الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 395
- بتاريخ: 27 - 01 - 1941
في سوق الوراقين
للأستاذ عباس محمود العقاد
راجت سوق الكتب القديمة بعض الرواج في هذه الأيام كما راجت في أيام الحرب الماضية، لأن الوارد من كتب أوربا قليل، ولأن طالب الكتاب الأوربي الجديد ينتظره طويلاً قبل أن يتلقاه في البريد، فإذا وجده مقروءاً قديماً فذلك خير من انتظاره جديداً بكراً بعد أشهر أو أسابيع، ومن هنا تروج الكتب العربية القديمة التي ترد من أوربا أو التي طبعت في هذه البلاد، لأن الذي يبيع مكتبته عند إحساسه بارتفاع الأسعار يبيع منها الإفرنجي والعربي على السواء.
وفي سوق الوراقين وباعة الكتب القديمة فلتات كثيرة من التاريخ، وفلتات كثيرة من الأخلاق، وفلتات كثيرة من العجائب: نسميها فلتات لأن المرء يجدها معروضة بين يديه دون أن يطلبها، وقد تكون الفلتة منها أنفس وأولى بالاقتناء من البغية المطلوبة.
أذكر أني عثرت بكتاب لي عليه تعليقاتي وملاحظاتي بعد فقده بخمس وعشرين سنة، ولو علم بائعه سره عندي لغالى بثمنه، ولكنه أعطانيه وهو مفرط فيه مسرور بما نقدته من ثمن قليل بالقياس إلى رغبتي فيه، كثير بالقياس إلى رغبة البائع في تصريفه.
وأذكر إني عثرت على عدة أجزاء من كتاب في إحدى المكتبات، ثم عثرت بعد حين على الناقص منه في مكتبة أخرى.
وأخبرني بعض الإخوان أن كتاباً من مكتبة الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل التي بيعت في إنجلترا وفاء ببعض الغرامات ما زال يطوف الأرض حتى وصل في مصر إلى يد أديب من المعجبين بالفيلسوف العظيم، فاشتراه وأرسله إلى صاحبه وتلقى منه جواباً بالشكر والتحية لا يزال من أعز محفوظاته.
وإلى جانب هذه العجائب والمصادفات عجائب أخرى من أخلاق الناس وولعهم بضروب الاقتناء والادخار.
فهذه كتب جديدة قديمة معروضة للبيع بعد طول احتباسها على الرفوف، وهي جديدة لأنها غير مفضوضة ولا مقروءة، وقديمة لأنها اشتريت منذ عهد بعيد.
لماذا اشتراها المشتري وهو لا يقرأها، ولعله لم يكن ينوي أن يقرأها؟. . . هنا العجب من
بعض الأخلاق والعادات. فقد عرفت أناساً يغالون بشراء الكتب على قدر قدمها في الطبع وندرتها في الأسواق؛ وأناساً يبذلون في الكتاب من الثمن على قدر سعة الهامش وصلاح الكعب للتجليد!
ويحضرني هنا أن الأوربيين يصنعون من الخشب نماذج لها شكل الكتب من بعيد، يملئون بها الرفوف العالية من المكتبات ويشغلون الرفوف السفلى بالكتب الصحيحة التي تقتنى للمظهر لا للقراءة، لأن قصراً بغير مكتبة معابة في البلاد الأوربية، فلا غنى لبعض أصحاب القصور عندهم عن هذا التشبيه والتزييف.
أما نحن فلم نرتفع بعد إلى هذه المرتبة!
لأن خلو القصور من المكتبات عندنا لا يعاب، فلا حرج على صاحب القصر أن تسأله عن مكتبة فلا تراها، وإن كان يتحرج من خلو القصر من الإسطبل. . . والقصر كله بمن فيه وما فيه أحرى أن يحسب في الإسطبلات!
والمصادفة التي صادفتها اليوم في سوق الوراقين هي شيء من غير هذا القبيل: هي كتب الدكتور شبلي شميل مرصوصة كلها في رزمة واحدة، ومعها رواية له عن الحرب الماضية كنت أتوق إلى الاطلاع عليها ولا سيما بعد شبوب نيران هذه الحرب القائمة، فكانت مصادفة (ورَّاقية) من أحسن المصادفات.
نظرت إلى كتابه عن (فلسفة النشوء والارتقاء) - وهو الجزء الأول من مجموعته - فعادت بي الذاكرة ثلاثين سنة إلى يوم صدور هذا الكتاب النفيس.
كان الدكتور شبلي شميل فقيراً كما ينبغي للأحرار الشرفاء من أمثاله في بلادنا الشرقية، وكان عسيراً عليه أن يطبع مجموعة بغير معونة من أصحابه الأريحية الغيورين على العلم والثقافة. فلما تبرع له المتبرعون بالمعونة الكافية طبع المجموعة في جزءين، وذكر أسماءهم جميعاً ومقدار ما تبرعوا به في ختام الجزء الثاني، وقدم الأسماء بهذه العبارة الصريحة الحكيمة:(أذكرها مجردة عن النواتئ مكتفياً بجمال الأعمال، وكم يجمل بالناس أن يتعودوا ذلك اختصاراً للوقت وانصرافاً للجد. وسيكون ذلك منهم متى غلب النظر إلى الجوهر على الاستمساك بالعرض في كل أعمالهم)
وجعل الدكتور ثمن المجموعة الواحدة جنيهاً مصرياً عدا أجرة البريد، وهو ثمن معتدل
لنفاسة طبع الكتاب ونفاسة موضوعه، وقلة الراغبين في قراءة هذه الموضوعات.
ولكن الجنيه ثمن مرهق للشباب الخالي من العمل، وكنت يومئذ خالياً من العمل مريضاً أستشفي ببلدتي أسوان وأشعر بما يشعر به المريض الخالي اليدين من تكاليف العلاج.
فكتبت إلى الدكتور ما فحواه: (إني أعلم أنك تدعو إلى الاشتراكية الصالحة التي تتجنب الغلواء، ومعنى ذلك أنك تأبى على الأغنياء أن يحتكروا موارد المال، فما بالك الآن تريد أن يحتكروا موارد العلم والمال معاً، وهل تحسب أن أحداً من غير الأغنياء يقوى على شراء كتاب بجنيه؟)
فما هو إلا أن وصل الخطاب إلى الدكتور ووصلت الصحف اليومية إلى أسوان حتى قرأت فيها أن الدكتور شميلاً قد أهدى مائة نسخة من مجموعته إلى الأدباء والطلاب، ولم يمض يوم أو يومان حتى جاءني الجزء الأول ومعه خطاب منه يشبه الاعتذار لما فاته من ذكر هذه الحقيقة بغير تذكير، ويشبه الشكر على أنني قد نبهته إلى ما كان خليقاً أن يتنبه إليه!
هذه قصة عارضة تلخص مناقب هذا الرجل الحر الصريح الشريف أوفى تلخيص.
فهو عالم يحب العلم والتعليم، ويعمل بما يقول، ويؤمن بالحجة المقنعة ولو كانت فيها خسارة عليه، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الإيمان، وليست مائة جنيه بالخسارة الهينة على رجل محدود الموارد كانوا يحاربونه في رزقه وفي طبه وفي مؤلفاته وإن كان كسب الألوف ميسوراً له لو أنه نسي أمانة العلم وانصرف إلى طلب الثراء من حيث يطلبه أصحاب الأقلام.
أخذت المجموعة كلها من جديد، وأخذت معها الرواية التي كنت أتوق إلى مطالعتها فإذا العجب فيها أعجب من هذه المصادفة، لأنها نبوءة صدقت في الحرب الماضية قبل انتهائها بأكثر من ثلاث سنوات، ولو نشرها ناشر على أنها مما يقال في الحرب الحاضرة لما احتاج في إعادة نشرها إلى تبديل كثير.
قال بلسان أحد أبطال الرواية وهو المدعي العام الذي يشرح تهمة الإمبراطور أمام المحكمة الدولية: (إنه لغريب جداً أن أمة كالأمة الألمانية حاصلة على قسط وافر من العلم تخضع خضوعاً أعمى لنظام إمبراطورية كنظامها عريق في الأثرة والاستبداد. وأغرب من ذلك دعواها وهي في رق هذا الحكم أنها ذات (كلتور) يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم
العريقة في الحضارة. ونحن مع اعترافنا بأنها بلغت شأواً بعيداً في العلم والصناعة ونالت امتيازات جمة على سواها لا يجوز لنا أن نجهل أن هذا الكلتور الذي تفاخر به يجعلها عبدة لنظام حكومة يديرها فرد أو أفراد غير مسئولين حقيقة. وقط ما كان العبد أرقى من الحر. وإذا كان في علمها وعملها شيء كثير من الإتقان فإنك قلما تجد فيهما شيئاً من الابتكار، لأن العبد إذا كان أصبر على العمل فالابتكار من امتيازات الحر وحده. وإذا كنا نراها تتعمد الشر كثيراً لسواها وتستخدم علمها لهذه الغاية خلافاً للآخرين فلأن ذلك من أخلاق العبيد. ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزية في هذه الأمة لما مالأت إمبراطورها على جنايته الكبرى مع ما هي عليه من العلم، ولأدركت حينئذ أن الأمم التي قامت لتذلها وسعت لتبديدها لكي تحل محلها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لعرفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها. . .)
إلى أن قال وما أشبه الليلة بالبارحة: (وليس الملام على الأمة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء مهما أساءت فهم مصلحتها بقدر الملام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنة لدفع الشر عنها وتوفير المصلحة لها عموماً، وهذا انحطاط في هذه الأمم وحكوماتها يخجل منه اليوم. فعوضاً من أن تهب جميعها هبة واحدة لنصر المجتمع والقبض على الجاني تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فساداً، وادعت الحياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته، فشرعت تنصره في السر وهي تدعي العزلة في الجهر، وهو لو أتيح له النصر لما كان حظها منه إلا الإذلال؛ وكيف يكون غير ذلك وحظ حلفائه منه ليس أفضل. . . انظروا إلى حليفتيه العظيمتين النمسا وتركيا كيف أنه قبض عليهما بيد من حديد واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لما استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته أو مستعمرة من مستعمراته)
وانتهى تأليف الرواية في نهاية شهر يونية سنة 1915 قبل انتهاء الحرب الماضية بأكثر من ثلاث سنوات، وقبل ظهور الهزيمة في صفوف الألمان بعهد بعيد، بل انتهت وهم منتصرون متقدمون، فإذا به يجزم بهزيمتهم ويصدق النبوءة حين يقول في لهجة الثقة واليقين:
(قد يستغرب القارئ - وقد أنهيتها بهذه الصورة - مع أن الألمان حتى الآن في انتصار. ولكن من يتدبر الأمور بعين الناقد البصير يعلم أن الألمان من بعد فشلهم في حملتهم على باريس لم يعد يرجى لهم تحقيق حلم، وما انتصاراتهم الجزئية اليوم إلا تطويل لأَجل الحرب. ولذلك هم اليوم يتخبطون ويبذلون آخر ما عندهم من الجهد عسى أن يحرزوا من النصر ما يحمل الآخرين جميعاً أو فرادى لعقد صلح لا يغبنون فيه ولا يثلم مقام إمبراطورهم لدى أمته التي جر عليها كل هذه المصائب على غير جدوى أو بخسائر لا تعوّض. لأنه يستحيل اليوم أن يرجع العالم ويثق بهم ويخلص لهم ويفتح أبوابه لمتاجرهم ويحسن الظن بعلمهم وعلمائهم كما كان في الماضي. فهم في هذه الحرب خاسرون كل شيء: المقام الأدبي والمركز الاقتصادي التجاري. . . وانتصار الألمان على الروس اليوم وحفظ مراكزهم في الأماكن التي احتلوها في الغرب لا يستغربان لمن يعلم أنهم منذ أكثر من نصف قرن ولا سيما في عهد إمبراطورهم الحالي يستعدون لهذه الحرب ويعدون لها العدة. بخلاف خصومهم فقد ثبت أنهم من قلة حذرهم منها وفراغهم من العدة لم يكونوا ينوونها. . . فإذا كان الألمان حتى الآن أقوياء أشداء فذلك طبيعي، وهم ما خاضوا غمار هذه الحرب إلا وكانوا على أتم الأهبة لها. لكن إذا كان الألمان وهم في منتهى قوتهم لم يتمكنوا من تحقيق حلمهم، وخصومهم في غفلة غير مستعدين، فهل يرجى ذلك لهم بعد سنة وهم في تناقص وخصومهم في تزايد؟ هذا أمر لا يقبله العقل، ولا سيما إذا رأينا ما تؤول إليه حالهم بحصر البحار. . . ولهذا كله نرجع ونكرر القول أن انتصارات الألمان اليوم ليست إلا تطويلاً لأمد الحرب وأن مصيرهم في الآخر إلى الفشل التام)
صدق الدكتور وأصاب في ذلك الزمان، وكذب الأغبياء وأخطئوا في كل زمان. ولقد ذكر الأوربيون لحكمائهم أمثال هذه النبوءات النافذة والنظرات الثاقبة ولم تذكر هذه النظرة للدكتور شميل بين قراء العربية الذين هم أحوج إلى التذكر والاعتبار.
فإذا كان صواباً قول بعض الأدباء المازحين للدكتور: (إنك يا صاح نكبة على الناس، لأنك تخالفهم في كل ما يقولون). . . فأصوب منه جواب الدكتور على تلك التحية الجافية حيث قال: (إن كنت أنا نكبة على الناس لأنني أخالفهم فكم نكبة أعانيها وحدي من أولئك الناس وأنا واحد وهم ألوف؟)
عباس محمود العقاد
أخلاق القرآن
العفو
للدكتور عبد الوهاب عزام
العفو خلق يسمو بصاحبه عن الانتقام، ويكبر به عن المجازاة، ويتعالى أن يلقى الشر بالشر ويجزي السيئة بالسيئة. العفو خلة تؤثر الرحمة على العقاب، وتحل المودة محل العداوة، والوئام محل الخصام. ترى الرجل يؤذي في نفسه أو ماله فإذا قدر على خصمه استكبر أن ينزل إليه فيأخذه بجريرته، وآثر أن يغفر ويرحم، ووجد في هذا الإحسان من العزة والعظمة والطمأنينة ما لا يجد في الانتقام، ولقاء الجناية بجزائها.
وإنما العفو عند المقدرة. فليس الذي يصبر على الضيم، ويخنع للقوة، ويستسلم للظلم عفواً، ولكن خائفاً ذليلاً. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
كل حلم أتى بغير اقتدار
…
حجة لاجئ إليها اللئام
وقد قال تعالى في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). وقال بعض المفسرين: (كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا)
وعظماء الناس يؤثرون العفو ما لم يجدوا فيه مفسدة لأمر من أمور الدين أو الدنيا. وقد عرف بذلك كثير من ملوك المسلمين ولا سيما الخليفة المأمون العباسي. ورويت في العفو عند المقدرة أخبار تنبئ عما يملك قلب الرجل العظيم من الحلم والعفو في الخطوب الجسام. كما أُثِر من استعطاف المؤمنين في مقام العقاب ما يذهب بالحفيظة، ويوجب المغفرة.
كانوا يرون العفو وسيلة إلى استصلاح النفوس وإزالة الأحقاد، وإحلال الوئام محل الخصام فيؤرثونه على الانتقام.
قال خالد بن الوليد لسليمان بن عبد الملك: (إن القدرة تذهب الحفيظة، وقد جل قدرك عن العقاب ونحن مقرون بالذنب. فإن تعف فأهل للعفو، وإن تعاقب فبما كان معنا).
وقال رجل لبعض الأمراء: (أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر مَن بُرئي أحبُّ إليه من سقمي، وبرائي أحب إليه من جُرمي).
وقال بعضهم: إن عاقبت جازيت، وإن عفوت أحسنت، والعفو أقرب للتقوى.
والقرآن الكريم يحث على هذا الخلق الكريم ويهذي الناس إلى هذه الخلة التي تلقي جهل الجاهل بحلم العفو، وشر المسيء بخير المحسن.
