الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 396
- بتاريخ: 03 - 02 - 1941
في عيد الهجرة
تقليد كريم
يسنه صاحب الجلالة الفاروق
(لكاتب كبير)
لم يكن رأس السنة الهجرية من الأيام التي تحتفل بها الحكومة المصرية بصفة رسمية، وإنما يرجع هذا التقليد المحمود إلى دعوة هتف بها شباب الحزب الوطني قبل أكثر من ثلاثين سنة على لسان (إمام واكد) الذي سُجن فيما بعد مدة طويلة بعد أن حوكم في قضية سياسية كان لها في قلوب الجماهير دويٌّ وضجيج.
وقد استجابت الحكومة لتلك الدعوة في سنة 1327 وكان رئيس الحكومة يومئذ بطرس غالي باشا، فتقرر أن تُغلق المصالح والدواوين في اليوم الأول من السنة الهجرية، وبهذا أضيف يوم الهجرة إلى الأعياد الرسمية.
ولكن الاحتفال بذلك اليوم لم يُصبَغ بصبغة التعميم، فقد كان في بداية أمره مقصوراً على حفلة يقيمها الحزب الوطني في (كلية مصطفى كامل) بحيّ الجمالية. وقد حضرت ذلك الاحتفال مرة واحدة، وهي أول مرة وآخر مرة رأيت فيها الزعيم محمد بك فريد الرئيس الثاني للحزب الوطني. وكان خطيب الحفلة علي فهمي كامل بك، الذي مات وهو يخطب في رثاء محمد فريد، في مساء الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة 1926.
ثم اتسع نطاق الاحتفال بعيد الهجرة بعد ذلك، فكان يحتفل به في الأزهر وفي الجمعيات الإسلامية.
ويظهر أن أول وزير أشار بأن تقام الحفلات في المدارس الأميرية تكريماً لعيد الهجرة هو معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف.
ثم ماذا؟
ثم صار الاحتفال بعيد الهجرة موسماً عظيماً بفضل التقليد الكريم الذي شرعهُ جلالة الملك حين رأى أيده الله أن يحضر الحفل الجامع الأزهر الشريف. وهي أول مرة يظفر فيها عيد الهجرة بمثل هذا الاهتمام المرموق من ملك مصر والسودان، وفي معيته الشيوخ والنواب
والوزراء وسفراء الممالك الإسلامية.
وحفلة عيد الهجرة في الجامع الأزهر بالقاهرة تذكِّر بصلاة (الجمعة اليتيمة) في جامع عمرو بالفُسطاط. فالجمعة اليتيمة يحضرها ملك مصر في كل سنة باحتفال جليل في جامع عمرو، لأنه أول مسجد أُسس في الديار المصرية بعد أن فتحها عمرو بن العاص؛ وكذلك ظفر الأزهر بمنغم جديد هو جعله بصفة رسمية مكان الاحتفال بهجرة الرسول.
ولكن بقي شيء وأشياء.
بقى التفكير في جعل هذا العيد موسماً حيويًّا يتصل بأذواق الناس في فنون المعاش؛ ولا يكون ذلك إلا يوم يصبح هذا العيد وله فَرحة دنيوية تشبه فرحة الميلاد في الغرب، وفرحة النيروز في الشرق. وهذه الفرحة لا تتمَّ إلا إذا وصلناه بحياتنا الاجتماعية، فمنحناه فرصة من الوقت تسمح بأن تكون أيامه مجالاً للهدايا والرحلات والانشراح
من الجميل حقاً أن يبكِّر إمام جلالة الملك فيصلي الصبح بمسجد الحسين، ثم يخطب في الناس مذكراً بما عانى الرسول من مكاره الاغتراب في سبيل الدين. ومن الجميل حقاً أن يخطب شيخ الأزهر بعد صلاة المغرب مذكراً بفضل الأذى في إذكاء الأرواح والقلوب
كل أولئك جميل، ولكني أعتقد أنه لا يصيَّر هذا السيد موسماً شَعْبياً بالمعنى الذي نريد، كموسم (المولد النبوي)، وهو موسمٌ اتصل بأذواق الناس إلى أبعد الحدود، وإن لم يصل إلى الغاية في خلق فنون أدبية تذكِّر بالفنون التي خلقها النيروز في العصور الخوالي
فما الذي يمنع من أن تفكر وزارة الشؤون الاجتماعية في تنظيم عيد الهجرة تنظيماً دنيويًّا بعد أن فكرنا في تنظيمه تنظيماً دينياً؟
عيد الميلاد في الغرب له تقاليد دنيوية هي السبب الأكبر فيما له من جاذبية، فكيف يفوتنا أن نجعل لعيد الهجرة تقاليد دنيوية بخصائص تغاير خصائص عيد الميلاد؟
قد يقال إن قرب عيد الهجرة من عيد الأضحى يمنع الحكومة من السخاء بالامتيازات التي تجود بها في الأعياد، وهذا حق، ولكن لا بدّ من التفكير في خلق أسلوب جديد يجعلنا نشعر في أول ليلة من المحرّم بأننا مقبلون على عيد سعيد
تعوّد المصريون أن يذكروا موتاهم في الأعياد الإسلامية، وبذلك ضيعوا على أنفسهم فرصة الانشراح في ليالي الأعياد، فهل يكون عيد الهجرة فرصة لموسم جديد لا تزرف فيه
الدموع ولا تشق الجيوب؟
افرحوا، أيها الناس ولو متكلفين!
افرحوا، أيها الناس ولو متصنعين!
افرحوا، افرحوا، فالفَرَح هو الزاد الوحيد الذي لم يذقه الناس جيداً في مصر والشرق
افرحوا لأفرح معكم، ولأوق بفضلكم نعمة الشهود لمواكب الأفراح!
(كاتب)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(في قصر جلالة الملك - التجني على مصر والشرق - أهل
الكهف - حشو اللوزينج - مناجاة القمر ومناجاة الشمس -
إلى طلبة السنة التوجيهية - الهجوم الآثم على الشيخ سيد
المرصفي - إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)
في قصر جلالة الملك
كان من الحظ السعيد أن ألتفت إلى الروح اللطيف الذي يسود جوّ التشريفات يوم دخلت قصر عابدين مع المهنئين بقدوم العام الهجري الجديد
فماذا رأيت هنالك؟
كنت أحسب أن الناس يقيدون أسماءهم في الدفاتر ثم يخرجون، كما كنت أصنع قبل أن ألتفتَ إلى ذلك الروح اللطيف؛ ولكني في هذه المرة عرفت ما لم أكن أعرف، فقد رأيت المهنئين من وزراء ونواب وشيوخ وأعيان وعلماء يتلاقون فرحين مبتهجين، ثم يتبادلون الأحاديث الطوال، وكأنهم تلاقوا على ميعاد في مكان يرحِّب بتلاقي القلوب أطيب الترحيب
كان الرجال يستقبل بعضهم بعضاً في بشاشة وأريحية، وكان كل زائر يرى نفسه في داره، وقد تجرَّد مما يجري خارج القصر من مختلف الشؤون؛ فهو في حَرَم مقدَّس لا تهتف فيه النفوس بغير معاني الرفق والصدق والإخلاص
في قصر جلالة الملك ترى للوجوه ملامح لا تراها إلا هنالك؛ فقد ترى رجالاً يتلاقون مبتسمين منشرحين، وكنت تعرف من قبل أنهم لم يكونوا إلا متباعدين متنافرين، فتدرك أن جلال المكان يوحي بالتآخي والصفاء
إن باب ذلك القصر يُفتَح للجميع في المواسم والأعياد، فما الذي يمنع من اغتنام هذه الفرصة السخيّة لنتخذ منه ملتقى لأرواحنا وقلوبنا في كل موسم وفي كل عيد؟
لا بدّ من لحظات ننسى فيها شو اجر الخصومات اليومية، ونلتقي فيها منزهين عن أسباب
التعادي والشقاق، فكيف يفوتنا أن نجعل رحبات ذلك القصر ميادين لسباق العواطف في تلك اللحظات؟
أقول هذا وقد شفى الله صدري من خصومات محاها تلاقي الوجوه والقلوب في قصر جلالة الملك، فرجعت وفي صدري أنوار لم أشهد مثلها من قبل، والمكان الطيب كالبلد الطيب لا يثمر غير الخيرات والبركات
أعزّ الله جلالة الملك، وجعل قصره موئل العواطف والأرواح والقلوب، وأدام على أمته نعمة الأنس بنفائس المعاني وكرائم الأغراض
التجني على مصر والشرق
أنا لا أقول بموجب التغاضي عما في مصر والشرق من عيوب، فالدعوة الإصلاحية قد توجب أن نكشف عن مواطن الضعف في مصر والشرق، وإنما أكره أن نتجنى على بلادنا بلا موجب معقول، فذلك يوحي إلى القراء أننا خلقنا متخلفين عن جيش العبقرية والنبوغ.
أكتب هذا وقرأت كلمة الأستاذ (محمود) عن روزفلت هو العبقريّ (الكسيح) ففي رأي هذا الكاتب أن الشلل لو أصاب طفلاً مصريَّا أو شرقياً بمثل ما أصاب روزفلت لكان مصيره أن يكون (تافهاً ساقط النفس خائر العزم مريض القلب) وما لمثل هذا التجني حملتا الأقلام، أيها المربي المفضال.
في مصر والشرق مئات من أصحاب العاهات وصلوا إلى منازل لا تقل في قيمتها الجوهرية عن منزلة روزفلت، إلا أن تكون (رياسة الحكومة) هي المثل الأعلى بين منازل التشريف!
وما خطر الكساح في أرض مثل أمريكا، وقد عرف أهلها أن مرجع الحكم إلى العقل؟
إن كان عندك بقية من الإنصاف، أيها الأستاذ، فوجهها مشكوراً إلى المجاهدين في مصر والشرق، ولا أقصد المجاهدين من أصحاب العاهات، فأولئك رجال أقاموا ألوف البراهين على ما يملكون من قوة العزائم والنفوس، وإنما أقصد المجاهدين من أهل السلامة في الأجسام والحواس، فأولئك أقوام يعانون كساحاً أفظع وأثقل من الكساح الجثماني؛ فالكسيح جسمياً يشعر بأنه مشدود إلى الأرض من وجهة حسّية، أما الكساح الذي يرزأ به الرجل السليم من أخل النبوغ والعبقرية فيُرمى عليه من المجتمع المتخلِّف، المجتمع الذي ينظر
إلى النوابغ والعبقريين بارتياب واحتراس، ثم يشدهم بعنف ليقيموا حيث أقام في حضيض الغفلة والجمود.
في أوربا وأمريكا يتلهف الناس إلى المبتكر الطريف في الآداب والفنون، فيمضي الأديب إلى غايته وهو مطمئن إلى السلامة من تجني المجتمع عليه، فكيف ترى الناس يصنعون في (أفريقيا وآسيا) أو في (مصر والشرق) وقد أقفِل باب الاجتهاد في الأدب، كما أقفل باب الاجتهاد في الدين.
كما ظفرنا به من الحرية
في الأدب هو الجدال حول القديم والجديد. وقد ظهر بعد أن انجلت المعركة أن الخلاف لم يَدُر إلا حول الأسلوب، ففلان من أنصار الجديد لأنه لم يستأسر لمثل أسلوب الجاحظ أو ابن العميد، وفلان من أنصار القديم لأنه لم يتحرر من أساليب القدماء.
أما التجديد في الفكر، فهو محرمٌ علينا تحريماً قاطعاً. وليس من حقنا أن نصارع الأمواج الفكرية إلا إذا جازفنا بحقوقنا المشروعة في التمتع بثقة المجتمع، وهو لا يثق بنا إلا إن جاريناه فيما درج عليه من إيثار القرار والركود.
وليس هذا شهادة على أننا خضعنا لأهواء المجتمع فيما نعالج من فنون الفكر والعقل، فقد ثُرنا عليه في كثير من الظروف لنوجهه كما نريد، ولكن تلك الثورة لم تمر بلا عقاب، فقد رأينا أن المناصب الفكرية أصبحت وقفاً على الموسومين بمسايرة المجتمع في ضلاله وهداه، ولم يصل إليها من أحرار العقل إلا أفرادٌ آزرتهم قوىً سياسية لا فكرية. ولو كان العقل وحده هو الذي يقدِّم ويؤخر لرأينا في مصر والشرق موازين غير تلك الموازين، ولكان من المؤكد أن تشهد مصر ويشهد الشرق موسماً جديداً من مواسم المذاهب والآراء.
إن رئيس الحكومة يستهدي جلالة الملك ألقاب التشريف لمن يتبرع بمبلغ من ماله الموروث لإحدى الجهات الخيرية، وذلك تشجيعٌ واجب، وهو يحض الأغنياء على بذل أموالهم في أبواب الخير، ويروضهم على الاقتناع بأن الدولة ترعى الضمائر اليواقظ، فتجزيها خير الجزاء.
ولكن الدولة التي تحفظ جميل المحسنين بأموالهم تنسى المحسنين بعقولهم، وإلا فهل تذكر الدولة جماعات المكافحين في سبيل الأدب والبيان وهم يؤدون خدمات تعجز عنها المدارس
والمعاهد والكليات؟
المال يُعَدّ فيكون له حساب، أما الدم الذي يُسفح على سنان القلم في تجاليد الليالي فليس له حساب. ولو أن حملة الأقلام الجياد كانوا أنفقوا أعمارهم الذواهب في الاتجار بالتراب لوصلوا إلى إدانة الدولة بما يستوجب أن تستهدي لهم من جلالة الملك ألقاب التشريف، بدون انتظار أو اقتضاء. . . فمتى تسمع الدولة هذا الصوت وهو تذكيرٌ بواجبها في إعزاز العقل؟ لقد حَفِيَ قلمي وهو يذِّكر الدولة بحقوق الأدب الرفيع، الأدب الذي تَدين له الدولة دَيناً أرزن من الجبال، وهي تعرف وكأنها تجهل، وتجاهلُ العارف قد يَثقل في بعض الأحايين!
ذلك المصير المحزن هو مصير أرباب الفكر في مصر والشرق، فمن توهم أنهم في بلادهم سعداء فهو مخلوق نقلته الغفلة من أرض الواقع إلى سماء الخيال. . . وما أسعد الغافلين!
هل سمعتم بالأدب القديم عند السُّريان؟
قيل: إن السريان كانوا أقدر الأمم القديمة على نظم أغاني الحزن والبكاء، فهل كان لذلك خمن سبب غير ابتلائهم الموصول بالكوارث والخطوب؟
ونحن في مصر أمعنّا في الدعوة إلى نظم أناشيد الجهاد، مع أننا كل لحظة في جهاد، فمتى ندعو إلى نظم (نشيد العدل) ومن بلوانا بالظلم صرخ الدهر صرخة الإشفاق؟
كم مرة فكر فينا مَن نخاطر في سبيل إسعادهم بأعز ما نملك وهو العافية؟
إن الزميل الذي يعرف في سريره قلبه أنه مَدينٌ لك ولو بلمحة من لمحات القلب والعقل، والذي يؤمن بأن الحياة الأدبية مدينةٌ بعض الدَّين لصرير قلمك، والذي يوقن بأنك نقلت صوت مصر إلى إسماع الشرق، هذا الزميل يتلقف إخبارك من أفواه أعدائك ليجوز له التطاول عليك في غيبتك، عساه يشفي صدره الموبوء بجراثيم الضغائن والحُقود.
وفي مثل هذا الهواء الفاسد يعيش الأديب في مصر والشرق ثم ينسى الناسون أنه لم يكن من المكافحين، وأن الشلل لو أصابه بمثل ما أصاب روزفلت لأصبح من المتسولين!
حدثتنا إحدى المجلات أن جرائد أمريكا عابت على روزفلت أن يُرقى كاتبه بلا استحقاق، وأنه أجاب: كيف لا يستحق الترقية وهو الذي يكتب خُطبي؟
فأي رئيس في مصر أو في الشرق يطمئن إلى عقل أمته فيصرّح بمثل هذا التصريح؟
وأين من يعترف للكاتب بأنه عنوان مصر من الوجهة العقلية أو السياسية؟
وهل يستطيع (خلف الأحمر) أن يميط اللثام عن وجهه ليقول: إنه المنشئ الأصيل لهذه الخطبة أو تلك، والمؤلف الأصيل لهذا الكتاب أو ذاك؟
وهل صدّق الناس قول (خلف الأحمر) قديماً حتى يصدقوا قوله حديثاً؟
الفرق بين (الخلفين) أن الأول استفاد من تزوير القصائد والأراجيز، أما الثاني فلم يظفر بغير الخيبة والحرمان.
