الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 393
- بتاريخ: 13 - 01 - 1941
الضحية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كلمة لها تاريخ، ولتاريخها اتصال بالعادات والعقائد وأطوار اللغات والألفاظ، ولا سيما في انتقالها من المحسوسات إلى المجردات، ومن البساطة إلى التركيب
كم من الذين يتحدثون بالتضحية في معرض الحب أو الحماسة الوطنية أو المعاني الروحية يذكرون أن أصلها الأول أكلة في الضحى؟
فالتغذية تقديم الطعام في وقت الغداة، والتعشية تقديم الطعام في وقت العشاء، والتسحير تقديم الطعام في وقت السحر، والتضحية بالشاة أن تذبح الشاة أو تؤكل ضحى على هذا السياق.
وهذا هو المعنى الذي صعد به الإسلام من أكلة إلى قربان إلى فداء، إلى هذه المعاني التي نرددها اليوم كل صباح ومساء وتاريخ الكلمات في الانتقال من المادية إلى الروحية هو تاريخ العقل الإنساني في فهم الحقائق والنظر إلى الحياة.
فما العقل؟ وما الكتابة؟ وما الفن؟ وما الجمال؟ وما العلم؟ وما الرسم والتمثيل؟ وما الجوهر واللباب؟
كلها لها أصول لا تزال تلمس باليد وتدرك بالحس، وكلها قد صعدت من هذه الأصول المحسوسة إلى تجريد لا تدركه العقول إلا بعد شغوف وإمعان
وإذا كانت متابعة الكلمات في اللغة الواحدة متعة للفكر ومعواناً على فهم الأصول والحقائق، فأمتع من ذلك واعون على الفهم أن تضاهي بين الكلمات في لغات مختلفات. فإن لهذه المضاهاة فائدة صحيحة لا يستغني عنها باحث في علم ولا مستقص لتاريخ ولا متعمق في دين
انتقلت التضحية من أكل في الضحى إلى أسمى معاني المفاداة التي يهون فيها بذل الأرواح
ولكن الفداء نفسه قد انتقل في معانيه مثل هذا الانتقال بل أبعد من هذا الانتقال
فقد كان الفداء في بدايته الأولى أشبه شيء (بالزيارة) التي يحملها اليوم أهل الميت إلى قبره من فاكهة يفرقونها، أو ريحان ينثرونه، أو ذبائح ينحرونها ويفرقونها على المساكين في جدة الوفاة.
وكان اعتقاد الهمج الأولين أن الأموات يطلبون الغذاء كما يطلبه الأحياء، ومن هؤلاء الأموات أقوياء بطاشون ينتقمون أشد النقمة ممن يحرمهم نصيبهم في الطعام والشراب، ومنهم أعزاء محبوبون يشق على أحبابهم أن يتخيلوهم بعد الموت جياعاً عطشى محرومين هائمين يبتغون الري والشبع ولا يرتوون ولا يشبعون، ومنهم شفعاء مقبولون يأخذون ويعطون: يأخذون (الزيادة) ويعطون بديلاً منها في ضمير الزائرين والمتشفعين.
وترقى معنى الفداء الذي نشأ هذه النشأة قليلاً حتى هذبته وصقلته الحضارة، فاقترب من معنى الإحسان وابتعد من معنى الخوف على الأحياء وإشباع من في القبور.
ٍفالذين يتصدقون بالطعام اليوم لا يقصدون به أن يأكله الموتى ولا أن يدفعوا به ونقمتهم إذا جاعوا وظمئوا وصنعوا بالشاربين الطاعمين ما يصنع الجياع الظماء
ولكنهم يقصدون أن يحسن الله إلى موتاهم كما يحسنون هم إلى المعوزين، ويودون أن يبلغوا الموتى أنهم لا يزالون من العزة عندهم بحيث كانوا في أيام الحياة، فهم يبذلون لهم ولا يضنون عليهم. ويتعمد بعض الزائرين أن يختاروا من صنوف الطعام ما كان شهياً مفضلاً عند الميت في أيام حياته، تعزياً بالفكرة لا تصديقاً بحاجة الميت إلى غذاء الأحياء.
وبعض الأحياء يعكس الأمر فيحرم على نفسه الصنوف التي كانت شهية مفضلة عند موتاه، كأنما يأبى أن يستمتع بما حرموه ويريد أن يساويهم في الحرمان، وكلاهما شعبة من معنى واحد هو الوفاء والادكار، والضن على النفس في سبيل من ضنت عليهم الحياة باللذات والطيبات.
ذلك أصل من أصول الفداء، وهو رعاية الأموات
وله أصل آخر أعرق من هذا في الهمجية وأبعد منه عن تهذيب الدين والحضارة
وذلك الأصل يقابل الجزية التي يفرضها السيد على العبد، والأدب الذي يستوجبه الغالب من المغلوب
فمن الأدب الذي كان يستوجبه الفاتح المنتصر من المنكسرين أمامه أن تظهر عليهم ذلة الانكسار والتسليم، وأن يسومهم كل ما يريد ولم تكن له فائدة فيه، وأن يسلبهم فيعطوه صاغرين، ويقمعهم فيمتثلوا خاشعين، وأن يطالبهم بالإتاوات والرهائن من الرجال والنساء والأنعام، ومن الأزواد الخيرات والحطام.
وكان المنهزمون يستنقذون أنفسهم بتسليم فريق منهم للقتل، ويستنقذون أموالهم بإهداء نفيسها ومختارها واستبقاء ما يزهد فيه الفاتح أولا يهتدي إليه
فلما عبد الهمج أربابهم وأوثانهم واعتقدوا فيهم القوة والغلب جعلوا لهم حقاً في الضحايا والهدايا كحق المنتصر على المهزومين، وافتن الكهان في تنظيم هذه الجزية (المقدسة) التي تؤول إليهم في الحقيقة سرَّا وجهرة في كثير من الأحيان؛ فانتظمت من ثم شعائر التضحية والفداء؛ وبالغ بعضها في القسوة حتى تقاضت للأرباب والأوثان بواكير كل شيء من حيوان ونبات، وفي طليعتها الأبناء وهم رضعاء أو دارجون.
وقصة إبراهيم هي حد فاصل في نظرة الأديان إلى الفداء كما كان قديماً وكما هو مفروض الآن. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال يا أبتِ افعل ما تؤتمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتّله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدَّقتَ الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم)
وهكذا ترقى لفظ الفداء ومعناه. فأما لفظه فحسبك انتقاله من الضحية التي هي شاة تذبح في الضحى إلى الضحية التي هي قربان وإحسان.
وأما معناه فالانتقال فيه أعظم، لأنه انتقال من أكلة إلى ذروة الأخلاق العليا. إذ كانت خلاصة كل خلق وكل عقيدة وكل تكليف أن يجود الإنسان بما يعز عليه، وأن يفضل بعض الحرمان على بعض المتعة، وأن يعصي داعي الغريزة إذا حسنت له كل سلامة وكل كسب، وبغضت إليه كل إقدام وكل إعطاء.
وهنا يفوق الإنسان الغريزة فيرتفع من حضيض البهيمية إلى شرف الآدمية
وحيثما وجد دين وخلق فهنالك عصيان لغريزة من الغرائز لا مراء، فإن الدين والأدب لازمان لهذا ونافعان لهذا، لا لأنهما مطاوعان للغريزة في كل ما تمليه وترتضيه.
الغريزة تقول لك إن اللذة خير من الألم، وأن الحياة خير من الموت، وأن الأثرة خير من الإيثار، وأن حبس المال خير من بذله، وأن الراحة خير من المشقة.
ولو كان هذا هو الخير حقاً لما ظهرت الأديان والأخلاق، ولكانت الغريزة وحدها كافية كل الكفاية وفوق الكفاية، ولأصاب الإنسان الخير كما يصيبه الحيوان بغير عناء.
ولكن الخير الإنساني شيء نفيس، والشيء النفيس له ثمن عزيز، وما الثمن العزيز إلا الجود بما نضن به ونفليه
ولهذا كانت الضحية عنوان الدين كله وقوام الخلق كله، فحيث لا ضحية فلا دين ولا خلق، بل غريزة حيوانية يتساوى فيها الناطق والأعجم، ويتلاقى فيها المريد وغير المريد.
وفرائض الأديان تكليف
والتكليف لا يخلو من الكلفة بحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها معناها أن تعمل ما تطيق وليس معناها ترك العمل لأنك تطيق تركه ويسعك أن تتناساه
وفي الشعر العربي بيتان لشاعرين حكيمين هما خلاصة الأدب وصفوة الخلق ومعيار التفاضل بين الفضائل، وهما بيت أبى الطيب إذ يقول:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ
…
الجود يفقر والإقدام قتال
وبيت أبى تمام إذ يقول:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
…
تنال إلا على جسر من التعب
ومعنى البيتين البليغين البالغين في الحكمة كلمة واحدة وهي: (التضحية) أو (الفداء)
فقولك أن الراحة خير من التعب، وأن الأخذ خير من العطاء، وأن السلامة خير من الإقدام، قول مفهوم قبل أن يكون خلق وقبل أن يكون دين.
فلما وجب على الإنسان أن يفهم أن بعض العطاء خير من بعض الأخذ، وأن بعض الراحة شر من بعض التعب، وأن بعض الموت أكرم من بعض الحياة، وأنه إنسان مكلف وليس بسائمة مهملة، كان له خلق، وكان له دين، وكانت الضحية التي يرمز إليها المسلم في عيده الكبير هي قوام ذلك الخلق وأساس ذلك الدين.
عباس محمود العقاد
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
مطالعات في الكتب والحياة
لعباس العقاد
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
موضوع الدرس في هذه المرة هو كتاب المطالعات في الأدب والحياة للأستاذ عباس محمود العقاد عضو المجمع اللغوي، وهو كتاب يقع في أربع وعشرين وثلاثمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وقد نشرته المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، وثمنه خمسة عشر قرشاً. والنسخة التي أنقدها هي الطبعة الثانية، ولهذه الإشارة معنىً، فهي تشهد بأن هذه الكتاب نال بعض ما يستحق من النباهة والذيوع.
شخصية المؤلف
العقاد أديب منوَّع المواهب: فهو كاتب وشاعر وناقد وخطيب، على تفاوت في هذه الأوصاف لا يوجبه التقصير أو نقص الأدوات، وإنما يوجبه التفات هذا الأديب إلى بعض الفنون أكثر من التفاته إلى البعض، فهو كاتباً أقوى منه شاعراً، لأن ذهنه ارتاض على التعبير بالترسل، أكثر مما ارتاض على التعبير بالقريض.
ودرس اليوم لا يتصل بمواهبه الشعرية والخطابية، وإنما يتصل بمواهبه النثرية والنقدية، فمن هو بين الكتاب والنقاد؟
للعقاد في الكتابة والنقد شخصيتان مختلفتان كل الاختلاف: فالعقاد الكاتب السياسي يَرِمي ويرمَى، ويَظِلم ويظلَم، في كل وقت، فهو من أبناء السماء عند قوم، ومن أبناء الأرض عند آخرين. أما العقاد الكاتب الأدبي فهو من الطبقة الأولى بشهادة الجميع.
والعقاد الناقد لا ينحرف عن القصد إلا في حال واحد، حال الحكم على من يعاديه من المعاصرين، أما حكمه على المفكرين الذين بَعُد عهدهم في التاريخ فهو في غاية من العدل والسداد، وقد يصل به الرفق إلى المبالغة في إظهار المحاسن وإخفاء العيوب.
وانحراف العقاد في كتاباته السياسية والنقدية يشهد بأنه سليم الشخصية، وللسلامة هنا
مدلولُ خاصّ، هو اكتمال الحيوية والإحساس، فالعقاد يصادق بعنف، ويعادي بعنف، فأصدقاؤه ملائكة ولو كانوا شياطين، وأعداؤه أبالسة ولو كانوا ملائكة مقربين. وهو مستعد لخوض النار مع أصدقائه إن أوجب الوفاء أن يشاطرهم عذاب الحريق، أما أعداؤه فهو لهم بلاءُ وعناء، وهو يلقاهم في السر والعلانية بأقبح ما يكرهون.
وقد شاع وذاع أن العقاد رجلُ حقود، وهو كذلك، فالحقد من كبريات الفضائل في بعض الأحايين، وقد نُجزَي عليه خير الجزاء يوم الحساب، فالله أحكم وأعدل من أن يعاقبنا على تأديب من يحاولون الغض من أقدارنا الأدبية وهم جهلاء!
ما نظرت في شراسة العقاد مع خصومه إلا قلت: هذا رجل، والرجال قليل
وما نظرت في سماحة العقاد مع أصدقائه إلا راعني ما في طبعه من بشاشة وأريحية، فهو لهم عماد في جميع الظروف، وهم من أُخوَّته الوفيَّة في أُنسٍ أنيس
والواقع أن الرجولة لها تكاليف، وهي تجشّمنا مصاعب لا تخطر لأحد من الضعفاء في بال، فالرجل الحق هو الذي يقدر على الضر كما يقدر على النفع، أما المخلوقات (الرقيقة) التي تحاكمنا إلى شريعة (الأخلاق) في كل ما نكتبُ وفي كل ما نقول فهي شخوصُ بوائد خلَّفها التاريخ، كما يخلّف النهر العارم أو شاب العشب المعطوب.
الرجولة الحق تَفرض الشجاعة الحق، ولا تتم الشجاعة لرجل إلا إذا جاز أن تصل به أحياناً إلى التهور والجنون، لأن ضبط النفس لا يتيسر في كل وقت، كما يتيسر لبعض من يفهمون أن الرجل (الصالح) للانتفاع بالمجتمع هو المخلوق (المصقول)!
وما قيمة القلم إن لم نَخِزْ بسنانه عيون المتعالمين والمتعاقلين من حين إلى حين؟
وما حظ الأمة في أن يتخلق جميع أبنائها باللُّطف والظُّرف؟
أعاذنا الله من زيغ البصائر في هذا الزمن المخبول!
مطالعات العقاد في الكتب والحياة
العقاد في هذا الكتاب ناقد وكاتب، وقد خلص من الشوائب التي تعرِض له في بعض كتاباته النقدية أو السياسية، خلص خلوصاً مبيناً، فهو لا يلتفت إلى ما يحيط به من أحقاد الساسة أو ضغائن الأدباء، وإنما يخاطب العقل وجهاً إلى وجهه، ويسمو بنفسه إلى طلب المنزلة بين أهل الخلود.
والعقاد من هذه الناحية أقدر من طه حسين على ضبط النفس. نجد العقاد يقول في هامش بعض الفصول (من مقال نشِر في البلاغ) فما المراد من عبارة (من مقال)؟
كان المقال في الأصل يحوي فكرة باقية أضيف إليها التحامل على أحد المعاصرين، وهو حين يجعل مثل هذا المقال فصلاً من كتاب يحذف الجزء المشوب بالتحامل ويكتفي بالجزء الذي يصور فكرة باقية، ومن أمثلة ذلك ما صنع العقاد في كتاب (الفصول) ففي ذلك الكتاب فصل عن (المتأنقين)، وهذا الفصل أنشأه العقاد للسخرية من سعادة الأستاذ (أحمد لطفي السيد باشا)، ثم رأى أن يحذف تلك السخرية من جانبها الخاص، وأن يكتفي بجانبها الأصيل، وهو احتقار التأنق في تناول عظائم الشؤون.
أما الدكتور طه حسين بك فقد أساء إلى نفسه وإلى تاريخه حين عجز عن تهذيب مقاله عن (عنترة بن شداد) في الجزء الأول من الطبعة الثانية لكتاب (حديث الأربعاء) ففي ذلك المقال تعريضُ قبيح بمعالي الأستاذ عيسى باشا، وسيسأل الناس في المستقبل عن الموجب لذلك التعريض القبيح، لأنه لا يصدر عن رجل يتسامى إلى الأستاذية في الأدب والأخلاق.
وما أعيبه على الدكتور طه أعيبه على نفسي، فقد أثبتُّ في الطبعة الثانية من كتاب البدائع فصلاً دميماً عن (طه حسين بين البغَّي والعقوق) وهو فصل عانيتُ من شؤمه ضروباً من العقابيل، وعرَّضني لمكاره ومتاعب لم أدفع شرها إلا بنضال عنيف.
ومن أعجب العجب أن يكون عباس العقاد أقدر على ضبط النفس من زكي مبارك وطه حسين!
الشجاعة الأدبية
يمتاز كتاب المطالعات بالشجاعة الأدبية، فما المراد من ذلك؟ أيكون المراد أن العقاد يبطش ذات اليمين وذات الشمال بلا تدبُّر للعواقب؟
أيكون المراد أن العقاد لا يبالي ما عليه الناس من عقائد وتقاليد؟
لا هذا ولا ذاك، فالعقاد في هذا الكتاب يساير الناس يساير العُرف إلى أبعد الحدود، وإنما المراد أن العقاد يثور على العوامّ بقوة وعنف، والعوامّ في هذا المقام ليسوا هم الطبقة العديمة العلم والمعرفة من التجار والزُّراع والصناع، وإنما هم طبقة المثقفين من أبناء الجيل الجديد، والعقاد لمُ يضف هذه الطبقة إلى العوام بصريح المقال، وإنما أضافهم إليها
بلسان الحال.