سمى الله تعالى نفسه العفوّ، قال: فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوَّا غفورا؛ وفي آية أخرى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون؛ وقال أيضاً: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير؛ وقال: إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفوَّا قديرا.
وقد أمر الله سبحانه الناس بالعفو فقال للرسول صلوات الله عليه: خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين؛ ويقول: فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. ونهى أن يعاقب المسيء بحرمانه من الصدقة والبر فقال: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله غفور رحيم.
وأجاز القرآن المجازاة بالعدل ولكن جعل العفو أقرب للخير فقال: (وأن تعفو أقرب للتقوى.) كما قال في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور.)
وقد أشاد القرآن بالعافين عن الناس، وبين عظم جزائهم في قوله:(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
وكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عملاً بأمر القرآن وتأدباً بآدابه. قال رسول الله: (أمرني ربي أن أصل من قطعني وأعفو عمن ظلمني.)
فانظر إليه يوم فتح مكة والجزيرة العربية في سلطانه، وصناديد قريش طوع أمره، وقد لقي ما لقي منهم أكثر من عشرين عاماً وفي كل بقعة من مكة والمدينة ذكرى ما لقي من ظلم وعدوان وأذى، وفي كل جماعة من قريش رجال قد قسوا عليه وعلى أصحابه ونالوا منه
ومن دينه، وصدوا عن دعوته جهد طاقتهم. فما مد إليهم يوم الفتح والقدرة يداً بعقاب، ولا جازاهم بما فعلوا ولا بأقل مما فعلوا، بل عفا عنهم عفواً عاماً شاملاً وكان أكبر أعدائه أعظمهم نصيباً من عفوه ورحمته. قال: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً. أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وفر صفوان بن أمية أعدى أعدائه خوفاً من ذنبه ويأساً من العفو، فأرسل وراءه النبي من يؤمنه وأعطاه عمامته أمارة الأمان. فلما طلب منه أن يجعل له الخيار شهرين ليدخل فيما دخل فيه الناس أو يهاجر قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
ولما اجتمعت عليه قبائل هوازن بعد الفتح وأرادت أن تؤلب عليه القبائل وترد فتح مكة هزيمة خرج الرسول لحربها وكانت واقعة حنين التي لقي فيها المسلمون ما لقوا من الهزيمة أول الأمر ثم وثب الرسول وانحاز إليه أنجاد أصحابه حتى أنزل الله سكينته ونصره. فلما ظفر بالقوم وقد عظمت جنايتهم، جزاهم بالإساءة إحساناً وبالذنب عفواً. يقول الطبري:
أتى وفد هوازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجوانة وقد أسلموا فقالوا يا رسول الله إنما أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامتنّ علينا منّ الله عليك. فقام رجل من هوازن. . . فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك (يعني أنهم قوم حليمة مرضعة الرسول).
أمنن علينا رسول الله في كرم
…
فإنك المرء نرجوه وننتظر.
فقال رسول الله: أبنائكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؛ بل تردّ علينا نساءنا وأبنائنا فهم أحب إلينا. فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فإذا أنا صلّيت بالناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم.
فلما صلى بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به. فقال رسول الله: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وقال المهاجرون: (وما كان لنا فهو لرسول الله)؛ وقالت الأنصار: (وما كان لنا فهو لرسول الله). وقال الرسول: (أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه. فرُدَّ إلى الناس أبنائهم ونساءهم)
ذلكم مثل من أمثال تُبِيِن عن خلق رسول الله، وهو الخلق العظيم الذي أوحاه إليه القرآن، وإنما تتجلى عظمة العظيم بالعفو حين القدرة، والترفع عن الاقتصاص بالذنوب.
وذلكم تأديب القرآن أمة القرآن، وتعلم رسول الله عباد الله، وإنما يريد القرآن أن يكون المسلمون أكبر من أن يُذلّوا إذا غُلبوا، وأعظم من أن ينتقموا إذا قدروا.
عبد الوهاب عزام.
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(أدباء مصر الجنوبية - العقاد الحقود! - أين متحف وزارة
المعارف؟ - جريمة الكتمان في نظر الجنية الحسناء).
أدباء مصر الجنوبية
مصر الجنوبية هي السودان، وهو تعبير جميل، ويزيده جمالاً أنه لم يصدر أول مرة إلا عن أدباء تلك البلاد.
والحق أننا فرطنا في حق السودان كل التفريط من الوجهة الأدبية، وإن لم نغفُل من الوجهة السياسية. ولو أننا بذلنا في خدمة السودان أدبياً معشار ما بذلنا في خدمته سياسياً لوصلنا إلى نتائج باهرة في توحيد القلوب بين من يقيمون هنا ومن يقيمون هناك، ولكننا تركنا أمر السودان للساسة، والساسة عندنا لا يفكرون كثيراً في الوسائل التي تجعل تعاطف سكان وادي النيل أمراً طبيعياً لا يحتاج إلى تعب أو نضال.
ومن العجيب أن يفكر السودان فينا قبل أن نفكر فيه، فهو يهتم بأخبارنا، ويساير حياتنا الأدبية والاجتماعية والسياسية، ويرى من الواجب أن يتعرف إلينا في كل وقت، فأين نحن من هذه الشمائل الروائع؟
أين الباحث الذي فكر في قضاء شهر أو شهرين في السودان لدرس ما هنالك من تطور الآداب والفنون والأذواق؟
أين الشاعر الذي رأى من واجبه نحو وطنه أن يستلهم الوحي من منابع النيل؟
أين المؤلف الذي خاطر بجزء من وقته وماله ليخرج كتاباً عن السودان، وهو اليوم في يقظة أدبية تستحق التسجيل؟ (مع عرفان الفضل للباحثين داود بركات وعبد الله حسين).
ولنفرض جدلاً أن السودان لا يرتبط بمصر من الوجهة القومية أو السياسية، فيكف يغيب عنا أن السودان قطر أصيل في العروبة، وأن أهله من النماذج الجميلة لأدب النفس وشرف الوجدان، ومَن كانوا كذلك فهم جديرون بعناية الباحثين والمفكرين من كتاب وشعراء!
الفطرة السليمة لا تزال من حظ أهل السودان. ولو أن معالي الدكتور هيكل باشا كان أقام
بينهم مدة أطول من المدة التي أثمرت كتابه الطريف (عشرة أيام في السودان) لأظفر بمحصول نفيس في تقييد الأوابد من مكارم الأخلاق.
أقول هذا صادقاً، فما أذكر أبداً أنني رأيت ما أكره فيمن عرفت من السودانيين، فالسوداني مفطور على طيبة القلب، وهو يرى نكران الجميل من أفظع العيوب، وله بوارق من الذكاء تؤهله لاحتلال الصف الأول بين رجال الفكر إذا ظفر بالتوجيه الرشيد.
فمتى نعرف واجبنا نحو أدباء مصر الجنوبية؟
ومتى نفهم أن الأُخوة لها حقوق؟
أما بعد، فأنا أتأهب لكتابة سلسلة من المقالات عن الأدب الحديث في السودان، ولكن المصادر بعيدة مني، إلا شذرات قليلة قدمها إليَّ أحد أعضاء النادي السوداني بالقاهرة، وهي شذرات لا تحقق ما أريد، فماذا أصنع؟
كنت أتمنى أن تتاح فرصة لزيارة السودان والوقوف على أخبار الحياة الأدبية هناك لأحدث قراء (الرسالة) في جميع الأقطار العربية عن إخوان مجهولين حفظوا عهد العروبة والإسلام في بلد جميل، يغفُل عن جماله أكثر العرب والمسلمين.
كنت أتمنى أن أرى السودان، ولو في وقدة الصيف، لأقول لإخواني هناك: إن مصر لا تنساكم، ولن تنساكم، ولو ضُرب بينها وبينكم ألف حجاب.
فمتى أرى السودان؟ متى؟ متى؟
سأسارع فأراه في وجوه شعرائه وكتابه وخطبائه في حدود ما أصل إليه من آثارهم الأدبية، إلى أن يمنّ الله بزيارة أشرب فيها ماء النيل ممزوجاً بالطين، كما شربت ماء الفرات ممزوجاً بالطين، لأقول: إني ذقت رحيق النيل كما ذقت رحيق الفرات. متى أشرب أول كوب من النيل وأنا بنادي المعلمين في الخرطوم، كما شربت كوب من دجلة وأنا بنادي المعلمين في بغداد؟
لن أنسى أبداً كيف ذقت ماء دجلة أول مرة، ولن أنسى أبداً كيف رحلت إلى (الفلوجة) لأذوق ماء الفرات في طعمه الأصيل قبل أن ترفع عنه الأقذاء.
اللقاء قريب، يا أخواني في السودان، فسأتحدث عن أدبكم بعد أسابيع، على شرط أن تذكروا أن الخطأ يغلب في الحكم على المجهول، وقد قضت الأقدار بأن تكون أحكامي على
أدبكم منقولة عن السماع، وهو يخطئ أكثر مما يصيب.
أما وفاؤكم لمصر، فلن يجزيكم عنه قلمي، وإنما يجزيكم عنه من شاءت إرادته العالية أن تكونوا مضرب الأمثال في الصدق والمروءة والإخلاص.
العقاد الحقود
في صبيحة اليوم الذي ظهر فيه مقالي عن نقد كتاب (المطالعات في الأدب والحياة)، طلبني الأستاذ عباس العقاد بالتليفون وأنبأني أن صدره انشرح لذلك المقال، وأنه موافق على ما ورد فيه من الملاحظات، إلا عبارة واحدة آذته أشد الإيذاء وهي العبارة التي تسجل أنه رجل (حقود)؛ فأجبته بأني نظرت إلى الحقد من بعض جوانبه الأخلاقية؛ ثم وجهته توجيهاً يرتضيه رجال الأخلاق، وأضفت نفسي إلى جملة الحاقدين لنكون سواءً! في التخلق بهذا الخلق الجميل! مع الاعتذار لحضرة الأستاذ نجيب هاشم الذي ساءه أن يكون لي بين أهل الحقد مكان.
وهل ينكر العقاد أنه رجل حقود؟
إليكم القصة الآتية:
في مصر شاعر (مشهور) هو الدكتور أحمد عارف الوديني المقيم بشارع العَجم في مصر الجديدة، وهو شاعرٌ قَصَر شعره على الإخوانيات، فلا يقرض الشعر إلا في تحية صديق، أو تهنئة زميل، وقد تسمو به همته إلى مجاملة الأمراء والملوك في المواسم والأعياد.
لقيته مرة في (المترو) بصحبة الأستاذ العقاد، فسألني عن الرأي في شعره، فقلت: أنت يا دكتور وديني أشعر رجل في مصر بعد الأستاذ الجارم! فظهرت عليه إمارات الاكتئاب، ولكن الأستاذ العقاد تلطف فصرح بأنه أشعر من الجارم في بعض الفنون!
ومضى الدكتور الوديني إلى الجارم بك فحدثه بما قلت وبما قال العقاد؛ فأعلن الجارم أن الرأي ما رأي العقاد! ثم لقيني الدكتور الوديني بعد أشهر وهو يقول:
- هل تعرف كيف ناقضَك العقاد؟
- وكيف ناقضني العقاد؟
- العقاد يرى أنني شاعر العرب
- أنت شاعر العرب؟ أنت؟
- وبشهادة العقاد!
- وكيف والعقاد يرى نفسه أمير الشعراء؟
- هو أمير الشعراء، وأنا إمام الشعراء، والأمير يأتمّ بالإمام، كما قال الجارم الصناّج.
- هذا جائز، ولكن ما الدليل على أن العقاد يعدُّك شاعر العرب؟
- كتب إليّ خطاباً يقول فيه:
(إلى المفرد العَلمَ، صاحب الإنبيق والقلم، شاعر العرب في شارع العجم؛ عزيزي ونور عيني، الدكتور عارف الوديني)
- وهل ترى أن العقاد مدحك بهذا القول؟
- تلك غاية المديح
- وهل ترى أن العقاد صنع معك أجمل مما صنعتُ؟
- بالتأكيد!
- اسمع، يا دكتور، أنا جعلتك أشعر الناس في مصر بعد الجارم، والعقاد جعلك شاعر العرب في شارع العجم.
- وما العيب في ذلك؟
- العيبُ أنه جعلك أشعر من الأستاذ أمين الخولي ولم يزد، والخولي جارك!
وعندئذٍ تربّد وجه الدكتور الوديني وقال: يظهر أن العقاد رجلٌ حقود!
والحق أن العقاد حَقودٌ حقود، وإلا فكيف جاز أن يجعل الدكتور الوديني شاعر العرب في شارع العجم، فقط، مع أنه شاعر العرب بعد الجارم!
والحق أيضاً أن الخطأ لم يقع إلا مني، فالدكتور الوديني كان استراح إلى ذلك اللقب الطريف وعدّه تلطفاً من الأستاذ العقاد، والعقاد يلاطف أصدقاءه في أكثر الأحايين، ولكنه في هذه المرة يسئ مع سبق الإصرار؛ فقد غاظه أن تتسع آفاق الشاعرية (الودينية) بحيث يكون صاحبها أشعر الناس بعد الجارم، والشعراء يحقد بعضهم على بعض!
وعزاءً الوديني، فلن يكون إلا شاعر العرب في شارع العجم، بفضل ما في هذه العبارة الطريفة من عذوبة الطِّباق والجِناس.
أين متحف وزارة المعارف؟
عرف قراء الرسالة خبر الخطاب الذي تلقيته وأنا في باريس من الدكتور طه حسين، الخطاب الذي قال فيه (أحمد الله إليك) وهي العبارة التي عدّها من المخترعات، وصار يبدئ ويعيد بأني تعودت الافتراء عليه؛ ثم ظهر أن الخطاب صحيح بشهادة كاتبه الأمين (توفيق)، وقد رجوت الدكتور طه أن يشتري مني ذلك الخطاب قبل أن أبيعه لمتحف وزارة المعارف، ولكنه لاذ بالصمت البليغ
أتركُ الدكتور طه لشأنه، فقلبي يحدثني بأنه رجلٌ لا يحفظ العهد، وأنتقل إلى الأستاذ مصطفى أمين المفتش المساعد لكبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف
عندي ذخيرة للبيع، ذخيرة أدبية ولكن أين المشتري؟ وأين من يعرف حاجتي إلى المال وقد شاع وذاع أني من الأغنياء؟
عندي كتاب لا يصلُح للاقتناء من حيث هو كتاب، ففي مكتبتي منه نسختان، وإنما يصلح للاقتناء حين يتبرأ منه من أُهدِيَ إليه، وهو صديق (أمين)!
هذا الكتاب هو (تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي) للمرحوم الشيخ أحمد الإسكندري وعليه إهداء بإمضاء المؤلف (إلى حضرة صديقه المفضال مصطفى أمين) وبتاريخ 26 يناير سنة 1913
فأي أثر أعظم وأشرف من كتاب يهديه الشيخ أحمد الإسكندري إلى صديقه الأستاذ مصطفى أمين في مثل ذلك العهد البعيد، يوم كان الناس يعرفون قيمة الوداد؟!
أين نحن من سنة 1913؟
وهل هان كتاب الشيخ الإسكندري وكان من المراجع التي اعتمد عليها مؤلف (ذكرى أبي العلاء)؟
هو كتابٌ وجدته عند أحد البقالين بمصر الجديدة وقد اشتريته بنصف درهم، فأين من يشتري مني هدية أحمد الإسكندري إلى مصطفى أمين؟
وأين متحف وزارة المعارف لأقدم إليه تلك التحفة السنية؟ أين لا أين؟!
