المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 394 - بتاريخ: 20 - 01 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٣٩٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 394

- بتاريخ: 20 - 01 - 1941

ص: -1

‌خواطر مريض

عقدني (الروماتيزم) شهراً بالسرير لا أتورَّك ولا أتحرك. وكانت دنياي في هذه الفترة الفاترة قد انحصرت في غرفة المرض كما تنحصر دنيا الطائر السباح في القفص، أو حياة المخاطر الطماح في السجن. فالنشاط الحيوي الجياش بالعمل والأمل ينقلب في المريض والسجين نوعاً من الهدوء الفلسفي الصوفي يردُّ كل ثورة إلى السكون، ويروض كل رغبة على الرضى، ويزيل عن البصر والقلب غشَوات الباطل فيرى المرء كل شيء على طبيعته، ويدرك معنى على حقيقته

أين القفص الضيق الحاصر من جو السماء يسبح فيه الطائر ملء جناحيه، فيرى في كل دوحة عشاً لحبه، وفي كل روضة مسرحاً لغنائه؟ ولكن البلبل الأسير يعرف بعد قليل كيف يطوى جناحيه على الصبر، ويختصر سماءه وهواءه وأرضه وروضه في هذه الأسلاك المعدنية الباردة يغرد بينها ويثب فوقها ويستقبل الصباح بمرح النشوان، والمساء بهدوء الخليّ

وأين السجن الموحش المظلم من رقعة الأرض يضرب فيها المغامر طليق العنان حر الإرادة، يفترس مع القوة، ويختلس مع الضعف، ويجمع فيشح، ويطمع فيهتلك؛ ولكن أشعب السجين يعرف كيف يرد طماحه، فيرى في جدران السجن حدود مطامعه وغاية دنياه، فيسخر من كيد المنافسة وبغي الخصوم، ويخطو بأنفاسه الرخية إلى أجله وهو زهيد العين مطمئن الجوانح

كذلك أنا: وجدتُني بعد معركة رابحة على أمر من أمور الدنيا دارت ثلاثة أشهر بين العجز والفقر يقودهما الحق الهيوب في صف، وبين القدرة والغنى يؤيدهما الباطل الجريء في صف آخر. وجدتني بعد هذا الجهاد على سريري كما يكون الميت في نعشه! غير أن الميت فقد الحس والوعي فلا يتألم ولا يتكلم؛ أما أنا فكنت قوي الشعور بالألم، شديد الرغبة في الكلام، أبصر في كل صباح حواجب الشمس تنفذ إليَّ من خلال الزجاج رخية لينة، فتغمرني بالدفء، وتشِيع فيَّ سر الحياة، وتُسكت عني صوت المرض؛ ثم تتركني لتعطي الدنيا الكبيرة، ما أعطته دنياي الصغيرة، وأظل أنا محدود الآمال مردود المطامع لا يصلني بحياة الناس غير طنُفٍ تتمثل عليه طول النهار صباحة الشباب في أفواف الربيع؛ والشباب الجميل لا يعنيه إلا أن يُعجب ويجذب ويلذ

ص: 1

تلك هي حياتنا الدنيا! أراها من وراء المرض على لونها الأصيل ووضعها الحق: ظاهرةٌ متغيرة من ظواهر الطبيعة المتجددة، مَثَلها في الإنسان كمثلها في الحيوان، تعيش بالغذاء إلى أمد مأمود، وتبقى بحفظ النوع إلى أبد محدود.

ولو لم يتدخل الإنسان بعقله وعلمه في نظم الطبيعة لجرى تيار الحياة دفاقاً مستقيماً في مجراه المرسوم المحتوم كما يجري في النبات الوحشي والحيوان الأبد. ولكن آدم جعله الله خليفة في الأرض فلا بد أن يكون كل ما فيها خاضعاً لتدبيره مسخراً بأمره. وكان أمره وتدبيره على الرغم من اعتماده فيهما على دين الله وفلسفة العقل لا يخلصان من سلطان الهوى وطغيان الغريزة؛ ومن أجل ذلك كانت حياة الإنسان وحدها عرضة للتعقيد والارتباك والتناقض

ومن أعجب أمور الإنسان أنه وحده الذي فطن عن طريق العيان والبرهان أن حياته على هذا الكوكب الفاني موقوتة؛ ومع ذلك كان وحده الذي استعمر هذه الأرض على أنه باق وهي خالدة؛ فهو يكدح حتى ما يعرف طعم الراحة، ويجمع حتى ما يدري معنى الإنفاق، ويسلب أخاه أو وديده حق الحياة ونعمة السلام ليزيد في ماله الضخم قطعة، أو يضم إلى أرضه العريضة رقعة. وقد سول له غروره أن يتبجح بأنه سخر الطبيعة لخدمته، وذلل قواها لمشيئته؛ والحق الذي طمسته الكبرياء في ذهنه أن نوعه هو الوحيد في أنواع الحيوان الذي استخدمته الطبيعة ليعمرها بعمله، وينظمها بعلمه، ويزخرفها بفنه، ويهيئ لها أسباب الازدهار والاستمرار والنمو بما يبتكر من وسائل، ويسن من نظم، ويؤثل من مال، ويدخر من رزق

والطبيعة كما تستخدم الإنسان في البناء لاطراد العمران، تستخدمه في الهدم لحفظ التوازن، فهي تستعين بحروبه الطاحنة كما تستعين بالبركان والفيضان والموئان على قطع الفاسد، وحذف الزائد وتجديد البالي، وتعديل القُوًّى، وكفكفة الباطل هؤلاء الذين يجمعون ما لا ينفقون، ويبنون ما لا يسكنون، ويدخرون ما لا يأكلون؛ وأولئك الذين زعموا لقومهم سيادة العالم، وأجازوا لأنفسهم قتل الشعوب، ووقفوا على شهواتهم طيبات الأرض، قد استقلتهم إرادة الطبيعة القهارة التي لا تعرف اليوم ولا المكان ولا الفرد، وإنما تعمل للأبد والكون والجنس

ص: 2

الغذاء والماء والهواء والمأوى وصلات الجنس هي النعم المبذولة لكل حي بحكم وجوده، فلو كان مما ينفع الطبيعة ويصلح الأرض سلامُ الناس وهدوء العيش لألهمتهم القناعةَ وعودتهم الرضى وجنبتهم الأثرة؛ ولكن فوضى الطبيعة هي نظامها المطرد، وفسادها الظاهر هو صلاحها المضمر؛ والفرد هو الأضحية المحتومة لبقاء الجنس، والحاضر هو القنطرة المهدومة لعبور المستقبل!

في المرض يزداد يقين المرء بأن الدنيا زائلة، فهو يأسى على ما جنى ويندم على ما جمع؛ ولكنه حين يصح تمتد آماله وتتشعب مطامعه ويعود عبداً للطبيعة يعمل لأنها تريد، وينفذ لأنها تحكم، فليت شعري إذا عقل كل الناس فعمل كل امرئ ما يلزم، وقنع بما يقوت، وكيف عما لا يحل، فبماذا يشتغل قضاة المحاكم وقواد الجيوش وصناع الأسلحة ورؤساء الأحزاب؟

وأوشكت يدي من برح الألم أن تقف! فعسى الله أحكم الحاكمين أن يبتلي الدكتاتورين الكبير والصغير بروماتيزم العقل والقلب فتقف رحى الحرب وتغلق أبواب جهنم!

الشمس تجمع هلاهل نورها على المنازل العالية لتهرب من رؤية الأكداس المكدسة من جثث الإنسان على عُدَّوتي البحر الأبيض. وفتاة الطُّنف الحسناء تلم غسيلها المنشَّر لتغلق عليها الباب من البرد القارس. وليل (طوبة) الطويليقترب بأوصابه رويداً من المريض المسكين! فاللهم حنانيك ورحماك!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

(المختار) لعبد العزيز البشري

للدكتور زكي مبارك

- 10 -

حديث اليوم عن (المختار) للأستاذ عبد العزيز البشري (عضو مكتب المجمع اللغوي) لا عضو المجمع اللغوي، كما ظن من أخطئوا فهم قرار وزير المعارف. ولسنا بهذا نستكثر عليه عضوية المجمع وقد ظفر بها الأستاذ أحمد أمين، وإنما أردنا تحديد مكانه بجوار (الخالدين)

فمن صاحب هذا الكتاب؟

كانت بيني وبين الأستاذ عبد العزيز البشري مصاولات سجلتُها في كتاب (الأسمار والأحاديث) ثم انتهت تلك المصاولات بالحقد من جانب، وبالصفح من جانب، فمن الذي حَقَد؟ ومن الذي صفح؟ لقد رجعتُ إلى قلبي أستفتيه فلم أجده يضمر لهذا الرجل غير الإعزاز والتبجيل، ولكني مع ذلك أنكر مذهبه في الإنشاء، ولا أرى رأى وزارة المعارف في إفهام الطلبة أن نثر البشري يصلح للاقتداء والاحتذاء، إن صح أن لوزارة المعارف رأياً في الكتب التي تفرضها على الطلاب، فسيأتي يومٌ نتبين فيه أنها قد تحكم على بعض الكتب بالسَّماع، وهو يومٌ غير بعيد، ما دامت وزارة المعارف إلى رجال لا تؤذيهم كلمة الحق من أمثال الدكاترة هيكل والسنهوري وغربال

عبد العزيز البشري كاتب مشهور، مشهور جداً، حتى جاز للأستاذ خليل مطران أن يحكم بأنه (أعرف من كل معرَّف بين الناطقين بالضاد) ومن كان كذلك فهو أقوى من أن يُهدَم، ولا خوف عليه من صيحة النقد الأدبي، وإذا فلا بأس من أسماعه قول الصدق بتلطف وترفق، عساه يغَّير ما بأسلوبه من تكلف وتصنّع وقعقعة وعجيج.

البشري كاتب (على الطريقة البشرية). كاتب يذكَرك في كل سطر بأنه أديب يتصيد الأوابد من مجاهيل القاموس واللسان والأساس، وتلك حال المنشئين المبتدئين، وهي حال يُنكرها أعلام البيان، لأنها تشهد على أصحابها بالبعد من الاتسام بوسم الفن الرَّفيع

ص: 4

الكاتب الحق هو الذي يشغلك بنفسك، ويوجهك إلى مصيرك المنشود، ويفرض عليك درس غرائزك وأهوائك، بدون أن يفكر في حملك على الإعجاب بخصائصه الإنشائية. ولو شئت لقلت إن الكاتب الحق لا يخطر في باله حين يكتب أنه من أصحاب الأساليب، لأن الكاتب العظيم تصبح عنده الكتابة من وحي الفطرة والطبع، بحيث لا يشعر أن التأنق غرض مقصود، وإن إضافة الفن الجميل إلى طوائف المتأنقين

الكاتب الحق يقتنص قلبك وعقلك في مهارة الصائد الختول الذي يرى الصيد ولا يراه الصيد. الكاتب الحق يروضك على تغيير ما بنفسك بنفسك، فلا تتوهم أن له يداً في نقلك من حال إلى أحوال، وإنما تشعر أنه يعبِّر بالنيابة عنك، وأنك لو حملت القلم لكنت أقدر منه على الإبانة والإفصاح.

الكتابة من فنون التدريس، والمدرس الحق هو الذي يحاورك وكأنه تلميذ مثلك. هو الذي عناه لامرتين حين قال:

والأساس في الكتابة أن تكون فنَّا أخفى من نظرة العاشق بمحضر الرقباء. هي سياسة دقيقة جدَّا. هي سياسة تشبه سُرى العافية إلى الجسم العليل، وقد تشبه تسرُّب الداء إلى الجسم الصحيح، لأن الكتابة فن، والفنون تتجه إلى الهدم كما تتجه إلى البناء، على فرض أن الفن قد يسيء في زعزعة بعض المأثور من التقاليد

الكاتب الحق هو دائماً من أصحاب المبادئ والعقائد، في حدود ما يتصور من المبادئ والعقائد، لا في حدود ما يتصور الناس، ومن هنا يجوز للكاتب أن يلقاك بما تحب وبما لا تحب، وهو حين يستفحل قد يزلزل رأيك في جميع الشؤون ولو حدثك عن مواقع هواك

والوصول إلى هذه الغاية يحتاج إلى سياسة عالية، وتلك السياسة قد تستوجب أن يطوي عنك الكاتب ما يرمي إليه من مقاصد وأغراض، ليضمن غفوة عقلك عن مقاومة ما يدعو إليه. وقد تحار فيما يريد منك الكاتب، ثم تعرف بعد قليل أنه لم يُرد لك غير ما تريد لنفسك، وهو في الواقع أصاب مقاتلك من حيث لا تشعر، وكيف تشعر وقد استدرجك بأسلوب ألطف من اللطف وأخفى من الخفاء؟

فأين البشري كاتباً من هذه المعاني؟

هو رجلٌ صخَّاب ضجّاج يدقَّ الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد!!

ص: 5

ألم يَعجب البشري من أن يصل على يوسف إلى قمة البلاغة وليس في كلامه نظمٌ متكلف؟ وما ذلك النظم؟ هو عنده نظم يتكلفه (صدور الكتَّاب)، كأن صدور الكتَّاب لا يكونون إلا متكلفين! وكان الأمر كذلك عند البشري، لأنه لم يفهم البلاغة على وجهها الصحيح، فكانت في ذهنه أجراس طنطنة وأصوات ضجيج

كل هم هذا الرجل أن يفتنك في كل حرف بأن الكتابة شيءٌ ضخمٌ فخمٌ يروعُك وَيهولُك، وإن لم يكن لذلك موجب توحيه الفكرة أو يفرضه البيان، فلأي غرض يصنع بنفسه هذا الصنيع؟ ومتى يعرف أن السحر من أوصاف البيان، والأصل في السحر أن يقدَّم الأباطيل وهي في مرأى العين حقائق لا أباطيل؟

هل سمعتم بالرحا التي تطحن القرون؟ هي البشري في بعض نثره القعقاع؟

يندُر أن تجد في نثر هذا الرجل صفحة خلت من التكلف. ويندر أن تشعر بأنه خلا لحظة إلى قلبه يستلهمه ويستوحيه، فهو مشدود في كل وقت بزمام التفصُّح الثقيل، إلا أن يثور على (حرفة) الكتابة فيرسل نفسه على سجيتها الأصيلة، وذلك لا يقع منه إلا في أندر الأحايين

عبد العزيز البشري من الأذكياء، ولكن ذكاءه انحرف بعض الانحراف، فلم يكن له في أدبه من أثر غير ما عرفنا وعرفتم من القرم إلى التندر والأغراب

كنت أتمنى أن يدرك البشري كنه الوشائج بين جذور الفن وجذور الذكاء، ولكن البشري مضى لطِيته فلم ينتفع بآراء الناقدين.