أما بعد، فأين أنا مما أريد، وقد انتقلت من الدفاع عن مصر والشرق إلى الهجوم على مصر والشرق؟
أنا أريد القول بأن الحيوية لم تنعدم أبداً من مصر والشرق، والكساح الذي فرضته الصُّروف على الأفكار والعقول لم يمنع المصريين والشرقيين من الجري في ميادين الفكر والعقل، ولو اعتدل الميزان لعرف قوم أن القليل منا كثير وفوق الكثير، لأنه يُبذَل من دماء القلوب، ولأنه يقدَّم بلا انتظار الثواب، وقد يقدِّم من انتظار العقاب، فالفضل ذنب من لا ذنب له في (بعض) البلاد!
السائر الذي يقطع ألف مِيل في طريق مسلوك ليس أعظم من السائر الذي يقطع مائة خطوة في طريق شائك، ولكن أين من يعرف؟
والكاتب الذي يُعَدّ قراؤه بالملايين ليس أعظم من الكاتب الذي يُعَدّ قراؤه بالألوف، وقد ظهر الأول في الغرب وظهر الثاني في الشرق.
ارفعوا عن كواهلنا الأثقال، وانزعوا من أغلالنا، ثم انظروا كيف نستبق إلى أجواز الفكر والخيال.
فإن عجزتم عن تحرير كواهلنا وأقدامنا فحرروا قلوبكم من آصار الحسد والحقد لنشعر بأننا سنُجزَي على صدق الجهاد، ولو بالبَسمات والدعوات الصالحات.
إلى من يتوجه قلب الأديب في أمثال هذه البلاد، وهو من كيد الزملاء في عناء؟
إلى من يتوجه؟
يتوجه إلى الله الذي جعل سواد المداد أشبه الأشياء بسواد العيون فهو يحيي ويميت كيف يشاء.
يتوجه إلى الله، وهو الأنس الأنيس لغرباء الأرواح والقلوب.
يتوجه إلى الله خالق الشرق والغرب وفاطر الأرض والسموات، الله الذي أقسم بالقلم في كتابه المجيد، فكان بشهادته السامية أكرم ذخائر الوجود.
يتوجه إلى الله الذي جعل بأس القلم أفتك من بأس النار والحديد، ومن القلم يخاف من لا يخاف، ومن صريره استعاد من لا يَهُو لهم زئير الأسود.
يتوجه إلى الله الذي يجعل من عزلة الكاتب دنيا صاخبة هي العِوض الأنفس من كل ما يفوته من الأنس بالمجتمع الصخاب. وهل يعرف الكاتب ما هي العزلة ودنيا الناس جميعاً ليست إلا سُمّ الخياط بالقياس إلى دنياه الفيحاء؟
يتوجه إلى الله الذي يخلق الضر للنفع، والذي يبتلي الأديب بما يشاء، ليصوغه كما يشاء، وليكون حجته البالغة على أن العاقبة للصابرين.
متى أومن بك يا ربي؟ ومتى أعرف حكمتك في بعض ما سوّيت من المخلوقات؟
ارفع الحجاب لحظة واحدة لأومن بأنْ ليس في الإمكان أبدع مما كان.
حول أهل الكهف.
أحسنَ فضيلة الشيخ عبد المتعال الصعيدي في استدراكه على ما سميته (الرواية الإسلامية) في تحديد عدد أهل الكهف، فهذه التسمية قد توهم أن ذلك هو الرأي الإسلامي بدون موجب لذلك. والحق أني لم أرد غير إثبات رأي كان قال به فريق من المسلمين قبل نزول سورة الكهف، وفي هذا الرأي ما يكفي لمناقشة المؤلف في خلق بيئة الرواية المسرحية، لأن هذا الرأي كان يجعل جمهوره أعظم وأضخم فيتيح له فرصة التعمق لدرس طوائف من المعضلات الاجتماعية.
أما كلمة الأديب حسين محمود البشبيشي فهي تشهد بأنه قرأ الرواية وقرأ النقد بفهم، ولكني أرجوه أن يلقاني بعد عامين، فقد يعرف من الأيمان والارتياب ما لم يعرف، وقد يدرك أني رميت إلى غرض فات عليه، لأني أرمز إلى معانيَ كثيرة في أغلب ما أعرض له من الشؤون.
وهنا يجب النص على أن مقالي في نقد رواية أهل الكهف وقع من الأستاذ توفيق الحكيم موقع القبول، ولم يعترض إلا على عبارة واحدة، وهي العبارة التي تقول بأنه ليس من
أرباب الفكر العميق، وهو اعتراض يؤيده أسف الشاعر صاحب (الجندول) هو يرى أن الحكيم مفكر متعمق وإن أظهرته السخرية بغير ما هو عليه. وأنا أيضاً أرى الأستاذ الحكيم من ذخائرنا الأدبية، وقد أعلنت إعجابي بكتابه (عصفور من الشرق) في كثير من المناسبات، وفي بيئات لا تخطر في بال، فقد وجهتُ إليه أنظار أهل الأدب في العراق، وليس ذلك بالقليل في تكريم هذا التصديق.
الأستاذ الحكيم رضي عن مقالي في نقد مسرحية أهل الكهف، فما شأنك أنت، يا سيد حسين؟
التفت إلى دروسك، أيها التلميذ النجيب، قبل أن أشكوك إلى أبيك!
حشو اللوزينج
سألنا الأديب فخر الدين عزي عن كتاب الثعالبي في (حشو اللوزينج) أين توجد؟
وأجيب بأن الثعالبي قال إنه كتاب (صغير الجِرم لطيف الحجم) ومعنى ذلك أنه رسالة صغيرة سجَّل بها ما صعُب عليه تسجيله في كتاب (ثمار القلوب) لئلا يخرج على شرط التأليف ولم يتفق لي أن أظفر بهذه الرسالة، فأرجو هذا الأديب أن يؤلف رسالة في معناها، فقد وَضَح المنهاج، ولم يبق إلا تقييد الشواهد وهي مبثوثة في رسائل الكتّاب وقصائد الشعراء.
مناجاة القمر ومناجاة الشمس
خطرتُ في بال الأستاذ محمود البشبيشي وهو ينظم مقالهُ في مناجاة القمر، فهل يعلم أنه خطر في بالي وأنا أنظم مقالي في مناجاة الشمس؟
سأوجه إليه هذا المقال بعد أن تنشر (الرسالة) كلمتي عن البلبل والروض، تعقيباً على كلمة وجَّهها إليّ منذ أسابيع، وهي كلمة لم يسرقها من (الجِنية الحسناء) لأنها صدرت في اليوم الذي تلقيت خطاباً فيه، فكان ادعاء السرقة من المستحيلات!
آه، ثم آه!!
لقد ذكرتني نجوى القمر حين صدرتْ عن البشبيشي وهو في المنصورة بنجوى القمر حين صدرتْ عن صاحب (مدامع العشاق) وهو في سنتريس؛ فقد جاء في مقدمة ذلك الكتاب ما
نصُّه بالحرف:
(وإنك لتعلم، أيها القمر، كيف كنت أَصدِف عنك، وأنا أطالع ذلك الوجه الذي نَعِمتَ معي بثغرة المفلِّج، وأنفه الأقني، وطرفه الأحور، وجبينه الوضّاح. وإنك لتعلم، أيها القمر كيف هجرتك حين غاب، وتعلم أني لا أنظر إليك إلا حين السِّرار لأرى كيف يفعل الشحوب بك، وكيف تنال منك الليالي! وإنها لشماتة طفيفة أحزن من بَعدها على خلود متعتك بصِباح الوجوه، وعلى عودتك لشبابك، في حين أني أودِّع كل يوم جزءاً من شباب، ووا حسرتاه على ما أُودِّع من أجزاء الشباب!!)
ولكن لا بأس، فقد نويت أن أعيش إلى أن أرى الشمس والقمر من بعض ما أملك، وما دام هذا القلم طوع يميني فلن يَبيت قلبٌ إلا وهو مني على هوىً أو بغض فما كنتُ في زماني إلا صوت القلب والوجدان.
نويت أن أعيش، نويت أن أعيش، وليس على الله بعزيز أن ينصر أرباب القلوب.
إلى طلبة السنة التوجيهية.
تلقيت خطاباً من الأقصر (بفتح الهمزة وسكون القاف وضم الصاد، وهي جمع قصر، وبذلك سنيَّ العرب تلك المدينة لكثرة ما رأوا فيها من أًقْصُر الفراعين). أقول تلقيت خطاباً من الأقصر بإمضاء (غريب جادو) يثني فيه على الدراسات التي نشرتها (الرسالة) في تشريح الكتب الخاصة بمسابقة الأدب العربي. ثم يقترح أن أكتب مقالاً مفصَّلاً عن كتاب (المكافأة)، ومقالاً آخر عن كتاب (الأدب التوجيهي).
وأجيب بأني فصَّلت القول عن كتاب المكافأة ومؤلفه أحمد بن يوسف في بحث يقع في تسعَ عشرة صفحة من كتاب (النثر الفني)، وليس عندي ما أقوله بعد ذلك البحث المفصَّل، فمن كان يهمه أن يعرف أسرار (المكافأة) فليقرأ ذلك البحث. أما كتاب الأدب التوجيهي فسأخصصه بمقال أو مقالين بعد أسابيع.
الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي
كثرت الخطابات التي تَرِد إليّ في تحقيق ما ادعاه الأستاذ السباعي بيومي في حق الشيخ سيد المرصفي، وكنت أغفلت هذا الموضوع عن عمد، لأن الأستاذ السباعي له عليّ حقوق؛
فقد كان دائماً من أنصاري، ولم آخذ عليه ما يريب ولأن مقام الشيخ المرصفي أقوى من أن يُهدَم بكلمةِ جارحة تساق إليه في إحدى المحاضرات.
ولكن سكوت الأزهريين عن الانتصاف للشيخ المرصفي أزعجني، وكنت أرجو أن يكونوا درعاً واقية لذلك الشيخ الجليل، وهو رجلٌ لم يرِ مِثله الأزهر منذ أجيال طوال.
فماذا أصنع؟
مضايقة الأستاذ السباعي بلاء، لأنه صديقي، والسكوت عن نصرة الشيخ المرصفي بلاء، لأنه أستاذي، فماذا أصنع؟
سأنقل القضية من وضع إلى وضع، فأصيرها قضية أدبية لا قضية شخصية، وأبيِّن أن السباعي بيومي يستُر جنايته على المبرِّد بجنايته على المرصفي.
ولكن كيف؟
سيرى صديقنا السباعي أن (تهذيب الكامل) لم يكن إلا جناية أدبية، وسيعرف أن التطاول على مقام الشيخ المرصفي لا يذهب بلا عقاب.
وقد زعم الأستاذ السباعي أن الشيخ المرصفي سرق بعض أفكاره، فليستعد للدفاع عن النظرية التي نهبها نهباً من كتاب (النثر الفني) ونشرها في مجلة (السراج)
ولكن على شرط أن يؤمن في سريره نفسه بأني أكره البغي على أصدقائي، وأن أمري لم يكن إلا شبيهاً بأمر أكثم ابن صيفيّ حين قال:(إن قول الحق لم يَدَع لي صديقاً).
وإلى اللقاء في غير بغي ولا عدوان، فما أستبيح إيذاء أصدقائي، ولو ظلموا أنفسهم فظلموني.
زكي مبارك.
في الاجتماع اللغوي.
تطور الدلالة
أنواع التطور الدلالي وخواصه.
للدكتور علي عبد الواحد وافي.
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
ترجع ظواهر التطور الدلالي إلى ثلاثة أنواع:
(أحدها) تطور يلحق القواعد المتصلة بوظائف الكلمات وتركيب الجمل وتكوين العبارة. . . وما إلى ذلك، كقواعد الاشتقاق والصرف (والمورفولوجيا) والتنظيم (السنتكس). . . وهلم جرا. وذلك كما حدث في اللغات العامية المتشعبة من اللغة العربية إذ تجردت من علامات الإعراب وتغيرت فيها قواعد الاشتقاق واختلفت مناهج تركيب العبارات.
(وثانيها) تطور يلحق الأساليب، كما حدث للغات المحادثة العامية المتشعبة عن العربية إذا اختلفت أساليبها اختلافاً كبيراً عن الأساليب العربية الأولى، وكما حدث للغة الكتابة في عصرنا الحاضر إذا تميزت أساليبها كذلك عن أساليب الكتابة القديمة تحت تأثير الترجمة، والاحتكاك بالآداب الأجنبية، ورقي التفكير، وزيادة الحاجة إلى الدقة في التعبير عن حقائق العلوم والفلسفة والاجتماع. . . وهلم جرا.
(وثالثها) تطور يلحق معنى الكلمة نفسه، كأن يخصص معناها العام فلا تطلق إلا على بعض ما كانت تطلق عليه من قبل، أو يعمم مدلولها الخاص فتطلق على معنى يشمل معناها الأصلي ومعاني أخرى تشترك معه في بعض الصفات، أو تخرج عن معناها القديم فتطلق على معنى آخر تربطه به علاقة ما وتصبح حقيقة في هذا المعنى الجديد بعد أن كانت مجازاً فيه، أو تستعمل في معنى غريب كل الغرابة عن معناها الأول. . . وهلم جرا.
