الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 398
- بتاريخ: 17 - 02 - 1941
محمد محمود باشا
رجلان يُرْبكان الكاتب إذا حاول أن يكتب عنهما: رجل لا يستطيع أن يجد ما يقوله فيه، ورجل لا يستطيع أن يَختصر ما يعرفه عنه. ووصْف (الأول) بالرجولة تساهل في التعبير، وإطلاق لفظ الرجل على (الآخر) قصور في اللغة؛ فإن من المسلَّمات في تاريخ الإنسان أن من أفراده من يعلمون حتى يكونوا خيراً من الملائكة، ومنهم من يسفلون حتى يكونوا شراً من البهائم. أولئك هم أصحاب الرسالات فحياتهم للناس، وهؤلاء هم أصحاب الشهوات فحياتهم لأنفسهم. ولا مراء في أن الرجل الذي فقدته مصر في هذه الأيام السود كان من البابة الأولى في الرجولة: تجلت في خلائقه مزايا الإنسان الرفيع فاتفق على نبله الصديق الحميم والعدو الكاشح؛ وتمثلت في أفعاله خلال الشريف الحر فاعترف بفضله الوطني النزيه والأجنبي المنصف؛ وعاش محمد محمود عمراً ثم مات، كما اشتعل القبس حيناً ثم انطفأ، فقال قوم هو النور والإشراق، وقال آخرون بل هو النار والإحراق؛ وما أرسل الله من قبلُ حكيماً ولا زعيماً إلا آمن به بعض وكفر به بعض. وليس الإيمانُ بالدعوة دليلاً على الصدق، ولا الكفران بها دليلاً على الكذب.
لا يَعني (الرسالة) من تاريخ صاحب الهوى الرفيع والنفس الكبيرة
محمد محمود إلا دينه وخلقه وأدبه؛ وهو في هذه الثلاثة بإجماع الكلمة
كان مضرب المثل وموضع القدوة. فدينه دين المعتقد عن علم، وخلقه
خلق التقي عن عقيدة، وأدبه أدب السرى عن أصالة. وما اجتمعت هذه
الصفات في زعيم حكيم إلا كانت ضماناً لحسن نيته وأماناً من سوء
عمله.
أما السياسة فلا تزال في الشرق العربي كله أثراً للعوامل الأجنبية، فلا تتأثر برأي حزب ولا تتغير بإرادة حكومة. فمن الخطل أن ندخلها في أسباب الحكم على زعيم أو حاكم ما دام يتأثر بها ولا يؤثر فيها. وإذا اعتبرنا السياسة على هذا الوجه السلبي وشهوة من شهوات النفس الطموح تصل من طريقها إلى المال أو الجاه أو الحكم، فقد أبى لزعيم الأحرار الدستوريين نبل فطرته وكرم أسرته أن يجعل أي عَرضِ من هذه الأعراض الدنيا غاية
لهذا الطريق.
اجتمعت لمحمد محمود باشا أرستقراطية النسب والمال والعلم والمنصب. فلو أنه كان يندلق على الناس بالبطر والزهو في الشوارع والمجامع لما كان ذلك بِدْعاً من الأمر، ولكنه - برّد الله بالرحمة ثراه - ظل طول حياته يطالع الجمهور ويعالج الأمور ومن دونه حجاب من التصون الكريم لا يسمح له أن يتخذ الشعب إطاراً لصورته، ولا مظهراً لعظمته.
لم يقل أحد من الناس في وقت من الأوقات:
هذا محمد محمود يعرض سلطان منصبه على عيون الفقراء، أو يفرض إعلان موكبه على حناجر الدهماء، أو يرفد ثروته الضخمة بعضوية ظنينة في شركة من الشركات أو في بنك من البنوك!
ولم يقل أحد من الناس في مناسبة من المناسبات:
هذه زوج محمد محمود تتمرد على تقاليد الشرق وآداب الإسلام، فتشهد مع الرجال حفلات النهار وسهرات الليل!
ولم يقل أحد من الناس في حالة من الحالات:
هذا ابن محمد محمود ينبو على القانون في الدواوين، أو يعربد على الناس في عماد الدين، أو يتنبل باللباس والمركب في طريقه إلى نادي القمار أو إلى سباق الخيل!
إن بيت آل محمود وبيت آل عبد الرزاق هما المثلان الصحيحان في مصر للأسرة المسلمة الحديثة. ذلك لما تهيأ لهما من وسائل السؤدد وشمائل الفتوة؛ وجماع هذه الوسائل وتلك الشمائل قيامهما على أركان من المجد والمال والعلم والشخصية القوية قلما تجتمع كلها لبيت واحد. والسر كله في الشخصية الأصيلة التي خلقت من التليد والطريف والشرقي والغربي مدنية مستقلة كانت أبلغ حجج الإسلام والشرق على من يقولون بلسان الجهالة والوضاعة إن الإسلام ينافي التمدن، وإن الشرق يجافي الحضارة.
ومن هنا كانت حياة الفقيد العظيم بخصائصها المميزة من العزة والعفة والإباء والصدق، رسالة خلقية تقوم على الدعوة والقدوة في فترة من المصلحين الصالحين تفككت فيها الأواصر وتحللت العقد وانماعت النفوس، وأصبح كل عمل يجوز، وكل شيء يمكن، وكل وضع يستقر!
رحم الله محمد محمود! لقد كان فوق الشهوات والحزازات والحوادث فكان عفَّ اليد واللسان والضمير. وكان الناس لندرة هذه الخلال فيهم يحسبونه قد نزع في ذلك إلى أبناء (أكسفُرد)؛ وما كان الشبه بينه وبينهم إلا في صفات القوة كصراحة الخُلق وصرامة النظام والاعتداد بالنفس والاستقلال في الرأي وما يستتبع أولئك من المحافظة على السَّنن الموروث والاكتراث للعرف المتَّبع. وأصول هذه الأخلاق مما ينبت طبيعةً في أقاليم الصعيد؛ ولكنها تزكو زكاء الكلمة الطيبة إذا غذت أرومتها خصائص الجنس الممتاز وفضائل الدين الصحيح.
فإذا برَّح بالأمة الحزن عليه فذلك لأنه كان المثل الشاهد على أنها تلد الرجال الكمَلة إذا نشَّأتهم على سننها القويمة، ولأنه كان القدوة الحسنة لمن كان يشك في نجاح الأخلاق الكريمة.
رحم الله محمد محمود، وعزى أسرته على رزئه أجمل العزاء، وعوض أمته من فقده خير العوض!
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
اتجاه جديد في وزارة المعارف - الهجوم الآثم على الشيخ
سيد المرصفي سينزلون الهاجمين عليه وسيقهر بعض الناس
على الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية واللغوية. . .
والحق أقوى وأغلب.
اتجاه جديد في وزارة المعارف
لا يمرّ أسبوع بدون أن يطّلع الجمهور على أخبار جديدة عن وزارة المعارف، فهي في هذه الأيام مثار حركة ومجال نشاط، والحركة في أقبح صورها أجمل من السكون، لأن السكون في أجمل صوره من نُذُر الفناء
ومن مظاهر الحيوية في وزارة المعارف لهذا العهد خطب الدكتور هيكل باشا، وهي خُطب تشهد بأن هذا الرجل يريد أن يجعل لنفسه تاريخاً في تطّور التعليم، وهو بذلك خليق، فلهذا الرجل لفتات ذوقية واجتماعية تضعه في الصف الأول بين أقطاب الفكر في هذا الجيل
والظاهر أن وزارة المعارف أصبحت من الوزارات المجدودة، فهي منذ أعوام طوال صاحبة الحظ الأوفر من أحرار الرجال. ألم يتول أمورها أعلامٌ كان منهم: زكي أبو السعود، وأحمد ماهر، ولطفي السيد، وبهي الدين بركات، وعلي ماهر، ومحمد علي علوبة، وحلمي عيسى، وعلي زكي العرابي، وأحمد نجيب الهلالي، ومحمود فهمي النقراشي؟
وزارة المعارف هي تاج الوزارات، وإليها يرجع الفضل في تكوين العقول والقلوب والأذواق، وعن وزارة المعارف يصدُر النشاط الأدبي والفني والاجتماعي، وهي صوت مصر في الشرق والغرب يوم يوضع للفضل ميزان.
تلك وزارة المعارف، فما حالها في هذه الأيام؟
كان يُظَن أن المسيطرين على وزارة المعارف قد يفوتهم النظر فيما يوجَّه إليهم من الملاحظات عن طريق الجرائد والمجلات، ثم ظهر أن في الوزارة رجالاً يقرءون ما يكتب
ويسمعون ما يقال، وإن كان فريق منهم يعيش في أبراج من العاج!
لقد آمنت وزارة المعارف بأن من الواجب أن يظفر التلميذ المتوسط بالنجاح في امتحانات النقل والامتحانات النهائية، فأوصت بأن (توضع الأسئلة بحيث تكون الإجابة في متناول الأوساط من التلاميذ)
وهذا فتح جديد، فقد كان مفهوماً أن الامتحان من ضروب التأديب، ليصح القول بأن (من المحنة جاء الامتحان)؟
وماذا تغنم الأمة حين ينجح التلميذ المتوسط؟
يقول المتحذلقون إن نجاح الأوساط من التلاميذ قد يجني على سمعة العقلية المصرية، وهؤلاء المتحذلقون هم مصدر البلاء، وهم عند التحقيق بعيدون كل البعد من السياسة الحكيمة في رياضة العقول، والزمن الغافل هو الذي قضى بأن يكونوا من المرِّبين.
إن النجاح - ولو عن طريق التسامح الرفيق - يقّوي الشخصية المعنوية، ويزيد في عزائم التلاميذ، ويشعرهم بأن الجدّ له جزاء، ولو كان أقل مما يجب أن يتحلى به الطالب الرشيد.
لم يعرف المرّبون في مصر أن نتائج الامتحانات العمومية - تلك النتائج الضعيفة الهزيلة - كانت الشاهد على أنهم حُرِموا نعمة التوفيق في إيقاظ الغوافي من عزائم التلاميذ؛ وكانت البرهان على أن الجاذبية بينهم وبين تلاميذهم قد انقطعت أقبح انقطاع؛ وإلا فكيف جاز أن يقضي التلميذ سنة كاملة بين أيدي أساتذته بدون أن يستفيد، أو بدون أن تعي آذانه نصف ما يسمع، أو بدون أن يتجه قلبه إلى معانيَ جديدة تسوقه سوقاً إلى منازل الفضل والتشريف؟
المرّبون هم علة العلل في فساد هذا الجيل، فهم السبب في ذهاب البشاشة من الحياة المدرسية، وهم الذين حولوا الجوّ المدرسي إلى مجازر نفوس، ومصارع قلوب، بفضل ما وَقر في أذهانهم من أن وزارة المعارف لا تريد إلا أن يكونوا جبابرة مستكبرين.
لا يصلح المدرس لمهنة التدريس إلا حين يشعر التلميذ بأنه أبّر به من أمه وأبيه. أما المدرس الجهم الوجه، الغليظ الكبد، القاسي القلب، فله مكان آخر هو حراسة المساجين. ومن العجيب في مصر ألا تنال المدارس من العناية بعض ما تنال السجون! فالسجون مصدر خير على من يعيشون فيها، لأنها تؤهلهم للحياة؛ أما المدارس فهي تؤهل بعض
أبنائها للتشرد البغيض، لأنها ترمي ثلاثة أرباعهم في الشوارع بلا رحمة ولا إشفاق، بحجة أنهم لا يجيبون وفقاً لنماذج الإجابة، وهي صور لا يضعها من شابت نواصيهم في التعليم إلا بعد إجهاد الفكر في غَفوات الليل!!
ليت المدرسين يعلمون! ليت المدرسين يعلمون! ولو استطعت لكررت هذه العبارة ألف مرة! ولكن أين من يسمع؟!
يدخل المدرسون إلى أماكن التصحيح في الامتحانات العمومية وهم لا يدركون ما يُقبِلون عليه من شؤون لا يجوز فيها المزاح، فيصنعون ما يصنعون بمصاير جيل بريء لا ذنب له غير الاعتراف بأبوّة أولئك (الراحمين)، وتكون النتيجة أن يفقد أكثر الشبان فضيلة (الاكتراث) لأنهم يشهدون أن المقصر قد يفوز، وأن المجاهد قد يخيب. وأين الفوز في امتحانات لا ينجح فيها بين كل مائة تلميذ أكثر من ثلاثة وعشرين ثم لا يُقبل منهم في الجامعة غير آحاد!
والأمة المصرية التي تبحث عن المعادن المطمورة في الصحراء الشرقية والغربية هي ذاتها الأمة المصرية التي تقتل عواطف شبانها بسيف الامتحانات العمومية؛ ثم يأخذ بعض جلاديها جزاءهم على ذلك القتل، ولم يبق إلا أن تُحلَّى صدورهم بالأوسمة والنياشين!!
غيِّروا بأنفسكم، يا بني آدم، من المدرسين بهذه البلاد. غيروا بأنفسكم، قبل أن يضع الله السم فيما تنالون من أجور الامتحانات!
المعروف للجميع أن البكالوريا في مصر أصعب منالاً من البكالوريا في فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فهل نحن أعظم من الفرنسيين والإنجليز والألمان؟
وماذا غنمنا من قوة البكالوريا في مصر وهي لا تكفي للانتساب إلى الجامعة المصرية إلا في حدود أضيق من سمْ الخِيَاط؟
نريد أن نعرف مصاير أبنائنا في هذا البلد الذي قيل فيه إنه مَجمَع الغرائب!
نريد أن نعرف إلى أي حد تنتهي الخصومة بين الجامعة ووزارة المعارف!
ولكن من يبلغ هذا الصوت إلى الرجال المسئولين؟
من يبلغهم هذا الصوت والشيوخ والنواب لا يهتمون بغير مسائل فردية يتقدم فيها طالب على طالب بدرجة أو درجتين؟
ليس المهمّ أن يُستَجوب وزير المعارف عن هذه التوافه من الشؤون، وإنما المهمّ أن يُستجوَب عن مصاير المتعلمين في هذا الجيل.
المهم حقاً وصدقاً أن ينسى الوزير أنه مسئول أمام الشيوخ والنواب، وأن يذكر أنه مسئول أمام الضمير المصري، والضمير المصري يصرخ صراخ الجزع والرعب من ضياع أبنائه بين الجامعة ووزارة المعارف.
وقد ظهرت تباشير تشهد بأن الوزير قد سمع صراخ الضمير المصري لهذا العهد، فمتى يقال إنه نودي فأجاب؟ ومتى نسمع أن التعليم صار من وسائل الحياة الكريمة في هذه البلاد؟ متى؟ متى؟ علينا أن ندعو، وعلى الوزير أن يجيب!
الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي
في العدد 391 نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبية جاء فيها أن الأستاذ السباعي بيومي وصف الشيخ المرصفي (بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد وسطحية البحث والتطاول الذميم) وأنه (حَكم بأن أخلاقه ذهبت بفضله كما تذهب الريح العَصوف بسحيق التراب)
وفي العدد 392 نشرت الرسالة رداًّ بإمضاء عبد الرحمن أيوب مع كلمة من الأستاذ السباعي بيومي تشهد بأنه أقر ما جاء بذلك الرد، وهو يلخص في أن الأستاذ السباعي حكم بأن الشيخ المرصفي (كان يملكه الغرور) وأن (الأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدُر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد) وأن كتابه ظهر في سنة 1923 على حين لم يظهر كتاب الشيخ المرصفي إلا في سنة 1930، وأن فهارس كتاب الشيخ المرصفي وعناوينه سُرقت من كتاب الأستاذ السباعي، وأن المرصفي لم يكن أستاذ السباعي!
وفي العدد نفسه 392 نشرت لي الرسالة كلمة عتاب موجهة إلى الأستاذ السباعي بيومي، وقد جاء في تلك الكلمة أن الأستاذ تحدث عن أخلاق الشيخ المرصفي بما لا يليق، (فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفِه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاءً على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يعترض لأخلاق الشيخ المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء)
ثم لقيني صديق عزيز فقال: لم يرضني تحدَّيك للأستاذ السباعي بيومي، فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن يجعل مقالاتك من موضوعات الدروس بدار العلوم وذلك من شواهد الإعجاب.