وتظهر هذه الشجاعة فيما كتب العقاد عن (المرأة) فكلامه في هذا الموضوع الدقيق لا يصُدر إلا عن الملهَمين، ولو شئت لقلت إنه فَصَل في هذه المشكلة بما لاُ يبقى مجالاً لأحد من بعد، فقد استوفى الموضوع من أطرافه بكلام مُحكم سديد، وهو من أقدر الكاتبين على الغوص في أعماق المعضلات.
(خيانة المرأة لا تعاب على المرأة)
هذا كلام غريب، ولكن العقاد يفسره تفسيراً صحيحاً، فتلك الخيانة المرذولة لها وجه جميل هو الوفاء للحياة.
(غرام المرأة بالمال فرع من غرامها بالشباب)
هذا أيضاً كلام غريب، ولكن العقاد يفسره تفسيراً صحيحاً فقد كانت القدرة على اكتساب المال من أقوى الشواهد على الرجولة في جميع الأزمان.
(المرأة دون الرجل في جميع الأوصاف وهي لا تقدر أبداً على القيام بما يقوم به الرجال)
وهذا كلام أغرب من سابقَيْه، ولكن العقاد يقف موقف النمر الشرس ويقول:
(إننا في عصر يميل إلى محاباة المرأة فيما يكتب عنها من آراء فلسفية كانت أو اجتماعية، لأن آداب الأندية توشك أن تبغي على آداب الكتابة ومباحث الفكر، فيحبس الكاتب قلمه عن كل ما يغضب المرأة ولا يوافق دعواها، كما يحبس لسانه عن ذلك في أندية الأنس ومجالس السَّمر، ويكتب حين يبحث في مسائل الاجتماع بقلم السمير الظريف لا بقلم الناقد الأمين)
ثم يجعل السذاجة والبلاهة والغفلة من نصيب المتظرفين الذين يحكمون بأن المرأةُ ظلمتْ فيما سلف من عهود التاريخ.
والحق أن أنصار المرأة لم يكونوا إلا رجالاً ضعفاء، فهي لم تخلَق إلا لغاية واحدة، هي بقاء النسل، وهي لم تقدر ولن تقدر على مباراة الرجال في جلائل الأعمال.
وكيف تستطيع ذلك وهي قد أشركت بوظيفتها الأنثوية؟ الرجل هو الذي يخلق المرأة، يخلقها على هواه، ويتمثلها كائناً حياً له مآرب وأغراض، وهي أمام العقل دُمية مصنوعة لاُ تفصِح ولاُ تبين بعد ذلك الشّرك الدميم
المرأة الصحيحة هي المرأة التي عرفها الآباء والأجداد، المرأة الطبيعية التي أوحت ما أوحت إلى الفنانين والشعراء، يوم كانت مخلوقاً له قلب خفاق، وروحُ حنّان.
أما المرأة اليوم فهي مخلوق سخيف، لأنها تطلب ما لا ينبغي لها من الحقوق، وهي لذلك تافهة القيمة، سقيمة الإدراك.
وتعرَّض العقاد للمرأة من جميع نواحيها فأسمعها ما لا تحب أن تسمع. ومن المؤكد أن العقاد كتب عن المرأة ما كتب وهو في عافية، لأن الرجل لا يغايظ المرأة إلا وهو فحل، لأنه حينئذِ يثق بأنها ستُجذَب إليه ولو ضربها بأعنف السياط.
وقاسم أمين لم يكن في أول من أنصار المرأة، وإنما كان عدوَّ المرأة، فلما ضَعُف تظرَّف وصاغ لها عقود الثناء!
ورُوَّاد (الصالونات) في البلاد الغربية لم يكونوا من الفحول، وإنما كانوا من الظرفاء، ولو كانوا فحولاً لتغيًّر مركز (المتحذلقات) في التاريخ
وخلاصة القول أن التلطف مع المرأة يجب أن يكون فَّنا من فنون الغَزَل الخدّاع، فالدمع في عين العاشق هو السم في ناب الثعبان، والثعبان يخدّر فريسته بالسم كما يخدّر العاشق فريسته بالدمع. والاغتيال من ضروب القتال!
لحظات الصفاء
وللعقاد في كتابه هذا لحظات صفاء، وأظهر تلك اللحظات هي اللحظة التي كتب فيها مقالة (بين الله والطبيعة) أو (بين التاريخ الغابر والحاضر المشهود). فالعقاد في هذه المقالة قد ارتفع إلى آفاق السماء، ولو لم يكتب غير هذه المقالة لكانت سلّمة الأمين إلى معارج الخلود.
كتبها وهو في أُسوان، وقد نشأ هذا الأديب في أُسوان، ولعل نشأته في تلك المدينة تفسّر ما فطِر عليه من الهيام بالفنون
هي مقالة عجيبة في المعنى والأسلوب، مقالة كاتب راعته زُرقة السماء في أسوان، ومن لم ير زُرقة السماء في أسوان فلن يغنيه الزعم بأنه رأى جمال الطبيعة في سائر بقاع الأرض.
ولو جُمع ما أوحت أسوان إلى العقول والأحلام في مختلف اللغات لكانت منه ثروة تَرُوع
وتَهُول.
وقوة العقاد في هذه المقالة تستر ضعفه وهو يصور إحساسه حين وقف (على معبد إيزيس) فالفرق بين المقالتين بعيد، لأن الكاتب كان انتزف قوته في المقال الأول فهمد في المقال الثاني، والُقوي الإنسانية لها حدود.
المتنبي في كتاب المطالعات
انساق العقاد إلى الكلام عن المتنبي وهو يدرس رسالة الغفران للمعري، فكانت فرصة لتشريح بعض الجوانب من ذلك الشاعر الصوَّل.
وتظهر دقة النظر عند العقاد في أكثر ما كتب عن المتنبي، فالأدباء يرون تَسامي المتنبي إلى المُلك من شواهد العظمة النفسية، أما العقاد فيرى ذلك التسامي ضرباً من الخذلان، لأن المتنبي أخطأ حين (ظن أن السموْ لا يكون إلا بين المواكب والمقانب، وأن النبالة لا تصح إلا لذي تاج وصولجان وعرش وإيوان).
ثم انتهى العقاد إلى أن المتنبي المخذول في طلب المُلك صار على الزمن (أظفر ما يكون خائباً وأخيب ما يكون ظافراً). فهو (ليس بملِك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات)
وهذا كلامٌ نفيس جداً، ولكنه يحتاج إلى تعقيب، فانحراف المتنبي في فهم العظمة الذاتية هو السبب في ما صار إليه من العظمة الباقية على الزمان.
المتنبي قضي دهره في طلب المُلك، ولو عَقَل لأدرك أن الشاعرية الحق أبقى على الزمن من المُلك.
ذلك ما يريد العقاد أن يقول، ولكن ما رأيه إذا حدثناه أن ذلك الانحراف هو الذي أوجب أن يولع المتنبي بدرس أوهام العوامّ والخواصّ؟ ما رأيه إذا حدثناه أن تلك النزعة المنحرفة هي التي فرضت على المتنبي أن يدرس الموارد والمصادر من أخلاق الناس وأن يوغل في التعرف إلى ما هم عليه من هدى وضلال؟
لو أعفى المتنبي نفسه من طلب المُلك لوقف عند الخالص الصريح من أوطار النفس وأهواء الوجدان، فكان صورة ثانية من البحتري شاعر الروح الصداح والقلب الطروب.
طلبُ الملك غَّير ما بنفس المتنبي فنقله من أفق إلى آفاق، وحوله إلى رجل طُلَعة لا يهمه غير درس المستور من أصول الوشايات والأراجيف، وحوّله أيضاً إلى رجلِ طاغية باغية لا يتذوق معاني العطف والإشفاق.
وهل عرف الناس قلباً أقسى من قلب المتنبي، المتنبي الثائر على الناس والزمان؟
يجب أن يُفصل نهائياً في هذه القضية، فأدب المتنبي من صور اليأس العصوف، وليس من صور الأمل العطوف، وهو لذلك خليق بأن ننظر إليه بحذر واحتراس.
حظ المتنبي من الشعر الوجداني حظ ضعيف، فما سبب ذلك؟
يرجع السبب إلى أن الدنيا في عين المتنبي لم تكن إلا منادح انتهاب واصطياد، والنهب والصيد يوجبان أن يبكر الرجل إلى المفاوز والآجام وهو في درع من المكر، ولثام من الدهاء.
زار المتنبي مصر وأقام فيها سنوات، فماذا رأى في مصر، وكانت لذلك العهد ما تزال عامرة بما ترك الفراعين من غرائب الفنون؟ أين بشاشة الحقول المصرية في شعر المتنبي؟
لم ير المتنبي في مصر غير وجهين اثنين: وجه الفقيه المرائي، ثم وجه النديم الخَتُول، لأن ما كان يطلبه المتنبي كانت المقادير حصرته في أيدي الفقهاء والندماء.
وقد حقد المتنبي على مصر أبشع الحقد، لأنه لم يرها إلا في وجه كافور ومن يحيط بكافور. ولو كانت الشاعرية هي التي تسيطر على أهواء المتنبي لوجد لمصر مذاقاً غير ذلك المذاق، ولكان من المأمول أن تنسيه مرابعها الأواهل وحشة الغربة والانفراد، ولكن المتنبي كان طالب ملك، أستغفر الحق، بل كان يطلب (ضَيْعة) فلم يظفر بغير الضَّياع!
ورحيل المتنبي عن مصر رحيل بغيض، فقد ثار على مصر في البادية لا في الحاضرة، وذلك يشهد بأنه لم يفكر جديَّا في تأليب الجمهور المصري على ذلك (الأستاذ)!
ماذا أريد أن أقول؟
ما يهمني النص على ما وقع فيه المتنبي من خطأ وصواب، وإنما يهمني القول بأن حرص المتنبي على طلب الملك هو الذي خلق تلك الشاعرية الطريفة، الشاعرية التي لا تعرف الهيام بالأزهار والرياحين، وإنما تعرف الغرام بالصوالج والتيجان، فتقضي الدهر في
درس أسرار القصور، وفحص أخلاق الحاكمين والمحكومين.
ومن المؤكد أنه كان يجب أن يكون في تاريخ العرب شاعر من هذا الطراز الفريد، فالمتنبي إذا من الحجج البواقي على أن الشاعرية العربية موفورة الحظ من تنوع الطعوم والألوان.
ملاحظات
لا يتسع المجال لعرض ما أجاد العقاد وهو يدرس المتنبي، ولكن لا مندوحة من تقييد بعض الملاحظات، لأن لذلك فائدة في تشويق الطلاب إلى النقد الأدبي.
1 -
قال العقاد: (مما لوحظ على المتنبي ولعه بالتصغير في شعره إلى حد لم يُروَ عن شاعر غيره) فأرجو أن يذكر العقاد أن أعظم الشعراء ولعاً بالتصغير هو ابن الفارض، وقد فصلت ذلك في كتاب (التصوف الإسلامي) فلا أعود إليه في هذا الحديث.
2 -
حكم العقاد بأن عنصر المتنبي كان (بدعاً في العصور العربية) وقد قال مثل هذا القول في عصر ابن الرومي، فأي قولَيْه نصدَّق؟
3 -
حكم العقاد بأن المتنبي (لم يفارق كافوراً إلا باختياره) فما حيثيات هذا الحكم، وفي أي كتاب قرأ أن الرجل يرحل عن بلد يحبه في ليلة عيد؟ وكيف غاب عن العقاد أن المتنبي لم يفارق كافوراً إلا بعد أن أصبحت حياته تحت رحمة العيون والأرصاد؟
4 -
قضى العقاد بأن المتنبي صفح عن أبى العشائر، وقد كلف أحد الخدم باغتياله وهو سار في ظلام الليل. فعلى أي سند قضى العقاد هذا القضاء وهو يعرف أن الضغينة أقوى خلائق المتنبي؟ أيكون أستند إلى أقوال من ترجموا للمتنبي؟ وكيف وهو يعرف أن تلك الأقوال يغلب عليها الإفك والتهويل؟
5 -
يرى العقاد أن التبحر في العلوم آفة يبغضها المتنبي، وحجته أن المتنبي يقول:
أبلغُ ماُ يطلَب النجاح به الطبع
…
وعند التعمق الزلل
فهل كان المتنبي من الغفلة بحيث يقوهم أن التبحر في العلوم آفة إنسانية؟
هنا دقيقة لم يفطن لها العقاد، وهي ثورة المتنبي على (فيران المكاتب) كما يعبر الفرنسيون، و (فيران المكاتب) هم الذين يقولون ولا يفعلون، فإذا اقترن بالفعل، فتلك ظاهرة يرحب بها المتنبي كل الترحيب.
6 -
غض العقاد من عمر بن أبى ربيعة، لأنه وقف شعره على فن واحد هو النسيب، ولو تأمل العقاد لعرف أن ابن أبى ربيعة من كبار المبتكرين، ومن عظام المغامرين، وهو عندنا أول شاعر رأى قضاء العمر في الهيام بالجمال عملاً تُنصب له الموازين.
7 -
وحكم العقاد على ابن مناذر وابن الضحاك بمثل ما حكم به على عمر، فأين علمه الصحيح بمواهب هذين الشاعرين ولم يبق لواحد منهما ديوان يشهد بما له أو عليه؟ وكيف فاته التنبه إلى ما كان لهما من التأثير العميق في الحياة الذوقية والاجتماعية بالعراق؟
الظاهر أن العقاد لا ترضيه إلا أن يكون الشاعر مغرماً بتشريح الـ كما أجابني حين قلت له إن الشريف الرضي كان أولى بعنايته من ابن الرومي، فليعرف إن شاء أن الشاعر لا يفكر في إرضاء الناقدين، وإنما يفكر في تأدية الرسالة الموحاة إليه من عالم الغيب، أو عالم الطبع، ولا يهمه بعد ذلك أن يقال إنه عرف شيئاً وغابت عنه أشياء.
موقف محرج!
لم أصل إلى ما أريد في تشريح كتاب (المطالعات) للأستاذ عباس العقاد، لأن منهج هذه الدروس الاكتفاء يوجب الاكتفاء بمقال واحد عن كل كتاب، ولأن امتحان المسابقة سيكون بعد أسبوعين اثنين، فماذا أوصى به طلبة السنة التوجيهية وهم يراجعون هذا الكتاب الدقيق؟
أوصيهم بأن يذكروا أن العقاد له في كل فصل منهج خاص وأنه قد يناقض نفسه من حيث لا يشعر، لأن يومه قد ينفصل عن أمه كل الانفصال.
وأوصيهم بأن يذكروا أن العقاد مولع بالرنين في الأسلوب لأنه شاعر، والشاعر حين يكتب لا يستطيع التخلص من الغريزة الموسيقية، وهل يطيب النثر الفني ويجود إلا من الكتاب الذين كانوا في مطالع حياتهم شعراء؟
وأوصيهم بأن يذكروا أن عيب العقاد وعيب المازني في الغرام بالسجع والازدواج عيب مغفور، لأن هذين الكاتبين لم يكونا إلا شاعرين ضاق عنهما نظام القريض.
وأوصيهم بأن يذكروا أن المازني والعقاد لم يغتصبا تلك المنزلة الأدبية بجهادٍ موصول جاوز الثلاثين من الأعوام السّمان والعجاف.
وأوصيهم بأن يذكروا أن غرام المازني والعقاد بالشرح والتفصيل فيما يعرضان له من
دقائق الشؤون يرجع إلى أنهما ابتدءا حياتهما الأولى باحتراف التدريس، والتدريس يوجب التفكير في تفهم الأغبياء قبل التفكير في مسامرة الأذكياء، ولعل هذا هو السبب في اهتمام طه حسين وأحمد أمين بالطواف حول هوامش المشكلات!
وأوصيهم بأن يذكروا أن المازني والعقاد كانت إليهما زعامة النقد الأدبي في أعوام الحرب الماضية، وأن الكتابة السياسية لم تستطع أن تصرف هذين الرجلين عن العناية بالأسلوب.
أما بعد فأنا أشعر بأني لم أقل شيئاً في العقاد، مع أني قلت فيه كل شيء، فان كنت أنصفته فقد أنصفته بحق، وإن كنت ظلمته فقد ظلمته بحق، ولكني قبل كل شيء وبعد كل شيء قد انتصرت على نفسي فتناسيتُ ما كان بيني وبينه من القتال في سنة 1935 على صفحات جريدة الجهاد يوم سمحت له نفسه بأن ينضم إلى غريمي طه حسين.