جريمة الكتمان في نظر الجنية الحسناء
لم يكن الكتمان جريمة قبل أن أُسرف على نفسي بالكلمة التي نشرتها في (الرسالة) عن
الجرائم الأدبية، وكنت نسيت تلك الكلمة، فلم يذكّرني بها غير الملام الذي عانيتُه من الجِنّية التي كانت ترى أن أعلم الغيب فأعرف لأي سبب قضت أيام الصيف في الصعيد، الجنية الرخيمة الصوت التي تُزلزل وجودي حين تباغمني الحديث من وراء حجاب، الجنية التي تقرأ الأشعار والمقالات والأقاصيص وتزعم أني أسرق أفكارها المبتكرة في كل ما أحدث به قرائي من ألوان الجد والفتون، والتي تهدد برفع أمري إلى القضاء إن عدت إلى انتهاب ما تُسِرُّ إلى أذنيّ أو عينيّ من معاني وآراء
من الذي يهدّد، يا شقية، أنا أم أنتِ؟
ومن السارق والناهب؟ أنا أم أنتِ؟
أتحداك في السر والعلانية أن تمضي خطوة واحدة في تنفيذ ذلك التهديد، فإن فعلتِ فسوف ترين كيف أقتلع جميع الأشجار والأزهار من الجيزة الفيحاء، وكيف أصيّرها أقفز من الفؤاد الذي جازه غيث الحب فأمسى وهو يَباب
ومن أنتِ حتى أسرق منكِ؟ هل كنتِ إلا طيفاً شفافاً يحاور روحي وهو معتصم بأجواء السماء؟ هل كنتِ إلا روحاً يتمثل في صوت رنان حنان نُقِل من وادي الخلود إلى وادي الفناء، إن جاز القول بأنك من أهل دنيانا الفانية؟
من أنتِ حتى أسرقُ منك، ومن دمي المسفوح على سنان القلم خُلِق روحك الظَّلوم؟ أنا أسرق منكِ وما كان ذكاؤك الوهّاج إلا شرارة طارت عن فؤادي؟ ويطيب لك أن تحتجبي عني لتصح دعواك في التأبي والتمنع. فهلا نطقت بقولة الحق فاعترف بالخوف من المصير المحتوم لمن يواجه اللهب العاصف؟
حماك الله من روحي، يا شقية وكتب لك السلامة من غزوات قلمي!
ثم تعالَيْ إلى كلمة سواء:
لقد هدّدتِ بالقطيعة الباغية إن لم أكتب (الصفحتين الممزقتين من جديد) الصفحتين المظلومتين بسبب التخوف من الأكاذيب والأراجيف
فمن يردّ عني عدوان أبناء الزمان، إذا خرجت على شريعة الكتمان؟
أنت يا طفلتي جاهلة جَهْلاء، ولو كنت تعرفين من خلائق أهل العصر بعض ما أعرف لعز عليك أن تعدي الكتمان من الذنوب
أهل العصر، يا طفلتي الغالية، لا يسرهم أن يَنْبُغَ فيهم كاتب بليغ إلا أن يكون بوقة ضَّجاجة تهتف بما يرتاحون إليه من الأفق والرياء
الكاتب، يا طفلتي الغالية، قد يستبيح ما لا يباح من النقد الجريء، وبعض أهل العصر يفهمون جيداً أن منازلهم الأدبية لم تكن إلا ضرباً من المتاع المسروق، فهم يتصورون الناقد في شبح رجل يقدم عنهم بلاغاً للنيابة العمومية!
ومن أجل هذا يحرص قوم على إفهام الجمهور أن الرجل لا تكون له إلا شخصية واحدة، فهو موظف فقط، أو كاتب فقط، وليس من حقه أن يكون موظفاً بالنهار وكاتباً بالليل، وكيف يحق له ذلك وهو بَشرٌ مثلهم خُلقَ للوظيفة بالنهار، ولمنادمة السخفاء بالليل؟!
الكاتب، يا طفلتي، رجل مهدد في كل وقت، لأنه من عنصر غريب لا يرتاح إليه المجتمع، إلا أن يكون من أهل البراعة في خل المجتمع؟ وذلك خلق لم أفكر فيه، ولا يسرني أن أصير إليه، لأني أمقت الفناء في أقوام كل محصولهم من الشرف أن يقال إنهم يبغضون الاستعباد، وكنت أرجو أن يكون قرائي ملوكاً يسيطرون على جميع الممالك والشعوب، فعزة الكاتب من عزة القارئ، ولا يستريح إلى السامع الذليل إلا المحدث الذليل
وقد أنفقت من شباب القلم ما أنفقت في خلق جيل يفهم عني ما أريد، ثم كانت فجيعتي فيك يا شقية، فأنت تريدين أن أخضع للجمال، وأنا لا أعرف إلا خُيلاء السيطرة على الجمال، والرجال قوامون على النساء، ولو كره المتظرفون من أبناء الجيل الجديد!
وأنا مع هذا شديد الرغبة في الخضوع لإرادتك السامية، كما يتطامن الصائد في أصول الأدغال، فماذا تريدين أن أقول؟ هل تريدين أن أكتب الصفحتين الممزقتين من جديد؟
أنا عندما تريدين لتكوني بإذن الهوى عندما أريد؟ وإلى قلبك البكر سوف أسوق الحديث في غير هذا الحديث
زكي مبارك
فرق لمكافحة الغناء المريض
للأستاذ سيد قطب
إذا صح ذلك الصدى الذي استرجعته لكلمتي في العدد الأسبق من (الرسالة) عن (الذوق الفني ونهر الجنون) من إخوان لي في الفكرة لم أعرفهم من قبل، كان عدد الذين (لم يشربوا من النهر) أكثر كثيراً مما قدرت، وكان عجيباً أن يضيعوا كل هكذا في غمار الشاربين المخمورين!
وإنهم ليفضون إليَّ بأسباب غريبة لصمتهم عن الجهر بآرائهم، أسباب لم تصادفني مرة واحدة، ولو صادفتني لعرفت كيف أثور عليها وكيف أحطم شباكها، ولكن مجرد اصطدامي بها حافزاً للثورة المحطمة لا للسكون الكظيم.
إنهم يشكون نفوذ بعض المشتغلين والمشتغلات بالغناء المريض في مصر هذا النفوذ الذي يعوق المقالات في إدارات الصحف فلا تنشر إذا كان فيها تصحيح لطريقتهم في الموسيقى والغناء، ويحبس الأغاني والألحان في محطة والإذاعة فلا تذاع، إذا كان فيها للضعف وتأثير في الشهرة، وفرصة للموازنة بين المشهورين وغير المشهورين. . . هذا النفوذ الذي يشتريه بعض المشهورين والمشهورات بالمال والشفاعات تارة، وبجاه المعجبين بهم الشاربين من النهر معهم من أصحاب السلطان والمرشحين للسلطان تارة!
ولست أدري مدى هذه الشكايات من الصحة، ولكن تواترها على ألسنة لا مصلحة لها في الادعاء، وبسط حوادث معينة في صحف (محترمة!) معينة. كل هذا جعلني أوجس شراً، خشية أن تقبر هذه الكلمة التي يخططها قلمي فلا تبصر النور، وأن تصدها الشفاعات والدسائس عن الظهور!
وعلى الرغم من ثقتي بالرسالة التي أوسعت صدرها غير مرة لنقد عظماء الفكر في الشرق والغرب، فأنا أرجو أن تعذرني في هذا التوجس، فإن الحوادث التي سمعت عنها تشير إلى الخطة منظمة يتوسل إليها بعض المشهورين والمشهورات بكل وسيلة مهما كلفتهم من جهد وتضحية، لكتم النقد وإذاعة الثناء، وقبر كل نبوغ يبزغ، ويهدد شهرتهم بين الغوغاء.
وحين يصح هذا يكون جناية على الفن والذوق والخلق، وعلى كل إحساس رفيع في الأمة وكل شعور كريم، جناية تجب مكافحتها، وأنني لأهب هذا القلم لهذا الكفاح وأعلم أن
الحواجز والسدود التي يشكو منها الشاكون لن تحول دون هذا القلم حين يريد.
إننا لن نشتم هؤلاء الناس الذين يسحقون روح الشعب في كل أغنية، ويهدون عزيمته في كل لحن؛ ولن نوجه إليهم فاحش اللفظ ولا هجر القول، ولا شأن لنا بأشخاصهم، ولكننا ننتقد طريقتهم، ونندد بآثارها المقيتة في النفوس. وما دام الأمر كذلك فسنجد لهذا القلم مجالاً غير محدود، على الرغم من كل الحواجز والسدود، لن يكون هؤلاء المشتغلون والمشتغلات بالغناء الزائف المريض بأعز من عظماء الفكر الذين تناولهم النقد في أبعد الحدود.
والأمم تنشئ الفرق لمكافحة المرض حين ينتشر الوباء، ولمكافحة اللهب حتى يصب الحمم على الأبرياء، ولمكافحة المخدرات حين تهدد سلامة البلاد. . . فمن الواجب مصر أن تنشئ الفرق لمكافحة الغناء المريض الذي يسحق كبرياءها، ويحطم رجولتها وأنوثتها، ويثير أحط غرائزها، ويخدر أعصابها كالمخدرات.
وما أمزح أو أتهكم! فأنا أقترح جاداً إنشاء هذه الفرق، من كل ساخط على هذا الترنيم الوجيع، مشمئز من هذا التكسر الخليع. وهذه الفرق تستطيع الشيء الكثير: تستطيع بث الدعوة، وضرب المثل، ومقاومة كل نفوذ تجاري يبذل في إدارات الصحف ومحطة الإذاعة. . . وتستطيع تتبع هذه الأنغام بالتجريح والتهجين في كل مجتمع وناد، مع تصحيح الإفهام وتقويم الإحساس.
ولست أبالغ حين أنهي إلى وزارة الشئون الاجتماعية إلى وزارة الدفاع أن هذه الأغاني تعوق جهودهما في انتشال المجتمع المصري وتقويمه، وفي بث روح الحماسة وتقويتها، فشبان البلد وشوابها مشغولون ومشغولات بالمأتم الدائم في كل مذياع، الحافل بالنائحين والنائحات، وبالدموع الرخيصة المتصنعة، وبالدغدغات الخليعة المتكسرة في الألحان والأغنيات.
وحين نكافح (الطابور الخامس) يجب أن نحسب حساب (الغناء المريض) ويجب أن نسكت هذه الدغدغة وهذا التميع وتلك المخدرات المتسربة إلى الضمائر الهامسة في الإخلاد.
وما كان لأي (طابور خامس) أن يؤثر ما تؤثر هذه الأغاني - حتى الأناشيد الوطنية والحماسية التي خرجت أشبه بالمناحة مرة، وبالنشيج المترنح مرة - إذا استثنينا (نشيد الجامعة) لأم كلثوم.
لم تبق عاطفة إنسانية نبيلة لم يشوهها هذا الغناء، ولم يبق شعور وجداني كريم لم يفسد طبيعته.
فالحب مثار الحيوية في النفوس، ومبعث القوة في الوجود. هذا الحب الذي تدخره الحياة لأبنائها، لتبيحه لهم في أفضل ساعاتهم وأملئها بالفيض الروحاني، والتفتح العقلي، والنضوج الجسمي، وتعبر به عن أقصى غبطتها بهم ورضاءها عنهم، وتدل به على صلاحيتهم لها وأدائهم لحقوقها. هذا الحب الذي هو (جواز المرور) من حمله من الأحياء أباحت له الحياة خدرها وأثمن مكنوناتها (كما يقول العقاد). هذا الحب الذي يفجر في الإنسان كل منابع السمو والعطف والمرح والاستعلاء كما يفجر في الحيوان - في صورة الغريزة - كل منابع النضج والقوة والازدهار.
هذا الحب كله عاد في ذلك الغناء رجع الصدى الهزيل للغريزة المضعوفة، وصوت الأسى الذليل للحيوانية المريضة، ودمعة الضعف الكسير للرغبة العاجزة.
والألم أنفس الأحاسيس الإنسانية. الألم الطهور الكريم صقيل الطبيعة البشرية، ومنضج المشاعر الفجة؛ وبوتقة الشهوات الخبيثة. . .
هذا الألم عاد في ذلك الغناء تصنعاً زرياً، وتكسراً شائهاً، وتميعاً (مقرفاً) ونعومة خبيثة.
والفنون على الإجمال، هي رمز الأمل الطليق من قيود الواقع المحدود، المتعالي على مطالب الضرورة القاصرة، وهي مهرب النفس الإنسانية الطموح حين يعجز الواقع عن تلبيتها فتجد في الفنون دنيا من المستقبل، وعالماً من الملأ الأعلى، وفسحة من الكمال الموموق.
ولم تكون الفنون تعبيراً عن جوعات الأجسام، ولا شهوات اللحم والدم إلا في أحط صورها وأولى درجاتها، ولكن ألواناً من القوة الحيوانية العارمة، والنشاط الغريزي الفاره، والجوع البهيمي المتنزي قد يعجب النفس لما فيه من معنى الحيوية المتوثبة والقوى المتحفزة.
فموسيقى الجازبند تعبيراً عن الحيوانية الهائجة ولكنها قد تجد لها شفيعاً في الدنو من دائرة الفنون بما فيها من قوة الهياج، وضجة الزياط، وثورة الدم في العروق.
ولكن أي شفيع للحن أو أغنية هي تعبير عن الحيوان المضعوف السقيم، يتميع بالغريزة العاجزة الكليلة، ويتخلع بالرغبة العجفاء الهزيلة، ويدغدغ غرائز السامعين المخدرين؟
ما سمعت أغنية واحدة أو لحناً واحداً، ولا سيما الأغنيات الأخيرة إلا أحسست بالتقزز للرجل المتراخي النائم على نفسه، المتخاذل في حركاته، المهوم للنعاس في نغماته، وللمرأة المتخلعة في نبراتها، المدغدغة في تأوهاتها، ولشواب البلد وشبانها يتهالكون من الرخاوة، ويتحاملون الهزال، ويرفعون عقيرتهم بالنواح:(يا لوعتي يا شقايا يا ضنى حالي - طول عمري عايش لوحدي - ما يهونشي)
وكل هذا هين لولا فجيعتي في شاعر أعزه وتربطني به روابط ودية وثيقة، وصلات أدبية طيبة. وقف مرة أمام المذياع يقدم قطعة من تأليفه لحنت هذا التلحين، وأديت هذا الأداء؛ فقال: إنها في صورتها هذه الممسوخة تعبر عما أحس به وهو ينظم مقطوعته، وأنه يعتز بهذا التعبير كل الاعتزاز.
شعرت بالفجيعة مع ثقتي بأن عوامل غير عامل الإعجاب الفني بكل تأكيد هي التي أوحت إليه بما يقول. شعرت بالفجيعة لأنه شاعر وصاحب قلم، وكل ذوي الأقلام يتعين أن يكون مكانهم في صفوف المكافحين عن ذوق الأمة الفني وعن سلامة فطرتها التي تنهكها هذه الألحان.
ولقد انتهيت إلى مقاييس لا تخطئ في تقدير صحة الفطرة الفنية وسلامة الشعور الإنساني، وهي في يدي كمقياس الحرارة في يد الطبيب. فأيما إنسان دل مقياس الحرارة في فمه على رقم غير الرقم الصحي، فهو مريض مهما نطقت ملامحه بالصحة وجوارحه بالعافية؛ وأيما إنسان أحس في ضميره اختلاجه للحن من تلك الألحان المريضة، فهو مشوه الفطرة سقيم الطبع، شارب من النهر مخمور.
وللصحافة رسالة يجب إلا تنكل عنها، وواجب يجبأن تؤديه؛ وقد تعاورني الرجاء واليأس في إصلاح هذه الحال، ولكن يجب أن تكون فداحة العبء مثيراً لعظائم الجهد، ومن يدري، فقد نعثر على كنز مخبوء في طبيعة هذه الأمة، أو منبع مطمور من منابع الفطرة، نزيل عنه الركام، فإذا تفجر اكتسح هذه الرواكد وتلك المخلفات.
(حلوان)
سيد قطب.
دير مِديْان
للأستاذ صلاح الدين المنجد
قال الشابشتي: (وهذا الدير على نهر (كرخايا) ببغداد؛ وكرخايا نهر ينبثق من المحوّل الكبير ويمر على العباسية ويشق الكرخ ويصبُّ في دَجلة، وكان قديماً عامراً والماء فيه جارياً، ثم انطمْ انقطعت جريته بالبثوق التي انفتحت في الفرات.