وعندئذ رجعت إلى نفسي فحفظتُ للأستاذ هذا الفضل، وآثرت الصمت، ولكن الأديب علي محمد حسن كتب إليّ خلاصة ما تجنَّى به السباعي على المرصفي وأكد أنه قال:
(أنا أحذركم من قراءة كتاب المرصفي فإن فيه من الخطأ أكثر ما يتوهم أن يكون في كتاب الكامل من الخطأ، وأنا أدعوكم مرة أخرى إلى إساءة الظن بهذا الرجل، فقد كان ممتلئاً غروراً) وأكد هذا الأديب أن الأستاذ السباعي لن ينكر ذلك الكلام (وقد كان الحضور كثيرين من أساتذة وطلاب)
ومع هذا فقد كان في النية أن أسكت عن الأستاذ السباعي لأنه صديق، ولأن هجومه لن يقلقل مركز الشيخ المرصفي وهو أرزن من الجبال، ولأن الأقدار قضت بأن يكون الأستاذ السباعي من زملاء الأستاذ محمد هاشم عطية والأستاذ أحمد زكي صفوت، وهذه الزمالة تمنحه عندي طوائف من الحقوق.
ثم ماذا؟ ثم رأيت أنه ليس من الصعب أن أدفع الشر عن تاريخ الشيخ المرصفي، وأن أقدِّم في الوقت نفسه خدمة أدبية للأستاذ السباعي، ولن يُخدَم الأستاذ السباعي وهو صديق إلا بجذبه إلى الجدل على صفحات الرسالة في أسلوب رفيق لا يغض من مركزه بين تلاميذه بمدرسة دار العلوم.
وإنما نصصت على الأسلوب الرفيق لأن أكثر الأدباء يفرّون من وجهي بحجة أني لا ألقاهم إلا بقلم تطير على أسلاته شظايا الشراسة والعنف.
وقد استجاب الأستاذ السباعي لهذه الدعوة، وأعلن على صفحات الرسالة أن في الخصومات الأدبية مجالاً واسعاً للبحث والتدقيق.
وما دام الأمر كذلك فأنا أقدم الحقائق الآتية:
أولاً - قضى الشيخ سيد المرصفي شبابه في خدمة كتاب الكامل للمبرد، وظفر من ذلك الجهاد بكتاب اسمه:(رغبة الآمل في شرح الكامل) وقضى الأستاذ السباعي بيومي شبابه في خدمة كتاب الكامل للمبرد، وظفر من ذلك الجهاد بكتاب اسمه:(تهذيب الكامل)
فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة أن يكون الفرق بين (رغبة الآمل) و (تهذيب الكامل) كالفرق بين المرصفي والسباعي، وهو بونٌ شاسعٌ جدًّا بحيث يعجز عن اجتيازه نوابغ الطيارين من الإنجليز والألمان، ولو كانوا أقدر من بعض الناس على التحليق في جواء الادعاء.
ثانياً - أعلن الأستاذ السباعي أن كتاب الشيخ المرصفي ظهر في سنة 1930 والصواب أنه ظهر سنة 1927 وليس لهذا التاريخ أهمية، وإنما الأهمية للتاريخ الذي أخذ فيه الشيخ المرصفي يشرح الكامل، وهو تاريخ يرجع إلى أكثر من أربعين سنة يوم أوصاه الشيخ محمد عبده بتدريس (الكامل) لطلاب الأدب من الأزهريين، ففي ذلك العهد ثار الشيخ الشنقيطي وطلب إلغاء ذلك الدرس، وكان مفهوماً عنده أن المبرِّد أكبر من أن يتسامَى إلى نقده رجلٌ من المحدَثين، ولكن الشيخ محمد عبده تلطف فأرسل الشيخ إبراهيم عامر إلى الشيخ الشنقيطي ومعه ملزمة من شرح الشيخ المرصفي، فدهش الشيخ الشنقيطي وسارع إلى الاعتذار، ثم صارحَ الشيخ محمد عبده بأن المرصفي لا يقل علماً بأسرار اللغة عن المبرّد.
ثالثاً - كان كتاب (رغبة الآمل) كاملاً من جميع الجوانب حتى في سنة 1915 وقد رأيته بعينيَّ في ذلك العهد ورآه معي الشيخ الزنكلوني طيَّب الله ثراه!
ولن أنسى ما حييتُ تلك العبارة الشعرية التي صرخ بها الشيخ المرصفي وهو يقدِّم إلينا شرحه على كتاب المبرد، لن أنساها أبداً، فقد قال شيخنا العظيم وهو يخاطب المبِّرد:
(الله على أيامك، يا بَطَل!!)
والكتاب الذي كان كمل من جميع نواحيه حتى الفهارس قبل سنة 1915 هو الكتاب الذي سُرِقَتْ بعض فهارسه من كتاب ظهر في أواخر سنة 1923.
رابعاً - لم يكن الشيخ المرصفي يطلِّع على شيء من مؤلفات المعاصرين، فكيف اختص الأستاذ السباعي بتلك العناية؟ تلك والله إحدى الأعاجيب!
خامساً - كان الشيخ المرصفي أول رجل تسامَى إلى نقد مؤلفات الأكابر من القدماء، وكان أول رجل أقرَّ (كرسي الأدب) في الأزهر الشريف، وكان أول رجل جعل للأديب مكاناً بين (جماعة كبار العلماء) فكان بتلك الصفات أوحد عصره بلا جدال.
فماذا صنع الأستاذ السباعي في دار العلوم، ولن يكون إلا الرابع أو الخامس بين أساتذة تلك الدار، مع التسامح الشديد؟
سادساً - برَّأ الأستاذ السباعي نفسه وطهَّر تاريخه من التلمذة للشيخ سيد المرصفي، فأين هو من تلاميذ الشيخ المرصفي وكان منهم محمد إبراهيم هلال، ومحمود حسن زناتي، وأحمد حسن الزيات، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين؟
سابعاً - ترك الشيخ المرصفي ذخيرة عظيمة، منها: شرح الكامل، وشرح الأمالي، وشرح الحماسة، وشرح العقد الفريد، وشرح أراجيز رؤية وأراجيز العجاج؛ ومنها: التعقيب على لسان العرب، والنص على أغلاط صاحب المفصَّل والكشاف. فماذا صنع الأستاذ السباعي، وكان عمره موقوفاً على نقل نصوص الكامل من مكان إلى مكان؟!
ثامناً - أثَّر المرصفي في عصره أبلغ التأثير، فكان الرجل يتشرف بالانتساب إليه، كما صنعتُ حين رثيته يوم وصل نعيه وأنا طالب في جامعة باريس، فكم طالباً يسرُّهم أن يقولوا: إنهم تلاميذ السباعي بيومي؟!
تاسعاً - كان تلاميذ المرصفي يقيِّدون جميع ما ينطق به، ولو عن طريق المزاح، وقد قيدتُ من كلامه ثلاثين كراساً، فأين ما قيَّد تلاميذ السباعي من كلامه البليغ؟
عاشراً - دخلتْ مؤلفات الشيخ المرصفي على القلوب بدون استئذان، ولم يدخل كتاب الأستاذ السباعي دار العلوم إلا بعد أن صار أستاذاً بتلك الدار، وبعد أن مات الشيخ علاّم!
أما بعد، فهذه طلائع لغزوة شريفة تنقل عقل الأستاذ السباعي من وضع إلى وضع، وذلك فضلي عليه، وهو واجب الصديق نحو الصديق؛ وقد تلطَّف فأشار إلى أنه سيخاصمني خصومة أدبية، وهي خصومة أرحب بها كل الترحيب، لأني أشعر شعوراً صادقاً بأني موكلٌ بإحياء العزائم والقلوب.
وقد أسرف في الكرم فأعلن أني لن أجترئ على الكتابة بعد أن ينشر في (الرسالة) كلمتين!
وأقول: إني لن أصفح عنه أو يشتغل محرراً متطوعاً بمجلة (الرسالة) ثلاث سنين، كما قهرت أخاً له من قبل على أن يشتغل محرراً متطوعاً بجريدة (البلاغ) ثلاث سنين!
وهي محنةٌ صُبتْ من شاهق على الأستاذ السباعي، فليتحملها صابراً، وليوطن نفسه على أن الخصومة بيني وبينه لن تنتهي قبل بداية شهر مايو، وهو الموعد الذي حدده الشيخ
الأسيوطي لنهاية الحرب بين الإنجليز والألمان!!
وكيف يخيفني تهديد الأستاذ السباعي وليس في ماضيه الأدبي غير نقل نصوص كتاب الكامل من مكان إلى مكان، وتلك مهمة يقوم بها أحد النساخين بدراهم معدودات؟!
امثلي يخاف من عواقب الجهر بكلمة الحق وقد قضيت دهري ممتحَناً بعداوات الرجال؟
الأستاذ السباعي يهدد بمقالتين اثنتين، وهو يعرف من نفسه أكثر مما أعرف، فهل يتوهم أني سأخلي له الميدان ليخاطر نفسه كيف شاء؟!
لقد تلطفت معه أكثر مما يجب، ولم يحفظ جميلي، فكيف يراني أعطف عليه وقد تردَّى بثوب العقوق؟
ثم أما بعد، فقد حكمت على الأستاذ السباعي بترك دروسه في دار العلوم ليشغل نفسه بمخاطرتي، وليقول: إن (تهذيب الكامل) أعظم من (رغبة الآمل)، كما كان نجم الأرض أعظم من نجم السماء!!!
وماذا يمنع من أن يكون السباعي أعظم من المرصفي؟ ماذا يمنع وقد اختلت الموازين وفسدت الدنيا إلى أبعد حدود الفساد، حتى جاز للأستاذ السباعي أن يهدد صديقه القديم:
زكي مبارك
إلى الدكتور زكي مبارك
خصومة أدبية
للأستاذ السباعي بيومي
أولى الكلمتين
وعدت حضرات القراء في عدد الرسالة الأخير أني سأنشر في عدديها المقبلين كلمتين اثنتين، أتوجه فيهما بالحديث إلى صديقي الدكتور زكي مبارك. وهذي أولى الكلمتين، وهي كما رسمت حين وعدت، ترمي إلى تقرير الموضوع الأصيل الذي من أجله كتب الدكتور.
ألقيت محاضرة بمدرج على مبارك باشا في دار العلوم عن (أسلوب المبرد في كامله) وعقب انتهائي منها طلب أحد مستمعيها من طلاب كلية اللغة العربية السماح له بكلمة، فأجبته إلى ما طلب، وكانت كلمته أربعة أسئلة ألقاها، رمي المبرد في رابعها بالغرور والادعاء، وأنه كان لا يتحرى إذا أجاب. فرأيت الموقف يقضي عليّ أن أرد عليه، وفعلاً رددت، وكانت إجابتي عن السؤال الأخير تتلخص في نفي تلك الصفات الذميمة عن المبرد نفياً قاطعاً، استدللت عليه بامور، منها أن من شأن من لا يتحرز في إجابته إلا يمسك إذا لم يتثبت، وإنما يرمي بالقول جزافاً، ويخترع الإجابات اختراعاً، وعهدنا بالمبرد انه غير ذلك، فقد رأيناه في كامله إذا عرض له ما لا يعرفه اعترف بذلك، خضوعاً لتلك الكلمة الجامعة التي لا ينزل على حكمها إلا الثقات الأعلام، وهي (من قال لا أدري فقد أجاب) ثم أخرجت من الكامل شاهداً على ذلك أسمعته الحاضرين، ومنها أن من خالط قلبه الغرور وتملكه الادعاء لم يك في مقدوره أن يخفي ذلك في مصنفاته، بل لا بد أن يفضحه أسلوبه.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفي على الناس تعلم
وليس في كامل المبرد على كثرة كسبه فيه ونسجه حول أصوله، ما ينفي عنه صفة التواضع العلمي، أو يلقي على أبحاثه ولو ظلاً صغيراً من الكبرياء والادعاء.
ودعماً لهذا الاستدلال الأخير في أن أسلوب الكاتب يشف عن خلائقه، قلت للسائل - وقد ذكر أنه استقى ذلك من شرح الشيخ المرصفي على الكامل - إن مؤلفات المرصفي هي التي تنم عن خلق الغرور والادعاء فيه، كما يعلم ذلك من أطلع على هذا الشرح ومقدمته؛
وكذلك من أطلع مثلهما فيما عمله بديوان الحماسة. وقلت: وإنه لتأصل هذا الخلق فيه كان شديد التحامل على المبرد والتشهير به فيما يظن أن المبرد أخطأ فيه؛ ثم قلت: وكم كنا نتمنى للشيخ المرصفي أن يجرد علمه من غروره، ويسبل على تأليفه ثوباً ضافياً من التواضع والاعتدال، حتى يكون ذلك أبين لفضله وأدل على نبله.
وأخيراً قلت: ولا يبعد أن تكون البيئة العلمية التي عاش فيها المبرد قد تقولت عليه ما تقولت حسداً وبغياً، فإن علماء عهده ما كانوا يعهدون من علمائهم إمامة في اللغة إلا في ناحية واحدة منها، كناحية قواعدها، أو ناحية مفرداتها، أو ناحية آدابها، ولكن المبرد كان إماماً ذا آراء في هذه النواحي الثلاث جميعاً، فهم بما كانوا يتقولون عليه إنما يريدون انتقاصه شفاء لما دب في صدورهم عليه من حقد وحسد.
ولقد خفت أن يهجس في نفوس السامعين تنزيه قلوب هؤلاء العلماء من رذيلة الحسد فأتبعت ما سبق بقولي لحضراتهم: ولا تستبعدون الحسد على العلماء، فإن من طبيعته أن تكون أقرب إلى الأدنين منه إلى الأباعد، وأسرع إلى قلوب العلماء منه إلى قلوب الجهال، وإذا ما شئتم مزيداً في معرفة هذه الطبيعة - طبيعة الحسد - فاقرءوا رسالة الجاحظ فيه، وهي اكثر من اثنتي عشرة صفحة.
ذلك ما قررته في إجابتي عن السؤال الأخير، بعد الذي قررته في الإجابة عن الثلاثة قبله. وما كان أشده عجباً وأبعده غرابة أن تطوى صحيفة الإجابات الثلاث وقد سلخت فيها نحو الساعة، تم تشوه هذه الإجابة الأخيرة تشويهاً يمسخها مسخاً، وإذا أنا أمام الواصل إلى منها كالذي يستمع إلى الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة) دون ذكر هذه الجملة الحالية بعدها (وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فقد كان هذا الواصل أنني وصفت الشيخ المرصفي (بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد والسطحية البحث والتطاول الذميم) وأنني تعديت ذلك إلى (تجريح طوائف العلماء على اختلاف مهنهم وحكمت بأن طباع الحسد والحقد لا تجد لها مراحاً خصيباً كالذي تجد من قلوب العلماء)
وا رحمتا للأخبار من رواتها! فما كان مني عن الشيخ المرصفي علم الله إلا أسفي على ما خالط مؤلفاته من غرور وادعاء وتطاول على المبرد في أسلوب غير حميد؛ وما زلت معتقداً هذا رضى الدكتور أم سخط، وواثقاً أن كثيراً من أهل العصر يعلمونه علمي،
ويعرفون كيف يستدلون عليه استدلالي. وكم كنت كما قلت في إجابتي أتمنى خلوّ مؤلفات المرصفي من غروره، حتى لا يذهب هذا الغرور بفضله، وما كان مني عن العلماء شهد الله إلا أنهم في بيئة المبرد حسدوه تنوع ثقافته وتعدد إمامته، وأن هذا الحسد لم يك من شأن علمهم أن يبعده عنهم، لأن الحسد كما يقولون مُوكَل بالأدنى، وهو كما ذكر الجاحظ في رسالة الحسد:(قد صار العلماء أكثر منه في الجهال، ودب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين). وأنا بهذا الرأي لا زلت ولن أزال أدين، وافق الدكتور أم خالف.
هذا يا صديقي الدكتور هو الأمر الأصيل على جليته، قد بسطته موضوعاً في نصابه مقرراً على وجهه، لا كما تطايرت به الإشاعات بل الإشاعات المغرضة، وأنت بما تدخله روايات السوء على الأخبار جد خبير. وقديماً قالوا: وما آفة الأخبار إلا رواتها. ولعلك يا صديقي عتبت عليّ أني لم أجبك أول ما سئلت، وما كان لك أن تعتب، فتلك عادة الناس فيك وموقفهم منك. على أني أخالف تلك العادة وأجيبك عسى أن تستريح.
