قريب أو بعيد بهذه القيامة القائمة. ولم يكن

ص: 1

للرسالة مناص من أن تتأثر بما تأثرت به الصحف الكبرى في الأمم العظمى، فنقصت حجمها بعض النقص، واقتصدت في زينتها بعض الاقتصاد؛ ولكنها واءمت بين الأدب والواقع فجعلت من الأقلام المرهفة أسلحة مشروعة في هذه الحرب، تهاجم الطغيان، وتدافع الخور، وتؤيد الحق، وترسم الطريق، وتهتف بالبطولة، وتذود عن الخلق، وتمِّهد للسلام، وتبحث في المستقبل؛ حتى تهيأ لمجموعتها الثامنة من أدب الحرب في أبواب المقالة والشعر والقصص ما لم يتهيأ مثله للأدب العربي كله في سابق عصوره

على أننا والحمد لله لا نخشى على (الرسالة) شر الحرب، فإن هذه الحرب الغشوم أبطلت كل قوة وعطلت كل عدة ما عدا قوة الإيمان وعدة الصبر. وفي إنجلترا الصابرة واليونان المؤمنة المثل والقدوة. ومادامت (الرسالة) مؤمنة بآرائها، مطمئنة إلى قرائها، فستلوذ بالصبر حتى تنسلى هذه الهموم وتنجل تلك الكرب. والشجرة كلما مكن الزمن لأصولها في بطن الأرض ضمنت لنفسها الغذاء والري، فهي في الظاهر تخضع لقوانين الطبيعة: تزوى في الصيف، وتعرى في الخريف، وتقشعر في الشتاء، ثم تورق في الربيع؛ ولكنها في الباطن تزخر بالحياة المكنونة في غصونها القائمة وجذورها النائمة

لقد كانت لنا في مفتتح كل عام من أعوام الرسالة شكوى من ركود الأدب وكساد الصحافة وسطوة الأمية؛ ولكن هذه الشكوى أصبحت اليوم في جانب ما يشكو منه الناس ضرباً من الدلال والعبث. ليس في العالم شعب ولا مذهب ولا خُلق ولانظام ولاعمل إلا وهو الآن في موضع الشكوى من انقلاب الوضع فيه واستشراء الفساد به. وماشبوب هذه الحرب إلا نُفْضِة هذه الحمى الاجتماعية التي غيرت معاني الخير في فهم الإنسان وذوقه وعقله وضميره؛ فهو يلتمس السلامة والسلم من وراء هذه الحرب في دين يكمل نقصه في الإدراك، وبقيد طموحه للشهوة، وينظم علائقه بالجماعة، وينطوي على قوة ذاتية تضمن له البقاء والنماء والتجدد، فلا يهن على الأحداث ولا يبلى على الزمن. والرسالة تعرف هذا الدين بالعقل وتدعو إليه بالحكمة؛ نهى في جهادها الأدبي على ضوء هذه العقيدة منار للطريق القاصد ومنهج للإصلاح الحكيم إنا نعتقد مخلصين أن العروبة إذا اتحدت كانت بقوميتها أساساً لنهضة الشرق، وأن الشرق إذا نهض كان بطبيعته أضمن للسلام من الغرب، وأن الإسلام إذا تجدد كان بسياسته أصلح لإقرار العدل من كل نظام، وأن الأزهر

ص: 2

إذا أُصِلحَ كان بثقافته أهدى إلى تربيتنا من أية جامعة

تلك عقيدتنا جعلناها دعوة الرسالة من يوم أصدرنا الرسالة. والحمد لله قد أبلغناها على الحق وأمضيناها على الصدق فلم نزَّين المحال ولم نموه الباطل. وسيرى قراء الرسالة أنها، من غير أن تقطع وعداً أو تجدد عهداً، تسير في سبيلها الواضحة بقدم ثابتة وخطى متزنة، فلا تعسف لتضل ولا تسرع لتكلَّ ولا تجازف لتنقطع. وإذا كان للرسالة ما تشكره وتُزهى به فتلك معونة الله التي وقَتها تمليق الشهوات الحاكمة، وتحقيق الرغبات المريبة. ولَيزيدَنَّ الله من يشكره، ولينصرنَّ الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌هو عيد الميلاد ولكن أي ميلاد؟!

للدكتور زكي مبارك

كان من حظ المسيحية أن يُبعد مكانها في التاريخ، لتكثر فرص الشعر والخيال حول ميلاد المسيح، عليه السلام، حتى جاز لفريق من المؤرخين أن يرتابوا في شخصية المسيح، كما ارتابو في شخصية سقراط (؟!)

والارتياب في وجود تلك الشخصية النبوية لا يضر ذلك النبي في كثير أو قليل، ولكنه يؤدي إلى غاية لم يفطن لها أولئك المرتابون، وتلك الغاية هي التحقق من ظمأ الإنسانية إلى نور يُطلّ من علياء السماء. نور جميل جذاب يبدد ما في الضمائر من ظلمات الجحود

ولنفرض جدلًا أن الرأي ما رأى أولئك المؤرخون، وأن الإنسانية هي التي ابتدعت ذلك الميلاد، فكيف اختارت هذا الوقت من السنة وهو طليعة الشتاء؟ إن الذي اشتغل بالفلاحة يدرك ان الأرض في هذا الوقت تعتلج بقوة وعنف، وتتهيأ لثمرات العام المقبل بلذه وشوق، وهي في (الظاهر) غافية، ولكنها فيالباطن جذوة من اليقظة العارمة والإحساس الفوار في هذا الوقت تنظر الأرض إلى البذور وهي تقول: هل من مزيد؟ في هذا الوقت تستيقظ الأشجار التي جردها الخريف من الأوراق، ولو شرحت تلك الأشجار لظهرت عناصر (البزور) وهي الأثداء التي يرضع من رحيقها الورق الجديد في هذا الوقت تلقى بذرة فتنجح وتلقى بذرة فتخيب، لأن الأرض في هذا الوقت تحيا حياة عصبية، والحياة العصبية لاتعرف التدليل، فهي لاتقبل من البذور إلا ما يقوي على دفع عوادي البرد والجليد، ولن يكون الأمر كذلك بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ الميلاد، فحينئذ ترق الأرض وتلطف فتحضن البذور الضعيفة بترفق واستبقاء فهل فهمنا الآن كيف اختارت الإنسانية هذا الوقت لتاريخ الميلاد، على فرض أنه تاريخ مصنوع، وعلى فرض أن البحث من حيث هو بحث يسمح بالنظر في الفروض، بدون اعتداء على مقام المسيح، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات؟! أما بعد فقد كان لي مع هذا التاريخ تواريخ كنت أحمل باقات الأزهار وطرائف الهدايا إلى مآلف القلوب والأرواح يوم كان لي قلب وروح، قبل أن تدور الدنيا من حولي بإفكها المرجف وبغيها الأثيم، وقبل أن أعرف أن شجرة الحب كشجرة الميلاد فيها أوراق صناعية لا تحس ما يحيط بها من أضواء وألوان، ولا تقدر على نقل

ص: 4

القلب من مكان إلى مكان وما أقسى الصحوة من غفوة العقل! وماأشقى العقلاء! لو كانت أرادت ما أريد فأطالت في غوايتي لعرفتها أكثر مما عرفت، لأن المحب المفتون يتغلغل إلى السرائر، وإن اتهم بالغفلة والجمق، ولأن العاشق الجاهل قد يرى المحاسن قبل أن يرى العيوب، والتثقيف الصحيح هو الذي يروضك على النظر في المحاسن قبل النظر في العيوب، ولو قويت جوارحنا حق القوة لأنسنا بجميع الوجوه وجميع الأشياء، ولكننا مع الأسف نتلقى دروس الحياة عن المعلولين والضعفاء، والتلميذ صورة الأستاذ في أكثر الأحايين كانت لي غاية من الهتاف بالحب، والهيام بالجمال، فما هي تلك الغاية؟ كنت أرجو الطب للنفوس العليلة التي لا تستريح إلا إلى شكوى الزمان كنت أسمو إلى خلق البشاشة والأريحية في صدور هذا الجيل كنت أحارب النزعة الأثيمة التي تقتل الأرواح والقلوب باسم الوقار والعقل هل سمعتم بقصة الشيخ خليل؟ هو رجل من علماء المالكية كان يفتخر بأنه لم يخرج من الأزهر مرة واحدة ليرى النيل، ولهذا الشيخ أحفاد وأسباط في العقلية، وأولئك الأحفاد والأسباط هم السوس الذي ينهش عظام الأخلاق - إن صحت هذه العبارة المجازية - فأخطر الآفات أن تصدر النصيحة عن رجل خمد فعقل، لأن الناس يسمونه بالعقل ولا يسمونه بالخمود، وكذلك يتلقون عنه درس الموت وهم يتوهمون أنه يدعوهم إلى مزاحمة الأحياء إلى متى الصبر على هذا الفهم السقيم لمعنى الأخلاق؟ ومتى ندرك أن الخلق من صور الحركة، وليس من صور الركود؟ الخلق جارحة من الجوارح، وما سميت الجوارح جوارح إلا لقدرتها على السيطرة والامتلاك، فالعين التي لا تجرح ليست عينا طبيعية، وإنما هي عين صناعية، إلى آخر القول في وظائف الأعضاء، أو منافع الأعضاء، كما كان يعبر الأقدمون ولكن من الذي يسمح بعد هذا الكلام دعوة إلى الخلق الصحيح؟ وكيف يعيش المتوقرون والمتزمتون إذا استمع الناس لمن يقول بأن الابتسام للحياة من شواهدالعافية الأخلاقية؟ إن الشرق مبتلى بالانحراف في فهم الأخلاق، فهي عنده سلب لا إيجاب، وهو يفكر فيما يترك قبل أن يفكر فيما يصنع، والنواهي والزواجر هي عنده الهدف الأول حين يتسامى إلى الاتسام بكرائم الحلال فما أصل هذا الإنحراف في فهم الأخلاق؟ لعل هذا الإنحراف يرجع إلى المعلمين، وكان التعليم مهنة مقصورة على الرهبان وأمثال الرهبان. فالخلق في أذهانهم هو انحسار واحتجاز وانقباض،

ص: 5

ومن هنا يؤخذ المعلم بقيود لا يؤخذ بها غيره من طبقات المجتمع، لأن الرهبانية مفروضة عليه وأن لم يخطر في باله أنه مشدود إلى حظيرة الرهبانية. هو يحمل أعباء ميراث ثقيل من التبعات والتكاليف، ميراث يرجع إلى العهد السحيق يوم كان الناس يتوهمون أن كلمة الخير لاتجيء إلا من مصدر مجهول، ويوم كانسدنة الهياكل ينتفعون بهذه الغفلة العقلية فيتحدثون من وراء حجاب باسم السماء، وما تكلمت السماء، وإنما تكلم ناس مبرقعون خلقوا من الوحل لا من الطين! وبفضل تلك العقلية أنكر قوم أن تكون النبوة من حظ رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهي عقلية باقية إلى اليوم، وإن زعمناس أنهم سلموا من دائها الوبيل لقد كثر المؤلفون في الأخلاق، فماذا صنعوا؟ هل غيروا ما بنفس الأمة من الفهم المنحرف لمعنى الحياة؟ هل راضوها على التخلق بأخلاق العصر، ولكل عصر أخلاق؟ هل استجابوا لدعوة العزةالروحية والعقلية فخلقوا الشوق إلى مسايرة ما في الآفاق العالمية من الصيال بين الأرواح، والصراع بين العقول؟ علم الأخلاق يدرس منذ أعوام طوال في معاهدنا العالية، فأين محصول تلك الدروس؟ كل ما وقع هو التلخيص لمشكلات أحسها بعض الأخلاقيين في الغرب، والأخلاق إحساس لا تلخيص، وفي الشرق مشكلات غير تلك المشكلات، لأن له أمراضا غير تلك الأمراض؛ ومن أمراض الشرق أن تجوز فيه الأستاذية الأخلاقية لناس لم يتمرسوا بمعضلات الوجود تلك خواطر ساقها ما وقعت فيه ليلة عيد الميلاد، فقد أخلفت موعدا لايخلفه الرجل إلا وهو مكروب، وهو موعد يذكر بإخوة له من قبل، يوم كنت مشبوب الصبوة في منادح باريس، عليها أطيب التحية وأجزل الثناء! وبماذا اعتذرت؟ قلت إني أحبر مقالا لإحدى المجلات، وهل يصعب الاختراع على من يعايش أبناء هذا الزمان؟! ومضيت وحدي أجوب الظلمات بعد إخلاف ذلك الميعاد، فراعني أن أجد في قلبي فراغا عميقا مخيفا يذكر بالفراغ المنصوص عليه في بعض الأحاديث، ففي الآثار أن الجاني قد يهوي في قاع جهنم سبعين خريفا، وكان قلبي كذلك، فلو هويت في أعماقه سبعين سنة لما وصلت إلى قرار مكين. وكيف وقد أعفيته من ثورة الوجد في ليلة عيد الميلاد، فلم يمس إلا وهو فضاء في فضاء، وتلك حال القلبالخالي من الأهل، والوجد أهل، ولكن أكثر الناس لايفقهون! ورجعت إلى داري بعد لحظات، وكان في نيتي أن أطوف بأرجاء القاهرة إلى نصف الليل، رجعت سليم القلب من الأسواء ولا يسلم

ص: 6

القلب من الأسواء إلا وهو عليل، فالقلب كالطفل، لا يقبل على اللعب إلا في أوقات العافية، وإن جهل ذلك علماء الأخلاق وأردت أن أطب لقلبي فذكرته بما مر في العام الماضي من مكاره وعقابيل، ودعوته إلى النظر في قصة الصديق الذي كنت أشرب على ذكراه أكواب الدمع، وهو اليوم لا يذكرني حين يعاقر أكواب الصفاء. وذكرت قلبي بإحساني إليه حين جعلت له ماضيا في الصداقة والحب، فذلك الماضي وهو الأحجار التي بنينا بها وجودنا الصحيح، وجود القلب الخافق والروح العطوف، وهو الشاهد على أن حياتنا لم تخل من نوازع وأهواء، وأن لنا تاريخا في معاقرة الحقائق ومقارعة الأباطيل فهل وقع هذا المنطق من قلبي موقع القبول؟ إنه لم ينكر أنس الرجل بماضيه في الصداقة والحب، وإن زلزلت الأرض زلزالها فغيرت جميع المعالم من ذلك التاريخ ولكنه أنكر الاكتفاء بثروة الماضي، وإن امتلأبنمير الذكريات العذاب، فما كانت الذكريات إلا ومضة البرق لعين الساري الحيران، وهي ومضة تزيغ عينيه ولا تهديه، وهي ايضا تزيد حقده على ظلم الوجود وعمدت إلى القلم أثير به معركة أدبية، فقد كنت أعرف أن قلبي يكتحل بغبار المعارك التي يثيرها قلمي، فما نفع ذلك بشيء، وصاح القلب: هذه ليلة الميلاد، فأين الميلاد؛ أين الميلاد؟ وكيف؟ هل يجب أن أولد في هذه الليلة كما ولد المسيح؟ وهل أولد في كل سنة مرة، وما ولد المسيح إلا مرة؟! فأجاب القلب في حزم عنيف: يجب أن تولد من جديد في كل لحظة، لأن المقام على حال واحد يفسد مياه الأنهار، فكيف تراه يصنع بأفكار الرجال! _ولكن ليلة الميلاد قد ضاعت علي وعليك، ياقلبي! _إن ضاعت ليلة الميلاد فقد بقي يوم الميلاد وفي الصباح هتف الهاتف_وهو التليفون كما كان يسميه أهل لبنان_والهاتف روح لطيفة كانت بيني وبينها أشياء، وقد قدمت من بلد بعيد لتراني يوم الميلاد، فهتفت: ياقلبي يومي ويومك عيد!! وخرجنا معا، أنا وقلب، لاستقبال تلك الروح، وقد ولد الهوى من جديد، الهوى الذي ظلمناه باسم الوقار والعقل، وطال الحديث وطاب حول ما كنا عليه، وما صرنا إليه، ومن شرب من عيون تلك الظبية ما شربت لا يقول إنه رآها في يوم الميلاد، وإنما يقول إنه رآها في أبد الخلود! وعادت تلك الظبية إلى ضلالها القديم فأمرتني أن أكتب ما يجيش في صدري وأنا في حضرتها السامية، وهو امتحان أؤديه كلما التقينا، وحياتي كلها امتحانات! فامتشقت القلم وكتبت: باسم الله الذي أقسم بالقلم وما

ص: 7

يسطرون أسجل هذه الكلمات: عنيت الحكومة المصرية كما عنيت سائر الحكومات بتدبير معاشات الموظفين، بحيث يجد الموظف ما يقتات به بعد بلوغ الستين، ولكن الحكومة نسيت أو تناست أن في الأمة رجالا لهم خدمات صوادق وليسواموظفين فليس لهم معاش، وهم الرجال الذين انقطعوا للصحافة والتأليف؛ فالأستاذ فلان خدم الصحافة نحو عشرين سنة ثم هده التعب، فهو اليوم يعاني البطالة والمرض بلا عائل ولا معين. والأستاذ فلان أخرج طائفة من المؤلفات الجياد، وكان يعيش عيش الفقراء من تلك المؤلفات، وهو اليوم لا يقدر على التأليف، فهو في فقر مدقع ولا يسأل عنه أحد من أصحابه القدماء. وفلان كانت له سابقة في الابتكارات الأدبية، وهو اليوم معوز لا يجد القوت الطفيف. وفلان قضى شبابه وكهولته في التدريس بالمدارس الحرة ثم قصمه المرض فخرج بلا معاش وله أطفال يصرخون من الجوع في كل صباح وفي كل مساء وعند هذه الكلمة شرقت بدموعي، وكاد صوتي يرتفع بالنحيب، فصاحت الظبية:_تبكي وأنا معك؟ هل تقص ما كان بيني وبينك؟ ويلي عليك وويلي منك!! _نعم، يا شقية، هي قصة حبي، فدعيني أدون كل شيء! ثم مضيت فكتبت والدولة التي تنفق ما تنفق على مختلف الشؤون لا تذكر أن في مصر كتابا وشعراء وباحثين أعجزهم المرض عن السعي في سبيل القوت، ولهؤلاء آثار ظاهرة أو خفية في نهضة الأمة وقد يكون لهم تلاميذ_ولو بالفكر_من بين كبار الوزراء فما الذي يمنع من أن تفكرالدولة في حماية هؤلاء من قسوة الاحتياج ثم سكت، فقالت الروح: هل وصلت في مكايدتي إلى ما تريد؟ فقلت: ستعلمين بعد لحظات! ثم كتبت: قد يقال إن الدولة لا تستطيع معاونة أهل الأدب بصفة رسمية، لأن الأدب ليس له رسوم ولا حدود، وهو مباح الحرمات يدعيه من يشاء! وأجيب بأن الدولة تستطيع أن تجعل الفصل في هذه القضية من اختصاص مدير الجامعة أو وزير المعارف ومن المفهوم أن هاتين الجهتين لهما دراية صحيحة بأقدار الأدباء والباحثين، وأنا أرضى بأن ترصد الدولة مئتي جنيه فقط في كل شهر لعشرين رجلا من هؤلاء، فإن استجابت الدولة لدعائي فقد ترفع عن كاهلي عبئا ثقيلا جدا، هو عبء التفكير في أديب كانت له جولات موفقة في ميدان البيان، وإن كان من ألد خصومي وغلبني الحزن فبكيت، فقالت الروح: يظهر أنني دللتك أكثر مما يجب، فعدت أسرع من الأطفال إلى البكاء! فاستمهلتها لحظة وكتبت: والدولة مع ذلك. . . ثم