هذا وللتطور الدلالي بمختلف أنواعه خواص كثيرة من أهمها ما يلي:
1 -
أنه يسير ببطء وتدرج. فتغير مدلول الكلمة مثلاً لا يتم بشكل فجائي سريع، بل يستغرق وقتاً طويلاً، ويحدث عادة في صورة تدريجية، فينتقل إلى معنى آخر قريب منه،
وهذا إلى معنى ثالث متصل به. . . وهكذا دواليك حتى تصل الكلمة أحياناً إلى معنى بعيد كل البعد عن معناها الأول. فكلمة مثلاً كانت تطلق في المبدأ على صنف خاص من الأقمشة الصوفية ثم أطلقت على غطاء مائدة المكتب لاتخاذه غالباً من هذا الصنف، ثم أطلقت على مائدة المكتب نفسها، ثم أطلقت على مقرّ العمل والإدارة لملازمة المكتب له. فلا علاقة مطلقاً بين أول مدلول لهذه الكلمة وهو القماش الصوفي وآخر مدلول لها وهو مقر العمل والإدارة، على حين أن العلاقة وثيقة بين كل معنى من المعاني التي اجتازتها والمعنى السابق له مباشرة
2 -
أنه يحدث من تلقاء نفسه بطريق آليّ لا دخل فيه للإرادة الإنسانية. فسقوط علامات الإعراب في اللهجات العربية الحاضرة، وتغير أوزان الأفعال، وتأنيث بعض الكلمات المذكرة، وتذكير بعض الكلمات المؤنثة، وجمع صفة المثنى، وتأخير الإشارة إلى المشار إليه، وتزحزح كثير من المفردات عن مدلولاتها الأولى إلى حقائق جديدة. . . كل ذلك وما إليه قد حدث من تلقاء نفسه في صورة آلية لا دخل فيها للتواضع أو إرادة المتكلمين
3 -
أنه جبريّ الظواهر لأنه يخضع في سيره لقوانين صارمة لا يد لأحد على وقفها أو تعويقها أو تغيير ما تؤدي إليه. وإليك مثلاً حالة اللغة العربية، فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن وتحريف، ومع أن هذه الجهود كانت تعتمد على دعامة من الدين، فإن ذلك كله لم يحل دون تطورها في القواعد والأساليب ودلالة المفردات إلى الصورة التي تتفق مع قوانين التطور اللغوي فأصبحت على الحالة التي هي عليها الآن في اللهجات العامية
4 -
أن الحالة التي تنتقل إليها الدلالة ترتبط غالباً بالحالة التي انتقلت منها بإحدى العلاقتين اللتين يعتمد عليهما تداعي المعاني ونعني بهما علاقة المجاورة والمشابهة. فتارة يعتمد انتقال الدلالة على علاقة المجاورة المكانية، كتحول معنى ظعينة (معناها في الأصل المرأة في الهودج) إلى معنى الهودج ومعنى البعير؛ وتحول معنى ذقن في عامية المصريين إلى معنى اللحية، وتحول معنى من غطاء المكتب إلى المكتب نفسه، وكتأنيث الرأس في عامية بعض المناطق المصرية (انتقل إليه التأنيث من الأعضاء المجاورة له وهي العين والأذن). . . وهلم جرا. وتارة يعتمد على علاقة المجاورة الزمنية، كتحول
معنى الوغى إلى معنى الحرب، بعد أن كان معناها اختلاط الأصوات في الحرب (فلا يخفي أن العلاقة بين هذه الأصوات والحرب هي علاقة المجاورة الزمنية)؛ وكتحول معنى العقيقة (هي في الأصل الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمه) إلى معنى الذبيحة التي تنحر عند حلق ذلك الشعر. وكتذكير كلمة (فصل الصيف) التي كانت مؤنثة في الأصل لمجاورة مدلولها مجاورة زمنية لمدلول كلمة مذكرة وهي فصل الربيع. وتارة يعتمد على علاقة المشابهة، كتحول معنى الأفن (وهو في الأصل قلة لبن الناقة) إلى معنى قلة العقل والسفه، وتحول معنى المجد (وهو في الأصل امتلاء بطن الدابة من العلف) إلى معنى الامتلاء بالكرم. . . وهلم جرا
5 -
إن التطور الدلالي في غالب أحواله مقيد بالزمان والمكان. فمعظم ظواهره تقتصر أثرها على بيئة معينة وعصر خاص. ولا نكاد نعثر على تطور دلالي لحق جميع اللغات الإنسانية في صورة واحدة ووقت واحد
6 -
أنه إذا حدث في بيئة ما ظهر أثره عند جميع الأفراد الذين شملتهم هذه البيئة. فسقوط علامات الإعراب في لغة المحادثة المصرية لم يفلت من أثره أي فرد من المصريين
ومن هذه الخواص يتبين فساد كثير من النظريات القديمة بصدد هذا التطور
فليس بصحيح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن هذا التطور نتيجة لأعمال فردية اختيارية يقوم بها بعض الأفراد وتنتشر عن طريق المحاكاة
وليس بصحيح كذلك ما ذهب إليه أعضاء المدرسة الإنجليزية وبعض الباحثين من الفرنسيين كالعلامة بريال إذ يرون أن التطور الدلالي يسير باللغة نحو التهذيب والكمال ويسد ما بها من نقص ويخلصها مما لا تدعو إليه الحاجة. وذلك أن اتجاهات كهذه لا يمكن أن تتحقق إلا في تطور اختياري مقصود تقوده الإرادة الإنسانية في سبيل الإصلاح. أما وقد ثبت أن التطور الذي نحن بصدده تطور تلقائي آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية فلا يتصور أن يتقيد في اتجاهه بالسبل التي تقول بها هذه النظرية. وإن موازنة بين الحالة التي كانت عليها اللغة العربية فيما يتعلق بدلالة ألفاظها وقواعدها في الإعراب وغيره وما آلت إليه في اللغات العامية الحاضرة لأكبر دليل على ما نقول؛ فمن الواضح لان هذا التطور لم يتجه دائماً نحو التهذيب والكمال، بل أدى في معظم مظاهره إلى اللبس في دلالة
الكلمات والخلط بين وظائفها وأنواعها وجرد اللغة مما بها من دقة وسمو، وهوى بها إلى منزلة وضيعة في التعبير. وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد مثله في كثير من اللغات. وإليك مثلاً قواعد اللغة اللاتينية التي انقرضت في اللغات المتشعبة عنها، فإن معظم هذه القواعد كان كبير الفائدة في بيان وظيفة الكلمات وتحديد مدلولاتها وتعيين العلاقات التي تربط عناصر العبارة بعضها ببعض، وقد أدى انقراض هذه القواعد في اللهجات المتشعبة عن اللاتينية إلى كثير من اللبس والاضطراب
حقاً إن هذه المذاهب تصدق على بعض مظاهر التطور الدلالي الخاص بلغات الكتابة، فتطور لغات الكتابة يعتمد في كثير من نواحيه على عوامل أدبية مقصودة ترمي إلى تنقيح اللغة وتهذيبها والسير بها في سبيل الكمال.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون
4 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(عود لتوضيح معنى جليل - دنيا المهندسين - صوفية مادية
- إلى المعتمدين على المباحث الروحية - نتائج لقانون
التسلسل والترقي - فرضية لا بد منها - إشارة قرآنية عجيبة
- ضروب من العقول - أدوار المعرفة وأدوار العلم -
إنسانية الشرق المضيعة - العلم دين - أين رجال القمة في
الفكر والخلق؟
يدفعني التفاوت الكبير الذي أشرت إليه سابقاً بين قوة بعض الآلات التي صنعها الإنسان من الحديد وغيره من المعادن وبين قوة الحيوان والإنسان نفسه، إلى أن ألح بالبيان والتوضيح على هذا الموضع لأثبت به الحجة في الدعوة إلى الثقة بالإنسان بعد أن استطاع أن يصنع موجودات عظيمة وقوية تخلفه وتخلف الحيوان في السرعة والاحتمال والانبعاث والدقة في الحساب والرصد وقياس الدقائق وإبراز الخفايا وجلب المنافع والأضرار.
وهذا لا يعني أن هذه الآلات مستقلة بحياتها ومدركة لما تفعله، ولكنه يعني أن الإنسان مد حياته وتفكيره إليها، وأقامها مكانه في رصد حوادث الحياة وأداء بعض أفعاله فيها كي يتفرغ لغيرها ويتجه إلى فتوح وغزوات جديدة في مجاهل الكون. . .
ولست أستطيع أن أغفل هذا التفاوت العظيم بين هذه الآلات، وبين النماذج الحية من أجسام الحيوان التي اتخذها الإنسان أساساً لعمله وطرق إيجاد ما أوجده بدون أن أصل منه إلى مدى بعيد من الاستنتاج قد ينفع العلم وينفع الدين وعلم الاجتماع في تحديد وضع الإنسان. . .
وينبغي قبل كل شيء أن أقول لمن عساهم يخشون من مغالاتي في تقدير قيمة الإنسان وإعجابي بما صنعه من الآلات التي فاقت قدرة الحيوان وقدرته هو على العمل والاحتمال آلاف الأضعاف: إنني لا أبغي من وراء ذلك إلا لفت أنظار الغافلين إلى قدرة الفكر
الإنساني وإلى وجوب تمجيده عن السفساف الحقير من التصرف وإطلاقه يرود وينظر ويعمل في ملكوت الطبيعة. . .
ولا أقصد بتمجيد الفكر الإنساني إلا تمجيد بارئه وواضع أسراره في هذا الجسم المحدود الضئيل. . . فلا يتوهمن متوهم أنني سأخرج بغلوي في تمجيد الإنسان إلى شيء أشبه بإشراكه في الخلق والإيجاد، فإنني قد حددت هذا النوع في مقال سابق بأنه آلة في يد البارئ يتمم بها التنويع والتفريع في خلق المادة وتصويرها.
ولا يسعني غير هذا بعد أن رأيت وفكرت في أعمال تلك الطائفة المجيدة التي لم يلتفت إلى وضعها في الحياة بعد ولم يعرف لها خطرها في تحقيق الغرض من خلق النوع ولم ينظر إليها ولم تنظر لنفسها نظراً صوفياً. . . وأعني بها طائفة المهندسين. . . أولئك الشعراء الصامتين الذين يرسلون قصائد مجسمة ويفعلون الأعاجيب من المواد المبعثرة المشوشة المختلطة الملقاة بدون نظام وتنسيق، ويقيمون منها هذه الأشكال الموزونة المصقولة المنوعة التي عملت فيها آلاف العقول والأيدي بالتلوين والتزيين والإخراج الفَنّي الغني باللفتات الذهنية واليقظة لألوان الشفق وأفواف الزهر، ومزج الأضواء والظلال. . .
أو يقيمون أجساماً آلية تنبض بالنار والبخار وتسعى بهما أو بالكهرباء وتضيف إلى عالم الحركة في الأرض قوى أخرى تملأ مسمع الزمان مع كل ما يدور فوق وتحت. . .
أولئك الذين تسير أعينهم على مواقع يد الله يلقطون أسرارها من غُمار الحياة الزاخرة وعباب المائع و (المتبلور) والجامد، ثم ينظمون كل هذه الأفانين ويتخذونها أساساً لقوة التقليد وقدرة الابتكار التي في أفكارهم وأيديهم
أولئك الذين يسيرون على أسلوب الله من العمل في المادة مع الصمت. . . ويتلقون فيوض المواد والقوى الطبيعية من يده الكريمة فيقسمونها ويوزعونها ما أراده فيها ويجلون ما أخفاه في أطوائها وثناياها ثم يضعونها في الأرض مجملة منسقة متاعاً للعيون ومثابة للأجسام ومظهراً وتأويلاً لأحلام الروح في عالم الجمال
ولن ينتهي العمل الهندسي للإنسان في الأرض إلا بعد أن يملأ شعابها وهضابها وهواءها وماءها وسهولها وأوعارها بآثار يده وفكره. فإنه مخلوق برهن على أنه يصلح للعيش في اليابس والماء والهواء، وأنه لا شيء إلا وهو واجد فيه حقلاً ليده يعمل فيه ويأخذ منه. . .
وإنني ما سمعت صوت قارئ واحد يتلو كلام الله في تمجيد ذاته العليا في محطة الإذاعة فتردد صوته جميع آلات الالتقاط في جميع الأنحاء وتبث ذلك التمجيد إلى زوايا الدنيا وأركانها وطبقات الجو إلا أحسست أن الإنسان ابتدأ يؤدي رسالته وعبادته ويُنطق بها الجماد ويُسمع بها على رغم الأبعاد. . .
تلك صوفية مادية حديثة ينبغي أن تكون من مظاهر التدين في هذه العصور التي تسير فيها المدنية المادية بحياة الإنسان في ساعة واحدة أضعاف ما كانت تسير به مدنيات العصور السالفة في عشرات السنين. . .
نعم إن أصول الدين واحدة ثابتة لا تتغير، ولكن ما نشأ حولها بفعل جهالات الإنسان وتزيداته ينبغي ألا يجعلنا جامدين متحجرين في طرق العبادات، فنفهم أن عباداتنا قاصرة على الأشكال الموروثة بل يجب أن تكون انتقالات العلوم بنا سبباً في أن نعبد الله بها وأن يزيد فكرنا فيه من أجلها. وتلك عبادة مطلقة من قيود الطقوس والرسوم والأشكال. . . عبادة يستطيع أن يقوم بها من يسير بسرعة ألف ومائتي ميل في الساعة. . . ويرتفع إلى طبقات الجو العليا، وينخفض إلى أعماق البحار السفلى. . . ويتنفس في أقصى الشرق فتسمع أنفاسه من أقصى الغرب. . . ذلك الذي يستطيع أن يترك في كل مكان كلمة تشهد بالله وينطق بها الأحجار والأشجار والماء والهواء. . .
فبين العلم المادي والتصوف هنالك يجب أن يقف الإنسان الحديث ينادي الله وفي قبضة يده مفاتيح أسرار المادة ونواميسها وفي قلبه صلاة دائمة جامعة. . .!
وهذه الصوفية المادية تمجد العلم المادي والعمل به وتخضع لدولة الأجسام ولا تثور عليها ولا تعطل قواها بل تنميها، لأنها تعرف أننا ما خلقنا في عالم الأجسام إلا لنعرف قوانينها ونؤمن بها.
وينبغي أن نقول هنا لبعض المغرمين بمباحث الروح الذين يفرحون إذا عثروا على حادثة غريبة لا يمكن تفسيرها تفسيراً مادياً ليتخذوها حجة على وجود قصد وعالم آخر وراء هذا العالم المادي: إن ما تغرمون به وتنفقون حياتكم من أجله لا يمكن أن يبلغ مهما كثر إلى معشار الحجج التي تستطيعون أن تأخذوها من ذلك العالم الظاهر المليء بالعجائب والمعجزات التي لا تحتاج العقول معها إلا إلى حركة ارتداد إلى مبادئ الأشياء، وإلا إلى
اليقظة الدائمة لمراقبة كل شيء والدوران حوله.
وما حاجتنا إلى أن نستمد من عالم غير مرئي حججاً إن رآها شخص فسوف لا يراها آلاف؟ مع أن ما بين أيدينا وما خلفنا مليء بالعجائب التي يراها كل فرد، ويخضع للمنطق المستمد منها كل سليم الطبيعة غير شاذ ولا شارد. (وكأيٍّ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)
فنحن نستطيع بجهد فكري قليل أن نأخذ من هذا العالم المادي الظاهر أدلة كثيرة على أن وراء عالماً آخر بل عوالم أخرى مجردة من قيود حياتنا هذه ولو لم نر من ذلك شيئاً. . . فإن الرؤية ليست هي الطريق الوحيد إلى التصور والحكم.
والنظرة العلمية المبنية على إدراك قانون الترقي وقوة التطور تبين لنا أنه ما دام قد وقف الإدراك بواسطة جسم من الأجسام عند حد الإنسان بعد أن تدرج إليه في سائر أنواع الحيوان، فينبغي أن يكون وراء الإنسان أفق حياة عاقلة أخرى هي بطبيعة سلم الترقي مجردة من الأجسام. وكما أن هذه الآثار والمشاهد البارعة التي نراها في العالم المادي نتيجة لعوامل خفية نوعتها وشكلتها فلا بد أن يكون في غير الأرض آثار ومشاهد أخرى هي نتيجة لعوامل ونواميس أخرى غير التي كان من نتائجها ظهور عالمنا الذي ندركه بحواسنا. وهذا هو اللائق باتساع الكون الذي أرضنا فيه كذرة رمل في صحراء. فلا يصح أن تكون أساساً في الحكم على جميع ما فيه.
وهذا حكم نحكمه خضوعاً للفرضية الآتية التي تحل لنا هذا الإشكال وإن أوقعتنا في غيره. . .:
تخيل إنساناً خرج إلى الحياة أعمى أصم أبكم معدوم اللمس والشم. . . فهل مثل هذا يكون لعالمنا وجود عنده؟ بالطبع، لا. . . ولكننا مضطرون إلى أن نحكم أن عالمنا هذا موجود ولو لم يوجد في حواس هذا الممسوخ. . .
وكذلك نحن مضطرون إلى أن نحكم أن وراء عالمنا هذا عوالم أخرى، ولو لم توجد لنا حواس تدركها. . . لأن هذا هو الذي يتلاءم مع اتساع الكون واتساع قدرة المسيطر عليه، واتساع عالم المفروض والصور في بعض العقول.
وقد أشار القرآن إلى معنى عجيب يتفتح معه خيالنا ويأخذنا في عالم لا نهاية له من
المفروض وإن كان لا طاقة لنا بإدراك ما فيه من الصور. قال: (أفرأيتم ما تُمْنوُن؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبذل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. . .).
وما تحته خط هو موضع النظر الطويل، وباب للخيال المجَنَّح. . . ولكنه خيال مطموس الصور لأنه لم يجد أصباغاً وألواناً ينتزع منها ما يريد أن يؤلفه ويركبه ويَفتَنَّ في تهاويله.
وكيف ذلك وقد قالت الآية: (فيما تعلمون. . .!)
وينبغي لمن لم يدرك ألا ينكر على من أدرك. . . فإن جوانب الكون واسعة ورسالات علم الله إلى العقول كثيرة. . . وليست كل العقول قادرة على الغوص في أعماق الكون. كما أنه ليست كل الأجسام قادرة على الغوص في أعماق الماء. فمن لم يستطع السباحة والغوص في تلك اللجج والرجوع إلى الشاطئ فليلزم وليحذر حتى لا يغرق ويذهب في أهوال المعاني. . .