وهو دير حسنٌ نَزهٌ حوله بساتين وعمارة؛ ويُقصد للتنزه والشرب. ولا يخلو من قاصد وطارق. وهو من البقاع الحسنة النزهة. وللحسين بن الضحاك فيه:
حث المدام فإن الكأسَ مترعةً
…
مما يهيج دواعي الشوق أحياناً
إني طربت لرهبانٍ مجاوبة
…
بالقدس بعد هدوِّ الليل رهبانا
فاستنفرتْ شجناً مني ذكرتُ به
…
كرخَ العراق وأحزاناً وأشجانا
فقلتُ والدمعُ في عينيَّ مطّردٌ
…
والشوق يقدح في الأحشاء نيرانا
يا دير مِدْيان لا عُرِّيت من سَكنٍ
…
ما هِجْتَ من سَقمٍ يا دير مِدْيانا
هل عند قَسِّك من علم فيخبرني
…
أن كيف يسعد وجه الصبر من بانا
سَقياً ورعياً لكرخايا وساكنه
…
بين الجنينة والروحاء من كانا
قال: وكان أبو علي بن الرشيد يلازم هذا الدير ويشرب فيه. وكان له قيان يحملهم إليه ويقيم به الأيام لا يفتر عزفاً وقصفاً. وكان شديد التهتك، وكان من يجاور الموضع يشكون ما يلقون منه. فانتهى الخبر إلى اسحق بن إبراهيم الطاهري وهو خليفة السلطان ببغداد؛ فوجّه إليه يقبّح له فعله وبنهاه عن المعاودة لمثله. فقال:(وأيّ يد لإسحاق عليّ وأيَّ أمر له فيَّ؟. . . أتراه يمنعني من سماع جواريَّ والشرب بحيث أشتهي. . .؟) فلما أتاه هذا القول منه أحفظَه، وأمهل حتى إذا كان الليل ركب إلى الموضع وأحاط به من جميع جهاته. وأمر أن يُفتح باب الدير وينزلَ به على الحال التي هو عليها. فأنزل به وهو سكران في ثياب مصبَّغة، وقد تضمخ بالخلوق فقال: سوءة لك! رجل من ولد الخلافة على مثل هذه الحال؟) ثم أمر ففُرش بساط على باب الدير وبُطح عليه وضربه عشرين درَّة، وقال: إن أمير المؤمنين لم يولني خلافته حتى أضيَّع في الأمور وأهملها، ولا حتى أدعك وغيرك من أهله تعرفونه وتفضحونه وتخرجون إلى ما خرجت إليه من التبذل والشهرة وهتك الحرمة إلى
الديارات والحانات، وفي تأديبك صيانة للخلافة وردع لك ولغيرك عن هذه الفضيحة. ثم أمر بعماريات كانت معه فأركب فيها مع حُرمه وردَّ إلى داره. فبلغ ذلك المعتصم فكتب إليه يصوب رأيه وفعله ويأمره ألا يرخص لأحد من أهل بيته في مثله
وأم أبي علي هذا تعرف (بشَكل). وكان الرشيد قد اشتراها وصاحبة لها تعرف (بشذر) في يوم واحد. فحملت شذر وولدت (أم ابنها)؛ فحستدها (شكل) وبلغ بها الحسد إلى أمر عظيم من العداوة حتى اشتهر ذلك. وحملت (شكل) وولدت أبا علي. وماتت أماهما؛ وبقيت العداوة بين أبي علي وأم ابنها، حتى بلغ الأمر إلى أن تهاجيا بالأشعار، وشاع أمرهما في جميع آل الرشيد. فلما قتل الأمين وورد المأمون إلى بغداد جلس يوماً وعمه إبراهيم بن المهدي وأبو إسحاق أخوه والعباس ابنه، وتذاكروا العداوة التي بين هذين، فقال: لقد سمعت بخبر عداوتهما بخراسان ولقد هممت أن أصلح بينهما. ووجّه فأحضر أم ابنها وأقبل يعاتبها وهي مطرقة لا تردّ جواباً. ثم أمر بإحضار أبي علي، فلما رأته أم ابنها تنقَّبتْ وسترتْ وجهها. فقال المأمون: كنت مُسفرة فلما حضر أخوك تنقبت؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين لسفوري بين يدي عبد الله بن طاهر وعلي بن هشام، أوجب من سفوري لأبي علي، فوالله ما هو لي بأخ ولا للرشيد بابن، وقد قال الله عز وجل:(الذين أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). قال ابن عباس: (آمنهم من البرص والجذام). . . وهو والله أبرص، ما هو إلا ابن فلان الفراش. . .! فأمر المأمون أخاه أبا إسحاق فجلدها حداً. فقالت: (سوءة يا أمير المؤمنين أن تحد أختك لابن الفراش وسننت على بنات الخلفاء الحد، فوالله لقد ظننت أن أمره يستتر: فأما الآن فوالله لتتناقله الرواة وليتحدثن به إلى أن تقوم الساعة. ونهضت فقال المأمون: قاتلها الله. . . فلو كانت رجلاً لكانت أقعد بالخلافة من كثير من الخلفاء. . . وقلد أبا علي الصلاة على جنائز أولاد الخلفاء ليدرأ عنه العيب
(لهذا الفصل بقايا)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
عرابي الفلاح
حديث شيخ معمر من قرية عرابي باشا
للأستاذ محمود الشرقاوي
سيبقى اسم عرابي باقياً مذكوراً في التاريخ المصري الحديث ما بقى في مصر شعور بالقومية المصرية. وستظل الحركة العرابية أو (هوجة عرابي) باقية مذكورة في ضمير الشعب المصري حية على لسان أفراده وفي قلوبهم حتى تتمكن لمصر الحياة الحرة وحتى تتمكن للشعب المصري (الفلاح) السيادة التي جاهد عرابي لها ولقي في سبيلها ما لقي وما يلقي المجاهدون الأحرار
ومهما تكن نتائج الثورة العرابية. ومهما يكتب المؤرخون عن أخطائها فستظل ويظل اسم عرابي معها مذكوراً في ضمير الأمة المصرية كأول حركة قومية خالصة، وأول (تنبَّه) للشعور بالقومية المصرية في العصر الحديث، وأول هبة لتحقيق السيادة المصرية للدم المصري.
وقد عرف الكاتبون وكتب المؤرخون البحوث والتحقيقات عن عرابي البطل وعن ثورته. ولكني عرفت بمصادفة موفقة حديثاً عن العظمة النفسية التي كان يتميز بها عرابي؛ وعن الشعور الراسخ بالعزة الذاتية التي كان يحسها لمجرد أنه مصري وفلاح.
وقد بلغ شخص عرابي من الرفعة والمجد ما بلغ، وارتفع اسمه وعلا إلى حيث ارتفع، ولكن هذا كله لا يغير من نفسه ولا من شعوره بالفخار أنه مصري وفلاح، وبيننا إلى اليوم من لم يبلغ شيئاً ولا ارتفع اسمه شيئاً ولكنه يعلو بنفسه أن يكون فلاحاً وهو من طينه ومن ترابه.
بل لقد جعل عرابي نسب فخره أنه فلاح تحدّر من أصلاب فلاح ونشأ مثلهم ومعهم بين الماء والطين.
وحديث هذه الواقعة هو ما سأكتبه لقراء (الرسالة) كما سمعته.
منذ أيام عشرة قبض الله إليه شيخاً معمراً في قرية (هرّية رزْنة) قرية عرابي باشا في جوار الزقاريق وقد جاوز المائة.
وهذا الشيخ المعمر هو الشيخ علي نجم معلم القرية، وكان فيها صاحب (كتِّاب) تعلم فيه
وحفظ القرآن أبناء هذه القرية وما جاورها جيلاً بعد جيل، وكان أبوه من قبله معلماً صاحب (كتِّاب).
وقد قدر لي أن أجلس إلى هذا الشيخ المعمَّر قبل أن يقبضه الله إليه، وأن يحدثني عن نبْت قريتهم عرابي وأنه كان يتعلم القراءة وحفظ القرآن في كتاب أبيه، وكان (عرابي) يصغره سناً وإدراكاً ويتخلف عنه في الحفظ. فكان الشيخ محدثي رحمه الله (عريفاً) عليه كما يقولون في لغة كتاب القرية.
وبقيت العلائق بين (العريف) المعلم الشيخ علي نجم وبين أحمد عرابي حتى انتهى لما بلغ من مجد ومن مكان، وكان من خاتمة الثورة العرابية ما عرفنا ونقل عرابي باشا إلى جزيرة سيلان ثم أعيد بعد عشرين سنة فيها.
قال الشيخ المعمر يرحمه الله:
وقصدت ومعي زميل من شيوخ القرية نهبط مصر لنرى عرابي باشا بعد رجوعه من المنفى، وكان يوم جمعة وحلَّ علينا وقت صلاتها قريباً من عابدين، فدخلنا مسجداً نصلي فإذا بنا ونحن خروج ننتعل أحذيتنا على باب المسجد نرى عربة تقف أمامه وقد صعد إليها رجل كبير ضخم عرفته، فقلت لصاحبي الشيخ: أليس هذا عرابي باشا؟ لقد تغير كثيراً، وكأنه لم يعد يُبصر. فقال صاحبي بعد صمت: ألا ترى من الخير لنا أن نعود وألا نذهب إلى بيت عرابي، فإني لا أستطيع أن أراه هكذا في ختام أيامه كسيراً مخذولاً مهيضاً.
وهل تظن أنه يعرفنا بعد كل هذه السنين وهذه الأحداث وهذه الغربة؟ وإننا نخجل أنفسنا حين نعرض عليه أو يستأذن لنا منه فلا يذكر أشخاصنا بأسمائنا. فهلم بنا نعود. قال محدثي ولكني عارضت صاحبي وشجعته وقلت له لقد جئنا إلى القاهرة لنزور عرابي ولا بد إن شاء الله أن نزوره. وقصدنا إلى بيته وفي شارع خيرت بعد صلاة الجمعة بساعات.
فلما قدمنا منزل عرابي باشا استقبلنا على بابه بعض الخدم والعبيد واستقبلنا واحد من أبنائه وهو لا يعرفنا. فلما عرفناه أنفسنا قال إن الباشا ليس في البيت وترك لنا أن نجلس أمام البيت على (دكة) البواب حتى يعود فيستأذن لنا عليه الخدم، فجلسنا وقد نظر إليَّ صاحبي كأنما يذكرني ما قال ونحن نترك المسجد وقد رأينا عرابياً وهم بنا صاحبي أن نعود.
ونحن وقوف على هذه الحال إلى حائط البيت انتهت إلى البيت عربة عرابي ونزل منها
أمامنا يتمهَّل ووقع بصره علينا، وبعد دقيقة أو دقيقتين وقد همت بالتقدم للسلام عليه ناداني: ألست أنت (عريفي) الشيخ علي نجم؟
وسألني وصاحبي فقصصت عليه كيف جئنا وما قال لنا خدمه وابنه؛ وكنا دخلنا معه وقربنا إلى حيث يجلس يستقبل؛ فلما سمع منا تغير لونه ووقف ووقفنا؛ ثم رجع إلى أول الحديقة ونادى ابنه الذي استقبلنا وطلب معه من في البيت من اخوته ثم وقف وهم جميعاً أمامه، فحدثهم باللغة التركية حديثاً طويلاً كان فيه ظاهر الغضب. وقد وقفوا جميعاً أمامه صفاً واحداً رؤوسهم على صدورهم مشتبكة أيديهم كأنهم في صلاة؛ ثم قال ختام كلامه باللغة العربية، وقد فهمنا منه غضبته وما حدث أبناءه - وخدمه واقفون - باللغة التركية؛ وكان ختام عرابي باشا حديث أبنائه كأني أسمعه الآن يقول مشيراً إليَّ وإلى صاحبي:
هذا زميلي في الكتَّاب، وهذا عريفي جلست إليه يسمع مني القرآن فهو معلمي؛ وأنا فلاح ابن فلاح تحدرت من أصلابهم وأنا بهم فخور، فخور بأني نشأت ولعبت في الماء والطين معهم؛ وأنا عرابي باشا، ولكني فلاح ومن قرية (هرّية)، وهؤلاء الفلاحون هم أهلي وعشيرتي ومنهم دمي، فمن جاء منهم إلي لا يجلس بالباب.
ثم أولاده فانصرفوا وهم سكوت: فدخلنا فجلس معنا ساعات يحدثنا عن صبانا وأيام الطفولة ويسألنا عن رفقاء الكتاب. وأراد أن يستبقينا ليلتنا فشكرنا واعتذرنا. ولم يتركنا عرابي باشا حتى خرج معنا خطوات من حجرته واستحلفنا أن نعود إليه وأن يرانا.
قال محدثي الشيخ المعمر: ولم يشأ الله أن نزوره ولا أن نراه. ولكننا نحبه كما كان يحبنا.
قلت يرحمك الله أيها الشيخ كما يرحم الله عرابياً البطل الفلاح.
محمود الشرقاوي.
اللورد روبرت بادن باول
الكشاف الأعظم العالمي
للأديب خميس زهران
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
انطلق بادن باول ومعه زميله إدوارد سيسل لتنفيذ التدابير التي ارتأياها. فوضع كل المتدربين في خط القتال وأخذ يجمع الأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين 12، 16 سنة منهم فرقة ألبسها الزي العسكري وعهد إليهم ببعض الأعمال مثل نقل البريد والمؤونة والإشارات وحراسة المخازن وغير ذلك من الأعمال التي تحتاج إلى نشاط أكثر من احتياجاتها إلى تمرين (لقد كانوا فتياناً لا يسددون الرماية، ولكنهم كانوا يركضون حولنا كالأرانب). وشرع هو ورجاله في حفر الخنادق حول المدينة لتكون بمأمن من الأعداء.
(كان لكل رجل قيمة وبما أن عددهم أخذ في النقصان شيئاً فشيئاً بسبب سقوط القتلى والجرحى، أصبحت واجبات القتال والمراقبة ليلاً أصعب من الباقين. ثم أن اللورد إدوارد سيسل رئيس أركان الحرب جمع الأولاد في المكان وجعل منهم فرقة تلامذة حربيين وألبسهم وشرع في تدريبهم وأصبحوا بعد حين جماعة لبقية منظمين، وكنا حتى ذلك الحين نستعين بعدد وافر من الرجال لحمل الأوامر والرسائل والمراقبة وأمثال ذلك. فأضحت هذه الواجبات الآن على التلامذة الحربين وذهب الرجال لتدعيم خط النار.
ولقد أدى هؤلاء الأولاد تحت رئاسة (جوديير) أعظم خدمة واستحقوا الأوسمة التي نالوها عند نهاية الحرب. كان معظم هؤلاء يحسن ركوب الدراجة، لذلك تمكنا من تأسيس بريد، استطاع الناس بواسطته إرسال الخطابات إلى رفاقهم الموجودين في مختلف القلاع أو حول المدينة دون أن يعرضوا أنفسهم لخط النار. وجعلنا لهذه الرسائل طوابع بريد رسم عليها صورة تلميذ حربي يركب دراجة.
قلت لأحد الأولاد مرة عندما جاء تحت وابل من النيران: ستصاب يوماً وأنت تركب على هذه الصورة والشرر يتطاير من كل صوب. فأجاب: سيدي إنني أنطلق سريعاً بالدراجة ولن يستطيعوا الوصول إليَّ.
يظهر أن هؤلاء الأولاد لم يفكروا في القذائف قط كانوا دائماً على استعداد لتنفيذ الأوامر مع أن الخطر كان منهم على قاب قوسين أو أدنى. وهكذا صارت المدينة في حركة ونشاط متواصلين وقد سرت في نفوس الجميع روح الثقة والأمل.
فإن نعجب فلنعجب لهذا الساحر كيف أوتي هذه الجاذبية المدهشة التي سرعان ما أحالت الحامية خلفاً جديداً وأشاعت في جنودها النشاط والرغبة في العمل.