ص: 8

فكرت قليلا وكتبت. والدولة التي تترك بعض الأدباء يموتون من الجوع هي الدولة التي تمن علينا بأنها أنشأت وزارة للشؤون الاجتماعية! ثم؟؟ ثم أحسست يدا تصدني عما أكتب بقسوة وعنف، فعرفت، أني في حضرة تلك الروح، وأن المقام لا يسمح بمثل هذا الكلام الحزين_ماذا قلت في؟ _قلت إنك غبية وحمقاء! _أنت وحدك الغبي، وأنت وحدك الأحمق! _هذه كلمة حق، لأني قضيت عشرين سنة في خدمة أمة لا تعرف أن القلم له حقوقه_وما شأن القلم فيما بيني وبينك؟ _القلم هو الذي يجرني أحيانا إلى نحاورة الحمقى لأدرس الغرائز والطباع ليكن ما تريد، أيتها الروح، فإشارتك أمريطاع أما بعد، وسيطول شقائي بأما بعد! أما بعد فقد حدثني الشاعر حافظ ابراهيم مرات كثيرة أنه كان يتمنى الاتصال بقصر جلالة الملك ليكون سفيرا بين القصر الرفيع والأدب الرفيع وقد مات حافظ قبل أن يظفر بتحقيق تلك الغاية، ولم نسمع أن رجلا فكر فيما فكر فيه حافظ، ولم يصل إلينا من قرب أو من بعد أن ناسا يسرهم أن يكون للأدب حظ من الرعاية والتشريف بقصر الملك، مع أننا في عصر فاروق بن فؤاد بن اسماعيل لقد شقى قلمي في الدعوة إلى أن يكون للأدباء مكان في الحياة الرسمية، لأنهم عنوان الحياة وزينة الوجود، ولأن آثارهم هي الباقيات لصالحات فوق جبين التاريخ. ثم انتهى الحلم، حلم اليقظة في يوم الميلاد، ورجعت تلك الروح إلى بلدها البعيد، وبقيت حيث كنت أعاني بلاء الهجر وعناء الصدور أيها البلد الذي لا أسميه تخوفا من الرقباء! فيك أيها البلد الجميل روح لطيفة يصلني برها من وقت إلى وقت، فيك روح لا تحتفل بعيد الهجرة ولا عيد الميلاد، ولكنها تذكرني في عيد الهجرة وعيد الميلاد، لأنها تشعر باحتياجي إلى البر في مواسم الأرواح والقلوب أيتها الروح، أنا مشتاق إلى مصدر الوحي، فمتى تعودين؟ أنا في دنياي غريب، أيتها الروح، وأنت البلسم الشافي لوحشة الغريب هو عيد الميلاد، ولكن أي ميلاد؟ هو ميلاد الحب الصادق، فتلك أول مرة مسحت فيها دموعي بأناملك اللطاف، يا حجتي الباقية على أن الهوى إله معبود

زكي مبارك

2 -

أومن بالانسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

ص: 9

الطبيعة تنتظر - عالم جديد من الفكر والحديد_حيوانات ووحوش حديثة_قدرة الفكر_الثقة بالانسان_كنوز مدخرة_حياة مريضة كل شيء في الطبيعة يبدو عليه أنه ينتظر غاية الحياة الإنسانية. . . ويبدوعلى الإنسان كذلك أنه ينتظر غاية مجهولة في حياته على الارض. . . كل شيء ينتظر بلوغ الإنسان إلى غايته، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز. . . وكل شيء في البيت مسخر للطفل: يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم، وتعرض أمامه دواب البيت وحيوانه ودواجنه ولعبه وهكذا الطبيعة أراها تنتظر صابرة غير متململة أن يسير هذا الطفل الإلهي ويهتدي إلى الطريق المقصودة المرصودة. . . وهو لا يزال يتعثر ويذهب ذات اليمين وذات الشمال ويرتد وينتكس ويعترك ويحترب ويخلد إلى تراب الطريق يعبثفيه في ذهول وغفلة، لا يعرف كيف يمد بصره إلى حدود الأفق البعيد الذي يناديه: أنظر إلي دائما، واضرب بيديك ورجليك في العقبات والسدود حتى تصل وكان لعبثه عذر فيما مضى أيام كان يدور على نفسه وسط المبهمات والألغاز، وأيام كانت طريق حياته بهماء معتمة تلفها جهالات وتحيط بها أهوال. . . كل ما فيها غامض مغلق، سواء أكان جامدا أم صائتا أم ناطقا أم ساكتا. . . فهو لا يرحم سئلا ولا يجيبه. . . كهوف وأغوار ورياح مجهولة المهاب، وأمطار غير مدفوعة بتدبير، وصرخات وحش وطير وبهائم، ونجوم تطلع وتغور، وشمس تشرق وتغرب، وجبال واقفة لا تريم ولا تزول، ومالا عدد له من الأهوال والأحوال. ولكنه الآن راكب الريح والماء والأثير وطاوي الأرض في خطفات، ورائد السماء بالمقربات، وكاشف الجن المستور بالمكبرات، وقايس أبعاد النجوم وأضواءها بدقيق المقايسات، وصانع الحيوان والوحوش الحديدية من السيارات والدبابات والمدافع والطائرات والباخرات والغائصات، فلا يليق به أن يصر على العبث والزحام على التراب بعد رأى الكنوز في كل أفق تتفتح لعينيه وكان قدرا مقدورا أن تبقى العناصر والحيوانات خادمة له حتى يبلغ أن يستغنى عنها بما يصنعه تقليدا لها ومحاكاة لنماذجها. . . فحين عجز الحصان وضاقت طاقته عن إشباع شهوة السرعة عنده ركب آلات سرعتها كذا ألف من الأحصنة. . . وحين عجز الزيت والشمع عن إشباع شهوته للضوء صنع مصباح الكهرباء فأضاء له بقوة كذا ألفا من الشموع. . . وحين هدد بفناء أقواته ولباسه ابتدأ يركب أقواته من العناصر التي يتركب منها النبات واللحم. . . وصار يصنع الصوف

ص: 10

والحرير من اللبن والخشب. . . وصار يأخذ الزبد والدهن من ال. . . بعد أن يحلل ويعزل ويطهر بالترشيح والتبخير والتكثيف كما ترفع الشمس والهواء الغازات والأمواه المقطرة من الأبوال والأقذار وتعيدها إلى الأرض صالحة في دوراتها الأبدية. . . وقد رصد لكل قوة في الطبيعة مقياسا يقيس قوتها ويبين اتجاهها حتى يحترس منها ويتقي وينتفع. . . فللأمطار مقياس، وللضغط الجوي مقياس، ولاتجاه الرياح مقياس، وللزمان مقياس، وللمكان مقياس، وللحرارة والرطوبة وغيرهما مقاييس وأظنه بهذا قد وضع عينه وفكره على حركة كل شيء واتجاه كل شيء في المادة. وذلك كله بمثابة خيوط الشبكة الحديدية التي ابتدأ يطرحها على قوى الطبيعة التي تنفعه أو تضره في مرافق حياته. . . وهذه الأرصاد التي أرصدها لابد ستنتج له عالما فكريا جديدا يسلم روحه إلى عالم خلقي جديد وأعتقد أن هذه الحرب ابتداء دورة زمنية بالإنسان وبعوالم فكره وروحه وجسمه. فليرصد الراصدون ذلك في يقظة وانتباه أجل، إنه عالم جديد من الفكر والحديد. . . الفكر المطلق البارد القانص لأسرار المادة والقوة. . . والحديد الطائع البليد القاسيالمتمم لإرادات الرجال. . . الذي وجد فيه القلب الإنساني أعظم معبر عن بأسه وتصميمه في اختراق السدود فصهره وشكله بنار عزمه قبل أن يصهره بنار كيره ويشكله بمطرقته ولقد ضمرت أظفار الإنسان منذ أن اعتمد عليه. وكان كشفه مبدأ انقلاب في حياته، والآن يبتدىء به انقلابا أعظم بعد أن سلط عليه خياله وعلمه وصار يطير به ويزحف ويدفع ويجر وهل تظنون أن هذه الأهوال التي يشهدها الإنسان الآن لا تترك في نفسيته آثارها المحتومة فتخلقه خلقا آخر؟ أتظنون أن قلبه وفكره لا تغيرهما رؤية هذه الطكرق الحديثة في البناء والإفناء والهدم والسرعة والانقضاض والحشد والتعبئة ومعاشرة هذه الوحوش والحيوانات الحديدية؟ إن من شهد تغير العالم بعد الحرب العظمى التي أظهرت قوة الآلة واختفى وراءها الإنسان يوقن أنه ستختفي بعد هذه الحرب أشياء وتظهر أخرى. . . وأخشى ألا يقام للحياة الفردية بعد هذه الحرب وزن بعد أن رأى الفكر أن ملايين من الجماجم والقلوب البشرية تسحق وتحرق بمصهور النار. . . وملايين من المعابد والمعاهد والمنازل المقدسة العامرة بالتحف ومخلفات العلم والفن والجمال تنسف وتذرى في الريح هشيما وهباء ودخانا لقد احترق الإنسان الأوربي مع جميع ما جمعه من الذهب وأقامه من البيوت والمحاريب

ص: 11

والتماثيل. . . ولقد اختفت روح الحياة الرفيقة الوديعة الماثلة في اللحم والدم والأعصاب الإحساس وابتدأ عالم جديد من فكر مجرد غير مصحوب بإحساس وقد لبس الفكر أجساما من المادة العمياء، وكأنه قد انفصل عن الأجسام الإنسانية، واختبأ واستسر في السيارة المصفحة والدبابة والطائرة. وصار يدب ويطير بهذه الأجسام الحديدية كأنه هو والحديد الذي يختفي فيه جسم واحد. فهو للآله كالروح والعقل في الجسم الحي. وقد صنع للآلات أحشاء فيها حرارة ونبض، ولكن ينقصها السر الإلهي فيالأميبة ذات الخلية الواحدة، ويخيل إلى أن الإنسان هو ذلك الإلهي لتلك الحيوانات الحديدية وحين قصرت دواب الأرض التي سخرها في خدمته عن سرعة عقله صار يبحث عن القوى المجردة كالكهرباء ويلبسها أجساما من الجماد، ويسيرها بها بطاقة عظيمة مصحوبة بفكره وتسديده. فترى السيارة الآن تحيد عن العقبات بأسرع مما يحيد الحصان عنها. فهي أطوع للانسان من الحصان، لأنها ترى بعينه وتتحرك بسرعة فكره والفكر المجرد طليق في غير حدود. والوجدان والإحساس مقيدان في حدود الأذواق والمشاعر. فإذا لم يصحب الفكر بالوجدان والإحساس اختراق الإنسان به الآفاق في سرعة فائقة كأنه شعاع ثاقب، بل أسرع من الشعاع. بل ليس شيء أسرع من الفكر ولقد يخيل لفكر الإنسان أنه يستطيع أن يضع يده في النار فلا تحترق، ويمشي برجليه على الماء فلا يغرق، ويسلم جسمه للريح فيطير، وينظر بعينه وراء السدود فيرى ما وراء الآفاق. فالفكر لا يرى كل أولئك مستحيلا. . . ولكن الوجدان والإحساس يقيدانه بالحدود الموضوعة للمادة، ويهددان الجسم بالألم إذا لم يعترف بهذه الحدود والقوانين وقد خيل الفكر لبعض السفسطائيين اليونانيين قديما أن كثافة الأجسام وهم من الأوهام، وأقام الدليل النظري لمعارضيه على ذلك، فتحدوه أن يخترق بجسمه الجدار الذي أمامه، فقام واندفع إليه بقوة، وكانت النتيجة المحتومة: تحطم جسده وفدخ رأسه. . . إن فكر السفسطائي لم يخطيء في توهمه استطاعة اختراق لبجدار، ولكنه أخطأ حساب الوجدان والإحساس. والحقيقة أن الفكر لا حدود له ما دام يسير وراء القوانين الطبيعية. . . فلقد استطاع أن يخترق الجدران والجبال بالصوت والصورة والحركة حين خضع للنواميس الطبيعية فخضعت هي له كذلك. ولست أدري أقريب أم بعيد ذلك اليوم الذي يستطيع الإنسان فيه أن يخترق الأجسام بالأجسام مع وجود الالتئام وعدم الصدام، وأن ينقل

ص: 12

الأجسام من مكان إلى مكان كما ينقل الصور والحركات والأصوات، وبالسرعة ذاتها التي يجري بها هذه المعجزات. . . إن الثقة بالعقل الإنساني بعد أن فعل ما فعل في تغيير الأرض ينبغي أن تكون من البدائه للانتفاع بها في بناء الحياة الجديدة. . . وكما آمنا بعلم الطب لتنظيم حياة الأجسام ينبغي أن نؤمن بعلم النفس لتنظيم حياة الأرواح وقد كان الإنسان في الحقب السابقة منزوع الثقة بنفسه لكثرة ضغط عوامل الطبيعة عليه وكثرة العقبات التي تعترض سبله وتجعله يشعر بحقارته وضعفه وسط عظمة الأسباب والقوى الطبيعية. . . ولكنه بعد أن تمكن من صنع كل شيء لنفسه والانتفاع بأكثر القوى، والمناعة ضد الأوباء والطوفان والقحط والصواعق يجب أن يكون إيمانه بعقله إيمانا أصيلا ليصنع به مستقبله صنعا يريحه ويرقيه ويجعله يتفرغ للفكر فيمن خلقه قادرا هكذا. . . إن الإنسان يأتي بأعمال عظيمة في صميم غايات الحياة وهو عنها غافل لا يدرك ماذا تكون نتائج عمله في مستقبله ومركزه. وإن مصانعفورد مثلا تخرج في كل ثانية واحدة سيارة كاملة! هذا جبروت وملكوت إنساني واسع يتفتح أمام عيون الراصدين لحركات الابن البكر للأرض! فهذه السيارات حيوانات حديدية تولد كاملة من أصلاب المصانع وأرحامها ولا تحبو ولا تدرج ببطء الطفولة وإنما تسير بسرعة الفكر الإنساني كما قدمنا في هذا المقال. . . وهي وأشباهها مما نتج من اللقاح بين الفكر والحديد قد ملأت الأرض وأدللت دولة الخيل والبغال والإبل، وصيرتها أشياء أثرية يوشك الناس أن يحتفظوا بها في المتاحف أو حدائق الحيوان. . . في كل ذرة رمل، وقطرة ماء، ولمعة شعاع، وخفقة نسيم. . . كنز مدخر لمستقبل الإنسان على الأرض. . . فليعرف ذلك الذين يشكون الفقر وشح المواد الطبيعية. أولئك الذين يثيرون الحروب من أجل الطمع والاغتصابأن تكون أمة هي أربى من أمة وليسلموا قياد الإنسانية لعلماء الطبيعة الذين يضربون معاولهم على كل منجم في الأرض والماء والهواء والشعاع ولنأخذ الحياة عريضة؛ بالانتفاع بكل ما في الأرض، وباستعمال جميع قوي الإنسان والجماد والحيوان، وباستخراج كل كامن من النبات والركاز، وباستنزال كل معلق من الشعاع والماء والهواء وبتوليد كل ما يمكن أن يولد من العناصر والقوى، وبوضع كل شيء أمام كل شيء لينشأ من الأوضاع المختلفة التي لا عدد لها حيوات جديدة معقدة لا عدد لها، يترقى بها الفكر والحياة ويغرز فيضهما وترحب بها

ص: 13

آفاق النفس، ويظهر لنا بعدها أن الكون مليء بالأسرار وكلمات الله التي لا تنفد.

عبد المنعم خلاف

ص: 14

‌الأزهر وبعثاته العلمية

للدكتور محمد البهي

حقا - كما يقول صديقي الفاضل الأستاذ محمود الشرقاوي في عدد الرسالة الأخيرة (391) تحت عنوان (الأزهر وبعثاته العلمية) _أن الأستاذ الأكبر المراغي كان جريئا يوم أرسل بعثةفؤاد الأول إلى أوربا عام 1935، وأن سعادة عبد السلام الشاذلي باشا كان جريئا ايضا أو أشد جرأة يوم أرسل من قبل بعثة الإمام محمد عبده سنة 1931 لأنه أرسلها في وقت كان الأزهر ممثلا في شخص شيخه السابق ضد فكرة إرسال البعوث من الأزهر إلى أوربا. ولولا لباقة الشاذلي باشا في أن أتاح لعضوي بعثة الأمام محمد عبده التشرف بمقابلة جلالة الملك الراحل، الملك فؤاد، والاستماع إلى رغباته السامية فيما يجب أن يكون عليه الأزهر لخلد ذكرى الإمام بشيء آخر غير بعثة أزهرية توفد إلى جامعات أوربا لتربط ثقافة الشرق الماضي بثقافة العصر الحاضر. وكان الشاذلي باشا جريئا، وكان الأستاذ الأكبر المراغي كذلك في إرسال هذه البعوث الأزهرية إلى أوربا، لأن ذلك منهما اعتراف بحاجة الأزهر إلى توجيه في البحث والتفكير، وفي الوقت نفسه اعتراف بجمود الثقافة الأزهرية ووقوفها عند حد معين لا تتجاوزه وهو ما وصل إليه المسلمون إلى القرن الخامس عشر تقريبا. والاعتراف بهاتين الحقيقتين في وقت يسيطر فيه على العقلية الأزهرية مبدألم يترك الأول للآخر شيئا، وتسيطر فيه كذلك فكرالكتاب في الدرس والبحث لا شك أنه يحتاج إلى جرأة وإلى جرأة كبيرة. وكان حقا أيضا أن يسأل صديقي الفاضل الشرقاوي عن إنتاجنا العلمي وأن يحاول شرحعدم إنتاجنا_إن وصل إلى ذلك_بما ذكره: إلى نرى أثركم وإنتاجنا وتجديدكم وما جعلتم في الأزهر من بيئة علمية جديدة وثقافة جديدة وحرية جديدة في البحث. سنقول إنكم لم تفيدوا شيئا مما تعلمتم ولا تميز لكم على من لم يبعث ولم يدرس في جامعات أوربا أو أنكم لا تجدون من أنفسكم شجاعة ولا قوة لكي تكونوا منتجين ولا مفيدينوهذا الذي يسأل عنه الصديق عنه كثير من إخواني ومعارفي في غير البيئات العلمية، في وزارة الخارجية؛ ولكنهم فقط لم يواجهوني بما حاول أن يجيب به الأستاذ الشرقاوي. وبالرغم من ذلك كنت أشعر أنه يتردد في نفوسهم

صحيح أننا لم ننتج بعد إنتاجا جامعيا يتمثل في تأليف يقوم البحث فيه على الأستقلال في

ص: 15

التفكير وعلى إبداء رأى خاص في مشكلة من مشاكل العلم الذي تخصصنا فيه، حتى يدمج هذا البحث ضمن البحوث العلمية فيكمل ناحية نقص فيهاوذلك طبعا غير التأليف المدرسي، فقد أخرجت من هذا النوع ثلاث مذكرات: في الفلسفة الشرقية، وفي الفلسفة الإسلامية، وثالثة في علم النفس العام (بالاشتراك مع الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد في هذه الأخيرة) _. ولكن ليس عدم انتاجنا الجامعي راجعاـ كما يقول الأستاذ الشرقاوىـ إلى أننا لم نفد شيئا مما تعلمنا في أوروبا، ولا إلى اننا لم نجد من أنفسنا شجاعة ولا قوة لكي نكون منتجين ولا مفيدين، بل يرجع إلى حالة أخرى خارجة عن معرفتنا وشجاعتنا؛ يرجعإلى بيئة الأزهر العلمية

