الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 399
- بتاريخ: 24 - 02 - 1941
من دروس الحرب
بين اللاتينية والجرمانية
كان بعض المولعين بتصنيف الناس من علماء الأجناس يقولون أن الله اصطفى الآريين على الساميين بمواهب العقل الأصيل فآتاهم الحكمة؛ ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي العلم والحكم وهيئ فطرته لملك الأرض وتمدين العالم. واستغل المستعمرون هذه الفكرة فسرقوا بها ملك العرب، ونسوا أن العرب، وهم ساميون، كانوا خلفاء الله وورّاث المعرفة في الدنيا؛ واستغلها النازيون آخر الأمر فسرقوا بها مال اليهود، ونسوا أن اليهود، وهم ساميون، كانوا الرأس الخلاق واليد المصرفة في ألمانيا.
ولعل هؤلاء المصنفين لخلق الله يشغلون بالهم اليوم بما يتجلى من الفروق بين اللاتينية والجرمانية وهما شعبتان من الآرية، ليعلموا أن من عوامل البيئة والتربية وطريقة العيش ما لا يقل أثراً في اختلاف العقل وتغير الخُلق عن عوامل الجنس والوراثة. ولئن كان في فكرة الآرية والسامية أكثرُ الكذب الذي يسنده الغرض؛ فإن في فكرة اللاتينية والجرمانية أكثر الصدق الذي يؤيده الواقع. وإذا كان الغربيون قد انتفعوا بفكرتهم في أن يسودوا، فإنا حريون أن ننتفع بفكرتنا في أن نتحرر.
لأمر ما تنهار اللاتينية وتتماسك الجرمانية وقد مسهما من هذه الحرب الطحون عذاب لا يختلف!
هنا الديمقراطية الوادعة تتمثل في دولة جرمانية هي إنجلترا، ودولة لاتينية هي فرنسا؛ وهناك الدكتاتورية الباغية تتمثل في دولة من الدول الجرمانية هي ألمانيا، ودولة من الدول اللاتينية هي إيطاليا؛ فما هو إلا أن امتحنت الحرب بنارها معدن الفريقين حتى ذابت فرنسا هنا وتفككت إيطاليا هناك، وظلت الأمتان الجرمانيتان ثابتتين، تتصارعان بعبقريات الذهن، ومبتكرات العلم، ومهلكات المادة، والعالم كله يشهد هذا الصراع العنيف المخيف وهو من هوله الهائل لا يتقارُّ ولا يتمالك. وسيكون النصر ولا ريب للفريق الذي يحالفه الحق والصدق والصبر؛ ويومئذ تنقسم الجرمانية كذلك إلى سكسونية تعتمد على قوة الخُلق، وتوتونية تعتمد على سعة الحيلة.
ليت شعري من أين أُتِيت اللاتينية حتى انخرعت فما تقوم، وانماعت فما تتماسك؟ لم تُؤت
يا زعماء الشرق إلا من جهة خصائصها التي تبجحت بها حيناً من الدهر، وهي الإفراط في الأدب والفن والكلام، حتى غلب فيها النظر على العمل، والحفظ على التفكير، والخيال على الواقع. وقاعات التمثيل على أندية الرياضة؛ فمن المعقول ألا يقام لها وزن مع الجرمانية التي كان من أظهر خصائصها الممتازة أن ألَّفت ثقافتها وحضارتها من عناصر معلومة المقادير مضبوطة النِّسب من كل ما يتصل بالمادة والأدب، ويدخل في غذاء الجسم والروح، فلا يطغى منى على معنى، ولا يجوز شئ على شئ؛ ثم هي لا تفهم الفرد إلا بالأمة، ولا العلم إلا بالتطبيق، ولا العمل إلا بالتجويد، ولا رياضة العقل إلا برياضة البدن، ولا غاية الآخرة إلا بطريق الدنيا. وكل ما يصدر عن الجرمانية من نتاج الفكر واليد موسوم بسمات القوة والدقة والجد.