تعلمْ يا صديقي أن إغفال إجابتك ما كان إلا استبعاداً عليك أن تفهم ما فهمت، وإلا أملاً أن يردك هذا الاستبعاد إلى الحقيقة تستقيها بعيداً عني، من غير كاذب فيها أو مشوه لها، وشهود المحاضرة كانوا بحمد الله كثيرين. ولا أكتمك سبباً آخر قوى هذا الإغفال في نفسي، ذاك هو أمرك لي أن أسارع إلى نفي ما سمعت إن كان لم يقع، وإلى الاعتذار منه إن كان قد وقع، وإسرافك في هذا الإسراع تطلبه في أول عدد يصدر من الرسالة، وثالثة الأثافي أن تقول لي:(إلى أن يثبت الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك). سبحانك اللهم وتعاليت! فما كان لأحد أن يقول: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) إلا أنت.
تلك الثلاث يا صديقي وغيرهن كن محرضاتي على ترك أول عدد من الرسالة يصدر خلواً من نفيي واعتذاري، لأقف على ما في كنانتك من سهام، ولأتذوق ما قد يصبه غضبك في الجام. وهأنت قد اغتررت فكتبت كلمة ثانية تؤذنني فيها بخصومة تريدها أدبية، والله أعلم بما تريد، وترميني فيها بفرية السرقة منك، جاهلاً كما ستعلم في كلمتي الثانية أنك أنت الذي افتريت وسرقت.
وبعد فإن وصاتي لك يا صديقي أن نتريث، فإن في العجلة وبالاً عليك، وألا تعود تغتر
بسكوتي عنك، فما مثلي ومثلك فيه إلا كما قال الأول:
ما بال من أسعى لأجبر عظمه
…
حفاظاً وينوي من تطاوله كسري
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم
…
ستحملهم مني على مركب وعر
وإني وإياهم كمن نبه القطا
…
ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غداً
…
فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
السباعي بيومي
في الاجتماع اللغوي
تطور معاني المفردات
عوامله وآثاره
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
لهذا النوع من التطور الدلالي عوامل كثيرة سنعرض لبعضها في هذا المقال، مرجئين تكملتها إلى مقال آخر إن شاء الله
1 -
عوامل تتعلق بانتقال اللغة من السلف إلى الخلف. فكثيراً ما ينجم عن هذا الانتقال تغير في معاني المفردات. وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام بعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع أو المجاز. فقد يكثر استخدام الكلمة مثلاً في جيل ما في بعض تدل عليه، أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد. وإليك مثلاً كلمة الفرنسية؛ فقد كان معناها في الأصل (الشبعان) من الطعام، ثم كثر استخدامها في عصر ما في النشوان من الخمر، عن طريق المجاز والتهكم، وللتحرج من استخدام الكلمة الصريحة في هذا المعنى وهي فعلق هذا المعنى الجديد وحده بأذهان الصغار في هذا الجيل، وتحول إليه مدلول هذه الكلمة فأصبحت صريحة فيه، وانقرض معناها القديم في لغة التخاطب.
وإلى هذا العامل ترجع أهم الأسباب في تحول الكلمات إلى معان كانت مجازية في الأصل، وفيما يعتري المدلولات في نطاقها من سعة أو ضيق. بل إن طائفة من العلماء، وعلى رأسها العلامة هرزوج قد رجعت إلى هذا العامل وحده كل ما يحدث من تطور في الدلالة.
2 -
وكثيراً ما يتغير مدلول الكلمة على أثر انتقالها من لغة إلى لغة؛ فقد يخصص مدلولها العام، وتقصر على بعض ما كانت تدل عليه في لغتها الأصلية، وقد يعمم مدلولها الخاص، وقد تستعمل في غير ما وضعت له لعلاقة ما بين المعنيين، وقد تنحط إلى درجة وضيعة
في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره، وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . كما أشرنا إلى ذلك في بعض مقالاتنا السابقة.
3 -
وقد يكون العامل في تغير معنى الكلمة أن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به. . . وما إلى ذلك. فكلمة (الريشة) مثلاً كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور، ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعاً لتطور المادة المتخذة منها آلة الكتابة، فأصبحت تطلق على قطعة من الحديد مشكلة في صورة خاصة. والقطار كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر والنقل، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعاً لتطور وسائل المواصلات فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها قاطرة بخارية. و (البريد) كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعاً لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر. و (بنى الرجل بامرأته) كانت تستخدم كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباء جديداً؛ ولا نزال نستخدم هذه العبارة كناية عن نفس المعنى مع أن الزفاف لا علاقة له في نظمنا الحاضرة بالبناء. وقد جرت العادة في بعض العصور بفرنسا أن يقضي المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة مدة عقوبتهم في أعمال التجديف على ظهر السفن الملكية؛ ومن ثم جاءت عبارة ولكن تغير الآن مدلولهما، مع بقائهما في الاستعمال، تبعاً لتغير النظم المتصلة بهذه العقوبة ونوعها.
4 -
عوامل تتعلق باختلاف الطبقات والجماعات. فكثيراً ما ينجم عن اختلاف الناس في طبقاتهم وفئاتهم اختلاف مدلول الكلمات وخروجها عن معانيها الأولى. ويؤدي إلى ذلك ما يوجد بين الطبقات الناطقة باللغة الواحدة من فروق في الخواص الشعبية والجسمية والنفسية، وفي شؤون السياسة والاجتماع والثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان ومستوى المعيشة وحياة الأسرة والتقاليد والعادات. . .، وفي الظروف الطبيعية والجغرافية المحيطة بكل جماعة منها، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته، وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها
في حياتهم، وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له، أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم وأعمالهم. . . وهلم جراً. فمن الواضح أن هذه الأمور وما إليها من شأنها أن تخرج بالكلمات عن مدلولاتها الأولى وتوجه معانيها في كل طبقة وفي كل جماعة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها فينشأ من جراء ذلك ما يعرف (باللهجات الاجتماعية) التي تكلمنا عنها في مقال سابق.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون
6 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
بين الغفلة واليقظة - صيحة في أذن الإنسان - لو، ولعل،
وربما - لا ملام على الأقدار - لم تفت الغاية - نقطة البدء
في الحياة الفكرية - الجناية الأولى - حادث عظيم - آثار من
الوثنية - الوضع الأصيل الدين - ديانة الحياة.
حينما أعس وأندس إلى مجلس في مقهى بلدي حقير أرقب الحياة الإنسانية في بعض جوانبها، وأتفرس في وجوه القوم ونواصيهم، وأتسمع إلى أحاديث دنياهم وآمالهم وأعمالهم، وأتتبع نظراتهم للحياة فأجدها لا ترتفع إلى شيء سام، ولا تدور حول قضية من القضايا العليا للحياة، ولا تفكر في مبدأ أو مصير، ولا تتساءل عن صلاح أو فساد. . .
وحينما أقذف بجسمي في زحمة سوق من الأسواق بين ضجيج الحركات والأصوات والأبواق وصفقات الأيدي الخاتلة على الأيدي المختولة في العقود والمبايعات، وسائر الارتفاقات والمشاحنات.
وحينما أرصد حياة الأفراد اليومية. فأجدها سلسلة من الغفلات والأكلات واللذات والأعمال الآلية التي لا استحضار فيها لمعان كريمة، ولا يقظة فيها إلى أسرارها ومآل الإنسانية بها. . . وإنما هي دورات رحوية وسير أعمى وراء دولاب الحياة من غير سؤال: إلى أين المسير؟
حين هذا كله أجد في نفسي كأن الإنسانية عريقة في غفلتها وذهولها، وكأنها خلقت لهذه الغفلات ولن تكون لغيرها، ولن تكون لحياة أخرى وراء هذه الحياة. . . وكأنها منفصلة عن حياة الطبيعة الحادة الواعية العادلة الموزونة انفصالاً يكاد يجعلها عالماً مستقلاً. . .
ذلك وحي رؤيتي لغفلات الناس وانقطاعهم عما يدور في الأكوان، وإهمالهم التفكير في مبدأ الحياة ومنتهاها وفي خفايا الطبيعة وأسرارها. . .
وحين أجلس مجلساً تثار فيه الأفكار عن الكون والفساد والحقائق والأباطيل وتصول فيه العقول وينبري بعضها لبعض بالاعتراض والرد والتعليق والتشقيق والبيان الساحر
والحجج اللاقفة. . .
أو حين أقرأ كتاباً يعرض فكرة من أمهات الأفكار ويسيل به سيلها فيفيض على الفكر والفؤاد. . .
أو حين أرى آلة معقدة التركيب تطير أو تسير أو تخفق بالأصوات والبرقيات مما أخرجه عقل مهندس ذي قدرة على الاستيعاب والتقليد والابتكار. . .
أو حين أرى شيخوخة جليلة واقفة في محراب تتلو صلوات أو ترتل آيات في إطراق وخشية واستحضار لعظمة الكون وجلال بارئه. . .
أو حين أسمع نشيداً من شاعر ذي قلب اتسع وتيقظ للأحاديث الصامتة والناطقة في الطبيعة، واسترق السمع للنغم الذائب في الكون، والموسيقى الأبدية في حركات نجوم السماء ونجوم الأرض. . .
حين هذا وذاك وذلك أقول: هنا موضع تكريم هذا الجنس ومؤهلات خلافته. . .
هنا الإنسانية التي تقنع العقل الحائر بقيمته وقيمة الطبيعة وقيمة الخير والحق والجمال.
هنا وضوح وانكشاف لمعنى سيادته وملكوت واسع يصح أن تستند إليه في تخيل مستقبله وفي تبين موضعه وسط ما يعمر الكون من المخلوقات. . .
ثم أصيح: أيها الإنسان! تيقظ لنفسك لتفرح بها. . . تيقظ إنك حي تسعى وترى وتفكر وتتجه في أي اتجاه تريد وسط الظلام والجماد والنور والصمت والبكم والصمم والعمى.
أنت الذي تفقه وتدرك تلك الحياة التي لا تجد غير عينك وأذنك وسائر حواسك.
تذكر أنت المقصود بكل هذا الذي يحيط بك وأنك خليفة على مقدرات الأرض وأن في يدك قوة من قوى التعمير والإنشاء والتوجيه والتغيير والتنويع والتفريع، وذلك شرف عظيم!
تيقظ واهتف في سمع الزمان والمكان: أنا أنمو وأترقى وأتكلم وأفكر وليس أمامي حدود وسدود أيتها الخلائق الواقفة المحدودة. . .
وأجلس بجانب الجماد والنبات والحيوان فترات لترى الفوارق بينك وبينها. . . ولن يغفر خالق الإنسان لامرئ جاء إلى الحياة ولم يجلس مجلساً بين هذه الكائنات يوازن بينها وبين نفسه ويحدد موضعه منها، ثم يرفع عينه إلى السماء ويخفضها إلى القبر حتى يرى الطريق بينهما. . .
تيقظ إلى الذي مسنا بالحياة ونحن نجهلها ونجهله، وأخرجنا ذاهلين إلى الضحى النهار وسواد الليل، وأرانا مشاهد ثابتة صارمة في السماء ومشاهد مَرنة متغيرة في الأرض، وبدأ حياتنا من نطفة، ومَطّ أجسامنا من مضغة لحم ملقاة في ظلمات الأرحام إلى أجنة مكتملة التخليق إلى أطفال دراجين إلى غلمان يافعين إلى مراهقين متفتحين إلى شبان مشبوبين إلى كهول وشيوخ منتظرين لا يعلمون وراء أيامهم أياماً. . .
إلى الذي أدار الشمس أمام عيوننا دوراناً يبلي في أجسامنا نسيجاً وينسج آخر، ويزيد في أفكارنا صوراً وينقص أخرى، ويطوي الأيام تحت أقدامنا سفراً من الزمن، ثم يطوينا بالأيام عضواً عضواً وذكرى وراء ذكرى. . .
إلى الذي فتح في نفوسنا نهماً لا يشبع من أطايب الوجود وحقائق الوجود، ثم سجننا في سجون القبور إلى يوم النشور. . .
إليه منا نحن الذين نبحث عنه منذ أن دخلنا عالم الفكر وننتظره وراء الأستار ونقرع باب الزمان والمكان في غرة كل يوماً وقَفَا كل مساء نسائل عنه، ومعنا عيون تقود وأقدام تسير وقلوب تتلفت وراء كل ورقة في كل شجرة وكل ذرَّة في كل مَدَرَة. وتنظر في الوجوه والعيون والألسنة، وما يزحف وما يمشي وما يطير وما تحمله الريح وما يحمله الماء والأثير وما تحمله قوة القوى: الفكر!
أواه! أية غفلة هذه التي تغشي الناس وتتركهم عمياً ذاهلين عن مجيء الحياة بهم من غير اختيار إلى دار العجائب وعن سيرها بهم إلى دار المجهول! وعن سير الشمس والقمر وتوارد الأيام وسقوط الأمطار وأسفار الرياح إلى مختلف النواحي!
ثم أية غفلة هذه التي تغشي عقولهم وتصرفها عن الفكر فيمن جاء بهم وسيذهب. . . ذلك الذي استتر وأصر على تكبره واختفائه؟
ولو دخل الإنسان الدنيا بكامل نفسه وفكره حين يولد، ولم يدخلها في غيبوبة الطفولة وذهولها وتدرجها به من البسائط إلى المركبات إلى المعقدات وهو في شغل عن الأسباب والمسببات إذاً لخرج منها مجنوناً بمجرد دخوله إليها من شدة الفجأة ودهشة العجب!
ولعل الله الخالق المبدع شغل أكثرهم بصغائر الحياة والنزاع عليها، وجعلهم كالقطيع الغافل المرتاح السادر في غفلته وعمله عن المعلوم والمجهول من أمور الحياة. . . وأخرجهم في
خطوط مرسومة وحلقات مفرغة ليعملوا في الأرض كما تعمل الثيران في الطواحين. . . تدور وهي لا تعلم أنها تدور ولماذا تدور. . . وضربهم بفتنة الدنيا، فزاغت منهم الأبصار عن الحقائق إلا في فترات الدين والصلوات. . . وحتى هذه أدركوها وهم في خمار المادة وسعار الشهوات، إلا قليلاً منهم وهم العارفون المدركون لأرصاد الطبيعة وشيء من تدبير الله فيها. . . لعله فعل هذا ليخفف عنهم دهشة الفكر في أعاجيب صنعه التي كلما زاد فيها الإنسان تفكيراً زاد حيرة. . .
وهؤلاء العارفون لو أطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع وانصاعوا تحت حكم الأقدار، ولو في مقارنة الأضرار والأوصاب، إذ قد عرفوا أنهم لا بد أن يخضعوا ليشتركوا في حبك الخديعة التي أرادها الخالق المبدع لأطفال الحياة الذين هم جمهور الإنسانية العاملة التي عليها عمار الأرض بالأسلوب المادي المعروف.
وربما كانت غرائز القطيع العنيفة هي التي تنمي حركة الحياة الدنيا وتوسع آفاقها، كما ينمي عنف غرائز الطفل مستقبله ويوسع من آفاق حياته. . .
إذاً، فلا ملام على الأقدار التي تدبر كل شيء وتضعه بميزان ولا يجوز مطلقاً أن نتوهم أن حياة الإنسان بما فيها من أزمات ومآثم قد خرجت على الأقدار، وأنه قد فاتت على الله الغاية من خلق هذا النوع - كما توهم بعض من كتب إليّ منذ حين - فإن الإنسانية لا تزال في دور تفتح المدارك واستقبال الشباب، والشباب فيه لوثات كثيرة، ولا بد أن تتدرج إلى أدوار الرشد الخالص في كهولتها وشيخوختها، وأن تحقق الغاية من خلقها كما أراد ربها. . .
وكل مآثم الحياة الإنسانية وأزماتها قد تغتفر ويجد الفكر لها تعليلاً، إلا الفكر بخالق الحياة أو الإشراك به!