والله المسئول أن يطيل حياة هذين الرجلين، فهما من ذخائر مصر على وجه الزمان. وهل سيطرت مصر على الحياة الأدبية في الشرق إلا بفضل ما في أبنائها من شراسة وعرامة واستطالة واستعلاء؟
زكي مبارك
الذوق الفني في مصر
وأسطورة نهر الجنون
للأستاذ سيد قطب
أسطورة (نهر الجنون) معروفة، ولكن لا ضرر من التذكير بها في هذا المقام؛ فهي تتلخص في أن ملكاً رأى في نومه أن النهر الجاري بجواره قصره يصاب كل من شرب منه بالجنون. وأصبح فوجد أفراد الشعب كله - والملكة معهم - قد شربوا من النهر وجنوا، فحزن وقلق على شعبه وعلى رفيقة حياته، ولم يكن هناك أحد لم يشرب إلا الملك والوزير.
وبينما كان الملك ووزيره في شغل شاغل بالطب لهذه الكارثة كانت الملكة حزينة قلقة على الملك الذي جن - في رأيها ورأى الشعب - لأنه لم يشرب هو ولا وزيره. . .
وأخيراً، شرب الملك وشرب الوزير!!!
هذه الأسطورة تتكرر كل يوم في مصر - في عالم الفنون - بين العقلاء المجانين، وهو قلة قليلة، والمجانين العقلاء وهم كثرة كثيرة!!
ففي مصر مدرسة فنية عرفت باسم (المدرسة الحديثة)، وهي تجاهد منذ ثلاثين سنة لرفع الذوق الفني، بل لخلق الذوق الفني. ولكن الذين اتبعوها لا يزالون فئة قليلة، والذين فهموها فئة أقل، والذين تجاوبوا معها بعد فهمها فئة أندر. وهؤلاء هم الذين لم يشربوا من النهر، ولا تزال آراؤهم في الحياة والفن تثير العجب العاجب بين الشاربين!
وهذه المدرسة يبدو أن كل همها موجه لتصحيح مقاييس الأدب، ولكنها تجاهد في تصحيح مقاييس الإحساس بالحياة جملتها وتفصيلها، وتقويم الأذواق في أصولها وفروعها، فكل ما هو مادة حياة ومادة شعور ينال عناية هذه المدرسة. ومن ثم كان للموسيقى وللغناء نصيب وافر من جهادها.
ولقد أغضب زعماء هذه المدرسة وأملأ قلوبهم ظلاماً وبأساً إذا قلت لهم: إنهم فشلوا أشنع الفشل في رسالتهم، وأن أتباعهم - على قلتهم - ليسوا جميعاً بفاهمين حقيقة دعوتهم لأن طباعهم لا تتسع لها، وإحساسهم لا يستوعبها.
وإني لأخشى أن أقذف بها كلمة مزعجة مؤذية فأقول لهم: إن الظواهر حتى الآن تكاد تجزم
بأن طبيعة هذا الشعب ليست على استعداد للتجاوب معهم، وأن الشذوذ وحده هو الذي أطلعهم بين ظهرانيه، وأن المشكلة ليست مشكلة الفهم والتفهيم، ولكنها مشكلة الطبيعة التي لا تتسع لمثل ما في نفوسهم من أحاسيس. وعليهم إذن أن يشربوا من النهر، أو أن ينزووا عن المجانين العقلاء!
وإنها لصيحة مزعجة، ودعوى يتمنى مدعيها من صميم نفسه ألا يكون محقاً فيها، ولكن الدلائل جميعها - مع الأسف - تدل على صدقها الأليم.
والخطب في هذه المسألة متفاوت الدرجات، فقد يكون في الأدب أخف - إلى حد ما - لظهور طبقة قليلة من الشبان تبشر بالخير الضئيل. ولكنه فادح فادح في الموسيقى والغناء. وهذه الموسيقى التي لا نسمع غيرها، وذلك الغناء الذي ليس لدينا سواه.
فقد مضت القرون تلو القرون، وليس لنا موسيقي واحد، ولا مغن واحد. وكان (سيد درويش) فلتة شاذة، وهو مع هذا لم يرتفع إلى المستوى العالمي، ولكنه كان (إنساناً) في فنه، يحمل طابع الآدميين، وكان هذه كسباً، لأن (الآدمية) وحدها، لا الآدمية الممتازة هي التي نفتقدها في موسيقانا وغنائنا، فلا نعثر على ظل لها في الجميع، وما نزال نسمع ألحاناً وأنغاماً، هي رجع التأوهات الحيوانية المريضة وصدى الميوعة المسترخية المئوفة، دون أن يخطئ ملحن أو مغن مرة واحدة فيسمعنا صوت الإنسان السليم!
والقارئ يرى من هذه الكلمات، أن قائلها (لم يشرب من النهر) ولا شك. وإلا فهل يصدق أحد والأغاني ترن في الآذان ليل نهار، وتحملها أجنحة الأثير بالعشي والأبكار، أن ليس في مصر مغن واحد ولا مغنية منذ أجيال، وليس فيها ملحن واحد منذ قرون، وليس فيها موسيقي واحد في تاريخها الطويل؟.
أهذا كلام؟! أليس هو الجنون بعينه، أو العقل الذي هو عين الجنون؟
في مصر مطربون ومطربات، وفي مصر مُلحنون وموسيقيون، والشعب كله يردد أغانيهم وألحانهم، ويتهافت على حفلاتهم ورواياتهم، ويدمي أكفه من التصفيق إعجاباً بهم، فها يصدق أحد أن مصر - فيما عدا أغاني سيد درويش لم تطعم الموسيقى، ولم تتذوق الغناء، ولم يتردد في جوها صدى واحد فيه مسحة الآدمية؟
هذه قولة غليظة - لم تشرب من النهر - ولكنها كانت خليقة أن تنبض بها كل فطرة، وأن
يرددها كل لسان، لولا أن الجميع قد شرَبوا مع الأسف شربوا حتى فقدوا وعيهم فهم مخمورون لا يفيقون من هذه الألحان المريضة ولن يصدقوا من يقول لهم: إنهم مخمورون، لأن الأغلبية لا بد أن تكون هي الواعية في جميع العصور!
وبعد فما جدوى هذه الكلمات؟
لقد كان يرجى لها بعض الفائدة، لو سرت مع الشاربين المخمورين إلى منتصف الطريق، وكتمت عنهم نصف الحقيقة، وارتضيت أنصاف الحلول. لو قلت لهم: إن هناك أغنيات وألحاناً سليمة وأخرى غيرها مريضة، وأنك تعجب من فلان أو فلانة بكذا وكذا، وتنكر عليهما كيت وكيت. . .
أما وأنت تجبه هذه الملايين - على اختلاف ذوقها الفني - بأن ما يستحسنونه سواء من حيث أنه لا ينتسب إلى فن الموسيقى وفن الغناء، وأن ما يسمعون إنما يتفاضل في دائرة بعيدة عن دائرة الفنون الآدمية، فيرتفع أو ينحط، ولكنه لا يعير في ارتفاعه أو انخفاضه عن نفس إنسانية على الإطلاق. . .
أما وأنت تدعي هذه الدعوى غير المعقولة، فلا سمع ولا تصديق وعليك أن تشرب من النهر الذي شرب منه الجميع. . .
هذه كارثة. كارثة أن نعيش أمة كاملة بلا موسيقى ولا غناء وأن يكون غذاؤها الروحي هو هذا الترنيم المريض الزائف. وأشد من هذه الكارثة هو لا أن تستسيغ هي هذا الغذاء.
ولست أدري كيف يكون العلاج، والذين يتولون العلاج في غالب الأحيان هم أنفسهم مخمورون، شاربون من النهر، وإن نعوا على الشاربين!
موسيقى جديدة وتلحين جديد ومطربون ومطربات جدد، وأذواق للسامعين غير هذه الأذواق. أذواق لا تستسيغ أية قطعة أو لحن مما تتردد في مصر منذ مئات السنين. كل هذا وفي آن واحد هو ما تحتاج إليه لتحسب في عداد الآدميين.
والمعجزة وحدها هي التي تستطيع أن تفعل ذلك لا الجهد البشري ولا المدرسة الحديثة، ولا عشرات الكتب، ولا ألوف المقالات في الصحف.
وتسألني: وفيم إذن تكتب هذه الكلمة، وتشغل بها فراغاً من صفحات هذه المجلة، وفراغاً من وقت القراء؟ فأجيبك: إنها صيحة من لم يشرب من النهر، أو هي صيحة الجنون في
عرف المجانين!
(حلوان)
سيد قطب
تقويم هذا العام
للأستاذ عباس محمود العقاد
تقويمُ هذا العام من
…
لحظاته الأولى لديك
قومي ارفعيه وارفعي
…
عنه الغطاء براحتيك
من يوم مطلعه إلى
…
رُجْعاه، موقوفٌ عليك
وإذا انتهت أيامه
…
ولكل عام منتهاه
فعليك أنت وداعه
…
وترحِّبين بما تلاه
ويْحيِى إذا دار المدى
…
ورعيتُ وحدي ملتقاه!
هي قبلةٌ ضمت عُرَى
…
عامين فاتصلا اتصالا
ومُنى الخواطر في غدٍ
…
عام كسابقه مآلا
لا نعجلن به فما
…
أقسى الحياة على العَجَالى
لا. لا. فهذا يومنا
…
وغد، وبعد غد، خفاء
أنا مغمضُ العينين ومست
…
مع إلي حادي الرجاء
فإذا سمعت حداءه
…
فدعيه يمضي حيث شاء
عباس محمود العقاد
خواطر في رأس السنة
للأستاذ صديق شيبوب
النظام أساس العالم، والتوقيت من الأسس التي يقوم عليها النظام. عرفه الإنسان منذ عصوره الأولى، أي منذ لاحظ أن اليوم ليل ونهار، وأن الأيام يتلو البعض الآخر متشابهة في شكلها البارز، متباينة طولاً وقصراً، وبرداً وحراً. فإذا الأيام مجموعة في فصول، والفصول مقسمة إلى شهور، والشهور مضمومة في السنة. ولم يلبث التوقيت بالسنة أن استولى على الإنسان في كل مرافقه.
لكل إنسان على اختلاف عمله سنته الخاصة به. فللمزارع سنة، وللتاجر سنة، وللعامل سنة، حتى الحكومة عندنا لها سنتها المالية الخاصة بها؛ وللشمس سنة، وللقمر سنة، وللنجوم سنة. وكل واحدة من هذه السنين تختلف في بدايتها ونهايتها عن السنين الأخرى؛ فسِنو الأجرام السماوية موقتة بدورانها، وسنو طبقات الناس موقتة باختلاف الفصول وتأثيرها عليها.
على أن الناس إذا اختلفت سنتهم الخاصة وفقاً لأعمالهم وأغراضهم فقد اعتنقوا كذلك سنة بعض الأجرام السماوية، وخاصة الشمس والقمر. فجعل بعضهم السنة الشمسية، كما جعل البعض الآخر من السنة القمرية، عامة لكل الطوائف.
هذا دليل من الأدلة على أن الإنسان يتطلع أبداً إلى السماء كأنها مهبط وحيه ومصدر هديه في حياته. فعيناه أبداً مرفوعتان إليها يتأمل في قبتها الزرقاء الجميلة، ويسر بانعكاس أضوائها، وغرابة غيومها، واختلاف ظلالها، وتنوع ألوانها، من فجر طالع، إلى صبوح براق، إلى غبوق داكن، إلى شفق أحمر لامع إلى غسق أسود، إلى ليل حالك، ويعجب بخطوطها الزرقاء التي لا نهاية لها، وأجرامها المتقدة كأنها أنوار تتلألأ في بحر لا شاطئ له، ومجوهراتها الساطعة التي لا توزن حجارتها بالمثقال. إنها ثروة عظيمة بعيدة المنال، لا ينضب معينها، ولا تزول بهجتها، ولا تنحط قيمتها، لا أول لها ولا آخر؛ لا يستطيع الإنسان جمعها، أو تناولها، أو فقدها، أو ثورتها، ولا يحول بينه وبينها غير الموت.
ولكن الموت إذا نزل بالإنسان فإنه أضعف من أن ينزل بها وأن يزيل بهجتها ورواءها. إنه مثل النسر المحلق في كبد السماء العاجز عن أن يحول دون تغريد البلابل.
فالسماء رمز الأشياء التي لا تموت. هذه شمسها تعتلي قبتها العميقة كأنها هاوية لا قرار تنتهي إليه ولا جبال ولا أرض تضمها؛ هذه الشمس تشرق وتغرب على مناظر الطبيعة في شتى الفصول تثبت حرارتها في الأرض وما عليها. وهذا القمر حالم في تنقله وتطوره، وهذه النجوم تشع بريقاً كأنه خفق فؤاد مضطرم. . .
لله أحلام الإنسان وآماله التي تلتقي عند هذه النجوم! إنها محط أنظاره يسائلها عن ماضيه وحاضره، ويرى في بعضها مصدر تفاؤله وفي البعض الآخر مبعث تشاؤمه، بينما هي في أبراجها ساهمة تتابع سفرها الطويل اللانهائي لا تحير ولا تبدي، ولعلها لا تراه ولا يخطر لها ببال، ولا علاقة تربط بينها وبينه.
على أنها مصدر راحة وطمأنينة في سكونها الغريب. والسماء تتحدث إلى الإنسان بلغة عجيبة لا يستطيع التعبير بها أبلغ الألسنة. إن في سكوتها الرائع أعظم بلسم لشفاء القلوب. إنها قد تروع فكره حيناً، ولكنها - مهما اختلفت اعتقادات الناس بها - تظل غذاء للنفوس ببريق ألوانها وسطوع شموسها وأقمارها، وفكرة الاستقرار والسمو التي توحيهما إليهما
ما أجمل الحياة لو قضيناها محدقين في السماء!
يثير التحديق في السماء في نفس الإنسان فكرة أصله ومصيره. من أين أتى وإلى أين يذهب؟ هل الوجود والعدم سيان! وإذا كان مصدره لا يثير اهتمامه لأن الماضي قد فات، وهو في ذمة التاريخ، فما المستقبل؟ كيف يمهد له أسباب الطمأنينة والسعادة، وهما غايته التي ينشدها في وجوده، وهما قصده من مصيره، والمصير من عالم الغيب، ولكنه الرجاء يحدو الإنسان والآمال تبعث الشجاعة لقلبه ونفسه. والإنسان يقارن دائماً بين الماضي والمستقبل، متبرماً بالماضي منتظراً من المستقبل ما يعوض عليه ما فات. فكم سمعناه يقول:(لو كنت أدري. . .) و (إذا أتيح لي أن أعيش من جديد. . .)
أما الرجل الحكيم فهو الذي يعرف كيف يوفق بين الماضي والمستقبل، فكأنه يقضي حياته محاولاً استخلاص الحكمة مما يمر به من الحوادث، والحكمة كلمة كبيرة تدل على صفاء العقل والقلب. وما أحوج اليوم إلى مثل هذا الصفاء!
إذا نظر الإنسان إلى الحقائق الواقعية وجد أن الصبر من أدق مظاهر الحكمة، وله فوائد جمة تعود على صاحبه بالرضا. ومن فقده فقد خيرات وفيرة، لأن الزمان لا يحترم غير
الأعمال التي كان الصبر من أكبر العوامل التي ساهمت فيها.
كان الكردينال مازارين، الوزير الفرنسي الكبير، يقول:(أنا والزمان)، وهو قول ينطبق على أفعال أعظم أمة في هذا العصر. وقد وصل الوزير الفرنسي بالمبدأ الذي سار عليه إلى أعلى قمم المجد، كما وصلت إليه الأمة البريطانية لأن الصبر معناه الرزانة والتعقل. لذلك نجد الصبر من المزايا التي يتحلى بها الإنسان سني نضوجه وشيخوخته، لأن في الشباب حماساً يدفعه إلى تعجل الأمور، وهو يتولى في وقت واحد حل شتى المسائل في أقصر مدة من الزمان.
ومن غرائب الاضداد عجلة الشباب وصبر الشيوخ. يستعجل الشباب الأمور وهو يعرف أن أمامه متسعاً من الحياة يتيح له التريث فيها ويعالجها الشيخ في أناة وصبر بينما يشعر أن ما بقى له من العمر قصير الأجل وأن الحياة تفلت من بين يديه وأن الموت قريب منه واقف له بالمرصاد.
وهذه ظاهرة تصدم المنطق صدمة قوية ولكنه ينتقم لنفسه إذ يدلل على أن الأعمال المرتجلة هباء تذروها رياح الحياة، وأن الزمان أداة قوية تطلب قسطها من الاحترام له، وأنه سيد يجب إعطاءه ماله من حق.