كان البشري يستطيع أن يكون كاتباً عظيماً، لأن لهذا الرجل ذخيرة منسية من الفطرة والطبع، ولو أنه استجاب لوحي روحه لأتى بالعجب العجاب، ولكنه تكلف ما لا يطيق، فأضيف إلى المتحذلقين

ولكن ما الموجب لمواجهة هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح؟

هو الموجب الذي فرض أن أُفسد ما بيني وبين المرحوم مصطفى صادق الرافعي وكان من كرام الكاتبين

فأنا بصريح العبارة أتهم أهل التكلف وأراهم أطفالاً في دولة البيان

وليس معنى هذا أني أنكر قيمة الصياغة الفنية، فالكتّاب الكبار قد يشقون في تحبير ما

ص: 6

يكتبون أعنف الشقاء، ولكنهم ينتهون إلى عرض آرائهم بأساليب هي الغاية في الوضوح والجلاء، فلا يتوهمُ متوهمٌ أنهم عانوا عنَت الإنشاء وقد هاموا على وجوههم في تجاليد الليالي

هل سمعتم بالسمك الرَّعاد الذي لا يوجد في غير نهر النيل؟

هو سمك كسائر الأسماك، ولكن فيه قوة كهربائية، وكذلك الكلام البليغ: فهو كلام كسائر الكلام، ولكن فيه قوة كهربائية وصلت إليه من ثورة الروح أو فورة الوجدان

ليست القوة في اللفظة اللغوية، اللفظة التي يدلنا المجمع اللغوي على قبرها المجهول، وإنما القوة في اللفظة التي يَحُلها روح الشاعر أو الكاتب فتصبح وهي محمَّلة بالمعنى الفائق والخيال الطريف

فكيف جاز للشيخ البشري أن يمنّ علينا بأنه أحيا بعض الألفاظ من موت، وهو لم يسكب عليها قطرة واحدة من دم القلب؟

حدثنا الأستاذ خليل مطران في مقدمته لكتاب الشيخ البشري أنه وقف منه موقف الدليل من المتحف، وقد صدَق ثم صدق، فزائر المتحف يخرج كما يدخل، فلا يكون محصوله غير ذكريات، ولا كذلك زائر المعرض فهو يقتني ما يروقه من النفائس حين يشاء

فهل كان الأستاذ خليل مطران يعني ما يقول وهو يجعل كتاب الشيخ البشري متحفاً من المتاحف، لا معرضاً من المعارض؟

المتاحف نفائس، ولكنها لا تصلح للاقتناء، لأنه يعرَّضها للبوار الشنيع!

فالمتحف المصري هو أعظم ما في العالم كله من النفائس، وهو يقدَّر بألوف الملايين من الدنانير، ولو بيعت ذخائره لجعلت المصريين أغنى الناس أجمعين، ولكن هذا المتحف النفيس يمسي وهو من سَقَط المتاع إذا عُرِض للبيع، فحياته في الموت، ونباهته في الخمول

وكذلك تكون (آثار) الكتّاب المولعين بالزخرف والبريق، فألفاظهم نفائس، ولكنها رسومٌ هوامد، وهي لا تُنقل من المعاجم إلى (المختار) إلا كما ينقل الرفات إلى (الضريح)

والقول الفصل أن الكتابة قلبٌ يُفصح وعقلٌ يبين، وليست ألفاظاً تُضمَّ إلى ألفاظ. الكتابة قوة روحانية لا تتفق للكاتب إلا بموهبة سماوية، فمن أراد أن يكون كاتباً فليرحل من

ص: 7

طبقات الأرض إلى أجواء السماء

الكتابة رزق من الأرزاق، فمن حدثكم أنه يملك منها ما يريد فهو جهول، فما كانت الكتابة إلا بوارق يمنّ بها الرزاق الوهاب، وهو قد يمنّ بها على من يجهلون أنه أهلٌ لأعظم الحمد وأجزل الثناء، لأن المنة لا تعظم إلا حين تساق إلى أهل الجحود!

محصول (المختار)

بعد هذا الشؤبوب ننتقل إلى الجزء الأول من (المختار) فنراه محصولاً من الجهد المحمود في عرض طوائف كثيرة من سور الدنيا والناس، وإن كان قُدِّم بروحٍ مكدود، ونفَسٍ مجهود، لأن الكاتب لا يفصح عما بنفسه إلا بعد أن يعاني من المشقات ما لا يطاق

هو تحفة فنية، وكيف لا يكون كذلك وهو عصارة ذهن البشري مدة الحياة، كما طاب له أن يقول في عبارة الإهداء، والبشري من كتابنا الكبار، وإن قيل في أسلوبه ما قيل

وهل من القليل أن يكون عندنا كاتب يقضي الليل والنهار في تعقب الألفاظ والتعابير ليؤلف منها قافلة حائرة لا تعرف أين السبيل في بيداء الوجود؟

هل من القليل أن يكون عندنا رجلٌ يستطيب الحبس بين جدران داره ليتسقَّط مرابع العشب اليابس من خيالٍ آبد، أو لفظ مجهول؟

هذا المعنى وحده مما يُطلب، فليكن عندنا ألف بِشريّ، لأن تنوع الأساليب من شواهد الحيوية في الشعوب، وبضدها تتميز الأشياء

عبد العزيز البشري كافَح في ميدان الكتابة كفاح المستميت، فلنعرف له هذا الفضل، ولنذكر أنه قضى ثلاثين سنة وهو معدودٌ من أبطال القلم في هذه البلاد. ولنذكر أيضاً أنه رجلٌ ذوَّاق إلى أبعد الحدود، فقد يندُر أن يكون له مثيل في الطرب لأطايب الدقائق الذوقية لعوامِّ الناس، أما فهمُ الشيخ عبد العزيز للشعر فهو أعجوبة الأعاجيب

ينقسم كتاب البشري إلى ثلاثة أبواب: الأدب والوصف والتراجم، وفي كل باب فصول منها الوسط والجيد والرائع، وهو يحتفل بالأسلوب في جميع الفصول على الطريقة البِشرية، ويكفي أنه صار كاتباً له أسلوبٌ خاص

مَطلع الكتاب محاضرة ألقاها البشري في أول اجتماع لنادي القلم المصري، وهو النادي الذي يجتمع أعضاؤه في كل سنة ليتناولوا معاً طعام العشاء!

ص: 8

فما الذي قال في تلك المحاضرة الافتتاحية؟

كان الظن أن تكون محاضرة ينقلها روتر وهاناس إلى جميع بقاع الأرض، لأن مصر أول أمة في التاريخ أقيم فيها لحامل (القلم) تمثال، ولكنها كانت محاضرة سطحية لم يرسم فيها المحاضر غير خطوط يغلب عليها العِوَج والانحراف، في غير موجب للعِوج أو الانحراف

فمن أغلاط هذه المحاضرة أن الكاتب جعل توليد الفنون الشعرية في الأندلس أثراً من آثار الانحطاط. ألم يقل إن الأندلسيين (وّلدوا في الشعر فنوناً لتؤدي من الأغراض اللينة الرخوة ما عسى أن تثقل عليه أوزان الشعر؟) ذلك ما قال بالحرف، وهو شاهدٌ على غفلته عن الغرض الذي استوجب أن يفكر الأندلسيون في توليد القوافي والأوزان

ومن أغلاط هذه المحاضرة أن الكاتب عاب التكلف على (أصحاب البديعيات) فهل يعرف مَن (أصحاب البديعيات) وقد عدَّهم من الشعراء المتكلفين؟

أصحاب البديعيات لا يعاب عليهم التكلف، يا فضيلة الأستاذ لأن التكلف عندهم غرض مقصود، فهو نظم تعليميٌّ يجري مجرى (المُتون)

ومن أغلاط هذه المحاضرة أن يظن الكاتب أنه كان من الطبيعي أن ينحط الأدب المصري في عهد الأتراك (ولو قد ظل مع هذا على شأنه الأول من القوة وسعة التصرف لما كان أدباً مصرياً، ولا كان مما يتسق لأذواق المصريين)

فما معنى ذلك؟ هل يتوهم أن مصر في العهد التركي كانت تحولت إلى بيئة تركية؟ هو إذاً يجهل أحوال مصر في تلك العهود، فقد كانت في مصر بيئات منفصلة عن المجتمع السياسي كل الانفصال، وبفضل تلك البيئات ظلت مصر موئل اللغة العربية في عصور الظلمات، إلا أن يجوز قياس المجتمع في العهود الماضية على المجتمع في هذه العهود!

محاضرة البشري في افتتاح نادي القلم المصري تشهد بأن اطلاعه على تاريخ الأدب في مصر مبتور الأطراف

ثم ماذا؟ ثم نقرأ بحثه عن (حيرة الأدب المصري) فنعرف أن الكاتب هو الحيران!

هو بحث نُشر في مجلة المعرفة سنة 1932 وإنما نصصتُ على التاريخ لأمسك بتلابيب الكاتب الذي يقول:

(وعلى الجملة فإنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم لرأيته موزعاً بين حياة في

ص: 9

الجزيرة لمصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يصور عواطفه المصرية التي يُلهمها ما ينبغي أن يُلهم المصري من عواطف وإحساس)

ذلك هو فهم الشيخ البشري للأدب المصري في سنة 1932 فهل رأيتم أغرب من هذا الفهم؟

في سنة 1932 كان أدباء مصر فريقين، فريقاً لا يعرف غير الأدب العربي القديم، وفريقاً لا يعرف غير الأدب الأوربي الحديث كما يتصور الشيخ عبد العزيز، فأين كان أدباؤنا الكبار من أمثال حافظ وشوقي والزيات وهيكل والمازني والعقاد وتيمور وطه حسين؟ هل كان هؤلاء جميعا من المذبذبين بين القديم والحديث؟ وأين كان الصحفيون من أمثال حافظ عوض وعبد القادر حمزة وتوفيق دياب؟

أشهد أن عبد العزيز البشري لم يصدر في حكمه إلا عن وَهمٍ هو أشبه الأشياء بالإفك المدخول!

أما بعد فما جملة القول في هذا الكاتب؟

هو من أمهر الوصافين للمرئيات، حتى لتحسب أن قلمه ريشة رسام تنتقل بين الألوان، ولكن أين الكاتب المنشود، الكاتب الذي يحدثنا عما نعرف أو نجهل من أسرار النفوس وسرائر القلوب؟

لقد تفقدتُ هذا الكاتب في مقالات عبد العزيز البشري فلم أجده، بالرغم من طول الصبر على البحث والتفقد؛ فأين ذهب وكنت أرجو أن أراه في ثنايا تلك المقالات؟

تحدثك مقالات البشري أنه صحب كثيراً من الناس، وتنظر فتراه وصف ملامح من صحب من الناس، ولكنك لا تجده تنبه إلى ما تدل عليه خصائص تلك الملامح، فهل يكون من حق الناقد أن يفترض أنه لم ير وجوه الناس إلا عن طريق

(الصور الشمسية)؟

البشري الكاتب له عينان تريان الألوان، وأذنان تسمعان الأصوات، ولكنه عاش بلا قلب، فلم يدرك دقائق الفروق بين الألوان والأصوات من حيث الدلالة على المعنويات

كان البشري في مختلف أطوار حياته موصول بكبار الرجال، فماذا استفاد؟ وماذا أفاد؟ هل

ص: 10

سمعتم أنه نقل رجلاً من رأى إلى رأى؟ هل سمعتم أنه انتقل من حال إلى حال؟ البشري هو هو لم يتغير ولم يتبدل، فقد قامت الشواهد على أنه ظل دهره على مذهب واحد في فهم الأدب والحياة، مع أن الدنيا تثور من حواليه في كل حين

انظروا ما صنع البشري وهو يصف (بنك مصر) لتروا كيف وقف عند المرئيات ولم يتعدها إلى المعنويات!

ما هو بنك مصر في نظر البشري؟

هو قصرٌ (فُرشت أرضه بجلود الصِّلال، أو بالوشى الصنعاني نُمنم بمثل أكارع النمال)

أتلك هي صورة (البُنُوك) في نظر الأديب؟

كنت أرجو أن ينظر البشري نظرةً أبعد من هذه النظرة، فللبنوك معانٍ أخطر وأعظم من السقوف والجدران، ولكن البشري لا يفكر في غير المرئيات

ثم أسأل نفسي مرة ثانية عن الموجب لإيذاء هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح

وأجيب بأن هذا أثر الغيظ من فجيعتي في هذا الكاتب، فهو من عصابة أدبية أساءت إلى الأدب المصري حين صيرته متاحف تهاويل، ومعارض تزاويق، ثم فَرضتْ على الدولة وعلى الجمهور أن يفهموا أن هذا هو الأدب الحق، وأن لا أدب سواه!

لم يُجِد البشري إلا في فن واحد: هو وصف المرض، فما نظرتُ فيما كتب في وصف بلائه بالأمراض إلا صرخت بالتوجع له من أعماق القلب، ومن أجل حزني عليه مزقت الصورة الأولى من هذا المقال وكتيته مرة ثانية، وما أذكر أني كتبت مقالاً مرتين منذ عهدٍ بعيد. . . أجاد البشري وصف المرض، ولكنه وقف عند الغرض القريب فلم يتغلغل في وصف بلاء الرجال بالأمراض؛ فأين هو من مقال شِبلي شمُيِّل في وصف عناء المريض؟ شِبلي شميِّل الذي يقول:

(ذقتُ ذل السؤال، بعد عزَّ الإفضال، فلم أجد أشقى من المريض)!

إن الفرق بين مقال البشري عن المرض ومقال شميل عن المرض أبعد مما يتصور القراء، فما السبب في هذا البعد؟

السبب أن شميلا تأذى بالمرض فوصفه بصدق، أما البشري فرأى المرض فرصة لمقالة أدبية فقال كلاماً يُعوزه الصدق، ولم صدق البشري فيما حكى عن مرضه لكان من الحتم أن

ص: 11

يموت قبل أعوام طوال!