وما في العالم (المتبلور) (شيء تافه بالنسبة للعالم الذي تلتقي فيه أمواج المعاني ويعب عباب الفروض والغيوب والرموز، ولكن ما فيه لا يكون أساساً لأحكام الحياة الدنيا. . . وعقل الإنسان كطفل الأم: ينبغي إلا تطلقه في المخاطر والمزالق إلا إذا شب وكان له قوة واقتدار. . .
ومن المعقول نوع لا يعيش إلا في أعماق الكون. فإذا طفا على السطح وأخذ بظاهر الحياة اختنق وقلت فيه الحياة، كالسمك الكبير. . .
ومن العقول ما هو مساير لظاهر الحياة لا يتخلف عنها ولا يتقدم. . .
ومن المعقول ما هو واقف متخلف انقطعت به الطريق فلم يصل إلى العالم الفكري الموجود الآن في أذهان الأمم المتحضرة، وهذا عقل مخروم فاته كثير من رسائل الله إلى الفكر الإنساني.
ومن العقول ما هو أسرع من الحياة بحيث يرى مشاهد آخر ساعة فيها كصور مكررة قديمة لا تثير في نفسه تطلعاً، فلو خرج من الحياة لم يخسر شيئاً ولم يفته شيء، وهذا هو العقل الفائق السابق.
والنفس إذا عرفت قرار الحياة وأولها لم تبال بما يحدث في فروعها من تلون وتبدل، وما
عند هذا الصنف من صور كمال الحياة أرحب من الموجود وأكمل. فهو يسير في مستحدثات الأيام كما يسير المرء في طريق معروفة له تردد عليها مراراً من كثرة فكرة في الموجود والمعدوم وما يصح أن يوجد.
وهذا قد يعمل في الحياة بجد وصبر، ويسير كما يسير الغافلون بدفعة دولاب الحياة، وطواعية لحركات سيرها بالناس. وإنما يطيع آمالها ويزاول أعمالها خضوعاً لقانونين عظيمين من قوانينها: وهما الأمل والعمل. . .
وهكذا الطبيعة رسالات من علم الله إلى الفكر الإنساني العام. يتلقاها كل عقل حسب طاقته واتساع حوزته، ويأخذ منها ما قدر ويسر له. . .
فينبغي لمن لم يدرك ألا ينكر على من أدرك. . . ينبغي لرجل الشارع ألا يجادل في عالم (أينشتين) أو (أديسون) أو الغزالي من إليهم من العقول الفائقة التي أطلت على الأرض وكانت فيها كالثمرات التي تلقط أسرار نوعها وتحفظ بذوره وترقيها
وبين الإله البارئ الكبير وما عنده من عوالم المعاني والقوى المجردة والكمالات التي لا تتناهى، وبين عالم المولد والكثافات، وقف الإنسان التائه المتأمل الساعي وراء المعرفة حيناً من الدهر لم يتقدم فيه خطوات كثيرة، ثم انقسم فريقين: فريقاً استمر في التفكير المجرد في الطبيعة وما وراءها، وأدرك بعض اتجاهات الكون باللمحات والنظرات الشعرية الخاطفة، وقنع بذلك حتى خرج من الحياة (عارفاً) غير (عالم) ولا (عامل). . .
وفريقاً أعياه التفكير المجرد، ولم يجد له محصولاً يملأ يديه ويشهد له الناس بأنه أدركه وقنصه، فانصرف إلى أنواع الحياة في الأرض وأشكال المادة يعبث فيها ويدور حولها ويخرج أسرارها حتى (علم) ثم أخذ يقلد ويبتكر
وكما أن الأقدمين كانوا ينظرون إلى أعمال الطفولة وحب استطلاعها الأشياء على أنها عبث ولعب لا طائل تحته. . . كذلك نظروا إلى أعمال أكثر الرجال في المادة وتنويعها وملء الحياة بضجاتها وأصواتها على أنها عبث ولعب لا يليق بمن يسير إلى الموت والفناء. وكان المثل الأعلى للحياة الصالحة عندهم أن يطلْق الناس أعمال الدنيا ويذهبوا إلى المعابد والمعاهد يتلون الأوراد ويفلسفون ويرسلون الأشعار ولا يرفعون في الأرض حجراً على حجر، فيكونون عنصراً مستهلكاً غير منتج يأخذون من الحياة أغذية وأعمالاً،
ولا يعطونها إلا أقوالاً وأشعاراً، ويقفون في طريق تحقيق بعض الغايات الكبرى من خلق الإنسان
هؤلاء لا تزال منهم بقايا كثيرة في الشرق، بل هم الكثرة الغالبة فيه. وهم الذين جعلوا إنسان الشرق كأكداس الحصيد وأهراء الغلال التي تترك في أماكنها حتى تقتلها الآفات وينخر فيها السوس. . . وهم بذلك يضيعون على الإنسانية ثروات تحصل عليها من تشغيل أفكار هؤلاء الملايين وأيديهم. وهم بذلك يتركون أفراد الناس من غير تنسيق وتنظيم في الحشد والتعبئة للمعابد والمعاهد والمعامل والحقول والجيوش. . .
هؤلاء ينبغي أن زيلوا عن عيونهم غشاوات القرون الأولى ويعدلوا أفكارهم على مقتضى ما توحيه سنن الله الدقيقة التي تجعل من تصرفات جميع قوانين الطبيعة في وقت واحد لحناً موسيقياً متسقاً يشترك في توقيعه كل شيء. . . ويعلموا أن الكفر بعلوم الطبيعة والفسق عن نظمها كالكفر بعلوم العقائد والفسق عن نظم الأخلاق
إن الإيمان بالعلم وتنظيم الحياة الإنسانية بطرقه وإطلاق الأفكار فيه هو الدين الواحد الذي يدين الإنسانية جميعها وتلتقي عليه بأفكارها وأيديها. . . وقد جعلها تلمس عرشها المرموق، وتعرف دولتها المأمولة في مستقبل الحياة. . .
ولكن أين العصا السحرية التي ستفعل في تعديل شهوات الأمم وغرائزها وتعصباتها الذميمة، بحيث تجتمع على خدمة العلم والحياة بأفكارها وأيديها؟
ذلك ما يسأل عنه رجال التربية والمفكرون في الدين والاجتماع
رجال التربية فلاحو حقول الطفولة: منطقة النمو الدائم وعُلَب أسرار المستقبل. . .
ورجال الفكر رسامو المثل العليا القادرون على استدراج الناس إليها وسجنهم فيها. . .
ولكن هؤلاء وأولئك لا يزالون بعيدين عن مقاليد الحكم وتسلم مقاود القطيع بينما مكانهم هناك لو صحت الأوضاع. . . ولا يزال محترفو السياسة والدجاجلة بها المتخلفون عن بلوغ القمة في الفكر والخلق هم الغالبين المتسلطين. . .
وهؤلاء هم سر البلاء النازل الآن بالناس، كما كانوا في القديم. . .
عبد المنعم خلاف
لست أومن بالإنسان
للأستاذ زكي نجيب محمود
وقع لي منذ سبع سنوات كتاب، لعله أنفع ما قرأت من الكتب، لأنه غاص بي إلى قلب الطبيعة ولبابها؛ فقد كنت قبل قراءته لا أفهم إلا عن بني الإنسان دون ألوف الألوف من الكائنات التي تملأ فجاج اليابس وأغوار الماء، فعلمني هذا الكتاب النفيس كيف أفهم عن الحيوان ما يريد. فلئن كان الإنسان يلوك لسانه يميناً ويساراً وبخبط به أعلى وأسفل ليرمز بهذه الحركات إلى معان، فليس الحيوان بأقل قدرة منه في ذلك. يتناقل أفراده المعاني بهز الأذناب وتحريك الأهداب. . . وقد كان علمي بلغة الحيوان موضوع فكاهة وسخرية من أصدقائي جميعاً، يلذعونني بنكاتهم كلما نهق حمار أو زقزق عصفور، ولكني مضيت في دراستي لا يثنيني ما لقيت في الدرس من مشقة وعناء، لأني رأيت أنه إن جاز لمعاهد العلم أن تفني من طلابها زهرات أعمارهم في دراسة لغة قديمة دَرَس أهلها وطواهم الزمن في جوفه العميق، فخليق بواحد من بني آدم أن يعتني بلغات (أقوام) تعاصرنا وتعاشرنا وتبدل لنا وحشة العالم بهجة وأنسا. وأحمد الله أن كتب لي التوفيق فأعانني على بلوغ ما أريد. فهاأنذا أجلس إلى مكتبي ذات مساء، والليل منشور الذوائب ضارب بجرانه، والسكون عميق لا أسمع فيه إلا حفيفاً خفيفاً وهمساً خافتاً، وهاتان فراشتان قد التقتا تحت مصباحي وأخذتا تسمران بحديث رائع جذاب، لم أملك معه إلا أن ألقي الكتاب جانباً لأنصت. . .
- لقد أنبأتني زميلة حديثاً عجيباً هذا المساء: أنبأتني أن كاتباً بليغاً من بني الإنسان قد رفع القلم يجول به ويصول في عشيرته من بني آدم، ليقول في ورع وإيمان إنه يؤمن بالإنسان!
- وفيم كل هذا العناء؟
- لأنه واحد من بني الإنسان! يا ليت شعري ماذا تقول الأبقار لو تحركت بين حوافرها الأقلام، وماذا تزعم الأطيار لو كان تغريدها كلاماً من الكلام؟
- وهل تؤمن البقرة إلا بفصيلة الأبقار، والعصفور إلا بقبيلة الأطيار؟
وجاء برغوث يقفز حول الفراشتين جذلان فرحاً، ويحوم فوقهما صاعداً هابطاً؛ ولم أكن وا
أسفاه قد أتقنت لغة البراغيث لما فيها من عسر وتعقيد، ولكني استطعت رغم ذلك أن ألتقط من حديثه مع إحدى الفراشتين ألفاظاً متناثرة علمت منها ما يريد.
قالت فراشة تحدث البرغوث الوثاب، وقد ضاق صدرها بلهوه وعبثه:
- هلا اصطنعت يا أخي شيئاً من الجد في ساعة يجد فيها الحديث؟ ما كل ساعة للهو والطرب
- وفي أي أمر خطير تتحدثان؟
- في هذه النشوة التي أخذتك بغير مبرر معقول
- وأي حافز للطرب أشد وأقوى من عالم فسيح خلقه الله لي ألهو فيه وأمرح؟. . .
فقالت الفراشة الثانية:
- أخلق الله هذا العالم الفسيح لك أنت؟ وماذا تقول إذن في الإنسان الذي سخر الطبيعة بعقله الجبار؟!
- ومن تقصدين؟ أتريدين هذا الحيوان الذي ضمرتْ فيه رِجلان وطالت رِجلان؟ هل تعلمين لماذا خلق الله هذا الإنسان؟ هل تعلمين فيم سعى هذا المسكين آناء الليل وأطراف النهار؟ ليطعمَ فيجود لحمه فيصبح طعاماً شهياً للبراغيث. ألا ما أشقى عالم البراغيث إن لم يكن بين صنوف الحيوان هذا الإنسان!!
وجاءت بعوضة تسعى، تهز جناحيها الصغيرين طياً ونشراً، وأخذت تدنو من الفراشتين قليلاً قليلاً، ومالت برأسها تستمع للحديث، فلما استجمعت أطرافه اقتربت من الفراشتين ولبثت بينهما صامتة. وحدِّث ما شئت عما ملأ نفسي من سرور حين رأيت البعوضة تهم بالكلام، لأنني بلغت في فهمها حداً بعيداً بحيث لا تخفى علي من ألفاظها خافية، ولأني عهدت في البعوض حكمة عجيبة وعلماً واسعاً، لست أدري أنى له بمثله، ولا أنفك يوماً عن التفكير في هذه الحشرة الغريبة، فهل جاءها العلم مكسوباً من تجاريب الحياة، أم هو موهوب مفطور في جبلَّتها؟
قالت البعوضة بعد صمت:
- فيم الحوار؟
فأجابت الفراشة المتحمسة، ولعل حماستها مستمدة من شبابها:
- في آدمي زعم لقومه أن كل شيء في الطبيعة يرقب أملاً واحداً هو الإنسان، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز: كل شيء في البيت مسخر للطفل، يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم! ثم زعمه لقومه - ويا هول ما زعم - أن الليل والنهار والحيوان الآبد والداجن، والأزهار والثمار والأنهار والجبال، وألوان الشفق في الأصائل والأسحار. . . كل هذا وغير هذا من صنوف ما يطوي الكون بين دفتيه، إنما خلق للإنسان!!
قالت البعوضة:
- ومن يكون هذا الإنسان؟
- قرد نهض على قدميه
- أو يكون النهوض على الأقدام كفيلاً له بهذا كله؟ هل تعلمين يا عزيزتي أن هذا الإنسان أحدث صنوف الحيوان عهداً بهذه الأرض.
- عرفت ذلك من زميلتي منذ دقائق.
- إن كانت كائنات الله قد خلقت لينعم بها الإنسان وحده، فمن ذا كان يستمتع بها قبل ظهوره؟
فأجابت الفراشة العجوز في رزانة:
- قال كاتبهم هذا البليغ، إن ذلك كله صُوَرُ جاءت قبله لتزخرف له المسرح. . . إنها حروف تتألف منها الرواية التي يمثلها الإنسان!
- ويحه! هل صَوَّرَ الخيال لهذا المغرور أن الله قد زَيَّنَ الطاووس بريشه الجميل ليُمتِعَ الإنسان ناظريه، ورقَّشَ الأفعى لينظر إليها الإنسان وهي تتلوى وتتحوى في صندوقها الزجاجي في حديقة الحيوان؟ وماذا هو قائل قي الجراثيم التي تفتك ببدنه لتعيش؟ تلك الجراثيم التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن في جوفه، باضت له ألوف الألوف من صغارها؟. . . لو أنصف المسكين لعلم أن الله جلت قدرته أبدع قصيدة الكون العظمى منظومة منغومة، والإنسان بيت من أبياتها. إن سر الوجود ليستعلن في الجرثومة الضئيلة كما يستعلن في الإنسان والقرد والأفعى! إنها أنغِام تتسق كلها لتنشئ موسيقى الوجود! وهل يعظم الشاعر ببيت واحد أكثر مما يعظم بقصيدة عامرة بالأبيات والقوافي؟
فقالت الفراشة العجوز:
- أراكم تعجبون وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب! لقد ذكرتم أن الإنسان بين صنوف الحيوان طفل وليد. إنه ما يزال يعبث في مهده ويلهو، أفيكون عجيباً من الطفل أن يتشبث بالأشياء ويمسك بها في قبضته صائحاً: هذا كله لي، لي وحدي دون سواي؟ فاغفروا له هذه النزعة الصبيانية حتى تُعَلمه الدهور أنه جزء من كلٍّ عظيم. . .
وهنا قفز البرغوث قفزات لفتت له الأنظار، فقال:
- حدثوني - نشدتكم الله - ماذا حدا بالإنسان أن يتبجح فيزعم لنفسه ما زعم؟
فأجابت الفراشة المتحمسة:
- أغراه بذلك ما له من علم وأخلاق؟ وما يدري أنه بعلمه يكمل النقص في غريزته وفطرته، وأن أخلاقه حين تحلم بالمثل الأعلى فهي أحلامها دون ما يسود ممالك النمل والنحل من أخلاق! إن الحيوان لا يعرف العري والجوع، وأما الإنسان بكل ما له من علم وأخلاق. . . آه! وددت لو خرج هذا الكاتب البليغ من لفائفه (الصوفية) فيخوض في برد الليل ساعة فيرى بني جنسه قد ألقاهم البؤس في العراء. حرمتهم الطبيعة الفراء اتكالاً على علم الإنسان وأخلاقه، فعجز العلم والأخلاق أن يهيئا لهؤلاء الأشقياء وطاء أو غطاء! وددت لو خرج الكاتب البليغ لحظة من (تصوفه) الذي يدفئه بين جدران داره وفوق حشايا مخدعه ليرى كم من بطون قومه قد باتت خاوية على الطوى. . . ولكنه لن يبارح هذا الغشاء (الصوفي) ليرى الحقيقة (عارية) حتى يخزه في رقاده واخز.