والطبيعة خير أستاذ للناس في احترام الزمان لأنها ترضى بأحكامه وتخضع لقوانينه، فلكل ظاهرة من ظواهرها مدتها المقررة وفصولها المعروفة. لأن الطبيعة قوية تصمد لتقلبات الزمان ولا تتأثر بها.
حقاً إن الصبر من أبرز الدلائل على القوة، وهو من أكثر مزاياها أناقة وطرافة
كم في الحياة من أضداد تباعد بين المظهر والحقيقة!
يعيش الإنسان موزعاً بين المنافع التي يصبو إليها والغرائز التي تتنازع نفسه، وهو يحاول أن يوفق بين هذه وتلك وأن يضفي عليها ثوباً تظهر فيه للناس من غير أن تقذى عيونهم.
هناك عصور يستولي فيها الكذب على الإنسان فرداً ومجموعاً يعرف المجموع مواضع ضعفه فيخفيها ويظهر بمظهر القوة والغطرفة. ويعلم الفرد أنه حفنة من تراب في مصدره ومصيره بينما تمتلئ نفسه كبرياء وخيلاء. وتقبل كل طبقة من طبقات المجتمع على التعالي للوصول إلى ما فوقها: وطبقة العمال أقصى همها التركز لتوازي الطبقة الوسطى
(البرجوازية) بينما هي تحتقر مبادئها وتقاليدها. وتحاول الطبقة الوسطى التسامي إلى الأرستقراطية بينما تتناول وسائلها وترفها ومظاهرها بنقد شديد.
تنعت المرأة الرجل بالقوة وهي تعرف مكامن ضعفه، ويصف الرجل المرأة بالجمال وهو يرف أن في الرجولة جمالاً لا تقاربه الأنوثة. وهكذا أضفى كل واحد من نوعي البشر على صاحبه نعوتاً لا يعتقد بصحتها. وقد خلق كل واحد لصاحبه مزايا ثم اطمأن إليها. ولعل أبرع هذا الخلق وأجمله خلق الرجل للمرأة، فقد بنى لها عرشاً وأجلسها عليه إلهة يطالع في عينيها سعادته وغبطته. ويستنزل من جناتها نعمته ولذته. والغريب في هذا أنه صادق في عقيدته التي اختلقها، مغرور بكذبه الذي أجراه، وأن غبطته في أن يغتر بهما.
ولا غرو في ذلك فكثيراً ما يضحي الإنسان بسعادته في سبيل لذته، وتسهل عليه هذه التضحية إذا تعودها. إن طريق اللذة مفروش بالدمقس والحرير بحيث يستطيع السير عليه من وُلِد حافي القدمين كما يسير على العشب الناعم. أما السعادة فقد خلقت للصالحين من البشر، إما لأنهم يعتقدون بأنهم سعداء، أو لأنهم ينتظرون السعادة مطمئنين إلى نوالها.
فالسعادة مطمح النفوس الكبيرة، وكل نفس شريفة إذا كانت طموحة، لأن الطموح يتطلب قوة وتضحية، وهو في مجموعه دليل على كبرياء النفس، والكبرياء فضيلة إذا كانت سلاحاً من أسلحة النضال.
إن مظاهر الكذب التي ألممنا بها تجعلنا نستنتج أن كل الناس يمثلون دور المنفعة على مسرح الزمان، وأنهم في اطمئنانهم إلى ما يلعبونه يصبح الدور الذي يمثلونه أقرب إلى حقيقتهم من الأصل. لقد أصاب شكسبير كبد الحقيقة عندما تلهى بهؤلاء الأشباح وجعلهم يمثلون دور المجانين حتى صاروا في حقيقتهم مجانين.
إن الأشياء والبشر كافة يغالطون في هذا القمار العظيم الذي ندعوه الحياة.
القلب يغالط العقل، والعقل يغالط القلب. . .
يولد الطفل ممسكاً بيديه أوراق لعب كبيرة ثم يرميها في الحياة مغامراً بها فإما أن تنطلي حيلته فينعم بما ربح، وإما أن تنفضح فيشقى بما فقد.
وبعد، فقد تعودت كل طائفة من الناس النظر في شئونها عند نهاية السنة المقررة لها. فالزارع يجيل رأيه فيما زرع وحصد، والتاجر يوازي بين ما أشترى وما باع، والحكومة
توازن بين ما جمعت وما أنفقت؛ وهكذا فإن من فضائل الموقف بين عامين أنه يثير في النفس شتى الأفكار والتأملات.
وقد تنازعت نفسي هذه الأفكار وأنا أصغي إلى صراخ الإنسانية وأنينها، وإلى دوي المدافع وترجيع صداها، وإلى خصومات الأمم ودعاياتهم، وإلى صرير أقلام الكتاب ودوي آلات الإذاعة والطباعة؛ فرأيت أن أدون ما جال بخاطري، ولعلي أصبت المرمى ولم أخطئ السبيل.
صديق شيبوب
السياسة التوجيهية في الأزهر
للأستاذ محمد محمد المدني
في العدد (391) من (الرسالة) مقال كتبه الأستاذ محمود الشرقاوي، بمناسبة مقال في العدد الذي قبله للدكتور محمد البهي عن (شخصية الأزهر العلمية)
والأستاذ الشرقاوي يصف مقال الدكتور البهي بأنه مقال جيد، وفيه صدق كثير، وقد أثار في نفسه طائفة من الخواطر يعتقد أن فيها - وهي أيضاً - صدقاً كثيراً وفيها صراحة
ومع أن الأستاذ يبدو معارضاً لفكرة الدكتور، بل مهاجماً له فإن من يتأمل فيما قاله يجده قد وافقه في كل ما قاله، ثم نقل البحث إلى شيء آخر.
ولست فيما أكتب اليوم بالمدافع عن أعضاء البعوث الأزهرية إلى أوربا، فذلك شأن يخصهم، وهم أولى بأن يردوا على أسئلة الأستاذ التي وجهها إليهم؛ ولست كذلك مهاجماً لأحد من الناس أو لطائفة من الطوائف، ولكني أريد أن أقول إن الأستاذ الشرقاوي لم يكن صريحاً على الرغم مما ادعاه لنفسه من الصراحة في أول مقاله؛ فهو يقول للدكتور البهي: لا تحدثنا عن إنتاج جماعة كبار العلماء، ولا عن قيمة هذا الإنتاج في نظر العلم، ولكن حدثنا عن إنتاج هذه البعوث الأزهرية التي أنت واحد من أعضائها، والتي وضع الأزهر فيها آماله، وظل يرقبها في لهف وشوق، معللاً نفسه بعهد جديد يمتاز بالحرية في الرأي، والاستقلال في التفكير: أين هو هذا الإنتاج؟ وأين طابع هذه البعوث الخاص الذي تتميز عن أشياخها؟ وأين التجديد الذي أفاده الأزهر من بعثة الإمام محمد عبده أو بعثة فؤاد الأول؟
هكذا يتساءل الأستاذ، ثم يصرح بأنه لم ير دليلاً يدل على أن هذه البعثات قد جددت، أو سارت على نهج غير النهج الذي سار عليه الأشياخ من قبل (فلا هي قد أقامت في الأزهر مدرسة للتجديد خاصة، ولا نهجت فيه منهجاً دراسياً ولا تأليفياً خاصاً، ولا لمت حولها معسكراً جديداً يرفع معها وبعدها شعلة النور في الأزهر. . . الخ)
ثم يحاول الأستاذ تعليل ذلك، فيجد نفسه (أمام واحد من فرضين: إما أن تكون هذه البعوث لم تفد شيئاً مما درست في جامعات أوربا، ولم ترتفع بتفكيرها عن أشياخها وعن زملاء أعضائها الذين لم يبعثوا ولم يدرسوا. . . وإما أن تكون هذه البعوث العلمية قد أفادت من
دراستها الأوربية عقلية جديدة حرة وتفكيراً حراً. . . الخ)
ردد الأستاذ بين هذين الأمرين، ولكنه نفى الأول منهما مستدلاً بأن أعضاء هذه البعوث جميعاً مبرزون في دراساتهم الجامعية، وفي درجاتهم العلمية التي نالوها، وفي البحوث التي فازت بالتقدير، فهو إذا يستبعد الغرض الأول ويستبقي الغرض الثاني، وهنا ينتهي عهده مع الصراحة، فيفر من مواجهة الحقيقة التي يراها، ويعود إلى الترديد فيقول: هل يتوجه اللوم في عدم إنتاج هذه البعثات إليهم أم أين يتوجه؟
كأني الأستاذ الشرقاوي يريد أن يكون صريحاً في نفس الموضوع كما كان صريحاً فيما وجهه إلى الدكتور البهي، فهو يهم بأن يطلق لنفسه العنان ثم يعود فيؤثر الإبهام، وكأني به متفقاً مع صاحبه في كل ما ذكره غير مخالف له في شيء منه، ولكنه يؤثر أن يظهر في ثوب المعارض له.
ولا علينا من ذلك، لكننا نسأل الأستاذ الشرقاوي: ما هي الناحية الثانية التي يحتمل أن يتوجه إليها اللوم؟ ما هو هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون قد صرف أعضاء البعوث عن الإنتاج مع قدرتهم عليه؟ أتقصد به أن البيئة الأزهرية غير صالحة لتلغي الفكر الجديدة، وتقبل الإنتاج الحر المبني على التفكير المستقل لأنها ما زالت تعد التجديد خروجاً على ما ينبغي من تقديس القديم والفناء فيه، والدوران من حوله؟ أم تقصد أن التجديد والإنتاج العلمي مرتبطان بالسياسة التوجيهية، فكلما كانت هذه السياسة ماضية في طريقها القويم، حريصة على تشجيع العاملين، وإنارة الجهود، والانتفاع بالمواهب، نما الإنتاج، وكثر المنتجون، وتشجع العاملون. وكلما انحرفت هذه السياسة عن طريقها القويم وأدخلت في تقدير الأعمال اعتبارات غريبة عنها، فترت الهمم، وكلت العزائم، وضعف التفكير، وقل الإنتاج؟
نحن نعرف أن كثيراً من الاعتبارات قد يعوق سير الإصلاح، ويصرف الساسة الموجهين عن الطريق، ويلويهم من حيث يريدون أو لا يريدون عما رسوه من الإصلاح وأخذوا به أنفسهم من التوجيه.
فقد يكون في بيئة من البيئات رجل حر الضمير، مستقيم الفكرة، له في الإصلاح برنامج شريف، وله غيرة محمودة على هذا البرنامج، ولكنه مع ذلك لا يرى بأساً من أن يجامل
شخصاً ما فيسند إليه عملاً ممتازاً من الأعمال الإصلاحية، لا لأنه ممتاز في نفسه، ولا لأنه ناجح في عمله، ولا لأنه لا يوجد في أقرانه من هو خير منه، ولكن لاعتبار آخر، كأن يكون صديقاً مثلاً، أو أن يكون قد تطلع في يوم ما إلى منصب ما فلم ينله، فمن الرأي أن يترضى، ومن الرأي أن يعوض!
وقد يحيط بالمصلح الشريف المخلص أعوان شرفاء مخلصون لا يدفعهم إلا الإخلاص للفكرة الإصلاحية، ولكنه مع ذلك ربما أهمل آراءهم، لا لأنه بحثها فتبين وجه الخطأ فيها، ولا لأنه اقتنع بأن غيرها أولى بالقبول منها، ولا لأن أصحابها مشكوك في إخلاصهم أو في حسن تقديرهم، ولكن لاعتبار آخر لا ينبغي أن ينظر إليه، ولا أن يغلب جانبه، كالميل إلى تمثيل عنصر معين في ناحية من النواحي.
وقد يخضع المصلح لاعتبارات أخرى غير هذه وتلك، يدفعه إليها على الرغم منه قانون تقليدي، أو عرف قائم، فتراه مثلاً لا يسند أعمالاً خاصة إلا إلى طائفة خاصة، لا لأن هذه الطائفة أجدر من غيرها بتولي هذه الأعمال، ولا لأنها أقدر من غيرها على السير بها في طريق النجاح، ولكن لاعتبار آخر قد لا يكون له صلة بهذا الموضوع أصلاً، كاعتبار شرط التوغل في السن مثلاً في حق الأعضاء الذين ينتخبون لعضوية جماعة ما، أو يرشحون لتولي منصب ما وهكذا.
نعرف هذا كله، ونعرف أنه شر ما تصاب به بيئة من البيئات، وأنه داء خطير يصيب الإنتاج العام بالشلل، ويؤدي إلى الخمول والركود، ثم إلى الانحلال والموت!
ونعرف أيضاً أن العامل الذي يجد أن المقاييس التي من حوله ليس أساسها التفكير والعمل والدأب والإنتاج، وإنما أساسها شيء آخر غريب عن هذا كله، وبعيد عن هذا كله، هذا العامل لا يلبث أن يفتر، وأن يضعف، لأن القدرة على الإنتاج وحدها غير كافية، ولكن ينبغي أن يصاحبها التشجيع والإغراء.
فهل يريد الأستاذ الشرقاوي شيئاً من ذلك ويمنعه شيء ما أن يقوله، وأن يكون صريحاً فيه؟
ألا إنه لو علل ما يقوم به من عقم البعوث العلمية بالسياسة التوجيهية لما كان منصفاً، ولما قال صواباً، فإن على رأس الأزهر شيخاً ممتازاً في تفكيره، ممتازاً في شخصيته، بعيد
النظر فيما يقدم عليه أو يحجم عنه من عمل، وهذا الشيخ العظيم فوق أنه يشرف على الأزهريين من أسمى مكان في الأزهر، يتمتع من حبهم وطاعتهم وحسن انقيادهم بما لم يتمتع به أحد من شيوخ الأزهر، فلا يستقيم مع هذا أن تكون السياسة التوجيهية في عهده ملتوية عن الطريق، غير مؤدية إلى الغرض المنشود. ولن يرضى الأستاذ الأكبر بأن يضع بالأمس أسس الإصلاح، ويرسم منهاج النهوض، ويضيء شعلة التجديد، حتى إذا اجتذب بها القلوب ووجه إليها النفوس، وضعها في طريق العواصف الجامحة من رغبات أو شهوات
فلنستبعد هذا الغرض، فلا يبقى معنا إلا أن الأزهر لم يصبح بعد بيئة صالحة لتلقي الإنتاج العلمي الذي أساسه التفكير الحر، والاستقلال في النظر، وعدم افتراض الثقة المطلقة إلا فيما ورد عن المعصوم.
فهل هذا هو ما أراده الأستاذ الشرقاوي؟ إن يكنه فلا ينبغي أن يعد العقم في الإنتاج قصوراً في البعثات الأزهرية، ولا عيباً في السياسة التوجيهية؟
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
العقد الفريد
للأستاذ محمد سعيد العريان
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
قد قَّدمنا القولَ في صدر هذا البحث أنه لم يسبق ابنَ عبد ربه إلى التأليف في باب الأخبار والنوادر على هذا النحو إلا ثلاثةُ نفر: الجاحظ، وابن قتيبة، والمبرّد.
أما الجاحظ والمبرّد فقد كان لهما نهج في التأليف يخالف نهج العقد، على اتفاقهما ما في الموضوع والغرض؛ فكان انتفاعه بما اطلع عليه من مؤلفاتهما في المادة لا في الطريقة. وأما ابن قتيبة، فإن بينه وبين عبد ربه مَشابهَ من وجوه، حَمَلتْ بعض الباحثين على الزعم بأن صاحب العقد كان في نهجه وفي تبويبه لاحقاً مقلّداً، بل قد غَلَا بعضهم في الاستنساخ فزعم أن ابن عبد ربه قد سطا على كثير من كتب ابن قتيبة، فنقلها نقلاً إلى عقده بحالها من غير تغيير كبير. وإنه مما يقوّي هذا الزعم، تلك الشهرة العظيمة التي كان يحظى بها ابن قتيبة عند أهل الأندلس، حتى كانوا يتهمون من خلت مكتبته من مؤلفاته. ولكن العقد الفريد على الرغم من ذلك غير عيون الأخبار، وابن عبد ربه غير ابن قتيبة، ولكل من الرجلين شخصيته المتميّزة بوضوح من خلال مختاراته، ولكل منهما مزاجُه وروحه ومذهبه وجوُه الذي يعيش فيه ويصدر عنه؛ فسواء كان هذا الزعم صحيحاً أو مبالغة في الاستنتاج، فلن يضيرَ صاحبَ العقد شيئاً، ولن ينقص شيئاً من قدر كتابه، إذ كانت المادة التي اجتمع منها الكتابان ليست ملكاً لأحد الرجلين، ولا هي أثراً من إنشائه الأدبي الخالص؛ ولكنها تراثُ مشترك يتوزَّعه أبناء العربية مما خلَّف آباؤهم.