وكذب من يريد خديعة نفسه وخديعة الطبيعة وخديعة رب الطبيعة!
ذلك الذي يريد أن يفرض للحياة الفكرية الإنسانية مبدأ غير نقطة البدء التي يراها الفكر أول حياته ومفتاح عالمه. . .
كذب وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، وقلب الحياة على أم رأسها وأم رأسه!
إن نقطة البدء في الحياة الفكرية، هي الفكر في صاحب الدنيا: هذا البيت الكبير الهائل
الذي جاء بنا إليه وأسكننا فيه من غير اختيار منا. . . الفكر فيه حتى نعرفه وندرك طرق تسييره للحياة والطبيعة، فنسير على خطواته وأسلوبه. . .
إنه مجهول للحواس ولكنه معلوم للفكر. . . وقد رأينا ظل يده يقع على كل شيء ويضع كل شيء في موضعه.
ومن أضلُّ ممن يأخذ أطفال الحياة أول نشوئهم ويباعدهم عن نقطة البدء هذه وبعضهم في مكان سحيق، فيستمر أول الطريق عندهم مجهولاً وآخره مجهولاً، ووسطه مختلطاً مشوشاً كذلك!
الجناية الأولى هي إهمال الفكرة الأولى: وهي السؤال عمن جاء بنا إلى هنا، ويمضي بنا كعابري سبيل. ومن وراء الجناية الأولى تتلاحق أخواتها التي تجعل الحياة أغلاطاً مسلسلة.
إن انفصال جنين إنساني من رحم أمه حادث عظيم ينبغي للإنسانية أن تتلفت إليه وتوليه أجل عناية؛ فلعل في الوليد حلقة جديدة فائقة تحمل سراً جديداً من أسرار تكوين هذا النوع.
ولكن الإنسانية أو الدولة تجني على نفسها إذ تهمل وصل كل عقل ناشئ بمفتاح الحياة، ومفيض فيضها ومرسل رحماتها.
وكأن الوثنية لم ترتفع بعض آثارها من الأرض للآن. . . وما الوثنية؟ هي انصراف العقل الإنساني عن الفكر في مصدر الحياة وما يليق له من الكمالات وعن شكره الدائم ما دامت آلاؤه وفيوضه تملأ النفس بالحياة وتتواتر على الجسم. . . ثم الركون إلى حجر أو بشر أو شيء من الأشياء ينسى الإنسان معه الإحساس بالحياة ورب الحياة ويستغرق في ذلك النسيان حتى يتعبد ويلوذ بما ركن إليه. . .
وها نحن أولاء نرى في هذا العصر آلهة منصوبة من المتاع والشهوات والآلات والأعمال والصناعات يستغرق عقل الإنسان فيها حتى ينسى صاحب الحياة. . .
قد يظن ظان أني مغال في الصوفية حين أدعو إلى أن يكون عقل الإنسان دائماً مرآة لشعاع ساقط من سماء الله. . . ولكن هذا هو الوضع الأصيل الحقيقي للدين على ما أفهمه وعلى ما فسرته به في مقال سابق من أنه الإحساس الدائم بالحياة والفكر في مبدعها لتكون ذاتها وآلامها وأطرابها وأوصابها صوراً وألواناً من العبادة. . .
والإسلام الذي هو دين الطبيعة ودين الحياة قد رسم لنا هذا حين سن رسوله أن يذكر اسم رب الحياة عند الأكل والشرب والجماع وسائر الأعمال والآلام، حتى عند ما يريد الإنسان أن يدخل المكان الذي يخرج فيه ما في جوفه من الأذى. . .!
ولن يكون الدين غير هذا. . . فليحمله في نفسه من شاء، وليتركه من شاء. . .
ألا أنها (ديانة الحياة) التي تستحق وحدها أن يحيا الإنسان بها ويسعى جاهداً في سبيلها لتحقيق غاياتها. . .
وغاياتها: العقيدة الثابتة التي لا تتزعزع بخالق الحياة الواحد وحفظ الحياة نقية قوية متجددة كما هي في الطبيعة. . . ورصد قوانين الطبيعة التي تسير الحياة بنظام دقيق في الجليل والحقير. . . واستخدام تلك القوانين لصنع موجودات جديدة على النماذج والأساليب التي في الطبيعة. . . وعدم الغفلة والذهول حتى لا نرى نهار اليوم كنهار أمس. . . فلا يكون الزمان عندنا يوماً مكرراً مملولاً، ولا يكون إحساسنا بالحياة واحداً في مراحل عمر الفرد وعمر الجماعة، فإن ذلك إحساس جسدي فقط بالحياة. . . ووراءه إحساس فكري روحي عند من لهم إخلاص الفكر في الكون. . .
أولئك الذين يرون كل يوم جديداً. . . ثم يسبقون الحياة والزمن. . . ثم يموتون ليولدوا مرة ثانية من بطن الدنيا ليروا مشاهد أخرى جديدة. . . فإن العالم لا ينتهي أمده عند رؤية النفس والأرض والنجوم.
وإن الذي صنع هذا العجب الذي نراه، لا بد قد صنع غيره لا نراه.
عبد المنعم خلاف
أيام الرواق.
. .
للأستاذ محمد محمد المدني
الرواق العباسي هو أشهر أروقة الجامع الأزهر، وكان الأستاذ
الإمام محمد عبده عليه رضوان الله، يلقي فيه دروسه
التاريخية التي هي من مفاخر الأزهر، وقد شهد الرواق في
الأيام الماضية القريبة مناقشات الرسائل الفقهية التي تقدم بها
طلاب الأستاذية من كلية الشريعة، وكانت هيئة الامتحان
برياسة فضيلة الأستاذ الإمام المراغي الذي انتهز هذه الفرصة
ليلقي على الأزهريين أنفع الدروس، وبضرب لهم أحسن
الأمثال، فما أشبه الليلة بالبارحة!
شفاك الله يا صاحب (الرسالة) وألبسك ثياب الصحة ضافية، وأدالك من هذا المرض عافية سابغة كما يتمنى لك أصدقاؤك ومحبوك!
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنت تكتب، وكنا نكتب معك عن (فقهاء بيزنطة) الذين شغلوا الناس عما يجدي من العلم النافع، والفقه المفيد، بالجدال في المحراب والشيطان وفائدة الأربعاء، كما شغلوهم من قبل زر العمامة:(أيبتر أم يُضفي، وفي شعر الذقن أيُخفى أم يُعفى، وفي قبور الموتى: أتسوّى بالأرض أم تقام!)
وكنت تأسف، وكنا نأسف معك، على الواقع الذي يكسف البصر، ويرمض الفؤاد، ويثير الظنون، من أن أحداً من هؤلاء السادة لم يضم إلى المكتبة الإسلامية - على كثرة ما أرغموها عليه من رسائلهم - سفراً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين، وفلسفة تشريعه، ووجوه إصلاحه، وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف، ونظام التأليف الحديث!
فليتك الآن كنت معافىً طليقاً، لم يعقدك هذا العاقد الكريه، لتشهد معنا (أيام الرواق)!
إذن لرأيت فقهاء من غير الطراز الذي أثار بالنقد قلمك، وأسال باللوم والتثريب بيانك،
ولرأيت الأزهر يكتب صفحة خالدة سوف تسجل في تاريخه العلمي بيضاء ناصعة، وسوف يتحدث عنها الأبناء والأحفاد كما نتحدث نحن عن صفحات الفخار في ماضينا المجيد!
لم يكن الإمام المراغي في هذه الأيام رئيس هيئة الامتحان فحسب، ولو أراد ذلك واكتفى به لمرت هذه الأيام كما تمر غيرها من أيام الأزهر، لا تلفت نظراً ولا تثير عبراً، ولكنه أراد أن ينتهزها فرصة يضرب فيها للأزهريين جميعاً أروع الأمثال في شتى نواحي العلم والفقه والتأليف والإفصاح!
فرأيناه وهو يناقش رسالة (النسخ) يأخذ على صاحبها أنه نقد أبا مسلم الأصفهاني نقداً مراً، وتعصب عليه تعصباً ظاهراً، لا لأنه هدم فكرته، ووصل إلى أنها باطلة بالدليل العلمي الواضح، ولكن لأنه يخالف جمهور العلماء وأكثرية المفسرين القائلين بوجود النسخ في القرآن.
وجه الأستاذ الأكبر هنا درساً نحب أن يلتفت إليه الأزهريون وأن ينتفعوا به، فإنه قال للطالب: لقد كنت قاسياً على أبى مسلم في غير ذنب جناه، ولا شطط صار إليه، فإن هؤلاء الذين قالوا بالنسخ في القرآن مثلوا له بآيات بلغت عدتها عشرين آية، فجاء الفخر الرازي وناقشهم في تسع منها أو ثمان فظهر له أنها لا ينبغي أن تعد من باب النسخ، فإذا جاء أبو مسلم ونقض بقية العشرين مبيناً بالدليل والبرهان ما صار إليه، أيكون مستحقاً لهذا اللوم العنيف، وكيف تحرمون على أبى مسلم ما تبيحون للفخر الرازي؟
ورأينا الأستاذ الأكبر في مناقشة لرسالة الزكاة، ثم في مناقشته لرسالة الحجر، مثال العالم الذي درس نظم المعاملات دراسة موضوعية وافية، وأدركها إدراكاً صحيحاً، فأصبح بصيراً بكل ما حوله، لا يُخادَع، ولا يُغالَط فيه.
تجلى هذا المعنى مرة في رسالة الزكاة، فقد أراد الطالب أن يعتبر (البنكنوت) من جنس الحوالات بالديون، فسأله الأستاذ الأكبر: هل تحققت في هذه الأوراق شروط الحوالة بالدين من رضا المحال والمحال عليه، حتى تكون حوالة صحيحة؟ ثم أفاض في شرح اقتصادي تاريخي لنظام التعامل بالورق قديماً وحديثاً جلّى به المسألة للسامعين، وضرب بهذه الدراسة الوافية أحسن الأمثال لمن يريد أن يصل إلى استنباط فقه جيد مستقيم!
وتجلى هذا المعنى مرة أخرى في رسالة الحجر، فقد قرر الطالب أن قانون المجالس
الحسبية قد أخذ بمبدأ معين، فأنكر عيه الأستاذ الأكبر ذلك، وسأله عن مرجعه الذي اعتمد عليه في تقريره، فظهر أنه اعتمد على سؤال شفوي وجهه إلى أحد العارفين بنظام المجالس الحسبية واطمأن إلى جوابه! وهنا ألقى الأستاذ الأكبر درساً عاماً في الأمانة العلمية، وما يجب على الباحث من التحري وطول الصبر والأناة حتى لا يقع في مثل هذا الخطأ الكبير!
وقد أثار الأستاذ الأكبر في مناقشته لرسالة الطلاق مسألتين تستوقفان النظر، وتستحقان البحث والدرس.
إحداهما: أن الطالب كان يقرر أن الشريعة الإسلامية إنما أعطت حق الطلاق للرجل دون المرأة، لأن الرجل أسمى من المرأة تصرفاً وأرجح عقلاً، وأقدر على أن يحسن استعمال هذا الحق فيسمو به عن مواطن العبث ومواقع الهوى والغرض.
فقال له الأستاذ الأكبر وهو يحاوره: إننا أولاً لم نجرب المرأة لنعرف إن كانت تستطيع أن تحسن استعمال هذا الحق لو أعطى لها أو لا تستطيع، ولكننا إذا نظرنا إلى الرجل وجدناه قد أساء استعمال هذا الحق إساءة أصبحت مضرب الأمثال، فهو يقسم بالطلاق حين يبيع ويشتري، ويقسم به حين يمزح مع أصحابه، ويقسم به حين يلعب النرد، ويقسم به في كل تافه من الأمر، فإذا كانت العلة تدور حول إحسان استعمال هذا الحق أو إساءته، فها هو الرجل قد أساء، فهل لنا أن ننتزع منه هذا الحق لنضعه في يد القاضي؟ وحينئذ لا يجوز للزوج أن يطلق زوجته إلا أمامه، فنكفل بذلك مصلحة الرجل والمرأة معاً، ونجعل بذلك رباط الأسرة في يد أمين بعيد عن الهوى، خال من الغرض، قدير على التدبر والنظر والموازنة والحكم العادل!
هكذا أورد الأستاذ الأكبر سؤاله واضحاً لا يكتنفه غموض جلياً لا يحيط به لبس ولا تعقيد، ولكنه مع ذلك كان حريصاً على ألا تنسب إليه هذه الفكرة، على أنها أمر قد بُت فيه وفر منه؛ ولكن على أنها سؤال قابل للمناقشة والبحث، ولذلك قال الطالب: إني سائل فقط، ولست قائلاً بهذه الفكرة ولا مقترحاً الأخذ بها، ولا مشيراً بتشريع فيها!
ومسألة أخرى في رسالة الطلاق، عرض لها الأستاذ الأكبر، وشرحها شرحاً وافياً، ذلك أنه ورد في الصحيحات أن الطلاق الثلاث في لفظ واحد كان سبباً في وقوع طلقة واحدة فقط
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة الصديق رضي الله عنه، وفي صدر من خلافة عمر، ثم قال عمر رضي الله عنه إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيت عليهم، فأمضاه. فهل لعمر بوصفه إماماً للمسلمين أن يشرع ما لم بشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل له أن يبطل سببية معتبرة شرعاً ويضع موضعها سببية أخرى؟ وكيف ذلك مع أن الحكم بسببية صيغة من الصيغ في استتباع أمر مما اختص به الشارع دون سواه؟
يقول الأستاذ الأكبر: إن عمر لم يبطل سبباً، ولم يرد سبباً، وإنما رأى مصلحة في أن يمنع الناس من بعض ما أبيح من قبل، ذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً في لفظ واحد لم يلحقها بذلك إلا طلقة واحدة يباح للزوج معها أن يراجع ما دامت في عدتها، ويباح له أن يتزوج بها مرة ثانية إذا خرجت من هذه العدة بدون أن تنكح زوجاً غيره؛ فكل ما فعله عمر منع الأزواج من هذا الحق الذي كان مباحاً لهم، فأصبح الزوج لا يستطيع أن يراجع زوجته من هذا الطلاق وهي في عدتها وأصبح لا يستطيع أن يعقد عليها إذا خرجت من عدتها إلا أن تتزوج سواه ويطلقها، وإنما منعهم من ذلك لمصلحة رآها ومن المقرر أنه يجوز للحاكم أن يمنع الناس من شيء كان مباحاً من قبل إذا كان للصالح العام مصلحة في ذلك.
هكذا قرر الأستاذ الأكبر المسألة على هذا الوجه؛ + + بعد ذلك وجه آخر لم يعرض له فضيلته هنا، ولعله عرض في مذكرة قانون الطلاق سنة 1928.
أما بعد. فهذه الأمثلة مما اضطلع به فضيلة الأستاذ الأكبر الإمام المراغي من توجيه للأزهريين، (في أيام الرواق) لم نقصد بها إلا الاستعياب وإنما أردنا تنبيه الأساتذة والإخوان والأبناء إلى وجه العبرة منها ليستخلصوه وليعتبروا به، وليعلموا أن مجال العلم والتحقيق أوسع وأجدى مما يتصوره عليه سادتنا الأعلام (أعضاء الجماعة)، أولئك الذين قضوا عاماً كاملاً يتناقشون في حملة العرش، وما صفتهم، وهل هم أوعال أو غير أوعال!
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
بين رجال الدين والفلسفة
تمهيد. . .