الأزهر يغاير الجامعة في أن بيئته العلمية لم تتهيأ بعد (تمام التهيؤ) للأبحاث العلمية الحديثة، للأبحاث الجامعية. لأن هذه تقوم أولا على حرية النقد، وهذا معناه عدم منح القداسة لبعض المواد دون بعض. وثانيا على عدم التقيد (بالكتاب) كمصدر للبحث ومقياس للحقيقة. والأزهر - في الواقع - يسير في أبحاثه على منح القداسة لبعض المواد دون بعض ـ وإن كان بينها شديد الشبه من وجهة البحث - وعلى التعلق بمبدأ الكتاب. نعم مناهج التعليم لا تنص على كليهما ولكنهما من الأمور المتوارثة التي اصبح لها حرمة المبادىء العامة. وليست العبرة في ملاحظة الظواهر بما يقوله المنهاج، ولكن بما تتبعه النفوس

فمثلا يفرض نظام التعليم في الأزهر تدريس الفلسفة، وأزيد من هذا بجعلها مادة أساسية في كلية أصول الدين؛ ولكن الفلسفة في نظر كثير من الأزهريين مازال منها (الفاسد)، وهو أكثرها، و (الصحيح)، وهو أقلها. ومازال كثير منهم يخفى في نفسه الضغينة للفلسفة والفلاسفة ويضعها في مرتبة دنيا عن عالم الكلام، مع أن هذا الأخير يشارك الفلسفة الإلهية في الموضوع وفي الغاية، وهي محاولة تحديد الإله أو مبدإ الوجود وعلاقته بالكون وبخاصة بالإنسان. ومع أن الفلسفة الإغريقية التي نقلت إلى المسلمين كانت سبب ثرائه ونمائه. هذه الفرقة أثر متوارث عن الغزالي؛ فكتابه (إحياء علوم الدين) قد أصبح منذ القرن الثاني عشر إلى الآن صاحب الكلمة في التوجيه الديني وفي تحديد علاقة البحث العقلي بالدين. والغزالي هو صاحب (تهافت الفلاسفة)؛ وهو صاحب الرأي: بثلاثة كف

ص: 16

الفلاسفة العدا. . . . . . . . . . . . وهجومه ضد الفلسفة كان السبب غير المباشر في اختلاف الرأي في جواز الاشتغال بالمنطق ـ وهو فرع من الفلسفة ـ أو عدم جواز الاشتغال به أو الترديد بين الحرمة والجواز:

فاين الصلاح والنواوي حرما

وقال قوم ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة الصحيحة

جوازه لكامل القريحة

فمنهاج التعليم العالي في الأزهر وإن فرض تدريس الفلسفة إلا أنها لا تتمتعبقداسة ولا احترام كما يتمتع علم آخر كعلم الكلام مثلاً

وكما أن مبدأ (قداسة) بعض المواد دون بعض يسود التعليم في الأزهر، كذلك مبدأ (الكتاب) إذ أن (مدرس الموضوع) لم يخلق بعد في الأزهر وإن كان في طريق الخلق والتكوين. فالحقائق العلمية في مادة من المواد مصدرها كتاب معين بالذات، والتمكين في الخلافات العلمية ومشاكل البحث لم يزل إلى كتاب مخصوص. ولعل مبدأ الكتاب فرع من مبدأ القداسة لأنها إذا منحت لمادة من المواد قد تتعداها لأمر ما، إلى مؤلف بالذات فيها

وبيئة مثل هذه البيئة التقليدية لا تقبل طبعا بسهولة نتائج البحث العلمي الحديث لأنها قد ترى فيها مايجرح عاطفة عندها تحرص على صيانتها. وعلى صاحب البحث الجامعي قبل أن يبرزه إلى الوجود أن يهيىء النفوس له بالتوجيه تارة، وبالنقاش فيما ألفته وصانته حتى الآن عن النقاش تارة أخرى، وإلا كانت نتيجة بحثه الجامعي سلبية محضة، وكان شأن هذا الباحث شأن القانون الذي فرض مادة في منهاج الدراسة لم تهيأ لقبولها النفوس بعد في الإهمال وعدم الاعتبار

وهذه التهيئة كانت ـ وما تزال ـ من مهمتنا؛ وهي مهمة ليست يسيرة. كم كان شاقا ما صادفني من صعاب في العام الماضي عند عرض فلاسفة المسلمين! فكانت نفوس الطلاب متشوقة أولا وبالذات إلى سماع الحكم عليهم بالإسلام أو بالكفر. ولم أفلح إلا بعد جهد مضن في إقناعهم بالفصل بين القيم المختلفة، وفي أن مهمة مؤرخ الفلسفة الحكم على الفيلسوف من ناحية إنتاجه العقلي فحسب

على أن الإنتاج العلمي الجامعي كما هو وليد القدرة على الإنتاج وكثرة الاطلاع وهضم المقروء وليد الزمن أيضا. وبذا يفترق عن الإنتاج الصحفي أو الإنتاج المدرسي. ونحن

ص: 17

نطمئنك أيها الصديق برغم عدم هذه التهيئة الكافية في بيئة الأزهر العلمية لقبول الأبحاث الجامعية، وبرغم هذه الصعاب التي نلقاها في التوجيه، على أن (بيئتنا العلمية) في نمو، وعلى أن لنا في جمهرة الطلاب وفي كثير من الشبان المدرسين أعوانا مخلصين، وعلى (أن لنا أسلوبا خاصا ونقصد في دراستنا وفي إنتاجنا وفي توجيهنا التعليمي مقصدا خاصا يقوم على حرية البحث، وقداسة الفكر، والشجاعة في مواجهة مانلقى من عنت) ونطمئنكأكثر من هذا على أننا قطعنا في إنتاجنا الجامعي خطوات عديدة. وكل ما نرجوه، حتى يبرز هذا الإنتاج إلى الوجود، هو توفيق الله.

محمد البهي

مدرس علم النفس والفلسفة

بكلية أصول الدين

من ذكريات أوروبا

باريس الصغيرة

للأستاذ أحمد فتحي مرسي

لم يكن من بد أن نكتب عن باريس الصغيرة بعد أن لحق بشقيقتها الكبرى ما لحق من نكد الحياة، وعنت الزمان، ما جعلها تشيع زمان اللهو والغفلة، وتستقبل زمان الجد والحذر والحرص، وبعد أن نالها هي الأخرى أو كاد أن ينالها ما نال أختا لها من قبل فتكاتفت عليها أزمات السياسة، وضائقات الحرب، ونكبات الطبيعة؛ وآن لهذه الوجوه التي لم تتقبض أسرتها إلا من الضحك أن تتقبض يوما من الجد والحزن والتفكير. . . وإذا كانت باريس قد لقيت من أقلام المحبين والمعجبين والمحتفين بها الكثير من كلمات الرثاء والعزاء والذكر، فلا أقل من أن نشيع الشقيقة الصغرى بكلمة أو كلمتين

وباريس الصغيرة، أو باريس شرق أوروبا كما أصطلح على تسميتها عارفو الباريسيين هي مدينة بوخارست حاضرة رومانيا، وليس في هذا الاسم إغراق أو مغالاة، فبين المدينتين تشابه كثير، فأحياء بوخارست الجديدة تشبه أحياء باريس، وحياة اللهو والمجون في بوخارست تعدل حياة اللهو والمجون في باريس أو هي تزيد عليه، ونساء بوخارست

ص: 18

متحررات عابثات كنساء باريس مولعات بتقليد الباريسيات في التأنق والتجمل إلى حد بعيد، وإن كن أجمل منهن وآنق. وكما أن باريس هي مدينة المرح والحياة ومحظ آمال الشباب في غرب أوروبا، فبوخارست هي مدينة المرح والحياة ومحط آمال الشباب في شرقها. وإذا كان شباب أوروبا يستقبل الموت اليوم في محور (روما برلين) فقد استقبل الحياة من قبل في محور باريس بوخارست. . . حتى نهاية المدينتين ـ يشاء القدر أن تكون متشابهة ـ فكما تعتز المرأة الجميلة بشبابها وجمالها وتحرص على صيانته، وتحذر أن يمسه سوء، كان ما فعلت الباريسيات، فسلمتا طائعتين مختارتين حذر أن يمس جمالها من الحرب سوء، أو يناله في الدفاع أذى.

هبطت مدينة بوخارست من عام وبعض عام، وكنت قبل سفري تتناثر حولي عن عبثها ومجونها أقوال أصدقاء لي زاروها من قبل، فلم أكن ألقى إليهم أذنا صاغية، وأحسب أن بكلامهم الكثير من مبالغات الشباب وخياله. ثم حدثتني عنها أديبة بولندية قابلتها في أثينا، فكنت أيضا كثير الشك في كلامها، وكان يعزز هذا الشك في رأسي أن بوخارست ـ وإن كانت مدينة أوروبيةـ إلا أنها أقرب إلى الشرق منها إلى الغرب، فليس ثمة مايجعلها تختلف عن نظيراتها من مدن شرق أوروبا كاستنبول وأثينا وصوفيا. فلما ركبت القطار من ميناء كونسنتزا ـ وهي مرفأ روماني ـ في طريقي إلى بوخارست، حدث ماجعلني أصدق ثم أصدق ما قيل، بل حدث ما جعلني أرى أن فيما سمعته عن هذه البلاد الكثير من القصد والإيجاز، لا المبالغة والإغراق

كان القطار مزدحما فوقفت في الممشى أتلهى بالنظر من النافذة، ثم أخذت أذني في أقصى الممشى ضجة، فتلفت فإذا شاب بدا لي من وجهة أنه تركي ـ مقبل علىً وقد تحلقت به خمس فتيات ـ أستغفر الله ـ بل خمس فاتنات، إي والله خمس

ـ وهو يسير بينهن في هيئة العروس أحاطت بها وصيفات الشرف، يجذب هذه، ويقبًل تلك، ويعانق الثالثة، وهن يتضاحكن من حوله، ويتجاذبنه من سترته! فلما بلغني هذا الموكب المرح، حيًاني الشاب ضاحكا، وجعلت الفتيات يحدقن في وجهي طويلا ثم قالت إحداهن: ـ هذا تركي آخر فقالت أخرى: - بل هو مصري وقالت ثالثة ضاحكة: ـأما تجيب أيها التمثال؟ ثم تضاحكن وانصرفن عني ضاحكات بمثل هذا العبث والمرح تقابلك

ص: 19

الفتاة الرومانية، فهي دائما باسمة مرحة، تغازلك إذا لم تغازلها، وترميك بالجمود إذا لم تسايرها في مرحها. وحسبك أن تعلم أن أول ما يتعلًمه الأجنبي في بوخارست من اللغة الرومانية ـ وهي لغة تشبه الإيطالية إلى حد ـ هي كلمات ميلة. إلى أين يا فتاة. ما هذا الجمال النادر) وما شاكل ذلك من كلمات المعابثة والمغازلة. وكثيرا ما كنت أخطيء في نطق هذه الكلمات فكانت تصحح لي النطق بها من أعابثها من الفتيات فتقول لي مثلا:(فورمواسا (أي جميلة) وليس فورموزا. انطقها هكذا فورمواسا بحرف إنك لا تحسن النطق. اصحبني لأعلمك)

فإذا بدا لك أن تكون رجل جدً واتزان، أخذن يثرنك ويغازلنك، ويتشبثن بأذيالك أينما رحت، بل يمسكن بك في الطريق، فإذا ألطفت بإحداهن ودعوتها إلى نزهة أو طعام لبتك طائعة دون روًية أو ترًيث أو تفكير، وسايرتك في كل ما ترغب، فهي سهلة القيادة لا تعرف المعارضة!

وفتاة بوخارست اجتماعية بكل ما تحتمل الكلمة من معنى. قلما تراها تسير وحيدة، فإذا لم تجد من تنازله زاملت من تصادفه في الطريق. وهي في ذلك تتخير أتفه الأسباب للتعرف، ثم تضع يدها في يدك، وتطرح التكلف والملاينة جانبا، وكأنها تعرفك من سنين. . . حدث مرة أن كنت جالسا في مقهى في شارع اليزابيتا، فدنت مني فتاة جميلة، ثم سألتني إن كنت مصريا، فلما أجبتها بالإيجاب أخرجت ورقة وقلما وسألتني أن أكتب لها اسمها باللغة الهيرغليفية. فقلت لها:(إنها لغة قدماء المصريين وقد اندثرت، ولغتنا الآن هي العربية) فقالت: (إذن فلتكتب اسمي بالعربية) فكتبته لها، ولكنها بدل أن تنصرف جعلت تتعجب من الخط، فلم أجد بدا من دعوتها للجلوس فأسرعت بالقبول ولم تقم حتى دعوتها للعشاء في اليوم التالي. . . ومثل ذلك يحدث للمرء مرات عدة في بوخارست

ومن الفتيات من لا تتحرى هذه المقدمات، فتراها تقابلك وتبدؤك بالسلام، والسؤال عنك وأني أنت يا أخي، أو هي تجذبك بيدها، أو تخطف قبعتك، أو تقبلك، أو تعانقك. كل ذلك دون أن يكون لك بها سلبق عهد! والعجب في هذا أنها تفعل كل ذلك في بساطة ودون استحياء. وأعجب منه أن هذا العمل لا يلفت أنظار المارة، على الرغم مما لا حظته من فضول الرومانيين العجيب. . . فقلما تخرج من جيبك صورة أو خطابا في الطريق دون

ص: 20

أن يشاركك في النظر إليها أو قراءته من حولك، ومن ليسوا حولك. بل أكثر من ذلك فإنهم يبدون لك ملاحظاتهم، فيقول أحدهم مثلا:(لو وسًدت رأسك كفك في الصورة لكان أفضل) أو: (لو كانت الصورة على مسافة أبعد لكانت أوضح من ذلك) أو: (هذا الخطاب مكتوب بخط عجيب). . . إلى غير ذلك من الملاحظات التي لا تنتهي إلا بإخفاء ما في يدك عن نواظرهم.

وعلى الرغم من هذا الفضول العجيب فقلما يلتفت إليك ماًر وأنت تعانق فتاة أو تغازلها ولو كنت في جمع من الناس لكثرة ما أخذت عيونهم مثل هذا المنظر. وقد حدث لي في أول لياليً ببوخارست أن كنت أتناول العشاء في مطعم مع صديق مصري وصديقة رومانية؛ وكانت معي بعض صور لأهرام الجيزة فرغبت الفتاة في واحدة منها، فقال صديقي معابثا:(وكم تدفعين ثمنا لهذه الصورة؟) فقالت: (ما يطلب) فقال ضاحكا: (إنه يقنع بقبلة أو قبلتين، وإن كانت الصورة ثمينة جداّ) فقالت: (إذن فليفعل) فقال: (ليس أمام كل هؤلاء الناس) فقالت: (وما شأنهم في ذلك؟). ثم قامت فقبلته وقبلتني، فأخذني الخجل، وجعلت لا أتلفت حولي خشية أن تأخذني الأنظار من كل جانب فتزيد في خجلي، ولكن لشد ما كانت دهشتي حين تلفتً فلم أجد أحداّ أعار ما حدث أي اهتمام، بل وجدت كل من حولي يفعل ما نفعل!

ومثل هذه الحال من المجون والاستهتار كان لها أثر بالغ في حياة أطفالهم، وصغار الفتيات، ما كنً يترامين علينا في أوقات من الليل

والظاهر أن هذا الانحلال الأخلاقي في رومانيا، مرجعه الحروب المتلاحقة التي تقلًبت عليها فأفنت رجالها، ثم خلفتها وعدد نسائها أكبر من عدد الرجال، وهؤلاء الرجال ـ على قلتهم ـ منصرفون عن النساء لكثرة عددهن، وسهولة منالهن، لذلك نرى رجال رومانيا وشبانها مدللين متراخين قليلي الغيرة على جانب غير قليل من الطراوة والضعف والتهاون مع نسائهم: فالفتاة في بوخارست. قد تسهر معك إلى الثانية عشرة، أو الواحدة صباحا، ويستأذن أخوها أو قريبها لينصرف، وهو يقول لكما مبتسما: أرجو لكما وقتاّ طيباّ، أو سهرة موفقة، أو شيئاّ من ذلك. ثم ينصرف لشأنه

وفتاة بوخارست فوق ذلك من أجمل نساء العالم وجهاّ وجسماّ ومن أكثرهن تحرراّ، فهي

ص: 21

تساير نزواتها وأهوائها إلى أبعد الحدود، لا تخشى في ذلك لومة لائم، أو كلمة رجل؛ ثم هي ساذجة مطواع طيبة القلب، تصارحك بكل شئونها ولو لم تقابلها إلا مرة واحدة، وهي بعد ذلك وفية كل الوفاء

والحدائق في بوخارست، هي مستراد الشباب، وميدان الغزل، وملاذ الهوى، يقصدها القوم جميعا قبيل الغروب. والمدينة غنية بحدائقها فقد وهبها الله موقعا طبيعيا غنيا بالبحيرات الطبيعية، فأنشأوا حولها الحدائق، ونموا الخمائل والأشجار والخضرة؛ ففي وسط المدينة تقع وبأطرافها تقع حدائق كارول الثاني على شواطىء بحيرة هيراستراو وحديقة تي شواطىء بحيرة وحديقة البوتانيك وحديقة كارول الأول وتتوسطها بحيرة طبيعية جميلة. . . وغيرها. . .

وكل هذه الحدائق آية في الجمال والتنسيق والموقع. ولن أنسى أمسية قضيتها في مطعم أنيق في حديقة كارول الثاني يطل على البحيرة، وقد انعكست أضواؤه على صفحتها الهادئة، وانتثرت بها الزوارق البخارية ذات الأضواء الملونة، وهي تتخطر في هينة ورفق على أنغام الموسيقى. . . منظر جعل يجذبني إلى هذا المكان كل مساء

وفي حديقة كارول الأول بحيرة طبيعية، يقع على شاطئها مسجد شرقي آية في الجمال والفن؛ فإذا أقبل المساء انسابت الزوارق إلى عرض البحيرة، وعلى كل زورق عاشقان، جمعهما الهوى، وأظلهما الظلام، وأغرتهما هدأة الليل الجميل، فذهبا يتناقلان الحديث، ويتشاكيان الهوى، ويتبادلان العناق؛ فأنت لا تسمع أينما أدرت أذنيك إلا همسات الغزل، وأصوات القبل، وخفقات المجاذيف قد اختلطت بضحكات النساء

وعلى مقربة من المدينة تقع غابة (بانيسا) وهي غابة صغيرة جميلة كانت لنا فيها جولات نذكرها بالخير، وعلى أميال منها بحيرة في موقعها الطبيعي الساحر، وهي أروع ما وقع عليه نظري في هذه البلاد

ولا أود أن أختم القول قبل أن أشير إلى رخص تكاليف المعيشة في بوخارست إلى حد لا يتصوره العقل، ولا يصدقه إلا من زارها، ويرجع ذلك إلى فقر البلاد، وانخفاض سعر (اللي) العملة الرومانية_انخفاضاّ كبيراّ. وحسبك أن تعلم أن ما ينفقه الإنسان في القاهرة في يوم، يكفيه في بوخارست ثلاثة أو اربعة أيام على الرغم من كونها بلاداّ أجنبية غريبة

ص: 22

عليه. وأرخص ما في المدينة الطعام ولا سيما اللحم - فالبلاد بلاد سهول ومراعي_وهم في طعامهم أقرب إلى الشرقيين منهم إلى الغربيين. ولعل ذلك يرجع إلى عهد الأستعمار التركي. وأظهر مشروبهم البيرة والنبيذ والسويكا_وهو الشراب الوطني للبلاد_وقلما تخلو مائدة من إحداها

هذه هي بوخارست أو باريس الصغيرة كما يسمونها، مدينة المرح والحياة والجمال. وهذا بعض حقها عليً، وإنه ليعزًعليً وعلى عارفيها ما نالها من محنة، ولنا فيها ذكريات وأصدقاء وأحباب، خفف الله عنها وعنهم، وأجمل لهم العزاء

(فتحي)

(القاهرة)

وحي العلم الجديد

إنسان وحيد في العيد

في ليلة من ليالي هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء، وداع عام مضى ورجاء عام جديد، جلس إنسان وحده في حجرة باردة، طقسها بارد ولكنها حارةً الذكريات

إنسان وحيد جلس يكتب فلم يستطع، ما يحسه في قلبه لا يستطيع أن يكتبه، وما يكتبه يجده بعيدا غريبا عما في قلبه وصدره. ما يكتبه يجده بارداّ كصورة الصورة الحريق واللهب والبركان على قطعة من الشمع الملون، وفي شعر هندي يقال:(مات المعنى الحيً حين احتواه اللفظ. ينطق اللسان فضلة ما في القلب)

إنه يجلس إلى الراديو يدير مفتاحه، ينتقل به من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يسمع إلا الرقص والغناء والموسيقى. الأحاديث لا يسمعها، يمر عليها في مفتاح الراديو، كما يمر الشهاب في السحاب

الدنيا كلها تغني وسط هذهالمذبحة البشرية، والناس كلهم يرقصون على دقات الجاز الصاخب وعلى أنغام الفاس الهادىء الناعم كأحلام الصفاء في آخر الليل، وبعض الناس في هدوئهم وسمت وقارهم وصفاء قلوبهم ينشدون ويرتلون. أولئك هم المتوجهون إلى الله في السماء

ص: 23

أيها الصاخبون الراقصون على الجاز والفاس، خذوني معكم أنا إنسان وحيد غريب في هذه الدنيت. إنسان يريد أن يعيش وأن يعرف الحياة وأن ينطلق بعد حبس طويل. يريد أن يفرح ويقفز ويبتهج كما تفعلون. ثم يلقي جسمه المنهوك في الفراش بعد المرح الطويل فينام وقد حل في قلبه السلام

أيها المؤمنون الخاشعون المرتلون المتوجهون إلى الله في السماء ، خذوني معكم.