فقال البرغوث وهو يثب في جذل طروب:
- لكم مني هذا الصنيع. والله لأقُضَّنَّ مضجعه هذا المساء، لعل السهاد أن يحفزه على التفكير في هؤلاء الذين ينبتون القمح حتى يملأ الأهراء ثم لا يأكلون، والذين يزرعون القطن حتى تغص به المخازن ثم لا يكتسون. . . والله لأؤرقنه هذا المساء لعله يعيد التفكير في هذا الإنسان الذي يقتل بعضه بعضاً بأدوات من العلم، ويهلك بعضه بعضاً بنزوات من الأخلاق.
. . . وقال ذلك البرغوث وانصرف، وكان الليل قد انتصف، فأطفأت سراجي وأويت إلى مخدعي، وبي إشفاق على صديقي خلاف من هذا البرغوث اللعين!
خلافُ يا صديقي لا تسرف! أفيكون هذا الإنسان الذي جارت به السبيل والدليل جديراً منك
بالإيمان؟
زكي نجيب محمود
أسبوع في تاريخ الأزهر.
للأستاذ محمد محمد المدني
ليست الأزهر جامعة من الجامعات المحدثة التي عاصرت جيلاً أو جيلين من الزمان؛ وليس الأزهر وليد ثقافة واحدة لم تبلُها الأحداث، ولم تصقلها التجارب، ولم تمحصها العقول والأيام. . .
إنما الأزهر تاريخ حافل بأمجد الذكريات، وسفر ممتلئ بأروع الآثار؛ إنما الأزهر عمر ثقافة عالية في اللغة والفقه والتشريع، ومثال من أمثلة التدرج الهادئ الرزين في العلم والتفكير والنضوج.
أليس من العجيب مع هذا أن يقال: (أسبوع في تاريخ الأزهر) وهل تحسب الأسابيع والشهور في تاريخ طويل ممدود لا يحسب بالعشرات من السنين، وإنما يعد بالمئين؟
بلى أنه لعجيب، ولكنه مع ذلك الأسبوع، وسيظل أسبوعاً معروفاً متميزاً لا تغمره هذه المئات من السنين!
ذلك هو الأسبوع الذي ابتدأت فيه مناقشة الرسائل التي قدمها لأول مرة الطلاب المتخرجون من كلية الشريعة لنيل شهادة (الأستاذية) في الشريعة الإسلامية
احتفل الأزهر بهذه المناسبة احتفالاً ظاهراً لا فيما أعده لها من مكان منظم منسق، ولا فيما وضعه لها من نظام محكم دقيق، فإن الأزهر يسير في أمثال هذا على طبيعته الساذجة التي لا تعرف الدعاوة ولا تحب الإعلان.
ولكنه كان احتفالاً ظاهراً لما احتشد له من علماء وطلاب، ولما شهده من رجال الفكر وأهل العلم، ولما ضم في نسق واحد بين ألوان مختلفة من التفكير، وعناصر متباينة في وجهات النظر.
جمع هذا الحفل بين العالم الكبير الذي عاش طول حياته في ظل ثقافة محافظة ترى التجديد خروجاً على الدين، وافتياتاًً على السلف الصالح من علماء المسلمين، وترى الاجتهاد والنظر مزلقة من مزالق الهوى والضلال، وبين العالم الشاب الذي يرى الحياة أمام عينيه قد اصطبغت بصبغة غير التي يعهدها هؤلاء الآباء، واتسمت بطابع غير هذا الطابع الذي ألفوا أن يروها متسمة به، والذي يرى من حقه بل من واجبه ألا يعيش بعقله وروحه في
عصور عفّي عليها القدم، وأخنى عليها الزمن، بينما يعيش بجسمه وعمله في عصر العلم، والتفكير الحر، والتجديد النافع!
جمع هذا الحفل بين العالم الذي ظل عمره في أحضان الأزهر وبين ريوعه، وبين العالم الذي عاش دهراً في أوربا فرأى ما لم يكن قد رأى، وعلم ما لم يكن قد علم، فاشتجر في نفسه القديم مع الحديث، وامتزج في ثقافته الشرق بالغرب.
وكنت ترى إلى جانب هؤلاء وأولئك طلاباً أزهريين يحرصون في لهف وشوق، وإلحاح وإصرار على شهود هذا الحفل، والاستماع إلى نقاش فيه وجدال بين طالب منهم، وأعلام من أساتذتهم على أساس الحجة والبرهان، والبحث الحر، والنهج العلمي المستقيم.
وكنت ترى في هذا المحيط الأزهري الصاخب زواراً من غير الأزهر، جاءوا ليشهدوا هذه المناقشة العلمية التاريخية التي تدور في الأزهر لأول مرة والتي يرأسها رجل من أفذاذ المفكرين، وكبار المصلحين، وهبة الله عقلاً ممتازاً وفكراً رشيداً وقلباً جريئاً.
ودارت المناقشة، وتجلت فيها حرية الرأي سافرة ليس من دونها حجاب، سليمة لم تفسدها مداراة ولا مصانعة ولا تخوف. وانطلق العلم فيها على سجيته لا يتعثر في تركيب من تراكيب المؤلفين، أو لفظ من ألفاظ المصنفين، وسمعنا مبادئ لا نعدو الحقيقة إذا عددناها جديدة في جو الأزهر، أو حسبناها توجيهاً صالحاً للتفكير العلمي بين العلماء والطلاب، ومبدأ لتحول دراسي خطير في حياة هذا المعهد العظيم
وكان من المبادئ الجليلة التي سمعناها ما قرره فضيلة الأستاذ الإمام المراغي من أن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإن من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء وفرعوا عليها، واختلفوا فيها، وتمسكوا بها حيناً، ورجعوا عنها حيناً: إنها أحكام الدين، وأن من أنكرها فقد أنكر شيئاً من الدين، فإنما الدين هو الشريعة التي أوصى الله بها إلى الأنبياء جميعاً؛ أما القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والدافعة للحرج فهي آراء للفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعاً لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها، وتبعاً لاختلاف البيئات والظروف. ولو جاز أن يكون الدين هو الفقه مع ما نرى من اختلاف الفقهاء بعضهم مع بعض، وتفنيد كل آراء مخالفيه، وعدها باطلة، لحقت علينا كلمة الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم
في شيء)
وهذا معنى قد جلاه الأستاذ الأكبر في هذه المناسبة، وكان قد عرض له برفق في أحد دروسه الدينية عند تفسير قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
وكان من المبادئ التي قررها فضيلة الأستاذ الأكبر أيضاً مسألة تأثير العرف في المعاملات، وقد ضرب لذلك مثلاً بأن عُرفنا الحاضر قد أهدر المعايير والأوزان في التعامل بالذهب والفضة، فأصبحنا نصرف الذهب بالفضة من غير نظر إلى الوزن ولكن على أساس العد، وكذلك الأمر في صرف الفضة بالفضة.
وكان من المبادئ التي قررها فضيلته أيضاً التفريق بين ما حرم لنفسه وما حرم لغيره، وما ينبغي على هذا التفريق من جواز إباحة الأخير عند الحاجة.
وسمعنا أيضاً مبدأ من المبادئ الهامة فيما يتصل بالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقوم على أساس التفريق بين ما يقرره النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مبلغ عن الله، وما يقرره على أنه أمام للمسلمين، وما يقرره على أنه قائد للجيش في زمن الحرب، وما يقرره على أنه قاض. . . الخ، وأن بعض ذلك يكون ملزماً للمسلمين في جميع عصورهم، وبعضه لا يكون ملزماً.
سمعنا ذلك كله، ورأينا آثاره بين السامعين، وسمعنا غيره من أعضاء الهيئة العلمية التي كانت تناقش الرسائل، ثم تحرينا أن نعرف آثاره في أحاديث العلماء والطلاب، وتحرينا أن نعرف آثاره في الفصول الدراسية، فإذا الجميع طوال هذا الأسبوع مشغولون، بهذه المبادئ يتناقش فيها الأستاذ مع الأستاذ، والطالب مع الطالب، ويرغب الطلبة إلى أساتذتهم في تفصيل مجملها، وتوضيح مشكلها، والتمثيل لها، والتطبيق عليها
ولعل من الظواهر السارة التي تستحق التسجيل أننا رأينا لأول مرة احتياطاً في التعليق، وحرصاً عند التعقيب، وزهداً في وصف الناس بالخروج أو المروق، وانصرافاً إلى الفكرة من حيث هي فكرة، لا باعتبارها قولاً يخفي وراءه غرضاً من الأغراض.
ونحن نسجل هذه الظاهرة الهامة في تاريخ الأزهر مغتبطين ونهيئ عليها فضيلة الأستاذ الإمام، كما نهنئه بهذا الأسبوع الفريد في حياة الأزهر العلمية، ونرفع إلى فضيلته
اقتراحين.
الأول: أن يأمر بوضع خلاصة لهذه المناقشة تعرض فيما بعد على فضيلته لإقرارها وإذاعتها بين أهل العلم، فإن هذه الصفحة جديرة بأن تضاف إلى تاريخ الأزهر كظاهرة من ظواهر الرقي الفكري في عهد الإمام المراغي.
الثاني: أن يعمل على أن تكون مناقشة السادة الأجلاء، المرشحين لجماعة كبار العلماء، مناقشة علنية، فإني أعتقد أن من حق العلم عليهم أن ينشروا بين الناس ثمرات عقولهم، وأن يقطعوا ألسنة الناقدين، وأن يردوا بذلك على الذين يتساءلون: لماذا يفرض على طلاب الأستاذية هذا اللون من التمحيص العلمي على ملأ من الناس أجمعين، بينما تمر رسائل (أساتذة الأساتذة) متسللة في خفية وتستر؟
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
كلمات
مكافآت للقراء. . .!
في بريد (الرسالة) الأدبي من عددها الأخير خبر قرأته ووقفت عند تلاوته بالعجب والحسرة
ذلك الخبر الذي يقول في عنوان: (حقوق المؤلفين في الدنمرك). إن حكومة هذه الدولة فكرت في حفظ حقوق المؤلفين وفيما يلحق بهم من غبن، فقررت زيادة دخلهم المادي تشجيعاً لهم على مواصلة الإنتاج والعمل
ومن التدابير التي اتخذتها لذلك أنها فرضت رسماً على كل من يطالع أي كتاب من المكاتب العامة أو في أندية المطالعة؛ ورسماً آخر على كل من يقتبس جزءاً من كتاب ويذيعه بالمذياع أو بالحاكي
قرأت هذا الخبر مرة ومرة، ثم أخذني - كما قلت - العجب والحسرة، وكيف لا أجد في قلبي الحسرة وقد مرَّ في خاطري اسم فلان، كاتب من أساتذة الجيل، وقد أوشك منذ سنين أن يُطرد من بيته لأنه عجز عن وفاء أجره شهوراً. ومرًّ في خاطري اسم فلان، مفكر من الطراز الأول، قضى سواد عمره في الكتابة والترجمة والتحرير، يكدح الكدح كله الليل والنهار في جزاء جنيهات قلائل ينفقها نصف حيوان، أو نصف إنسان مستكرش، لأنه قريب فلان أو محسوبه أو حميمه في سهرات الليل. . .!
وذلك الكاتب المفكر كان منذ سنوات عشر يربح في كل شهر ثمانين جنيهاً، فإذا هو الآن بعد الكهولة والجهد وكثرة العيال ينحدر منها إلى عشرين أو ثلاثين، كأنما عمله من نوع ذلك الذي قاله فيه ابن الرومي تهكمه الظريف اللاذع:
فيا له من عمل صالح
…
يرفعه الله إلى أسفل!
ومر في خاطري اسم فلان الكاتب الشاب الملتهب الذي قعد به المرض والعجز من طول ما أجهد عقله وأعصابه وفكره ليكتب ويفيد، فلم تفده كتبه ولا مؤلفاته ولا بحوثه وترجماته حين عجز وانهد بالعجز والمرض، لم يفده شيئاً من ذاك كساء ولا طعاماً ولا دواء.
فهذا حظ الكاتب والكتاب في مصر منار الشرق وزعيمه وطليعة أقطاره
وذلك ما يجد الكاتب والكتاب في بلد من بلاد أوربا كما نقلت لنا الرسالة في بريدها، وحين
تفرض هذه الضريبة على القراءة في دنيمرك لن ينقص بسببها عدد القارئين، فإن الكتاب عندهم كالطعام والشراب، وتريد حكومتهم أن تزيدهم براً ورعاية
وقد وجدنا في مصر وزارة معارفنا تجري اختباراً وتقيم مسابقة للسنة التوجيهية تهدي فيها الجوائز تحايل تلاميذ مدارسها حتى تعودهم أن يقرءوا، ووجدنا الصديق الدكتور زكي مبارك وهو يكتب عن واحد من تلكم الكتب المختارة يذكر أنه طبع مرتين. وذلك دليل على حظه من الرواج. . .! وعما قليل تخصَّص الجوائز في مصر للقراء. . .! وفي دنيمرك تفرض عليهم المكوس
وقد يخرج بعضنا بل أكثرنا قد نال درجة كبرى من الجامعة وهو لا يعرف أن يقرأ كتاباً، ولا يعرف أين في القاهرة دار الكتب، ولا يجد أن ذلك ينقصه ولا يعيبه. . .!
إنه لا يزال أمامنا شوط كبير تنقطع دونه الأنفاس حتى تصدق علينا القولة التي قالها الخديو إسماعيل:
(إن مصر قطعة من أوربا)
(محمود)
تجديد أغراض المجمع اللغوي
لصاحب المعالي وزير المعارف
نص كلمته في افتتاح مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية
سيدي الرئيس. زملائي المحترمين. سيداتي. سادتي
تفضل معالي الرئيس فسألني خلال هذا الأسبوع الأخير:
أأنا على استعداد لألقي كلمة في هذه الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أتناول فيها شأناً من الشؤون المتصلة بأغراض مجمعنا؟ وقد شكرت لمعاليه هذه الدعوة وقبلتها، مغتبطاً أن أتحدث إليكم، رغم ضيق الوقت، في أمر أعده جليل الخطر في حياتنا وفي مستقبلنا
وأود قبل أن أعرض لهذا الأمر أن أشكر لمعالي الرئيس ما وجه إليّ وإلى زملائي الجدد من عبارات التحية، كما أود أن أنوه بالجهود الكبيرة التي بذلها المجمع قبل أن أنظم أنا وهؤلاء الزملاء الأفاضل إليه. وحسب من شاء أن يطلع على المذكرة الموجزة التي وضعها المجمع ووزعت في هذا الاجتماع ليقدر ما بذل من هذه الجهود. أما الذين اطلعوا على مجلة المجمع وعلى محاضر جلساته، فهم لا ريب أعظم تقديراً لجسامة هذا المجهود. وإن جاز لي أن أعبر عن رأي زملائي الجدد فليس يسعني إلا أن أشكر باسمهم وباسمي زملاءنا المحترمين الذين قاموا بهذا المجهود، وأن نذكر الذين قضوا أجلهم بالخير، وأن نطلب لهم من الله مثوبة ومغفرة
وليس ينقص من قدر هذا المجهود الكبير أنه ما يزال في بدايته، أو أن لي أو لغيري بعض ملاحظات عليه براد بها مزيد من دقة التوجيه إلى الغرض المنشود حيناً، وتبلغ حد النقد في بعض الأحيان. فالغرض العظيم الذي أنشئ المجمع لتحقيقه، والعمل الجسيم الذي لا بد منه لبلوغ هذا الغرض، يحتاجان إلى كثير من الأناة والروية، وإلى زمن لا تعد السنين شيئاُ مذكوراً فيه. لقد قضى المجمع الفرنسي منذ أنشأه ريشليو عشرات السنين قبل أن يضع معجمه الأول للغة الفرنسية. ومع هذه الأناة، ومع ضخامة المجهود الذي بذل خلال السنين الطويلة، وجهت إلى هذا المعجم ألوان كثيرة من النقد كانت موضع اعتبار المجمع وتقديره أثناء مراجعة معجمه. ولا تزال لجنة المعجم في المجمع الفرنسي تراجعه وتضيف إليه وتحور فيه تبعاً للتطور اللغوي في تلك البلاد، متوخية في عملها أن تحافظ على سلامة
اللغة الفرنسية وعلى ملاءمتها لحاجات الحياة وتطورها، مؤمنة دائماً بأن اللغة كائن حي متصل أوثق الاتصال بكل صور الحياة، يسايرها في نمو ما ينمو وانقراض ما ينقرض وتطور ما يتطور. فالمجمع الفرنسي، ككل من درسوا اللغة ومارسوها، يرى أن اللغة هي صورة الحياة في إدراك الذين يتكلمون هذه اللغة، وأنها لذلك مرآة تقدم هؤلاء القوم أو تأخرهم، نشاطهم أو قعودهم، قدرهم الصحيح لحقائق الحياة أو توهمهم الباطل لهذه الحقائق:
وكيف لإنسان أن يغمط المجهود الذي قام به المجمع وقد أقر أكثر من أربعين قاعدة في اللغة تيسرها وتوسع أقيستها، وتلينها للترجمة عن مستحدثات المعاني، وقد استخرج آلافاً من المصطلحات في علوم الأحياء، والرياضة، والطبيعة، والاقتصاد السياسي، والقانون، وتاريخ القرون الوسطى، والموسيقى، والرسم، والعمارة، وقد أقر طائفة جليلة من المسميات الحديثة في الشئون العامة كأدوات المنازل وأثاثها، وما تتناقله الألسن والأقلام في الأسواق والأندية والصحف، وقد بدأ بوضع المعجمات التي تدعو إليها الحاجة، وقد صحح من الأعلام الجغرافية في مصر وأفريقيا وآسيا عدداً عظيما، وقد نشرت مجلته بحوثاً بلغت صفحاتها نحو ألف وخمسمائة. هذا وما إليه جدير بتقدير الناس جميعاً وثنائهم، وإن وجه إلى بعضه من النقد ما قد يقره المجمع نفسه، وما قد يدعوه إلى أن يعدل عن شيء أقره إلى ما يراه خيراً منه وأدنى إلى تحقيق غايته.