ماذا عسى أن نصنع يا زعماء الشرق العربي وهذه اللاتينية المتخلفة العجفاء قد غلبت علينا لوجودنا على البحر الأبيض المتوسط، واتصالنا بشعوبها المختلفة في العمل والتجارة، واعتمادنا على رسلها الدينيين في التربية والتعليم، فأخذنا من أهلها حب الكلام وشهوة الجدل. فقادتُنا كتاب ومحامون، وجيشنا هُتَّاف ومتظاهرون، وعُدتنا أحزاب وصحف! وإذا لم يكن زعيمنا من صاغة الكلام وراضة المنابر انصرفت عنه الأسماع ونبت عليه النفوس ولو كان ملء سكوته العمل المثمر!
من صفات اللاتينية فينا أننا لا نزال نتعلم بالحفظ، ونتقدم بالمحاباة، ونعمل بالواسطة، ونقنع بالشكل، فلا يهمنا من النظام إلا أن يبقى مظهره وإن ذهب جوهره.
ومن مظاهر اللاتينية فينا أن ضعف إيماننا بالمثل الأعلى والخير الأعم. فالأمة معناها: أنا أكون، والوطنية مغزاها: أنا أعيش. فإذا تناقضت منفعة الفرد ومنفعة الأمة، وتعارضت رغبة النفس وإرادة الوطن، وقع الضمير الاجتماعي في غشية ثقيلة لا يبالي المرء فيها أن يخون أو يسعف أو يسقط.
ومن بلايا اللاتينية فينا أننا نسرف في الوعود، ونتزيد في الحديث، ونداجي في النصيحة، ونكابر في الحق، ونجاحش في النقاش، ونركن إلى شعبذة الحظ، ونستكين إلى معابثة القدر، ونستأمن إلى مخادعة السلامة.
فإذا شئنا أن نتقي العواقب المحتومة لهذه التربية الفاشلة، فلنطهر قلوبنا من رواسبها
المتراكمة، ولنهيئ نفوسنا لحياة جديدة تنكشف عنها هذه القيامة القائمة. فإن مما لا شك فيه أن الحياة الحاضرة بمذاهبها ونظمها تنصهر الآن في نار هذه الحرب لتصوغها يد الخالق المصور صياغة أخرى تتفق مع تقدم الإنسانية في سبيل الخير المحض والكمال المطلق؛ ومتى خلصت العقول من الهوى، وبرئت النفوس من الأثرة، وطهرت القلوب من الحقد، عاد الناس إلى شريعة الحق الخالد فيلتقي الشرق والغرب، ويأتلف الأحمر والأسود، وتطمع الأمم والشعوب أن يعيشوا في عالم من الإخاء والرخاء جديد. وهل ذلك على الله بعيد؟
أحمد حسن الزيات
ليحكم رجال الأدب العربي
السباعي بيومي
يستر جناية على المبرد بجناية على المرصفي
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
عرف قراء (الرسالة) أن الأستاذ السباعي توعدني بمقالتين خطيرتين: الأولى في تحديد ما قال في الشيخ المرصفي، والثانية في دفع النظرية التي نهبها من كتاب النثر الفني، وكان يرجو أن أنتظر إلى أن يفرغ من المقالتين المرتقَبتين، لعلني أعتبر فلا أجترئ عليه، وقد شاع أني من كبار المجترئين!
وقد نشر مقالته الأولى، فعرفنا أنه يصر على اتهام الشيخ سيد المرصفي بالغرور، ولم يبق إلا أن ينشر مقالته الثانية، وهي مقالة عرفنا مضمونها مقدماً، فهو سيُثبت أنه لم يَسرق من كتاب (النثر الفني) وإنما سَرَق منه مؤلف (النثر الفني) فكان حاله حال اللص الذي رأى صاحب الدار يمشي من بُعد فصاح:(مين اللي ماشي هناك!)