أنا إنسان يريد أن يهدأ وأن يعيش وأن يهب قلبه الصفاء والنقاء بعد سواد طويل، يريد أن يتوجه إلى أن يتأمل ويصلي، قد انصرفت عنه دنياه ويئس منها، يحبها ويريدها ولكنها لا تريده. قد أشقاه إدبارها ولم تقبل عليه مرة، فهو يريد أن يعلو عليها يأساً منها، وأن يتوجه إلى ربه مثلكم يرتًل ويتأمل ويصلي ويتبتل حتى ينهك جسمه كما أنهك الرقص جسوم الراقصين فينام وقد حل في قلبه السلام

إنه يسير في الطرقات ويركب ما يركب الناس، فيجد الشاب والفتاة والعجوز والصبي كلً قدأمسك لمن يحب قربان حبه، الورود والأزاهير يحملونها يضمونها إلى صدورهم ضمة العشق

ويرى الناس قد أذهلهم الشقاء واستولى عليهم جهد العيش فلا يتحدثون ولا يفكرون إلا فيما

يأكلون ويكتسون، ليس لهم حبيب ولا يريدونه، وليست لهم زهور ولا قرابين ولا يريدونها

أيها العاشقون السعداء يحملون الهدايا، خذوني معكم أنا إنسان وحيد يريد أن يهدي إلى من أحب شيئاّ، يهدي إليه قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله

بلى. لقد أهدى إلى من أحب هذا كله وفوق هذا كله، ولكن من أحب لم يقبل منه ما أهدى، وطرد الرسول والمرسل وانصرف عنه كما انصرفت عنه دنياه ويئس منه. . . من حبيبه. إنه يحبه ويريده ولكنه لا يريده

قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله، لا يريده. وفوق هذا كله لا يريده

أيها الحاملون الهدايا والأزاهير إلى عشاقكم ومحبيكم وأزواجكم، خذوني معكم

إني أريد أن أكون واحداّ منكم فأقدم إلى حبيبي خيراّ مما تقدمون. . . مع قلبي وحناني وحبي، فإذا رضي عن هديتي وتقبًل قرباني ملأ قلبي الفرح وشمخ رأسي فوق كل رأس، وأتعبني حمل السعادة فأنام وقد حل في قلبي السلام

ص: 24

أيها الأشقياء الناعسون خذوني معكم

أنا إنسان وحيد أريد أن ابتئس وأن أشقى حتى أذهل، وحتى يموت في قلبي الرجاء من كل شيء والأمل في كل شيء، وأن يستولي علًي جهد العيش والفكر فيما آكل وما أكتسي حتى يرهق جسمي الفكر والجهد فأنام وقد حل في قلبي السلام

رأيتكم من قبل في كثير من مثل هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء

رأيتكم من قبل أيها الراقصون والمرتًلون والعاشقون والذاهلون بالشقاء فلم أطلب أن أكون منكم. لأني كنت أوقن أني سأكون خيراً منكم عندما تقبل عليً دنياي

دنياي كانت أخي الغائب حتى يعود، والقلب الذي رجوتًه واصطفيته وأحببته وارتقبه، وصبرت على ما لم يصبر له الصابرون حتى يكون معي، حتى يكون لي وحدي

وكنت في سنوات كثيرة أجلس في هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر أسمع مواكب حياتكم أيها السعداء فأبتسم، ستقبل دنياي وأغدو خيراّ منكم يوم يعود لي أخي البعيد، ويوم يكون القلب الحبيب لي وحدي

ثم جاءت الأيام الأخيرة من ختام هذا العام، فإذا الأخ البعيد لم يعد، ولن يعود، وإذا القلب الحبيب قد ردً عليً_مطروداّ_قلبي وحناني وحبي، واختار أن يكون لغيري، له وحده، وإني أحبه وما كرهته

في هذا العام أجلس وحدي في غرفة باردة، طقسها بارد لكنها حارة الذكريات، أسمع وأرى مواكبكم أيها السعداء، ولكني لا أبتسم. لن أكون في يوم ما خيراً منكم إن أخي لن يعود، والقلب الحبيب لن يعود، فلن تعود لي دنياي، وما كانت دنياي لي حتى تعود

إنسان وحيد في العيد

كان يسير في ركب الحياة معه أخوه وحبيبه. . . زوجه. . . لا يريد غيرهما ولا يرجو، فسقط أخوه والركب يسير. فتخلف يقضي حقه يواريه ويبكيه، وقلبه يتوجه إلى حبيبه الذي بقى يرجوه لا سواه

يتوجه إليه بالرجاء والعزاء، يريده وحده لا يريد غيره ولا يرجو وماذا يهمني من الركب وليس لي فيه. . .؟

إنه_القلب الذي أحببته_معي. وأنا به مع الركب وأمامه أسبقه وأعلو عليه. ونحن وحدنا

ص: 25

القافلة والركب والحياة والدنيا لنا

أنا_معه_غني عن جميع الناس

إنني به غني عن العالمين

فلما أفاق وقضى لأخيه بعض حقه تلفت فإذا الحبيب الذي كان بقي. ما بقي. . .! سلك بنفسه في زحمة الحياة وخلًف القلب الوحيد لا رجاء ولا عزاء. وشق الطريق لذاته لم يلتفت.

الركب بعيد، وهو منه منفرد وحيد. ما بقيت به قوة. ليس حوله سوى الظلام والوحشة والأحزان وذئاب الطريق. وفي قلبه الحسرات الباقيات ولا أحد معه

أيها السعداء الذين أرى مواكبهم وأسمع رقصهم على الجاز الصاخب والفالس الهادىء الناعم كأحلام آخر الليل، والذين يقضون هذه الأيام الأخيرة من العام. أيام الوداع والرجاء، ثم ينامون وفي قلوبهم السلام.

خذوني معكم. . .

2 -

صاحب السلطان الحقيقي

قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعا ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلسا من مجالسه ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه

حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصا أنساني كل متعة وحقر في نفسي كل فرجة فأعددت منظاري وظللت أنظر بصبر فارغ وشوق نازع حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور وهو يفضي إلى بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة

وتفضل الرجل فدعا شاباّ من ذوي قرباى كان معي فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ. وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلىء رأسه بفلسفة الفلاسفة. ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظاراّ مثل منظاري، أو

ص: 26

لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة. فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جدً أذكياء وأنهم يسيرون على قواعد (سيكولوجية) دقيقة تغيب عن الأغفال من العامة.

وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته فيفضح بخله في المجلس

وبلغنا الدار فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ. ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ وفي أيديهم (صينيات) القهوة والقرفة والشاي ووجوههم جميعا متهللة مستبشرة

ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعا وقوفا لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكىء على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعا أسهل عليً من أن ألم تلك اليد الكريمة؟

وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناّ في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنشتريح في جلستنا في ملابسنا الأفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيافته، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعا وفي وجهه الراحة والضيق معاّ، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي

ص: 27

وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة

واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ. وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء. ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته ولأنه لا يعرف صوت الشيخ. وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال:(هيه. . . سبحان من يرث الأرض ومن عليها. . . هو حد منا راح يأخذ حاجة معاه. . . يا ما فلوس بتروح في المسخرة)

وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لا نستطيع لما نسمع من الأيمان لها رداّ. ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفا ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيراّ بحريق جديد؛ وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن يدعى عمر كرة أخرى. فهب الشيخ واقفا من فوره، ففطنت أنه لن يطيق أن يسمع اسماّ من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الظن من صحة فاتسق لي القياس كل مرة

وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئاّ فشيئاّ على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!. . .

ودخل رجل فشكا إلى الشيخ أن ابنه لا ينام مستريحا، وتناول الشيخ ورقّا وقلماّ وخط له حجاباّ وصرفه فخرج الرجل فرحاّ مطمئناّ. ودخل ثان فشكا إليه أنه محروم من البنين وأنه يتحرق شوقا إلى غلام يؤنسه وللشيخ ما يطلب. وضحك الشيخ من سذاجته إذ يصرح أمام الناس أو يظن أن الشيخ يطلب شيئاّ، وطلب الشيخ منه منديلا فلم يجد معه شيئاّ فأخذ طاقيته ووضعها في حجره وقرأ ثم قرأ وردها إليه وبشره بغلام؛ ونهض الرجل وكأنه يحمل بين يديه ذلك الغلام ، ، ،

ودخلت امرأة ملففة في ثيابها وطرحتها ترجو من الشيخ رقية لوحيدها كي يعيش، فجاد

ص: 28

عليه الشيخ برقية وخرجت المرأة مزهوة؛ ودخلت بعدها غيرها تستجير ببركة الشيخ، فإنابنتها يرتعد جسدها الملتهب وتمسكها (الملعونة) حتى ما تفارقها؛ وفهمت أنا أن المسكينة مريضة بحمى كانت الملاريا، وأمرها الشيخ أن تحضر وعاء به ماء، فذهبت فأحضرته، وتناوله الشيخ فقرأ ثم قرأ، وصاحبي ينظر دهشاّ، وبصق فيه الشيخ بصقة على رغم علم صاحبي وفلسفته، وناوله المرأة لتشرب ابنتها من ذلك الماء أثناء الليل، وكم تمنيت لو قفزت من مكاني فحطمت ذلك الوعاء وأرسلت بركته على رأس الشيخ!

ودخل شاب قوي البنية، بادي الجرأة، فما دنا من الشيخ حتى صرخ الشيخ في وجهه يطرده ويصيح به: أيها العاصي، ابعد عني. وتوسل الشاب إليه حتى سمح له بالجلوس، وأمر الشيخ دراويشه، فطردوا ذلك الفتى ورفعوا رجليه على نحو ما فعل معلم الصبيان في المكتب، وتناول الشيخ عصاه وهم يضربه. فاستجار الفتى بالنبي، فألقى الشيخ العصا وهم واقفاّ، ثم أمر أعوانه فأطلقوه، وأخذ عليه الشيخ العهود والمواثيق ويده على المصحف، ثم صرفه والناس يعجبون كيف عرف الشيخ أنه شقي، ونسوا أن للشيخ دراويش هم مصدر علمه اللدني العجيب

وجاء بعد ذلك أمر حيرنا معاّأنا وصاحبي، وحار منظاري حتى كدت أشك أن الشيخ قد أفسد عليً بكراماته سحره، فقد جيء للشيخ بأربعة فتيان متهمين في سرقة فجلسوا أمامه يرتعدون فرقا وكلهم ينكر ما نسب إليه، ولما يئس منهم الشيخ طلب بيضة بطة أو أوزة فذهب صاحب الدار ليحضرها ولما عاد بها قابله أحد الدراويش عند الباب وأخذها منه، ثم وضعها في جيبه حتى طلبها الشيخ فأخرجها وأعطاها إياه أمام أعيننا ووضعها الشيخ تحت يسراه، ثم قرأ وقرأ وقال إنه سيرفع يده فتتجه البيضة إلى السارق، ونظر في وجوه الفتية فأصروا على إنكارهم. وما كان أشد عجبي وعجب الجالسين جميعاّ أن رأينا الشيخ يرفع يده فتظل البيضة في مكانها بضع ثوان، ثم تبدأ تتدحرج وتقف، ثم تتدحرج وتقف، وعظم خوف السارق بطبيعة الحال، وقبل أن تنحرف البيضة إلى من سرق أخذخا الشيخ وقد بعدت عنه نحو ثلاثة أذرع وأمر الفتية أن يخرجوا فيفضي من سرق منهم بسره إلى من يرسله معهم من الدراويش، وعاد ذلك الدرويش بعد قليل يحمل المصاغ المسروق!

وأقبل من في الحجرة على الشيخ يقبلون يديه، ونظر إلى صاحبي وقال في لهجة عجيبة:

ص: 29

(وما قولك؟ بل ماذا يرى منظارك في هذه المعجزة؟) ونهض الشيخ واقفاّ فدعا دراويشه ومن جلس معه إلى (حلفة ذكر) وبدأ ذلك الذكر في حماسة شديدة واشتدت الحركات وارتفعت الأصوات، ونسى الناس أنفسهم حول الشيخ وعظمت الرهبة في وجه صاحبي الشاب فأمسكت بذراعه مخافة أن يثب فينضم إلى الحلقة!

وكان موعد تقديم الطعام قد قرب فانتظرنا وصاحبي حتى انتهت لحظة التجلي، وخرجنا بعد أن سلمنا من بعد على الشيخ ومن معه وسرنا وصاحبي يسألني في لهجة كلهجة طفل خارج من ملعب يستوضح أباه حركة (بهلوان)؛ ولم نكد نبعد حتى سمعنا من يشاركنا الحديث، فإذا هو أحد دراويش الشيخ السالفين وهو اليوم من الخارجين عليه، وقال ضاحكا: طول ما في البلد مغفلين وأكل العيش سهل. يا سيدنا الأفندي البيضة كانت موجودة في جيب صاحبنا غير الثانية، وهي فارغة وفي جوفها خنفسة. . . دا شغل احنا عارفينه، وبكرة يا ما يشيل الشيخ من الطيور والسمن والخرفان وهو خارج من البلد. وضحك صاحبي وأخذ يعود إلى جحوده ونكرانه

الخفيف

العقد الفريد

للأستاذ محمد سعيد العريان

بعد أسابيع قليلة، تظهر الطبعة الجديدة من كتاب (العقد الفريد) التي تنشرها المكتبة التجارية بالقاهرة، في ثمانية مجلدات؛ وقد حققها وضبطها وراجعها على مصادرها الأولى الأستاذ محمد سعيد العريان

(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراّ من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)

يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبنين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ

ص: 30

على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاّ إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاّ بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراّ من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لايغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب

والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك فيه أن يجزم بأنه لم يغادرشيئاّ مما يهم الباث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني ب (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباّ من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاّ من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم

وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عبد ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد

وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاّ اليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظرإلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه: (هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به مايقع في أشعارهم منها. وكذلك

ص: 31

ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)

هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب_توفي سنة 808هـ، كان معروفا لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراّ مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاّ منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء

على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاّ، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف

ص: 32

وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع ، ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق

ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة

يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء

وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟ انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟

لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه_للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضا ّنظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روي من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية

على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان

ص: 33

لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراّ أو قليلاّ بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشرقة ،

(البقية في العدد القادم)

محمد سعيد العريان

الشروق. . .

(مهداة إلى (الرسالة) عروس المشرق في صباح عيدها التاسع)

للأستاذ محمود الخفيف

شدً ما ذكر قلبي الفرحا

مولد النور على الأفق البعيد

كم هفا القلب إليه وصحا

واجتلى في الشرق هذا الوضحا

ورأى في كل ركن بسمة

حلوةً تهدي إلى الصبح الوليد

في شعاب النفس ألقى الابتساما

فلق همت بمسراه المديد

زدت ما درت بعينيً هياما

بسنا يا حسنه إذ يترامي!

لمحات كابتسامات المنى

ورؤى مثل رؤى الحلم السًعيد

السًنا الورديً الأفق

ذاب في فيض من النًور جديد

ملء نفسي سحر هذا الشفق

ألق أجمل به من ألق

أمس كم كان لروحي منهلا

قبل هذا الثكل في قلبي الشًهيد

رفً قلبي للسنا المنسكب

في جناب أخضر الزرع رغيد

رمت الشمس خيوط الذهب

فجرت فوق رفيف العشب

نهلت عيناي من بهجتها

آه! كم طفت بها غير وحيد

ونسيم عبهري خفق

سرق العطر من الزهر النضيد

عبقت أنفاسه في الغسق

وسرت في صبحه المؤتلق

ص: 34

راح يستاف فؤادي عطره

هاتفا في خفقه هل من مزيد؟

لألأ النور رؤوس الشجر

في انهلال بالغ الحسن فريد

ووميض الطًل فوق الزهر

زاد حولي عبقري الصور

مجتلى صليت في محرابه

حلم النظرة صوفيً السًجود

ساجعات الأيك في الحانها

فرحة مرت على قلبي العميد

المراح الحق في تحنانها

وهنيء العيش في أفنانها

سجعات لم تشبها كدرة

بدأت في مولد الدهر الأبيد

أيقظ الغافين نور المشرق

حبًذا يقظتهم بعد همود

أنا ما بين خيال مونق

ملء نفسي ونهار مشرق

لمع في الشرق يوحي نورها

لفؤادي من أحاديث الخلود

مطلع النور شجاني نوره

وجلى للنفس موموق العهود

أجمل البشر لنفسي ذكره

أبدا يبهج روحي سحره

كم بعثت النفس في آفاقه

كلما ضاقت على نفسي قيودي

في فجاج الشرق أطوي الأعصرا

من زمان شامخ العزً وطيد

إبتني المجد به عالي الذرى

سادة كانوا كآساد الشًرى

شدً ما يملأ نفسي كبرة

أن أغنًي بالميامين الأسود

دولة الفاروق هزت خافقي

وازدهاني الملك في دار الرشيد

أتأسى بجلال صادق

كلما ضقت بشك طارق

في غد يوقظ فتيان الحمى

ص: 35

ومضات الوحي من مجد تليد

آذن المشرق بعد الغلس

بصباح دافق النور جديد

لاح لي من فجره المنبجس

لمح نور ليس بالمحتبس

إيه كم أبهجني من نوره

مولد هلً على الأفق البعيد!