عبد العزيز البشري مزخرِفٌ ومبهرِج، وبفضل الزخارف والبهارج وصل إلى أشياء، لأن الجمهور عندنا قد يكتفي من الكاتب بإجادة التزيين والتلوين

يسأل البشري عن الكاتب الذي يصور العواطف المصرية وأنا اسأل عن الكاتب الذي يصور العواطف الإنسانية، فما يهمنا أن نكون مصريين كما يهمنا أن نكون إنسانيين، فالشاعر الإنساني يجد لعواطفه صدًى في جميع البلاد، أما الشاعر (المحلي) فأفقه ضيق محدود. . . وما أريد الغض من العواطف التي توحيها الأجواء المحلية، وإنما أريد أن يتغلغل الشاعر والكاتب في أعماق الأرواح والقلوب بحيث يحدث قراءه عن آفاق روحية وعقلية لا يهتدون إليها إلا بوحيٍ من العقل الملهم والقلم البليغ

أنا أرجو أن يدرك كتّاب هذا العصر أننا مللنا من الحديث المعاد، وأننا نودّ أن يكون لهذا العصر تاريخ جديد في الأدب العربي، تاريخ ينطق بأننا عبّرنا عما في نفوسنا وقلوبنا بصراحة وصدق وإخلاص؛ تاريخ يشهد بأننا تغنّينا صادقين بعواطف هذا الجيل، وتألّمنا صادقين من مآثم هذا الجيل

لا أريد أن يكون الكاتب مصرياً، وإنما أريد أن يكون إنساناً مصرياً، إنسانً تعنيه الوشائج الإنسانية، ومصريٍّا تعنيه الأواصر المصرية؛ وأنتظر أن يكون الكاتب المنشود رجلاً قديراً على تشريح العواطف والأحاسيس فبل أن يكون رجلاً قديراً على ترقيش الألفاظ والتعابير. وأرجو أن يفهم أن له مهمة أسمى وأعظم من القناعة بإعجاب أهل هذا الجيل؛ فالكاتب الحق لا يخاطب العصر الحاضر وحده، وإنما يسكب رحيق قلمه في أذن الزمان وقلب الوجود

الكاتب الحق هو الذي يفرض علينا أن ندرس عواطفنا وأهواءنا في كل وقت، ويشعرنا بأن حساب الضمير لا يقِل قدسيةً عن أداء الصلوات. الكاتب الحق هو الذي يروضنا على الاقتناع بأن نعمة القلم الصوّال أعظم من جميع النعم، وأنفس من جميع الذخائر، وأشرف من جميع ألوان التكريم والتعظيم والتشريف، لأنه يمكّن صاحبه من مناجاة الضمائر والقلوب، ويوحي إلى القارئ أنه قَبَسٌ من السر المكنون في سرائر الغيوب

الكاتب الحق هو الذي لا تصرفه الأكاذيب والأراجيف عما يجب عليه من الفناء في خدمة

ص: 12

الواجب. هو الذي يستعذب الأذى في سبيل الشريعة الأدبية - والأدب من الشرائع - هو الذي يرى أن لا بأس عليه من الحرمان في أبشع جانبه ونواحيه، ما دام يؤمن بأنه كاتب موهوب، لأنه يعرف أن نعمة الكتابة لا توهَب لغير المصطفين من أذكياء الرجال

الكاتب لا يستوحش من زمانه إلا وهو متكلف، أنه يستفيد من الظلم أكثر مما يستفيد من العدل، ولأنه ينتفع بالفوضى أكثر مما ينتفع بالنظام، ولأن الإساءة من أهل زمانه قد تصيره رجلاً لا يعتمد على غير صاحب العزة والجبروت

الكاتب رجلٌ مؤمِن. ألا ترون كيف يحتقر ما بأيديكم يا ظالمي أنفسهم بعبادة المنافع الفانية؟

زكي مبارك

ص: 13

‌3 - أومنُ بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

نظرة واسعة - من الحياة؟ - ممثل مجهول. . . - زواج

الفكر بالمادة - أعماق النفس عي أعماق الكون - الحياة هي

الإنسان - الباقيات - أمومة الأخلاق وأبوة العلوم - نوعان

من الرجال - العكازتان. . .

في السماء: كل نجم عليه غشاء سرمدي من السكون. . . ولو ألقيت نظرة على النجوم والكواكب لم تر شيئاً إلا لمحة عينك أنت واختلاج ضوء يكاد يكون من خداع النظر. . .

وفي الأرض: كل شيء يسير في حركات محدودة وسنن مطردة وتكاد لا تسمع إلا أصوات الريح أو لطمات الموج أو أصواتاً تظهر من تلاقي الريح أو عبث الأمواج بالأشياء. . . وما عدا ذلك فأصوات حيوان لا تعدو أن تكون مقاطع ونبرات بسيطة محدودة يصح أن تلحقها بعزيف الرياح على شعاب الجبال وقصبات الأشجار، أو بهدير الأمواج ذلك الصوت الواحد المكرر على توالي الأزمان.

ولا ترى تلك الدورات الأبدية من ليل ونهار، وربيع وخريف، وشتاء وصيف، ورياح وأمطار، وفيضانات دورية، وأرحام تدفع وأرض تبلع، وحياة رتيبة للبهائم والوحش والطير والأسماك. . .

تلك هي الحياة في الأرض من غير الإنسان. . . لا تجديد في أساليبها ولا تنويع إلا ما خلق الله على الجلود والريش والأزهار والثمار والجدد البيض والحمر في السفوح والجبال. . . وإلا ما تنقله الرياح والمياه في دوراتها من مكان إلى مكان. . . وإلا ما توزعه قوى الطبيعة بالمكيال الوافي الواسع الكريم. فلا يضاف للطبيعة شيء لم يكن منها، ولا يقلقل فيها شيء من موضعه، ولا ينقح فيها شيء يستحق التنقيح

إذاً لمن هذا كله؟ لمن الليل والنهار، وهذه الآلات الهائلة التي تدار، والحيوان الأبد والداجن والأزهار والثمار والأنهار والجبال وألوان الشفق في الأصائل والأسحار؟. أهو للحمير والقرود والنمور والثعالب والفيلة والاساد والفهود والثعابين والخفافيش والبوم والغربان

ص: 14

والحشرات والديدان؟!

كلا! ليس في هؤلاء من يصح أن يفقه شيئاً من ذلك الإبداع والجمال ولا أن يسند إليه الدور الأول في رواية الحياة. . . وإنما هذه مخلوقات على هامش الحياة. . . هن أعاجيب وتهاويل وصور لزينة المسرح ودواب لحمل لأدوات إليه. . . أو أن شئت فقل إن هؤلاء (حروف) في أبجدية (الأسماء) التي يلزم أن تتألف منها رواية الحياة التي يمثلها ممثل مجهول. . . ممثل لا بد أن يكون حراً يذهب في أي اتجاه على المسرح، ويجدد في التمثيل والإخراج كل يوم، ويقوم بأدوار جميع ما على الأرض ويتمثل فيه الابتكار الذي يجعل الحياة غير يوم مكرور دائم مملول لدى النظار من سكان السماء، وسكان الأرض من الراصدين الواعين. . . ويحشر كل شيء في رواياته ويضع عقله وقلبه على كل شيء. . .

وَمنْ هذا غير الإنسان؟!

لقد وزع الله عقوله وقلوبه على المواد والقوى سافلة وعالية، فجعل أفئدة من الناس تهوى إلى خدمة شيء، وأفئدة أخرى تهوى لخدمة شيء آخر كي لا يتعطل أفق من آفاق الحياة من غير نظر إليه وتفرس فيه. ولكي يزاوج بين خواطر الفكر وخواص المادة فتنتج الأحكام عليها، وتتبين حكمته المخبوءة وراء أسرارها ولتطلع العقول على فنه وإحاطة علمه بكل شيء. . . قانون المزاوجة هنا أيضاً: فبين فكر الإنسان وبين أسرار المادة زوجية تنتج علماً أو فناً أو إحساساً أو شعوراً. . . (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)

والإنسان كالقيثارة ذات الأوتار الكثيرة. . . تظل صامتة ساكتة حتى تضربها يد الأقدار بالمعلومات والأحزان والأفراح فيظهر ما في أوتارها من نغم عجيب. . .

فالأرض من غير الإنسان هي ذلك البيت الصامت وذلك الدولاب الدائر وتلك الدورات الأبدية التي لا غاية لها ولا بد تتلقى فيضها وتنتفع بقواها. ولا اطراد في ارتقائها ولا تغيير في أوضاعها ولا زيادة فيها

فأين المخرج من تلك الحدود الواقفة الجامدة؟ وأين الباب إلى ما هو أعظم وأوسع؟

إن عمق النفس هو الذي يوحي بعظمة الدنيا وتنوع المناظر فإذا خرج المرء من نفسه تبين

ص: 15

له أن الحياة في وحدة قوانينها وتشابه دوراتها ومقاطعها ما هي إلا شيء محدود ممل مسئم. . . ولكن الإنسان أدرك عظمة الله وعظمة الكون لما أدرك عمق نفسه وعرف الطريق إلى الكمالات والصور التي لا تتناهى لما عرف باطن نفسه إلى عالم أرحب وأوسع لما طال النظر في نفسه

وما عرفت الإنسانية جلال الله ولا تبينت صفاته وتوضحت لها حكمته، إلا من عقل الإنسان الفائق الذي أطال النظر في الدنيا ذات الدورات المحدودة المكررة وأطال النظر في النفس ذات الدورات غير المحدودة وزواج بين هذه وتلك

وهذا يسلمنا إلى أن نقول: إن الإنسان هو الحياة الدنيا بالمعنى المعقد المركب غير المتناهي. . .

ولا حد للحياة إذا التقت الطبيعة بالعقل الإنساني الذكي الحساس المفكر. . .

ولا دخل الطبيعة إلا في تقديم المواد الخام إلى يده وفكره ليصنع بهما ذلك التنويع المدني. . .

ويخيل إلى أن روحه ميراثاً خفياً من نظام الجنة وجمالها وراحتها واتساعها، وهو يحاول بعد طرده منها أن يوجدها في الأرض. . . والله معه!

وإذا كان كل شيء في هذا الوجود يرمز إلى معنى بسيط فإن النوع الإنساني يرمز إلى جميع أنواع الحياة وألوانها مضروباً بعضها في بعض كما يضرب عدد هائل من الأرقام في نفسه من الواحد إلى آخر العدد إن كان للعدد آخر. . .

فالإنسان هو (مكان) التقاء عوالم الوجود المشهود كله ليحدث من النقاء كل شيء بكل شيء منفردين نتائج وصور بسيطة، ومن التقاء جميع الأشياء بعضها ببعض نتائج وصور معقدة لا يمكن تقريبها إلا للعقول الكبيرة التي لا تكاد تدركها إلا بالوهم أو الذهن الرياضي صياد الأخيلة والأحلام والفروض

وعمار عالم الفكر بتلك المعاني الناتجة عنه هو وتنوعها إلى ما لا نهاية أمره معجب! وخصوصاً إذا تصورنا أنها معان محدودة بحدود الرءوس البشرية، معدومة في غيرها، إلا إذا خرجت وتجسدت وتشكلت في قميص مادي. . .

ترى هل هي ذات وزن وحياة عند الله الكبير ذي العقل المحيط والعلم الواسع؟ وهل هي

ص: 16

على تناقضها واختلاف الانفعالات المتصلة بها ذات قيم عنده؟ أم هي ملاه وسلويات لذلك النوع المدلل في الأرض تموت معه وليس لها في سجل الوجود أثر بعده؟

إن تصورنا فناء عالم الأفكار العظيمة الرائعة التي تتداول عقول الإنسانية كاف وحده أن يقذف في قلوبنا الإيمان بوجود عالم ثان وعقل آخر يحصى ذلك الحصيد ويجني ذلك القطاف العجيب الناتج من ازدواج الحياة المادية والروحية في الإنسان

أسرتان اثنتان من أفكار الإنسان هما الباقيتان فيما أرى على وجه الزمان في سجل الأرض:

أسرة الأفكار الخلقية وأسرة الأفكار العلمية التجريبية. . .

والأسرة الأولى هي التي سددته إلى غايته وهيأته للخلافة في الأرض، وتحدرت في أعصابه، وأيقظته إلى سموه، وجعلته ذا قيمة لدى نفسه. . . والى تلك الأسرة ينتمي الدين، ومنها انفتحت أبواب السماء للإنسان ونزل إليه وحيها

والأسرة الثانية هي التي مهدت له طريق الحياة المادية، وسلطته على الطبيعة يرتفق منها مرافق حياته ما وسعته الطاقة، وهي التي أنمت ثقته بنفسه وأظهرت آثار وجوده وجعلته متصرفاً في المادة بما لا طاقة لغيره من الأنواع به. . .

والأسرة الأولى كانت الأساس في بناء الحياة المدنية وإتاحة الفرصة للفرد أن يفكر ويعمل لخدمة المجموع في حماية القوانين والمعاهدات، وكانت الأساس في توجيه روح الفرد إلى المثل العليا وبناء سيادة الإنسان. . .

وقد استصبحت الإنسانية بأنوار الأنبياء بناة الأخلاق قبل أن تستصبح بأنوار العلماء بمئات القرون. . . وكانت الأخلاق للحياة بمكان الأمومة الرحيمة تنمو في رعايتها وتشب وترشد. وكانت العلوم بمكان الأبوة الساعية الجاهدة. . .

فالأرض مدينة لنوعين من الرجال: الباحثين في أطواء الروح الإنسانية، المستخرجين منها وسائل طمأنينتها، السباقين إلى أدراك سموها وتفردها، الواضعين لها أسس قيمها الذاتية، الرائدين بأبصارهم وبصائرهم كل أفق في الأرض والسماء، المستنزلين لها أسرار السماء بالإخلاص والبكاء. . . وهم لا شك الأنبياء والأصفياء الذين لم يقفوا عند حدود الكثافات والسدود والقيود المادية، بل ارحبوا وأفضوا فأتوا بالخير والتفاؤل والاطمئنان

ص: 17

والنوع الثاني هو نوع المخترعين الذين يزيدون في وسائل راحة الأجسام ويخفقون المشقات والآلام وينمون قوة الخَلْق والتقليد في يد الإنسان ويزيدون صور الحياة بالتنويع والترصيع والتوشيع والافتنان

ولئن كان النوع الثاني هو صاحب الدولة على عقول الناس الآن لكثرة ما فتح عليهم من بركات الأرض فينبغي ألا ينسى المنكرون أن النوع الأول هو مقيم أساس الحياة الإنسانية والآخذ بيد البشرية حتى بلغت دور الرشد. وهو الأكبر خدمة والأبعد أثراً، إذ هو الذي بعث في النفوس طمأنينتها على قيمتها وأيقظتها لذاتها وأرشدها لمدخرات روحها وعقلها، وهو الذي أوجب عليها الملاءمة بين ما تصنع وما تنتظر

وستستحيل كل بركات العلم إلى آفات ونقم وشرور إذا لم تتذكر الإنسانية جهاد آبائها الأنبياء القدماء وتقيم حياتها الجديدة على أسس ما أفنوا أعمارهم في وضعه وتوسيده، وما قتلوا وصلبوا في سبيل إعلائه وتشييده

غير هاتين الأسرتين السالفتين من الأفكار فهو زبد يذهب جفاء. . . هو باطل لا حقيقة له ثابتة دائمة. هو صور عابرة لتسلية النوع في جهاده وتخفيف إعناته

ويخيل إليّ حتى درجن الظن. . . أن فكر الإنسان لا يجدي عليه شيئاً إلا حين يتجه إلى فتح جديد في عالم أخلاقه أو في عالم المادة للانتفاع بها وكشف خصائصها، ولقط أسرارها واستخدامها، وأنه ما وضع في الحياة موضعاً أصيلاً إلا في هذا الموضع. . .