وأنا لن أنتظر إلى أن يفرغ الأستاذ من تحبير مقالته الثانية، فما كان أول باحث سَرَق من كتاب النثر الفني، ولن يكون آخر باحث يسرق من كتاب النثر الفني، فقد كتمتُ سرقته من كتابي أربع سنين، لأني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يطلع إليها الناهبون من الفضلاء.
لن أنتظر، لن أنتظر، فليواجهني إن استطاع؛ وأنا ماضٍ إليه بقلمٍ أمضى من السيف وأعنف من القضاء، ولن أتركه بعافية أو يعترف بأنه يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
ولكن كيف جَنَى على المبرد وقد قضى شبابهُ في خدمة كتاب (الكامل)؟
تلك هي النقطة، كما يقول لافونتين!
اسمعوا كلمة الحق، أيها الناس:
المبرِّد دان اللغة والأدب والنحو والتصريف والتاريخ الإسلامي بكتابٍ نفيس اسمه (الكامل)
وهذا الكتاب قد شرَّق وغرَّب فانتقل من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال، وبذلك تعرَّض للتصحيف والتحريف، وإذاً كان من الواجب ألا يتقدم لنشره من أبناء العرب غير من يملك القدرة على إصلاح ما أفسدت تلك الأجيال.
فهل يكون السباعي بيومي هو المصلح المنشود وما قال أحدٌ بأن الله وهبه نعمة الذوق الأدبي، وهي نعمةٌ سامية لا يظفر بها من كل جيل غير آحاد؟
كان المصلح المنشود لكتاب الكامل هو شيخنا العظيم (سيد بن علي المرصفي) الذي قضى من عمره عشرين سنة وهو يراوح المبرِّد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق.
ولكن المرصفي مات وصار من حق كل باغٍ أن يتقوّل عليه كيف شاء، ولو كان في منزلة السباعي بيومي، وهو كما وصف نفسه أستاذ بدار العلوم!
هل سمعتم أشياء من أقوال الدكتور طه حسين؟
أتعب الدكتور طه نفسه في النَّيل من (دار العلوم) فكان يقول: هي مدرسةٌ عاقر، ومن الواجب أن تُغْلَق بدون تسويف!
فهل غضب السباعي بيومي وهو (أستاذ بدار العلوم) كما ذيَّل اسمه وهو يحاورني بمجلة الرسالة الغراء؟
وكيف يغضب والدكتور طه رجل يضر وينفع، وهو يملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان بوزارة المعارف، والسباعي يطمع في أن يعيَّن عضواً باللجنة التي تنقل كتاب (هانوتو) من الفرنسية إلى العربية؟!
أما الشيخ المرصفي فهو اليوم جسدٌ هامد لا يملك دفع الضر عن سمعته ولو صدر عن باغٍ في منزلة السباعي بيومي
الشيخ سيد المرصفي مات وشبع من الموت، وهو اليوم لا يملك دفع عادية الذباب
مات المرصفي ثم مات، ولكن تلاميذه أحياء، والويل كل الويل لمن يتعرض لشيخنا العظيم بكلمة سوء، ولو كان من أعز الأصدقاء.
أَيُشتَم المرصفي في مصر وهو قَريع الزمخشري والمبرِّد؟
ألم يكف المرصفي أن يعيش غريباً ويموت غريباً؟
لم يوجد في الأزهر من يدرك قيمة الشيخ سيد المرصفي غير الشيخ محمد عبده، وبموت
(الأستاذ الإمام) أصبح المرصفي من الغرباء.