صغت هذا الشعر من غرته

وتغنيت به حلو النًشيد

من سنا الشرق ومن روعته

ومعاني السحر من فتنته

والوضاء الغًر من أيًامه

وحي (إليادي) وألحان قصيد

الى (الرسالة) الغراء

في عامها التاسع

للأديب إبراهيم محمد نجا

أقبلي كالربيع يخطر في الكو

ن، فتهتز زهرة الأيام

أقبلي كالشباب يشرق في النف

س فتشدوا عرائس الأحلام

أقبلي كالسرور، كالنشوة البي

ضاء أو كالشفاء بعد السقام

أقبلي كالنسيم رقرقه الفج

ر، فغنىً بأعذب الأنغام

أقبلي كالنمير يسكبه النًب

ع فتروي به القلوب الظوامي

كأغاني الطيور، كالأمل البا - سم، أو كالضياء بعد الظلام

كالأصيل الجميل كالشفق الحا

لم كالفجر كالضحى البسام

كالندى في الزهور كالعطر في الأنفاس كالبدر في ليالي الغرام

أقبلي كالسلام بعد حروب

طال فيها تناحر الأقوام

يا ابنة النيل إن في مصر نوًا

ما، فهزًي مضاجع النًوام

وامسحي عنهم الفتور، يهبوا

هبًة الأسد روًعت في الموامي

واسكبي في النفوس بلسمك الشا

في، وبثي الحياة في الأجسام

واحملي المشعل الكبير وسيري

في طريق الحياة نحو الأمام

ص: 36

إنما أنت قبسه من ضياء الله

يهدي بها قلوب الأنام

إنما أنت يقظة بعد نوم

وبلوغ المنى، ونيل المرام

ونعيم في العيش بعد شقاء

وصفاء في الأفق بعد قتام

ووثوب إلى الأمام إلى الغا

ية بعد النكوص والإحجام

وصمود إلى السماء إلى الذر

وة بعد الحياة تحت الرغام

إنما أنت صرخة الحق في الشر

ق، وبعث لعزة الإسلام

إنما أنت رجعة البطل الظا

فر من ساحة الوغى والصدام

إنما أنت عودة النور والآ

مال، بعد الظلام والآلام

لك في الشرق يا ابنة النيل ذكر

ومقام أعظم به من مقام

في فلسطين كم أسوت جراحا

ت وكفكفت من دموع سجام

ذدت عنهم أذى المغير بقول

يتلظى لهيبه المترامي

ولو اسطعت غيره ذدت عنهم

بشبا الرمح، أو بحد الحسام

في فلسطين! أين ما كان في مص

ر، وأرض العراق أو في الشًام؟

قد ربطت القلوب بعد انفصام

وجمعت الصفوف بعد انقسام

وزرعت الآداب في شاطيء الني

ل، ورؤيتها بماء الغمام

فزكا أصلها، وطابت فروعاّ

وتباهت بزهرها البسام

واستوت تحت ظلها لغة الدًي

ن، وقامت على أعز دعام

وحميت الأخلاق من سطوة الشر

ر، وبغى الهوي، وجهل الطغًام

وجمعت الشباب في ظل نبع

عبقري الرؤى، طهور، سام

رفرفت فوقه الأماني، وغنت

في رباه عرائس الإهام

وهفت نحوه المواكب شتى

تتشكى مما بها من أوام

فاسلكي في النفوس من نبعك العذ

ب، وبثي الحياة في الأجسام

واحملي المشعل الكبير، وسيري

في طريق الحياة نحو الأمام

واهزئي بالفناء يا زهرة الني

ل، وعيشي على مدى الأعوام

وابسمي للخطوب إن عبس الدًه

ر، ولا تعبئي بكيد الخصام

ص: 37

ولك الحق غاية وطريق

وإمام. . . أنعم به من إمام

ولك الله ناصر ومعين

وهو نعم النصير، نعم الحامي

(طنطا)

إبراهيم محمد نجا

ص: 38

‌البريد الأدبي

1 -

متى ينضج الأديب؟

من قراء (الرسالة) شاب يقيم بإحدى قرى المنوفية، وهو شاب يشتعل حماسةّ لأدبه، ويؤمن بأنه مظلوم أقبح الظلم، لأن (الرسالة) لا تلتفت إلى ما يرسل إليها من القصائد الجياد

كتب إليً هذا الشاب منذ شهرين خطابا يشرح فيه الأستاذ الزيات عن فنه الجميل، وكان خطابه قطعة نثرية مقبولة، فرجوت أن يكون شعره مثل نثره، ودعوته إلى إرسال إحدى قصائده (لأتوسط) في نشرها بالرسالة، فجاءت منه قصيدة طويلة تشهد بأنه بعيد من الصياغة الشعرية، وإن كان على شيء من قوة الإحساس. . . وكانت النتيجة أن أشارك هذا الشاب في حقده على الأستاذ الزيات لتغافله عن القيمة (الصحيحة) لأشعار المبتدئين!!

وفي هذا اليوم تلقيت خطابين من هذا الشاب يفيضان بالتوجع والتفجع، وينذران بخاتمة أليمة، إن قصًرت في تشجيعه على نشر ما يريد. والخواتم الأليمة معروفة، وأخفها أن يحبس الشاب نفسه في قرار النيل إلى يوم البعث، بعث الأشعار والأجساد!

وقد تفضل هذا الشاب بإرسال صورته إليً، فقد تبخل الأقدار بأن أراه، وعندئذ تكون هذه الصورة مبعث ندم مقيم على ما ضيعت عليه من فرص التشجيع!

وأجيب بأن لهذا الشاب أن يقتل نفسه حين يشاء، ما دام يتوهم أن الحياة كل الحياة أن ينشر قصيدة في إحدى المجلات، وإن لم يصل إلى النضج الصحيح

لقد قلت ألف مرة ومرة: إن التسامح مع المبتدئين جرم فظيع، لأنه يهوًن عليهم الحياة الأدبية، ويوهمهم أن الأدب لا يفرض على أصحابه تكاليف من الدراية والخبرة والاطلاع على أسرار الوجود

اسمع. يا بني

تنقسم الأخشاب إلى أنواع: خشب للوقود، وخشب للسقوف، وخشب للنوافذ والأبواب، وخشب لدقائق الأثاث، والنوع الأخير هو أثمن الأخشاب فهل تعرف أعمار هذه الأصناف؟

تتفاوت أعمارها بحسب القيمة، فمن الأخشاب ما ينضج في خمسة أعوام، ومنها ما ينضج في خمسين عاماّ، لأن الطبيعة لا تقدر على إنضاج الصنف الجيد إلا في الأزمان الطوال

فكم سنك، يا بني؟ كم سنك، فلن تكون قيمتك إلا بقدر ما أنفقت الطبيعة من الزمن في

ص: 39

تكوين عقلك؟

صورتك تحدثني بأنك لم تجاوز العشرين؟ فهل تصدًق أن الأديب الجيد يتمً لأحد في سن العشرين، تلك أيام خلت، حين كان جمهور الشاعر والخطيب من عوامً الناس، أما اليوم فجمهور الشاعر والكاتب والخطيب، جمهور مزوًد بثقافات لا تخطر لمن كان في مثل سنك على بال، وهو جمهور لا يتصدق على أحد بالمنازلة الأدبية، وإنما يخضع راغماّ لسيطرة العبقريين، أو شهرة النوابغ، فانتظر حظك إن استمعت قولي وأجلت توديع الحياة إلى أجل بعيد

وتقول إنك تحب، وإن لك عواطف تستحق التسجيل فما أنت والحب، وهو من مثلك أشبه الأشياء بعبث الوليد؟ الحب من مثلك فورة سطحية لا تصل إلى أعماق الروح، لأن الحب أيضاّ يفرض ألواناّ من التثقيف، وهي عزيزة عليك، لأنك في سن العشرين، سن الأطفال، فإن لم يكن بد من أن تعبر عن عواطفك فعبًر عنها بأسلوب من يكون في سنك، وذلك بعض الأنامل، أو نطح الجدران، أو الامتناع من تناول الغذاء!!

اسمع، يا بنيً

لعلك خدعت بما كان يقال من بخل الكهول بتشجيع الشباب، فجئت تتهم صاحب (الرسالة) بالتجني عليك، فاعرف الآن أن ذلك اتهام مردود، وإنما الحق كل الحق أنك لم تقدم شيئاّ يحسن عرضه على القراء، فأنت ما زلت في دور التكوين، إلا أن تريد أن يكون عمر مواهبك قريباّ من عمر خشب الوقود، وهذا أيضاّ أنواع، فخشب السنط يحتاج إلى عمر أطول من عمر الصفصاف، ليكون أقوى وأنفع، والقوة والنفع لا يوهبان في الزمن القليل

يجب أن يعرف شبان اليوم أن الصحافة الأدبية ليست ميداناً للتمرين، فالقارىء لا يدفع (القرش) إلا إذا اطمأن إلى أنه سيجد زاداً للعقل والقلب والذوق. والصحافة الأدبية هي عنواننا في الشرق، فيجب أن تكون حروفها من عصارة العقول والقلوب، وتلك هي المزية الأصيلة للصحافة الأدبية في هذا الجيل

أنا هذا، وأنا، فقد كنت أحب أن يكون في الصحافة ميدان للتمرين، ولكن ما الذي يصنع الصحفيون وقد صارت الصحافة من الميادين الاقتصادية، والنضال في عالم الاقتصاد لا يفوز فيه إلا من يقدمون أجود الأصناف؟

ص: 40

قلت لكم من قبل إن الكاتب الذي يعتمد على ماضيه كاتب مخذول، لأن القارىءيحكم على الكاتب بآخر مقال. ولمجلة الرسالة ماض جميل، ولكنها لا تعتمد عليه، وإنما تعتمد على ثروتها الجديدة في كل أسبوع، فاعرف ذلك أيها الأديب المنتظر. أعد نفسك لجهاد الأيام المقبلات. كتب الله لك العافية، ونجاك من جميع الأسواء؛ إنه قريب مجيب.

1 -

الى الأستاذ سباعي بيومي

نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبيد عن كلام وقع منك وأنت تحاضر عن المبرد بمدرسة دار العلوم، فقد تحدثت عن أخلاق الشيخ سيد المرصفي بما لا يليق، فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاء على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يتعرض لأخلاق الشيخ سيد المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء

وإلى أن يثبت الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك، فقد كنت أظن أنك تعرف أن الشيخ سيد المرصفي لم تلاميذه يحفظون عهده الوثيق

وسنرى كيف تجيب، إن كنت في العدوان عللا ذلك الرجل العظيم من الأبرياء

زكي مبارك

بحث لا تجريح

عزيزي الأستاذ الزيات

بعد التحية. أرجو أن يتسع عدد الرسالة القادم لرد أطلعني عليه اليوم عبد الرحمن أفندي أيوب الطالب بدار العلوم على التعليق الذي نشر في عدد الرسالة الماضي على محاضرتي (أسلوب المبرد في كامله) ولك الشكر

السباعي بيومي

. . . مسألة المرحوم المرصفي لم تبلغ من الأمر ما وصف، وبفرض ذلك فمنذ متى كان المرصفي من المقدسين الذين لا تجوز تخطئتهم ولا نقدهم؟ وإذا كان لتقدمه في الزمن سلفاّ صالحاّ_كما يعبر الكاتب_مبرأ من العيوب، أفليس من باب أولى أن يكون المبرد تبعاّ لهذا القياس أصلح منه وأقوى لغة وأدباّ وعلماّكما هو الواقع، يزين كل هذا تواضع واعتراف

ص: 41

بأن هذا أمر لا يعرفه إذا لم تكن له به سابقة علم، بينما يعبر المرصفي بقوله:(كذب المبرد في هذا)، و (المبرد في هذا كاذب) دون تورع عن هذا التعبير الجاف الجافي

إن الأستاذ السباعي لم يقل عن المرصفي إلا أنه كان يملكه الغرور؛ والمرصفي ذاته يسجل على نفسه هذا في كل ما كتب خاصة في مقدمة (رغبة الآمل وأسرار الحماسة)، وكأنه لا يعترف لأحد سواه بعلم من المتقدمين أو المتأخرين

والأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد؛ فهو قد كتب (تهذيب الكامل) من أكثر من عشرين سنة؛ ثم كانت طبعته الأولى سنة 1923. فهل يستطيع الزميل أن يريني مظاهر الأستاذية بعد أن يعلم أن الطبعة الأولى من رغبة الآمل كانت سنة 1930، وأن فهارس الكتاب وعناوينه تتفق إلى حد كبير مع تلك التي كان أستاذنا السباعي أول من نظمها في كتابه الذي سبق كتاب المرصفي بنحو سبع سنين. أم أن الأمر لا يعدو أسبقية الزمن فيحكم الزميل بهذه الأستاذية في سذاجة سطحية

إن الكمال العلمي لا يهتم كثيراّ بالتوافه، وإن السماحة الفكرية في دار العلوم تسمح بكل شيء إلا التهجم والنيل المستور بستار من الغيرة أو الحماسة للعلماء

عبد الرحمن أيوب

القصص

من أيام الصبا

للأستاذ محمود البدوي

كنا خمسة. . . خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس، والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه. . . كنا قد انقطعنا عن المدرسة، وتخلفنا عن الرفاق، وسرنا مع نزق الشباب وطيشه، فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب، وتقطعت بنا الأسباب. . . وذهبنا على وجوهنا نبغي العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء. . . ثم ارتددنا على أعقابنا، وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات. . . فانطلقنا نعمل في الحقول ونشرف على حراسة المزارع. . .

وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا، وأصبحنا أقوى ساعداّ وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون

ص: 42

حياتهم بين أحضان الطبيعة، ناعمين بالحياة الحرة، في الهواء الطلق، والجو المشمس. . .

كنا جالسين في حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب. . . وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد، فحرمنا بذلك من أمتع (أيام الصبا) ولهوه. . .

كنا نقف وراء صفوف الحاصدين ونرقب هذه السواعد القوية وهي تطوي سنابل القمح طياّ، وخلفنا الفتيان الأشداء يكومون الأحمال وينيخون الإبل، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط، ويجمعن قوت الأيام السود. . . وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول. . . كانت أسواطنا تخطىء دائماّ. . . ومع ذلك، فما قطعنا القلوب حسرات، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم. . . كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا. نتخذ من عطلة الصيف وأيام الحصاد مرتعا خصبا لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة. . . ونظل النهار بطوله واقفين في قلب المزرة تحت لفح الشمس، لا نكل ولا نمل، لأننا نرى في كل ساعة وجها فاتناّ صبوحاّ من تلك الوجوه القروية النضرة التي تستغرق الطرف، وإن كانت تعيش في ظلام الفقر وبؤسه. . .

فاذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم الشجية. . . حتى نبلغ الأجران، فتناخ الإبل، وتفك عنها أحمالها، وهي تهدر هديراّ قوياّكان يبعث فينا النشاط والحماسة والقوة. . .

فإذا تمت الأجران وعلت كالأطواد اتخذنا من ظلالها

جائزة بابا نويل

ذكرتني مقالة (ذوي السلطان) في بعض أعداد الرسالة الأخيرة بعظيم آخر من المتعاقلين المتعالين كنت مرؤوساّ له يوم نشرت ترجمتي لأقاصيص طاغور، وقد أهديت نسخة منها إليه بمحضر من بعض أصدقائه

قال وهو يتعالم: (طاغور هذا رجل عظيم)

قلت: (هو ممن حازوا جائزة نوبل)

وما كدت ألفظ بكلمة نوبل حتى بدت عليه علائم خيبة الأمل فيً وقال في صوت شديد الدلالة على الأسف: (أو أنت أيضاّ تنطقها بالباء)

ص: 43

قلت فما صحتها أفادنا الله بعلمك؟ فقال هي جائزة بابا نويل وقد حذفت كلمة بابا على سبيل التخفيف، ثم شاعت كلمة نوبل من باب التحريف

قلت أفادكما الله! وما أحسب الحائزين لجائزة نوبل إلا فرحين مبتهجين لو ردت إليهم الطفولة فاستبدلوا بالجائزة هدية من هدايا بابا نوبل

وانصرفت مع أحد الذين حضروا الحديث، فقلت له ما رأيك فيما سمعت؟

قال: العلم واسع

قلت: والجهل أوسع

عبد اللطيف النشار

وأوكارها أعشاشاّ لغرامنا. كان كل شيء في تلك الساعات النزقة اغتصاباّ وقسوة. كانت لنا الساعة التي نحن فيها، لم نكن نفكر في المستقبل، ولا كانت عيوننا ترتد إلى الماضي. كنا نطوي الشهور في المزارع بين الرياض والغياض، ولا نرى منازلنا إلا نادراّ. كان من الصعب علينا أن نحبس قوتنا الدافقة وحيويتنا العظيمة بين الجدران. كنا كالأعشاب البرية وهي تنمو تحت أشعة الشمس على أتم غراس وأنضجه، نفتح سواعدنا عندما يشعشع النور ونستقبل بصدورنا ندى الفجر، ونود من قوة عضلاتنا لو نقاتل ونرضي تلك الغريزة الفطرية في الإنسان

كنا مسلحين دائماّ حول أجسامنا أنطقة البارود، فإذا أقبل الليل وضل إنسان العين في سواده، صوبنا بنادقنا في كبد الفضاء، وأطلقنا النار وأرسلنا عيوننا وراء سهام البارود النارية وهي تخترق حجب الظلام الكثيف، وملأنا خياشيمنا برائحة البارود. . .

كانت تلك الليالي من أمتع ليالي حياتنا، وكانت ذكراها تبعث فينا الحماسة والنخوة. . . كنا نذكرها وكأننا ننظر إلى حلم جميل ولى

رحنا نسترجع تلك الذكريات الحلوة ونحن جالسون في هذه الليلة الصيفية المظلمة على جرن عال يشرف على أجران المزرعة، والظلام من حولنا شديد، والمكان موحش رهيب. . .

وكان جرن كبير من الأجران قد ذرىً وأعد قمحه للمخازن. وكان علينا أن نسهر عليه حتى تنطوي فحمة الليل، فأخذنا نتبادل الأحاديث الممتعة ونطرد النوم بكل الوسائل. . .

ص: 44

أوقدنا النار، وشربنا الشاي، ولمعنا البنادق وملأنا خزاناتنا بالرصاص

وكان ينهض واحد منا كل ساعة ومعه كلبان من كلاب الحراسة، فيدور حول المزرعة ويتفقد مرابط الخيل وحظائر الماشية. . .

ونهض أحدنا، وكنا مستغرقين في الحديث فلم نشعر بغيابه. . .، وسمعنا على غرة نباح كلاب شديد قادم من شرق المزرعة. . . ثم ومض البارود، وأز الرصاص، وملأ الدخان عنان الجو، فنهضنا مسرعين واتجهنا إلى الناحية التي سمعنا منها صوت الطلقات. . . ثم خفنا أن تكون هذه حيلة بارعة لتبعدنا عن المزرعة، فعدنا إلى مكاننا وأعيننا لا تتحول عن سهام النيران الحامية. . .

وانقطع صوت النار وبقى صوت الكلاب، وأخذ نباحها يقترب منا. . . ثم برز شبح في الظلام، فصوبنا بنادقنا وهتفنا بالقادم. . . فرد علينا اسماعيل (أحد رفاقنا) بصوت أجش. . . واقترب منا وهو يلهث، ووجهه يتصبب عرقاّ، وغدارته تفوح منها رائحة البارود. . .

فصحنا في صوت واحد

- وهل أصبت. . .؟

- لا ولله الحمد. . . وإنما كدت أن أقتل. . . وكل ذلك بسبب هذين الملعونين. . .