سادتي: لقد كان ما يتصل باللغة من شئون التعليم مما وجه إليه المجمع عناية مذكورة؛ وأنتم تقرءون في المذكرة التي وضعها المجمع بين أيديكم أنه وضع نصب عينيه أخذ الناشئين بصحيح العربية فيما يتدارسون من العلوم والفنون، وأنه قد وجه جل همه من هذه العناية إلى المصطلحات التي تدخل في التعليم الثانوي، وأن بين المعجمات التي يتوفر على وضعها معجماً علمياً صغيراً للتعليم الثانوي في الأقطار العربية، وآخر تثبت فيه طوائف من المواد والألفاظ والصيغ تغني الطالب الثانوي والمثقف الوسيط عن غيره من المعجمات، وأنه في وزارة المعارف بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مصطلح لإدخالها في كتب التعليم وفي التدريس.
ولم يتم بعد وضع المعجمين اللذين أشرت إليهما ليتسنى إبداء الرأي فيهما. وقد سألت
وزارة المعارف عما وافتها به إدارة المجمع فعلمت أن هذه المصطلحات لما تعرض على رجالها، وأن تجارب الطبع لهذه المصطلحات لا تزال حبيسة في المطبعة الأميرية منذ سنة 1939. وقد أرسلت إليّ إدارة المجمع من أيام هذه المصطلحات فعرضتها على الفنيين من رجال الوزارة فأقروا طائفة مما اطلعوا عليه ولم يقروا طائفة أخرى. ثم إنني ألقيت علة هذه المصطلحات نظرة عجلي ألهمتني ما أريد أن أتحدث إليكم اليوم فيه.
جاء في المذكرة التي وضعها المجمع بين أيدينا تمهيداً لهذه الجلسة أن من يترسم آثار المجمع (لا يرتاب في أنه، في تشدده في المحافظة على لغة العرب، وبعث ما لا عهد للجمهرة به من قديمها ومجفوها مما يقع عندها موقع الغرابة أو ما هو أشد من الغرابة في أول الأمر، فإنه من ناحية أخرى لا يفتأ يترخص أعظم الترخيص، وييسر أبلغ التيسير. على أن ترخصه هذا وتيسيره إنما يقعان في حدود اللغة، وما مضى من مذاهب علمائها الأعلام؛ فلا سيادة لعامية، ولا طغيان للعجمة على لغة الكتاب)
هذه الفقرة من مذكرة المجمع قد جلت أمامي كثيراً مما رأيته في المصطلحات التي اطلعت عليها، وفي المسميات التي وضعها المجمع لحاجات الحياة المتداولة. فهو قد آثر أن يبيع من تراث اللغة المهجور ما رآه معادلاً لهذه المسميات والمصطلحات. ولا إخالني مخطئاً في هذا التصوير وقد وضع المجمع منذ سنوات جوائز مختلفة لمن يضعون طوائف من الكلمات العربية الفصيحة للمسميات الحديثة وللمصطلحات العلمية والفنية والأدبية؛ ثم نبه الذين يتقدمون لهذه الجوائز أنه يفضل عند التسمية ما وضعه القدماء من الكلمات الصحيحة ثم هجر وتنوسى، واستعمل بدلاً منه ألفاظ مولدة حديثة، أو عامية، أو أعجمية؛ فإن لم يعثر على شيء من ذلك وضعت الكلمة وضعاً جديداً بطريقة من طرق الوضع القياسية
لست أتردد في الموافقة على هذه الخطة في أمر المصطلحات العلمية كلما وجد اللفظ العربي القديم الذي يؤدي الغرض من هذا المصطلح أداء دقيقاً يقره المتخصصون من العلماء. ولعلي لا أتردد كذلك في الموافقة عليها إذا استعمل لفظ أجنبي للتعبير عن معنى قديم كان العرب يعبرون عنه بلفظ عربي. لكني أقف متردداً، ويطول ترددي، فيما خلا هاتين الصورتين؛ وفيما يوضع من المسميات لحاجات الحياة المتداولة. ولا احسبني دون ذلك تردداً في أمر الألفاظ العامية إذا أمكن تقويمها لتسترد صورتها العربية الصحيحة
أيها السادة: إن الغرض الأساسي من إنشاء هذا المجمع إنما هو جعل اللغة العربية ملائمة لحاجات الحياة في عصرنا مع المحافظة على سلامتها. هذا الغرض يتضح جلياً في المذكرة التي وضعها المجمع اليوم بين أيدينا، فكل ما بذل من جهود الأفراد والجماعات في أمر اللغة من عهد محمد علي الكبير إلى اليوم قد توخى هذا الغرض. وقد سجل مرسوم إنشاء المجمع هذا الغرض في المادة الثانية منه تسجيلاً صريحاً. ولكي تلائم اللغة حاجات الحياة في عصر من العصور يجب أن تكون صورة صادقة لكل ما تتناول الحياة في هذا العصر. ويجب أن تكونَ سليقة للمتكلمين بها والكاتبين لها، ويجب أن تكون بذلك أداة التفاهم بين هؤلاء جميعاً تفاهماً يتم في غير عسر ولا مشقة. ويجب لذلك أن يكون القدر المشترك منها بين الجميع، من الصبي الناشئ إلى العالم الكبير، ومن ربة البيت في أهلها إلى المتحدث في الفنون والعلوم والآداب. يجب أن يكون عظيماً بحيث ييسر هذا التفاهم ويجعله في متناول الجميع؛ فلا يقع خلاف بينهم فيه بسبب اللغة وألفاظها وإن أمكن أن يقع بسبب تفاوتهم في الثقافة. وكل جهد يبذل لزيادة القدر المشترك تيسيراً للتفاهم المتبادل، يدني من الغرض الذي تنشأ مجامع اللغة لتحقيقه
إذا كان هذا صحيحاً، وأعتقد أنا صحته، وجب ألا نتقيد في جعل لغتنا ملائمة لحاجات عصرنا بالحدود التي وضعت في عصر العباسيين أو في عصر الأمويين، أو في الجاهلية، لحاجات عصرهم. فإذا أردنا أن نضع معجماً يغني المثقف الوسيط، ويغني الطالب الثانوي، وجب مع محافظتنا على سلامة اللغة ألا نهمل تطورها إلى حيث وصلتنا اليوم، ووجب أن ندرس بعناية هذا التطور في لغة الكتابة وفي لغة الكلام
لقد رأى العالم العربي في كل العصور، إلى عصرنا الحاضر، خطباء اهتزت لبلاغتهم المنابر، ومحامين كانت مرافعاتهم مثلاً عالياً للبلاغة القضائية، وكتّاباً في الصحف وفي المجلات ومؤلفين قدرهم أهل هذه الأمم أسمى التقدير. هذه الخطب، وهذه المرافعات، وهذه الكتابات على اختلاف أنواعها وعصورها، تصور تطور اللغة، فلا سبيل إلى إنكارها. وهذه الخطب والمرافعات والصحف والمجلات والكتب تحوي قدراً مشتركا عظيما جداً من ألفاظ اللغة وتراكيبها! ومن أساليبها التي تتفق مع تصور الناس للحياة في هذا العصر؛ وأبناؤنا في المدارس، وجماهيرنا المثقفة تثقيفاً وسطاً، تستمع إلى هذه الخطب والمرافعات،
وتقرأ هذه الصحف والمجلات والكتب، بشغف أكثر من شغفها حين تقرأ الكتب القديمة. أفيقال مع هذا أن في هذه الخطب والمرافعات والصحف والكتب ألفاظاً عامية لا يجوز أن تكون في معجمات اللغة؟ أم الحق أنه يجب علينا ألا نهمل هذه الثروة اللغوية الحية، وأن نسجل منها كل ما يتفق مع ذوق العربية وأقيستها، وأن ما نقوم به من ذلك هو الذي يجعل اللغة لغة الحياة تسير معها وتتطور بتطورها؟
وأذهب إلى أبعد من هذا. إن في اللهجات العامية للبلاد العربية المختلفة لقدراً عظيما من الكلمات المشتركة، والتي يمكن أن ترد إلى أصل عربي دون حاجة إلى أكثر من تقويمها بعض التقويم. وهذه ثروة ضخمة تقابل حاجات الحياة وتعبر عنها أصدق تعبير. مع ذلك درجنا على التنكر لهذه الألفاظ والعبارات، وعلى اعتبارها مبتذلة لا يجوز للمتكلم الفصيح، أو للكاتب البليغ، أن يكتبها أو يتكلم بها. أما وقد انحدرت هذه الألفاظ إلينا من العرب الأولين الذين نزحوا إلى مصر وإلى غير مصر من البلاد العربية، فلست أدري لم تكون مبتذلة، ولم لا تدخل في معجماتنا وفي كتاباتنا وخطاباتنا، وفي مصطلحاتنا المختلفة؟ السبب الوحيد في نظري هو أننا نريد أن تكون اللغة وقفاً على طائفة خاصة، وأن تكون لها من أجل ذلك أسرار تغيب عن الكافة، كما أراد الكهنة في عهد الفراعنة أن يجعلوا حقائق الدين سراً موقوفاً على طائفتهم، وأن يدعو للناس من الزيف ما يتنزهون هم عنه، وما يسخرون منه
أيها السادة: إن ما أطالب به المجمع من إقرار ما يجوز إقراره من هذه الألفاظ المتداولة في الكلام وفي الخطابة وفي الكتابة بعد رده إلى حدود اللغة السليمة هو ما تقوم به مجامع اللغة في بلاد العالم أجمع، وهو ليس بدعاً في لغتنا العربية منذ عهدها الأول؛ والمادة الثانية التي حددت أغراض مجمعنا تطالبنا به، فهي قد نصت على أن يقوم المجمع بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة؛ وهذان الأمران يتصلان أوثق الاتصال. فاللهجات الحديثة تشتمل كما قدمت على قدر عظيم مشترك من الألفاظ والعبارات العربية، كما أنه قد اندس إليها بحكم الحوادث التاريخية واختلاط الأمم العربية بشعوب أجنبية عدد عظيم من الألفاظ غير العربية. فالدراسة العلمية المقصودة هنا، والتي تتفق مع مهمة المجمع، لابد أن يكون مرماها تحديد الألفاظ العربية في هذه اللهجات
المختلفة تحديداً علمياً دقيقاً للاستفادة منها في وضع المعاجم التي نص عليها في أغراض المجمع؛ أما المعجم التاريخي، فيجب أن يتناول تطور اللغة على العصور إلى وقتنا الحاضر، وأن تكون الألفاظ العربية السليمة التي يصطنعها الناس في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم بعض هذا الذي يتناوله
أيها السادة: إن هذا الذي قدمت صحيح في نظري كل الصحة، واضح كل الوضوح. لذلك كان عجبي ولا يزال شديداً ألا يفصل من تاريخ اللغة وآدابها في معاهدنا شيء فيما وراء العصر العباسي ولم يدرس الأدب الحديث إلا من عهد قريب، وعلى نحو لا يزال بدائياً غير متصل بما سبقه من تاريخ الأدب واللغة. ولقد لاحظت منذ سنوات على المعجم التاريخي للدكتور فيشر، وهو المعجم الذي يعني المجمع بطبعه الآن، أنه لا يتناول إلا العهد الأول من صدر الإسلام، وكنت قد فهمت يومئذ أن هذا المعجم سيضاف إليه ما يتم الغرض منه بتناول تاريخ اللغة إلى وقتنا الحاضر. ولا أظن أحداً يخالفني في أن ما دون كتب الفقه والأدب والفن والعلم في العصور المختلفة يجب أن يكون بعض هذا التاريخ، ولا أظن أحداً كذلك يخالفني في أن الألفاظ العربية الأصل مما تتناوله لهجات العصر الحديث تدخل في نطاق هذا التاريخ
أيها السادة: إنني أعتبر هذا العمل أساسياً لتلائم اللغة حاجات الحياة في العصر الحاضر. فاللغة اليوم ملك مشاع للجميع. يقرؤها الناس في الصحف، ويسمعونها في الإذاعة، ويخطبهم بها الخطباء، ويتلونها في الكتب. لم تبق وقفاً على القارئين والكاتبين ممن تثقفوا ثقافة لغوية عالية، بل صارت أداة التفاهم في هذا العصر الكثير الحاجات والمطالب، والذي يسر للناس من كل الطبقات أن يقفوا على السر من كل شيء، لا تختص فئة منهم دون الأخرى، بما يزاول الناس من علم وفن وأدب وصناعة وتجارة. فكلما تيسرت اللغة للناس، وكلما شعر الطالب في دور العلم بأنها لا تقف عقبة في سبيل المعرفة التي يبتغي النهل من وردها كانت الأداة الصالحة للغرض الذي وجدت اللغات من أجله. بذلك يحب الناس اللغة ويرون جمالها في بساطتها، وفي وضوحها وفي تكشفها غير محجوبة بحجب التعقيد الذي يحتاج دراسة السنوات الطوال لحل رموزه وتبين أسراره.
أيها السادة: هذا ما تيسر لي أن أحدثكم اليوم فيه. وهو بعض ما نطلب به في هذا المجمع
لتيسير اللغة العربية حتى تفي بحاجات حياتنا ومطالبها. وقد أحيلت على المجمع مسألة الكتابة العربية وتيسيرها؛ وهذه مسألة جوهرية في نظري ونظر الكثيرين، فحلها يزيد الناس إقبالاً على القراءة وعلى اللغة ودراستها. وأرجو لذلك أن تنال ما هي جديرة به من البحث
وأختم كلمتي معتذراً لحضراتكم عما قصرت فيه؛ فقد كان واجباً عليّ أن أزيد فكرتي جلاء؛ ولكن الوقت لم يتسع أمامي. فلعله يتسع من بعد. ولعلنا نوفق إلى الوفاء بما يجب علينا من تيسير اللغة لتلائم حاجات العصر، مع المحافظة على سلامتها، والعمل على ما يزيدها حياة وقوة وجمالاً.