وقد عرف المصريون قيمة الشيخ محمد عبده بعد الموت، فكيف يجهلون قيمة الشيخ سيد المرصفي بعد الموت؟
السباعي بيومي هو الذي أراد الإعلان عن نفسه بالقدح في الشيخ المرصفي، فليدفع ثمن ذلك الإعلان بلا إمهال
ولكن كيف يدفع ذلك الثمن؟
إلى رجال الأدب العربي أسوق الحديث:
أخرج السباعي كتاباً سماه (تهذيب الكامل) في جزأين أولهما في المنثور ثانيهما في المنظوم، ومعنى ذلك أنه قدَّم وأخَّر في نصوص الكامل ليقع المنثور في جانب والمنظوم في جانب. فهل يرى القراء أن هذا عملٌ مطلوب؟ وهل يرون أن المبرد كان يعزّ عليه أن يصنف كتابه على هذا الوضع لو أراد؟
المبرد راوَحَ بين المنثور والمنظوم لحكمة تعليمية، هي نقل الذهن من فنّ إلى فنّ ليبعد عنه السآمة والملال، وقد أضاع السباعي تلك الحكمة التعليمية بصنيعه (الجميل)
والفرق بين الكامل وتهذيب الكامل هو الفرق بين روح المبرد وروح السباعي، فأنت حين تقرأ الكامل تواجه روحاً لطيفاً هو روح أبي العباس - طيب الله ثراه - وقد كان مثلاً رائعاً في صباحة الوجه ولطافة الروح، وحين تقرأ تهذيب الكامل تواجه روح السباعي بيومي، وهو روح السباعي بيومي بلا نزاع ولا جدال!
ومهما يكن من شيء فقد استطاع السباعي أن يطارد المرصفي، المرصفي شارح الكامل، المرصفي الذي أقام البراهين على أن مصر وُجِد فيها رجلٌ يصاول المبرد، ويمشي إليه مَشْيَ البازل إلى البازل في شراسة وكبرياء.
استطاع السباعي أن يحرِّم على شرح المرصفي دخول (دار العلوم) ليجهل طلبة تلك (الدار) أسرار كتاب الكامل، وليجهلوا مبلغ أستاذهم السباعي من (العلم) بما وقع في (الكامل) من تحريف وتصحيف.
أنا أعرف أن دار العلوم مدرسة عالية لا يزورها أحدٌ من المفتشين، إلا إن ظمئ إلى فنجان من القهوة يحتسيه في مكتب العميد أو مكتب الوكيل، وإذاً فمن العسير أن تسنح الفرصة
لمحاسبة الأستاذ السباعي بيومي على ما يصنع في تكوين الطلبة بتلك الدار، وهم الجيل المقبل من رجال التربية والتعليم.
أعرف ذلك، وأعرف أن الذوق نهاني عن زيارة دروس الأستاذ السباعي بالجامعة الأمريكية، وأنا عن تفتيشها مسئول، لأنه لا يجوز ذوقاً أن أفتش على مدرس رأته وزارة المعارف صالحاً للمشاركة في إعداد المدرسين.
ولكن يظهر أن الأستاذ السباعي محتاج إلى من يعاونه على إعداد دروسه بدار العلوم، فقد رأيت أنه لم يفطن إلى ما في كتاب (تهذيب الكامل) من تصحيف وتحريف قضى بهما انتقال (الكامل) من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال!
يضاف إلى ذلك أن كتاب (تهذيب الكامل) تسرَّب إلى (كلية اللغة العربية) وقد يتسرب إلى (كلية الآداب) بحجة أن الدكتور طه حسين قَرَنه بكتاب (مدامع العشاق) في أحد فصول (حديث الأربعاء)
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على الأغلاط التي عجز عن إدراكها ذهن السباعي، وفطن لها عقل المرصفي، وهي أغلاطٌ ستؤذي السباعي أعنف الإيذاء، لأنها ستقنعه بأن ثناء الدكتور طه حسين على صنيعه في كتاب خدمة الكامل لن ينجيه من عذاب النقد الأدبي، وهو عذابٌ أليم
سأقوم بهذا الواجب خدمة لأبناء دار العلوم وخدمة لجميع طلاب الأدب العربي، وعلى الأستاذ السباعي أن يناقشني إن استطاع، وهو لن يستطيع، ولو ظاهره ألوف من المعجبين بقدرته على الاستهانة بفضائل التدقيق والتحقيق
والأستاذ السباعي قد شتمني بمجلة الرسالة مرتين، فليكف عن شتمي - غير مأمور - فإن الألسنة والأقلام لم تبقِ في شتمي مزيداً لمستزيد، ولو حاسبَ الله أعدائي وخصومي على ما اجترحوا آثمين في إيذائي لسلط عليهم شآبيب البلاء.