واستطرد وهو يشير إلى واحد من الكلبين

_ لن ترافقني مرة أخرى يا مسعود!

فسأله رفيق له:

_ هل مررت على القرية؟

فأجاب في إيجاز متعمد:

_ أجل. . .

_ وهل كان من الضروري ذلك في هذه الساعة من الليل. . .؟

_ أجل. . . كنت في حاجة إلى تبغ. . .

_ أكنت في حاجة إلى تبغ أم كنت في حاجة إلى شيء آخر. . .؟

فصمت ولم يجب على أن وجهه كان ناطقاّ بفعلته. . .

وسأله أحدنا مازحا:

ص: 45

_ أكنت تعس حول المزرعة أم كنت تسطو على بيوت الناس؟. . . هكذا والله هي الحراسة. . .

وضحكنا جميعاّ، وعدنا إلى مكاننا الأول من الحقل، وجلس اسماعيل ناحية، وأخذ يمسح بندقيته، وعلى وجهه سمات من ارتد خائبا بعد جهاد طويل

وسأله أحدنا:

_ ولكن لماذا أطلقت النار. . .؟

_ أنا لم أبدأ بإطلاق النار، وإنما هم الذين بدأوا. . .

_ هم. . .! من هم. . .؟ من الذي أطلق عليك النار. . .؟

_ بصر بي بعض الفلاحين عندما نبح هذا الكلب الملعون وظنوني لصاّ. . . وكنت على قيد أذرع من خبائها. . . فأطلقوا النار في الهواء. فغبت في جوف الظلام وأطلقت طلقتين معاّ. . وجريت. . . وحلت لي هذه المطاردة وتصورت نفسي لصاّ يبغي السرقة لا مخلوقاّ دنيئاّ يسطو على خباء امرأة في غلس الليل وتحت ستاره! وبادلت الفلاحين الطلقات السريعة. فظنوني عصابة كاملة من الأشقياء ثم راوغت تحت جناح الليل ووليت هارباّ

_ ما كان أحلاها قتلة. . .!

_ أجل والله ما كان أحلاها قتلة. . . وما كان أطيب وقع النعي على نفسها. . .!

وقال عثمان وهو يبتسم ابتسامة عريضة وكان أشد رفاقنا بطشاّ وأعظمهم قوة:

_ أي مشقة يلقاها الرجل دائماّ وهو في طريقه إلى الرذيلة ومع ذلك لا يزجر. . .!

وصمت برهة ليشعل لفافة تبغ. . . والابتسامة لا تبارح وجهه القوي التعابير الدقيق الملامح. . . ثم أجاب على سؤاله بنفسه:

_ لماذا؟ أجل لماذا؟ ألأن ركوب الصعب من الأمور دائماّ شائق، أم لأن الاستيلاء على ما في حوزة الناس فيه إمتاع ولذة؟ ماذا كان يحدث يا صاح لو رآك زوجها. . . أي موقف حرج. . . دفعت نفسك فيه. . . وأي مصيدة؟ أنا أعرف أن المرأة هي علة الشقاء الإنساني. . . كما أنها قد تكون علة هنائه أيضاّ. . . ذكرتني أيها الأخ الشهم. . . بحادث كدت أن أنساه فما تحدثت به لإنسان؛ بيد أني أشعر برغبة قوية تدفعني إلى أن أقصه عليكم. . .

ص: 46

فسررنا وتوقعنا في حديث صاحبنا مغامرة ممتعة نتسلى بها حتى انبلاج الصبح

ونظرنا إليه في شوق ولهفة، وكان قد أطرق، ثم رفع وجهه وقد غامت عيناه قليلاّ، ثم لانت ملامح وجهه. وأنشأ يقول بصوت واضح النبرات:

_ كنت في التاسعة عشرة من عمري وفي أول دراستي العالية، وكان قد مضى عليً سبعة أعوام في القاهرة قضيت جانباّ منها مع بعض أقربائي، ومضيت الجانب الآخر مع بعض الأسر الفرنجية التي تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن أهاليهم. . . وكنت دائماّ أتخير الأسر الهادئة الكريمة الخلق وأقمت مرة مع سيدة أجنبية، وكانت صبية جميلة وحديثة العهد بالقاهرة. وكان زوجها يعمل سحابة النهار وجزءاّ كبيراّ من الليل، وكنت أرجع من المدرسة في الساعة التي يكون فيها الرجل قد عاد من عمله. . . ولهذا ما كنت أراه إلا نادراّ. وكانت الزوجة مع جمالها دمثة الطبع، طيبة الأخلاق؛ فأخذت تعني بي عناية فائقة: ترتب غرفتي، وتنظم كتبي، وترتق ملابسي الممزقة وتعمل لي أكثر مما تعمل لزوجها. وكانت تحب أن ترى ما في القاهرة من حسن، فزرنا معاّ أجمل الضواحي وأنضر البساتين، وهي تزداد بي كل يوم تعلقاّ وألفة، حتى توثقت بيننا عرى المودة وأصبحت تترقب عودتي من الجامعة أكثر مما تترقب عودة زوجها من عمله، وأصبحت ألج عليها غرفتها في أي وقت، وأراها على أي حال تكون عليه. . .

ومرت أيام وأنا لا أحس بوجود الزوج معنا في منزل واحد وأصبحنا من وفرة السعادة كأننا في حلم جميل. . .

رجعت مرة إلى المنزل ساعة الظهر فلم أجد السيدة في ردهة البيت كعادتها، وكنا في قلب الصيف، والحر شديد فتمددت عل فراشي ونمت. واستيقظت قبل مغرب الشمس وهتفت باسمها فلم تجب. . . فنهضت من فراشي ومشيت نحو فسحة البيت فرأيت باب غرفتها موارباّ فأدركت أنها نائمة

وحركت بابها برفق. . . ودخلت وعيني على السرير. . . فوجدت جسماّ ممدداّ ملتفاّ في ملاءة بيضاء. . . وحلى لي أن أداعبها قبل إيقاظها فتقدمت من السرير حتى قربت منها وجذبت رجلها فلم تتحرك. . . فتحولت إلى خصرها ودغدغتها. . . ووقفت أرقب حركة جسمها وأنا لا أكاد أتماسك من مغالبة الضحك المكتوم. . . وتحرك الجسم أخيراّ وانزاحت

ص: 47

الملاءة. وظهرت مقدمة رأس. . . رأس صلعاء. . .!

فذهلت وسمرت في مكاني مبهوتاّ

_ كان وجه زوجها. . .؟

_ أجل. . .

فانفجرنا ضاحكين. . . ولما هدأت عاصفة الضحك عاد الصديق إلى حديثه

_ كان موقفاّ حرجاّ. . . فشدهت. . . ووقفت ذاهب النفس وجسمي يتصبب عرقاّ. ثم رأيت نفسي أقول في غضب بصوت المحموم:

_ سأغادر الغرفة يا سيدي. . .!

فنظر إلى الرجل دهشاّ. . . وقال وهو يصعد في بصره:

_ ستغادر الغرفة! ما السبب يا سيدي! ما الذي جرى؟

_ أثاث الغرفة رث. . . ثم هي بعد ذلك متناهية في القذارة

_ كيف ذلك يا سيدي وقد جئنا لك بكل شيء جديد؟

_ أبداّ إنها غاية في القذارة

وتدفق من فمي كلام لا أعرف له مرمى وكان لا بد من ذلك لأنجو بأعصابي

وعدت إلى غرفتي وأنا لا أكاد أتصور شيئاّ مما حدث، ولازمتني حالة من الهدوء غريبة. . . ثم لبست ملابسي وخرجت إلى الطريق. . . وهنا عادت إليً الخواطر وأخذت أتصور الموقف على شناعته وحال الزوج بعد أن يرجع إلى نفسه ويدرك أني كنت متهجما على مخدع زوجه. . . وواضعاّ يدي على سريرها. . . وجسمها. . .!

وظللت جزءاّ كبيراّ من الليل وأنا متردد بين العودة إلى المنزل أو إيفاد صديق ليجيء لي بمتاعي وكتبي. . . ثم رأيت الرأي الأول واتجهت صوب البيت وأنا مقدر كل الأحداث. . وكان الزوجان قد ناما. . . وبقيت أساهر النجم حتى الصباح. . .

ورأت الزوجة في اليوم التالي جالسة تقرأ في كتاب على أريكة في الردهة. . . فمررت بها وأنا أذوب خجلاّ. . . وتطلعت إلى وجهها فرأيته لا ينم على شيء مما حدث بيني وبين زوجها، فقد كانت تبتسم في مرح. . . فغاظني هذا وبلغ مني الألم مبلغه

وقضيت بعد ذلك أياماّ في البيت ونظري لا يقوى على مجابهة الرجل، وكان يغيظني منه

ص: 48

بروده وهدوءه وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغاّ هائلاّ من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى في صمته تبييتاّ لأمر في نفسه، وكنت أود لو يثور ويضاربني وتنتهي المعركة بيننا مع أسوإ الفروض

وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ولم أعد إليها بعد ذلك أبداّ. . . تركتها فخلفاّ فيها أمتعتي وكتبي. . . وهي تذكار دائم على أيام هنية

ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة. . . وأغلب الظن أنهما لم يغيرا المنزل. . . كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاّ بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أي انفعال نفساني. . . أو عاطفة من عواطف الجنس البشري أما المرأة فقد أصيبت بأزمة نوعا!

وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن، وعدنا نشرب الشاي، وكان الفجر قد قرب وبدت خيوط النور في الشفق، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة، وكنا قد تعشينا في أول الليل، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره فقد اشتدت وطأة الجوع وأخذت بطوننا تعصرنا عصراّ. . .

وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا. وجلسنا في انتظارهما بصبر فارغ وقد انقطعنا عن الحديث. وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غباراّ شديداّ يسد عرض الأفق. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعاناّ كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعي الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة. . . وظهر أمامنا رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين. . . وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب وخلف القطيع امرأة ترتدي دثاراّ أسود فاحماّ. . . وتهش بعصا رقيقة على الغنم وتزجر في صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها. . .

وقربت القطعان منا. . . وكان أحد الرجلين معلقاّ في عنقه مزماراّ طويلاّ. . . أما الآخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم. . . وأخذنا نرقب القطيع بعيني الصقر حتى بعد عنا فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا. وحدجنا الأحمال الصغيرة التي تتوثب حول القطيع الماضي في طريقه بعيون جائعة ومر في ذهننا خاطر سريع ودون أن ننبس بكلمة انسللنا في أثر القطيع متجنبين طريقه. . . وجرينا شوطاّ، ثم كمنا

ص: 49

في جرن كبير من أجران القمح الهش في أقصى المزرعة ومرت قطعان الضأن وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها. . . وجاوزوا حدود المزرعة وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت في صمت وسكون عجيبين. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها. وكان في القطيع حمل صغير ما فتيء طول الطريق يتوثب ويركض في كل اتجاه، ويضرب برجليه الأرض. فلما سمع صوت المزمار سكن أيضاّ واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع. . . وكنا قد تهيأنا له لنقتنصه. . . فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا وعجزنا عن الحركة، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم. . . ورجع المزمار الحلو يتردد. كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوي وحده في هذا الليل وهذا السكون. ظللنا في مكاننا حابسين أنفاسنا، وصوت المزمار يهفو، والقطيع يسير، ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك

ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التي اعترتنا في تلك الساعة. أكان ذلك من تأثير الموسيقى، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى

وعاد الرفيقان الذاهبان في طلب الكروم. . . وكان أحدهما يحمل كروماّ، أما الآخر فكان يحمل شيئا ّآخر. . . كان يحمل حمل الضأن الذي أفلتناه من أيدينا

وأشعلنا النار وشويناه. . . وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوي لحمه. . . ونتصوره منذ لحظات وهو يجري ويتوثب بين رفاقه مرحاّ سعيداّ طروباّ، فيعصر الهم أفئدتنا

ولما جلسنا نأكل انقطعنا جميعاّ عن الكلام كأن على رؤوسنا الطير. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر في جوفنا تمزق أحشائنا تمزيقاّ. . . كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجري ويتوثب والقطيع يسير والمزمار يزمر

محمود البدوي

ص: 50

‌من وراء المنظار

2 -

صاحب السلطان الحقيقي

قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعاً ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلساً من مجالسه ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصاً إنساني كل متعة وحقر في نفسي كل فرجة فأعددت منظاري وظللت أنتظر بصبر فارغ وشوق نازع حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور وهو يفضي إلي بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة

وتفضل الرجل فدعا شاباً من ذوي قرباي كان معي فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ. وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلئ رأسه بفلسفة الفلاسفة. ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظاراً مثل منظاري، أو لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة. فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جدً أذكياء وأنهم يسيرون على قواعد (سيكولوجية) دقيقة تغيب عن الإغفال من العامة.

وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته فيفضح بخله في المجلس

وبلغنا الدار فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ. ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ وفي أيديهم (صينيات) القهوة والقرفة والشاي ووجوههم جميعاً متهللة مستبشرة

ص: 51

ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعاً وقوفاً لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكئ على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعاً أسهل عليً من أن ألثم تلك اليد الكريمة؟

وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناً في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنستريح في جلستنا في ملابسنا الإفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيفانه، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعاً وفي وجهه الراحة والضيق معاً، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة

واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ. وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء. ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته ولأنه لا يعرف صوت الشيخ. وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال:(هيه. . . سبحان من يرث الأرض ومن عليها. . . هو حد منا راح يأخذ حاجة معاه. . . إيه نصف ريال ولا نصف جنيه ولا حاجه فارغة زي دي. . . يا ما فلوس بتروح في المسخرة)

وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لا نستطيع لما نسمع من الأيمان لها رداً. ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفاً ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيراً بحريق جديد؛ وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن

ص: 52

يدعى عمر كرة أخرى. فهب الشيخ واقفاً من فوره، ففطنت أنه لن يطيق أن يسمع اسماً من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الظن من صحة فاتسق لي القياس كل مرة

وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئاً فشيئاً على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!. . .

ودخل رجل فشكا إلى الشيخ أن ابنه لا ينام ليله مستريحاً، وتناول الشيخ ورقاً وقلماً وخط له حجاباً وصرفه فخرج الرجل فرحاً مطمئناً. ودخل ثان فشكا إليه أنه محروم من البنين وأنه يتحرق شوقاً إلى غلام يؤنسه وللشيخ ما يطلب. وضحك الشيخ من سذاجته إذ يصرح أمام الناس أو يظن أن الشيخ يطلب شيئاً، وطلب الشيخ منه منديلاً فلم يجد معه شيئاً فأخذ طاقيته ووضعها في حجره وقرأ ثم قرأ وردها إليه وبشره بغلام؛ ونهض الرجل وكأنه يحمل بين يديه ذلك الغلام. . .

ودخلت امرأة ملففة في ثيابها وطرحتها ترجو من الشيخ رقية لوحيدها كي يعيش، فجاد عليه الشيخ برقية وخرجت المرأة مزهوة؛ ودخلت بعدها غيرها تستجير ببركة الشيخ، فإن ابنتها يرتعد جسدها الملتهب وتمسكها (الملعونة) حتى ما تفارقها؛ وفهمت أنا أن المسكينة مريضة بحمى كانت الملاريا، وأمرها الشيخ أن تحضر وعاء به ماء، فذهبت فأحضرته، وتناوله الشيخ فقرأ ثم قرأ، وصاحبي ينظر دهشاً، وبصق فيه الشيخ بصقه على رغم علم صاحبي وفلسفته، وناوله المرأة لتشرب ابنتها من ذلك الماء أثناء الليل، وكم تمنيت لو قفزت من مكاني فحطمت ذلك الوعاء وأسلت بركته على رأس الشيخ!

ودخل شاب قوي البنية، بادي الجرأة، فما دنا من الشيخ حتى صرخ الشيخ في وجهه يطرده ويصيح به: أيها العاصي، ابعد عني. وتوسل الشاب إليه حتى سمح له بالجلوس، وأمر الشيخ دراويشه، فطرحوا ذلك الفتى ورفعوا رجليه على نحو ما فعل معلم الصبيان في المكتب، وتناول الشيخ عصاه وهم يضربه. فاستجار الفتى بالنبي، فألقى الشيخ العصا وهم واقفاً، ثم أمر أعوانه فأطلقوه، وأخذ عليه الشيخ العهود والمواثيق ويده على المصحف، ثم صرفه والناس يعجبون كيف عرف الشيخ أنه شقي، ونسوا أن للشيخ دراويش هم

ص: 53

مصدر علمه اللدني العجيب

وجاء بعد ذلك أمر حيرنا معاً أنا وصاحبي، وحار منظاري حتى كدت أشك أن الشيخ قد أفسد عليّ بكراماته سحره، فقد جيء للشيخ بأربعة فتيان متهمين في سرقة فجلسوا أمامه يرتعدون فرقا وكلهم ينكر ما نسب إليه، ولما يئس منهم الشيخ طلب بيضة بطة أو إوزة فذهب صاحب الدار ليحضرها ولما عاد بها قابله أحد الدراويش عند الباب وأخذها منه، ثم وضعها في جيبه حتى طلبها الشيخ فأخرجها وأعطاها إياه أمام أعيننا ووضعها الشيخ تحت يسراه، ثم قرأ وقرأ وقال إنه سيرفع يده فتتجه البيضة إلى السارق، ونظر في وجوه الفتية فأصروا على إنكارهم. وما كان أشد عجبي وعجب الجالسين جميعاً أن رأينا الشيخ يرفع يده فتظل البيضة في مكانها بضع ثوان، ثم تبدأ تتدحرج وتقف، ثم تتدحرج وتقف، وعظم خوف السارق بطبيعة الحال، وقبل أن تنحرف البيضة إلى من سرق أخذها الشيخ وقد بعدت عنه نحو ثلاثة أذرع وأمر الفتية أن يخرجوا فيفضي من سرق منهم بسره إلى من يرسله معهم من الدراويش، وعاد ذلك الدرويش بعد قليل يحمل المصاغ المسروق!

وأقبل من في الحجرة على الشيخ يقبلون يديه، ونظر إلي صاحبي وقال في لهجة عجيبة:(وما قولك؟ بل ماذا يرى منظارك في هذه المعجزة؟) ونهض الشيخ واقفاً فدعا دراويشه ومن جلس معه إلى (حلقة ذكر) وبدأ ذلك الذكر في حماسة شديدة واشتدت الحركات وارتفعت الأصوات، ونسى الناس أنفسهم حول الشيخ وعظمت الرهبة في وجه صاحبي الشاب فأمسكت بذراعه مخافة أن يثب فينضم إلى الحلقة!