للأستاذ محمد يوسف موسى
هذا موضوع لا زلت به حفياً وله متطلباً. تصديت لبحثه منذ زمن، وقرأت لأجله كثيراً من المراجع التي أرَّخت الإسلام وحالة العلم والعلماء في العصور المختلفة. وقد أعلم أن بحث الخلاف بين رجال الدين والفلسفة أبيّ الزمام عسير العلاج، وأنه حري أن يجعلني مرمي النظر الشزر وغرض الألسنة الحداد. ولكن الأيام وما خلعته من قداسة على بعض رجال الدين حالت دون نقد ما كان لهم من آراء وأحكام بالتحليل والتحريم والإيمان والتكفير، وما كان لهذا أثر جعل كثيراً يجمدون مع الزمن ويأبون إلا أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم. ولكن الخصومة المشبوبة النار بين أنصار القديم وبين أنصار الجديد في الأزهر وغير الأزهر؛ لكن هذا وذاك جعلني أستسهل الصعب، ولا أتهيب الخطر، وأحاول أن أبين
- بعد استعراض مراحل هذا الخلاف وألوانه ومظاهره عصراً بعد عصر - أن ما كان يوماً ما بين الدين وبين الفلسفة، بل كان بين بعض رجال الدين وبين الفلسفة لبواعث يرجع بعضها لحب الدين والعمل على الدب عنه، وبعضها يرجع للجهل والتعصب وحب الرياسات. هذا واجب يتعين على بعضنا أن يندب له نفسه؛ لأنه مما يوجع القلب ويحز في الصدر ألا يزال الكثير - حتى في هذه الأيام - يرى ما كان يراه بعض الذين اتخذوا الدفاع عن الدين وسيلة لذيوع الاسم من أن هذا الفيلسوف ملحد وذاك كافر من غير بينة أو دليل، إلا ما سمعه عن أحد أولئك الذين تقدم بهم الزمن، دون أن يكلف نفسه محاولة الاطلاع على شيء من الآراء التي كانت السبب في الحكم بالفكر أو الإلحاد في الدين، ودون أن يتعرف البواعث الحقة التي بعثت على هذه الأحكام ليعرف ما كان منها لله وما كان للدنيا وزينتها! وأحب قبل كل شيء أن أجلو أمري وأشرح قصدي من هذه المحاولة.
1 -
لست من القائلين ببقاء القديم على قدمه، ولا من الذين يعيبون بعض الشيوخ لما شبوا عليه، وانطبعوا بمرور الأيام به، من الحياة حسب مناهج القرون الماضية وأساليبها، والعزوف عن الجديد والتخوف منه، وعدم القدرة على تحضير البحوث العميقة الشاملة التي تحتاج لكثير من مراجع لا طاقة لهم بالرجوع إليها.
2 -
ولست لهذا من الذين يرون أن شخصية الأزهر العلمية منوطة بجماعة كبار العلماء وما يقدمون من رسائل لا نعلم عنها شيئاً إلا أنها تتفق ومبلغ جهود مقدميها، وإلا أنها صور لا يستغني عنها المؤرخ لأنها تعبر عن الحياة التي حيوها والمنهج الذي درجوا عليه.
هذه الشخصية العلمية للأزهر يجب أن يخلقها - إن كانت غير موجودة - الشبان الذين واتتهم الوسائل، أو تهيأت لهم السبل، وعرفوا طرق البحث وأساليبه، وعلى حبل الذراع منهم ما يدنيهم من الغاية ويقربهم من المقصد. فلنقصد من أجل هذا في اللوم، ولنعمل على تدارك ما عجز عنه الآخرون غير ملومين، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إن في ميدان العمل لمتسعاً لجميع الجهود الصادقة. هناك مثلاً كتب علم الكلام في حاجة شديدة لمن ينفي عنها ما دخلها من آراء غير صحيحة النسب لمن تعزي إليهم من الحكماء والفلاسفة وغيرهم من أصحاب المذاهب الكلامية. هذه الكتب يجب أن يتوفر على دراستها نفر من الأكفاء الذين درسوا علم الكلام على النحو المعروف في الأزهر، وآخرون من الأزهريين الذين درسوا الفلسفة الإغريقية في مصادرها الصحيحة، ليكون في مقدورهم تقويم ما فيها من تلك الآراء ونسبة ما يصح منها لأصحابها، وتبيين ما دخل علم الكلام من فلسفة اليونان تبييناً يرتفع به الشك وينجلي به الحق، وتسهل معه دراسة علم الكلام. وهناك أيضاً مسألة أخرى أعدها هامة من الطراز الأول، أعني بها تاريخ الأزهر ببيان الرسالة التي أنشئ أولاً لأجلها، ومدى تطور هذه الرسالة على مدى القرون، وما يجب أن تكون عليه في المستقبل، وتاريخ رجالاته الأعلام حتى تصل للعصر الحاضر. إن من أعجب العجب أن يؤرخ مفكري الإسلام كثير من المستشرقين ومن بينهم العالم الفرنسي كارّ ادي فو في خمسة مجلدات تشمل ما يزيد على الألفين من الصفحات وأن نجد في المعجمات الفرنسية ترجمات لمن يجب أن يكون لهم ذكر في التاريخ، بينما كبار من خرجهم الأزهر، ومن لهم علينا أكبر المنة - بما تدرس من مؤلفاتهم وبما أفادوا العلم في النواحي المختلفة - أصبحوا منسيين منا ولا نجد السبيل لتراجم لهم إن أردناها! هذا وذاك من الأعمال جدير بأن يستأثر بكثير من جهود من يرى في نفسه الكفاية من حتى يكون لنا شيء نباهي به في العيد الألفي للأزهر، وأرجو أن يكون منا غير بعيد.
3 -
الغاية التي أستشرف إليها هي إذاً المساهمة - في غير تثريب على الغير من كبار
الشيوخ الذين أدوا ما طلب منهم كما فهموه - في تهيئة بيئة علمية ينظر فيها المطالب بعقله لا بعقل أحد ممن سبقوه، ويرى فيها الرأي لأن الدليل يعضده لا لأن الغزالي أو مثله ذهب إليه. بذلك يصح لنا وجه الحكم في العداء الذي زعموه بين الدين والفلسفة، ويسهل الإقناع والاقتناع، ونصحح كثيراً من قضاياً الماضي وأحكامه، وتبني على ماض غير مدخول، وأساس متين ولا وهن فيه. وإلى اللقاء القريب - إن تفضلت الرسالة الغراء - إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
فتنة الزَّنج
ورثاء البصرة في شعر ابن الرومي
للأستاذ محمود الشرقاوي
- 2 -
خلاصة
جئنا في مقالنا الأول عن فتنة الزنج على مبدأ ظهور صاحب الزنج وبدء فتنته واستيلائه على العبيد الزنوج وخروجه بهم على الولاة حتى دخل بهم البصرة وخرَّ بها في شهر شوال من سنة سبع وخمسين ومائتين. وكان دخوله إليها وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت منه، فأباحها صاحب الزنج لأتباعه ليلة ويومين يفعلون بها وبأهلها ما شاءوا.
رثاء ابن الرومي
بدأ ابن الرومي قصيدته في وصف هذه الحال بهذه البداية الجازعة:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام
…
شغْلها عنه بالدموع السجام
أيَّ نوع من بعد ما حل بالبص
…
رة ما حل من هنات عظام؟
أي نوم من بعد ما انتهك الزن
…
ج جهاراً محارم الإسلام؟
إن هذا من الأمور لأمر
…
كاد ألا يقوم في الأوهام
ومن هذه البداية يشعر القارئ بما يريد ابن الرومي أن يوحي إليه من الجزع والتهويل والتقديم لأمر عظيم (انتهكت به محارم الإسلام) حتى أن هذا الأمر العظيم يكاد ألا تصدقه الأوهام.
ثم ينتقل بعد هذا الإيحاء وإثارة الغضب والسخط في قلب سامعه وقارئه إلى وصف ما يريد فيقول مجملاً في بيت واحد:
أقْدم الخائن اللعين عليها
…
- وعلى الله - أيَّما إقدام
ثم يعود بعد هذا الإجمال البارع إلى ما في نفسه من الحزن واللهفة على ما أقدم صاحب الزنج من أمر فيقول هذه الأبيات:
لهف نفسي عليكِ أيتها البص
…
رة لهفاً كمثل لهب الضرام
لهف نفسي عليك يا معدن الخي
…
رات لهفاً يعضني إبهامي
لهف نفسي عليك يا قبة الإس
…
لام لهفاً يطول منه غرامي
لهف نفسي عليك يا فرْضة البل
…
دان لهفاً يبقى على الأعوام
لهف نفسي لجمعك المتفاني
…
لهف نفسي لعزَّك المستضام
بهذه اللهفات المتواليات قد هيأ ابن الرومي قارئه لأن يقرأ وصفه القادم لما حلَّ بالبصرة، وقد امتلأ قلبه بالغيظ والغضب الذي أوحاه إلينا في مطلع قصيدته. ثم يقول:
بينما أهلها بأحسن حال
…
إذ رماهم عبيدهم باصطلام
دخلوها كأنهم قطع اللي
…
ل إذا راح مدلهم الظلام
أيّ هول رأوا به أي هول
…
حقَّ منه يشيب رأس الغلام
إذ رموهم بنارهم من يمين
…
وشمال، وخلفهم، وأمام
كم أغصوا من شارب بشراب
…
كم أغصّوا من طاعم بطعام
كم ضنين بنفسه رام منجًى
…
فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخٍ قد رأى أخاه صريعاً
…
تَرِب الخد بين صرعي كرام
كم أبٍ قد رأي عزيز بنيه
…
وهو يُعلى بصارم صمصام
كم مفّدى في أهله أسلموه
…
حين لم يحمه، هنالك، حامي
كم رضيع، هناك، قد فطموه
…
بشبا السيف قبل حين الفطام
كم فتاة - بخاتم الله - بكرٍ
…
فضحوها جهراً بغير اكتتام
كم فتاة مصونة قد سبوْها
…
بارزاً وجهها بغير لثام
من رآهن في المساق سبايا
…
داميات الوجوه للأقدام
من رآهن في المقاسم - وسط الزن
…
ج - يقسمن بينهم السهام
من رآهن يتَّخَذْن إماَء
…
بعد ملْك الأمام والخدام
هذه القطعة من قصيدة ابن الرومي قد رأى فيها القارئ كيف دخل الزنج على البصرة وأهلها على أحسن حال، فكان جيشهم كأنه قطيع الليل. وكيف أخذتهم نار الزنج من خلفهم وأمامهم ومن يمين وشمال. ثم هو يقدم إلينا هذه الصورة الشعرية الرائعة كأنها الرسوم أو التماثيل في قوة تصويرها. فهذا شارب أو طاعم حين هجم عليه الزنج غصَّ بشرابه
وطعامه، وهذا هارب ضنين بنفسه قد جبهته سيوفهم وتلقت جبينه، وهذا أخ يرى أخاه صريعاً قد عفَّر التراب خده بين كرام غيره، معفَّرة خدودهم. ثم يقدم إلينا صورة من تلكم الفتيات الأبكار على خاتم الله قد فضحهم الزنج وفضّوهن حهرة بغير اكتتام. ثم ساقوهن إلى السبي يفرقونهن بينهم ويقتسموهن مماليك وكنّ من قبل يملكن الإماء والخدام.
ثم يعود بعد إبراز هذه الصورة القوية من السفك والقتل والعدوان إلى شعوره النفسي يوحي به فيقول:
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا
…
أضرَم القلبَ أيما إضرام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا
…
أوجعتني مرارة الأرغام
ثم يعرج إلى ذكر صور مجملة بعض الأجمال عن بيع السبايا وتخريب البيوت البارة كانت مأوى الضعاف والأيتام. ودخول القصور العامرة كانت من قبل صعبة المرام. ثم يقدم لنا بعد ذلك صورة كلها حياة وكلها حركة وكلها دقة ووضوح وهي قوية غاية القوة عن مدينة البصرة وكيف كان زحام الخلق فيها وعماد أسواقها وتلك الفلك التي تسير منها وإليها بالتجارة والناس، وتلك القصور ذوات الأحكام من بنيانها، وكيف استحال هذا كله - بفتنة الزنج - إلى خراب وصمت لا يرى فيه غير أيد وأرجل مقطوعة ورؤوس مهشمة ووجوه دامية بين الخرائب تسفي عليها الرياح:
عرَّجا صاحبّي بالبصرة الزه
…
راء تعريج مدنف ذي سقام
فاسألها - ولا جواب لديها
…
لسؤال - ومن لها بكلام. . .؟
أين ضوضاء ذلك الخلق فيها؟
…
أين ذاك البنيان ذو الأحكام؟
بدلت تلكم القصور تلالاً
…
من رماد ومن تراب ركام
سلط البثق والحريق عليها
…
فتداعت أركانها بانهدام
وخلت من حلولها، فهي قفز
…
لا ترى اللعين بين تلك الآكام
غير أيد وأرجل بائنات
…
نبذت، بينهن أفلاقُ هام
ووجوه قد رملتها دماء
…
بأبي تلكم الوجوه الدوامي
وطنت بالهوان والذل قسرا
…
بعد طول التبجيل والإعظام
فتراها تسقي الرياح عليها
…
جاريات بهبوة وقتام
خاشعات كأنها باكيات
…
باديات الثغور، لا لابتسام. . .!
ولا شك في أن القارئ يشعر بتلك القدرة الفائقة التي صورت بها ابن الرومي ذلك المشهد، مشهد خرائب البصرة وقصورها التي أضحت تلالاً، ومشهد تلك الأيدي والأرجل مبعثرة فيها قد نبذت بينهن أفلاق هام، ومشهد تلك الهام ملقاة خاشعة باكية قد بدأ منها الثغر وبرزت النواجذ ولكن لا لتبتسم. . .!
ثم ينتقل ابن الرومي بعد ذلك إلى ذكر مسجد البصرة وما حل به فيقول مخاطباً صاحبيه أيضاً:
بل ألما بساحة المسجد الجا
…
مع إن كنتما ذوي إلمام
فاسألاه - ولا جواب لديه -
…
أين عبادة الطوال القيام. . .؟
أين عماَّره الألى عمَّروه
…
دهرهم في تلاوة وصيام
أين فتيانه الحسان وجوها؟
…
أين أشياخه أو لو الأحلام
تحريض وإثارة
إلى هذه الغاية يكون ابن الرومي قد أبرز تلك الصورة البارعة القوية الصادقة عن وصف ما حل بالبصرة وأهلها على يد الزنج، فهو ينتقل بعد ذلك الوصف إلى تهيج الناس وتحريضهم وإثارة نفوسهم على صاحب الزنج وزنوجه حتى يثأروا منه لأنفسهم وأهليهم. وهنا تبرز الغاية التي قصد إليها ابن الرومي، ونعتقد أنه تعمدها حين بدأ قصيدته بتلك البداية. . . وقد أشرنا إلى ما تشعر به من الرغبة في التحريض والإثارة حين ذكر ابن الرومي (محارم الإسلام) وحين قال بعد ذلك بيتاً قصدنا أن نسقطه من موضعه لنذكره الآن وهو:
وتسمى - بغير حق - إماماً
…
لا هدى الله سعيه من إمام
وقد ذكر هذا البيت بعد ذلك الذي يقول فيه إن الخائن اللعين صاحب الزنج قد أقدم عليها وعلى الله
كل هذه الإيحاءات بالهياج والثأر يجعلها ابن الرومي دعوة صريحة في هذه القطعة التي ينتقل اليها بعد ذكر المسجد الجامع وعبادة وفتيانه وشيوخه أولى الأحلام.
أي خطب، وأي رزء جليل
…
نالنا في أولئك الأعمام
كم خذلنا من ناسك ذي اجتهاد
…
وفقيه في دينه علام
واندامي على التخلف عنهم!
…
وقليل عنهم غناء ندامى
وأحيائي منه - إذا ما التقينا
…
وهم - عند حاكم الحكام
أي عذر لنا؟ وأي جواب؟
…
حين ندعي على رؤوس الأنام:
يا عبادي! أما غضبتم لوجهي
…
ذي الجلال العظيم والإكرام؟
أخذلتم إخوانكم وقعدتم
…
عنهم - ويحكم - قعود اللئام؟
كيف لم تعطفوا على أخوات
…
في حبال العبيد من آل حام؟
لم تغاروا لغيرتي، فتركتم
…
حرماتي لمن أحلَّ حرامي
إن من لم يغر على حرماتي
…
غير كفء لقاصرات الخيام
كيف ترضي الحوراء بالمرء بعلاً
…
وهو - من دون حرمة - لا يحامي
ثم يقدم لنا ابن الرومي بعد هذا التحريض القوي هذه الصورة البارعة عن خصومه تخيل أنها واقعة بينه وبين النبي عليه السلام عن هؤلاء الشيوخ والفتيان وكيف لم يثأر لهم:
واحَيائي من النبي إذا ما
…
لا مني فيهم أشدّ الملام!