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فحسبي ما أعاني من البلوى بمحنة النقد الأدبي. ألا تراني أحاور أناساً لا أرتضيهم نساخاً لمقالاتي ومؤلفاتي؟
لقد لامني الناصحون على ما اقترفت من التنازل إلى مساجلة بعض الناس، فهل تعرف
كيف كان جوابي؟
لقد أجبت بأن الأدب كالعلم، والعالم يشرِّح جسم الضفدعة كما يشرِّح جسم الإنسان، فمن واجب الأديب أن يفهم أنْ لا عيب في أن يهتم بتشريح ما يضاف إلى الأدب ولو صدر عن نكرات
لا تشتمني، يا سيد سباعي، ولا تصفني بالغرور والاجتراء، فلو أنك رأيت الدنيا بعينيّ لطاب لك أن تتخلّق مثل أخلاقي، فما اغتررت وما اجترأت إلا وأنا أعرف أن في الدنيا ناساً أخف وزناً من الهباء
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فأنا رجلٌ (شَقيم) وذلك حرف لا يخفى عليك
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فما أملك محاسبتك لو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولستَ بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب؟
ليس لك غير نقل نصوص (الكامل) من مكان إلى مكان، فهل فهمت أسرار (الكامل)؟ وهل (هذبت) أو (شذبت) تلك الغابة الشجراء؟
ما أنت و (الكامل) أيها المفضال؟!
الأمر في ذلك لشيخنا العظيم سيد بن علي المرصفي، الشيخ الذي ربانا على الصراحة والصدق والاخلاص، وهو المنافس الأعظم للأساتذة الاماجد: محمد المهدي ومحمد الخضري وإسماعيل رأفت ومنصور فهمي وأحمد ضيف وطه حسين.
أما بعد فقد آن للأستاذ السباعي أن يقرأ ما يرضيه، وعليه أن يجيب، إن كان يملك الجواب، وهيهات ثم هيهات!!
1 -
في تهذيب الكامل ج2 ص 262 قال الأخطل:
نازعتهم طيّب الراح الشمول وقد
…
صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
ولم يلتفت السباعي إلى التحريف في (نازعتهم) وقد التفت إليه المرصفي، فنص على أن الصواب (نازعته) لأن الأخطل يقول قبل هذا البيت:
وشاربٍ مزيجٍ بالكأس نادمني
…
لا بالحَصوُر ولا فيها بسوّار
2 -
في تهذيب الكامل ج1 ص38 ورد قول الشاعر:
إذا ما حقبٌ جالَ
…
شددناه بتصدير
وهنا أتعب السباعي نفسه فأثبت في الهامش نقلاً عن المضاف إلى المتن أن هذا الشاعر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهذا خطأ ظاهر، وإنما الشعر ليزيد بن ضبة الثقفي يمدح الوليد بن يزيد، وقد أفضت إليه الخلافة (انظر تحقيق الشيخ المرصفي ج1 ص101 من رغبة الآمل في شرح الكامل)
وعذر الأستاذ السباعي أنه غير مسئول عن التحقيق، لأنه أستاذ بدار العلوم!!