وحدث في تلك الأثناء حادث طريف يدل على ذكائه الفطري فقد نصب أعلاماً سوداء حول المراعي الخضراء موهماً العدو أنها ملأا بالمفرقعات والألغام لكي يتقي شر الإغارة عليها ولتبقى سليمة ترعى فيها إبله وماشيته وهما قوام حياة جيشه المحاصر. فلما رأى جنود العدو هذه الأعلام ساروا في طريقهم ولم يصوبوا أفواه بنادقهم ولا قذائفهم صوب هذه المراعي خشية انفجار المفرقعات المهلكة والتي ظنوها شراكاً منصوبة لهم. ومما ساعد على نجاح خدعته هذه أن حدث أن الأعداء أطلقوا أعيرتهم النارية على إحدى عربات السكك الحديدية ظانين أن بها بعض رجال الحامية الإنجليزية ولم يكن بها إلا مفرقعات حقيقية فما لبثت أن تطايرت الشظايا والمفرقعات فأصابت المئات منهم. وهكذا سنحت الفرصة لرجال الحامية الذين هجموا على الأعداء فأدخلوا الذعر في قلوبهم وجعلوهم يلوذون بالفرار
تلك واقعة واحدة سقناها للتدليل على شجاعة بادن باول في تلك الحرب التي استمر لظاها مدة 280 يوماً وانتهت بأن طلب قائد الجيش البويري الصلح حقناً للدماء معترفاً بما أبدته تلك الحامية الضئيلة العدد من البسالة الفائقة والمقدرة النادرة
ولنترك الآن روبرت نفسه يصف الحالة أثناء الحصار بتلك الجمل التي خاطب بها رجال حاميته مفكنج بعد أن فك الحصار عنها ومودعاً لهم (لقد كان مثلنا إبان ذلك الحصار كمثل أسرة سعيدة واحدة، والآن جاء وقت الفراق. إني أذكر أني قلت لكم يوم أن حوصرنا وتقطعت بنا الأسباب: اربضوا ربضة الأسود. صوبوا إلى المرمى بنادقكم. ولقد قمتم بذلك خير قيام فكانت النتيجة ما ترون. ولقد أثنوا على شخصي الضعيف، ولهجت الألسن بذكري والثناء عليّ الثناء كله وفاتهم أنه من السهل أن يكون المرء ربان سفينة ونسوا الحامية التي هي شراع السفينة مفكنج التي أخرجتها من العواصف القاصفة والزعازع
المتلفة وأوصلتها إلى الميناء بسلام)
كل هذا حدث بفضل بادن باول الذي كان الناس يشكون في نجاحه في هذا الحصار ولكنه بجده ونشاطه ومثابرته على العمل وإيمانه بقدرته على النصر تمكن من التغلب على الصعاب التي اعترضته وفاز بنصر مبين رفعه إلى أوج المجد والشهرة
حياة بادن باول الملأ بالمجازفات والأخطار وما شاهده من بطولة الصغار في ظروف عدة وما لديهم من قوى كامنة تدفعهم لاختراق النيران بغية القيام بالواجب، وجعل الجنود بمعرفة الاتجاهات واستعمال الفؤوس في الغابات، وجهلهم أيضاً إيقاد نار في يوم اشتدت فيه الرياح أو هطلت فيه الأمطار: كل هذه أوحت إليه المبدأ الذي نسير عليه
فلما وضعت حرب البوير أوزارها إلى السير روبرت بادن باول على نفسه أن ينشر نظام الفتية الصغار بطريقة أوسع وأنظم في بريطانيا العظمى إذا ما ألقى عصاه بها. ولما رجع إلى وطنه لم يأل جهداً في تنفيذ فكرته فأقام معسكراً تدريبياً في جزيرة صغيرة تسمى برونس ونجح نجاحاً جاوز الآمال فيه. شجع نجاح ذلك المعسكر السير روبرت بادن باول على المضي قُدُماً فجاهر بفكرته وأعلنها للملأ؛ فندَّد بها الاستعماريون لما فيها من إخاء عالمي ولما تحويه من إزالة للفوارق الصناعية بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ وازدراها الاشتراكيون لأنهم توهموها عسكرية مقنعة ليس فيها لخير الإنسانية من شيء، وسخر كثير من زيها ورأوا فيه خروجاً عن اللياقة وضرباً من التصابي، فصمد لهم جميعاً وصابرهم إلى أن أصدر كتابه في ربيع سنة 1908 وقد وجه فيه الخطاب للفتيان أنفسهم فأقبلوا عليه إقبالاً عظيما والتهموا ما فيه التهاماً، وانخرطوا في سلك الحركة مؤمنين بمبادئها مصدقين بتعاليمها
وفي عام 1910 أسست الكشافة ليتعلم فيها معتنقوها الصبر واحتمال المكاره والاستمساك بالعقيدة والاستهانة بكل شيء في الحياة عداها، ويلقنهم البساطة والحياة الطبيعية لتطهر نفوسهم من الأطماع ولتخلص من الدسائس والهواجس فيجتمع لكل أبنائها إرادة قوية وعزم من حديد، فإذا اجتمع للإنسان الإرادة وطهرت نفسه وقوى إيمانه بفكرته فمن ذا الذي يستطيع أن يقف في طريقه؟
وعاش الكشافون عيشة التقشف: ألم يعش الخلفاء الراشدون عيشة الفقر وأملاك دولتهم تمتد
وتتسع، ورقعة إمبراطوريتهم تعظم وتترامى؟ ألم يكن رداء عمر (مرقعة) ذهب أصلها وبقيت رقعها وجيوش المسلمين تهد إمبراطورية الروم؟ ألم يرسم محمد صلى الله عليه وسلم للقادة والزعماء وأصحاب الرسالات والمبادئ والعقائد دستوراً جليلاً حكيما حين قال:(طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة. اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأدخلني في زمرة المساكين). اتخذ بادن باول لجماعته زيَّا خاصاً خاكي اللون رخيص الثمن بسيط المظهر؛ وشجعهم على عقد الاجتماعات والقيام بالرحلات والمخيمات، وعلمهم الاقتصاد في معيشتهم، وعودهم إلى الأخوة في مأكلهم ومشربهم، والمحبة في معاملاتهم والإخلاص في صداقتهم، ومنعهم عن التدخين وشرب الخمور، وحرم عليهم الفسق والفجور، ليحفظ لهم صحة أجسادهم وقوة أبدانهم وسلامة عقولهم وبارز شخصياتهم ووافر كرامتهم. لم يكن وقت التمرين قاصراً على التربية البدنية، بل تعداها إلى التربية الروحية؛ فأقام المخيمات التدريبية لبث الروح العسكرية فيهم، وألقى المحاضرات التاريخية ليزيدهم تعلقاً بكل ما هو قومي، ومحبة لكل ما هو وطني، وأذكى فيهم شعلة الحماس بالأغاني القومية والأناشيد الوطنية. ويعزي السبب في انتشار الكشافة إلى إيمان بادن باول وعقيدته في صحة ما يدعو إليه. ولا غرو، فإن أصحاب المذاهب والمبادئ الاجتماعية الكبرى التي أثرت في تاريخ العالم وغيرت مجراه لم يتمكنوا من جذب النفوس إلى مبادئها إلا بعد أن ثملوا بخمرتها، وبذلك أمكنهم توليد تلك القوة العظيمة الأثر في النفوس، ألا وهي الإيمان، وهي التي تجعل المرء عبداً لمذاهبه.
وقد تزوج اللورد روبرت بادن باول في أكتوبر سنة 1913 بمس أوليف ورزق منها ولداً وإبنتين، وانتخب كشافاً أعظم للعالم في أول معسكر دولي أقيم في إنجلترا سنة 1920، ولقد أنعم عليه صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى جورج الخامس عام 1930 بلقب لورد جزاء وفاقاً على قام ما به من عمل جليل. وكرمته جامعة ليفربول ومنحته لقب دكتور في القانون ولقد جمع اللورد بادن باول خريجي معهد جلويل بارك المخصص لتدريب معلمي الكشافة على فنونها المختلفة نظرياً وعملياً، وهو قصر فخم وسط ضيعة كبيرة في مقاطعة اسكس بالقرب من لندن وسألهم أن ينتخبوا اسمه الجديد الذي يضاف عادة بعد
اللوردية فأجمعوا على جلويل فاغتبط به وأظهر ارتياحه
فبادن باول رجل خليق أن يعلم عنه شيئاً وأن يشغل حيزاً في ذاكرة كل فرد منا ومكانة في نفس كل واحد؛ ولا غرو إذا تقدمنا لقراء الرسالة بسيرة هذا البطل إعجاباً بهذا الطراز الجديد من الرجال وهم الذين لم يشهدوا في عصرنا غير رجال مزيفين من الحواشي. رجال أو أشباه رجال ولا رجال ممن لم يحذقوا غير التخنث والأناقة ولم يبرعوا في غير الخبث والمكر ومضغ الكلام وتزجيج الحواجب! أو بالاختصار رجال من أولئك الذين تلقى بهم المصادفة في طريق العظماء وتأتي بهم الظروف إلى مجالس الأمراء وأهل الخطر والشأو البعيد. وما أوسع المسافة بين أمثال هؤلاء وبين هذا الرجل النبيل العزيز الجانب الذي تعبق منه روائح المعسكر والخيام كما يعبق منه أريج المخدع والصالون! رجل وأي رجل!
من كان يدور بخلده أن صبي فرنسا وصبي استراليا وصبي مصر وصبي أمريكا يتلاقون في مكان واحد: لا يفرقهم جنس ولا تنفرهم ديانة ولا تبعدهم لغة أو سياسة؟ ومن كان يتوهم ولو على سبيل التفكهة أو المداعبة أن ابن مصر الشرقي الناطق بالضاد تأخذه العصبية الكشفية فينهض إلى منافسة ابن التاميز الغربي في اعتناق مذهب التربية الحديث
إنها آية للكشف وإنها معجزة بادن باول أن يأتلف الشباب حول المبادئ الكشفية، وإن شئت فقل إنها مبادئ الشباب الحديث الذي يريد أن يرث الأرض جميعاً لا فرق عنده بين وطن وغربة
إن شئت فقل عنها إنها آداب المعاشرة وآداب المؤاكلة وآداب العائلة وآداب الإنسانية وآداب المجتمع الراقي وآداب الحياة الصحيحة الخالية من شوائب السعادة. فما أعذبها مبادئ لو أن السياسة تتركها وشأنها في الدنيا دون أن تعكر لها صفو أو تكدر لها مجتمعاً
إنما هي في الواقع توحيد لنظم التربية وعامل قوي لإزالة الفوارق، لكن أنى للكشف وغير الكشف أن يزيل الفوارق وفي الدنيا من جنود الشيطان أضعاف أضعاف بني الإنسان
رحمك الله يا جبار الكشف وأنعم بك من مرب حطم القيود وزحزح العقبات من طريق مبادئه الصحيحة!
هاهي ذي الفقرة الأخيرة من رسالته التي أذاعها لأبنائه كشافي العالم من روديسيا: (لقد
عشت جندياً ثم كشافاً، أما المرحلة الثالثة من حياتي فتتوقف على ما يريده لي الأطباء) ذلكم هو المرحوم الدكتور روبرت بادن باول ولورد جلويل وملك قلب كل كشاف، فرحمه الله رحمة واسعة
خميس زهران
زعيم جوالة بإسكندرية
من وراء المنظار
محمد أفندي. . .!
قيل وما أكثر ما قيل إن قلة الذوق في مجتمعاتنا مردها في الغالب إلى خلوها من المرأة؛ وإلى هذا أشار صاحب الرسالة في أكثر من مناسبة، وعنده أن الشباب إذا ازدانت مجتمعاتهم بالأوانس شدوا الشكيمة وكبحوا جماحهم وحرص كل امرئ منهم على أن يظهر على خير ما يحب من دماثة الخلق ورقة الحاشية ولطف الحديث
ولكن منظاري قاتله الله بل عافاه الله وصرف عنه كل غشاوة يأبى إلا أن يكشف لي عن موقف لا تتحقق فيه هذه الفكرة بل لقد نقضت فيه من أصولها وجاء الأمر على عكس ما تفاءل المتفائلون وتمنى الكاتبون
كنت مسافراً إلى الريف الحبيب في قطار فالتقيت في ممر من ممراته بثلاثة من الشبان تقاربت أعمارهم، وكان كل منهم بادي العافية حسن البزة متهلل القسمات؛ ونادى أحدهم رابعاً لهم كان في اتجاهي يسبقني بخطوات فقال له: أمامك في هذه العربة قبل الآخر بديوان تجد محمد أفندي إلى جانب الشباك الأيمن وقد حجزنا أمكنة فانتظرنا هناك
ودخل (رابعهم) هذا الديوان المشار إليه وأحسست كأني أنجذب إلى هذا الديوان نفسه فدخلت واتخذت مكاني، ولكني لم أجد إلى جانب الشباك الأيمن غير آنسة أجنبية لم تقع عيني في نهاري كله على أجمل منها صورة وأملح منها محيا، وبدت لي في منتصف العقد الثالث من عمرها كالوردة في زمن الورد بلغت أقصى تفتحها ومنتهى ريعانها
وكانت متجهة ببصرها إلى النافذة، لا تلتفت إلا ريثما ترمق الداخل، ثم تعود فتتجه اتجاهها الأول، وكان على محياها الجميل ما يشبه الهم من فرط سكونها واحتشامها
وتحرك القطار وجاء الشبان الثلاثة وجلسوا في ضوضاء بعد أن نظر كل منهم إلى هيئته في المرآة، فأصلح ما تشعث منها، وتشاغلت عنهم بكتاب في يدي، ولكن منظاري لم يغفل عنهم، فرأيتهم يتخاطبون بالإحداق لحظة، وعلى فم كل منهم ابتسامة خبيثة، وكلهم يومئ لصاحبه برأسه نحو النافذة اليمنى
وقطع أحدهم فترة هذه الإشارات اللاسلكية بقوله: (محمد أفندي تقلان علينا يعني قوي)؛ وضحك الآخرون ضحكات ماجنة مائعة. . . وفطنت أن محمد أفندي لم يكن غير تلك
الآنسة التي تتجه بنظرها إلى الفضاء الممتد خارج القطار!
وأيقن أربعتهم أنها لا تعرف العربية. فانطلقت ألسنتهم بألوان من القحة، عجبت ولن أزال في عجب، أن لم يبد على وجه أحدهم أي قدر من الخجل لتلك الألفاظ التي أخجل الآن لمجرد أن أتذكرها! ثم ذهب كل منهم يتظرف بما وسعته سماجته، فهذا يأتي بضروب من النكات لا يسيغها إلا ذوقه وذوق أصحابه، وذلك يداعب خاتمه الماسي وساعته الذهبية، وآخر يخرج حافظة نقوده فيقلب الأوراق المالية ثم يردها إلى جيبه، هذا فضلاً عما تنافسوا في سرده من المغامرات التي صرف فيها ما صرف من الأموال وكلها بالضرورة من نسج الخيال - كل أولئك و (محمد أفندي) في شغل عن ظرفهم ولطف حديثهم بالنظر إلى فضاء الأرض
ولما أفرغوا ما في جعبتهم من بارد النكات وسخيف الحكايات انتظرت أن يتطرق إليهم اليأس أو يمسهم شيء من برودة الموقف فيخجلون؛ ولكنهم انتقلوا إلى ما هو أدهى وأمر مما كانوا فيه فراحوا يصفون في طريقة بهيمية جمال تلك الآنسة التي لم يبد على قسماتها إلا ما يبدو على قسمات تمثال من التماثيل من الثبات على حال واحدة، ثم شاءت لهم دماثتهم أن يجعلوها موضعاً لنكاتهم فهي ابنة بائع إسفنج في الريف أو هي لا تكلف أكثر من نصف ريال يدفع لحزيمي إلى غير ذلك مما أمسك القلم عن ذكره من عبارات هؤلاء الظرفاء المهذبين!
ودنا القطار أخيراً من إحدى المدن فنهضت الفتاة لتنزل ومدت يدها إلى الرف لتأخذ حقيبة فتقدم أحد هؤلاء الظرفاء وأنزلها لها فتناولتها وهي تقول له في عبارة فصيحة: (أشكرك جداً يا أفندي) ثم خرجت من الديوان
ونظرت إلى وجوههم وحمرة الخجل تلهب وجنتي، وأشهد لقد شاعت تلك الوجوه الصفيقة شيء من هذه الحمرة ولكن لعل ذلك مرجعه إلى وجودي، ولعلهم لو كانوا وحدهم لأجابوها بضحكة من ضحكاتهم أو بنكتة من ظريف نكاتهم.