وانقطاعي إذا هُم خاصموني
…
وتولى النبي عنهم خصامي!
مثَّلوا قوله لكم - أيها النا
…
س - إذا لامكم مع اللوام
(أمّتي! أين كنتمُ إذ دعتكم
…
حرّة من كرائم الأقوام. . .؟
صرخت: يا محمداه. . .! فهلاَّ
…
قام فيها رعاةُ حقّي مقامي. . .!
لم أجبْها إذ كنت ميتاً فلولا
…
كان حيٌّ أجابها عن عظامي!)
وأريد هنا أن أشير إلى براعة ابن الرومي إذا انتقل من خطاب نفسه في الأبيات الأول إلى خطاب من يحرضهم حين بدأ يصف خصومه النبي عن قتلى الزنج فقال: (مثّلوا قوله لكم أيها الناس)
ثم يندرج ابن الرومي بعد هذه الإثارة وإهاجة النفوس إلى الدعوة الصريحة إلى الثأر من صاحب الزنج فهذه القطعة التي هي ختام قصيدته، والتي نكتفي منها في هذه الأبيات:
انفروا - أيها الكرام - خفافاً
…
وثقالاً إلى العبيد الطغام
أَبرموا أمرهم وأنتم نيام،
…
سوْءة سوءة لنوم النيام
صدَّقوا الظن اخوة أمّلوكم
…
ورجوكم لنوبة الأيام
أدركوا ثأرهم فذاك لديهم
…
مثل ردَّ الأرواح في الأجسام
لم تقروا العيون منهم بنصر
…
فأقروا عيونهم بانتقام
أنقذوا سبْيهم - وقَلَّ لهم ذا
…
ك حفاظً ورعية للذمام
عارهم لازم لكم، أيها النا
…
س، لأن الأديان كالأرحام
لا تطيلوا المقام عن جنة الخل
…
د فأنتم في غير دار مقام
فاشتروا الباقيات بالعرَض الأد
…
نى، وبيعوا انقطاعه بالدوام
هكذا ينتهي ابن الرومي من قصيدته في رثاء البصرة وفيما أصابها وأهلها من صاحب الزنج وفتنة الزنج وتحريض الناس على الثأر منه ومنهم.
وأعتقد أن القارئ يجد أني لم أكن مغالياً حين قلت في ختام مقالي الأول عن هذه القصيدة من شعر ابن الرومي إنها قصيدة عجيبة من غرائب الشعر العربي، وضوح بيان، وقوة تصوير، وإعجاب خيال، وصدق عاطفة، وأنها من بدائع الشعر العربي كله.
وأزيد على ذلك اليوم أن ابن الرومي كان في تحريضه الناس وتهييجه لهم، ماكراً خبيثاً وقوياً عارماً شديد التأثير، يكاد شعره في ذلك يدفعنا نحن الآن - أحد عشر قرناً - إلى الثورة والهياج.
محمود الشرقاوي
من وراء المنظار
المتعاظمون
هذا الفريق من بني آدم أو هذا الصنف كثير شائع، ولكني أقصر الحديث هنا على بعض أصحاب السلطان منهم؛ ولسوء حظك أو لسوء حظي أنا - على أقرب الرأيين إلى الصحة - أن يرى هؤلاء في كثير من المجالس. ولست بحاجة إلى منظار، بل ولا إلى عينين - لا قدر الله - لنرى هؤلاء الناس، أو تحس سلطانهم إن صح عندهم أنهم ناس من الناس. . .
ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم وإن كانوا على رغم أنوفهم الشم ناساً يجري عليهم ما يجري على سائر الخلق لا يؤمنون إلا بأنهم فوق مستوى الناس، وعسير عليك أشد العسر أن تقنعهم من بعيد أو من قريب بأن لهم مثلك يدين ورجلين وحواس وما إليها من جوارح وأحشاء، وأنهم يأكلون كما تأكل، وإن لم يكن مما تأكل، وأنهم يشربون وينامون ويفرحون ويغضبون ويمرضون ويموتون كما يجري عليك من أحكام الطبيعة سواء بسواء.
هذا الفريق الذي أتحدث عنهم أصحاب السلطان من أصحاب الديوان. ولعلك لم تنس بعد أحاديثي عن أصحاب الديوان، وإن كنت وقفت بك عند صغارهم لا خوفاً من كبارهم علم الله. وما لي أقسم وهاأنذا أعرضهم عليك جملة وأحشرهم أمام المنظار في غير تهيب ولا رفق:
ترى الشخص منهم - وهو شخص رضى أو لم يرض - في ردهة من ردهات دور اللهو، أو في سيارة عامة، إن لم تكن له سيارة خاصة، أو في عرض الطريق، فتحييه تأدباً منك وعملاً بما يوجبه الذوق وتفرضه الإنسانية، فيدهشك أنه يبدو عليه كأنه لا يلقي منك تحية، بل تراه وكأنه يلقى منك إهانة؛ وإلا فما باله وقد كان منبسط الأسارير: يتجهم لك ويشمخ بأنفه ويرميك بنظرة كريهة كأنه يريد أن يخيفك في غير داع لذلك ولا مناسبة؛ ثم يرد تحيتك الحارة برفع سبابته قليلاً تجاه رأسه العالي، أو بإيماءة بسيطة، ويمضي وكأنه لم يكن يرد تحية، وإنما كان يرد على توسل سائل بإلقاء مليمين في كفه المبسوطة!. . .
ولقد تعجب لذلك، ولكن عجبك دليل بساطتك أو طيبة قلبك. . . والحق أني أريد أن أقول دليل (عبطك) فاقبلها مني ولا تدعني أموه فأتحايل على الألفاظ، ولخير لك على أي حال
أن تكون كما أذكر، من أن تكون فظاً غليظ القلب، وإلا فلك الخيار، ولكن على شرط أن يتوافي لك السلطان قبل كل شيء. . .
وفيم تعجب وعنده أن التحية توجه إلى مقامه ممن هم دونه، إنما هي ضرب من عدم الاحتشام بين يديه، فهي لذلك ضرب من عدم اللياقة، أو هي جرأة تلحق بقلة الأدب عند بعضهم، وما أردت أنت إلا أن تكون مؤدباً. . . ولقد يصور له كبرياؤه وغروره أن ذلك منك تحد لذاته الخطيرة والعياذ بالله، وفي ذلك سر تجهمه وتعاظمه وكريه نظراته وتفسيره تأدبك بأنه قلة أدب.
وكأني بك، أيها القارئ، تضحك مني وتقول في نفسك إنما يصور بما يكتب ما وقع له، وأريد أن أكون صادقاً، فأسلم لك بصحة هذا، ولكن قل لي بربك، ما ذنبي لتضحك مني يا أخي - سامحك الله - وأينا أجدر بضحكاتك، أنا أم ذلك المتعاظم المتكبر؟ ثم اعلم أني لم أغضب ولن أغضب لما يكون بيني وبين هؤلاء المتعاظمين. لم أغضب لأن ما حدث هو ما كنت أتوقعه، بل إني لأضحك إذا أقع من ذلك على مادة لمنظاري، ثم إني لم أغضب لأني أعرف كيف أكيل لهم بنفسي كيلهم متى أردت، فأزيدهم غيظاً وأزداد منهم ضحكاً، ولو علمت الحق لرأيت أني دائماً ألفاهم بالعصيان المدني، وهو سلاحي السلبي الوحيد الذي لا سبيل لي إلى غيره.
جمعني بفريق من هؤلاء مجلس من المجالس، أو قل قادتني الظروف على رغمي إلى هذا المجلس، فما كان لي أن أغشى مجالس أصحاب السلطان مختاراً، فانتحيت ناحية وجلست، وقادت الظروف كذلك بعض أصدقائي ممن هم في مثل سني، وفي مثل مركزي الصغير، فحمدت الله وزال عني القلق، فلقد كنت أحس نفسي غريباً قبل مجيء هؤلاء الذين لا حول لهم ولا سلطان، وانفرجت شفتاي لأول مرة منذ جلست أرد على تحيات هؤلاء الأصدقاء، فما وجه إلى أحد من أصحاب السلطان تحية تنفرج لها الشفاه، فلم تك ثمة إلا إيماءات متكلفة لاذعة قصيرة، أو إشارات باليد آلية لا روح فيها، اللهم خلا رجل منهم تلطف فجاد عليَّ بتحية منادياً إياي باسمي ولكن بعد أن فعل ذلك من هم على شاكلتي من الخلان.
وجلست صامتاً أترقب وأنا أخفي ضحكي مما رأيت على وجوه أصحاب السلطان من معاني الازدراء عند دخول أصحابي، ولقد حياهم هؤلاء السذج في أصوات طلقة، وفي
إشارات وانحناءات دمثة جميلة، فما عادوا إلا بإشارات وإيماءات أرستقراطية كانت هي الأخرى جميلة على رغمي وعلى رغم منظاري!
واستأنف أحد أصحاب السلطان ما كانوا فيه من حديث، واحتدم النقاش بين هؤلاء السادة، فهذا يعترض على ذاك، وذلك يرى ما يرى جاره أو لا يرى الصواب في رأيه، وفي وجوه الجميع بشر أو تحمس أو ضحك من دعابة أو نكتة يطرد من هاتيك الوجوه شبح الكهولة أو يستمهل الشيخوخة لحظات.
وبدا لأحد السذج من الرفاق - رفاقي أنا - فحشر نفسه في الحديث يحسب أنه يكلمني أو يكلم أحد أقرانه، فما أسرع ما بدت الدهشة على وجوه الجميع! ثم تغافلوا عنه بأطراقهم، وقطع عليه أحدهم كلامه فساق الحديث إلى رأي جديد، وذهبت كلمات المسكين هباء أو أقل من الهباء.
ثم تكلم شاب آخر لم يتعظ بما جرى لسالفه فكان من أحب المناظر عندي، ولا أقول من أبغضها أن أرى على وجوه أولئك السادة ذلك الاتفاق الذي لم يقصدوا إليه لأنهم اعتادوا كلما تطفل على حديثهم العالي متطفل لم تصل بعد مداركه إليه ولا هيأه مركزه حتى لمجرد الاستماع له، وهو اتفاق على المقاطعة أو الإغفال لأمر المتكلم. وأحسب أنهم لو نظروا ساعتئذ إلى ذلك الساذج الثاني لأخذتهم الشفقة لحمرة الخجل تتوقد في محياه فما تقسو قلوبهم إلى حد أن يعرضوا عنه وهو على تلك الحال.
على أن اثنين منهما رمياه بنظرة ولكن بعد أن خفت في وجهه حمرة الخجل ورأيتهما يزدريانه في صمت، فهو مرؤوسهما في الديوان ولا يجمل أن يجرؤ مثل هذه الجرأة فيناقش رؤساءه. وكم أتمنى لو يتاح لي من البيان ما أصور به ما ارتسم على محياهما الكريمين من اشمئزاز! وكم يؤلمني ألا تسعفني الألفاظ بما أريد!
وأني أحدهم بنكتة تصلح لأن تكون نكتة ولكنه أتى بها لسوء حظه في ضجيج من النقاش فلم يفطن إليها غيري فضحكت بصوت يسمع فالتفت نحوي ضاحكاً مسروراً وصاحب النكتة يبحث دائماً عن الضاحكين من نكتته ويسر إذ يجدهم. . . على أن هذا ما لبث أن قطع ضحكته بغته كأنما أزعجه أن يتبادل وإياي الضحكات ثم تكلف العبوس ونظر إليَّ ولكني لم أقطع ضحكتي فقد كانت هذه الحركة منه أدخل في معنى النكتة من عبارته
وأدعى إلى الضحك منها.
وما يريد أصحاب السلطان ممن هم أصغر منهم إلا أن يتزلفوا إليهم فينهضوا وقوفاً إذا أقبل أحدهم ويشيعوه إذا انصرف، فإذا تقدم أحد هؤلاء الصغار ففتح باب السيارة حتى يركب (سعادة البك) أو حمل له معطفه حتى يلبسه فذلك هو ما يكبر به في عين سعادته ولذلك دخل كبير في قياس كفايته في عمله وإن لم يكن لعلمه صلة ما بعمل (الجرسونات)! والعجيب أنك ترى الرجل من هؤلاء يتصاغر وينكمش كأنما يدخل بعضه في بعض إذا كان أمام من هم أكبر منه وذلك بقدر ما يتعاظم وينتفخ إذا نظر إلى من هم دونه.
وبعد فقد أفهم أن أرى أصحاب السلطان في دواوينهم متعاظمين وإن عد ذلك مرذولاً منهم أينما كانوا، فإن الرجل منهم يكون هناك في (منطقة نفوذه) وما يذهب إليه في الغالب حيث مقر سلطانه إلا طالب حاجة عنده.
ولكن كيف أفهم لعمري أن يتعاظم عليك هؤلاء خارج دواوينهم ولقد تكون بحيث لا تربطك بهم صلة من عمل أو من حاجة؛ بل كيف يتعاظمون وإن كان يصلك بهم العمل أكبر صلة وإن منهم من لا يفضلك إلا بما ساقته إليه الظروف من منصب بحيث لو رجع القهقري إلى مثل سنك لكنت أحسن منه عقلاً وأقوى تفكيراً وأكثر اطلاعاً. ولقد تكون اليوم أكثر منه ذكاء على رغم جاهه، بل ولقد يكون من الغباء بحيث لا يصح أن تقيس عقلك إلى عقله إلا إذا أردت أن تمتهن نفسك.
وبعد فنحن أمة تكثر الكلام في الديموقراطية وتبالغ في السخرية أحياناً من حيث لا تدري فتطيل الكلام عن الانتخابات مثلاً أتكون مباشرة أم غير مباشرة؟
الخفيف
رسالة الفن
إن كنت فناناً
. . . فهذه نفسي!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يا رب محمد! استغفرك يا رب محمد!
أعصابي متراخية. عقبي نائم. عيناي تريدان أن تنطبقا كأنهما زهدتا النور، وما هو زهد ولكنه تسليم.
نفسي تتهرب مني، وتتحجب عني. . . أريد أن أعرف ماذا بها؟ أسألها فيقع السؤال فيها كما تقع الحجرة على كومة التبن المحروق، فلا صوت، ولا رد على الصوت، ولا شيء.
إذن فماذا بقي لي؟ لا شيء!
وإذن فماذا أصنع؟. . . لا شيء. والصبر طيب. والنجدة عند رب محمد. . .
اللهم إني قد أسأت، اللهم إني قد أسأت!
هأنذا أعترف لك وما أنت بحاجة لأن يعترف لك مذنب. ولكني أريد أن أفضح نفسي لعلك تريد بعد ذلك فتمحو بلطفك وكرمك ما سطرته على جبيني بحكمتك وخبرتك من الإثم، وآثار الإثم. . .
لن أعدد ما ارتكبت، فإني لا أحصيه. ولكني أقول إني ما تركت إثماً إلا واقترفته.
ولكن كان شر آثامي أني في يوم أنكرتك. أعوذ بك من نفسي. وأعوذ بك لها.
لقد انطلقت يومها أعربد بروحي وبدني، وأقول - وبئسما كنت أقول - إن الخبطة العشواء التي أوجدت هذا الكون وإنما أوجدتني حكمتي في الكون كما حكمت الكون فيَّ، فما دام هو يأخذ مني فلآخذ منه، وما دام يستبد بي فلأستبد به. . . ومن أنا. . .؟؟
حقاً إني كفرت يا ربي. ولكني لا زلت أتوسل إليك حتى بكفري. فقد كنت أحبك وأنا منكرك
ألست أنت صاحب هذا البحر الذي كنت أصارع الريح وأنا ساع إلى أعتابه في ليالي الشتاء العاصفة المقمرة لأجلس عنده وأنا سكران وفي يدي السيجارة كلما شهقت منها نفساً
شهقت معه من البحر أملاً، وكلما زفرت نفساً زفرت معه إلى البحر هماً. لقد كنت أتبادل الأنفاس مع البحر، هذا الوحش المحبوس عن الأرض الراضي بالحبس.
لقد كنت أحبه. ولقد أحبني هو أيضاً فأعطاني الكثير من نفسه: جلداً، وصبراً، وصفاء، وغنى، وحياة، وقوة. . . ومسكنة مع هذا كله وذلاً.