فمعرفته بأخلاقه تقيم حياته على الصراط السوي الذي ليس فيه عقبات وسدود من فعل الغرائز والشهوات وعقابيل للطفولة وتفرغه للعمل المثمر الدائم في المادة

ومعرفته بأسرار الطبيعة تفتح له أبواب العمل فيها وتنتج له بركات السماء والأرض وتريحه وترقيه وتفرغه للعبادة بالفكر والعمل

أما فترات التفلسف النظري والهيام وراء البدوات والفروض فتلك لا محصول وراءها أو هناك محصول ضئيل

هاتان عضَوان لا يستطيع الإنسان أن يمشي بدونهما خطوة واحدة، وإنما يدور على نفسه كما كان في العصور الأولى ولو كان في القرن العشرين. . .

ولا يمشي بإحداهما ويترك الأخرى إلا أصيب بالعرج والتعثر

ص: 18

فأمم الأخلاق بدون علم وعمل في المادة أمم بائدة مستضعفة معطلة القوى، محدودة الحياة، مسلوبة الحقوق.

وأمم العلم بدون أخلاق سباع ضارية يأكل بعضها بعضاً وتأكل غيرها، ويتجه كل علمها وفنها إلى خدمة الشر والإثم وتستحيل بركات العلم فيها إلى نقم، كما يتجه كل العلم والهندسة في الشوكة إلى قمتها الحادة، وكما يستحيل الدسم في الطعام إلى سم إذا ذهب صلاحه واختلت أخلاطه.

عبد المنعم خلاف

ص: 19

‌لامرتين ولوروج

يمتدحان النبي عليه أفضل الصلاة والسلام

للأستاذ محمد توحيد السلحدار

الله يهدي من يشاء و (لمل نفس هوى في الدين يعنيها). فليس غريباً ألا يؤمن المسيحي إيمان المسلم؛ غير أن بعضهم جهل أو تجاهل، من كل وجه، فضل الإسلام على الإنسانية والمدنية وقدر نبي المسلمين. وشعر بعضهم، في أحوال شتى، بحاجة إلى تقرير جانب من الحق في شأن هذا الدين القيم وآثر الاعتراف بعِظم نبينّا الكريم. ومن هذا الفريق ريمون لوروج الذي ألف كتاباً عنوانه (حياة محمد)، طبعه فاسكيل سنة 1939، في باريس

وقد كتب السيد قدّور بن غبريت مقدمة ذكر ضمنها أن تقديم مؤمن لكتاب صاحب له غير مؤمن أمر دقيق، خصوصاً في مقدمة لموضوع ليس بد من أن يتضح اختلاف نطريهما فيه؛ وأنه لا يسلم من غير تحفّظ بالمعنى البشري البحت الذي تصوّره المؤلف في النبي، لبعد هذا المعنى عن الشهادة بالرسالة، ولاعتقاد المسلم أن الحوادث والأزمات قد تكون وجهت محمداً نحو الرسالة هي أمور فوقها ذلك النداء السماوي وكلمات الله نشرها الرسول بأمانة وإقدام بين الناس. وإن السيد، بعد أن تحفظ لهذا الخلاف على الأصل، هان عليه أن يحيي ضمير المؤلف ونبوغه في ترجمته النبي

وذكر أيضاً أن المؤلف فيلسوف لا تضطرب نفسه من مسائل الأجناس ولا من تعارض المذاهب؛ فهو يعيد المشاكل السياسية والاجتماعية كلها إلى مستوى المصالح المشتركة بين البشر أجمعين، لأنهم على رغم الاختلاف الثانوي المؤقت الذي يفرقهم فيه جهلهم وحدتَهم الأصيلة، ليس يمكن في الحقيقة تصورهم منقسمين انقساماً لا مرجع عنه

وذكر أن الكتاب يمثل جهداً من أصدق الجهود التي بذلت في جعل الكثيرين من غير المسلمين يعرفون قدر النبي ورفيع شأن الإسلام في تاريخ المدنية

وأهم ما جاء في هذه المقدمة كلام عن النبي للشاعر لامرتين يجانس الموضوع، أورده السيد قدّور و (عرف فضله لفرنسا) وقصد بإيراده أن يعجب به أبناء ملته. وقد نقله من (تاريخ تركيا) حيث قال ذلك السياسي الفرنسي ما ترجمته الحرفية:

(لم ينو إنسيٌّ قط، عن إرادة ذاتية أو غير إرادة، أن يبلغ غرضاً أسمى من غرض محمد إذ

ص: 20

كان بلوغه فوق طاقة البشر: فهو تقويض الأباطيل التي جعلوها بين الخالق والمخلوق، وهداية الإنسان إلى الله، وإقامة معنى الربوبية المبني على العقل والتقديس في بهرة ذلك الزحم المختلط من آلهة الوثنيين المادية المسيخة. ولم يعتزم إنسي صُنعاً قط ويبدأه بوسائل على مثل ضعف وسائله ومثل هذا التفاوت بين قوى البشرية والعمل المنوي: إذ أن محمداً، في تصور مشروعاً على هذه الضخامة وفي إنفاذه، لم يكن له من وسيلة سوى نفسه، ولا من مساعد غير عدد قليل من الرجال في ركن الصحراء. وأخيراً لم يتم أنسيّ قط، في زمن أقصر من زمنه، انقلاباً في الدنيا على مثل هذه السعة وهذا الدوام: إذ لم يمض قرنان على الدعوة الإسلامية حتى كان الإسلام منادى به، مسلحاً، سائداً في ثلاثة البلاد العربية، فاتحاً للتوحيد فارس وخرا سان، ومصر وأثيوبية والمعروف من أفريقية الشمالية بأسره، وعدة من جزر البحر المتوسط، وأسبانيا وجانباً من فرنسا

وإذا كان سمو الغرض، وضعف الوسائل، وجلال النتيجة، أموراً هي ثلاثة المقاييس لعبقرية المرء، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يوازن من الجهة الإنسانية بين محمد ورجل من عظماء التاريخ الحديث؟ فإن أشهرهم لم يقلّبوا غير أسلحة وقوانين وإمبراطوريات؛ ولم يؤسسوا، حين أسسوا شيئاً، سوى دول مادية كثيراً ما انهارت قبلهم؛ أما هذا فقد قلّب جيوشاً وشرائع وإمبراطوريات وشعوباً وبيوتات مالكة وملايين من الرجال في ثلث المعمور من الكرة؛ لكنه زاد فقلب مذابح وآلهة وديانات وأفكاراً وعقائد ونفوساً، وأسس قومية روحانية على كتاب أصبح كل حرف منه شرعة قومية روحانية تضم شعوباً من كل لسان وكل لون، وجعل لهذه القومية الإسلامية طابعاً لا يبليه الزمان بما نفث فيها من بغض للآلهة الزائفة، وحب لله الواحد المنزه عن المادة. وهذه الوطنية المنتقمة من الاستهانة بالله هي خاصة أتباع محمد وفضيلتهم. ولقد كان فتح ثلث الأرض لعقيدته معجزته، والأحرى أنها لم تكن معجزة رجل، بل كانت معجزة العقل. وإن معنى وحدانية الله التي نادى بها والناس في سأم من العبادات الوثنية كان معنى له في ذاته من القوة، حين تفجر على شفتيه ما أضرم معابد الأصنام العتيقة جميعاً، وأشعل بأضوائه ثلث العالم

. . . إن حياة محمد وتأمله الديني ولعناته الشديدة الفعّالة لأباطيل بلاده، وإقدامه على مواجهة حفيظة الوثنيين وحَنقهم مواجهة الجسَّار، وثباته على احتمالهم في مكة خمس عشرة

ص: 21

سنة، وقبوله أن يُعد بين مواطنيه فضيحة علنية (يعني قدوة سيئة تثير السخط) حتى كاد يكون ضحّية، وهجرته أخيراً، ووعظه بلا انقطاع، وحروبه السجال، وثقته بالنجاح، وأمنه في الهزيمة أمناً فوق القدرة الإنسية، وحلمه عند الفوز، وطموحه الفكري الخالص البريء من طلب السلطان وصلواته بلا نهاية، وحواره في البُرحاء، ووفاته وظفره بعد القبر، كل أولئك يشهد بأكثر من الكذب بل يشهد بالإيمان، وكان هذا الإيمان هو الذي جعل له القدرة على إقامة عقيدة، وكانت هذه العقيدة مثناة: وحدانية الله وتنزّه الله عن المادة، فواحدة تقول إن الله موجود والأخرى تقول ما ليس الله به، واحدة هادمة بالسيف لآلهة زائفة والأخرى مُشهرة بالكلام سيرة

إن محمداً فيلسوف، خطيب، داع، مشرع، محارب؛ وهو فاتح أفكار، مقيم عقائد معقولة وعبادة بلا صور؛ وهو مؤسس عشرين دولة دنيوية ودولة واحدة دينية، ذلكم محمد! فأي إنسيّ كان أعظم منه بكل المقاييس التي يقاس عليها العِظم الإنساني

محمد توحيد السلحدار

ص: 22

‌ويلات السَّلم.

. .!

للأستاذ سيد قطب

هذه الحياة الدنيا عجيبة، فهي ما تزال تنشئ السم وتدس فيه الترياق، وتخلق السقم وبين طياته عناصر الشفاء. وما تزال تخيل لأبنائها السذج أنها موشكة على التلف مشرفة على البوار، فتثير فيهم قواهم الكامنة، وتستحث منهم هممهم الراكدة؛ ثم إذا هي تنصل من الداء، وتنهض من الكبوة، أشد ما تكون عافية، وأوفر ما تكون قوة؛ كصحو الطبيعة غب الوابل المنهمر، وصفو الكون بعد العاصفة الهوجاء! وإن من عجائب هذه الحياة أن تكون للسلم ويلات، ربما فاقت ويلات الحرب، بل هي تفوقها بكل تأكيد. ألا وإن من عجائبها أن تجعل الحرب ترياقاً لسموم السلام!

وما يخالجني الشك في أن فرنسا كسبت بهذه الهزيمة أضعاف ما كسبت غداة الهدنة بالنصر. ومهما بدا هذا القول عجيباً فإنه بالتصديق. ومن شاء أن يختبر صدقه فلينظر فيما كانت عليه فرنسا قبل الحرب، وما يلوح أنها ستكون عليه بعدها

لقد عبث النصر السابق والرخاء الغابر بفرنسا عبثاً شديداً، فلقد غدت قبل الهزيمة شيعاً وأحزاباً لا حصر لها، ولا تدرك أسماؤها فضلاً على مبادئها، بل أهوائها. ولقد كان التشعب السياسي والحزبي أهون ما نكبت به فرنسا، فلقد أصابها ما يصيب الأمم المنحلة من تدهور خلقي، إباحية، وبيئة، وفردية مقيتة، واستهتار معيب؛ ولقد نُسيت فرنسا ليُذكر الفرنسيّ! وبات كل فرد أمة، فكل فرد وشأنه، وكل امرئ ولذائذه، وكل نفس وشهواتها، وعاد الأخذ شهياً والمنح مريراً وغلبت الرفاهة وحب الراحة على الجميع

هذه فرنسا التي هزمت في أسبوعين، وكانت ستهزم نفسها لو لم يهزمها الجرمان، وكانت ستخذل قضيتها لو لم تخذل في الميدان. . .

وهذه - ولا شك - بعض ويلات السلام، أو الاطمئنان إلى السلام! أما فرنسا بعد الهزيمة، فها هي ذي مغلوبة على أمرها ولكنها أشد حيوية وأكثر يقظة؛ فلقد تنبهت فيها كل حاسة؛ ولقد وحدها الخطر وهي ممزقة كل ممزق - والجسم الحي يتنبه ليدفع الخطر -؛ وأخذ كل فريق يعمل على طريقته، ولكن لفرنسا، لفرنسا وحدها لا لنفسه أو حزبه، ولا لمطامعه ولذائذه

ص: 23

فهذا (بيتان) الشيخ يجدد شباب فرنسا! ويوحي إليها في كل حركة وكل عمل وكل خطبة أن تنهض، ويبشرها بالنهوض، وهو في الوقت ذاته يذكرها بالخطر الجاثم والهول المحدق، ويستنهض فيها الماضي المستقبل، ويقودها إلى الإيثار بعد الأثرة، والى التضامن بعد الفردية، والى الإنسانية العفة بعد الارتكاس في الشهوات

وهذا (فيجان) يحتمي في الشمال الإفريقي، ليشد ساعد الشيخ، ويثبت أقدامه أمام الغول الجرماني؛ وليبث في نفوس الفرنسيين الثقة بأن لهم بقية من قوة، ومسكة من مقاومة، وأنهم خليقون بالثبات بعد التقهقر، والنهوض بعد العثار، والرجاء بعد القنوط، والعزة بعد الاستسلام

أما (ديجول) فالحديث عنه نافلة، ذلك أن موقفه خطبة صامتة أبلغ من كل خطبة، وذلك أنه يمثل قلب فرنسا الحي، قلبها الشجاع الأبيّ، الذي لم يعترف بالهزيمة غداة الهزيمة. وإن (ديجول) وحده لشهيد بأن في هذه الأمة حياة، ولم طمست كل الأدلة والبراهين

وما من شك أن فرنسا ستنهض وقد تطهرت من أرجامها ونقيت من أدرانها. ستنهض باسم الرجولة والتضحية والأخلاق، وستكون خيراً لنفسها وللعالم من فرنسا الممزقة الغارقة في الشهوات.