. . . وليس معنى أنه لم يسبق ابن عبد ربه في بابه إلا هؤلاء النفرُ الثلاثة أنه لم يأخذ عن غيرهم، ولكن الذي نعنيه أن انتفاعه بكتب هؤلاء النفر كانت أظهر دلالة على نفسها، وإلا فقد كانت مكتبة قرطبة لهذا العهد حافلة بطائفة من الكتب لم يجتمع مثلها في زمان في مكان، فلا بد أن يكون ابن عبد ربه قد استعان منها بالكثير إلى جانب ما أخذ من أفواه العلماء المغاربة الذين كانت لهم رحلة إلى المشرق أذاعوا بها علم العربية بين الشرق والغرب.
ويقول الأستاذ أحمد أمين عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، في بحث نشره للتعريف
بصاحب العقد (مجلة الثقافة، العدد 94 - 15 أكتوبر سنة 1940): (إن أمالي أبى علي القالي كانت هي النواة الأولى التي بذرها أبو علي في الأندلس من علوم المشرق، وعليها تخرج مشهورو الأدباء في الأندلس، ومنهم ابن عبد ربه. . .)
وظاهر الكلام الأستاذ العميد صريح في أن ابن عبد ربه كان لاحقاً لأبى علي القالي، وأنه من تلاميذه، وأن كتاب (الأمالي) أسبق من (العقد الفريد)، وأنه أول ما نقل إلى المغاربة من علم المشرق. . .
وأرى هذا كله خطأ لا يستند إلى دليل من التاريخ، فقد كان مَقْدَم أبى علي القالي إلى الأندلس بعد وفاة ابن عبد ربه بسنتين وأشهر (توفي ابن عبد ربه بقرطبة سنة 328، وكان مقدم أبى علي القالي في إمارة عبد الرحمن الناصر سنة 330)، وكان تأليف كتابه الأمالي بعد مقدمه بسنين؛ إذ كان هذا الكتاب هو مجموع محاضراته في جامع قرطبة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن ابن عبد ربه قد فرغ من تأليف كتابه (العقد) في سنه 322 على ما نرجحه، وقدرنا المدة التي أملى فيها أبو علي محاضراته في جامع الزهراء قبل أن يجمعها في كتاب ببضع سنين، كان لنا من ذلك برهان لا يدفع بأن العقد الفريد كان أسبق من الأمالي ببضع عشرة سنة؛ فلا وجه هناك للقول بأن ابن عبد ربه كان من تلاميذ أبى علي، وبأن كتابه على منهاجه.
وأما قوله إن كتاب الأمالي كان النواة الأولى من علم المشارقة في الأندلس، فينقضه ما كان معروفاً قبل ذلك في الأندلس من كتب القوم، حتى روى ابن كثير في تاريخه: أن أهل المغرب كانوا يتهمون من لم يكن في بيته من مؤلفات ابن قتيبة شيء؛ (توفي ابن قتيبة سنه 276، وكان مولد أبى علي سنه 288)، وكان للمغاربة من العناية بتحصيل علم المشرق والتكبير إليه ما دعا المستنصر إلى أن يرسل وراء النسخة الأولى من كتاب الأغاني لأبي الفرج فيشريها بألف دينار. . .
أضف إلى ذلك أن رحلة المغاربة إلى الشرق كانت متصلة لطلب العلم منذ أوائل القرن الثالث؛ فلا يمكن مع هذا أن يكون علم أبى عليَّ جديداً على أهل الأندلس في أواسط القرن الرابع، وأن يكون نواة وقدوة، ومنشئ مدرسة يتخرج عليها مثل ابن عبد ربه مؤلف العقد. . . . . .
ويتحدث ابن عبد ربه في مقدمته عن (تأليف الاختيار وحسن الاختصار)؛ فأي معنى لما يذكر من حسن الاختصار في هذا المقام؟ أتراه يعني حسن الاختصار في المجموع، أو في كل خبر على حدته؟ أعني: هل كان ابن عبد ربه يروي الخبر بحروفه كما سمعه أو قرأه من غير اختصار فيه، وإنما كان يختصر في كل جملة ما يروي من الأخبار بحيث لا يثبت منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، أو كان يختصر الخبر نفسه فيحذف من حروفه ما يحذف وينقص ما ينقص ذهاباً إلى الاقتصاد في التعبير عن المعنى الذي ينقله؟. . .
أقول: هذا كتاب العقد بين أيدينا، وقد نظرت فيه طويلاً، وعاودت النظر مرات؛ فبدا لي من طول المراجعة أمر لا بد من التنبيه إليه: ذلك أن بعض دواعي ابن عبد ربه في تبويب كتابه، كانت تقتضيه أن يثبت الخبر مرات في أبواب متفرقة، لصلاحيته للدلالة في أكثر من موضوع واحد؛ فإذا أنت حققت النظر في هذه الأخبار المكررة فقلَّ أن تجد منها خبراً مروياً في موضعين بحروفه على وجه واحد؛ فثمة الحذف والزيادة والإبدال؛ وليس هناك من سبب - فيما نرى - لهذا الاختلاف في رواية خبر واحد في كتاب واحد لمؤلف واحد إلا أن يكون المؤلف يملك من حرية التصرف في رواية هذه الأخبار ما يسمح له أن يرويها بلغته، ويؤديها على الوجه البياني الذي يراه؛ فهو يرويها بالحذف والاختصار حيناً، وبالبسط والزيادة حيناً آخر؛. . . فهل كان ذلك بعض ما يعنيه ابن عبد ربه بـ (حسن الاختصار)؟. . .
. . . ولقد يكون هذا الخلاف في رواية خبر واحد نتيجة لازمة لاختلاف الرواة الذين ينقل عنهم، أو نتيجة لازمة لاختلاف الكتب التي ينظر فيها ويقتبس منها؛ ولكن كيف يكون التعليل حين يكون راوي الخبر في الموضعين واحداً، والكتاب المنقول عنه واحداً كذلك؟. . .
أظن أنه يحق لي بإزاء مثل ذلك أن أزعم بأن ابن عبد ربه لم يكن ينظر إلى شروط الرواية تلك النظرة المتحرجة التي تفرض على مثله في هذا المقام أن يلزم جانب الحرص في المحافظة على نص ما يرويه بحروفه، وأنه كان يجيز لنفسه أن يتصرف في رواية بعض الأخبار تصرفاً يؤدي بها معناها دون حروفها؛ وأحسب ذلك يصلح تعليلاً لانفراد ابن عبد ربه في بعض ما ورد في كتابه من نصوص تخالف ما أجمع عليه رواتها في مختلف
كتب الأخبار والنوادر؛ وأحسبه كذلك سبباً فيما ألتزمه صاحب العقد ونبه إليه في مقدمته، وهو حذف الأسانيد فيما روى من أخباره
فإذا صح ذلك، كان العقد إلى جانب ما قدمنا من التعريف بمزاياه، مرجعاً لغوياً يمكن الاستناد إليه في بحث شيء من التطورات اللغوية لبعض معاني العربية بين الشرق والغرب.
صحيح أن بعض هذا الاختلاف في رواية بعض الأخبار قد يكون مرجعه رواة الكتاب نفسه وكتبَته ونساخه، ولكن ذلك إذا صح في قليلها لا يصح في سائرها؛ وقد نبهنا في هامش هذه الطبعة إلى كثير من أنواع هذا الاختلاف، فليرجع إليها من شاء للنظر والاستدلال.
بقى أن نسأل: لماذا قصر ابن عبد ربه كتابه على أخبار المشارقة وهو من هو علماً وتحصيلاً ومعرفة بآداب قومه، وقرطبة هي ما هي في ذلك العصر الزاهر في الأدب والعلم والفن والسياسة؟
تعليل ذلك سهل ميسور لمن يعرف تاريخ ذلك العصر في قرطبة وبغداد حاضرتي البلاد العربية في الغرب والشرق.
لقد كان فرار عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق، محاولة جريئة لإقامة حكومة أموية في المغرب بإزاء الحكومة العباسية في بغداد؛ ولقد حالف التوفيق عبد الرحمن الداخل فتم له كثير مما أراد، وأقام عرشاً لبني أمية في الأندلس يتوارثه بنوه سيداً عن سيد، كلهم يحرص على النهوض بدولته إلى المنزلة التي يجعلها تناظر بغداد؛ فمن ذلك كانت المنافسة بين الدولتين في الشرق والغرب دائبة لا تني، وكانت الوفود لا تفتأ ساعية بين الحاضرتين، فلا يظهر جديد في بغداد حتى يكون نبؤه في قرطبة، ولا ينجم نجم في قرطبة حتى يذيع خبره في بغداد؛ واتخذت المنافسة بين الدولتين مظهراً علمياً يبدو أثره فيما كان من اهتمام المغاربة بالرحلة إلى الشرق للتزود من معارفه، وفيما كان من تطلع المشارقة إلى الأندلس ليعرفوا كل جديد من خبره وما أحدث علماؤه وأدباؤه في مختلف فروع المعرفة.
على أن المغاربة مع ما كان فيهم من اعتداد بأنفسهم وعصبية لبلادهم لم يكن منكوراً لديهم
أن علم العربية في المشرق كله، منه نشأ وفيه نما وربا، فكانت إليه أنظارهم، وإليه حجتهم وقبلتهم، ولا يتم تمام العالم منهم - عند الرؤساء وعند العامة - إلا أن يكون علمه مشرقياً.
وكما نشاهد في مصر لعهدنا من يتزيد في الفضل بكثرة ما يروى من علم الأوربيين وما يقص من مشاهداته لديهم وما يروى من أخبارهم - كان هنالك في ذلك العهد. . . . . .
. . . وفي ذلك العهد كان ابن عبد ربه، وكأني به وقد رأى المنزلة التي ينزلها علماء المشارقة من نفوس قومه، والمكان المرموق الذي تحتله مؤلفاتهم وكتبهم؛ حتى كان شأن ابن قتيبة وكتبه عندهم ما قدمنا - كأني به وقد رأى ذلك، فدبر أمراً، وأحكم خطة، واتخذ طريقاً؛ ثم خرج على الناس بكتابه يقول: هاأنذا، وهاهم أولاء!
وكان علماء الأندلس يرحلون إلى المشرق، فرحل المشرق إلى الأندلس في كتاب ابنِ عبد ربه. . .!
ذلك وجه الرأي فيما أحسب لاقتصار كتاب ابن عبد ربه على أخبار المشارقة إلا قليلاً منه، لا أرى ذلك وجهاً سواه.
ورحل كتاب ابن عبد ربه إلى المشرق تسبقه شهرته، ووقع في يد الصاحب بن عباد، فأقبل عليه مَشُوقاً ملهوفاً يلتمس فيه عْلَم ما لم يعلم، فما هو إلا أن نظر فيه حتى طواه وهو يقول أسِفاً:(هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا!). . . ثم دار الزمان وجدَّت الحوادثُ في آثار العرب، فأخذتْهم بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وتبعثرت المكتبة العربية فخلتْ بعد امتلاء؛ ولكن علم المشارقة ظلَّ محفوظاً بين دفتي كتاب ابن عبد ربه المغربي الأندلسيَّ القرطبي. . .!
هذا، وقد كان كتاب العقد من بعدُ، مرجعاً له خطره ومقداره عند كثير من علماء المشارقة؛ فنقل عنه القلقشندي في صبح الأعشى، والنويري في نهاية الأرب، والأبشيهي في المستطرف، والبغدادي في خزانة الأدب، وابن خلدون في المقدمة، وغير هؤلاء كثير؛ حتى قل أن يخلو كتاب من كتب النوادر بعدُ إلا كان العقد مرجعه وخزانة علمه. ولو أنني ذهبت أستقصي أسامي الكتب التي سطا أصحابها على العقد فاحتملوا من خزائنه ما أغناهم وذهب بشهرتهم كل مذهب لأعياني البحث وانقطع بي دون الاستقصاء.
محمد سعيد العريان
من أساطير الهند
شاد لها الحب لؤلؤة
(بتصرف عن اج. جي.
للأستاذ إبراهيم العريض
إني لا أستطيع أن أحكم لنفسي في الخلاف الناشئ منذ العصور حول هذه القصة. أهي أشد القصص مرارة في الحب، أم إنها مثل رائع لخلود الحسن؟ فالقصة وما دار حولها من نقاش بات في علم أولئك الذين يدرسون الأدب الفارسي في العصور الوسطى.
إنها أقصوصة جد قصيرة. وإن كانت شروحها قد شغلت حيزاً كبيراً من أدب ذلك الجيل المنثور، فحسبها بعضهم خيالا شعرياً، وأعتبرها آخرون رمزية، فكثرت في مغزاها الأقاويل؛ وذهب رجال اللاهوت فيها مذاهب شتى، واهتموا منها في الأخص بالجانب المتعلق بالبعث بعد الموت؛ وضرب رجال الأخلاق بها الأمثال، واتخذوها موضوعا للعبرة. وهناك غيرهم من لا يرى فيها إلا الحقيقة عارية من كل لبوس.