لقد سبحتك فيه يا رب لأني كنت أراه وأبادله الحب، وكان عقلي أصغر من أن يؤمن بك غيباً
ثم ألست أنت صاحب تلك الماسة التي كانت تريق عليَّ أضواءها فأشرب منها وأشرب وأشرب وأنا لا أدري لماذا لا أرتوي على كثرة ما أنا شارب حتى علمت أن ما كنت أشربه لم يكن إلا نوراً، والإنسان لا يريه النور وحده إن لم يمزجه بشيء من الظلمة. فلما بحثت عن الظلمة انفلت النور مني، وكف يده عن أوتار قلبي.
من يومها يا رب وأنا غارق في ظلمات وظلمات ولكن بعد أن آمنت بالنور. فاللهم شعاعاً، رحمة منك وعزاء.
ثم ألست أنت صاحب حديقة النزهة. . . أنت صاحبها رغم أنف المجلس البلدي
كنت كلما اكتأبت وثقلت علي واجبات الجبر والكيمياء، وأرهقتني حياة المدرسة الجافة التجأت إلى النزهة أفرغ فيها ذبولي وآخذ من أزهارها وأشجارها نضرة. . . وبهجة. . . واطمئناناً وفرحاً. . .
ما أكرمها الأشجار والأزهار! ما أحلاها! إنها تتضور حباً، وتشرئب إلى عاشق يهفو إليها بنظرة. . . وخفقة.
وما أقسى عشاق الأشجار والأزهار. . . أطمعهم صمتها وسكونها واستسلامها فانهالوا عليها قطفاً. . . والقطف قتل. . . وأكرمهم يجود عليها بشعر. والشعر كلام. . .
إنني لم أسرف يا رب في قطف الأزهار، واسألها
كنت أقنع بالذي تنفثه هي راضية من الحنين المؤمل، والشهوة المتبخرة الرطبة. . . وكنت أعوذ عنها إلى المدرسة وأنا كالقرنفلة الناطقة الحية: أبذر في قلوب الناس حباً أبعثره وأبعثر وراء من تلك الزأرة التي أعطانيها حبيبي الأزرق ذو الأمواج وذو الأنفة!
ثم ألست أنت صاحب هذه السماء التي كنت أنقلب على الرمال إليها لأسرح بنفسي فيها
مرتحلاً من نجم إلى نجم، ومن كوكب إلى كوكب، متباعداً عن الأرض ما استطعت، مختاراً من أكوانك أقصاها ٍكأنما كنت أريد أن أستوعب ملكك، فما استوعبت شيئاً وما كنت إلا لأرتد حسيراً، ولكن بعد أن تطول حيرتي فيك وفي ملكك. . .
سبحانك! قد خلبت لبي. . .
يا صاحب الصحراء تخرج فيها الحي من الميت. . . يا لمسحرك هذا الأقفر من مسرح!
يا صاحب الناقة الصابرة! يا صاحب النخلة المتكبرة! يا صاحب السلحفاة الصائمة الساخرة! يا صاحب الغزالة النافرة!
أليس هذا فنك! وهل عشقت سواه حين كنت أنكرك!
ما عشقت سواه وأنا منكرك! ولا عشقت سواه وأنا راج أن أعرفك! وما سوى ذلك إلا العدم، فكل موجود من أثرك وصنعك.
يا رب محمد! أستغفرك!
وأحمدك وأشكرك. فلقد ذكرتني بك حين أنسيتني نفسي، وأنا حين أذكرك أهدأ وأطمئن، لأني أعرفك الرحمن الغفار الذي ينقشع أمام رحمته وغفرانه كل ضلال وكل عطب؛ والذي إن عاقب أرسل في العقاب راحة ورضى، وقرن بالعسر يسراً. وإن مع العسر يسراً.
بدأت أنتعش. . .
زوابع من الإسكندرية تناديني. أريد أن أنطلق. أريد أن أعربد مرة أخرى؛ ولكن عربدة المؤمن المطمئن.
أريد أن أصرخ. أريد أن أبطش بهذه الظلمات التي بطشت حين أمنت إليها. أريد أن أقيم الدنيا وأقعدها. فهل أنا قادر من ذلك على شيء. . .
إذا أردت أنت فإني قادر، فإذا لم ترد فهاأنذا كما أردت. . .
قلبي ينبض بالأمل فيك، وعقلي شارد وراء هذا الأمل يريد أن يعرف ما هو، ولكنه تعب ولم يعرف ما هو. . . فأرشدني.
ليس أشهى لدى من أشعر بأني أرضيتك وأنك أرضيتني
وأنا طماع، دنيء النفس. قد أتخم ولكني قد أشبع.
أنت الذي خلقتني. فساعدني على نفسي. وخذ بيدي، وأنت تستطيع. ولا أحد غيرك يستطيع.
أنت تطالبني بالتوبة؛ ولكنك أرجأت التوبة في قرآنك إلى سن الأربعين. فلي الآن إن مددت في عمري عشر سنوات باقية قد أستجديك بعدها عشراً، وقد أستجديك بعدها عشراً، فما أحسب التوبة ممكنة وقتك الخلاب يدغدغ العيون، ويناوش الأسماع، وينكث القلوب. . .
ثم لماذا يتحتم علي أنا أن أتوب؟!
أأنا إنسان عاقل ورشيد؟! إني لا أظن ذلك. فليس عاقلاً رشيداً هذا الذي يستمرئ أن يفضح نفسه بنفسه. ولا هو عاقل رشيد هذا الذي يطاول من هم أشد منه قوة وآثاراً في الأرض، وينوخ للضعيف الهزيل يركبه ويضرب بطنه برجليه. . .
أنا يا رب كما تعلم. فعافني. واسمح لي أن أقضي في ملكك هذا ما قدرت لي من البقاء وأنا تحت رعايتك وعطفك. فلست إلا طفلاً غراً آفته دلال استحكم في نفسه من كثرة ما استقاه وعَبَّه من نفح القرنفل والياسمين.
واحمني يا رب من الشر أن يسكن نفسي. واملأ قلبي سلاماً. وانزع منه كل حقد وكل غل.
واحمني يا رب من الشر أن يقذفني به حاقد أو مغلول؛ فأنا أعجز من أن أتلقى قذائف الشر المتستر، ولدغات الحقد والغل.
يا رب محمد. أحفظ يحيى السيد فقد أقرضني اليوم عشرة قروش وإن كان لا يعرف متى سيستردها.
هو طالب في ليسانس الحقوق. فخذ بيده في امتحانه القريب. . . أرجوك بحق محمد.
عزيز أحمد فهمي
البريد الأدبي
المسلمون (قواري) الله في الأرض
وردت لفظة من الجموع الشاذة في قول لابن الخياط (أو غيره) في الإمام مالك:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة
…
والسائلون نواكس الأذقان
هدْي التقي وعز السلطان التقي
…
فهو المطاع وليس ذا سلطان
في كتاب (الحيوان) لإمام أبي عثمان الجاحظ ذي الأحاديث الطلّة المنورة، فقال محققه وشارحه الأستاذ عبد السلام محمد هرون في أمر تلك اللفظة:
(نواكس جمع ناكس وهو من الجمع الشاذ وقد أسهب البغدادي عن نحو هذا الجمع في الخزانة (1: 190 - 195) وفي مجلة الرسالة العدد (315 ص1394) بحيث قيم، واستدرك طيب لهذا الشذوذ).
راجعنا هذا البحث في (المجلة) فألقينا فيه ثمانية عشر جمعاً لكنه قد فاته جمعان ذواشان. ولا نقول: إن سبب هذا الفوت هو قلة الاستقراء أو العجز إذ لا نجهل أنها لغة العرب بل لغات العرب كما أنا ما نسينا ما روى في (الرسالة) عن (رسالة الإمام الشافعي في أصول الفقه): (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي) وذانك الجمعان الشاذان الفائتان هما القواري والسوابق.
1 -
في الفائق: في الحديث: الناس قواري الله في الأرض، وروى المسلمون، وروى الملائكة. وفي الصحاح: الأصمعي: الناس قواري الله في الأرض أي شهداء الله، أخِذ من أنهم يقرون الناس أن يتبعونهم فينظرون إلى أعمالهم. حكاه أبو عبيد في المصنِّف. وفي النهاية: أي شهوده فإذا شهدوا الإنسان بخير أو شر فقد أوجبَ، وأحدهم قار، وهو جمع شاذ؛ حيث هو وصف لآدمي ذكر كفوارس ونواكس.
جرير:
ماذا تعهد إذا عددت عليكم
…
والمسلمون بما أقول قواري
راجز:
حدثني الناس وهم قواري
أنك من خير بني نزار
لكل ضيف نازل وجاري
2 -
قال محمد بن مالك:. . . وشذ في الفارس مع ما مائله. قال ابن عقيل: وشذ فارس وفوارس وسابق وسوابق.
حماسي:
إن تُبتدر غاية يوماً لمكرمة
…
تلق السوابق منا والمصلينا
القناني في مدح الكسائي:
أبى الذم أخلاق الكسائي وانتهى
…
به المجد أخلاقَ الأبُوِّ السوابق
أغلب الظن أن نديدةَ سيبويه قد أحبره تضمين في الفعل (انتهى) أو حذف وإيصال كما سره هذا الجمع اللطيف للأب وهذا الجمع الشاذ، إنهم النحاة. . .
ضبط الكتابة العربية
أصدر معالي وزير المعارف قراراً جاء فيه: أنه رغبة في ضبط الكتابة العربية، بحيث يمكن أن تقرأ في غير تعرض للخطأ واللحن؛ وفي تقريب قواعد اللغة العربية إلى فهم الجيل الحديث دون أن يكون في ذلك مساس بجوهر اللغة وأصولها. ورغبة في تشجيع الأدباء المعاصرين على تصوير الحياة الحديثة في أدب يجمع بين نشر اللغة وروعة الأسلوب، تقرر أن يعهد إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية في أن يدرس ما من شأنه تيسير الكتابة العربية وقواعد النحو والصرف، والتماس الوسائل إلى تشجيع الأدباء على التنافس في الإنتاج الأدبي الممتاز؛ على أن يعرض المجمع على معالي الوزير في نهاية هذا العام ما تصل إليه مباحثه من النتائج.
وقد أبلغ هذا القرار إلى حضرة المراقب الإداري للمجمع للعمل على تنفيذه.
تحريف معنى بيت بالنحو
وعجيب أن يحرف معنى بيت بالنحو وهو لم يوضع إلا لصون اللسان عن الخطأ في الكلام، ليصح المعنى ويستقيم الفهم، وهذا البيت الذي حرف النحو معناه هو قول الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
…
فما انقادت الآمال إلا لصابر
فأو في البيت من النواصب التي تنصب الفعل المضارع بنفسها عند الكوفيين. وبأن
مضمره عند البصريين، وهي في البيت بمعنى إلى، وعلى هذا يكون معنى البيت: ليكونن منى استسهال للمصعب إلى إدراك المنى، لأن الآمال لا تنقاد إلا لمن يصبر على تحمل الصعاب في سبيلها - فهناك صعاب يستسهلها أولاً؛ ثم يكون بعدها إدراك المنى، ويجتمع في ذلك الأمر أن اجتماع السبب والمسبب؛ ولكن علماء النحو لا يرضون إلا أن تكون أو عاطفة مع كونها ناصبة، ويجعلون المعطوف المصدر المنسبك من الفعل المنصوب بها، ويجعلون المعطوف عليه مصدراً متصيداً من الكلام السابق عليها، ويكون تقدير البيت على ذلك العطف الذي يتكلفونه: ليكونن منى استسهال الصعب أو إدراك المنى - وهنا يقع التحريف في معنى البيت، لأن أو العاطفة لها معان غير معنى أو الناصبة، وقد جمع ابن مالك معاني العاطفة في قوله:
خَيِّرْ أبحْ قَسِّمْ بأو وأبْهِمِ
…
واشكك واضرب بها أيضاً نُمى
وربما عاقبت الواو إذا
…
لم يُلف ذو النطق للبس منفذا
أما أو الناصبة فتكون بمعنى إلى أو إلا، وكلاهما ليس من من معاني أو العاطفة، ولهذا كان تقدير البيت على العطف تحريفاً لمعناه، وخروجاً به عن معنى إلى المقصودة منه.
عبد المتعال الصعيدي
حول الإنتاج الأزهري
قرأت في مقال الأستاذ عبد العزيز محمد عيسى (الإنتاج الأزهري) في عدد الرسالة 397 ما يلي:
(أليس من العيب أن يظل الأزهر إلى الآن يقرأ في سنتيه الأولى والثانية الثانويتين كتباً في البلاغة لمعاصرين من غير الأزهريين وفيه مائة من المتخصصين في البلاغة كل واحد منهم قادر على أن يخرج كتاباً مثلها إن لم يكن أفضل منها)
ولعل هذا الذي يراه الأستاذ لا يراه أحد سواه، أو لعله إذا نظرنا إليه بالعين التي رآه هو بها لعددناه آخر العيوب إذا لم يكن بد من احتسابه أحد العيوب.
وإذا كانت الجامعة المصرية قد تقدمت الجامعة الأزهرية خطوات في الإنتاج والتأليف فهل قال أحد أساتذة الجامعة بوجوب أن تكون كل الكتب التي تقرأ في الجامعة من إنتاج
الجامعيين.
ولقد أشار الأستاذ إلى ما سنته وزارة المعارف في إعلانها عن الكتب التي هي في حاجة إليها، وأريد أن أقول في هذا الصدد هل طلبت وزارة المعارف أن يكون المتقدمون للمسابقة ذوي ثقافة معينة أو يشغلون مراكز معينة في شعب التعليم، ولعله ليس ثمة شك في أنه لو تقدم أحد الأزهريين لمسابقة وزارة المعارف ورأت لجنة التحكيم أن كتابه أفضل الكتب المقدمة لما وقع الاختيار على غير كتابه.
محمود أحمد وصيف
كتاب (تشرتشل)
لا شك أن ونستون تشرشل هو رجل الساعة في بريطانيا؛ ويتصل التطور الذي حدث في الحرب أوثق اتصال مع رآسته للوزارة الإنجليزية.
ومن عجب أن هذا الشيخ الكبير لا تزال فيه ذخيرة من الفتاء والشباب تستمد منها إنجلترا في أحرج الساعات التي تمر بها الآن.
ولقد كتب الكاتبون عن أعداء الديمقراطية وذكروا حياتهم؛ ولكن صديقنا محرر المقتطف يكتب أول كتاب عن أول منافح عن الديمقراطية وأول مكافح لشرورها في العالم. ولعله يتحفنا بعد كتابه هذا بكتاب عن حياة (روزفلت) صديق الديمقراطية في العالم الجديد، فإن سير هؤلاء العظماء تعمل عملين: تحييهم من ناحية، وتحيي همم القارئين من ناحية أخرى وكتاب تشرشل ظهر في سوق الأدب في حينه المناسب، وفرصته السانحة، فإن هذا الرجل يزداد نجمه كل يوماً ألقاً وسطوعاً؛ وهو إلى جانب إرادته الماضية وعزيمته المصممة أديب كبير، وأدبه من نوع خلفته القوة وصاغته المشيئة فخرجا أدباً قوَّيا. فله كتاب في وصف الحرب العظمى. وله ترجمة لوالده اللورد راندولف تشرتشل؛ وله مئات من المقالات وعشرات من الخطب التي تفيض بالإيمان القوي: إيمان الواثق بنفسه لا المغرور بما يملك.
يصور هذا الكتاب حياة تشرشل تصويراً عذب السياق، حلو السرد؛ قرأته فما مللته ولا غالب النوم جفوني أثناء مطالعته. وكيف ينام الإنسان وهو يقراً حياة حية يقظة، حياة قوية
فتية، حياة ملآى بالمفاجآت والمغامرات.