وكان موعد تقديم الطعام قد قرب فانتظرنا وصاحبي حتى انتهت لحظة التجلي، وخرجنا بعد أن سلمنا من بعد على الشيخ ومن معه وسرنا وصاحبي يسألني في لهجة كلهجة طفل خارج من ملعب يستوضح أباه حركة (بهلوان)؛ ولم نكد نبعد حتى سمعنا من يشاركنا الحديث، فإذا هو أحد دراويش الشيخ السالفين وهو اليوم من الخارجين عليه، وقال ضاحكا: طول ما في البلد مغفلين وأكل العيش سهل. يا سيدنا الأفندي البيضة كانت موجودة في جيب صاحبنا غير الثانية، وهي فارغة وفي جوفها خنفسة. . . دا شغل إحنا عارفينه، وبكرة يا ما يشيل الشيخ من الطيور والسمن والخرفان وهو خارج من البلد. وضحك صاحبي وأخذ يعود إلى جحوده ونكرانه

ص: 54

الخفيف

ص: 55

‌العقد الفريد

للأستاذ محمد سعيد العريان

بعد أسابيع قليلة، تظهر الطبعة الجديدة من كتاب (العقد الفريد) التي تنشرها المكتبة التجارية بالقاهرة، في ثمانية مجلدات؛ وقد حققها وضبطها وراجعها على مصادرها الأولى الأستاذ محمد سعيد العريان

(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراً من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)

يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبيين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ

على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاً إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاً بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراً من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لا يغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب

والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك من ينظر فيه أن يجزم بأنه لم يغادر شيئاً مما يهم الباحث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني بـ (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد مؤلف هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباً من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاً من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم

وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عبد

ص: 56

ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد

وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاً إليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظر إلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه:(هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفي على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)

هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب - توفي سنة 808 هـ، كان معروفاً لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب مناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه

ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراً مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره

ص: 57

الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاً منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء

على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجتمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز عليه ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع. ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق

ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة

يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء

ص: 58

وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟

انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟

لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه - للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضاً نظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روى من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية

على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراً أو قليلاً بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشارقة.

(البقية في العدد القادم)

محمد سعيد العريان

ص: 59

‌الشروق.

. .

(مهدأة إلى (الرسالة) عروس المشرق في صباح عيدها

التاسع)

للأستاذ محمود الخفيف

شدَّ مَا ذَكَّرَ قَلْبِي الْفَرَحَا

مَوْلِدُ النُّورِ عَلَى الأُفْقِ الْبِعيدِ

كَمْ هَفاَ الْقلْبُ إليه وَصَحَا

وَاجْتَلَى في الشَّرْقِ هَذا الوَضحَا

وَرَأَى في كلَّ رُكْنٍ بَسْمَةً

حُلْوَةً تُهْدَي إلي الصُّبْحِ الوَليد

في شِعَابِ النَّفْسِ أَلْقَي الاْبِتسَامَا

فَلَقٌ هِمْتُ بِمَسرَاهُ الَمدِيدِ

زِدْت مَا دُرْتُ بِعَيْنيَّ هُيَامَا

بِسناً يَا حُسْنَهُ إذ يَتَرَامَى!

لَمَحَاتٌ كابْتِسَامَاتِ الْمُنَى

وَرُؤًى مِثْلُ رُؤَى الُحْلمِ السَّعِيد

السَّنَا الوَرْدِيَّ حَوْلَ الأُفُقِ

ذَابَ في فَيْضٍ من النُّورِ جَدِيدِ

ملْءُ نَفْسِي سْحرُ هَذا الشَّفَقِ

أَلَقٍ أَجْمِلْ بِهِ مِنْ أَلَقِ

أَمْسِ كَمْ كَانَ لِرُوحي مَنْهَلاً

قَبْلَ هَذا الثُكْلِ في قَلْبِي الشَّهِيدِ

رَفَّ قلبِي للسَّنَا الُمنْسَكِبِ

في جَنَاب أخضر الزَّرْعِ رَغِيدِ

رَمَتْ الشمْسُ خُيُوطَ الذَّهَبِ

فَجَرَتْ فَوْقَ رَفِيفِ العُشُبِ

نَهَلَتْ عَيْنَايَ مِنْ بَهْجَتِهَا

آه! كَمْ طُفْتُ بهَا غَيْرَ وَحِيدِ

وَنَسِيمٍ عَبْهرِيٍ خَفِقِ

سَرَقَ الْعِطْرَ مِنَ الزَّهْرِ النَّضِيدِ

عَبِقَتْ أَنفْاَسُهُ فِي الْغَسَقِ

وَسَرَتْ فِي صُبْحِهِ الْمُؤْتَلِقِ

رَاحَ يَسْتَافُ فُؤَادِي عِطْرَهُ

هَاتفِاً فِي خَفْقِهِ هَلْ مِنْ مَزِيدِ؟

ص: 60

لألأ النورُ رُؤُوسَ الشَّجَرِ

فِي انْهِلَالٍ بَالِغ الْحُسْنِ فَرِيدِ

وَوَمِيضُ الطَّلَّ فَوْقَ الزَّهَرِ

زَادَ حَوْلِي عَبْقَرِيَّ الصُّوَرِ

مُجْتَلّى صَلَّيْتُ فِي مِحْرَابِهِ

حَالِمَ النَّظْرَة صُوفِيَّ السُّجُودِ

سَاجِعَاتُ الأَيْكِ فِي أَلْحَانِهَا

فَرْحَةٌ مَرَّتْ عَلَى قَلْبِي العَمِيدِ

المِرَاحُ الْحَقُّ فِي تَحْنَانِهَا

وَهَنِيٌء الْعَيْشِ فِي أَفْنَانِهَا

سَجَعَاتُ لَمْ تَشُبْهَا كُدْرَةٌ

بَدَأَتْ فِي مَوْلِدِ الدَّهْرِ الأَبِيدِ

أَيْقَظَ الْغَافِينَ نُورُ المشْرِقِ

حَبَّذَا يَقْظَتُهُمْ بَعْدَ هُمُودِ

أَنَا مَا بَيْنَ خَيَالٍ مُونِقِِ

مِلَْء نَفْسِي وَنَهَارٍ مُشْرِقِ

لُمَعٌ فِي الشَّرْقِ يُوحِي نُورُهَا

لِفُؤَادِي مِن أَحَادِيثِ الْخُلُودِ

مَطْلَعُ النُّورِ شَجَانِي نُورُهُ

وَجَلَا لِلنَّفْسِ مَوْمُوقٌ العُهُودِ

أَجَمَلُ البِشْرِ لِنَفْسِي ذِكرُهُ

أَبَداً يُبْهِجُ رُوحِي سِحْرُهُ

كَمْ بَعَثْتُ النَّفْسَ فِي آفَاقِهِ

كلَّما ضَاقَتْ عَلَى نَفْسِي قُيُودِي

فِي فِجَاج الشَّرْقِ أَطْوي الأَعْصُرا

مِنْ زَمَانٍ شَامِخِ العِزِّ وَطِيدِ

إِبْتَنَي الْمَجْدَ بِهِ عَالِي الذُّرَى

سَادَةٌ كَانُوا كآسَاد الشَّرَى

شَدَّ مَا يَمْلأُ نَفْسِيَ كبْرَةً

أَنْ أُغَنِّي بِالمَيَامِين الأُسُودِ

دَوْلَة الفَارُوقِ هَزَّتْ خَافِقِي

وَازْدَهَانِي الْمُلْكُ فِي دَارِ الرَّشِيِدِ

أَتَأَسَّى بِجِلَالٍ صَادِقِ

كلَّمَا ضِقْتُ بِشَكٍ طَارِقِ

فِي غَدٍ يُوقِظ فِتْيَانَ الْحِمَى

وَمَضَاتُ الوَحْيِ مِنْ مَجْدٍ تَلِيدِ

آذَنَ الْمَشْرِقُ بَعْدَ الْغَلْسِ

بِصَبَاحٍ دَافِقِ النورِ جَدِيدِ

ص: 61

لَاحَ لِي مِنْ فَجْرِهِ المنْبَجِسِ

لَمْحُ نُورٍ لَيْسَ بالمُحْتَبسِ

إِيهِ كَمْ أَبْهَجَنِي مِنْ نُورِهِ

مَوْلِدٌ هَلَّ عَلَى الأُفْقِ الْبَعِيدِ!

صُغْتُ هَذا الشِّعْرَ مِنْ غُرَّتِهِ

وَتَغَنَّيَتُ بِهِ حُلْوَ النَّشِيدِ

مِنْ سَنَا الشَّرْقِ وَمِنْ رَوْعَتِهِ

وَمَعَانِي السِّحْرِ مِنْ فِتْنَتِهِ

وَالوِضَاءِ الْغُرِّ مِنْ أيامهِ

وَحْيُ (إِلْيَادِي) وَأَلْحانُ قَصِيدِي

ص: 62

‌إلى (الرسالة) الغراء

في عامها التاسع

للأديب إبراهيم محمد نجا

أقبلي كالربيع يخطر في الكو

ن، فتهتز زهرة الأيام

أقبلي كالشباب يشرق في النف

س فتشدوا عرائس الأحلام

أقبلي كالسرور، كالنشوة البي

ضاء أو كالشفاء بعد السقام

أقبلي كالنسيم رقرقه الفج

رُ، فغنَّى بأعذب الأنغام

أقبلي كالنمير يسكبه النَّبْ

عُ فتروى به القلوب الظوامي

كأغاني الطيور، كالأمل البا - سم، أو كالضياء بعد الظلام

كالأصيل الجميل كالشفق الحا

لم كالفجر كالضحى البسام

كالندى في الزهور كالعطر في الأن

فاس كالبدر في ليالي الغرام

أقبلي كالسلام بعد حروب

طال فيها تناحر الأقوام

يا ابنة النيل إن في مصر نوَّا

ما، فهزِّي مضاجع النوَّام

وامسحي عنهم الفتور، يهبوا

هبَّة الأسْد روِّعت في الموامي

واسكبي في النفوس بلسمك الشا

في، وبثي الحياة في الأجسام

واحملي المشعل الكبير وسيري

في طريق الحياة نحو الأمام

إنما أنت قَبْسة من ضياء الل

هـ يهدي بها قلوب الأنام

إنما أنت يقظة بعد نوم

وبلوغ المنى، ونيل المرام

ونعيم في العيش بعد شقاء

وصفاء في الأفق بعد قتام

ووثوب إلى الأمام إلى الغا

ية بعد النكوص والإحجام

وصعود إلى السماء إلى الذر

وة بعد الحياة تحت الرغام

إنما أنت صرخة الحق في الشر

ق، وبعث لعزة الإسلام

إنما أنت رجعة البطل الظا

فر من ساحة الوغى والصدام

إنما أنت عودة النور والآ

مال، بعد الظلام والآلام

لك في الشرق يا ابنة النيل ذكرٌ

ومقام أَعْظِمْ به من مقام

ص: 63

في فلسطين كم أسوت جراحا

ت وكفكفت من دموع سجام

ذدت عنهم أذى المغير بقول

يتلظى لهيبه المترامي

ولو اسطعت غيره ذدت عنهم

بشبا الرمح، أو بحد الحسام

في فلسطين! أين ما كان في مص

رَ، وأرض العراق أو في الشَّام؟

قد ربطت القلوب بعد انفصامٍ

وجمعت الصفوف بعد انقسام

وزرعت الآداب في شاطئ الني

ل، ورؤيتها بماء الغمام

فزكا أصلها، وطابت فروعاً

وتباهت بزهرها البسام

واستوت تحت ظلها لغة الدِّي

ن، وقامت على أعز دعام

وحميت الأخلاق من سطوة الشرْ

رِ، وَبغْى الهوي، وجهل الطَغام

وجمعت الشباب في ظل نبع

عبقري الرؤى، طهور، سام

رفرفت فوقه الأماني، وغنت

في رباه عرائس الإلهام

وهفت نحوه المواكب شتى

تتشكَى مما بها من أُوَام

فاسكبي في النفوس من نبعك العذ

ب، وبثي الحياة في الأجسام

واحملي المشعل الكبير، وسيري

في طريق الحياة نحو الأمام

واهزئي بالفناء يا زهرة الني

ل، وعيشي على مدى الأعوام

وَابسمي للخطوب إن عبس الدَّهْ

رُ، ولا تعبئي بكيد الخصام

ولك الحق غاية وطريق

وإمامٌ. . . أنعم به من إمام

ولك الله ناصر ومعين

وهْو نعم النصير، نعم الحامي

(طنطا)

إبراهيم محمد نجا

ص: 64

‌البريد الأدبي

1 -

متى ينضج الأديب؟

من قراء (الرسالة) شاب يقيم بإحدى قرى المنوفية، وهو شاب يشتعل حماسةً لأدبه، ويؤمن بأنه مظلوم أقبح الظلم، لأن (الرسالة) لا تلتفت إلى ما يرسل إليها من القصائد الجياد

كتب إليً هذا الشاب منذ شهرين خطاباً يشرح فيه تغافل الأستاذ الزيات عن فنه الجميل، وكان خطابه قطعة نثرية مقبولة، فرجوت أن يكون شعره مثل نثره، ودعوته إلى إرسال إحدى قصائده (لأتوسط) في نشرها بالرسالة، فجاءت منه قصيدة طويلة تشهد بأنه بعيد من الصياغة الشعرية، وإن كان على شيء من قوة الإحساس. . . وكانت النتيجة أن أشارك هذا الشاب في حقده على الأستاذ الزيات لتغافله عن القيمة (الصحيحة) لأشعار المبتدئين!!

وفي هذا اليوم تلقيت خطابين من هذا الشاب يفيضان بالتوجع والتفجع، وينذران بخاتمة أليمة، إن قصًرت في تشجيعه على نشر ما يريد. والخواتم الأليمة معروفة، وأخفها أن يحبس الشاب نفسه في قرار النيل إلى يوم البعث، بعث الأشعار والأجساد!

وقد تفضل هذا الشاب بإرسال صورته إليً، فقد تبخل الأقدار بأن أراه، وعندئذ تكون هذه الصورة مبعث ندم مقيم على ما ضيعت عليه من فرص التشجيع!

وأجيب بأن لهذا الشاب أن يقتل نفسه حين يشاء، ما دام يتوهم أن الحياة كل الحياة أن ينشر قصيدة في إحدى المجلات، وإن لم يصل إلى النضج الصحيح

لقد قلت ألف مرة ومرة: إن التسامح مع المبتدئين جرم فظيع، لأنه يهوًن عليهم الحياة الأدبية، ويوهمهم أن الأدب لا يفرض على أصحابه تكاليف من الدراية والخبرة والاطلاع على أسرار الوجود

اسمع. يا بني

تنقسم الأخشاب إلى أنواع: خشب للوقود، وخشب للسقوف، وخشب للنوافذ والأبواب، وخشب لدقائق الأثاث، والنوع الأخير هو أثمن الأخشاب فهل تعرف أعمار هذه الأصناف؟

تتفاوت أعمارها بحسب القيمة، فمن الأخشاب ما ينضج في خمسة أعوام، ومنها ما ينضج في خمسين عاماً، لأن الطبيعة لا تقدر على إنضاج الصنف الجيد إلا في الأزمان الطوال

فكم سنك، يا بني؟ كم سنك، فلن تكون قيمتك إلا بقدر ما أنفقت الطبيعة من الزمن في

ص: 65

تكوين عقلك؟

صورتك تحدثني بأنك لم تجاوز العشرين؟ فهل تصدًق أن الأدب الجيد يتمً لأحد في سن العشرين، تلك أيام خلت، حين كان جمهور الشاعر والخطيب من عوامً الناس، أما اليوم فجمهور الشاعر والكاتب والخطيب، جمهور مزوًد بثقافات لا تخطر لمن كان في مثل سنك على بال، وهو جمهور لا يتصدق على أحد بالمنازلة الأدبية، وإنما يخضع راغماً لسيطرة العبقريين، أو شهرة النوابغ، فانتظر حظك إن استمعت قولي وأجلت توديع الحياة إلى أجل بعيد

وتقول إنك تحب، وإن لك عواطف تستحق التسجيل

فما أنت والحب، وهو من مثلك أشبه الأشياء بعبث الوليد؟

الحب من مثلك فوره سطحية لا تصل إلى أعماق الروح، لأن الحب أيضاً يفرض ألواناً من التثقيف، وهي عزيزة عليك، لأنك في سن العشرين، سن الأطفال، فإن لم يكن بد من أن تعبر عن عواطفك فعبًر عنها بأسلوب من يكون في سنك، وذلك بعض الأنامل، أو نطح الجدران، أو الامتناع من تناول الغداء!!

اسمع، يا بنيً

لعلك خدعت بما كان يقال من بخل الكهول بتشجيع الشباب، فجئت تتهم صاحب (الرسالة) بالتجني عليك، فاعرف الآن أن ذلك اتهام مردود، وإنما الحق كل الحق أنك لم تقدم شيئاّ يحسن عرضه على القراء، فأنت ما زلت في دور التكوين، إلا أن تريد أن يكون عمر مواهبك قريباً من عمر خشب الوقود، وهذا أيضاً أنواع، فخشب السنط يحتاج إلى عمر أطول من عمر الصفصاف، ليكون أقوى وأنفع، والقوة والنفع لا يوهبان في الزمن القليل

يجب أن يعرف شبان اليوم أن الصحافة الأدبية ليست ميداناً للتمرين، فالقارئ لا يدفع (القرش) إلا إذا اطمأن إلى أنه سيجد زاداً للعقل والقلب والذوق. والصحافة الأدبية هي عنواننا في الشرق، فيجب أن تكون حروفها من عصارة العقول والقلوب، وتلك هي المزية الأصيلة للصحافة الأدبية في هذا الجيل

أقول هذا، وأنا آسف، فقد كنت أحب أن يكون في الصحافة ميدان للتمرين، ولكن ما الذي يصنع الصحفيون وقد صارت الصحافة من الميادين الاقتصادية، والنضال في عالم

ص: 66

الاقتصاد لا يفوز فيه إلا من يقدمون أجود الأصناف؟

قلت لكم من قبل إن الكاتب الذي يعتمد على ماضيه كاتب مخذول، لأن القارئ يحكم على الكاتب بآخر مقال. ولمجلة الرسالة ماض جميل، ولكنها لا تعتمد عليه، وإنما تعتمد على ثروتها الجديدة في كل أسبوع، فاعرف ذلك أيها الأديب المنتظر. أعد نفسك لجهاد الأيام المقبلات. كتب الله لك العافية، ونجاك من جميع الأسواء؛ إنه قريب مجيب.