اج. جي. ولز
جلَوْها له في نقابِ الجمالِ
…
عروساً أتمَّ الصِّبا عامَها
وكانَ قريباً بعهدِ الطُّفول
…
ةِ لمَّا تتوَّج إذ رامَها
فحلَّت على قلبِه كالشُّعاعِ
…
ترى عينُه فيهِ أحلامها
سل الزهْرَ عنِ ضَحْكِها عندَما
…
تُفتحُّ للطلِّ أكمامها
سل الطير عن نُطقِها عندما
…
تبثُّ مع الفجرِ أنغامها
وما حكَتا من معاني الفُتو
…
نِ ما يُلْهِمُ الشِّعْرَ إلهامها
وما شَرِقَتْ عينُها بالسُّرورِ
…
فتنفُضَ من خمْرِه جامها
إذا خطرتْ شذَّ بينَ القلو
…
بِ من لا يُباركُ أقدامها
وكانت يدُ الحكمِ عن أمْرِه
…
تُنفذُّ في الخلْقِ أحكامها
فعاشَ لإِمتاعها بالوُجودِ
…
ونَّور بالحبِّ أيامها
وعاشتْ وإيَّاهُ في روْضةٍ
…
من الْحبِّ أفنانُها دانِيَهْ
إذا عادَ من هَمِّه بالنها
…
رِ أَلْفَى لديْها المُنى غافيه
فَمِجْمرةُ العودِ في جانبٍ
…
ومِعْزفةُ العودِ في ناحيه
ومن حولِ هاتْين شفّت ستائِ
…
رُ عن كلَّ نُمْرقَةٍ غاليه
وقد عقدَ الورْدُ حولَ السري
…
رِ من مثْلِ ألوانِها حاشيه
فتُسرعُ باسمةً نحْوه
…
وتأخذُ يُمناه كالشاكيه
وتهْويِ به بينَ تلكَ الظِّلالِ
…
وتبْقَي الظِّلالُ على ما هِيه
فلا تسْمَعُ الأذنُ غيرَ الصَّدى
…
صدى الرُّوحِ تهفو إلي ثانيه
وَلَا تُبْصِرُ العينُ إلاّ يداً
…
تمرُّ برِفْقٍ على ناصيه
إلى أن تذُوبَ الشِّفَاهُ التي
…
تُنَاغِيهِ في هَمْسَةٍ خافيه
وكانت قِصاراً ليالي الهناءِ
…
ولكنّها ازْدهرتْ كاملَهْ
فلمْ يشْعُرا بحُدَاءِ الربيعِ
…
ولا كيفَ مرَّتْ بهِ القافلة
وحلَّ الخريفُ لتنْعَى الطيورُ
…
إلى الروْضِ أوراقَه الهاطلة
تبدَّلَ في عيْنِها كلُّ لونٍ
…
فيا لكِ مِنْ صُفْرَةٍ قَاتلَةْ
فهامتْ فرادَي علي وجْهِهَا
…
وكانت تقِرُّ مَعاً نازِلة
وماذا تُؤمّلُ بَينَ الغُصُون
…
وقد تركَتْهَا الصَّبَا عَاطِلة
على كلَّ صَاوٍ لها رَنّةٌ
…
تُسَائله، لو وعَي سائلَه
وأمْسى أدِيمُ الثرَى صورةً
…
لِما رَسَمَتْهْ الخُطْا العاجلة
ومن بينَ مِنْ شيَّعَتْها الطيورُ
…
إلى عالَمٍ لا ترَى ساحلَه
على صِغَرِ السِّنِّ بين الحسا
…
نِ زهْرَةُ آمالِه الذّابلة
وأدْمَى الْمصَابُ فؤادَ الأمير
…
وأفقدَهُ رُشْدَهُ في أساهْ
فظلَّ ثلاثاً بلا بُلْغةٍ
…
وقد برِمَتْ نفسُه بالحياة
يلوحُ لناظِره طيْفُها
…
فيَجْزَعُ من دمْعِه إن محاه
ويضحكُ مِنْ قلْبِهِ سَاخِراً
…
إذا لم يرِنَّ اسْمُهَا في صداه
وكم أطْرَقَ الرأسَ حتّى إذا
…
أحَسَّ بذلكَ جُنَّتْ يداه
وكم لبِثتْ عينه في الظلام
…
شاخِصَةً لا ترى ما يراه
وتلّى على صَوْمِهِ رَابعٌ
…
وما زال جُثْمانُهَا في كراه
فلم يجترئ أَحَدٌ بَعْدُ أَنْ
…
يواريَ هَيْكلَها في ثراه
تمُدُّ النِّسَاءُ عليها الحريرَ
…
فيحسَبْنَهُ قائماً في صلاة
إلى أن تمثّلَهَا فِكْرَةً
…
فقرَّرَ تنْفيِذَها، في ضُحاه
فأصدَرَ أمراً إلى شعْبِه
…
دعا فيه بادِيَهُمْ واَلْحضَرْ
فما خطَرتْ قبْلَه فِكرةٌ
…
كتِلْكَ ببالِ جميعِ البشر
ووافاهُ مِنْ كلِّ فّجٍ عَمِيقٍ
…
بُراةُ الدُّمَى الفنُونِ الأُخر
وتمَّ له من مُعِدّاتِهْم
…
وأسبابهم ما اقْتَضَاهُ الأثر
فصبَّ لتابُوتِهَا فِضّةً
…
وزخْرفَ أطرافَه بِالصُّوَر
وقوَّمَ بالعاجِ أركانه
…
وزانَ قوائمَه بالدُّرر
وشادَ على قُدْسِهِ حَضْرةً
…
بناها من المرمر الْمُحْتَفر
وقدَّرَ شُبَّاكَهَا صَنْدَلاً
…
وجَمَّلَ كِسْوتَه بِالطُّرَر
وقامت له شُرْفَةٌ في البِنا
…
ءِ مقْصورَةٌ غَلِفّت بالسُّتُر
فكان يُفارِقُهَا بالعِشاءِ
…
ويأتي لزَوْرَتِهَا في السَّحر
ومرَّتْ سِنونَ على صرْحِه
…
وما زالَ يعْملُ في شأنِهِ
يُحِسُّ إلى حُبِّها في الضُّلو
…
عِ كالبحر يغْشَى بطُوفانه
فيَسْعَى ليُعْلِنَهُ للأنامِ
…
ولا يستريحُ بإِعلانه
وتلكَ التي أجَّجَتْ قلْبَهُ
…
فأغرتْ حَشاه بطُغْيانه
ففي طَرْفِهِ أبداً حيْرةٌ
…
إذا جالَ في حُسْنِ بُنيانه
فكم عاودَتْ يدُه بالصلا
…
حِ شَكْلاً يُدِلُّ بإِتقانه
وكم أعْجَب الناسَ ما شادَهُ
…
وأنْكَره هُو في آنِه
فهدَّم من سقْفِه ما اسْتقرَّ
…
وبدَّل هيْئَةَ أركانه
وفي البدْءِ كانتْ له نزْعةٌ
…
إلى المُسْتقلِّ بألوانه
فخفّفَ حِدّتَها تَوْقُه
…
حَدِيثاً لإظهار سُلْطانه
مضى في التطوُّرِ ذاكَ البِناء
…
ومَّهدَ أَوَّلهُ آخِرَهُ
فيأخذ إيوانهُ في اتِّساعٍ
…
تحيط السواري به دائِرة
وتلكَ هيَ النارُ في صدْرِه
…
ولكنها التهبَتْ زاهرة
ففي كلِّ رُكْنٍ لها آيَةٌ
…
تُحَدِّثُ عن حُسْنِها شاعِرة
لقد كانَ يُرْضِيه منها البَهاء
…
فأصبَحَ لا يرْتضِي الباهرة
وأكْسَبَهُ ضرْبُه في الفنُو
…
نِ ذوْقاً هدَى فِطْرَةً طائِرَة
ليختارَ من وحْيِها ما يَجِلُّ
…
ويُهْمِلَ عن عَمدٍ سائرة
فكم شُرْفةٍ أثْقلَتهْا النُّقو
…
شُ ردَّ سُرادِقَها حاسرة
لِتَنْهَضَ من فوْقِها قُبَّةٌ
…
تخالُ السماَء بها غائرة
يغيبُ عن الحسِّ مَنْ زارها
…
ويَشْهَدُ في ظلَّها الآخرة
تهلَّل بالحُسْنِ وجهُ الضريحِ
…
وقامتْ منائِرُه باتَّزان
تُطِلُّ على أَثَر للخُلو
…
دِ قامَ على آخر وهْو فان
وكانت تجيءُ إليه الوفود
…
تُبارِكُ سُمْعَتَهُ بالعِيان
فتَشدُو أدِلاَّوهُمْ بالتي
…
على حُسْنِها عُقِدَ المهْرَجان
وكيفَ قضتْ في صِباها فشادَ
…
لها الْحُبُّ لُؤلُؤةَ في الزمان
فَتَخْشَعُ أطْرَافُهم للمكينِ
…
وتخْفِتُ أصواتُهم في المكان
وكم شاعرٍ هائمٍ في الخيالِ
…
تمثَّلَها فبكَي من حنان
وحسناَء تحبْسُ أَنفاسَها
…
لعاقبةٍ - مِثْلَهَا - في الحسان
وَعَاشَ الأمير على عَهْدِهِ
…
يقومُ لها كلَّ يومٍ بشان
وَمِنْ حَوْلِه مُلْهِمَاتُ الْفُنُونِ
…
تَرِفُّ على قلْبِهِ بالأمانِ
وَأَمْسَى بشَيْبَتِهِ ذَاتَ يومٍ
…
تُنَادِمُه روحُها الساريَةْ
يرى الوافِدَاتِ إلى قبْرها
…
وهُنَّ يزَغْرِدْنَ في عافية
فيُثمِلُه حُسْنُ ما قدْ أَتمَّ
…
وَيَذْكرُ ما لم يَكُنْ نَاسيَة
لقد لبِسَ الصْرحُ هذا الجلالَ
…
بأشرافِ قُبَّتِه الْعالية
ولم يبْقَ ركنٌ على حَجْمِه
…
سِوَى موْضِعِ التُّربة الزاكية
ونظْرَتُه ترْتمي في البِنَاء
…
فتسْبحُ في جَوِّ صافية
ولكِنهَا كلّما راجعَتْ
…
سوارِيْهِ. . . ساريةٍ سارية
أصابتْ عِثاراً على نُقْطَةٍ
…
فكَرَّتْ على نفْسِها ثانية
فيشْعُر كالّشَوْكِ في صدْرهِ
…
يُوخزّ من قلْبِهِ دَامِيَةْ
فيَنْهَضُ فِي قبْضَةٍ منْ ذُهُولٍ
…
يَجرُّ خُطاهُ بلا واعِيَة
وعادَ غداةَ غَدٍ واجِماً
…
وفي سِرّهِ الْخُطْةُ التالَيةْ
وسادَ الكونُ على الْمُلْهمينَ
…
كأنّهُمُ الْجَمْرةُ الْخَابية
فشاعِرُهم قائمٌ بِالوَصِيدِ
…
يُسَائِلُ عمّا جَرَى رَاوِيَة
ودارَ بنظْرَتِه في الْمَكانِ
…
وأَلْقَى على صَحنِه ثانِية
ورَوَّى طويلاً وقال: ارْفَعُوهُ!
…
وَأَوْمَأ َلِلتُّرْبةِ الزاكية
(البحرين)
إبراهيم العريض
رسالة الفن
شيء نادر:
الوصول
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كن في مجتمع وانظر إلى الناس من حولك وتفرس فيهم، فإنك تستطيع بعد شيء من التدرب والتعلم أن تحدد، ولو بالتقريب، شخصيات الكثيرين منهم، فتقول إن هذا الأول شخص جاد مستقيم في عمله في لهوه، فهو يعمل ليعيش، ويلهو ليعمل، كأنما هو آلة حكم عليها أن تدور دورتين دورة ذات اليمين ودورة ذات الشمال. فإذا تركته ونظرت إلى الثاني قلت إن هذا الثاني شخص حائر لا يعرف لماذا نوجد في هذه الحياة ولا يعرف أي أعباء الحياة يحمل ولا أيها يدع، فهو يرمق كل شيُ باهتمام، ولا تعدو رمقته إلى الأشياء هذا الاهتمام، ولا تجوزه إلى الاختبار والمعرفة ثم الاستغلال. فإذا تركته ونظرت إلى الثالث قلت إن هذا الثالث مغالط اختلس في الدنيا ما كان غيره أحق به منه، وهو يعرف أنه مختلس، ويعرف أن المختلس مهدد بالانفضاح، ولذلك فإنه يعمد إلى تغطية مغالطته الأصلية المجرمة بمغالطات أخرى فرعية هي أيضاً مجرمة. فإذا تركته ونظرت إلى الرابع قلت إن هذا الرابع ضعيف هزيل ولكنه راغب في الحياة، وفي لون مريح من ألوان الحياة يرضاه، فهو يتوسل إليه بإهدار كل مواهبه وكل قواه لا يعبأ بأن يكون موضع النقد، ولا بأن يكون موضع السخرية، ولا بأن يكون موضع التحقير ما دام يصل إلى الذي يريد من الراحة الرخيصة التي استهوته والتي طمع فيها على غير جدارة منه لها. . . فإذا تركته ونظرت إلى الخامس قلت إن هذا الخامس حقود، فإذا تركته ونظرت إلى السادس قلت إن هذا السادس بخيل، فإذا تركته ونظرت إلى السابع قلت إن هذا السابع بحاثة، فإذا تركته ونظرت إلى الثامن قلت إن هذا الثامن فنان. . . وهكذا. . .
بل أن من الناس من تستطيع بالنظرة الأولى إليه أن تعرف الحرفة التي يحترفها، فهذا تعرفه معلماً من عنايته بالنظافة والنظام، ومن حركاته الميكانيكية التي اصطنعها لتكون نموذجاً للتلاميذ يتحركون على نمطها، ولتكون في الوقت نفسه ستاراً بينه وبين التلاميذ فلا
يكشفون مع وجودها حركات نفسه الطبيعية التي فطره عليها الله، وأنت تعرفه كذلك من صوته وإشارته وحديثه الذي يتكلف به التفهم بحسب أصول البيداجوجيا. . . وذاك تعرفه محامياً من لباقته ورشاقة ضميره التي تبدو في اتساع آفاق أحاديثه، تلك الأحاديث التي يحرص المحامي البارع كل الحرص على أن تكون كلاماً لا معنى له حتى إذا اختلف مع موكله بعد الحكم الابتدائي استطاع أن يتفق مع خصم موكله ليترافع عنه لدى محكمة الاستئناف. . . وذلك تعرفه سمساراً من سهولة دخوله على الناس وسهولة خروجه من الناس، فهو يحدث من يشاء بما يشاء إلى أن يشاء قطع الحديث ليحدث آخر بما يشاء أيضاً حتى يرى أن يصل الاثنين وأن ينسحب هو ليصل غيرهما بالحلال أو الحرام. . . وأخر تعرفه عسكرياً من سماحة عقله وسماحة نفسه فهو لا يطمع من الدنيا في شيء أكثر من الذي يطمع الإنسان فيه إذا كان في (استراحة) إحدى المحطات: لقمة سائغة، وشربة هنية، بعدهما جرس القيام. . . ثم الصحافي تعرفه صحافياً بقدرته العجيبة على دس نفسه فيما يعرف وفيما لا يعرف، وبقدرته الأخرى على الاستخفاف بحكم الناس عليه؛ فهو يقبل عليهم في النكبة لا ليشاركهم الأسى ولا ليواسيهم ولا ليخفف عنهم وإنما ليراهم كيف يبكون، وكيف يذرفون الدمع، وليته مع ذلك يحاول أن يعرف هذا البكاء وهذا الدمع هل هما صادقان أو هما كاذبان وإنما الذي يعنيه هو تسجيل الوقت الذي بدأ فيه البكاء والوقت الذي انتهى فيه، وتقدير الدمع الذي كأنما ناس يريدون أن يشربوه أو أن يعوموا فيه. . . وهكذا
هذا شيء يحدث. . . وأنت تستطيع - كغيرك - أن تميز الناس بالنظرة الأولى أو بالنظرة الثانية، فما الذي يحدث للناس حتى يتشكلوا هذا التشكل الذي يحددهم ويحصر شخصياتهم؟ وهل تحدد الشخصية وانحصارها مما يدل على قوتها، أو مما يدل على ضعفها؟
أما الذي يحدث للناس، فيكون من أثره أن تتشكل شخصياتهم وأت تتحدد وأن تنحصر وأن تتميز، فهو أن الواحد منهم يقع تحت تأثير عاطفة من العواطف أو حرفة من الحرف، ويتركها تعمل في نفسه. والنفس كما نعلم تعمل في البدن، ولكل عاطفة لون من العمل تنصبغ به النفس ويتشكل به البدن. ومهما كان الخير في العاطفة الواحدة أو في الحرفة الواحدة، فإن تغلبها على الإنسان فيه اختلال لتوازنه النفسي وفيه تشويه لشكل بدنه، فالله لم
يخلق بعاطفة إنساناً واحدة طاغية عليه، كما أنه لم يخلق إنساناً محترفاً حرفة واحدة تؤثر فيه هذا الأثر الشنيع.
وإنما الناس الذين خلقهم الله أطفال، أصفياء، عواطفهم موجودة لا حصر لها: فالسعيد منهم هو ذلك الذي إذا نما العقل فيه تمكن به من حفظ التوازن بين هذه العواطف الموجودة الكثيرة فلم يسمح لإحداها بأن تغلبه على أمره. . . فإذا استطاع هذا، فهو ينمو ويكبر ولا يزال وجهه كوجوه الأطفال، ولا تزال شخصيته كشخصيات الأطفال، فيها هذا الشيوع السمح الذي لا يستطيع الناظر إليه أو المحقق فيه أن يميزهم به فيقول: إن هذا الإنسان حقود، أو أنه غيور، أو أنه طماع، أو أنه محام أو أنه معلم، أو أنه مهندس، أو أنه شيء ما. . . وإنما يقول هذا إنسان، فإذا أراد أن يعرف أي إنسان هو كان عليه أن يعاشره وأن يختبره، فعندئذ تتبين له مواهبه واتجاهاته العقلية والنفسية. ولا بد في هذه الحال أن تنكشف له ميزات عجيبة، لأن الإنسان الذي يستطيع - وعلى الخصوص في هذا العصر - أن ينجو بنفسه من الخضوع لإحدى العواطف أو لمجموعة خاصة منها، وأن ينجو من آثار الحرفة والمهنة، لهو إنسان قوي النفس استطاع أن يصل أو أن يعود إلى الأصل الطبيعي لنفسه، وهو الأصل الذي فطره الله عليه، وهو أصل خصب صاف غني فيه كل العواطف، وكل المواهب، وكل القوى الخلقية، وإن تفاوتت مقاديرها عند الناس.
ومن الفنانين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى هذا الصفاء: شارلس لاتون، فأنت تنظر إلى وجهه فترى وجه طفل لا يستطيع اللحم المتراكم فيه أن يحجب صفاءه ولا نقاءه.
ونجيب الريحاني يقترب اليوم من الستين، ومع هذا فمهما تفرست في وجهه فإنك لا تستطيع - والصلاة على النبي - أن ترى فيه تجعيدة أو خطأً يستر عاطفة حادة أو يشير إلى أن هذا الرجل قد قهره الزمن على أن ينصبَّ في قالب ما. ولذلك فإنه قدير على أن يمثل كل شخصية من الناس، وعلى أن يعلم الممثلين كيف يمثلون ما اختلف من الشخصيات.
والأستاذ أحمد أمين - على ما أنا متحامل عليه - تراه فلا تعرف أهذا الرجل أديب، أم هو عالم، أم هو تاجر، أم هو من ذوي الأملاك، أم هو ممن يرزقهم الله يوماً بعد يوم. . . ولست أدري أأتاه ذلك لأنه من أولئك الذين تحدثنا عنهم، أم لأنه مجموعة من الرجال:
فمنهم الأديب والعالم والتاجر وذو الأملاك، والذي يرزقه الله يوماً بعد يوم، وقد تعادل فيه هؤلاء جميعاً فلم يقو واحد منهم على أن يختص بالظهور فيه.
ويشبهه في ذلك الأستاذ الزيات. . . بل إنه يزيد عنه غموضاً في صوته، فهو لا يزال إلى اليوم يشبه أصوات الأطفال. . .