محمد حسين هيكل باشا
من وراء المنظار
صاحب السلطان الزائل
أقبل فسلم في صوت كأنه الهمس، وأحسست ولم أكن عرفت بعد شيئاً من أمره روح المذلة في صوته؛ ومد إلى من نهض لتحيته يداً معرفة مرتعدة كأن بها استخذاء من أن تصافح الأيدي الممدودة إليه، ونهضت فيمن نهضوا فسلمت وأنا في حيرة من عبارات التحية توجه إليه مشفوعة بلقب (البك)
وأخذت نعته بهذا اللقب على أنه ضرب من المزاح، فكثيراً ما رأيت بعض المازحين في القرية ينادون بهذا اللقب رجلاً بلغت به الفاقة حداً جعله مضرب المثل في البؤس، وجعل لقب (البك) مضافاً إليه أكثر بلاغة فيما يتضمن من تهكم وفيما يثير من ضحك باستعماله هذا الاستعمال
ولكني لم أر للمزاح أثراً في وجوه الجالسين، بل لم أر فيها إلا التزام الجد والحرص على مظهر الاحتشام والسكون، وفهمت أن الابتسام يتقي بين الجلوس فيما يدور بينهم من حديث، فما تكاد تنفرج الشفاه حتى تنضم في استدراك سريع
واتجه منظاري إلى هذا البك الجديد، وأخذت أختلس النظر إليه، وكان كلما زدته نظراً زادني دهشة ذلك اللقب الذي يسبغ عليه في جد لا أثر للعبث فيه. وظللت أنظر إلى معطفه الذي تراكم عليه ما تراكم من آثار الزمن، وإلى جلبابه الذي لم أعرف ماذا كان لونه قبل أن يعلق به ما علق من تشويه، والذي راح يستر خروقه بأطراف ذلك المعطف الذي يعد تسميته بالمعطف وهو على تلك الحال من قبيل تسمية صاحبه بالبك. . .! أما طربوشه، فقد اتسق في هذا النظام اتساقاً بليغاً، إذ كانت اسطوانته من لون وقرصه من لون آخر، غير أن أحد جانبيه أكثر كدرة من الجانب الثاني، وإن كانت تلك الألوان جميعاً بقايا حمرة زائلة
وعرَّفه إليَّ وعرَّفني إليه أحد الخبثاء الذي أخذ ينظر إلى منظاري، وكأنه كان يرى فيه - كما حدثني بذلك بعد - آلة تصوير، وما كاد يذكر لي اسمه حتى ذهب اللغز من ذلك اللقب الذي لقب به؛ وقلت في نفسي: أهذا هو الذي سمعت من أخباره ما سمعت؟
وتزاحمت في ذهني صور ما علمت من أنبائه، وبرزت من بينها صورة كانت بين غيرها
من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام. فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة. ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!
واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعه فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي، واستكباره يحيط به خيال استخذائه الحالي ومسكنته. والحق لقد كانت نظراته مزيجاً عجيباً من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة (الكوكايين)!
ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان وهو ينظر إليّ نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه. على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس. ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحياناً على الاستخذاء وإن كان الاستخذاء قد بات وهو طابعه الجديد
وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة وفي وجهه إمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفيته ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه. وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من (الكبريت). . .
وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلي إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضاً يجمع بين الحياء والاستعلاء. . .
ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد وهو لا يفتأ يكرر قوله: (شرفت بلدنا يا بك! أهلاً وسهلاً بابن الأكابر. دي البلد كلها
منورة بوجودك فيها! الله يرحم والدك البك الكبير)
وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهداً برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعاً؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلاً:(هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول إن دبلت الوردة ريحتها فيها).
ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى تلك الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها فيها، ويتملكني الإشفاق حيناً، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد بقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزء وتطابق الجريمة والعقوبة.
ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو أيضاً من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.
وتكلم أخيراً صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! ولعله كان يحس إن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء. ومن درر حديثه قوله:(يا ما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية فيعود بعد أسبوع ما فيش في جيبه غير أجرة الوابور. . . دا أنا كنت هرون الرشيدي اللي بيقولوا عليه).
وقلت وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعاً، فلتعثم قليلاً وقال لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك. . . آه من البنك!.
وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث
ما ورث فلم يشعر بقيمة ملكه حتى ذهب عنه كما جاء إليه. ثم سألته عن مصير هذا الضياع فقال أخذها الخواجة خريستو تاجر القطن. وأحزنني أن يمتلك مثل خريستو من ثري هذا الوادي أرضاً أولى بها بنوه، أرضاً كانت تكفي لأن يعيش عليها أكثر من مائتي أسرة من تلك الأسر التي تكدح صابرة في وهج الشمس وتسقى بعرق جباهها تربة وادينا ولا تمتلك الواحدة أكثر من فدانين أو ثلاثة فدادين.
وسألته عن شعوره إذا مر اليوم بهاتيك الضياع. ولشد ما أدهشني قوله إنه لم يرها كلها، وأنه لا يعلم إلا موضع ما كان يحيط بقصره منها؛ فلقد كان أمر زراعتها وتعهدها مفوضاً إلى نظاره الثلاثة الذين يمتلك الواحد منهم اليوم ما لا يقل عن ثلاثين فداناً، من أرض أجداده.
وكان مجلسنا هذا في دكان بدال. ولما هم البك بالانصراف طلب من التاجر أشياء ولكن التاجر نفي وجودها عنده. فلمحت عينا البك بعض الأصناف المطلوبة على رف من الرفوف فأشار إليها قائلاً: (أمال إيه ده؟) وأجاب التاجر بأن غيره دفع ثمنها وسيرسل في طلبها. وضحك صاحب السلطان ضحكة مُرَّة وهو يهز رأسه قائلاً: (هيه. . . طيب! السلام عليكم) ثم خرج وتنفس التاجر الصعداء.
واتجه إلينا ذلك التاجر وقال في لهجة اعتذار: إن قريبه فلان بك الذي ينفق عليه أمره إلا يعطيه شيئاً إلا بإذن كتابي قال: (دا مسكين ضيع كل ما يمتلك في المكيفات، اللهم احفظنا وباع عفش بيته. وهل تاب بعد كده؟ لا، دا صنف لا يستحق النعمة).
ومضيت وفي نفسي كلمة التاجر الأخيرة وأنا أحدث النفس قائلاً كم ذا بمصر من هذا الصنف الذي لا يستحق النعمة!
الخفيف.
وداع الشكر
للشاعر الفرنسي لامرتين
كان لامرتين من أعظم شعراء فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وهو غني عن التعريف، وتعد آثاره الأدبية من أنفس ما أبدعه الخيال الرائع.
ومن تلك الآثار قصيدة بديعة نسج بردها يوم كان ملحقاً بمفوضية فرنسا بنابولي عام 1820 حيث كان انهماكه في تحبير الرسائل الدبلوماسية يحول بينه وبين استرساله في قرض الشهر فأفرغ في هذه القصيدة وداعه للشعر.
(المترجم)
لما اعتزمت اعتزال الشعر خالجني
…
موطد العزم لكن خاب تصميمي
ودعته صادقاً لكنما عرضت
…
منازع الفكر تدعوني لترنيم
تألبت وهي شتَّى في بواعثها
…
وطالما ناشدتني نظم تلحيني
هناك في ساعة حل السكون بها
…
في وحدة الصمت عاد الشعر يغريني
حيث الوجود حليف النوم أجمعه
…
حتى الأماني استكنَّت في زواياها
في غابة برزت كالطيف ثابتة
…
فما تهادى نسيم في حناياها
هناك مرحلة في العمر شاردة
…
كأنما النفس فيها نفس وسنان
فلا التنفس في الأحشاء منسجم
…
ولا الحماس لقرض الشعر ناداني
والطير وهو الذي يضُفي ببهجته
…
على الرياض سروراً بالغ الأثر
لا ينجلي ساجعاً في كل آونة
…
وفي الظهيرة يهوى ظُلَّةَ الشجر
فإِن بدا الفجر ناغى الكون مبتهجاً
…
وفي الغروب يناجي دورة الفلكِ
يشف تلحينه في الصبح عن طربٍ
…
وفي المساء يناغي وحشة الحلكِ
ربابتي، ساعة الهجران قد أزفت
…
لكِ الوداع إذن من مغرمٍ دَنِفِ
يا من تنَهُّدِكِ المشجي يثير جَوىً
…
وكم يثير وداعي بالغَ الأَسَفِ
أنَّي تلامس كفي منكِ ناصيةً
…
ولم يزل باكياً من شجوه الوتَرُ
قد أقبلت ساعة التوديع مسرعةً
…
فهاكِ عَبْرَةَ ودٍّ وهي تنهمر
أيْهاً لعيني أن تُخفي لها أثراً
…
وتلك ثائرة من واكف الشجنِ
كم دمعةٍ سكَبَتْهَا النفسُ وا أسفي
…
فبلَّلَتْ وتراً أوفى ولم يخنِ
لم تستطع زفرات منكِ صاعدةٌ
…
تجفيفها، فحكت طلاَّ على فَنَنِ
إن الربابة لم تُمنح مُكلَّلةً
…
بالسر والناس في هذى الدنا التعِسه
إلا لتسكين آلامٍ لنا انتشرت
…
حيث الدموع من الآماق منبجسه
ما كل ما يرسل الأنغام مُشْجيةً
…
إلاّ يردد آلاماً وآمالاً
أما السعادة لم ينطِق بها وترٌ
…
بل حالف الصمتَ تلو الصمتِ أجيالا
أحلى الأغاني أغانٍ طاب مسمعها
…
من بلبلٍ ناحبٍ أو شاعر باكٍّ
تحت الظلال على قبر توسده
…
أعز خدنٍ يناجي روحَه الشاكِي
ربابتي، أنتِ مثلي سرتِ في أثري
…
حزيتةَ الصوتِ والإنشادِ والنَّغَمِ
لم تمتزج قط بالأنغام يُنشدها
…
أهل السعادةِ والإقبالِ والنعم
بغصن صفافة في الشط عالقة
…
طليقة كطيور الغاب في الأيك
أبت يدي لكِ رَبطاً كالأسير على
…
أبواب قصر عظيم أو حِمَي مَلْك
لم تُلهمي أبدا في أي آونةٍ
…
ثوائر النفثِ تعزيزاً لذي حزب
فأنتِ قد فقت طهراً كل خاطرةٍ
…
ولم تداعبكِ إلاّ نفثة الحب
قد قُطِّبت جبهتي يوماً لكارثة
…
هوجاَء عاتية من قسوة القدر؟
كلا، بفضلك لم أجزع لصدمتها
…
ولم أبالِ بما ألقاه من خَطرِ
وأينما ذهبت نفسي سمعتُ صدىً
…
من السماء لصوتٍ حين تبعثه
نفسي الغريبة فوق الأرض ما برحت
…
تُصغي لما دَأب الإلهام ينفُثُهُ
على الربا حيث يبدو للرقيب إذا
…
لاح النهار كما لو فوقها بزغا
إذ كنتِ في صحبتي كيما أرددَ ما
…
نظمتُ في مدح معبودي له صِيَغا
ما كان أول إشعاعٍ يُفيق بها
…
إلا وقد فتر الإنشاد أو فرغا
كم كنتِ تُلْقين بالأنغام موحشةً
…
على هدير حبالِ الفلك والموجِ
وقد بدا البرقُ خلاَّباً بزرقَتِه
…
يخبو ويسطع عَبْرَ الأفق في الأوجِ
وكنتِ مثل طيور العاصفات تُرى
…
محلِّقاتٍ على الأمواج في البحرِ
وكدتِ أن تلمسي من فوقها زَبَداً
…
يهبط ويعلو من المد والجزرِ
تلك التي طالما استرعت مناظرها
…
مرآي قد حالفت أنغامها نَغَما
تنهُّداتك مع أصواتها امتزجت
…
فكان رجع صدى الحنين منسجما
وطالما ارتعشت شجواً حبائلها
…
القاتمات علتها نفثتي الرخوة
تحكي ارتعاشاً عرا الأوتار من سُجن
…
أناملي حرَّكت في روحها النشوة
ربابتي! ربما ألقاكِ بعدُ، متى
…
رأيتِ يوماً نذير الموت يقتربُ
تليه غاشيةُ الأحلام موحيةً
…
من السماء أموراً ما بها لَعِبُ
تكون قد بعدت عنا الحياة كما
…
لو أصبحتِ ذكرياتٍ مهدها الكتبُ
وإذ يعود شباب الخلق ثانيةً
…
يحفه طائف حلو لنسيان
قد ينحني المرء أوقاتاً عليكِ ففي
…
رنينِكِ العذبِ تلطيف لأحزان
وهذه الريح إذ تجري محلقةً
…
من فوق أرواحنا في برزخ العدم
تهب في الفجر أحياناً مُبَكِّرَةً
…
كما تهب بَيَاتاً هبَّ مُخترم
وكم يوق لها إمعانها عبثاً
…
بشعر ريحانةٍ أو ذقن ذي هرَم
إيهاً للحية هوميروس تحجبها
…
قُطَاعةٌ من جليد عن ذوي النظر
وكأن لمع شعاع الفكر مؤتلقاً
…
يعيد نوراً خبا من قبلُ في البصر
ألم يكن ملتن البصر الأعمى بذي بصر
…
فكم جلا غيهباً في حومة الفِكَر؟
ألم تحم حول عيني ملتنٍ طُرَفٌ
…
من رائع الحب والآمال والصور؟
تحكي الفراشة حامت قبل أن هبطت
…
على فلورا التي تهوَى على الأثر
يبدو وميض جناحيها كبارقةٍ
…
أضاءها شَفَق وضّاءُ كالشرر
ربابتي، ربما تأتين قاصدةً
…
زيارتي بينما الميعاد لم يَحِن
فتمتطين مياه البحر طافيةً
…
من شاطئ لسواه طفو متّزن
أكون قد غالبتني موجة فقضت
…
على حياتي غريقاً ماؤها كفني
وغيَّب اليم صوتي تحت لجَّته
…
فضاع لحن شَكاتي فيه من زمن
وقد نأي بي مصيري في غياهبه
…
عن السموات، إن الهجر يؤلمني
كعُشبة البحر تحت الماء شاردة
…
وقد رمى الموج عَظمى رمي مُمْتَهِن
على الرمال يُرى ملقًى بشاطئه
…
فيا لهول رُفاتٍ هالكٍ عَفَنِ
لكنما أنتِ يا من ترسلين علي
…
شتى المسامع أمواجاً من الطرب
وتركبين متون الموج سابحةً
…
لا ترهبين دنو الموت والعطب
إن البعاج على متن البحار جرت
…
تحكيكِ من حسدٍ في موكِبٍ لَجِب
(الإسكندرية)
محمد أسعد ولاية
البريد الأدبي
المجمع اللغوي والمعجم الوسيط
حدثنا ثقة من المتصلين (بالمجمع اللغوي) أن اللجنة المؤلفة لوضع المعجم الوسيط قد أنجزت حتى الآن مائة وستين صفحة فقط من هذا المعجم، إذا صفت حروفاً وطبعت لا تتجاوز جميعها مائة صفحة؛ وإن هذا العمل استغرق من عمر المجمع سنة ونصف سنة، وإنه استغرق من عمر المعجم ثلاثة أرباعه، لأن الزمن المحدد لإتمامه سنتان. وزاد محدثنا على ذلك أن العمل في هذا المعجم يكلف الدولة لا أقل من مائة وعشرين جنيهاً في الشهر. فكأن هذه الصفحات المائة قد كلفت الدولة 2160 جنيهاً مصرياً وأن الصفحة الواحدة كلفت الدولة قرابة 22 جنيهاً. فإذا كانت صفحات هذا المعجم ستبلغ على ما يقال ألفي صفحة، استغرق تأليفه ثلاثين سنة، وبلغت نفقات نقله من المعجمات القديمة 64800 جنيهاً مصرياً. هذا غير ما يستهلك فيه من ورق وآلات كاتبة وجزازات ونفقات طبع وأجور أخصائيين يحققون ما يرد به من الألفاظ العلمية وأسماء الحيوان والنبات ورد بعض الكلمات غير العربية إلى أصولها الصحيحة، وهذه قد تجمل نفقات هذا المعجم 100 ، 000 جنيه
وبعد، فإذا قلنا إن المال لا قيمة له إلى جانب العلم، فما بالكم بالزمن؟ وإذا قلنا إن الزمن لا قيمة له إلى جانب المال؟ فما بالكم بالعلم؟ وإذا قلنا إن العلم لا قيمة له إلى جانب الزمن، فما بالكم بالمال؟
خبيرات في الكذب
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير الرسالة الغراء
يقول كثير عزة:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها
…
فليس لمخضوب البنان يمين
ويقول المثل العربي القديم
(لا يفل الحديد إلا الحديد)
ولعل وزارة الاستعلامات الإنجليزية ترى هذين الرأيين في الجنس اللطيف وفي وجوب الاستعانة به على فل حديده؛ وذلك أنها أنشأت كما ورد في البريد الإنجليزي الأخير مكتباً
اسمه مكتب فحص الأكاذيب وعهدت برياسته إلى آنسة تدعى (اليزابيث مونرو) يعاونها أربع أوانس إنجليزيات يحذقن اللغة الألمانية ويعمل معهن عدد كبير من النساء. ومهمة هذا المكتب فحص الأخبار الواردة من ألمانيا والتعرف على الكاذب منها بالمقارنة، لتظهر مواضع التناقض وبوسائل أخرى يعرفها
وتقول رئيسة هذا المكتب أن مكتبها مفتوح للعمل آناء الليل وأطراف النهار، وأن عدد الموجودات به في أية ساعة لا يقل عن اثنتي عشرة. ولما سئلت عن عدد الأكاذيب التي يستكشفنها كل يوم أجابت:(إنني لا أحب أن أقترف أكذوبة أنا الأخرى. ولذلك أقول في غير مبالغة أننا نستكشف ما لا يقل عن مائة أكذوبة ألمانية كل يوم)
ومن أمثلة تلك الأكاذيب ما أذاعه الألمان من أن ساعة (بيج بن) دقت في منتصف الليل ثلاث عشرة دقة بسبب ما أصابها من التلف الناشئ عن الغارات. وأن أهل لندن فزعوا فزعاً شديداً من هذا الفأل السيئ لأن معظمهم يتشاءم من العدد 13
وثبت أن الساعات مهما أصابها من التلف فلا يمكن أن تزيد دقاتها عن الحد المعتاد
ولست أرى رأي كثير عزة في نسبة النساء إلى الكذب؛ ولكن النساء تتوقف سعادتهن وسعادة أطفالهن على صدق الرجال فهن أقدر على استكشاف الكذب. . . وهي خبرة فنية فيهن!