ولقد صنعت ألمانيا سنة 1918 ما تصنعه فرنسا اليوم؛ فكانت الهزيمة حافزها الأول إلى وثبتها الجديدة. ولو لم يقم على هذه النهضة رجل مريض النفس، شاذ السليقة، لانتفع بها العالم في التعمير بدل التخريب، ولصرفت هذه الطاقة الضخمة من القوة الخارقة في غير هذا السبيل

وما أريد أن أضرب المثل بإنجلترا، فقد يكون الخلق الإنجليزي فوق مستوى إفهامنا، بل فوق إفهام العالم. هذه الخلق الذي يخلق من الشعب كله أبطالاً في ساعة المحنة، ويجعل من البشر ملائكة في لحظة الخطر، ويحيل الأفراد كتلة واحدة ما لها من فكاك

ومع هذا فقد كاد السلم، وكاد الغنى، يضعفان من أعصاب هذه الشعب، فذهب إلى الحرب متثاقلاً، ونام عن الاستعداد حتى دهمته الأهوال. ومن يدري لو طال به السلم، وأمِليَ له في الدعاية ما كان يصيب هذه الخلق المتين من الوهن، وهذه الأعصاب الفولاذية من الانحلال

للسلم ويلات. . .

ص: 24

ومصر - كنانة الله في أرضه - أشد أمم الأرض بلا استثناء إصابة بهذه الويلات!

فأين ما كان في فرنسا من تشعب وتشعث مما في مصر؟ وأين ما كان هناك من فردية مقيتة وأثرة بغيضة مما في كنانة الله؟ وأين ما كان في وطن نابليون من رفاهة مريضة وترف ذليل، وفساد في الخلق والضمير، مما يجري هنا في وطن رمسيس؟

لا يحاول أحد أن يكتم عنا ما نحسه في أعماقنا، ولا يجادل أحد فيما تلمسه أيدينا وتراه عيوننا، ولا يفهم أحد أنه من الخير لنا أن نعصب عيوننا فلا نرى سوءاتنا

إن في مصر من (ويلات السلم) ما لا يتصوره أي أجنبي عنها؛ وفرنسا المنحلة المريضة الغارقة في الشهوات كانت قديسة طهوراً بالقياس إلينا. . . كانت أمة ولسنا نحن أمة، وهذا أخصر ما يصورنا من ألفاظ

في مصر ما لا يحفظ التاريخ من

فحش يعج بها وفحش يكتم

كما قلت في قصيدة منذ سنوات

وليس هذا (الفحش) بقاصر على ما ينصرف الذهن إليه أول وهلة، ولكنه فحش يشمل كل شيء. يشمل الضمائر والأسرار، ويشمل التصرف الشخصي اليومي للألوف والملايين

في مصر فحش من الفقر من الغنى، فحش من الحرمان وفحش من المتاع. وفيها فحش من النعومة التافهة يقابله فحش من الخشونة العارمة

وفي مصر مشاحنات ومنازعات، ولكنها ليست على شأن جليل ولا غرض عظيم. وفي مصر أثرة عمياء صغيرة المطامع قريبة الآفاق لا تعدو لذة كلذة الحشرات والهوام

ومنشأ هذه كله طول عهدنا بالسلم الرخيصة والدعة المريضة والأمان التافه. كل ذلك عبث بأعصابنا فأوهنها وبآمالنا فقرب مداها، وبهمومنا فأصغر قيمتها، والخطر الذي يثير الأعصاب، وينبه الحواس، ويكبر الهمم، ويغذي الطموح قد حرمتنا الأقدار إياه، فمنحتنا طبيعة سمحة لا تحوجنا للجهد ولا تثير فينا الجهاد، وسلبتنا نعمة الاستقلال أحقاباً متطاولة فلم نضطلع من عهد طويل بأعباء الاستقلال

علم الله لقد كانت أكبر أمنية لي أن أعيش حتى أرى مصر تخوض معركة. معركة واحدة، تطهرها كما تطهر النار الخبث، وتبعث فيها الرجولة الكامنة والتضامن الوطيد، وتشفيها من رخاوة السلم وانحلال الدعة ونعومة الفراش!

ص: 25

وإن مصر لكاسبة لو خاضت المعركة. كاسبة ولو تحطمت دورها وتمزقت أجسادها، لأنها ستبني أخلاقاً وتوحد كياناً، وترتفع فوق مستوى الحرص الحيواني على الحياة إلى مستوى الحرص الإنساني على الكرامة. ولأن حيويتها ستنبض في ساعة العسرة، وأعصابها ستشتد في مواجهة الخطر، فتعوض في المستقبل أضعاف ما تخسر من دور وما تفقد من أجساد!

لو خضنا المعركة - أية معركة - ما بقى ذلك الشباب الناعم الناعس، وما كان الإنذار بغارة جوية - لا الغارة - سبباً في ارتعاد الفرائص من الهلع، واصطكاك الأسنان من الذعر، وتساوي الرجال بالنساء في العويل والصياح!

لو خضنا المعركة - أية معركة - ما حدثك شاب (أرستقراطي) عن (النكبة) التي حلت به لأن (سهرة) فاتته، ولا عن الكارثة) التي تسود حياته لأن منافساً له من بني طبقته فاز بقلب راقصة - إن كان لها قلب!. . . ولا عن (ويلات الحرب) التي رفعت من أثمان العطور والخمور!

أي والله هذه أحاديث شباب (الوسط الراقي) في مصر، وتلك مطامعه وآفاقه في الحياة. وإن كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى - عماد الأمم - ليقلدون هؤلاء مع الأسف، فإن لم يقلدوه في هذا، فالكارثة عندهم أن لم يجدوا وظيفة بعد تخرجهم، والنازلة أن بعض زملائهم سبقوهم في الدرجات، وويلات الحرب عليهم هي وقف العلاوات والترقيات!

لو خضنا المعركة - أية معركة - لبرئنا من الأثرة الحمقاء التي يحسب فيها التبرع بالجنيه من صاحب الألوف مفخرة تشيد بها الصحف، وتطوع فتاة في مستشفى مبرة تنتشر من أجلها الصور. ذلك أن التبرع بالأرواح والتطوع بالدماء يصحبان إذ ذاك عملاً يومياً لا يلفت الأنظار!

لو خضنا المعركة - أية المعركة - لسكتت ألسن الدعاة الحزبيين عن الخوض في الشخصيات ولترفعوا عن المغانم والأسلاب، ولكان لهم من هموم مصر ما يشغلهم عن هموم الحكم، ومن مطالب الوطن ما يلهيهم عن مطالب الأنصار!

ولو خضنا المعركة لكان لنا أدب غير أدبنا الباكي الحزين ولكانت لنا أمجاد نتغنى بها، ومخاطر ندعو إلى اقتحامها، ومخاوف نثير الهمم إزاءها، ولكانت لنا عزة تستشعرها نفوسنا ويتغذى بها إحساسنا

ص: 26

إي والله، ولا سمعنا في ذلة باكية (ما يهو نش) أو (ميلت بختي في الحب يختي) أو (يا حبيبي تعال إلحقني شوف اللي جرالي من نار حبك) أو (ليه تلا وعيني وأنت نور عيني). ولأنفنا لأن يكون نشيدنا القومي المختار:(لا والنبي يا عبده)!

اللهم إن تكن قد كتبت علينا إلا نخوض المعركة، فابعث اللهم علينا بركاناً ثائراً أو زلزالاً محطماً أو سيلاً جارفاً أو كارثة ما من كوارثك الرحيمة التي تنقذ بها عبادك من نعومة الأمن ورخاوة الدعة وويلات السلام!

فإن تكن اللهم قد أردت حرمان هذا الجيل من رحمتك فلا تحرم الأجيال الآتية ما حرمتنا، إنك أرحم الراحمين!

(حلوان)

سيد قطب

ص: 27

‌يا قمر!

للأستاذ محمود البشبيشي

يا سمير الحزين في خلوته، ورفيق السعيد في جلوته!

كل ما فيك سحر. . . وكل ما فيك بشْر

سحر يغمر القلوب بشعاع النور فتطرب

وبشر يشمل النفوس فترتاع الآلام وتهرب!

. . . لا حزن معك. . . ولا ضلال بظلك يا قمر!

يا هادي الساري في البيداء. . . وقاهر الظلمة بالضياء

شراع أنت للملاح لا يبلى مع الزمن، ولا يضطرب مع الريح فيصيبه الوهن! يقهر موج البحر، كما يقهر أمواج الفكر، فتسير السفينة بفضله في أمان! ويهدأ الملاح فيصوغ لك شكره في ألحان

كم لك على الأمواج من قُبل ليست كالقبل! بل زادت عليها معنى النور!

قبلُ من نور! يا سحرك يا قمر! ترقص من فرحة اللقاء، على ثغور الماء. . .

قبلُ من نور! يا سحرك يا قمر! تخشى الرقيب فتضطرب وتنتقل!

ولا تقع في اضطرابها وتنقلها إلا على شفة من موج، أو خد من زورق!

قبلٌ من نور! يا سحرك يا قمر! تبعث الغيرة في قلوب الأشجار الحالمة، في الضفاف النائمة، فتمد لك أوراقها ثغوراً تطمع في قبلة من نور!

. . . ومن عجب يا قمر أنك تقبلها وتقبلها غير ما هائب ولا خائف من عتاب الأمواج وثورة قلوبها

للحقائق المجردة فعل السحر في كل شيء، تنزل بالغنى إلى الفقير لتقربه من النجاة، وترتفع بالفقير إلى الغنى لتشعره بالحياة

. . . فكيف وحقيقتك يا قمر من نور!!

تنزل بالسماء في معنى الشعاع إلى الأرض لتقول لها إنك لا زلت تراباً!! وترتفع بالأرض إلى السماء في معنى الظلال وانعكاس النور لتقول للسماء إنك لا زلت سماء ما دام فيك ضياء!!

ص: 28

في نورك يا قمر معنى قلب المؤمن، ولا يلمس شيئاً من أشياء الحياة إلا طهره!

في نورك يا قمر معنى كلمة الحق! لا تحل في مكان إلا خرجت منه كلمة الكذب!!

في نورك يا قمر معنى كلمة الحب! لا ترن في مكان إلا جعلت من صخوره قلوباً!

في نورك يا قمر ماذا في نورك يا قمر؟!. . .

حقيقة أنت. . . ولكن حقيقة متغيرة. . .!

فأنت عند الجاهل قرص لا أكثر ولا أقل من ضياء وسناء!

جُعلت لتخفف من وحشة الانتقال من معنى النور إلى معنى الظلام

لا يعلم من سرك غير أنك تغيب لتطلع الشمس، وأن الشمس تغيب لتطلع أنت!

وأنت في عين الفيلسوف حقيقة النور، ولسان السماء الذي تخاطب به الأرض لتذكرها أن هناك رقيباً عليماً خبيراً يرى كل شيء حتى دبيب الخواطر في النفوس!

ومن عيونه المحسوسة لو عقل القوم! عيونك يا قمر.

عجباً يا قمر! نظرة سطحية جعلتكَ قرصاً من ضياء، ونظرة عميقة جعلتكَ عيناً من سناء! فما نظرة العاشق إليك يا قمر؟

نظراته لا تنتهي إلى أمد. كل نظرة فيها تنعطف على نظرة انعطافاً لا نعلم كيف يكون، لأنه من أسرار قلبه وأسرار نورك! تقلبت على قلبه وجوه الأيام فيها من لقاء وما فيها من فراق فنظر إليك يا قمر كأنما فيك مفتاح قلبه، وتكلم كلاماً، إني لا أعلمه، فهل تعلمه يا قمر؟

لقد أحصرني التطول إلى أسرار نظراته إليك، فهل من معين منجد ومساعد منشد؟

أين أنت يا دكتور مبارك وهذا الموقف موقفك! وإنك لناصح أمين لا تعرض الرأي على تهمة؟

وأين أنت يا زيات وهذا حديثك (في الجمال)، فإن المعاني هنا أصبحت لقلبي قُلْباً؟

وإني لأخوض في أوعاث وأوعار!

فما نظرة العاشق إليك يا قمر!

يا قمر! أنت قمر!

وهذا كل ما يستطيع الشاعر أن يقول لأنك فوق كل ما يقول

ص: 29

نعم أنا لا أستطيع أن أصفك وصفاً يحمل كل معانيك يا قمر

ويكون في ألفاظه معنى النور والسحر والجمال والأحلام

لا أستطيع غلا إذا قلت: أنت يا قمر!. . . يا قمر

وهكذا لا توصف الحقيقة إلا بالحقيقة!!

يا أفكاري! لقد تمجّدت اليوم رغم الجاحدين الحاسدين

لقد بلغت اليوم عرش النور خفافيش الظلام

لقد أنصت لك القمر وتفتحت آذان السماء!

يا أفكاري لقد تمجدت اليوم، فأنصت لك القمر!

يا قمر هاأنذا أناجيك فهل تسمع النجوى؟

هاأنذا أعيد لك أنشودتي المنظومة شعراً يأرج ويتوهج بعبيرك وأنوارك. . .

يا أيها القمر السخي بنوره

فيم احتجاجك عن وحيد ساري

في ظل نورك حين تبدو باسما

أرب النفوس ومتعة الأنظار

كم في الدجى مذ غبت من متأمل

بين النجوم ينوء بالأكدار

أمهديء الأفكار إن جد السرى

هل رحمت مبلبل الأفكار

يا مشرق القسمات طبعك رحمة

فإلام تتركني لوقت سرار

يا باعث الأنوار تنتظم الربى

والوهد، طال الشوق للأنوار

(انظر القمر، وارقب الخطر، واسأل القدر!)