أما الرجل الجبار في هذا الوصول فهو الاقتصادي الفنان الكبير طلعت حرب. . . فهذا الرجل إذا لم تكن تعرفه ورأيته وأقسم لك جمهور من الناس بأنه طلعت حرب لما صدقت، فهو لا يبدو عليه أنه باشا، ولا أنه اقتصادي، ولا أنه صاحب مشروعات، ولا أنه صاحب جهاد، وإنما هو رجل منكسر ينثني رأسه وهو جالس إلى صدره ذلاً واستغفاراً، وتتطلع عيناه إلى السماء رجاء واستعطافاً، ويتهادى صوته في حديثه كأنما يخشى التعثر أو الخطأ، مع أنه اليوم في السبعين أو نحوها، ومع أنه الرجل الأول في مصر.
السنون مرت به ولكنها لم تفعل به شيئاً، والصعاب صدمته ولكنها لم تحفز في نفسه مجرى، وإنما كان يقبل في السنين الماضيات جميعاً على اليوم بعد اليوم، أو على الساعة بعد الساعة يبحث عن موضع الحق أين هو فيلصق به، والصعاب كانت تصدمه فكان يردها بدرع الحق أيضاً فلم تكن لتؤثر فيه، ولذلك استطاع أن يبقى إلى اليوم كأنه طفل كبر جسمه ولكن نفسه ما تزال صافية مرتاحة.
وإذا كان الوصول إلى هذا الصفاء لازماً للناس جميعاً، لأنه أهم أسباب الراحة والاطمئنان، فهو ألزم ما يكون لأهل الفن ما دام تعبيراً من حياة الروح عند صاحبه وعند غيره من الناس، فهذا الصفاء يمكن الفنان من الاطلاع على حقيقة نفسه كلما اعتراها طارئ من طوارئ الحياة، فيلحظ بهذا الاطلاع ما ينتاب النفس الطبيعية عند هذا الطارئ بالذات؛ فإذا ضمن صفاء نفسه واستقامتها فقد ضمن بها مقياساً لا يخطئ يمكنه من الحكم على سائر النفوس وهي تحت تأثير الطوارئ المختلفة، فإذا لحظ بعد ذلك كيف تعبر نفسه عما تفعله بها الطوارئ، وكيف تنزع إلى الاستغراق في هذا الطارئ أو التنصل من ذاك الطارئ، استطاع بعد ذلك أن يقيس نفوس الناس على نفسه الصافية فإذا وجد اختلافاً بحث عن علته وسببه عندهم. . .
وهذه موضوعات للأدب، وللموسيقى، وللتمثيل، وللغناء، وللرسم، وللرقص. . .
إنها حياة النفس وما الفن إلا تصوير هذه الحياة، وما الوصول إلى الفن الصادق إلا من هذه الطريق. . .
كان الله في عون الفنان إذا أراد أن يكون صادقاً. . .
عزيز أحمد فهمي
البريد الأدبي
الجيل
يعضد مقالة الدكتور زكي مبارك في (الجيل) مستدرك التاج (والجيل القرن)(والقرن - كما في النهاية - أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. وقيل: القرن أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: هو مطلق الزمان)
والجيل في هذه اللزومية:
دين وكفر وأنباء تقص وفرقان (م)
…
ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها
…
فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟
وما تزال لأهل الفضل منقصة
…
وللأصاغر تعظيم وتبجيل!
الجيل في قول الشيخ قد يراه الدكتور من حججه
حول مسابقة الأدب العربي
في هذا العدد من الرسالة يظهر المقال التاسع، وفي العدد المقبل إن شاء الله يظهر المقال العاشر في نقد كتاب (المختار) للأستاذ عبد العزيز البشري، ويرى طلبة السنة التوجيهية أن موعد المسابقة اقترب وأنه صار من المتعذر أن نكتب عن (تحرير المرأة) و (ديوان إسماعيل صبري)
أما كتاب المرأة فقد نشرت عنه (الرسالة) مقالين لباحثين فاضلين، فأنارت الطريق أمام الطلاب، وأما ديوان إسماعيل صبري فمعه أربع دراسات لحضرات الأساتذة الأفاضل طه حسين وأحمد أمين وأنطون الجميّل وأحمد الزين، وفي هذه الدراسات ما يوضّح ملامح هذه الشاعرية أحسن توضيح.
لكن بقي جانبٌ من هذه الشاعرية لم يلتفت إليه هؤلاء الباحثون، وذلك الجانب هو تأثير إسماعيل صبري في الشعر الحديث من الناحية الوصفية، وأريد بها وصف الآثار المصرية وكنت أحب أن أنشر في (الرسالة) مقالة في خصائص هذا الجانب من شاعرية صبري، ولكني لم أجد ما أقوله بعد البحثين اللذين أثبتهما في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء) وهما يقعان في سبع وعشرين صفحة، فإن رأي الطلبة أن يرجعوا إلى هذين
البحثين في كتاب الموازنة بين الشعراء فسيكون لذلك بعض النفع، لأنهم سيرون ملامح لم يروها في تلك الدراسات، وقد يكون فيما فصلنا من الموازنة بين صبري ومطران معان لم يلتفت إليها من قبل.
وأن أرجو أن يكتب الله التوفيق لجميع المتسابقين، وأنتظر بعون الله ورعايته أن يكون إجابات المتسابقين شاهداً على اهتمام الشبان في مصر بمسايرة الأدب الحديث والله عز شأنه هو الموفق.
زكي مبارك
الرواية الإسلامية في عدد أصحاب الكهف
ذكر الأستاذ الجليل زكي مبارك في العدد (391) من مجلة الرسالة الغراء أنه بمراجعة التفاسير في قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) يعرف أن أصحاب القول الأول هم اليهود، وأصحاب القول الثاني هم النصارى، وأصحاب القول الثالث هم المسلمون، وقد جعل الرواية الإسلامية أن عددهم ثمانية بإضافة كلبهم إليهم.
ولعل الصديق الأستاذ زكي مبارك يقصد الرواية الإسلامية المشهورة، فلا تكون هذه الرواية في الإسلام ضربة لازب وإن اشتهرت بين المسلمين، فكم من أمور اشتهرت بيننا معشر المسلمين وليست في شيء من ديننا. والحقيقة أن ظاهر القرآن الكريم على أن هذه الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب خاصة، فهم الذين قالوا مرة إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالوا مرة إنهم خمسة سادسهم كلبهم، وقالوا مرة إنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يرد عليهم أقوالهم المختلفة بقوله:(قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) ثم أمره بعد هذا ألا يماري فيهم إلا مراء ظاهراً، واختيار أحد هذه الأقوال وحمله على القرآن والإسلام ليس من المراء الظاهر في شيء، والحكمة ظاهرة في ترك ذلك المراء، لأن الإسلام لا يعني بعدد أصحاب الكهف ولا غيره من شأنهم، وليس من شأنه أن يدخل في جدال مع أهل الكتاب في تلك التفاصيل، وإنما يسوق قصة أهل الكهف للعبرة والعظة، شأنه في كل ما قصه علينا في القرآن الكريم، والعناية بتلك التفاصيل من شأن علم التاريخ
لا من شأن الكتب السماوية.
وقد تمسك الذين رجحوا أن يكون عدد أصحاب الكهف ثمانية من علمائنا بهذه الواو التي وردت في قوله تعالى: (وثامنهم كلبهم إذ لم يقل قبلها ورابعهم وسادسهم، ولكن هذه الواو إذا دلت على مثل هذا فإنما تدل عليه في قول الذين حكى الله تعالى هذا القول عنهم، ولا تدل على ترجيح الله تعالى لهذا القول على القولين قبله.
وإذن يكون الراجح عندنا في عدد أصحاب الكهف أنه مما استأثر الله بعلمه مع القليل الذي ذكره في كتابه، وليكن بعد هذه عددهم أربعة أو ستة أو ثمانية، فكل هذا من الرجم بالغيب. ولا يهمنا في ديننا بشيء، ولو كان المسلمون كلهم يعرفون عددهم وأنه ثمانية ما قال الله تعالى في عددهم (ما يعلمهم إلا قليل)
عبد المتعال الصعيدي
في ديوان إسماعيل صبري باشا
قرأت ديوان إسماعيل صبري باشا الذي صححه وضبطه وشرحه ورتبه الصديق الشاعر الأستاذ أحمد الزين والذي قامت بنشره لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1938م فَلفتَ انتباهي خطأ وقع فيه الأستاذ الزين رأيت أن يصححه كل من اقتنى الديوان. ففي صفحة 186 قصيدة عنوانها (الحرب الإيطالية في طرابلس أيضاً) أولها:
يَا بِنتَ رُومَا لا تكوني كماَ
…
كانَتْ أثِينا بَيْنَ قِيلٍ وقالِ
وهذه القصيدة مُشكلةٌ كل أبياتها بكسر اللام في القافية وهذا خطل تصويبه تسكين اللام يصير وزن القصيدة:
مُستفعلن مستفعِلُنْ فاعلنْ
…
مُستفعلنْ مُستفعلن فاعلانْ
فليس من الجائز أن نقول:
مُستفعلنْ مُستفعلنْ فاعلنْ
…
مُستفعلن مُستفعلن فاعلَانِ
والخطأ في القول الثاني هو كسر النون في (فاعلانِ) وصحته تسكين اللام يقول (فاعلانْ)
عبد الرحمن الخميسي
قصيدة كبلنج
قرأت في العدد (389) من الرسالة الغراء ترجمة الأستاذ عبد الواحد الخطيب لقصيدة كبلنج الخالدة (إذا. . .) فوقفت عند السطر الثاني والثلث منها عندما لاحظت اضطراباً في المعنى فقد جاء في ترجمة الأستاذ ما نصه (وكان في إمكانك أن تثق بنفسك حينما يشك فيك بعد أن تعرف رأيهم ووجهتهم التي يعيبونك فيها) فالضمير في رأيهم يعود على فاعل يشك التي بناها الأستاذ لصيغة المجهول، وكان الصواب أن يذكر فاعلها وهو (الناس) كما ورد في الأصل الإنجليزي.
هذا وإننا نشكر الرسالة الغراء فتحها المجال لأمناء العربية ممن قدِّر لهم الوقوف على الأدب الإنجليزي الزاخر ليطلعونا على عيونه وفرائده.
(عكا. فلسطين)
عرفات الطاهر
ميكرسكوب كهربائي يكبر 25 ألف مرة
من أخبار أمريكا الأخيرة أن أحد المصانع الكبرى بها وهو مصنع للراديو قد تمكن من إخراج ميكرسكوب يستعين بالقوة الكهربائية لإعطاء نظر قوته 25 ألف مرة. وهذا الميكرسكوب قد وضع تصميمه العالم الدكتور فلاديمير زوركين وتمكن المصنع من صنعه بمعونة نفر من أقطاب صناعة العدسات وعلى رأسهم الدكتور لادسلوس ماركون أشهر أخصائي في صنع الميكرسكوبات.
ولا شك أن هذا المجهر يفتح مجالاً كبيراً للعلماء في شتى الأبحاث التي ظلت خفية أو مجهولة، بل وفي شتى الصناعات الكيميائية التي تعتمد على الكيمياء الصناعية كما هو الحال في الراديو، وقد يفسر هذا إقدام هذه الشركة على تمويل المشروع.
ومن البديهي أن استخدام هذا المجهر في علم البيولوجيا سيعود بأعظم النفع على الإنسانية إذ سيكشف عن جزئيات الميكروبات، كما أنه سيكون ذا فائدة كبيرة في دراسة علم المعادن العضوية وغير العضوية التي لا يمكن رؤيتها بالمجاهر العادية.
ومن قوة هذا المجهر أنه يستطاع به رؤية الميكروبات الدقيقة التي لا يمكن رؤيتها بالضوء العادي، فلقد استعمل المصنع ضوءاً قوته من 30 ألف - 100 ألف فولت حتى استطاعوا
أن يشاهدوا به الموجات الضوئية الدقيقة.
وهذا المجهر مزود بآلة فوتوغرافية غاية في الدقة تستطيع أن تصور التطورات المختلفة التي تمر تحت عدساته. وحسب القارئ في الدلالة على دقتها أن يعرف أن في استطاعتها تصوير جزء من مليون من السنتيمتر. وشريطها رقيق جداً بدرجة حساسة وهو مصنوع من مادة النتركيلولوس.
وعدسات هذا المجهر ثلاث: الأولى تجعل المشاهدة حوالي مائة مرة، والثانية تصلها إلى 250 مرة، والثالثة تضاعفها إلى 25 ألف مرة؛ وجميع هذه المكثفات واقعة تحت تأثير منبع كهربائي قوته كما قلنا أقلها 30 ألف فولت وآخرها 100 ألف فولت، وفي أسفل هذه العدسات الآلة الفوتوغرافية الدقيقة. . . أرجو أن أستطيع في فرصة أخرى توضيح هذا الشرح بصور لهذا المجهر العجيب.
مصطفى مشعل
سفساف لا سفاسف
جاء في كلمة عبد الوهاب عزام عدد (388) هذه الجملة:
(ويعلو عن (سفاسفه)). فقد ند قلم الدكتور السيال عن هذه اللفظة، فاستعملها بمعنى الرديء، والذي ورد في كتب اللغة (سَفْساف) ولم يرد إلا سُفاسِفْ بالضم بمعنى شديد.
جاء في القاموس مادة (سفف)، (وجوعٌ سُفاسِف بالضم شديد، والسفساف الرديء من كل شيء والأمر الحقير، وسفسف عمله لم يبالغ في إحكامه) وفي لسان العرب السفساف الأمر الحقير وأورد شاهداً ما جاء في الحديث: (إن الله سبحانه وتعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وأنكر سفاسفه قال: (وفي حديث فاطمة بنت قيس إني أخاف عليك سفاسفه قال ابن الأثير هكذا أخرجه أبو موسى في السين والفاء ولم يفسره وقال: ذكره العكبري بالفاء والقاف ولم يورده أيضاً في السين والقاف قال: والمشهور المحفوظ في حديث فاطمة هو: إنما هو إني أخاف عليك قسقاسته وهي العصا قال: فأما سفاسفه وسقاسقه فلا أعرفه إلا أن يكون من قولهم لطرائق السيف سفاسقه وهي التي يقال لها (الفرند) فارسية معربة.
وأستفهم من حضرة الدكتور الأديب: هل هناك فرق بين الصبر الجميل والصبر. فقد جاء
في القرآن الكريم حكاية عن سيدنا يعقوب (فصبر جميل) وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: فاصبر صبراً جميلاً، وبقوله: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فهذا الدليل على أن هناك أنواعاً للصبر بينها فروق. أرجو الإجابة على هذا مع جميل الثناء.
فخر الدين غزي
إلى الدكتور عبد الوهاب عزام
إنك وحدك - فيما أعلم - الذي تستطيع بلسانك الفارسي أن تسلك القلم العربي المبين في هذه الناحية التي عنت لي في دراسة الأدب العباسي. تلك الناحية هي تأثير اللغة العربية في اللغة الفارسية تأثيراً شاملاً لا ريب فيه، وتلك الثغرة أتقدم إلى فتحها في البحث الأدبي إذ المستفيض في كتابات الناس على كثرتها وتنوعها أنها لم تتعد الحديث عن تأثير الفارسية في العربية تأثيراً عاماً في الألفاظ والأساليب والأخيلة والمعاني وكل ما يضرب في هذه السبل، ويذهبون في العوامل التي أدت إلى ذلك كل مذهب، وليس يعنينا هنا أن نقول إن العربية اقتحمت على الفارسية معاقلها أو كادت تمحوها حيناً من الحين، أو أن نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو بالعربية، إذ كان شعر الشاعر منهم بالعربية كبشار، وأدب الأديب منهم بالعربية كابن المقفع، وتأليف المؤلف منهم بالعربية كابن قتيبة والطبري، نعم هذا حسن ولكني أعتقد أن هناك شيئاً وراء ذلك كله وهذا الشيء لم يعرض له أحد من الباحثين فيما قرأت من تواريخ اللغة والأدب. وهل رأينا أحداً ألف كتاباً أو بحث بحثاً في تأثير اللغة العربية في الفارسية وآدابها. لا نقول إن هذا لون في البحث لا يعرض له مؤرخ الفارسية وأدبها، فالباحث الحديث لا يقف قلمه عند النظرة البدائية أو نظرة الطائر كما يقولون. والمهم هنا هو أن أنص بقوة على أن اللغة الفارسية لا بد أنها تأثرت تأثيراً عميقاً باللغة العربية في الألفاظ والأساليب والأخيلة والمعاني والأفكار، إذ المعلوم أن سريان مثل هذه التأثيرات شيء معنوي لا يمكن أن تضع يدك عليه وتقول إنه وصل إلى هنا وابتدأ من هناك، أو تستطيع أن تقف تياره عند حد معين، فذلك بالماديات أليق، وإذا كان كذلك فإني أتقدم إلى الدكتور الفاضل عبد الوهاب عزام راجياً أن يسلك القلم
في هذا الموضوع الخطير وله في العربية العرفان بالجميل، وهذه إشارة عجلان لعلها تحظى بالجواب من العالم الوقور.