الخفيف
رسالة الشعر
نَهْرُ النّسْيان. . .!
(إلى الذين هموا بالرحيل ولم يعرفوا إلى أين. . .!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
اِسْقِيَانِي مِنْ خَمْرَةِ النِّسْيَانِ
…
وَانْسَيَانِي فَقَدْ نَسِيتَ زَمَانِي!
وَنَسِيتُ الشَّبَابَ وَالسِّحْرَ وَالأَحْ
…
لَامَ وَالْفَنَّ وَالرُّؤَى وَالأَغَانِي
وَنَسِيتُ الْمُنَى وَكَانَتْ شُعَاعًا
…
بَاهتَ الظِّلَّ حَاَئرًا في جَنَانِي
وَنَسِيتُ الأَسَى وَكَانَ رِيَاحًا
…
أَزْجَتِ الْجِنُّ خَطْوَهَا في كِيَانِي
وَنَسِيتُ الأيَّامَ حَتَّى تَلَاشَتْ
…
كَهَشِيمٍ عَلَى تُرَابِ الزَّمَانِ
وَنَسِيتُ الأنْغَامَ رَعَّاشَةَ الشَّدْ
…
وِ حَيَارَى حَزِينَةَ الْعِيدَان
وَنَسِيتُ الدُّمُوعَ وَهْيَ أَغَانٍ
…
أَخْرَسَتْهَا زَوَابِعُ الأَحْزَانِ
غرِدَاتُ السُّكُونِ مَخْنُوقَةُ اللَّحْ
…
نِ تَشَاجَتْ بِسِحْرِهَا أَجْفَانِي!
وَنَسيتُ الْجَمَالَ حَتَّى كَأَنِّي
…
لَمْ أُضمِّخْ بِنُورِهِ أَلْحَانِي
فَنَسِيتُ الْعَبِيرَ وَالزَّهْرُ يُذْكِي
…
هِ بِفَجْرِ الطَّبِيعَةِ النَّعْسَانِ
وَنَسِيتُ النَّدّى وَقَدْ كَانَ خَمْراً
…
لِبَنِي الطَّيْرِ لَمْ تُرَقْ في دِنَانِ
وَنَسِيتُ الأَنْسَامَ تَنْقُلُ قي الْمَرْ
…
جِ صَلَاةَ الطُّيُورِ لِلْغُدْرَانِ
وَنَسِيتُ النُّجُومَ وَهْيَ عَلَى الأُفْ
…
قِ نَشِيدٌ مُبَعْثَرُ الأَوْزَانِ
وَنَسِيتُ الرَّبِيعَ وَهْوَ نَدِيمُ الشِّ - عْرِ وَالطَّيْرِ وَالْهوَى وَالأَمَانِي
وَنَسِيتُ الْخَرِيفَ وَهْوَ صِباً مَا
…
تَ فَسَجَّتْهُ شَيْبَةُ الأَغْصَانِ
وَنَسِيتُ الظَّلَامَ وَهْوَ أَسَى الأَرْ
…
ضِ وَتَابُوتُ شَجْوِهَا الْحَيْرَانِ
وَنَسِيتُ الأَكْوَاخَ وَهْيَ قُلُوبٌ
…
دَامِيَاتٌ تَلَفَّعَتْ بِالدُّخُانِ
وَنَسِيتُ الْقُصُورَ وَهْيَ قبُورٌ
…
ضَاحِكَاتُ الْبِلَى مِنَ الْبُهْتَانِ
وَنَسِيتُ النَّعِيمَ وَالْبُؤْسَ مَاذَا
…
تَرَكَا لِي مِنْ شَقْوَةٍ أو أَمَانِ؟
وَنَسِيتُ السَّلَامَ وَالْحَرْبَ سِيَّا
…
نِ شَذَا النَّورِ أو لَظَى الْبُرْكَانِ
وَنَسِيتُ الْهُدُوَء وَالضَّجَّةَ الْهَوْ
…
جَاَء سِيَّانِ سَكْتَتِي أو بَيَانِي!
وَنَسِيتُ الكَلَامَ مَاذَا جَنَي المُصْ
…
غِي إليه سِوَى بِغَاءِ اللِّسَانِ؟
وَنَسِيتُ السُّكُونَ وَهْوُ عَزِيفٌ
…
أَبَدِىٌّ الصَّدَى أَشَلُّ الْمَثَانِي
وَنَسِيتُ الْحَيَاةَ وَهْيَ رَمَادُ
…
نَفَخَتْ ذَرُّهُ يَدُ الشَّيْطَانِ
وَنَسِيتُ الْفَنَاَء وَهْوَ بِجِسْمِي
…
هَادِمٌ يَرْصُدُ الْفَنَاَء لِبَانِي!
وَنَسِيتُ النِّسْيَانَ وَالذِّكْرَ حَتَّى
…
صِرْتُ وَهْماً فِي خَاطِرِ النِّسْيَانِ!
وَتَجَرَّدْتُ مِنْ زَمَانِي وَكَوْنِي
…
لِزَمَانٍ مُحَجَّبٍ عَنْ عِيَانِي
وإِذَا بِي فِي قَفْرَةٍ أَلْقَتِ الصَّمْ
…
تَ عَلَيْهَا صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ
خَاصَمَ الدَّهْرُ لَيْلَهَا فَهْيَ دَهْرٌ
…
مَا رَأتْهُ سَرِيرَةُ الأكْوَانِ
وَلَوَى الْجِنُّ خَطْوَهُ عَنْ ثَرَاهَا
…
فَهْيَ حَتْفٌ لِكلِّ إِنْسٍ وَجَانِ
لَا ظَلَامٌ، وَلا ضِيَاءٌ، وَلَكِنْ
…
هَمْهَمَاتٌ يَلْغَطْنَ فِي وِجْدَاني
جُبْتُ فِيهَا حَيْرَانَ أَقذِفُ نَفْسِي
…
فِي خِضَمٌ مُغَيَّبِ الشُّطْآنِ
وَإِذَا أَشْيَبٌ يُغَمْغمُ كالْمَجْ
…
نُونِ بَيْنَ السُّهُولِ وَالوِدْيانِ
شَعْوَذَتْهُ السَّمَاءُ فَهْوَ خَيَالٌ
…
يتَزَيَّا بِصُورَةِ الإنسانِ
آدمِيُّ الرُّوَاءِ أَذْهَلَهُ الوَهْ
…
مُ وَغَشَّتْهُ هَبْلَةُ الْحَيَوَانِ
نَقَشَ الْعَنْكَبُوتُ فَوْقَ مُحَيَّا
…
هُ ظِلَالاً مِنْ صُفْرَةِ الأَكْفَانِ
مُقْلَتَاهُ بِئْرَانِ دَلوُهُما الظَّ
…
نُّ وَغَيْبَانِ فِي الدُّجَى تَائهَانِ!
وَيَدَاهُ لَقَامَةِ الزَّمَنِ الأَعْ
…
رَجِ عُكّازَتَانِ مَشْدُوخَتَانِ!
ضَمَّ إِحْدَاهُما وَلَوَّحَ بِالأُخْ
…
رَى لِوَادٍ مُخَدَّرٍ نَعْسَانِ
فِيهِ نَهْرٌ مِنَ الدُّمُوعِ، وَجُبٌّ
…
مُترَعٌ بِالأَنِينِ وَالأَشْجَانِ
وَقلوبٌ أَقَلَّهَا بَيْنَ جَنْبَيْ
…
هِ سَفِينٌ يَجْرِي بِلَا رُبَّانِ
وَاِلهَاتٌ، مُجَرَّحَاتٌ، حَزَانَى
…
مَزَّقَتْهَا فَوَاجِعُ الأَزْمَانِ
بَيْنَهَا ثَاكلٌ، وَآخَرُ شَجَّتْ
…
هُ يَدٌ لِلأَسَى بَغَيْرِ سِنَانِ
وَشَقِيٌّ يَسُوقُهُ نَحْسُ دُنْيَا
…
هُ إلى مَرْفَأٍ شَقِيِّ الْمَكَانِ
وَيَتِيمٌ، وَبَائِسٌ، وَغَريبٌ
…
وَشَرِيدٌ مُقَطَّعُ الأَرسَانِ
وَمُنَادٍ دَعَا الأَمَاني فَصَدَّت
…
هُ! وَعَادَتْ إليه بَعْدَ الأَوَانِ
وَحَبِيبٌ أَرْدَتْهُ فِي لَهَبِ الأَسْ
…
قَامِ وَالسُّهْدِ صَرْعَةُ الْحِرْمَانِ
وَطَعِينٌ بِخِنْجَرِ الظُّلمِ بَاكٍ
…
دَفَنَتْ نَوْحَهُ يَدُ الطغْيَانِ
أَرْعَشتنِي السَّفِينُ وَاسْتَلَبَ الأَشْ
…
يَبُ وَعْيِي، رَبَّاهُ مَاذَا دَهَاني؟
فَتَهَاوَيْتُ كالْهَشِيمِ عَلَى أَشْ
…
لَاءِ رُوحِي الْمُفَزَّعِ الأَسيَانِ!
ثمَّ نَادَيْتُهُ فَأَمْعَنَ فِي الصَّمْ
…
تِ قَليلاً وَصَاحَ بِي: مَنْ دَعَاني؟
قُلْتُ: رُوحٌ مُعَذَّبٌ! قَالَ: مِنْ أَيْ
…
نَ؟ فقُلْتُ: الأَسَى إليكَ رَمَاني
عَلّنِي أَسْتَقِي الْهُدُوَء، وَأَلْقَى
…
بَيْنَ كفَّيْكَ رَاحَةَ السُّلوَانِ!
قَال: أَقْبِلْ فكمَ بدُنْيَاكَ صَرْعَى
…
شَرِبُوا مِنْ يَدِيَ رَحِيقَ الْحَنانِ
فَتَلَاشَتْ دُمُوعُهُمْ، أرَأَ يْتَ الشَّ - كَّ تُبْلِيهِ ثورة الإيمَانِ!
َواْسَتطارَتْ شُجُونهُمْ أَرأَيْتَ الطَّي - فَ تَطْوِيِهِ هَبَّةُ الوَسْنَانِ!
قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قال: رُؤْيا خَيَالٍ
…
كلُّ حَيٍّ عَلَى الوُجُودِ رَآني!
أَنَا مَعْنًى فِي خَاطِرِ الْغَيْبِ ذَابَتْ
…
حَوْلَ أَسوَارِهِ جَمِيعُ الْمَعَاني
أَنا كَهْفٌ مُغلَّفٌ فِي حَشَا الدَّهْ
…
رِ يَشِعُّ الْفَنَاءُ مِنْ جُدْرَاني
غَلْغَلَتْ فِي ثَرَايَ دُنْيَا الشّقِيِّ_ينَ، وَلَا ذَا الوُجُومُ فِي أَرْكاني
وَارْتمَتْ حَوْلِيَ الْحُظُوظُ التَّعِيسَ
…
اتُ وَنَامُ الْعَذَابُ فِي أَحْضَاني
مَدْفَنُ لِلْخُطُوبِ قلْبي، وَمَنْفًى
…
أَبَدِيٌّ لِنَكْبَةِ الحَدَثَانِ!
أَنَا طِبُّ الأيَّامِ أَشْفِي جِرَاحَا
…
تِ الزّمَانِ الْمُرَزَّإِ اللَّهْفَانِ
أَنَا بَحْرُ الْهُدُوءِ مَنْ مَلَّ دُنْيَا
…
هُ رَمَي عِبْأَهَا عَلَى شُطْآنى
مُنْذُ مَا دَبَّتِ الْخَلَائِقُ حَوْلِي
…
لَقَّبَتنِي السَّمَاءُ (بالنِّسْيَان)
فَنَسَيْتُ الحَيَاةَ وَالْمَوْتَ مَا أَدْ
…
رِى أَحَيٌّ أَنَا هُنَا أم فَانِ؟!
مَرَّ بِي (آدَمٌ) قَدِيماً فَأَوْمَأَ
…
تُ إليه بِطَرْفِ هَذَا الْبَنَانِ
فَسَقَي قَلْبَهُ مِنَ النَّهْرِ كَأساً
…
وَتَلَاشَى عَنْ أَعْيُنِي في ثَوَاني
وَإِذا بِي أَرَاهُ يَهْتِكُ سِرَّ الْ
…
خلْدِ في غَيْرِ هَدأَةٍ أو تَوَانِ
مَالَ بِالدَّوْحَةِ الَّتِي قَدَّسَ الل
…
هُ جَنَاهَا فَلَمْ تَنَلْهَا يَدَانِ
وَجَنَى مِنْ ثِمَارِهَا هَذِهِ الدُّنْ
…
يَا وَأَحْدَاثَ هَذِهِ الأَكْوَانِ
عَبَّ خَمْرِي فَأَذْهَلَتْهُ عَنِ الْغَيْ
…
بِ وَأَقْصَتْهُ عَنْ ظِلَالِ الْجِنَانِ!
لَيْتَهُ لَمْ يَذقْ رَحِيقِي وَلَمْ يَهْ
…
رَعْ لِنَهْرِي وَلَمْ يُطَاوِعْ بَنَاني!
أَنَا سِرُّ الوُجُودِ مَنْ رَامَ سِرِّي
…
نَسِيَ الْحَشْرُ قَلْبَهُ في جَنَاني. .
قلتُ: يَا حَادِيَ الْخَطَايَا لِقَبْرٍ
…
مَرَدَتْ رُكْنَهُ يَدُ الْغُفْرَانِ!
يَا هَوَايَ الَّذِي تَهَافَتُّ بِالرُّو
…
حِ عَلَيْهِ وَبِالْحِجَا وَاللِّسَانِ
أَيْنَمَا سِرْتُ جَرَّ طَيْفكِ أَحْلَا
…
مِي وَمِنْ نَهْرِكَ الْمُصَفَّى سَقَاني
مُنْذُ مَا جِئْتُ لِلثّرَى وَأَنَا صَبُّ
…
كَ فَارْحَمْ عِبَادَتي وَافْتِتَاني!
مَزَّقَتْنِي أَشْوَاكُ دُنْيَايَ وَاغْتَا
…
لَتْ شَبَابي وَأَزْعَجَتْ أَلْحَاني!
الْهَوَى وَالنَّشِيدُ - يَرْعَاهُما اللَّ
…
هُ - بِتِيِه الْخُلودِ قَدْ ضَيَّعَاني!
تَرَكاني أَهِيمُ كالْعَاصِفِ الْمَش
…
دُوهِ فِي كلِّ بُقْعةٍ وَمَكانِ
لَاذَ عُمْرِي بِشَاطِئَيْكَ فَدَعْنِي
…
فِي ثَرَاكَ الْغَرِيبِ أَدْفِنْ زَمَاني
فَتَمَطَّى فَزَلْزَل الأَرْضَ تَحْتِي
…
وَطَوى الصَّمْتَ فِي الفَلَا إذْ طَواني
محمود حسن إسماعيل
رسالة الفن
شيء فظيع
أربعة قتلى، والخامس له الله
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أيام العصر الذهبي لشركة ترقية التمثيل العربي، أخرجت هذه الشركة رواية عن (محمد علي الكبير). وأسرفت الشركة في الإنفاق على إخراج هذه الرواية إسرافاً كان يريد أن يناسب ذكرى ذلك الأسد الذي جاء مصر جندياً صغيراً ثم استولى عليها بأخلاقه وعقله وشخصيته، ثم نفخ فيها من هذه الأخلاق وهذا العقل وهذه الشخصية الملكية ما استطاعت مصر أن تستولي به على غيرها من جاراتها القريبات والبعيدات، حتى لقد هجمت على تركيا الشائخة بقوتها الفتية الحقة، وحتى لم تجد تركيا مفراً من أن تستنجد بإنجلترا وفرنسا، وروسيا أيضاً على ما أظن، لتقف هذه الدول مجتمعة تيار الهجمة المصرية الجارفة. . .