محمود البشبيشي

ص: 30

‌اللورد روبرت بادن باول

الكشاف الأعظم العالمي

للأديب خميس زهران

توفي اللورد بادن باول الكشاف الأعظم في نيري بكينيا في

صباح 8 يناير وهو في الثالثة والثمانين من عمره. وكان قد

مرض مرضاً خطيراً بنوبات قلبية في نوفمبر من السنة

الماضية ثم تحسنت صحته ولكنها ظلت معتلة. . . وقد احتفظ

الفقيد بصحته ونشاطه حتى الثمانين ثم أخذت بعد ذلك في

الانحطاط. ومما يذكر عنه أنه له داراً فوق منحدرات جبل

كينيا حيث عاش حتى توفي

واشتهر الفقيد في حرب البوير في جنوب أفريقيا ودافع عن مافكنج؛ ولكنه نال شهرته العالمية عندما أسس حركة الكشافة عام 1908 فنجحت نجاحاً عظيماً وأصبح عدد الكشافين والمرشدات في العالم قبل وفاته نحو خمسة ملايين

بادن باول اسم يعرفه كل من له إلمام بتاريخ الكشافة، ويمجده كل من درس مبادئها واعتنقها في أي قطر من أقطار المعمورة، فهو يتزعم تلك الحركة المضنية التي ابتكرها، وقد وقف نفسه على خدمة الشباب في العالمين. وهو هو في نفسه وأخلاقه وعاداته ونزعاته لا يفرق بين جنس وجنس، ولا يوازي إلا بين النفس والنفس مجردة

ولد الطفل الإنجليزي (روبرت) مؤسس مذهب الكشف من أبوين كريمين هما (بادن باول) والسيدة (هزيتا هراس) ورأى النور في هذه الحياة لأول عهده بها في 22 فبراير عام 1857 في شمال هايدبارك بلندن، وكان أبواه ممن اشتغلوا بالتربية ولم يكن يدور بخلدهما أن ذلك الابن السادس سوف يأتي بمذهب في التربية هو خلاصة أراء علمائها وأظهره عملياً في ثوب الكشافة، فحقق بذلك نظريات سقراط وأفلاطون، ثم أقوال ابن خلدون ولوثر

ص: 31

ومن بعدهم روسو وبستالوتزي وسبنسر فقد أجمع كل هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين وغيرهم أن أول الواجبات الإنسانية تأهيل النفوس إلى اكتساب الكمال الممكن بتأسيس الملكات الصالحة وتأصيل الفضيلة الذاتية بإصلاح الأنفس الناطقة حتى تستحق النظر في حال غيرها أو تمرين سواها؛ ووافقهم على هذا المبدأ الحقيقي حكماء السياسة والشرع عموماً لتسليم البرهان القاضي بعلو الغاية من التربية وإن اختلفوا في الكيفية على حسب المدارك والاقتضاءات الزمنية

وقد دخل في العقد التاسع من عمره وقد منحته الطبيعة ما عندها من فتوة وقوة ولم تحرمه لذة الألقاب والغنى فتدرج فيهما إلى أن بلغ ذروة الأولى وأصبح في درجة لا بأس بها من الثانية وكان لا يزال قدوة الشباب ومرجع المربين: يلبس كالطفل وكالشاب وكالرجل وهو في الواقع كهل لا بل شيخ. إنما تعاليم الكشف وحياة الكشف جعلت من شيخوخته الشباب الغض والعامل المجد الآخذ من المجتمع بأكبر نصيب. فبادن باول في حركاته وسكنا ته كان يعد من الشباب الناهض وإن يكن شيخاً في مظهره وفي منظره، لأنه كان يلبس ما يتذوق الشباب ويتحرك كما يتحرك الشاب، ويجانس الفتية ويجالسهم دون غضاضة أو تنافر. لعله في هذا كان يتحدى الطبيعة ويتحدى الذين إذا استقبلوا الخمسين ترحموا على الدنيا وعلى الحياة، وعاشوا أمواتاً يبحثون عن القبر ويستضيفون اليأس في كل أطوارهم

وتاريخ طفولة رو برت مملوء بالحوادث والمفاجآت فقد مات أبوه (بادن باول) الأستاذ بجامعة أكسفورد وهو في الثالثة من عمره فكفلته أمه السيدة هزيتا ابنة الأميرال (السير سدني سميث) من أعلام البحرية مدة الحملة الفرنسية مع اخوته الستة وكذا أخته الوحيدة. ولم تلحقه بمدرسة ما بل اكتفت بتعليمه المنزلي. وكانت لدى بادن واخوته سفينة يمخرون بها عباب اليم فيجازفون بأنفسهم متغلبين على الأعاصير حتى قويت ملكاته وصار يستعمل المجداف بلباقة وذكاء وتعلم الاعتماد على النفس. وبقى بادن يتلقى بعض العلوم الخفيفة والمعارف السهلة في منزله إلى أن بلغ الحادية عشرة من عمره فأدخل مدرسة روزهيل الابتدائية فمكث فيها سنتين كان خلالها العلم الفرد في الألعاب مما جعله محبوباً من أقرانه وأساتذته. ولقد قال عنه الدكتور هايج بروني في سياق كلام له: (ما شككت قط في كلمة قالها. ولقد برهن في جميع أدوار حياته أنه رجل شريف لا يعرف زوراً ولا بهتاناً ولا

ص: 32

يخاتل ولا يشك في كلامه). ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بمدرسة تشارتر هاوس تلك المدرسة التي تحدث (ثكري) عنها وأشاد بذكرها في رواياته القصصية. وكان سيره التعليمي عاديا كشأن الطلبة المتوسطين أي أنه يبزهم في اللغتين اللاتينية واليونانية، وينافسهم في الأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة. أما في الألعاب بأنواعها فهو ابن بجدتها وفارس حلبتها؛ شهد بذلك ناظر مدرسته حيث كتب على لوحة الإعلانات قبيل انعقاد مباريات كرة القدم السنوية:(إن الطالب روبرت بادن باول حارس مرمى يقظ هاديء الخلق يعتمد عليه دائماً)

وفي عام 1876 ترك الفتى روبرت مدرسة تشارترهاوس، وكان عمره إذ ذاك تسعة عشر عاماً، فأخذ يفكر فيما عساه يكون مستقبله، ولم يكن قد قرر اتجاه حياته بعد. وفي بعض الأحيان تخضع مصاير الناس لمصادمات تافهة لا وزن لها، وقد يتغير حظ الإنسان ويتبدل مصيره، لا لشيء إلا أن القدر يريد أن يحقق ما كتب في صفحته. ومن المحقق أن الامتحان العسكري الذي صادف انعقاده وقت خروج روبرت من المدرسة كان له الأثر مما كان يتوقع، فإن تفوقه ونجاحه بين سبعمائة طالب آخرين دخلوا معه هذا الامتحان بالرغم من عدم ميله إلى الجندية أرغمته على الالتحاق بالفرقة الثالثة عشرة من الهوزار بالهند، وهكذا هيأت له المصادفة الدخول في جيش بلاده

ولما ذهب إلى الهند ضابطاً في الجيش أعجبته الطبيعة وهام بها، فأخذ يرمي بنفسه في أحضانها، ويطبخ طعامه بيده، ويهيئ فراشه من أغصان الشجر ويهتدي إلى الاتجاهات: بالرياح والنجوم والشمس والقمر؛ ويعيش مع الحيوانات والطيور، ويلاحظ نظم حياتها ويدرس أنواعها حتى نمت لديه قوة الملاحظة والاستنباط، واتسع نطاق ذاكرته ورهفت حواسه ودقت. ولقد قيل إن أول عمل قام به هناك هو أنه جمع عددا كبيراً من أولاد الأوربيين الصغار ونظمهم واخترق بهم شوارع مدينة لكنو، لاعبين على بعض الآلات الموسيقية، وكان يعزف هو على آلة تدعى (أوكارينا)

واللورد بادن باول ذو اطلاع وافر على شئون ممالك كثيرة، فقد انتقل من الهند إلى بلاد الزولو فجنوبي أفريقيا بعد أن قام بسفرات أخرى طويلة كان له فيها مغامرات جريئة وتجارب قيمة

ص: 33

لا ننظر إلى بادن كما ننظر إلى شاب، فهو في طفولته وفي شبابه ككل منا، ولكن النظرة التي تهمنا هي من يوم أن هداه الله، أو قل من يوم أن بعث الكشف من رقدته في صدر (توماس ستون)؛ فقد وقع في سنة 1904 أن تنبه الأمريكيون إلى مسألة الكشافة وما يكون لها من وقع حيوي. فذهب المستر توماس ستون الذي كان يحاول إدارة غابات كندا إلى تأليف نفر من أبناء الإنجليز هناك لاستغلال هذه الغابات فجعلهم فرقاً على رأس كل واحدة منها واحد يقوم عليهم يدربهم على النظام والعيش في العراء، يأخذهم إلى الغابة ليعلمهم تسلق الأشجار واقتفاء الأثر، والمراوغة، والاختفاء عن أعين الرقباء، والتعرض للشمس. ويعلمهم كذلك السباحة وبعض الحرف النافعة، ويمنعهم شرب الخمر والتدخين

فلما رأى ذلك السير روبرت بادن باول وكان إذ ذاك في أمريكا الشمالية أعجبته خطة الرجل وصادفت هوى في نفسه، ولكن ما لبث أم أسدل النسيان عليها ستاره

وذلك اليوم هو حين صدرت له الأوامر بالذهاب إلى جنوب أفريقيا لتأدية خدمة عسكرية، وحين عهد إليه قوة من الوطنيين لم يكن لهم عهد بالحربية

مائة شاب من سكان جنوب أفريقيا كانوا المزرعة التي غرس فيها (الماجور بادن باول) تعاليمه كتجربة. ومائة لا أكثر استطاعوا أن يؤيدوا صدق مذهب الكشف، لكن بقيادة هذا الزعيم الكبير، وهم اليوم يعدون بالملايين في أنحاء المعمورة، لا يقف تيارهم جنس أو دين أو مذهب؛ بل كلهم يعتنقون مذهب الكشف راضين قانعين بفوائده سواء لأجسامهم ولعقولهم ولاستعدادهم للحياة كأفراد عاملين وكأعضاء في المجتمع نافعين. واللورد بادن باول فضلاً عن شهرته ككشاف أعظم كان يعتبر بحق بطل واقعة مفكنج، فقد أظهر أثناء حصار مدينة مفكنج عام 1899 من النبوغ والعبقرية في الفنون العسكرية ما أطلق ألسنة مواطنيه بالمدح والثناء عليه

وتلك ولا شك كانت حرباً هائلة لم يكن الإنجليز يتوقعون أن يكون للكشافين أثر فيها. فلم يلبث أن دعي الجنرال بادن باول إلى جنوب أفريقيا عند قيام حرب البوير، فقام بأعمال جليلة رفعت من ذكره في بلاده

ومما يذكر في هذا الشأن أن الجنرال الإنجليزي حصر بجيشه في مفكنج وهي مدينة صغيرة واقعة في سهول أفريقيا الجنوبية ولم يكن أحد يظن بأنها ستهاجم من العدو كما لا

ص: 34

تتوقع أنت مهاجمة العدو لبلدتك أو قريتك إذ أن هذا بعيد الاحتمال

قال بادن باول: (ولما وجدنا أننا سنهاجم في مكفنج أخبرنا حاميتنا عن النقط التي ينبغي الدفاع عنها. وكان عدد رجالنا قريباً من 700 ما بين شرطي ومتطوع ومنظم. ثم سلحنا من الأهليين 300 وكان بعضهم من رجال الحدود القدماء الذين هم أهل لهذه المهمة. غير أن كثيراً منهم كانوا تجاراً وكهنة وغير ذلك ولم يشاهدوا سلاحاً من قبل ولم يجربوا تعلم الحركات العسكرية أو الرمي. لذا لم يكن يرجى منهم خير في البدء. اجتمع لدينا بعدئذ ألف رجل كلفوا بالدفاع عن المكان الذي يضم 600 امرأة (بيضاء) وولد، 7000 من الأهليين وكان محيطه نحو خمسة أميال. أليس من المضحك أن تلقى عدواً يقصد قتلك وأنت لم تتعلم الرمي قط؟)

لقد اضطرب الجيش لهذا الحصار الشديد ولم تعد هناك نفس لم يداخلها الخور إلا صاحب ذلك القلم العظيم الذي عرف الحرب من قبل وبلاها فقد كان على بينة من أمره؛ ومعنى هذا أن لا سبيل أمامه غير الإذعان لمشيئة الظروف فلا بد مما ليس منه بد

اختلى بعد ذلك بزميله اللورد (ادوارد سيسل) لحديث قصير استشاره خلاله فيما يختص بالدفاع وأدلى باقتراحه ذاكراً خطة صديقه (توماس ستون) فوافقه عليها، وقد سره وأحيا الأمل في نفسه أنه قد وجد على الأقل رجلاً خبيراً بالعمل الذي ينتويه والذي عهد به إليه وخفف من غم الجنود وشجنهم، كما أعاد الثقة إلى نفوسهم هذا القوام العسكري المهيب وتلك اليد القابضة أبداً على السيف المتدلي بجانبه كأنه قد استحال قطعة متصلة ببدنه، وهاتان العينان الساكنتان أبداً لا تضطربان ولا تختلجان، وحديثه كلما تكلم عن المخاطر بلهجة المحتقر لها المستخف بها كل الاستخفاف (أرجو أن تحلوني مكاناً حامي الوطيس متأجج النيران)(نعم قد يحاولون الاقتحام ولكني أظن أن لا حاجة بي إلى أن انبه جندياً أن عشرين رجلاً من البواسل أولى العزم - وهو ما أعتقده فيكم جميعاً - قادرون بلا شك على الثبات في الدفاع عن مدينة كهذه إزاء عشرة أمثال أو أقل عشرين من أمثال العدد الذي يتقدم به البويريون لاقتحام مفكنج)(وما أنا إلا جندي مثلكم وما سيقع لكم هو واقع لي. فهل رأيتم أثراً للضعف أو التخاذل عندي، أو لمستم مني ناحية شك في النصر؟) ولما ضربت مدينة مفكنج لأول مرة طير خبر ذلك وعلق عليه قائلاً: (كسر إناء طبخ ومات كلب) ولقد

ص: 35

كتب إلى أحد القواد البويريين: (إنك لم تأخذ المدينة بالقعود عنها والتطلع إليها)

وجعل بادن باول يظهر الاستخفاف من الحصار إلى درجة جعلت الحامية جميعاً مطمئني الصدور مرتاحي الخواطر، كما أن ثقته التامة بالنتيجة واستعجاله القتال تركهم في ذهول من أمره وإعجاب بشجاعته

(البقية في العدد القادم)

خميس زهران

زعيم جوالة بإسكندرية

ص: 36

‌كلمات

رجل كسيح

رجلان أبرزتهما هذه الحرب وأبانت للعالم كله عن قيمتها وأن كليهما يصدق فيه قول شاعرنا العربي القديم: وما كل ألف لا تعدّ بواحد

أما أولهما فهو تشرشل، وأما ثانيهما فهو روزفلت

وقصة الحياة التي حيَّها رزفلت، هي قصة فذة عجيبة بين حيوات البشر. بل مثال كامل فريد لا يمكن أن تصل إليه الإرادة البشرية وقوة الخلق والكفاح

فهذا الرجل الذي استوى على كرسي الرياسة في أكبر جمهورية في العالم القديم والحديث، وتولى سياسة أعظم الدول مالاً وقوة وفتوة، والذي اختارته هذه الأمة ليسوس أمرها ثلاث دورات متواليات، ولم تُنل هذا الشرف ولا هذه الكرامة ولا هذه الثقة أحداً قبله في تاريخها

وهذا الرجل الفرد الذي يقف من وراء المحيطات يخطب مائة مليون من الناس يرسل في خطابه الصواعق والحمم، والذي يضع قوته وقوة أمته على كفة من كفتي هذه الحرب العاتية فتشيل، ويسيّر بقوته وفكرته وعزمه تاريخ العالم الحديث والمستقبل، وتاريخ الحضارة البشرية ومستقبلها إلى وجهة خاصة من السير.