أحمد عبد الرحمن عيسى
القصص
الحب والسحر
للأستاذ نجيب محفوظ
انتهى من فرش شقته - أو حجرته إن أردت الدقة - لأنها كانت مكونة من حجرة متوسطة الحجم وردهة صغيرة، وكان الأثاث في غاية البساطة كذلك لا يعدو الفراش الخشبي الصغير وخواناً يستعمل مائدة للطعام ومكتباً للمذاكرة وكرسياً وصندوقاً لحفظ الملابس والكتب ومسطرة مدرسة الصنائع المعروفة بطولها. وهذه الشقة هي الطابق الأول لمنزل صغير مكون من طابقين متماثلين بحارة دعبس بالوايلية. هداه إليه أهل الخير، فوجده صالحاً لتلميذ مثله بمدرسة الصنائع ومن أسرة ريفية متوسطة الحال بقليوب، واكترى الشقة بخمسين قرشاً بعد أن فرضت صاحبة البيت تخفيض مليم من أجرتها. . .
واستقبل الحياة في البيت الجديد بنفس راضية، وعلم أن صاحبته تدعى (أم فردوس)، وأنها أرملة أسطى عربجي كارو ولكنها تعيش الآن من أجرة شقته وما تربحه من بيع مواد السمنة: كالمفتقة والمغات وبعض التركيبات الأخرى؛ ثم هدايا الأسر التي تعمل بها: (كبلانة) أو (خاطبة). وكانت امرأة قصيرة بدينة قوية البنية، تصبغ شعرها بالحناء، وتملأ ساعديها بالأساور الذهبية؛ وكانت قسماتها مقبولة، ولكن صوتها خشن جهوري، السب أهون ما يقذف به مما جعلها مرهوبة الجانب في الحي كله. وتساءل منذ اليوم الأول لإقامته في البيت: ترى هل لأم فردوس بنت تدعى فردوس حقاً؟. . . وأين هي؟ هل تقيم معها في البيت أم أنها في بيت زوجها؟. . . وربما كان الباعث على السؤال حب الاستطلاع ليس إلا، وعلى أية حال جاءه الجواب سريعاً، ففي صباح أحد الأيام، وكان يهم بمغادرة شقته إلى المدرسة سمع وقع أقدام خفيفة فصوب بصره إلى أعلى السلم فرأى فتاة في السادسة عشرة مرتدية مريلة المدرسة الزرقاء تهبط في تؤدة حاملة حقيبتها، فانتظر حيث هو موسعاً لها الطريق، وقد التقى بصره ببصرها وهي تعاينه بعين يعلوها الارتباك، ولما حاذته خال أنه سمعها تحييه خافت قائلة (صباح الخير) فقال لها بلهجته الريفية القحة (صباح الخير). . . ثم تبعها على مهل حتى خلصا إلى الطريق، ولم تلتفت الفتاة إلى الوراء، ووضعت حقيبتها على خاصرتها وأحاطتها بذراعها ومضت. . . ترى هل تكون
الفتاة فردوس بنت أم فردوس؟. . . رجح ذلك مستدلاً بتحيتها له، وعلى أية حال كانت الفتاة خمرية اللون، سوداء العينين والشعر، ناهدة الثديين. . . فبدت لعينيه الريفيتين آية من الحسن، وكان يتمثل فردوس من قبل كأمها: غليظة، تسعى في الأسواق ملتفة بالملاءة اللف، فإذا به يجدها تلميذة لطيفة تسر الناظرين. . . فجرت ابتسامة على شفتيه الغليظتين، وولول قائلاً بلهجته الريفية:(وي وي يا بوي). . . ولذ له أن يعيش في بيت واحد مع هذه الفتاة الجميلة، ولكنه كان قليلاً ما يسد برؤيتها بخلاف أمها التي كانت تقوم بتنظيف شقته، وتجالسه في أوقات الفراغ، وتحدثه - بمناسبة وغير مناسبة - عن شئون مختلفة وعن أناس كثيرين من الجيران، وقد ساق الحديث يوماً إلى ناحيته فسألته عن أسرته ومستقبله وصارحها الشاب بأنه من أسرة سيدهم!. . . وأنه يملك فدانين وعدداً من القراريط وجاموسة، وانه التحق بمدرسة الصنايع بعد أن قضى ثلاث سنوات بالمدرسة الثانوية وقال لها في شيء من المباهاة أنه سيكون يوماً ما مهندساً وأصغت المرأة إليه باهتمام وانتباه وكانت تتمثل الفدانين والجاموسة والمهندس الشاب وتختلس منه نظرات عميقة تدل على الحذر والدهاء. . . ثم دعت له دعاء طيباً بصوتها الأجش. . .
وسارت الحياة على وتيرة واحدة ولم يكن يغير من رتابتها إلا سفره كل أول خميس من الشهر إلى قليوب حيث يبيت ليلته ويعود مساء الجمعة حاملاً معه بيضاً وفطيراً وزبدة يهدى إلى أم فردوس منها نصيباً معلوماً. . .
وفي من الأيام وكانت المرأة تجالسه خاطبته قائلة:
- والنبي ياسي حماد تفهم فردوس الحساب لأنها ضعيفة فيه وابتهج الشاب بالدعوة أيما ابتهاج. ولم يكن الأمر سهلاً كما يبدو لأنه كان نفسه ضعيفاً في الحساب وكان بينه وبينه ثأر قديم منذ اليوم الذي اضطره فيه إلى اليأس من الاستمرار في المدرسة الثانوية وإجباره على اختيار مدرسة الصنائع بدل المدرسة الحربية التي كان على استعداد لأن يجود في سبيل الالتحاق بها ببيع الفدانين والجاموسة. ولكنه قبل الدعوة دون تردد وصعد إلى شقة أم فردوس، ووجد الفتاة وكأنها في انتظاره وكانت ترتدي فستاناً أنيقاً، وترسل شعرها الأسود في ضفيرة طويلة جاوزت ردفيها. فقامت لتحيته وجلسا تفصل بينهما مائدة وضعت عليها كراسة الحساب، وقالت لها أمها: إن (حماد أفندي قبل أن يدرس لها الحساب) وجلست
معهما برهة ثم خرجت إلى الردهة لأعمالها التي لا تنتهي، وكان الدرس شاقاً على المعلم والتلميذة على السواء، ولكنه لم يرض بالهزيمة وإفلات الفرصة السعيدة من بين يديه فشرح لها الدرس على قدر فهمه. وكان إذا غلبه الارتباك نظر إليها وسألها قائلاً:(فاهمة؟) فتهو رأسها بالإيجاب سواء أكانت فاهمة أم غير فاهمة. ووجد حامد في هذه الدروس فرصة جميلة للاجتماع بفردوس، وكان يجذبه إليها ما يجذب فتى مثله في فورةالشباب إلى فتاة في نضوجها وحسنها انطوى عليهما بيت واحد، وربما كانا معاً يكابدان هذا الشعور الطبيعي ولكنهما لم يتقدما قي علاقتهما عن أول يوم التقيا فيه لأن الشاب كان ريفياً (خاماً) وكان يقنع بأن يقول لها صباح الخير أو مساء الخير وهو يحدجها بنظرة ذات معنى كأنها تتوسل إليها أن تفهم، أو أن يضغط على يدها إذا مدتها إليه بالسلام. وكان كثير الحذر في التعبير عن شعوره خشية تتنبه إليهما أم فردوس لأنه كان يتوهم أنها لم تتنبه إليهما بعد. . .
واطردت الأيام وهو جد سعيد بحياته، حتى كان صباح جمعة، وكان من عادته أن يمضي صباح الجمعة خارج البيت إلى ما بعد الصلاة؛ وكان يقطع حارة دسوقي في طريقه إلى شارع الملك فألتقى بأم بخاطرها الغسالة وهي ملتفة في ملاءتها القذرة كغرارة الفحم، وكانت تغسل له ثيابه ثم انقطعت على أثر شجار قام بينها وبين أم فردوس تبودل فيه القذف والسب وشد الشعر والبصق وحركات أخرى غاية في الغرابة، فأقبلت المرأة عليه وحيته وقالت:
- ياسي حماد أنا أرغب في مقابلتك منذ زمن طويل فالحمد لله الذي أراد بك كل خير. . . تعال أحدثك حديثاً يهمك. . .
وانتبذت به مكاناً خالياً من الحارة ثم استدركت تقول:
- أنت شاب طيب القلب لا تدري من أمور الدنيا شيئاً فاحذر هذه المرأة. . . أم فردوس داهية شريرة تجد منذ زمن طويل في الإيقاع بك. . .
فبوغت الشاب بهذا القول وأخذه العجب وسألها في ارتباك ظاهر: (أي إيقاع بي تعنين!)
فقالت المرأة وهي تخافت من صوتها:
- ابنتها؟. . . ألا تفهم؟. . . ابنة العربجي. . . فردوس التي تسير في الطريق عارضة
ردفيها وساقيها لكل من رأى، فلا هي من مقامك ولا مقام أسرتك وأنت الحسيب النسيب مالك الفدادين. . . فاحذر ثم أحذر، إنها تحتال عليك مستعينة بالشياطين. .
وسكتت المرأة ريثما تستريح وجعلت تلحظ الشاب وتقرأ الدهشة المرتسمة على وجهها بارتياح ثم أدنت رأسها من رأسه غير مشفقة عليه من رائحة رأسها ونكهة فمها واستطردت تقول:
- لقد أخذت منديلك خفية وأعطته للشيخة زهية وأعطت قميصك للشيخ لبيب وأنت لا تدري شيئاً والسحر في فعله، والبخور في عمله، وأرواح الشياطين تطوف ليل نهار.
فتبدى الخوف على وجه الشاب وعبس وجهه. . . ولم يكن خالي الذهن من هذه الأمور، ولا كان ممن يستهينون بها فساوره القلق وتساءل متجاهلاً عواطفه مظهراً عدم اكتراث.
- وما عسى أن يعني هذا؟
فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت:
- هذا يعني كل شيء يا مسكين؛ هذا الذي أوقع المرحوم الأسطى شلبي من قبل. واعلم أنها دخلت في العميق، وحصلت على حجاب رهيب تحت حشيّة سريرك، وحفظت ابنتها كلاماً سحرياً مخيفاً تتله صباح كل جمعة على فراشك وهي تثابر على ذلك أسبوعاً بعد أسبوع، فأفسد عليها عملها الشيطاني، وانج بنفسك. . . والآن وقد حذرتك، فإني تاركتك لحكمتك والله يلهمك الصواب. . .
وسارت المرأة في سبيلها، ولبث هو في مكانه لا يريم عنه متفكراً قلقاً يعجب لتلك الأمور الجليلة التي تدور من حوله وهو عنها غافل. . . رباه! أسحر وبخور وشياطين؟!. . . أكل هذا ليتزوج من فردوس؟ وكان بغير شك قلقاً خائفاً ولكنه أحس لذة خفية وفخاراً، ثم تساءل: هل يستمر في طريقه أم يعود إلى البيت ليرى بنفسه ما يحدث في غرفته؟ وولى وجهه شطر حارة دعبس دون تردد فبلغ البيت بعد زمن قصير وكانت النوافذ مغلقة والباب موارباً كعادته فدخل بهدوء لا يحدث صوتاً ورأى باب شقته مغلقاً، ترى هل هو مغلق بالمفتاح؟ وهل فردوس حقاً بالداخل؟ ثم صعد بصره إلى أعلى السلم وأدار الأكرة بخفة ودفع الباب في حذر فانفتح، فخفق قلبه وقال لنفسه إن أم فردوس لا تترك الباب هكذا إذا لم يكن أحد بالداخل، ثم دخل ورد الباب بهدوء، وهنا اقتحمت أنفه رائحة بخور جميلة
مخدرة فانتفض رعباً وتمتم بصوت غير مسموع قائلاً: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم) ولكن شغفه تغلب على خوفه فتقدم بخفة كأنه يسير على حبل في ملعب ووضع أذنه على باب الحجرة فلم يسمع حركة ولا نامة فانحنى حتى استطاع أن ينظر إلى الداخل من خصاص الباب فرأى دخان البخور تتصاعد سحائبه في هدوء إلى سماء الغرفة، واستطاع أن يرى سريره بوضوح. . . رباه. . لم يكن خالياً. . . كانت فردوس تتربع عليه في ثوب أبيض ناصع البياض متلفعة بخمار أبيض كذلك كأنها على وشك صلاة، ورآها تضع على كفها رسالة مطوية تستغرق في النظر وتحرك شفتيها حركة منظمة كأنها تتلو آية؛ ولبث ينظر إليها في سكون ودهشة، وكان يجد قلقاً غريباً، ولكنه لم يشعر بغضب أو سخط بل جعل يراقبها أخيراً في شغف ثم رآها تثني حافة المرتبة وتضع ما بين يديها تحتها، ثم رآها تتمدد على ظهرها في هدوء وهي تظن أنها بمأمن من الرقباء وتسحب الوسادة وتضعها عليها بالطول، ثم احتضنتها بيديها وكأنما راحت في سبات عميق، وراقبها بعينين دهشتين وراح يتساءل أكل هذا من أجلي أنا؟!. . . أكل هذا لكي تتزوج مني أنا. . . واطمأن إلى المنظر الغريب ووجد في مراقبته لذة لا تعادلها لذة؛ وأحس تخديراً ود لو لم يصح منه أبداً. وتدفق الحنان من حناياه فتمنّى لو يحتويها في تلك اللحظة بين يديه. . .
ثم رآها تزيح الوسادة عنها وتعيدها إلى مكانها وتعتدل جالسة ثم تهبط إلى الأرض وتميل المبخرة لترفعها فتوقع أن تمضي بعد ذلك إلى الباب وانتبه إلى حاله، فسارع إلى الباب وفتحه وأغلقه بقوة متعمداً أن يحدث صوتاً مسموعاً واتجه نحو غرفته وهو يصفر صفيراً عالياً فانفتح باب غرفته وبرزت الفتاة وقد علا وجهها شحوب وارتباك وقالت باضطراب:
- عدت مبكراً. . . أنا كنت أنظم حجرتك وأبخر الشقة واتجهت نحو الباب مهرولة فاعترض سبيلها، وكانت عواطفه المضطربة تشجعه على الاستهانة فقال برقة:
- شكراً، لقد عدت لأني أحسست بتعب، وإني لآسف على إزعاجي لك. . . استريحي، ولكنها قالت بسرعة ولم تكن أفاقت بعد من ارتكابها.
- دعني أخرج وإلا استبطأنني أمي
فقال لها برجاء وهو يشير إلى الكرسي:
- استريحي قليلاً. . . أرجو أن تمكثي معي هنيهة فإن لدي ما أقوله لك. . .
وكانت عواطفه ثائرة فدفعها برقة نحو الكرسي حتى جلست كارهة، ثم قال لها بصوت متهدج:
- فردوس! هذه فرصة سعيدة لأنفرد بك وأقول لك. . . وأعياه القول فسكت؛ ولكنه كان يشعر بأنه ينبغي أن يقول شيئاً وإلا لم يجد عذراً ينتحله لإبقائها. فقال بصوته المضطرب:
- أنت جميلة في الثوب الأبيض. . . أعني أنك فيه أجمل منك في أي ثوب آخر. . . الواقع أنك جميلة دائماً وفي أي ثوب كان. . .
فاشتد الارتباك بالفتاة وتضرج وجهها بالاحمرار فازدادت فتنة وازداد افتناناً. فلم يملك أن قال لها:
- فردوس. . . أنا. . . أنا أحبك. . . وقد أبقيتك هنا لأقول لك إني. . . أريد أن أتزوج منك
لم تستطع الفتاة البقاء فقامت واقفة واتجهت نحو الباب ولكنه اعترض سبيلها مرة أخرى وقال لها:
- هل أنت غاضبة؟. . . صدقيني يا فردوس سأتزوج منك ونظر إلى وجهها بعين فاحصة فلم ير غضباً ولكنه أحس ارتباكها وتعثرها بالخجل فأوسع لها، ولما حاذته هوى بفمه فقبل خدها، ولم تقل له شيئاً، وسارت حتى غيبها الباب، ودخل الشاب إلى حجرته، وجلس على حافة سريره كعادته؛ ثم دس يده تحت الحشية حتى عثرت بالحجاب، فوضعه على كفه يديم إليه النظر في سكون وتهيب، ولم يجسر على فك رباطه فأعاده إلى مكانه، وتفكر ملياً ثم قال وهو يبتسم:(من يستطيع أن يقول بعد اليوم أن السحر خرافة؟!)
أما فردوس فصعدت السلم مسرعة تقفز كل درجتين معاً، ولم تكن أمها في الشقة، فجرت إلى الغرفة يكاد يصرعها الفرح وجعلت تروح وتجيء وهي تقول باضطراب:(يا بركتك يا شيخة زهية. . . يا بركتك يا شيخة زهية. . .!)
نجيب محفوظ