هذه الذكرى الجبارة، أرادت شركة ترقية التمثيل العربي أن تخلدها برواية (محمد علي الكبير) فلم تأل جهداً في إعداد العدة لها، ولقد استعانت الشركة أيامها بالسراي الملكية نفسها، فاستأذنتها في أن يطلع مندوبون منها على مخلفات محمد علي الكبير في متحف القصر، وأن يأخذوا لها صوراً ورسوماً ما أرادوا ذلك، وكان أن تم كل الاستعداد على أكمل الوجوه، وكان أن وعد المغفور له الملك الأسد المسلم فؤاد الأول بشهود التمثيل في الليلة الأولى. . .
وهنا نقف وقفة أمام طيف فؤاد الأول فقيدنا الكريم
لقد كان رحمه الله رجلاً فذاً له جلال وله رهبة. وكانت تنبعث من ذاته ملكية طبيعية تنتشر حوله كل ما اشتملته خاضع لها خضوعاً طبيعياً لا إرادة فيه، وكان فيه من الحيوية ما ينشر هذه القوة إلى أفق بعيد قد لا تستطيع شخصية أخرى أن تمد سلطانها الطبيعي إليه. وقد لحظت هذا عند ما افتتح رحمه الله الجامعة المصرية في سنة 31 أو 32 إذ أعدت الجامعة له سر داقاً هائلاً في الفضاء الذي كان خلف كلية الآداب، وأعدت له الجامعة عرشاً
نصبته على منصة عالية، فلما جلس جلالته على العرش مستمعاً إلى الخطباء، ولما وقف الجارم بك يلقي شعراً انصرفت أنا عن الشعر، وكنت بين الطلاب، إلى مشاهدة هذا الجمع والتأمل فيه، وكان أن مددت بصري إلى نهاية السرادق أو نهاياته جميعاً، فإذا بي أرى كل فرد من هذا الزحم قد ترك الشعر مثلما تركته أنا، وأسلم نفسه بحواسه جميعاً إلى هذا الملك كأنه ينتظر منه أن يلقي إليه إشارة فيسرع إلى تلبية الإشارة. . . كل فرد كان على هذه الحال، ومن يومها آمنت بأن فؤاد الأول لو لم يكن ملكاً لكان ملكاً. . .
أمام هذه الشخصية. . . من الذي يستطيع أن يمثل دور محمد علي الكبير تمثيلاً حياً، يبدأ حياً، ويستمر حياً وينتهي بانتهاء الرواية حياً لا تخلخل فيه ولا هبوط؟!. . .
لقد كانت مشكلة، ولقد حلتها شركة ترقية التمثيل العربي بأن عهدت بالدور إلى عبد العزيز خليل. . .
ووجدها عبد العزيز خليل فرصة العمر
وفي ليلة الملك هدر عبد العزيز خليل ساعتين أو ثلاث ساعات من ساعات يقظته الفكرية وهي الساعات القليلة التي تعد في حياة الفنان الإنتاجية في إعداد شكله ونفسه بالمكياج، أما شكله فقد لعب فيه بالأدهان والشعر والأصباغ، وأما نفسه فقد لعب فيها بالكبر ليكون كالرجل الكبير الذي سيمثله، وبالتقوَّى حتى يكون كالرجل القوي الذي سيعيده إلى الأنظار والأسماع والأفئدة، وبالتسلط حتى يكون كذلك السلطان محمد علي
ورفعت الستار، وبدأت الرواية ودخل محمد علي. . . محمد علي الممثل دخل إلى المسرح
ولكن حدث أن حضرة صاحب الجلالة الملك بالقوة والحق فؤاد الأول وقف احتراماً لمحمد علي. . . فوقف الشهود معه أمراء ووزراء ومن هم دون ذلك
فهل كان جلالته يقف لأي ممثل آخر. . . مهما كان الممثل! لا. وإنما جلالته وقف جزاء وتكريماً لهذا الممثل الذي أفنى نفسه واستحضر بدلاً منها نفس محمد علي، فلم يبد من نفسه شيء وإنما دخل إلى المسرح وهو محمد علي فلم يكن عجباً من حفيد محمد علي أن يقوم إجلالاً لمحمد علي هذا الذي يراه ماثلاً أمامه. . .
لقد اضطرب عبد العزيز خليل ولم يعرف كيف يتخلص من هذا الموقف المربك، فكان أن ألهمه الله الخلاص إذ أشار بيده إشارة كاملة إلى الممثلين من حوله وقال: تفضلوا يا أولادي
وانتهى التمثيل، وبلَّغت السراي إعجابها إلى الأستاذ عبد العزيز خليل، ومنحت شركية ترقية التمثيل العربي ممثلها هذا الفذ مبلغاً كبيراً من المال مكافأة له على تشريفها في عيني الملك
ودارت الأيام، وانفضت شركة التمثيل العربي. . . وإذا بعبد العزيز خليل ممثل معطل، حتى الفرقة القومية التي تضم الأساتذة: محمد علي إسماعيل، وإبراهيم محمود عبد الله، وعبد الله محمود إبراهيم، لا تريد أن تعترف بالأستاذ عبد العزيز خليل ممثلاً
لماذا. . .؟
ليس هناك سبب إلا أنه ممثل عظيم، وأنه وصل إلى ما لم يصل إليه ممثل مصري؛ وهذا عند أهل التمثيل كاف جداً لأن يكون مبرراً للقتل؛ فكلما جاء ذكر عبد العزيز خليل جاءت معه الغيرة وجاءت معه النميمة، والاغتياب، والتهم الحقة والتهم الباطلة، وكل ما يمنع عنه الرزق والخبز والماء والهواء إذا أمكن. . .
فإذا ثار عبد العزيز من شدة هذا الضغط الحرام وقال كلمة نابية، أو كلمة خارجة استشهد على هذه الكلمة الشهود وحوسب عليها أشد الحساب. . . وغيره يا ما أكثر ما يقول، ويا ما أكثر ما يفعل، ولكنه مسامح ومقبول منه كل ما يقول وكل ما يفعل إذ لا خطر منه على أهل الفن كالخطر المنظور من عبد العزيز خليل والرؤساء يسمعون المداهنين المتملقين، ولا يسمعون الصادقين
وعلى هذا الأساس سيموت عبد العزيز جوعاً في مصر بعد أن مات عطشاً إلى فنه. . .
فإلى من يشكو عبد العزيز وأمثاله؟!. . .
إلى الله وإنه سميع مجيب. . . وهو الرزاق وحده، وهو المنتقم الغفار، الجبار الرحيم
وعبد الحميد الديب، الشاعر الذي يهجو بالشعر الأستاذ العقاد ويأخذ منه أجر الهجاء
لماذا يعطيه الأستاذ العقاد أجراً على هجائه وهو الذي إذا عمد إلى القلم هاجياً تقصفت أمام هجائه الأقلام؟. . . لا ريب أن العقاد يشعر بحلاوة في هجاء الديب، وهذا الشعور اعتراف من العقاد بأن الديب أديب كبير وشاعر يفاجئه بمعان وأخيلة يستحسنها ويطرب لها. . . وشهادة العقاد واعترافه لهما أثرهما في حياة الكثيرين من الأدباء في مصر؛ فهناك ناس أصبحوا بين الأدباء المعدودين والشعراء الملحوظين، وما كانوا ليكونوا شيئاً مذكوراً لولا
أن العقاد زكاهم بكلمة أو كلمتين. . .
وهذا عبد الحميد الديب لا ريب أنه كان يحب من الأستاذ العقاد كلمة عن شعره وأدبه ينشرها فترفعه من صفوف المغمورين الجياع إلى صفوف البارزين المرتاحين. . .
ولكن الأستاذ العقاد له من شغله ما ينسيه عبد الحميد الديب فلا يذكره إلا وقت ما يراه، ووقت ما يستمع إلى هجائه، ووقت ما يدفع ثمن هذا الهجاء. . . ثم ينساه. . .
لقد ضاقت الحياة النظيفة بعبد الحميد الديب. وانجرف في تيار لا ريب أنه أول من يكرهه ويمقته، ولكن كيف سبيله إلى الحياة النظيفة وهو كلما طرق باب عمل في صحيفة طن الذباب وأزت الصراصير في آذان أصحاب العمل بأن هذا رجل فاسد وأنه كيت وكيت، كأن أولئك الذباب والصراصير من مختلسي حرفة الأدب والشعر لا فساد فيهم ولا كيت ولا كيت، والواقع الذي يعلمه الله أنهم كلهم فساد وكيت وكيت. . .
الذباب والصراصير. . .
أنقذ الله منهم عبد الحميد الديب. . .
وحسن سلامة. . . الملحن الذي انجذب إلى حسن الأنوثة وجمالها فانطبعت في روحه بحركاتها وسكناتها، والذي يلحن كلما ضاق به الحال لبديعة أو ببا لحناً أو لحنين ولا يعود إليهما إلا إذا ضاقت به الحال مرة أخرى. . . والذي كلما لحن لحناً اغتصبته (المونولوجيستات) و (العوالم) ورحن يتاجرن به في الليالي والأفراح ملاقيات ما شاء الله من النجاح والترحيب والأجر الكريم. . . وصاحب الحق الأول في هذا كله مغمور مفلس لا يهتم به أحد ظهر في الميدان ظهوراً قد تنكسف معه أضواء الكثيرين من الكواكب والنجوم. . .
وعلى هذا أيضاً تلوثت سمعة حسن سلامة، فكلما اقترح مقترح على واحد أو واحدة من أصحاب العمل باستغلال مواهب حسن سلامة هيأ الشيطان لحسن عتُلاً ذميما مناعاً للخير معتدياً أثيما يقول إن حسن سلامة مجنون بالنسوان وأنه خطر على الراقصات والمغنيات اللواتي يجمعهن به العمل، وأنه خطف فلانة من مسرح كذا، وفلانة من صالة كذا
والمسكين لا يخطف ولا يغتصب وإنما هو يتزوج ويطلق بحثاً وراء الراحة والعيش المطمئن. . .
إن هذا الملحن جدير بأن يعهد إليه أستوديو مصر تلحين الأغاني في أفلام استعراضية قصيرة يتوفر عليها مخرج لبق رشيق وتقوم بأدائها فنيات خفيفات كأولئك اللواتي نراهن في استعراضات هوليود. . .
هذا صحيح. . . ولكن أين هو ذلك المخرج، وأين هن الراقصات، وأين هو ذلك المدير الذي يسمح لملحن شاب بالتجلي والظهور يتبعهما المجد والربح الوفير
لا شيء من هذا في مصر. . . وإنما يجب على حسن سلامة أن يموت. . .
وسيد سليمان. . . الذي لا تنقصه الصبغة ليكون مثل (آل جولسن). . . إنه مغن وممثل ومونولوجست وزجال أيضاً
لو أن الفرصة أتيحت له للظهور في السينما لجذب الجماهير وقفز قفزة قد يعلو بها على مرتبة القابضين والقابضات على خناق الفن في مصر. . . ولو أنه أتيح له أن يلقي مونولوجاته الاجتماعية الحية بين الفصول الدسمة جداً التي تمثلها الفرقة القومية لغطى الفرقة وفنها الهائل جداً. . .
ولكن منذا الذي يسمح له بهذا؟. . . أهم مجانين. . . إن عليه أن يموت. . . ولكنه لن يموت. . .
هؤلاء أربعة. . . والخامس. . .
عزيز أحمد فهمي
البريد الأدبي
العوائد
الأستاذ مصطفى محمد إبراهيم ضم (الأهالي) محسناً إلى قبيل العربية، والأهالي والأهلون والأهلات عربيات خالصات. وحاول الأستاذ أن ينقذ (العائلة) في (تحرير المرأة) إنقاذاً لغوياً. . . بيد أنه نسى (العوائد) أو تناساها، فهل يماشي صاحبه ناقدها الأستاذ محمداً أبا بكر إبراهيم في تخطئته إياها؟
إن العلامة الفيومي في (المصباح المنير) يقول: العادة معروفة والجمع عاد وعادات وعوائد
والعلامة الشيخ إبراهيم اليازجي تقبل (العوائد) في (الضياء) تقبلاً مليحاً على حنبلية في اللغة عنده وعلى ولعه بتخطئة الصحيح، فقد ورد هذا الجمع في مقالة له لا لغيره في مجلته:(. . . ولا يطلب علماء هذه الأيام الوقوف عليها (أي على طائفة الكتب)، إلا بقصد الاطلاع على الشيء الغريب، كما يحب أحدنا الاطلاع على (عوائد) أهل الصين). وروى نصًّا في التاج في جواب سؤال: ومن جموع العائدة عوائد ذكره في المصباح وغيره وهو نظير حوائج في جمع حاجة نقله شيخنا) ثم قال - أعني اليازجي -: (فالظاهر من هذا النص أن هذا الجمع منقول عن العرب لثبوته عند أئمة اللغة)
وبين العلامة الفيلسوف ابن خلدون وبين (العوائد) حلف أو محالفة أو معاهدة متينة مستمرة فهو لا يترك (عوائده) هذه في حال في مقام يقتضيها:
(. . . - في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله و (عوائده) - والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك انتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به؛ أو لما تراه من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من (العوائد) والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلامه وفي سائر أحواله)
(أن (العوائد) تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن (عوائده) لا ابن نسبه)
(. . . - في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها -
والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن هذه كلها (عوائد) للعمران والأوان، و (العوائد) إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد، فتستحكم صبغة ذلك، وترسخ في الأجيال)
فهذه (العوائد) التي طولنا الكلام فيها أو عليها هي من جموع العادة والسلام.
(* * *)
بشر بن عوانة
قالت جريدة المكشوف البيروتية في مقال نشرته في العدد (283) بعنوان (شاعر جاهلي غير موجود يعيش ألف سنة): إن الأستاذ بطرس البستاني صاحب كتاب (أدباء العرب) كان فيما تعلم أول من أنكر وجود بشر بن عوانة، وأظهر أنه هو وقصيدته في وصف قتاله للأسد من خلق بديع الزمان الهمذاني في مقامته البشرية. والمكشوف التي جعلت من همها حماية الإنتاج الأدبي وتصحيح نسبته إلى صاحبه، يسرها أن نعلم أن الرسالة هي أول من نبه إلى أسطورة بشر بن عوانة في الصفحة 35 من عددها التاسع والسبعين الصادر في 7 يناير سنة 1935، وهو العدد الأول من سنتها الثالثة، فنرجو أن تنتبه إلى ذلك
حول العدد الممتاز من مجلة الحديث السورية
نوَّه الأديب السيد نصار في العدد (388) من (الرسالة) بالعدد الممتاز الذي أصدرته مجلة الحديث السورية، وخصت به المستشرق المنتحر الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم)، وقد أشار إلى ما كتبه أدباء مصر الأعلام عن المستشرق المذكور، وأغفل ذكر الكتاب الآخرين وقال:(وعداها لا توجد كلمات أخرى لكاتب مصري. . .!) كأن الكلمات الأخرى لا تستحق التنويه والإشارة، مع أن الوفاء كان يقضي على الأديب بأن يذكر الكتاب السوريين الآخرين (والمجلة السورية) ولا بدَّ من التنويه بأنه إلى جانب كلمات إخواننا المصريين كلمات أخر. منها كلمة عنوانها (دمعتي على أدهم) لأديبة الشام السيدة وداد سكاكيني، وأخرى عن (قوة الإيمان وعذاب المفكرين) للأديبة الرقيقة الآنسة فلك طرزي صاحبة (الآراء والمشاعر)، وقصيدة رائعة للشاعر المعروف عمر أبي ريشة عنوانها (ظمأ الروح)، وثانية للشاعر الأديب الأستاذ زكي المحاسني عنوانها (الستار)، وثالثة للشاعر صلاح الأسير، ورابعة للشاعر شارل نحوري، وهؤلاء كلهم سوريون
ولعلى أعود إلى نقد العدد ومضامينه بعد حين.