هذا الرجل الذي بلغ هذا المبلغ هو إنسان معلول كسيح. . .!

وقد رأيت هذا الرجل منذ أيام على شاشة السينما يخطب الناس لانتخاب الرياسة فيستولي على عقولهم وقلوبهم وعواطفهم ويكادون أن يدموا أكفهم تصفيقاً له. ويزور المصانع والمعامل فيتحدث ويسير ويضحك ويداعب كأنه شاب في الثلاثين فتوة وحيوية. وكان يقف يتوكأ على عصاه ويسير يجر نصفه الأسفل كأنه لا حياة فيه. إنه كسيح أصيب في طفولته بالشلل.

سألت نفسي يا ترى لو أن طفلاً مصرياً أو شرقياً أصيب بما أصيب به رزفلت في طفولته فمات نصفه من الشلل، فأيَّ إنسان وأي رجل وكهل بصير هذا الطفل المصري أو الشرقي؟

أما إن كان غنياً فسينشأ شاباً مدلّلاً تافهاً ساقط النفس خائر العزم مريض القلب والنفس كمرض جسده. شاب مدلل تافه يأكل خير الطعام ويلبس خير اللباس لا رجاء لنفسه في

ص: 37

نفسه ولا رجاء لأحد فيه، فقد خلقه الله - في زعمه - غير صالح لعمل ولا لرجاء. ستبكي أمه ويحوْقل أبوه ويزعم الثلاثة أنهم خاضعون لما قدّر الله حين ابتلاهم. فهو إنسان يطعم ويشكو حتى يجيء فيه قضاء الله

وأما إن كان فقيراً فهو كصاحبه ساقط الهمّة خائر العزم مريض النفس والقلب مشلول الفكر والعقل والعزيمة كمرض جسده. مستسلم - في زعمه - لقضاء الله لا عمل ولا رجاء حتى يحين فيه القضاء

بل إن صديقي يقول: لو أن روزفلت نشأ في مصر أو في بلد شرقيّ لوجدنا مكانه إلى جانب ضريح من أضرحة الأولياء قد مدّ نصفه الكسيح في الشمس يعْرضه على الناس فُرْجةً، ثم يمدّ يده يسأل الناس أن يدفعوا إليه ضريبة الصدقة. . .!

(محمود)

ص: 38

‌رسالة الشعر

من نوازي القلب!

للأستاذ محمود خفيف

أَيْنَ ليلَاتُ أَدمُعي وسُهادي

وَرِضَائي بِشقْوتي وَعِنادي؟

أَيْنَ مِنِّي ضلالَتي أَشْترِيها

بالذِي قَدْ أَضَلَّني مِنْ رَشَادِ!

أَنا أَشْقى يَا وَيلَتا بانْطلاقي

مِنْ إِسَاري فَأَيْن مِنِّ وِثاقيِ

آهِ! مِنْ لي بِساعَةٍ منْ زَمَانٍ

كانَ بَعْضَ النَّعيمِ فيهِ احتِراقيِ!

لَمْ يَعُدْ بَعدَ مَوتِ الأَماني

غَيرُ مَاضِ أَصْبو لهُ وأُعاني

إِنْ يَكنْ عَوْدُ عيْشِهِ مُسْتحيلاً

فَشِفائِي في غَفْوةِ النِّسيانِ

كَيْفَ أَنْسى؟ اللهُ لي! ما لقلبِي

مِنْ جِراحاتِهِ عُلَالَةُ طِبِّ

وَقصَارَى العَذَابِ ذِكْرىَ حُبَّا

لَمْ يَعُدْ بَعدُ غَيرَ سَالفِ حُبِّ!

أَيُّ طِبٍ لِحائِرٍ في الضُّلوعِ

بَينَ يَأسٍ في خفقِهِ وَنُزُوعِ

ذِكْرُهُ اليَأسَ إِن تَوَثَّبَ يَثْني

هِ ويُغرِيهِ ثمَّ طولُ الهجوعِ!

سحرَ ماضِيَّ غَيَّرتكِ الليالي

بَعضُ هذا لمْ يجرِ يوماً بِبالي

لَاتَرى العَينُ في مُحيَّاكِ مَعْنىً

غَيرَ ما تَدَّعينَ من إِقباَلِ

في مُحيَّاي لهْفَتي وأُوَامي

وخَيَالُ القَديمِ من أَحلامي

أَزْهَقَتْ بَسْمَتي عَلَى شَفَتَيَّا

خَطَراتٌ فيهِنَّ ماضي هُيَامي

لا تَخاليِ ادِّعَاءِ َكِ الوُدَّ يُغني

تَقَرَأ الصَّدَّ في وِدَادِك عَيْني

وَسَوَاءٌ لَدَيَّ ما تُبْصِرُ العَيْ

نُ ومَا غَابَ في ضَميرِكِ عَنَّي!

يَسْتَوي الْيَومَ وَيْحَ نَفْسيَ وُدُ

إِن أَردْتِ الوَلَاء حَقَّاً وصَدُّ

رِعْدَةُ الأمْسِ عِنْدَ مَرْآكِ إِثْمٌ

وَلَئِنْ أَلهَبَ الحَشْا مِنكِ وَقْدُ

السُّلوَّ السُّلوَّ. . . وَيْكَ فؤادِي

لَنْ يَبُلَّ السَّرَابُ غُلَّةَ صَادي

قَدْ تَوَلى بَعْدَ الثَّلاثينِ عَاما

نِ فَقَضِّ الشَّبابَ في الزُّهَّادِ

لَحَرَامٌ عَلَيَّ كُلُّ حَلَالِ

مِنْ مِراحِ الشَّبَابِ حُلوِ اللَّيالي

بَعْدَ دَعاني للهَّو بَعْضُ صِحابي

واسْتَخَفَتهُمُوُ نَوَازِي الشَّباب

ص: 39

فأَنا فِيهُمو الضَّحوك الذّي يُخْفِ

ي عنِ الصَّحْبِ غاشِيَاتِ العذاب

ضَحِكُ الزَّهْرِ فَوْقَ مُوحِشِ رَمْس

ضَحِكاتي بينَ الأسى والتَّأسي

وَمُجُونُ الرِّفاقِ حَوْليَ ضَوضَ

اءُ صَدَاها فيهِ عَذابٌ لِنَفسي

وَإِذا اللَّيلُ هَزَّ في أَسْحارِه

سَاجِعاتِ الخَمْيلِ مِنْ أَطْيارِهْ

وَالنَّهَارُ الضَّحُوك هَلَّ مِنَ الأُف

قِ وَفاضَ الوَضِيءُ من تَيَّارِهْ

وإِذا ما الرَّبيعُ في رَيِعانِهْ

أَلَّفَ السِّحْرَ في رُؤى مِهرَجانِه

وَتَعالَتْ أَلْحانُهُ في الضُّحَى الطَّل

قِ فَهَاجَ الحَنِينَ في أَلحانِهْ

لا النَّهارُ الضَّحُوكُ يَملِكُ لُبِّي

ولا وَلا في الرَّبيعِ عِيدٌ لِقلبي

ماتَ في مُهْجتي السُّرُورُ وِأمسى

عَلْقَماً بَعْدَ مَوتِهِ كُلُّ عَذبِ!

الخفيف

ص: 40

‌البريد الأدبي

وفاة هنري برجسون

توفي في الأسبوع الماضي الأستاذ هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي العظيم وعضو الأكاديمية الفرنسية عن 82 سنة

وقد تخرج برجسون في مدرسة المعلمين العليا وبعد أن حصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة أخذ يدرّس العلوم الفلسفية

في مدرسة فرنسا فلم يلبث أن أصبح من أبرز أساتذتها منذ سنة 1900، وطبقت شهرته الآفاق فأخذ الطلبة يفدون عليه من جميع أنحاء العالم لسماع محاضراته وتعاليمه

وقد وضع برجسون مؤلفات عديدة في الفلسفة منها (قوة التطور المبدعة) و (القوة الروحية) و (الضحك). وقد انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية سنة 1914 ونال جائزة نوبل للآداب سنة 1927

حقوق المؤلفين في الدانمرك

فكرت الحكومة الدانمركية في حظ المؤلفين وفيما يلحقهم من غبن فقررت أخيراً زيادة دخلهم المادي تشجيعاً لهم على مواصلة العمل والإنتاج

ومن التدابير التي اتخذتها أنها فرضت رسماً على كل من يطالع أي كتاب من المكاتب العامة أو في أندية المطالعة، وفرضت رسماً آخر على كل من يقتبس جزءاً من كتاب ويذيعه بالمذياع أو الحاكي

وهذه الرسوم تجمع بعد انقضاء فترة معينة وتوزع على الكتاب الذين انتفع بمؤلفاتهم للإذاعة أو المطالعة

إعلان الحرب على الفقر

نصب الأديب توم كرومر نفسه مدافعاً عن فقراء نيويورك، وعقد العزم هو وجمع من أنصاره على إعلان حرب شعواء على الفقر والتعطل، وقد أخرج كتاباً بعنوان (طريدو الجوع)، رسم فيه صوراً مروعة من حياة رجل أمريكي متعطل شريد.

ولقد تناول المؤلف بطل قصته في حياته اليومية، فأظهر لنا كيف يعيش، ومع من يعيش،

ص: 41

وماذا يأكل، وكيف يلهو، وفي أي أمكنة يقضي لياليه، وكيف ينحط جسمه وينحط عقله وتفني كرامته حتى يستحيل إلى آله صماء وقد أعجبت هيئة اتحاد العمال الأمريكيين بهذا الكتاب، واتخذت منه وسيلة لمكافحة الفقر والدعاية للطبقة العاملة ومحاربة التعطل، فطبعته على نفقتها ووزعت منه آلاف النسخ بثمن زهيد ليكثر انتشاره بين العمال وصغار الموظفين

ومن الظواهر التي أحدثها هذا الكتاب اهتمام الرئيس رزفلت به واعترافه في جمع من الصحفيين بقيمته ومصارحته لهم بأن توم كرومر هو أول أديب شعبي ظهر في أمريكا وأول قصصي إنساني تحرر من دراسة أخلاق الطبقة الوسطى وأقبل على دراسة حياة العامل والفلاح من الجانب الاجتماعي الاقتصادي الذي يسيطر في هذا العصر كل السيطرة

حول أهل الكهف

إلى أستاذي الدكتور زكي مبارك

قلت يا سيدي في تحليل كتاب (أهل الكهف) إن عندك ثلاثة فروض كان توفيق الحكيم تحت تأثيرها عند كتابته القصة. . . وهي قوة الشهوة، وقوة الحب، وقوة الإيمان

وأنا معك أيها الأستاذ الجليل حين تقول إن الكاتب لم يصور الشهوة العارمة التصوير الذي يجعلها شهوة عارمة

ولكني لا أفهم الغرض الذي يرمي إليه الدكتور حين يقول إن توفيقاً عرض للحب في أدب ولطف كما يصنع العذريون الضعفاء. . . وهل عند الدكتور أن العاشق العذري ضعيف؟ وكيف يجوز هذا؟ وأهل الصبابة العذرية يكابدون في الحب أهوالاً، بل ويقاومون في الحب قوتين: قوة الحب نفسه والدكتور خبير بها عليم، وقوة كبت العواطف الملتهبة بنار الشهوة؟ إن العذريين لم يكونوا ضعفاء وعندهم قوة الصبر وقهر النفس وشهواتها. . .

وأكثر من هذا أن توفيقاً صور الحب تصويراً عاصفاً قوياً في مواضع كثيرة. وما ظنك بمن يقبر ويبعث فتكون أول عاطفة تموج في صدره هي عاطفة الحب. حب مشيلينا لبريسكا. . . ويظهر ذلك في حديثه مع مرنوش في أول فصل وفي حب مرنوش لزوجته وولده، وهو نوع نبيل من الحب جعله في آخر الأمر بعد أن شعر بفقدهما يفضل الموت في الكهف على الحياة بغير قلب!

ص: 42

وأكثر من هذا أيضاً أن قوة الحب في نفسه جعلته يعشق بريسكا الثانية مجردة عن حقيقته الأولى! ويظهر ذلك حين يقول (سيان عندي أن تكون هي أو لا تكون. أحب هذه المرأة التي رأيتها في اليقظة. . .)

هذا من ناحية الحب. . . أما من ناحية الإيمان والارتياب، فأنا أرد على سؤال أستاذي الجليل:(ماذا صنع توفيق في وصف الإيمان، وماذا صنع في تشريح أوضار الارتياب، وأين المعركة التي أثارها بين نسائم الهوى وزوابع الضلال؟)

إن توفيقاً صنع كثيراً في وصف الإيمان. . . بل الإيمان المتجسم الذي يبلغ حد التسليم بكل شيء في شخص يمليخا. . . حين أرى أجرى على لسانه الفرق بين التدوين بالوراثة والتدين عن عقيدة وإقناع؛ وحين يقول: إنه لا يتصور الوجود بدون عقيدة الإيمان ولا انتهاءه بدونه؛ وحين يقول: أنا لا نملك حق السؤال. . . إنما ينبغي لنا أن نعتقد

تلك ناحية الإيمان القوي، أما ناحية الارتياب فتبدو واضحة في حيرة وتهكم مرنوش حين يقول له يمليخا:(إن رحمة الله قريب)؛ فيصرخ: (حقيقة! قرب السماء من الأرض تلك الرحمة التي لا تسعف إلا من يستطيع الانتظار)؛ وحين يقول له يمليخا: (لا تسخر، إن الله حق)؛ فيقول: (لا شأن لله بناها هنا. . . نحن اللذان أوقعنا بنفسينا!)