2 -

إلى الأستاذ سباعي بيومي

نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبيد عن كلام وقع منك وأنت تحاضر عن المبرد بمدرسة دار العلوم، فقد تحدثت عن أخلاق الشيخ سيد المرصفي بما لا يليق، فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاء على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يتعرض لأخلاق الشيخ سيد المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء

وإلى أن يثبت أن الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك، فقد كنت أظن أنك تعرف أن الشيخ سيد المرصفي له تلاميذه يحفظون عهده الوثيق

وسنرى كيف تجيب، إن كنت في العدوان على ذلك الرجل العظيم من الأبرياء

زكي مبارك

بحث لا تجريح

عزيزي الأستاذ الزيات

بعد التحية. أرجو أن يتسع عدد الرسالة القادم لرد أطلعني عليه اليوم عبد الرحمن أفندي أيوب الطالب بدار العلوم على التعليق الذي نشر في عدد الرسالة الماضي على محاضرتي (أسلوب المبرد في كامله) ولك الشكر

السباعي بيومي

. . . مسألة المرحوم المرصفي لم تبلغ من الأمر ما وصف، وبفرض ذلك فمنذ متى كان المرصفي من المقدسين الذين لا تجوز تخطئتهم ولا نقدهم؟ وإذا كان لتقدمه في الزمن سلفاً صالحاً - كما يعبر الكاتب - مبرأ من العيوب، أفليس من باب أولى أن يكون المبرد تبعاً

ص: 67

لهذا القياس أصلح منه وأقوى لغة وأدباً وعلماً كما هو الواقع، يزين كل هذا تواضع واعتراف بأن هذا أمر لا يعرفه إذا لم تكن له به سابقة علم، بينما يعبر المرصفي بقوله:(كذب المبرد في هذا)، و (المبرد في هذا كاذب) دون تورع عن هذا التعبير الجاف الجافي

إن الأستاذ السباعي لم يقل عن المرصفي إلا أنه كان يملكه الغرور؛ والمرصفي ذاته يسجل على نفسه هذا في كل ما كتب خاصة في مقدمة (رغبة الأمل وأسرار الحماسة)، وكأنه لا يعترف لأحد سواه بعلم من المتقدمين أو المتأخرين

والأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد؛ فهو قد كتب (تهذيب الكامل) من أكثر من عشرين سنة؛ ثم كانت طبعته الأولى سنة 1923. فهل يستطيع الزميل أن يريني مظاهر الأستاذية بعد أن يعلم أن الطبعة الأولى من رغبة الأمل كانت سنة 1930، وأن فهارس الكتاب وعناوينه تتفق إلى حد كبير مع تلك التي كان أستاذنا السباعي أول من نظمها في كتابه الذي سبق كتاب المرصفي بنحو سبع سنين. أم أن الأمر لا يعدو أسبقية الزمن فيحكم الزميل بهذه الأستاذية في سذاجة سطحية

إن الكمال العلمي لا يهتم كثيراّ بالتوافه، وإن السماحة الفكرية في دار العلوم تسمح بكل شيء إلا التهجم والنيل المستور بستار من الغيرة أو الحماسة للعلماء

عبد الرحمن أيوب

جائزة بابا نويل

ذكرتني مقالة (ذوي السلطان) في بعض أعداد الرسالة الأخيرة بعظيم آخر من المتعاقلين المتعالين كنت مرؤوساً له يوم نشرت ترجمتي لأقاصيص طاغور، وقد أهديت نسخة منها إليه بمحضر من بعض أصدقائه

قال وهو يتعالم: (طاغور هذا رجل عظيم)

قلت: (هو ممن حازوا جائزة نوبل)

وما كدت ألفظ بكلمة نوبل حتى بدت عليه علائم خيبة الأمل فيّ وقال في صوت شديد الدلالة على الأسف: (أو أنت أيضاً تنطقها بالباء)

قلت فما صحتها أفادنا الله بعلمك؟ فقال هي جائزة بابا نويل وقد حذفت كلمة بابا على سبيل

ص: 68

التخفيف، ثم شاعت كلمة نوبل من باب التحريف

قلت أفادكما الله! وما أحسب الحائزين لجائزة نوبل إلا فرحين مبتهجين لو ردت إليهم الطفولة فاستبدلوا بالجائزة هدية من هدايا بابا نويل

وانصرفت مع أحد الذين حضروا الحديث، فقلت له ما رأيك فيما سمعت؟

قال: العلم واسع

قلت: والجهل أوسع

عبد اللطيف النشار

ص: 69

‌القصص

من أيام الصبا

للأستاذ محمود البدوي

كنا خمسة. . . خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس، والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه. . . كنا قد انقطعنا عن المدرسة، وتخلفنا عن الرفاق، وسرنا مع نزق الشباب وطيشه، فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب، وتقطعت بنا الأسباب. . . وذهبنا على وجوهنا نبغي العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء. . . ثم ارتددنا على أعقابنا، وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات. . . فانطلقنا نعمل في الحقول ونشرف على حراسة المزارع. . .

وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا، وأصبحنا أقوى ساعداً وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون حياتهم بين أحضان الطبيعة، ناعمين بالحياة الحرة، في الهواء الطلق، والجو المشمس. . .

كنا جالسين في حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب. . . وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد، فحرمنا بذلك من أمتع (أيام الصبا) ولهوه. . .

كنا نقف وراء صفوف الحاصدين ونرقب هذه السواعد القوية وهي تطوي سنابل القمح طياً، وخلفنا الفتيان الأشداء يكومون الأحمال وينيخون الإبل، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط، ويجمعن قوت الأيام السود. . . وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول. . . كانت أسواطنا تخطئ دائماً. . . ومع ذلك، فما قطعنا القلوب حسرات، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم. . . كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا. نتخذ من عطلة الصيف وأيام الحصاد مرتعاً خصباً لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة. . . ونظل النهار بطوله واقفين في قلب المزرعة تحت لفح الشمس، لا نكل ولا نمل، لأننا نرى في كل ساعة وجهاً فاتناً صبوحاً من تلك الوجوه القروية النضرة التي تستغرق الطرف، وإن كانت تعيش في ظلام الفقر وبؤسه. . .

فإذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم

ص: 70

الشجية. . . حتى نبلغ الأجران، فتناخ الإبل، وتفك عنها أحمالها، وهي تهدر هديراً قوياً كان يبعث فينا النشاط والحماسة والقوة. . .

فإذا تمت الأجران وعلت كالأطواد اتخذنا من ظلالها وأوكارها أعشاشاً لغرامنا. كان كل شيء في تلك الساعات النزقة اغتصاباً وقسوة. كانت لنا الساعة التي نحن فيها، لم نكن نفكر في المستقبل، ولا كانت عيوننا ترتد إلى الماضي. كنا نطوي الشهور في المزارع بين الرياض والغياض، ولا نرى منازلنا إلا نادراّ. كان من الصعب علينا أن نحبس قوتنا الدافقة وحيويتنا العظيمة بين الجدران. كنا كالأعشاب البرية وهي تنمو تحت أشعة الشمس على أتم غراس وأنضجه، نفتح سواعدنا عندما يشعشع النور ونستقبل بصدورنا ندى الفجر، ونود من قوة عضلاتنا لو نقاتل ونرضي تلك الغريزة الفطرية في الإنسان

كنا مسلحين دائماّ حول أجسامنا أنطقة البارود، فإذا أقبل الليل وضل إنسان العين في سواده، صوبنا بنادقنا في كبد الفضاء، وأطلقنا النار وأرسلنا عيوننا وراء سهام البارود النارية وهي تخترق حجب الظلام الكثيف، وملأنا خياشيمنا برائحة البارود. . .

كانت تلك الليالي من أمتع ليالي حياتنا، وكانت ذكراها تبعث فينا الحماسة والنخوة. . . كنا نذكرها وكأننا ننظر إلى حلم جميل ولى

رحنا نسترجع تلك الذكريات الحلوة ونحن جالسون في هذه الليلة الصيفية المظلمة على جرن عال يشرف على أجران المزرعة، والظلام من حولنا شديد، والمكان موحش رهيب. . .

وكان جرن كبير من الأجران قد ذُرِيّ وأعد قمحه للمخازن. وكان علينا أن نسهر عليه حتى تنطوي فحمة الليل، فأخذنا نتبادل الأحاديث الممتعة ونطرد النوم بكل الوسائل. . . أوقدنا النار، وشربنا الشاي، ولمعنا البنادق وملأنا خزاناتها بالرصاص

وكان ينهض واحد منا كل ساعة ومعه كلبان من كلاب الحراسة، فيدور حول المزرعة ويتفقد مرابط الخيل وحظائر الماشية. . .

ونهض أحدنا، وكنا مستغرقين في الحديث فلم نشعر بغيابه. . .، وسمعنا على غرة نباح كلاب شديد قادم من شرق المزرعة. . . ثم ومض البارود، واز الرصاص، وملأ الدخان عنان الجو، فنهضنا مسرعين واتجهنا إلى الناحية التي سمعنا منها صوت الطلقات. . . ثم

ص: 71

خفنا أن تكون هذه حيلة بارعة لتبعدنا عن المزرعة، فعدنا إلى مكاننا وأعيننا لا تتحول عن سهام النيران الحامية. . .

وانقطع صوت النار وبقى صوت الكلاب، وأخذ نباحها يقترب منا. . . ثم برز شبح في الظلام، فصوبنا بنادقنا وهتفنا بالقادم. . . فرد علينا إسماعيل (أحد رفاقنا) بصوت أجش. . . واقترب منا وهو يلهث، ووجهه يتصبب عرقاً، وغدارته تفوح منها رائحة البارود. . .

فصحنا في صوت واحد

- هل أصبت. . .؟

- لا ولله الحمد. . . وإنما كدت أن أقتل. . . وكل ذلك بسبب هذين الملعونين. . .

واستطرد وهو يشير إلى واحد من الكلبين

- لن ترافقني مرة أخرى يا مسعود!

فسأله رفيق له:

- هل مررت على القرية؟

فأجاب في إيجاز متعمد:

- أجل. . .

- وهل كان من الضروري ذلك في هذه الساعة من الليل. . .؟

- أجل. . . كنت في حاجة إلى تبغ. . .

- أكنت في حاجة إلى تبغ أم كنت في حاجة إلى شيء آخر. . .؟

فصمت ولم يجب على أن وجهه كان ناطقاً بفعلته. . .

وسأله أحدنا مازحاً:

- أكنت تعس حول المزرعة أم كنت تسطو على بيوت الناس؟. . . هكذا والله هي الحراسة. . .

وضحكنا جميعاً، وعدنا إلى مكاننا الأول من الحقل، وجلس إسماعيل ناحية، وأخذ يمسح بندقيته، وعلى وجهه سمات من ارتد خائباً بعد جهاد طويل

وسأله أحدنا:

- ولكن لماذا أطلقت النار. . .؟

ص: 72

- أنا لم أبدأ بإطلاق النار، وإنما هم الذين بدءوا. . .

- هم. . .! من هم. . .؟ من الذي أطلق عليك النار. . .؟

- بصر بي بعض الفلاحين عندما نبح هذا الكلب الملعون وظنوني لصاً. . . وكنت على قيد أذرع من خبائها. . . فأطلقوا النار في الهواء. فغبت في جوف الظلام وأطلقت طلقتين معاً. . وجريت. . . وحلت لي هذه المطاردة وتصورت نفسي لصاً يبغي السرقة لا مخلوقاً دنيئاً يسطو على خباء امرأة في غلس الليل وتحت ستاره! وبادلت الفلاحين الطلقات السريعة. فظنوني عصابة كاملة من الأشقياء ثم راوغت تحت جناح الليل ووليت هارباً

- ما كان أحلاها قتلة. . .!

- أجل والله ما كان أحلاها قتلة. . . وما كان أطيب وقع النعي على نفسها. . .!

وقال عثمان وهو يبتسم ابتسامة عريضة وكان أشد رفاقنا بطشاً وأعظمهم قوة:

- أي مشقة يلقاها الرجل دائماً وهو في طريقه إلى الرذيلة ومع ذلك لا يزدجر. . .!

وصمت برهة ليشعل لفافة تبغ. . . والابتسامة لا تبارح وجهه القوي التعابير الدقيق الملامح. . . ثم أجاب على سؤاله بنفسه:

- لماذا؟ أجل لماذا؟ ألان ركوب الصعب من الأمور دائماً شائق، أم لأن الاستيلاء على ما في حوزة الناس فيه إمتاع ولذة؟ ماذا كان يحدث يا صاح لو رآك زوجها. . . أي موقف حرج. . . دفعت نفسك فيه. . . وأي مصيدة؟ أنا أعرف أن المرأة هي علة الشقاء الإنساني. . . كما أنها قد تكون علة هنائه أيضاً. . . ذكرتني أيها الأخ الشهم. . . بحادث كدت أن أنساه فما تحدثت به لإنسان؛ بيد أني أشعر برغبة قوية تدفعني إلى أن أقصه عليكم. . .

فسررنا وتوقعنا في حديث صاحبنا مغامرة ممتعة نتسلى بها حتى انبلاج الصبح

ونظرنا إليه في شوق ولهفة، وكان قد أطرق، ثم رفع وجهه وقد غامت عيناه قليلاً، ثم لانت ملامح وجهه. وأنشأ يقول بصوت واضح النبرات:

- كنت في التاسعة عشرة من عمري وفي أول دراستي العالية، وكان قد مضى عليً سبعة أعوام في القاهرة قضيت جانباّ منها مع بعض أقربائي، ومضيت الجانب الآخر مع بعض الأسر الفرنجية التي تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن أهليهم. . . وكنت

ص: 73

دائماً أتخير الأسر الهادئة الكريمة الخلق وأقمت مرة مع سيدة أجنبية، وكانت صبية جميلة وحديثة العهد بالقاهرة. وكان زوجها يعمل سحابة النهار وجزءاً كبيراً من الليل، وكنت أرجع من المدرسة في الساعة التي يكون فيها الرجل قد عاد من عمله. . . ولهذا ما كنت أراه إلا نادراً. وكانت الزوجة مع جمالها دمثة الطبع، طيبة الأخلاق؛ فأخذت تعني بي عناية فائقة: ترتب غرفتي، وتنظم كتب، وترتق ملابسي الممزقة وتعمل لي أكثر مما تعمل لزوجها وكانت تحب أن ترى ما في القاهرة من حسن، فزرنا معاً أجمل الضواحي وأنضر البساتين، وهي تزداد بي كل يوم تعلقاً وألفة، حتى توثقت بيننا عرى المودة وأصبحت تترقب عودتي من الجامعة أكثر مما تترقب عودة زوجها من عمله، وأصبحت ألج عليها غرفتها في أي وقت، وأراها على أي حال تكون عليه. . .

ومرت أيام وأنا لا أحس بوجود الزوج معنا في منزل واحد وأصبحنا من وفرة السعادة كأننا في حلم جميل. . .

رجعت مرة إلى المنزل ساعة الظهر فلم أجد السيدة في ردهة البيت كعادتها، وكنا في قلب الصيف، والحر شديد فتمددت على فراشي ونمت. واستيقظت قبل مغرب الشمس وهتفت باسمها فلم تجب. . . فنهضت من فراشي ومشيت نحو فسحة البيت فرأيت باب غرفتها موارباً فأدركت أنها نائمة

وحركت بابها برفق. . . ودخلت وعيني على السرير. . . فوجدت جسماً ممدداً ملتفاً في ملاءة بيضاء. . . وحلى لي أن أداعبها قبل إيقاظها فتقدمت من السرير حتى قربت منها وجذبت رجلها فلم تتحرك. . . فتحولت إلى خصرها ودغدغتها. . . ووقفت أرقب حركة جسمها وأنا لا أكاد أتماسك من مغالبة الضحك المكتوم. . . وتحرك الجسم أخيراً وانزاحت الملاءة. وظهرت مقدمة رأس. . . رأس صلعاء. . .!

فذهلت وسمرت في مكاني مبهوتاً

- كان وجه زوجها. . .؟

- أجل. . .

فانفجرنا ضاحكين. . . ولما هدأت عاصفة الضحك عاد الصديق إلى حديثه

- كان موقفاً حرجاً. . . فشدهت. . . ووقفت ذاهب النفس وجسمي يتصبب عرقاً. ثم

ص: 74

رأيت نفسي أقول في غضب بصوت المحموم:

- سأغادر الغرفة يا سيدي. . .!

فنظر إلي الرجل دهشاً. . . وقال وهو يصعد في بصره:

- ستغادر الغرفة! ما السبب يا سيدي! ما الذي جرى؟

- أثاث الغرفة رث. . . ثم هي بعد ذلك متناهية في القذارة

- كيف ذلك يا سيدي وقد جئنا لك بكل شيء جديد؟

- أبداً إنها غاية في القذارة

وتدفق من فمي كلام لا أعرف له مرمى وكان لا بد من ذلك لأنجو بأعصابي

وعدت إلى غرفتي وأنا لا أكاد أتصور شيئاً مما حدث، ولازمتني حالة من الهدوء غريبة. . . ثم لبست ملابسي وخرجت إلى الطريق. . . وهنا عادت إليً الخواطر وأخذت أتصور الموقف على شناعته وحال الزوج بعد أن يرجع إلى نفسه ويدرك أني كنت متهجما على مخدع زوجه. . . وواضعاً يدي على سريرها. . . وجسمها. . .!

وظللت جزءاً كبيراً من الليل وأنا متردد بين العودة إلى المنزل أو إيفاد صديق ليجيء لي بمتاعي وكتبي. . . ثم رأيت الرأي الأول واتجهت صوب البيت وأنا مقدر كل الأحداث. . وكان الزوجان قد ناما. . . وبقيت أساهر النجم حتى الصباح. . .

ورأيت الزوجة في اليوم التالي جالسة تقرأ في كتاب على أريكة في الردهة. . . فمررت بها وأنا أذوب خجلاً. . . وتطلعت إلى وجهها فرأيته لا ينم على شيء مما حدث بيني وبين زوجها، فقد كانت تبتسم في مرح. . . فغاظني هذا وبلغ مني الألم مبلغه

وقضيت بعد ذلك أياماً في البيت ونظري لا يقوى على مجابهة الرجل، وكان يغيظني منه بروده وهدوءه وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغاً هائلاً من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى في صمته تبييتاً لأمر في نفسه، وكنت أود لو يثور ويضاربني وتنتهي المعركة بيننا مع أسوأ الفروض

وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ولم أعد إليها بعد ذلك أبداً. . . تركتها مخلفاً فيها أمتعتي وكتبي. . . وهي تذكار دائم على أيام هنية

ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة. . . وأغلب الظن أنهما لم يغيرا

ص: 75

المنزل. . . كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاً بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أي انفعال نفساني. . . أو عاطفة من عواطف الجنس البشري

أما المرأة فقد أصيبت بأزمة نوعاً!

وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن، وعدنا نشرب الشاي، وكان الفجر قد قرب وبدت خيوط النور في الشفق، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة، وكنا قد تعشينا في أول الليل، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره فقد اشتدت علينا وطأة الجوع وأخذت بطوننا تعصرنا عصراً. . .

وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا. وجلسنا في انتظارهما بصبر فارغ وقد انقطعنا عن الحديث. وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غباراً شديداً يسد عرض الأفق. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعاناً كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعي الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة. . . وظهر أمامها رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين. . . وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب وخلف القطيع امرأة ترتدي دثاراً أسود فاحماً. . . وتهش بعصا رقيقة على الغنم وتزجر في صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها. . .

وقربت القطعان منا. . . وكان أحد الرجلين معلقاً في عنقه مزماراً طويلاً. . . أما الآخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم. . . وأخذنا نرقب القطيع بعيني الصقر حتى بعد عنا فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا. وحدجنا الأحمال الصغيرة التي تتوثب حول القطيع الماضي في طريقه بعيون جائعة ومر في ذهننا خاطر سريع ودون أن ننبس بكلمة انسللنا في أثر القطيع متجنبين طريقه. . . وجرينا شوطاً، ثم كمنا في جرن كبير من أجران القمح الهش في أقصى المزرعة ومرت قطعان الضأن وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها. . . وجاوزوا حدود المزرعة وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت في صمت وسكون عجيبين. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها. وكان في القطيع حمل صغير ما فتئ طول الطريق يتوثب ويركض في كل اتجاه، ويضرب برجليه الأرض. فلما سمع صوت

ص: 76

المزمار سكن أيضاً واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع. . . وكنا قد تهيأنا له لنقتنصه. . . فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا وعجزنا عن الحركة، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم. . . ورجع المزمار الحلو يتردد. كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوي وحده في هذا الليل وهذا السكون. ظللنا في مكمننا حابسين أنفاسنا، وصوت المزمار يهفو، والقطيع يسير، ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك

ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التي اعترتنا في تلك الساعة. أكان ذلك من تأثير الموسيقى، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى

وعاد الرفيقان الذاهبان في طلب الكروم. . . وكان أحدهما يحمل كروماً، أما الآخر فكان يحمل شيئا آخر. . . كان يحمل حمل الضأن الذي أفلتناه من أيدينا

وأشعلنا النار وشويناه. . . وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوي لحمه. . . ونتصوره منذ لحظات وهو يجري ويتوثب بين رفاقه مرحاً سعيداً طروباً، فيعصر الهم أفئدتنا

ولما جلسنا نأكل انقطعنا جميعاً عن الكلام كأن على رؤوسنا الطير. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر في جوفنا تمزق أحشائنا تمزيقاً. . . كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجري ويتوثب والقطيع يسير والمزمار يزمر.

محمود البدوي

ص: 77