(دمشق)
المنجد
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت مقالكم النفيس (مطالعات في الكتب والحياة) لعباس العقاد في مجلة الرسالة الغراء ولشدّ ما أعجبني حين اطلعت على ملاحظتكم الصغيرة حول كلمة الظرف إذ أنكم ضممتم الظاء فيها مراعين في ذلك الاتباع خصوصاً لأن الجمهور في مصر ينطق الظرف بضم الظاء؛ فهل لي أن أستبين من ملاحظتكم هذه وأنتم من خلفاء سيبويه القرن العشرين أنكم لا تبالون بقواعد النحو والصرف بل تسيرون على منهاج المراعاة في الاتباع من الألفاظ وتغالون في تحوير أصول النطق الصحيح وقواعده السليمة؟ وهل لي أن أنقدكم وأؤاخذكم على ذلك وأنتم أول من سبقني في نقده للأستاذ أحمد أمين وجنايته على الأدب العربي، فحملتم حملة شعواء عليه لغلطة في التحريك ارتكبها وهو أمام المذياع.
وتفضلو بقبول أسمى تحياتي إلى روحكم الطيبة من أبناء الجيل الجديد.
(حيفا - فلسطين)
الياس سليمان بحوث
فتيات في الأزهر
أتيح لي أن أستمع إلى المناظرة الطريفة التي أقيمت بطنطا بين فريقين من طلاب الأزهر. وكان موضوع المناظرة يدور حول السماح للفتيات بالانتظام في سلك طلاب الأزهر على نحو ما هو متبع الآن في كليات الجامعة المصرية. . .
وأذكر أن الأديبة أمينة السعيد كانت أول من أثار موضوع تعليم الفتاة في الأزهر، فتحدثت إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي حديثاً نشرت خلاصته الصحف. أذكر منه أن فضيلته رحب بالفكرة على أن تكون الفتيات في عزلة عن الشبان، أي أن تنشأ لهن فصول خاصة يتلقين فيها أصول الدين الحنيف)
وقد ذكر المستشرق الإنجليزي (مستردن) في كتابه (الحياة الفكرية والتعليمية في مصر في القرن التاسع عشر) ما خلاصته (أن الحملة الفرنسية في قدومها إلى مصر وجدت في صحن الأزهر بضع نساء يتعلمن إلى جانب الشبان ويتفقهن في قواعد الدين. وكانت هناك عالمة ضريرة يلتف الشبان حولها ويتلقون الدروس عنها؛ كما أنه كان في معهد طنطا الديني جماعة من الفتيات يحضرن الدروس الدينية ويستمعن إلى التفسير والحديث)
إبراهيم إبراهيم الخولي
تصحيح
كتب الأستاذ سيد قطب كلمة في العدد الماضي من الرسالة الغراء عن الذوق الفني في مصر وجهها إلى المدرسة الحديثة، ولا أريد الآن التدخل بين الأستاذ وجماعة الأدب الحديث ولكني أريد - وأرجو الأستاذ أن يغفر لي تطاولي - أن أصحح خطأ جاء في حديثه عما سماه سهواً منه (أسطورة نهر الجنون). فقد أراد الأستاذ أن يستند في حديثه إلى أسطورة قديمة ولكنه ذكر بدلاً منها مسرحية للأستاذ توفيق الحكيم على أنها الأسطورة القديمة
أما الأسطورة فإنما تتحدث عن بئر شرب منها الناس فجنوا ولم يجد الملك ووزيره بدا من الشرب منها هما أيضاً ليكون شأنهما شأن الناس، ولم يجيء في الأسطورة أي ذكر للملكة
وحديث النهر وحديث الملكة وقصة قلقها وحزنها كل ذلك من خيال مؤلف المسرحية، ذكرها ليصور مسرحيته وعرض مشاهدها ونسقها كما شاء له خياله متخذاً أسطورة البئر أساساً للمسرحية. . .
هذا هو التصحيح الذي أردته، وأسأل الأستاذ قطب المعذرة مرة أخرى
محمود عزمي
أسئلة
سيدي رئيس تحرير الرسالة
تتبعت كل ما قيل في تفسير بيت ابن عربي. بذكر الله تزداد الذنوب الخ في أعداد الرسالة السابقة وقد ذهب الأستاذ الباجوري إلى أن لرجال التصوف نظرات عكسية تقلب الحقائق
المعلومة إلى حقائق أخرى عليا لا يدركها غير أهلها. لذا أرجو من الأستاذ الباجوري أو الدكتور زكي مبارك الذي توصل لحل الكثير من قول أعلام الصوفية أن يفسر لي أحدهما تفسير ابن عربي لقوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً). ولقوله تعالى: (أنا ربكم الأعلى)
قال ابن عربي أُغرقوا أي قوم نوح في بحار العلم بالله وهو الحيرة، فأدخلوا ناراً أي نار المحبة، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً، فكان الله عين أنصارهم وأن الكل بالله ولله بل هو الله
أما قول فرعون أنا ربكم الأعلى وإن كان الكل أرباباً فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون باختصار من كتاب النصوص. إه. والسلام عليكم ورحمة الله
(بواد وباوي. أم درمان)
يوسف عمر أغا
الجمعية العربية ببريطانيا
اجتمعت الهيئة العامة للجمعية العربية ببريطانيا يوم الأحد الموافق 7 يولية سنة 1940 في الساعة الخامسة بعد الظهر وقررت ما يلي:
أولاً: أن تبقى أموال الجمعية (ومقدارها مائة وثمانية وعشرون جنيهاً وستة عشر شلناً وبنسان) باسم (الجمعية العربية) في المصرف. ويودع حق نقل مالية الجمعية إلى ثلاثة أشخاص يمثلون ثلاثة أقطار عربية يكون لهم كاتم للسر من بينهم. وانتخب السادة: عبد المعز نصر (عن مصر) وموسى الحسيني (عن فلسطين) وعبد العزيز الدوري (عن العراق). ثم انتخب السيد عبد العزيز الدوري ليكون (نقيب الجمعية) أو كاتم السر
ثانياً: في نهاية الحرب، ترسل الهيئة الموكلة بياناً إلى الطلاب العرب في إنجلترا بواسطة:
(أ) المفوضيات والقنصليات العربية في إنجلترا
(ب) مكاتب البعثات والنوادي العربية في إنجلترا
(ج) الجامعات
(د) الصحف العربية
تنبئ فيه الطلاب العرب في إنجلترا بأن (الجمعية العربية)(1937 - 1940) تركت مبلغ (128 جنيهاً و16 شلناً وبنسين) لجمعية عربية تؤسس بعد الحرب في إنجلترا بشرط:
(أ) أن لا يقل عدد أعضائها عن خمسة عشر عضواً على أن يمثلوا قطرين عربيين على الأقل
(ب) أن تقبل مبدئياً دستور الجمعية العربية (ببريطانيا) السابقة.
(ج) أن يشهد بذلك أحد الوزراء المفوضين العرب في لندن
(د) وينقل حق التصرف بأموال الجمعية لأول جمعية عربية تثبت تحقق الشروط السابقة فيها.
ثالثاً: وإذا لم تؤسس جمعية عربية في إنجلترا بعد انتهاء سنتين من إمضاء معاهدة الصلح فإن اللجنة تتصرف بأموال الجمعية حسب مواد قانونها الأساسي
هذا مع العلم بأن الجمعية العربية قد وقفت أعمالها مدة الحرب
عبد العزيز الدوري
نقيب الجمعية العربية ببريطانيا
القصص
مكافأة رلف. . .
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان النسيم يهب من جانب البحر لطيفاً هادئاً ولكنه بارد على الرغم من هدوئه، وكان رلف مانرنج يرتعش وهو واقف ويدثر نفسه بردائه وقد قلب ياقة السترة ولفها حول عنقه، وقد استمر وقوفه مدة طويلة وهو عديم الحركة. ثم مشى وهو يتلفت نحو كل باب يمر به ليعرف أي المنازل هو الذي يريد، ورأى على ضوء المصباح الرابع في ذلك الطريق منزلاً ذا حديقة صغيرة فوقف أمامه واشتد خفوق قلبه وحاول عبثاً أن يهدئ من اضطرابه، ثم أخرج من جيبه مظروفاً وراجع وصف المنزل الذي يراه على ما كتب على ذلك المظروف بالرغم من أن ما يقرؤه كان منطبعاً في ذاكرته وبالرغم من أن هذا المنزل هو الذي يريده بغير شك
وحاول رلف أن يفحص المنزل فيما وراء الحديقة؛ ولكن النور كان قليلاً فلم يستطع أن يرى غير هيكل يحيط به الظلام. ففتح باب الحديقة ومشى فوق ممر ضيق بين النبات. ولما صار أمام باب المنزل عاد إلى الوقوف مرة أخرى وهو يحاول تهدئة نفسه، ورفع بصره فوجد مصباحاً ضئيلاً يضيء في إحدى الغرف. أما سائر النوافذ فكانت مغلقة؛ فدق الجرس وهو يسائل نفسه كيف يقابل الفتاة التي جاء لمقابلتها؟ وفتح الباب فتنهد تنهد الراحة، وأطلت الخادمة فسألته ماذا يريد. فسكت لحظة ثم قال: هل بيرتا كاستر هنا؟
قالت: سأسأل، ولكن من أنت؟
فتردد رلف قبل الإجابة ثم قال: قولي لها إن صديقاً قديماً يريد مقابلتها!
فظهر الارتباك على وجه الخادمة من عدم ذكر الاسم، وقالت: انتظر قليلاً حتى أعود
ثم أغلقت الباب ودخلت. فابتسم رلف ابتسامة مؤلمة من لجوئها إلى هذا الاحتياط
وبعد قليل عادت وقادته إلى غرفة الاستقبال، فجلس وهو يدير لحظة في كل ما حوله ليفحص المكان، وقد اجتمعت في ذهنه في هذه اللحظة كل الذكريات القديمة. ورأى على
المكتب صوراً في أُطُر، فنظر إلى إحداها نظرة طويلة وقد علت وجهه مسحة من الحزن وهو ينظر إلى الوجه الجميل الذي يراه في الصورة ويوازن بينه وبين هذا الوجه الذي شهده في أيامه الأخيرة
وقد شوش عليه هذه الخواطر فتح الباب ودخول فتاة، فالتفت إليها ولاحظ أنها تتجاهله رغم ما كان بينهما من صداقة متينة منذ سنوات. فقال في نفسه: هل يحدث مرور سبع سنوات كل هذا التغيير أم لأن الخمس الأخيرة من هذه السنوات قد قضيتها في السجن؟
ثم دنت بيرتا فلاحظ اضطرابها وسألته: هل تريد مقابلتي؟ فلم يجبها، لأن اضطرابه كان أشد مما سبق فأعادت سؤالها: لماذا جئت إلى هنا؟
وكانت كلماتها تخرج ببطء وفي شيء من التردد. فمشى نحوها وقد خانه النطق، فقد كان منذ عهد طويل يحلم بهذه المقابلة، وكان قد أعد ما سيقوله في كل مرة فكر فيها في هذه المقابلة. ولكنه الآن لا يذكر حرفاً واحداً.
قالت: ماذا تريد؟ فأجابها: لقد جئت. . . ألم تلاحظي يا بيرتا أن حبي إياك لم يتغير بعد كل هذه السنوات؟
قالت بيرتا: لقد كنت أظن بعد حدوث. . . ثم سكتت فجأة كأنما أرادت أن تصوغ جملتها في أسلوب آخر. وقالت: لما كنت أعني بحبك لما كنت تستحقه. ولو أنك كنت تحبني حقاً لما هبطت هذا الهبوط.
فأصفر وجه رلف وعرته رعشة وقال: هل أنت تعتقدين إجرامي؟
فتراجعت بيرتا قليلاً وقالت: ماذا كنت أعتقد غير ذلك؟ إن القرائن كلها ضدك وأنت لم تدافع عن نفسك أي دفاع؛ وقد حاولت أن أفهم كيف لا تكون أنت المجرم؟
فمشى رلف في الغرفة ذهاباً وجيئة وهو مفقود الصبر، ثم وقف أمامها فجأة وقال: أقسم بشرفي أني لم آخذ المال، وأنت تقولين أنك تحبينني، ولكنك تعتقدين أني مجرم؛ وأنا أقسم بشرفي أني بريء يا بيرتا.
ثم قال بلهجة مؤلمة: لقد قضيت خمسة أعوام في الجحيم؛ ولكن آلامي في هذه المدة لا تذكر بجانب الآلام التي أعانيها في المستقبل إذا أنت طردتني.
لم تجبه بيرتا وكانت في أعماق نفسها تعرف أنها تحب الرجل ولكن شبح الجريمة المنكرة
التي كانت تعتقد أنه ارتكبها قد حال بينها وبين الجواب الذي تود من صميم قلبها أن تجيب به.
ومشى رلف نحو الصورة التي كان ينظر إليها أولاً ويلاحظ الشبه التام بين صاحب هذه الصورة وبين أخ لبيرتا؛ ثم عاد إلى الالتفات نحوها وقال: وقال إذا برهنت لك على براءتي، فهل تتزوجين مني؟
فأطالت نظرتها إليه وقالت: ربما، ولكن من الصعب أن أعد. إنك الآن غريب وإن أخي. . .
ثم أحنت رأسها فاغرورقت عينا رلف بالدموع وقال بصوت يدل على التأثر: لقد علمت.
قالت بصوت فيه رنة البكاء: هل سمعت؟
فلم يجبها ولكنه عاد الالتفات للصورة.
قالت: لقد كنت أحبه؛ وبعد ذلك الحادث استقال من منصبه، وكنت أحاول منعه عن السفر ولكنه سافر وحصل على عمل في روسيا وقد مات بعد عهد قصير وكنت يوم سفره أشعر بأني فقدت كل شيء.
فقال رلف: لقد كنت معه عند موته.
التفتت بيرتا وأصفر لونها وابيضت شفتاها وأخذ يقص عليها كيف قام بواجباته في مدة المرض والاحتضار وبعد الوفاة. فقالت: شكراً لك يا رلف ولكن كيف قابلته؟
قال: بعد خروجي من السجن أردت السفر لأتناسى هذه النكبة وعلمت أنه سافر إلى روسيا فسافرت إليها فأدركته في الوقت الأخير.
وكان هو يتكلم يلاحظ ما يبدو عليها من التأثيرات، فأدرك أنه إلى ما قبل هذه اللحظة لم يكن يعرف مقدار حبها لأخيها.
وكره استمرارها على هذه الحالة النفسية فحاول تغييرها وجثا على ركبتيه بالقرب منها وأمسك بيديها وقال: ألا تسمحين يا بيرتا بأن تجعلي لي من قلبك مكان أخيك؟ إنني أجعل حياتي كلها وقفاً على إسعادك. تعالي نسافر من هنا فنقيم في مكان بعيد نحاول فيه نسيان هذه الذكريات.
فخلَّصت بيرتا إلى إحدى يديها من بين يديه ووضعتها فوق رأسه. فشعر رلف في هذه
اللحظة بالسعادة التامة. وقالت: أنت تعرف يا رلف أني أحبك ولكنك تعرف الذي يحول بيني وبينك. وعليك أن تبرهن على أنه خطأ.
قال رلف: إنني لا أستطيع يا بيرتا أن أبرهن على أني بريء؛ ولكن ألا تثقين بما أقول؟ إذا كنت تحبينني فيجب أن تثقي بما أقول.
فلم ترفع بيرتا رأسها ولم تجب. فوقف رلف ثم مشى متباطئاً نحو الباب وهو يأمل أن تستوقفه بكلمة. ولكنها لم تتكلم. ففتح الباب ورأسه منحنٍ إلى الأمام، واجتاز الممر على مهل وهو لا يزال يأمل أن تناديه. فلما صار عند باب الحديقة أخرج من جيبه اعتراف أخيها ومزقه بحالة تدل على أن عزمه على تمزيقه كان نتيجة فكرة فجائية. ووقف ذاهلاً وهو لا يعرف كم وقف.
وشعر بيد توضع فوق كتفه، وصوت رقيق يقول:(إنني يا رلف أكتفي بقولك فإني أثق بك وبما تقول).
عبد اللطيف النشار
تعليق المترجم
رحم الله الشاعر العربي الذي يقول:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
…
ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل
…
به سكتة حتى يقال مريب
لقد ظلموا ذات الوشاح ولم يكن
…
لنا في هوى ذات الوشاح نصيب