وحين يقول له يمليخا (كل شيء على الأرض بأمر الله)؛ فيصرخ: (إلا ما نحن فيه، فقد حدث بفعل الإنسان). . . الست ترى أن توفيقاً تعرض هنا لأخطر نواحي الارتياب حين يشك في رحمة الله. . . وحين لا يجعل له يداً في حالته. . . وحين يقول: إن ما يفعله الإنسان لا سلطان لله عليه

إن توفيقاً لم يكتب هذه القصة، ولم يعرض هذه الأفكار - وإن لم تكن جديدة - إلا لغرض في نفسه، وما أقام الإيمان يناقش الارتياب إلا ليعالج إحساساً اضطرب في نفسه من قبل. أنا أشعر بهذا فهل للدكتور العظيم أن يتكرم فيلقي نظرة كاشفة على حقيقته؟

(المنصورة)

حسن حسني محمود البشبيشي

اللوزينج

ص: 43

جاء في عدد الرسالة (387) في كلمة الدكتور زكي مبارك هذه الجملة:

(وحشو اللوزينج في تعبير كتاب القرن الرابع يضرب مثلاً للشيء يكون حشوه أجود من قشرة. . .)، وهذه كلمة عابرة لا تعطي القارئ الثمرة الكافية، وبخاصة من وجهت إليهم تلك الدراسات. فتوضيحاً للفائدة وبسطاً للمقام. أذكر هذه الكلمة:

قال في المصباح: مادة لوز (الَّلوزينج - بهذا الضبط - شيء من الحلواء شبه القطائف يؤدم بدهن اللوز) وهو جمع مفرده (لَوْزِينَجَه). جاء في كتاب حصاد الهشيم ن 347 (يا جمال)(جاء في يوم أمام المكتفي (لوزينجة) فقال: هل وصف ابن الرومي اللوزينج؟ فأنشُدِ قوله:

لا يخطئني منك لوزينج

إذا بدا أعجب أو عجبا

لم تغلق الشهوة أبوابها

إلا أبت زلفاه أن يحجبا

وهو على حسنه نادر جداً في اللغة قال في ثمار القلوب للعلامة الثعالبي ص488: سمعت أبا الفرج يعقوب بن إبراهيم يقول سمعت أبا سعد رجاء يقول: دخلت يوماً على أبي الفضل ابن العميد فقال لي: امض إلى أبى الحسين بن سعد فقل له: هل تعرف لقول عوف (إن الثمانين وبلغتها) ثانياً في كون الحشو أحسن من المحشو؟

قال: فسرت إليه، وبلغته الرسالة فقال: سألني عنه محمد بن علي بن الفرات فسألت عنه أبا عمر غلام ثعلب فقال: سألت عنه ثعلباً فلم يأت بشيء؛ ثم بلغني أن عبيد الله بن عبد الله سأل المبرد عنه فأنشده قول عدي بن زيد لابنه زيد بن عدي في حبس النعمان

فلو كنت الأسير ولا تكنه

إذا علمت معد ما أقول

قوله: ولا تكنه. حشو مستغنى عنه ولكنه في الحسن نظير، وبلغتها:

ومما عثرت عليه في حشو اللوزينج من الشعر قول البحتري يمدح المتوكل:

وجزيت أعلى مرتبة مأمولة

في جنة الفردوس غير معجل

فقد تم الكلام عند قوله: في جنة الفردوس؛ وقال: غير معجل أي بعد عمر طويل لأن الجنة إنما يوصل إليها بالموت

وقول أبي الطيب يمدح كافوراً:

وتحتقر الدنيا احتقار مجرِّب

ترى كل ما فيها - وحاشاك - فانيا

ص: 44

فقوله: وحاشاك. حشو فيه حلاوة، وعليه طلاوة

قال العكبري: وحاشاك من أحسن ما خوطب به في هذا الموضع؛ والأدباء يقولون هذه اللفظة حشوة ولكنها حشوة فستق وسكر)

وضد هذا الحشو. حشو الأكر لأنها تحشى بكل شيء ساقط: قال جحظة: أنشدت لأبي الصقر شعراً لي فقال: يا أبا الحسن، ولا زلت تأتينا بالغرور والدرر، إذا جاءنا غيرك بحشو الأكر (490 ثمار القلوب). ثم إنه قد ذكر مؤلف كتاب الثمار أنه افتتح كتاباً صغير الجرم لطيف في نظائر هذا الحشو وترجمه بحشو اللوزينج. فأطرح السؤال على الدكتور المبارك: أين يوجد هذا الكتاب؟

فخر الدين غزي

حول الفيتامين

جاء في مقال قصة الفيتامين للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي المنشور بالعدد (382) من الرسالة عن البلاجرا

1 -

(ويوجد هذا المرض في بلاد البترول) وأظنه يقصد بلاد التيرول

2 -

في العمود الثاني من الصفحة 1636 يقول: (زد حقيقة ثابتة أخرى وهي انتشار مرض البلاجرا في الأوساط الفقيرة فقط في البلدان التي تعتمد في غذائها على الذرة اعتماداً كلياً فاستنتج من هذا ارتباط مرض (البري بري) بالتغذية) وهذا خطأ إذ أن الأستاذ يقصد مرض البلاجرا كما هو مفهوم من معنى الجملة. فتكون (فاستنتج من هذا ارتباط مرض البلاجرا بالتغذية)

3 -

وجاء في الصفحة 1637 - العمود الثاني - (وتارة أخرى تتعاونان معاً على تنبيه (النخاع الشوكي) ودفعه إلى تكوين الكرات الحمراء. . . الخ)

وهنا أخطأ الأستاذ أيضاً فهو يقصد النخاع العظمي لأن النخاع الشوكي هو قسم من الجهاز العصبي والموجود في القناة العظمية داخل العمود الفقري وليس له أي وظيفة في تكوين الكريات الحمراء فهو النخاع العظمي الأحمر أي الموجود داخل العظام. كما أن هذه الغلطة مكررة أيضاً في شرح الشكل المرسوم في الصفحة 1636

ص: 45

بهجت قدوري سلمان

بكلية الطب ببغداد

ص: 46

‌القصص

كنز في فندق

عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار

فتح إدوارد لانجتون الباب في رفق وأطلَّ في الغرفة الخالية إطلال الخائف الحريص، والحرص من دأب الذي يقدم على الإتيان بعمل يحرمه القانون. وكان لانجتون لصاً لا يحترف اللصوصية ولكنه من هواتها كأنها عنده بعض الألعاب التي تراد للتسلية.

ولما وجد الغرفة خالية دخل مسرعاً وأغلق الباب دونه، ثم دخل إلى غرفة أخرى بداخل الأولى فوجدها زينة ليس بها سوى فرش قليلة، وأمشاط ومرآة فوق دولاب صغير، وبضعة دبابيس، فقرر لانجتون أن هذه الأشياء لا تساوي المخاطرة التي قام بها لدخول الغرفة

وتردد لحظة ليقرر الخطة التي يتبعها. وفي هذه الأثناء كان (الكابتن كورنيش) نائماً في فندق باريزيان في ميدان أفرتون في لوندرا وهو في هذه اللحظة تحت رحمة هذا اللص الذي احتل جزءاً من المكان الذي استأجره الكابتن

ورأى اللص أن يفتش تحت المناضد لعله يرى شيئاً ثميناً قبل أن يخرج. فلما لم يجد شيئاً فتح الأدراج في دولاب الزينة وهو مغضب، فكاد الدرج الأول أن يسقط على الأرض للشدة التي استعملها في فتحه. وفي هذه الحركة رأى اللص في الدرج ذهباً. وفي اللحظة التالية لاحظ أن مع الذهب شعر سيدة فرفع الصرة ووجد تحتها صورة في شمسية لفتاة يعرفها وهي الآنسة (بورلورن)، فوضع الصورة في جيبه وهو مغتبط كأن حصوله على الصورة قد أدناه من الفتاة نفسها. وشعر بعامل سري في ضميره يدعو إلى السرور بهذا الاستكشاف، ونظر إلى الباب نظرة طويلة، ثم خرج في صمت وهدوء تركا الذهب ومكتفيا بالصورة. واختار لخروجه ممراً لم يخط بضع خطوات فيه حتى وقف خلفه، فوجد أنه قد غادر المكان المخصص للكابتن كورنيش، وأنه صار في مأمن، واستأنف سيره وهو يتصنع مشية طبيعية حتى لا يكون موضع ارتياب، ولكنه رغم تصنعه الهدوء، كان يلمس

ص: 47

بيده اليمنى جيبه الذي فيه المسدس ليستوثق منه

وأخيراً وصل إلى منزله، وهو منزل صغير نظيف، يبعد نصف ساعة عن الفندق؛ وكانت أمه في الفراش، ولكنها غير نائمة، ولم تحس بحركته وهو خارج، لأنه توخى الابتعاد عن غرفتها في أثناء ذهابه إلى الفندق

لكنها الآن أحست بحركته وهو عائد، وسمعت صوت المفتاح وهو يفتح به الباب، ووقع أقدامه وهو يمشي في الممر. وأحست بحركته وهو يتناول الطعام على عجل، ويدخل غرفة نومه فيغلق دونه بابها. وبعد أن امتنعت الأصوات من جهته، اطمأنت الأم وأدركها النعاس. . . ولقد كان يكفي لقتلها غماً أن تخالج نفسها أية ريبة في أن ابنها، وهو سليل أسرة كبيرة، يجرؤ على الإتيان بما يأتي به من الأعمال. ولم يخطرها ببالها كذلك أنه الآن يشعر مشاعر غريبة شاذة لعثوره على صورة هي أهم عنده من الطلاسم التي يقتنيها الغير لجلب الخير ودفع الشر

وبعد يومين كان لانجتون يكتب خطابات متعددة لأناس يعتقد أنهم على اتصال بمرجريت بورلورن، وكتب كذلك إليها يطلب موعداً للقاء

وبالرغم من أنها لم ترد على خطابه، فإنه ذهب إلى المكان المعين في الموعد المضروب؛ وبعد ربع ساعة كانت الفتاة مقبلة نحوه، وكانت تحيط بها من الجلال والفتنة هالة مثل التي كانت بها في أول يوم فيه منذ سنين

وبدأته بالسؤال عن سبب كتابته لها وتعيين الموعد، فقال: إنني ما كنت لأجرؤ على طلب مقابلتك في هذا المكان وفي هذه الساعة لولا أن معي شيئاً أريد أن أقدمه إليك

وكان صوته في مخاطبتها صوت من يعلم سراً؛ وقال لهل بصوت خافت: أكنت لا تطنين سبباً لطلبي إياك غير الرغبة في رؤيتك؟

فقالت وقد احمرت وجنتاها: لست أعرف

قال: (إنني في المرة السالفة أديت لك خدمة ولكنها لا تذكر بالقياس لخدمتي في هذه المرة فإنني دخلت خلسة في مكان لا بد أن تكوني قد زرته في إحدى المرات، ولكنني لم أجدك في هذه المرة ووجدت. . . ماذا عراك حتى تغير لونك)

وكان لون الفتاة في هذه الآونة يكاد ينبط منه الدم

ص: 48

فقالت: (يظهر أنك تريد أن تكلمني عن شيء مضى ولكن. . .)

فقال مقاطعاً:

(كلا. . . إنني لا أريد أن أكلمك عن شيء ماض، فإني كنت في مكان الكابتن آرثر كورنيش بالفندق

لم تكن مرجريت بعد ذكر هذا الاسم بحاجة إلى كلمة أخرى تنبه شعورها فأرخت أهدابها إلى الأرض وأنصتت، وكان إصغاؤها سؤالاً، فأجاب عليه لانجتوت:(إن الكابتن لم يعلم إلى الآن أنني زرت مكانه. ولعله لا يعلم كذلك أنني أخذت شيئاً)

قالت الفتاة:

(ولكن كيف عرفت أنني أعرف الكابتن؟)

فقال وهو يتظاهر بأنه لم يسمع سؤالها:

(لقد دخلت مكانه في الفندق منذ ليال. . .)

قالت الفتاة مقاطعة إياه:

(وهل تريد بواسطتي أن ترد إليه ما لأخذته من عنده؟)

فهز لانجتون رأسه وقال:

إنني إن رددت ما أخذته فلن يكون ذلك باختياري

ثم أدرك أن في قوله من الغلظة فقال: (إن كورنيش لن يعلم أنني زرت حجرته؛ وأنا إنما فعلت ذلك لمصلحتك ولمصلحتي)

قالت: (شكراً) ثم وقفت مرتبكة لأنها لا تعرف كيف يكون لها مصلحة في دخوله الفنادق خلسة. وعاد لانجتون إلى الكلام فقال: (بقى أن تعرف ماذا فقده الكابتن)

ثم ابتسم ابتسامة ضعيفة وقال: (إنني على كل حال لم أستطع مقاومة الرغبة في رؤيتك)

وظل ينظر إليها وهو صامت وظلت هادئة فقدم إليها الصورة وتركها في مكانها وعاد إلى منزله.

وبعد أيام قليلة كان الكابتّن أرثر كورنيتش واقفاً في بيت مارجريت بورلون. وكان يقول: (منذ أيام قليلة وصلت إليّ صورتك بالبريد دون أن أعرف أنها فقدت مني، وإني لأعجب كيف حصل عليها من ردها إليّ)

ص: 49

قالت: (إن الذي تقوله يدهشني، فإني كنت أحسبك تحرص على تذكار مثل هذا فتصونه في مكان أمين

فقال كورنيش: سأفعل ذلك في المستقبل

وكان يحاول أن يحدق في عينيها، ولكنها كانت تتجنب نظراته؛ وعدا إلى الكلام فقال: لكن الخط الذي كتب به عنواني على المظروف يشبه خطك، فهل أنت التي أرسلتها؟ كيف وصلت إلى يدك وكيف سرقت من عندي؟

ولما رأى الابتسامة التي على ثغرها تدل على صدق ظنه مد إليها يديه ليضمها إلى صدره، فقالت بهدوء: سأخبرك على شرط أن تبرهن لي على حبك

قال: أنت تعرفين أنني لم أكن في وقت من الأوقات قليل الحب لك، فما الداعي إلى هذا السؤال؟

فقالت: إن هذا التأكيد هو كل ما أريده منك. إن الذي أعطاني الصورة هو ذلك اللص المخاطر الذي أسداني خدمة في يوم من الأيام، هل تعرف اللفتنانت دورن؟

قال آرثر: اللفتنانت دورن! يستحيل أن يكون هو الذي أخذ الصورة

فقالت: نعم ليس هو، ولكنه الرجل الذي أنقذني من اللفتنانت دورن

قال وقد جرى في عروقه دم الغيرة: (وماذا حمله على ذلك؟ ولماذا يدخل غرفتي ليأخذ صورتك؟)

فقالت: (ألا تزال تشعر بالغيرة بعد أن رددت إليك صورتي وبرهنت على أنني لك وحدك؟)

فضمها الكابتن إلى صدره وقبلها.

وبعد هذا اليوم صينت صورة الفتاة في مكان أمين، ولكنه بالأسف ليس مكان إدوار لانجتون المخلص في حبه الشديد المهارة، فإن حسن الحظ لا ارتباط له بهاتين الصفتين.

عبد اللطيف النشار

ص: 50