وتشرتشل من يومه يحب الصيال والنضال، ولعل نضاله اليوم هو أعلى مثل لما يستطيع الرجل الصئول أن يفعل، وهو يتكلم. . . ولكن أفعاله دائماً اكثر من كلامه وقد أشار هو نفسه إلى ذلك في خطبته الأخيرة التي أذاعها على الشعب يوم 9 فبراير حيث يقول:(في أوقات الحرب توجد أشياء كثيرة تستحق القول ولكن شعارنا دائماً الأعمال لا الأقوال)
إن كتاب الأستاذ فؤاد صروف عن تشرشل هو قطعة من أدب الحرب؛ وكثيراً ما كتب صديقنا في أوقات السلم عن العلم والصناعة فأجاد في كل فن تناوله. وهو حين يكتب اليوم عن حياة رجل كُتب له أن يدير أفظع حرب عرفها التاريخ فإنما تجيء كتابته دائماً على الغرار الذي عودنا والنهج الذي طالعنا. وهو غرار فيه وضاحة في التعبير، وتسلسل في الأداء، ومتابعة للحوادث.
لقد قرأنا كثيراً عن وحوش هذه الحرب الطحون، فهل آن لنا أن نقرأ عن مصارعي تلك الوحوش؟
الحق أن كتاب تشرشل هو أول خطوة في هذه السبيل؛ فلعلنا نسمع غداً عن وايفل، وويلسون، وأوكونور، وماكي، وبيغر بروك، وماتكساس، وغيرهم من أبطال النضال وأعلام القتال؟
إن تاريخ هؤلاء العظماء يجب أن يتلى في كل زمان ومكان، ويجب أن ينتقل إلى كل لسان. لأنهم - كما كتبت إليَّ مسز ساتيز الكاتبة الأمريكية - لا يدافعون عن بريطانيا فحسب، ولكنهم يدافعون عن قضية الحق والسلام.
محمد عبد الغني حسن
القصص
فندق الدانوب
للأستاذ محمود البدوي
عدت إلى كونستنزا ونزلت في (فندق الدانوب) مرة أخرى كما شاءت كاترينا، على الرغم من أنه ليس من الفنادق التي نشتهي في هذه المدينة، فهو يبعد عن البحر ويبعد كذلك عن أنظار السائحين، والجانب الأكبر من حجراته لا يدور مع الشمس، ولا يشرف على مناظر خلابة، وهو إلى جانب هذا يقع في قلب المدينة، وعلى خطى قليلة من الخط الحديدي، فالمقيم فيه ينام على صوت العجلات وهي تدوي القضبان، وينهض على صفير القطر وهي تبرح المحطة!
على أن كل شيء يتحول في نظرك إلى جمال وفتنة عندما ترى كاترينا. . . تلك الفتاة الروسية الجميلة التي تعمل في الفندق.
وكنت قد لبست حلتي وتهيأت للخروج عندما دخلت كاترينا غرفتي فحيتني في ابتسامة ساحرة! وهصرت ستر النافذة وقالت ووجهها مشرف على الطريق:
- نمت نوماً عميقاً وحلمت بكاترينا كالعادة؟
- أجل يا كاترينا. . . وحلمت أننا نجري على ساحل البحر في كارمن سلفيا. . . وأنت تطفرين من المرح وتقذفينني بالكرة. . . والآن، هل تحققين هذا الحلم. . .؟
- ماذا؟ أتنزه معك؟ والعمل والفندق؟. . . أنا لا أمشي مع الشبان في الطرقات. . .!
- طبعاً يا كاترينا. . . أنت لا تمشين مع الصعاليك من أمثالي. . .!
- آه. . . صعلوك. . . ماذا تقول صعلوك؟. . . لا تقل هذا ومالت بخصرها على مائدة صغيرة في الغرفة وهي تهتز من الضحك وتزيح خصل الشعر المتدلية على جبينها، وتمر بأناملها على فمها، وقد تورد وجهها وأشرق محياها. . . ثم سكنت نأمتها. . . وأخذت ترنو إليَّ وعلى وجهها سحنة الفتاة الريفية التي لا تعرف من حروف الحياة شيئاً. . . وقالت بصوت حلو لين النبرات:
- أنت لا تعرف شعور الفتاة يا شوقي. . . كيف أخلع رداء الحياء وأمشي على شاطئ البحر شبه عارية وعيون الشبان تأكلني؟ كلا. . . أنا فتاة من أسرة روسية معروفة. . .
وأنت تقول لي هذا الكلام لأنك لا تعرفني. . . ترى أمامك فتاة فقيرة تعمل في فندق. . . هذا هو كل ما تعرفه عني. . . افهم شعور العذراء يا شوقي!
- طبعاً. . . أنا أعرف شعور العذراء يا كاترينا. . . ولكن هذا لا يمنعك من التنزه معي لتري الدنيا. . . الدنيا ليست هنا في هذا الفندق. . .
فاحمر وجه كاترينا، وأسبلت جفنيها، وغضت رأسها كطفل صغير ارتكب عملاً يعده مزرياً. . . ثم رفعت أهدابها وقالت بصوت خافت:
- كيف أخرج معك بهذا الثوب. . .؟ أنظر. . .!
ونظرت إلى ثوبها وكان يبعث على الرثاء حقاً. . .!
- أليس معك غيره يا كاترينا؟
فغضت رأسها ثانية، وانسدلت أهدابها على هاتين العينين الزرقاوين اللتين لا تعرف من أسرارهما وتعابيرهما شيئاً. . .
ورفعت جبينها وقالت ويدها على عاتقي:
- أبداً. . . أنا فتاة وحيدة وفقيرة. . .!
- سأجود لك بثوب جديد يا كاترينا. . .
فاهتز جسمها. . . كأن سيالاً كهربائياً سرى في ألياف لحمها. . . وطوقتني بذراعيها وقالت وهي نشوى طروب:
- والآن، سأجيء لك بالإفطار. . . وسنفطر سوياً. . . ولكن لا تأكل الطعام كله كما تفعل دائماً، ولا تدع للصغيرة المسكينة كاترينا شيئاً. . . أوه. . . أنت مروّع!
رجعت ذات ليلة إلى الفندق متأخراً، بعد أن قامرت وأفرطت في الشراب. . . لعبت الروليت في الكازينو وخسرت كثيراً، وطيرت الخسارة الأحلام من رأسي. . . وصعدت درجات الفندق متثاقلاً حتى بلغت غرفتي. . . وقد خيم السكون العميق على الطابق كله. . . وفيما أنا أدير المفتاح في الباب سمعت رنين قبلات في إحدى الغرف. . . ثم صوت ضحكات. . . ضحكات كاترينا بعينها، فلا أحد يضحك مثلها بقلب طروب. . . وسمعت إثر ذلك صوتها وهي تتحدث في همس. . . وفتحت باب غرفتي ودفعته ورائي بغيظ وحنق. . .
وبعد لحظات فتح الباب برفق، ودخلت كاترينا وهي تتثاءب وعيناها شبه مغلقتين كأنها مستيقظة من نوم عميق. . . وأفاقت في التو من تأثير مخدر! وجلست على الديوان وهي تفرك عينيها ووضعت ساقاً فوق أخرى ومالت بجسمها إلى الوراء وقالت وهي أسبه بالنائمة أو الحالمة:
- لماذا تأخرت هكذا؟ كنت في الكازينو طبعاً. . . لقد أبصرت بك ليزا مع بعض الغواني. . .
فصمت ولم أجب. . . ونظرت إلى هذه الفتاة وهي تتكسر وتتثاءب، وتتصنع التعب الشديد وتحاول الاستفاقة من النوم، وقد كانت منذ لحظة في أحضان رجل، وحاولت أن أقرأ في عينيها شيئاً ينم عن حقيقة أمرها فلم أستطع.
وجلست وهي تسارقني النظر. ثم نهضت ومشت إلى صوان الملابس وجاءت لي بجلبابي. فتناولته منها، ودفعتها عني فابتعدت قليلاً ولم تقل شيئاً، وظلت هادئة ووجهها ساكن الطائر ونظراتها لا تتغير.
وقلت بصوت خشن وقد تحول بصري عنها
- والآن أريد أن أنام يا كاترينا.
- ألا تريد شيئاً. . .؟
فرفعت وجهي ونظرت إليها نظرة يتطاير منها شرر الغضب. فوقفت في وسط الغرفة أكثر من دقيقة وهي لا تبدي حراكاً ولا تحرك ساكناً. . . ثم مشت متثاقلة إلى الباب. . .
وأغلقت الباب وراءها بعنف وغيظ ولا أدري لماذا كنت أحمق إلى هذا الحد.
وذهبت مرة إلى مطعم من مطاعم السمك الفخمة في شارع كارول لأتعشى. . . بعد أن ترددت طويلاً في ولوج بابه. . . وجلست في ركن بعيد عن الخلق وأنا شاعر بالنفور والقلق. . . ودرت ببصري الحائر فيمن حولي. . . كما ينظر الرجل الغريب إلى قوم لا يعرفونه. . . وشد ما كنت دهشتي عندما لمحت كاترينا جالسة إلى مائدة في وسط القاعة مع كهل أنيق الملبس رائع المظهر. . . وكانت ترتدي ثوباً من الحرير الفاخر لا نرى مثله إلا في قصور الأمراء!. . . ولما وقع بصرها علي ابتسمت وأحنت رأسها في أرستقراطية أصيلة!. . . ولمحت في عينيها وهي تنظر إلي ذلك البريق الخاطف الذي يبدو ثم يختفي
في لمح الطرف. . . ولا تعرف منه شيئاً على الإطلاق. . . ونظرت إلى هيئتها وبزتها وقارنتها بالنساء الجالسات في المطعم فإذا بها تبزهن جميعاً. . . فهي آنق مظهراً وأحلى شكلاً وأنضر وجهاً ورجعت أذكرها وهي في ثوبها الأبيض البسيط في الفندق كفتاة ريفية ساذجة يبدو من مظهرها أنها لا تعرف من شئون الحياة شيئاً. . . وأدركني العجب.
وغافلتها وهي تحادث صاحبها وانسللت إلى الخارج وعدت من بعض المراقص إلى الفندق فوجدتها جالسة في غرفتي منكبة على المكتب تكتب رسالة! ورفعت وجهها لما شعرت بي. . . وتوقفت عن الكتابة ونظرت إلي وهي باسمة. . . ثم عادت تكتب وبعد دقيقتين طوت الرسالة وغلفتها وقالت: (إنني أكتب رسالة إلى صديقة عزيزة في بلغراد. . . هل رأيت ذلك العجوز الذي كان معي الليلة في المطعم؟ إنه عمي! جاء أمس من بلغراد وحدثني عن مرض كاتوشنكا العزيزة فجلست أكتب إليها هذه الرسالة في الحال. إنها من أعز صديقاتي وقد طَرَنَا الحمر معاً. وكنا نعمل سوياً في بودابست، ثم طوحت بنا الأقدار. . . وما زلت أنحط حتى وصلت بي الدرجة إلى العمل في هذا الفندق! هل تتصور أنني سأترك هذا اليهودي يحاسبك على هواه. . . ويقدم إليك الكشوف في آخر الشهر كأنك مهراجاً من الهند. . . كل شرقي عند هذا الرجل الجشع مهراجاً. . . لا. . . أنت طالب مسكين يا شوقي؛ عندما يجيء ديمتري ويدفع لك بهذه الأوراق ألقها في هذه السلة. . . سأحضر الحساب فلا تسل عن ذلك اليهودي يا شوقي!)
وكانت تتكلم بسرعة وكأنها تتلو من ورقة أمامها ثم كفت عن الكلام. ونظرت إليها فإذا بها ساهمة كأنها تفكر. . . ولأول مرة في حياتي أشاهد كاترينا تفكر، فإن رأسها الصغير الجميل لا يتسع للتفكير. . .
وطوقتها بذراعي وقلت لها:
- هل نذهب غداً إلى أيقوريا؟
- أجل. . . ولكن ليس أيقوريا. . . أو كارمن سلقيا. . . أو مامايا. . . سنذهب بعيداً بعيداً عن كل هذه البلاد.
وكانت تحلم؛ وما أعذب الأحلام في رأس فتاة في مثل سنها وجمالها. . . وضممتها إلى صدري فسكتت واستراحت وأغمضت عينها نصف إغماضة، ثم انتفضت فجأة واعتدلت
في جلستها وصاحت:
- ما هذا. . . هل تعلمت هذا الجموح في بخارست؟ أنت تعرف أنني عذراء. . . أنت مروع؟
وسافرت من كونستنزا إلى مدينة صغيرة على الدانوب، وعدت منها بقطار بوخارست السريع إلى ميناء مباشرة. . . ولم أشأ الذهاب إلى الفندق مخافة أن ألتقي بكاترين فتبقين أياماً أخر.
ولما اقترب موعد السفر صعدت إلى ظهر السفينة ووقفت على الجسر أرقب حركة المسافرين والمودعين وقد علت وجهي تلك الكآبة التي تعلو الراحل من بلاد يحبها. . . بلاد قضى فيها أسعد أيامه وأمتع لياليه. وكانت الشمس قد غربت وبدت تلك الميناء الصغيرة تتلألأ في غبش الغسق؛ وأخذت أستعرض في ذهني الصور الجميلة التي مرت علي في تلك البلاد. . . مناظر سينايا الخلابة. . . وشواطئ الدانوب الساحرة. . . وحسان بخارست. . . وغانيات كارمن سلفيا. . . وفاتنات ممايا. . . وفندق بولونا. . . وفندق الدانوب. . . وكاترينا. . . أجل كاترينا. . .! واتكأت على السور الحديدي وعيني إلى الأفق وكل شيء يمضي سريعاً. . . ولمحت فتاة تهبط المنحدر المشرف على الميناء. وكانت تمضي على عجل وبصرها لا يتحول عن السفينة. . . وفتحت عيني وتبينتها فكانت كاترينا. وقفت لحظة حائرة. . . ثم نقلت بصرها في الركاب. . . ولمحتني فجرت على الرصيف حتى وقفت أمامي وهي تلهث. . . فنظرت إليها مشدوهاً وسألتها:
- ما الذي جاء بك. . .؟ وكيف عرفت أنني سأسافر اليوم. . .؟
- هذا سهل!. . . دعك من هذا الآن. . . كيف حالك. . . شد ما تغيرت ونسيت كاترينا المسكينة لا يذكرها أحد. . .
ولم أستمع لباقي حديثها. . . فقد درت ببصري في الركاب لأحصى عدد الذين جاءت تودعهم كاترينا. . . فلا بد أن يكون منهم من نزل في فندق الدانوب والتقى بها!
ورأت نظراتي، وقرأت ما دار بخلدي. . . فامتقع لونها وغضت طرفاً. . . ثم رفعت رأسها وقالت وقد اختلجت نبرات صوتها:
- شوقي. . . هل تحسب أنني جئت أودعك كلا. . . أنت مروع! إنني جئت أرقب هذه
السفينة وهي مقلعة وسائرة برهة في الطريق الذي تسير فيه السفن إلى وطني. . . سأركب هذه السفينة يوماً ما. . . وأعود إلى وطني، وأرى بافلوفنا، وسونيا، وأولجا مرة أخرى. . . إنني أجيء إلى هنا كل أسبوع وأرقب السفن وهي مبحرة وأتخيل إلى ذلك اليوم سيأتي ولا بد أن يأتي. . . فلا تحسبن أنني جئت أودع الصعاليك أمثالك!. . . فاستغرقت في الضحك.
- لا تقولي هذا يا كاترينا. . . إنني مسافر اليوم وسأعود غداً لأراك ولا بد أن نلتقي ثانية.
- حقاً. . .؟
- أجل. . . لا بد وأن أعود في العام المقبل وكل عام بعده لأرى كاترينا. . .
- والآن اصمت واقترب. . . أرأيت؟ إننا لا نستطيع أن نتصافح. . . انتظر لا بد من ذلك. . .
واحمر وجهها ولمعت عيناها، وظهرت في أبدع ما كونها الله. . . فقد اختلجت شفتاها، وتهدل شعرها، ورف لونها، وتورد خداها. . . وعلت أنفاسها، ومالت برأسها إلى الوراء، وارتفعت بجسمها قليلاً. . . وانحنيت عليها. . . والتقت يدانا. . . وتصافحت أنفاسنا. . .
ودوى صفير الباخرة. . . وتراجعت كاترينا. . . ووقفت جامدة كالتمثال. . . وعيناها مخضلتان بمثل الدمع. . .
وشيعتها ببصري وهي تصعد المنحدر الذي جاءت منه. . . ولكنها لم تكن تمضي مسرعة. . . بل كانت تسير على مهل كاسفة البال حزينة، كأنها استفاقت من حلم. . .
محمود البدوي