عبد اللطيف النشار
التعليم في مصر في السنوات العشرين الماضية
قال صاحب المعالي وزير المعارف من كلمة قيمة ألقاها في الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للتعليم:
حسبي لتصوير السرعة التي سار بها التعليم وتطور في مصر أن أذكر لحضراتكم أن مصروفات التعليم المدرجة في ميزانية الدولة العامة كانت في سنة 1920 (1. 013. 503) جنيهات مصرية، وأنها الآن 5. 619. 181 جنيهاً مصرياً، منها لوزارة المعارف 4. 769. 881 جنيهاً وللجامعة 849. 300 جنيه. وقد كان عدد المدرسين بمدارس الوزارة في مراحل التعليم المختلفة سنة 1920 (1293) مدرساً، وهم اليوم 7277.
وكانت مدارس التعليم الثانوي سنة 1920 تسعاً بها 3314 تلميذاً، أما الآن فهي ست وثلاثون بها 19749 تلميذاً.
وقد انتقل عدد مدارس التعليم الابتدائي من 34 في سنة 1920 إلى 132 مدرسة الآن، وانتقل عدد من تلاميذها من 10749 في سنة 1920 إلى 24301 الآن.
أما التعليم الفني (صناعي وتجاري وزراعي) فكانت مدارسه سبعاً في سنة 1920 فأصبحت الآن سبعاً وثلاثين. وكان عدد تلاميذها 1412 سنة 1920 فأصبحوا الآن 13800.
ولم يكن بمصر في سنة 1920 غير مدرسة ثانوية واحدة للبنات، عدد تلميذاتها 28. أما اليوم فعندنا ثماني مدارس من هذا النوع بها ألف وستمائة تلميذة.
وهذه الفترة أنشئت إلى جانب التعليم الثانوي للبنات المدارس النسوية الراقية والمدارس الفنية والخصوصية: كالفنون الطرزية، والثقافة النسوية، وكلية البنات وما إليها. وقد بلغ عدد هذه المدارس الآن خلا مدارس المعلمات اثنتي عشرة مدرسة بها 2411 طالبة.
وكانت مدارس البنات الابتدائية خمساً في سنة 1920 عدد تلميذاتها 843؛ أما الآن فعدد هذه المدارس اثنتان وثلاثون، وعدد تلميذاتها 3489.
وقد تضاعف نشاط التعليم الحر واستأثر بالحظ الأكبر من التعليم الابتدائي، وبحظ غير قليل من التعليم الثانوي. كانت مدارسه في سنة (1920) 61 مدرسة للبنين، و25 مدرسة للبنات بها 14638 تلميذاً وتلميذة. أما الآن فللتعليم الحر الابتدائي 251 مدرسة للبنين و92 مدرسة للبنات، بها جميعاً 56691 تلميذاً وتلميذة. وكانت مدارس التعليم الثانوي الحر في سنة (1920) 32 للبنين فقط بها 4490 تلميذاً؛ أما الآن فقد صارت 59 مدرسة للبنين و12 مدرسة للبنات جميعاً 14621 تلميذاً وتلميذة.
وكانت مدارس التعليم الأولى والتعليم الإلزامي في سنة 1920 3978 مدرسة بها 5851 معلماً و262553 تلميذاً. أما الآن فمدارسه 4631 مدرسة بها 25130 معلماً و1148219 تلميذاً. وحظه من ميزانية وزارة المعارف 1548884
تصحيح رواية في مقال.
حضرة الأستاذ الجليل صاحب الرسالة الغراء.
لأستاذنا الجليل الدكتور عبد الوهاب عزام أسلوب قوي رائع في أبحاثه القيمة عن أخلاق القرآن نتابعها بدقة بدقة وشغف. . .
ونستزيده منها. وإنه لماض أعزه الله.
. . . وغير أني لاحظت في موضوع (العفو) المنشور في العدد 395 من الرسالة ما يلي:
قال خالد بن الوليد. لسليمان بن عبد الملك: (إن القدرة تذهب الحفيظة. وقد جل قدرك عن العقاب ونحن مقرون بالذنب. فإن تعف فأنت أهل للعفو، وإن تعاقب فيما كان منا) ويبدو لي الخطأ في اسم خالد بن الوليد أو السهو أو إنه يقصد خالداً آخر، فما كان رضي الله عنه من رجال سليمان بن عبد الملك ولا شاهد عصره. ولا أخال أحداً يجهل تاريخ موت خالد إذ وافاه الموت في حمص سنة إحدى وعشرين في عهد الفاروق عمر ابن الخطاب. وهو القائل على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجي عنده بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني بمطر إلى صبح حتى نغير على المشركين فإذا أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي فاجعلوه في سبيل الله. . .
وأوصى وصية واختار أميناً عليها عمر بن الخطاب على ما كان بينهما، فلما بلغ أمير المؤمنين عمر نبأ موته قال في حزن وألم: ما على نساء الوليد أن يسفحن على خالد دموعاً.
وسمع راجزاً يذكر خالد فقال والأسف ملء فؤاده: رحم الله خالداً. رحم الله خالداً.
(المنصورة)
خالد عبد المنعم.
فتيات في الأزهر
نشرت الرسالة في عددها رقم (395) نبذة بقلم الأديب (إبراهيم إبراهيم الخولي) بعنوان: (فتيات الأزهر) ورد فيها أن المستشرق الإنجليزي (مستر دن) في كتابه: (الحياة الفكرية والتعليمية في مصر في القرن التاسع عشر) ذكر ما خلاصته أن الحملة الفرنسية في قدومها إلى مصر وجدت في صحن الأزهر بضع نساء يتعلمن إلى جانب الشبان. . . الخ.
والذي أعرفه أنه ليس للأستاذ (هيورت دن) مدرس العربية بقسم اللغات الشرقية بجامعة لندن كتاباً يحمل العنوان الذي ورد في سياق النبذة التي سجلها الأديب، وإنما عنوان كتابه هو:(مقدمة عن تاريخ التعليم في مصر الحديثة).
والكتاب مطبوع في لندن عام 1938
ولا يحوي هذا الكتاب أية معلومات من النوع الذي ذكره الكاتب، وإنما الشائع أنه كانت في مصر في الجيل الماضي بضع نساء لهن إلمام بالنحو والعروض والشعر ومنهن:(فاطمة الأزهرية) و (ستيتة الطبلاوية). وقد درست عليهما السيدة (عائشة التيمورية) القصائد والموحشات والأزجال. فإذا كان حضرة الكاتب يعرف غير ما تقدم، فأرجو إلا يبخل بإرشادنا إلى ما فيه النفع.
محمد أمين حسونة
القصص
الرفاق الثلاثة
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار.
(عزيزي:
إن خطابك المؤرخ في 16 من هذا الشهر قد تضمن من الحماقات ما تضمنه كل خطاب تضمنه كل خطاب تكتبه لأن المركز الذي وضعت نفسك فيه سببه فقدانك التروي والتعقل. . .)
بهذه الألفاظ بدأ هنري وارنج خطابه الذي كان يمليه على كاتبته وهو جالس إلى مكتبه وهي بجانبه تكتب على الآلة الكاتبة. ثم نهض متبرماً ومشى وعلائم الملالة والسأم بادية عليه حتى وصل إلى النافذة فأطل منها ثم أخرج من جيبه خطاب ابنه فأعاد تلاوته وهو يتأفف وقال: (خمسون جنيهاً! هذا كثير! هذا تصرف غير معقول)
ثم عاد إلى السكوت وإلى الإطلال من النافذة فنبهته الكاتبة قائلة: (ألا تريد إتمام الخطاب؟).
فمشى نحوها ووضع يده على كتفها برفق وقال في صوت يتصنع فيه العذوبة: (لقد كنت شارد الذهن - إن ابني الشقي -).
وتنهدم ثم قال: (إن ابني يعاملني معاملة سيئة، فقد رفض مساعدتي إياه على اختيار عمل مناسب واشتغل بحرفة التمثيل ثم تزوج من ممثلة تعسة).
وكان الأب يرتعش عند ما ذكر الجملة الأخيرة. فقالت الكاتبة: (هل هذه الممثلة جميلة).
قال هنري: (إنني لم أرها ولا أريد أن أراها). فقالت الكاتبة: (والخطاب؟).
قال: (اتركيه الآن). ثم أنعم نظرة في عنق الكاتبة وذراعيها وقال: (ألا تتعبين من العمل يا مس ماسترز؟).
فقالت: إنني أتعب كثيراً ولكن لي جلداً على العمل.
قال: ألا تحبين التنزه و. . . والسرور؟ فقالت: إنني أجلس أحياناً في مقهى من مقاهي حي
سوهو.
قال: إن المقاهي كثيرة في أحسن من هذا الحي الحقير. ثم سكت وعاد ذهنه إلى الشرود، وبعد قليل التفت إليها وقال: ماذا كنت أقول لك الآن؟
فقالت: هل كنت تدعوني إلى العشاء؟
قال: إنني آسف، لقد كنت أفكر. . .
فقاطعته قائلة: إنني أقبل إذا أردت.
فابتسم وبدا على وجهه السرور؛ وقال: هذا حسن.
قالت: ولكن خطاب ابنك؟
فتحولت حالته مرة أخرى إلى الغضب وقال: إنني لن أبعث إليه بدرهم واحد.
قالت: إذا كانت هذه هي معاملتك لابنك فإني لن آتمنك على نفسي.
فقال الأب في شيء من الغضب: لماذا تهتمي كثيراً بابني؟
قالت: أنا لا أهتم؛ فقال: إذن فلماذا. . .؟ فأحنت رأسها ولم تجبه؛ وكان منظرها وهي تتحدث باعثاً لخاطر جنوني في نفس هذا الشيخ الفاني فانحنى وقبل شعرها اللامع؛ فقالت بصوت خافت وهي لا تزال مطأطئة الرأس: متى. . . غداً؟
فأجابها: نعم في الساعة السابعة.
قالت: وماذا تقول في الخطاب؟
ثم نظرت إليه وهي تبتسم ابتسامة مغرية؛ فقال: أتمي الخطاب كما تريدين.
فقالت وهي تستأنف الكتابة: أما عن المال، فإن طلبك إياه وقاحة.
قال: اكتبي كما تريدين. فعادت إلى الكتابة وهي تقرأ ما تكتبه: ولكني مع ذلك أبعث إليك تحويلاً بمبلغ خمسين جنيهاً، ثم قالت: هل أوقع الخطاب بتوقيع (والدك الحنون)؟
فلم يجبها؛ وسكتت هي أيضاً.
كان مطعم لويز بلو مزدحماً عند ما دخل هنري وكاتبته فجلسا متقابلين في وسط الزحام على جانبي منضدة، وكانت تحدثه بصوت رخيم وينظر إليها نظرة إعجاب وسألها:(هل أبواك على قيد الحياة؟)
فبدا عليها الاضطراب وقالت بصوت متغير: (إن أبي لا يزال حياً)
فقال هنري: (إنني آسف إذا كان هذا السؤال قد جدد لك ذكرى تريدين نسيانها، ولكني أشتاق إلى معرفة شيء عنك.
قالت: (إن أبي تزوج بعد أمي ولم أستطع الحياة مع زوجته فتركتها) فقال هنري: (ألم تفكري في العودة؟)
قالت: (إذا أردت فإنني لا أستطيع لأنه طردني من المنزل)
فقال: (ولكنه بغير شك أعطاك شيئاً من المال)
قالت الكاتبة: (لقد أرسلت إليه مرة أطلب مالاً فرفض.
فقال هنري: (يا له من وحش! أيستطيع الآباء أن يفعلوا هذا؟. . .)
ثم تذكر الأب بعد ما نطق بهذه الجملة أنه كان بالأمس يريد أن يرفض مطلب ابنه في المال فخجل، وفي هذه اللحظة رأى شاباً يدخل المطعم وقد دلت حالته على أنه يبحث عن إنسان بعينه، لأنه كان يدور بلحظة حول كل المناضد، ولما أدار هذا الشاب وجهه عرفه هنري وإذا به ابنه.
أحمر وجه هنري فجأة ونظرت إليه الكاتبة مستغربة، ثم تمتم بكلمات فهمت منها أنه قد آن أوان الذهاب.
ولكن قبل أن يتحرك امتدت إليه يد الشاب وقال: سعدت مساء يا أبي.
فسأله هنري: ما الذي تعنيه باقتفاء أثري؟
قال الابن: أليس لي يا أبي أن. . . ولكن قبل يتمم جملته وقع نظرة على الكاتبة فسكت، وأشار له أبوه بالجلوس فشكر وجلس، وقال هنري وهو يقدم لابنه كأساً من النبيذ: قل لي لماذا أتيت هنا؟
فقال الابن ببرود: أليس لي أن أبحث عمن يأخذ زوجتي فيدعوها إلى العشاء في المطاعم؟
قال هنري قد احتدم غيظاً: زوجتك! هذه كاتبتي يا روبرت). فقال روبرت: (هذه السيدة كاتبتي أنا يا أبي)
فنظر هنري إلى ابنه ثم إلى الكاتبة فابتسمت ووافقت على قول روبرت فعادت إلى الأب حالة الغضب، فقال روبرت: (إننا نريد يا أبي أن نصطلح. فزمجر هنري وقال الابن: لقد مرت بي وبزوجتي ظروف عصيبة ففكرت في هذه الحيلة. وجاءت للاشتغال عندك ونحن
آسفان على إغضابك)
وقالت الكاتبة: (إنني على ما أراه قد حزت رضاك وإعجابك فلا أظنك تظل على غضبك من زواج ابنك بي)
ومدت قدمها من تحت المنضدة نحو قدمه لتعاكسه كما كان يفعل منذ خمس دقائق. ولكنه لم يجرؤ على ذلك، وقال وهو مغضب:(لقد خسرت كاتبتي يا روبرت)
فقالت وهي تبتسم: (خير لك أن أكون زوجة ابنك)
عبد اللطيف النشار