3 -
في تهذيب الكامل ج2 ص307 قال المبرد: روُي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشد إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصيةٌ
…
وإذ أجرّ إليكم سادرًا رسني
فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له هشامٌ: ما بك؟ فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت أن لا أسمعه إلا جررت ردائي كما سحب هذا الرجل رَسَنه
والشاهد في كلمة (رجل من الصالحين) فقد أشقى الأستاذ السباعي نفسه بالنص في الهامش على أنه ابن أبي عتيق، نقلاً عما أضيف إلى متن الكامل، فهل سمع أحد أن ابن أبي عتيق كان يُعَد في الصالحين ومساعداته لعمر بن أبي ربيعة تشهد بأنه كان من أهل الخلاعة والمجون؟ لا يُطلَب من السباعي فهم هذه الدقائق، فلنرض تحقيق الشيخ المرصفي وقد نقل أن ذلك الرجل الصالح هو أبو عبيدة بن عمار بن ياسر (رغبة الآمل ج1 ص155)
4 -
في تهذيب الكامل ج2 ص308 قال الشاعر:
فقلت له تجنّبْ كل شيء
…
يعاب عليك إن الحرّ حرّ
ثم قال المبرد في التعقيب على هذا البيت: فهذا كلام ليس فيه فضلٌ عن معناه، وقوله (إن الحرّ حرّ) إنما تأويله أن الحرّ على الأخلاق التي عهدنَ في الأحرار، ومثل ذلك (أنا أبو النجم وشعري شعري) أي شعري كما بلغك وكم كنت تعهد، وكذلك قولهم (الناس الناس) أي الناس كما كنت تعهدهم.
وتعقيب المبرد سديد، ولكن الأستاذ السباعي ينقل في الهامش أن من هذا قول الله عز وجل:(فغشيهم من اليّم ما غشيهم) بدون أن يدرك أن الأخفش الذي نقل عنه قد أخطأ الفهم، فالآية ليست مما اتحد فيه المبتدأ والخبر لفظاً، وإنما هو موصول أسند إليه فعلٌ جُعل مثله
صلة، للمبالغة في التهويل (رغبة الآمل ج1 ص155). وكان المأمول أن لا تغيب هذه المسألة البسيطة عن ذهن أستاذ بدار العلوم.
5 -
في تهذيب الكامل ج2 ص309 تكلم المبرد عن الخيل المحبوكة الأصلاب فقال: (المحبوك الذي فيه طرائق، يقال لطرائق الماء حُبك واحدها حِباك). وبهذا سها المبرد سهواً لم يفطن له السباعي، فقد فسر الكلمة بما لا يراد منها في تركيبها، والصواب أن يقول: فالمحبوك الذي أُحكم خَلقه، من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه، يريد أن أصلاب الخيل موثقة مدمجة. ثم يقول: والمحبوك أيضاً الذي فيه طرائق (رغبة الآمل ج1 ص161) وهو كتاب المرصفي المحكوم عليه بالغرور والادعاء!!
6 -
في تهذيب الكامل ج2 ص212، أنشد المبرد قول حاتم الطائي:
إن الكريم من تلفت حوله
…
وإن اللئيم دائم الطرف أقودُ
وقد غيرّ المبرد لفظ البيت وروايته، بدون أن يتنبه السباعي لذلك، والصواب:
فمنهم جوادٌ قد تلفّت حوله
…
ومنهم لئيم دائم الطرف أقود
لأن حاتماً يقول قبل هذا البيت:
كذاك أمور الناس راض دنية
…
وسامٍ إلى فرع العلا متورد
(راجع رغبة الآمل ج1 ص177)
7 -
في تهذيب الكامل ج2 ص312 ورد قول الأشهب ابن رُمَيْلَة:
أُسود شرًى لاقتْ أسود خفية
…
تساَقوا على حرد دماء الأساود
وقد تفضا الأستاذ السباعي فأثبت في الهامش أن رميلة هي أم الشاعر، ولم يتعب الأستاذ في هذا التحقيق، فقد نقله عما أضاف أبو الحسن إلى متن الكامل، فكيف يجيب لو سأله أحد طلبة دار العلوم عن أبي هذا الشاعر وهو قد عرف أمه وجهل أباه؟
الجواب عند الشيخ المرصفي (المغرور) فقد جاء في رغبة الآمل ج1 ص179 أن أبا هذا الشاعر وهو ثور بن أبي حارثة ابن عبد الدار.
8 -
وفي تهذيب الكامل ج2 ص 92 ورد قول ابن الإطنانة
وإجشامي على المكروه نفسي
…
وضربي هامة البطل المُشيح
وسكت السباعي عن (الإطنابة) فلم نعرف أهو اسم أم الشاعر أم اسم أبيه، وإنما سكت
السباعي لأنه لم يجد ما ينقله عن أبي الحسن، فليعرف إن شاء إن الإطنابة هي أم الشاعر، أما أبوه فهو عامر بن زيد مناة أحد أشراف الخزرج (رغبة الآمل ج2 ص23)
9 -
في تهذيب الكامل ج2 ص315 قال رجل من بني عبس يخاطب عروة بن الورد:
لا تشتمني يا ابن ورد فإنني
…
تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به
…
خصاصة جسم وهو طيان ماجد
وإني امرؤٌ عافى إنائي شِركةٌ
…
وأنت أمرؤ عافي إنائك واحد
أقسِّم جسمي في جسوم كثيرة
…
وأحسو قَراح الماء والماء بارد
والسياق الذي أورده الأخفش وغفل عنه السباعي يوهم أن الأبيات الأربعة من شعر ذلك العبسي، والصواب أن العبسي لم يقل غير البيتين الأولين، أما البيتان الأخيران فهما جواب عروة بن الورد، وقد نقل الشيخ المرصفي (ج1 ص195) أن عبد الملك بن مروان كان يحفظ لعروة الأبيات الأخيرة، وثانيها هذا البيت:
أتهزأ مني أنْ سمنتَ وأن ترى
…
بجسمي شحوب الحق والحق جاهدُ
فإن ارتاب الأستاذ السباعي في تصحيح الشيخ المرصفي فليرجع إلى ديوان الحماسة في باب الأضياف والمديح ليرى هذه الأبيات الأخيرة منسوبة إلى عروة بن الورد، والمفهوم أن ديوان الحماسة مما يحفظه الطلبة بمدرسة دار العلوم!
ثم أما بعد، فهذا هو المنهاج الذي سنسلكه في بيان فضل المرصفي على السباعي وعلى جميع من يقرأون الكامل للمبرد، وسنرى فيما بعد غرائب وأعاجيب من غفلة السباعي عن فهم أغراض المبرد، فكيف ترونه يصنع؟ هل يصر على القول بأن المرصفي كان رجلاً مغروراً، وأن من الجريمة أن يدخل كتابه (دار العلوم) ليخلو الجوّ لمن تفوتهم البسائط من الأغلاط؟
لقد أنذرني الأستاذ السباعي، فهل يجيب عن هذه المؤاخذات قبل أن ينفذ ذلك الإنذار الفظيع؟
المهمّ هو أن ينظر أبناء دار العلوم في هذه المؤاخذات الموَّجهة برفق إلى نسخة (تهذيب الكامل) لا إلى الأستاذ السباعي، فما أجرؤ على الهجوم عليه، وهو أديبٌ يراني ويرى أستاذي من المغرورين المجترئين!
المهمّ هو الصدق في خدمة اللغة العربية، وأنا بهذه الدراسات أخدم لغة العرب خدمةً يعجز عنها السباعي بيومي. وإن طال الشوط وسيطول فسيندم السباعي على ما اجترح من ستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
إن قلبي ليكتحل بالغُبار الذي يثيره قلمي، فمن طاب له أن يلقاني في ميدان النقد الأدبي فليوطّن نفسه على مكاره لا يصبر على لأوائها غير الخناذيد.
وإلى اللقاء، فللحديث شجون وشجون
زكي مبارك
إلى الدكتور زكي مبارك
خصومة أدبية
للأستاذ السباعي بيومي
معذرة يا صديقي الدكتور، فقد حملني ما ظهر في كلمتك
السالفة من مخالفة الرفق الذي تطلبه قولاً وتنبذه عملا أن أقسو
عليك في عبارة هذه الكلمة بعض القسوة، ولدينا مزيد. . .
كلمتي الثانية
أينا الذي نهب وادعى؟
وجه إليَّ صديقي الدكتور زكي مبارك كلمة بعدد (الرسالة) رقم 396 كان مما ذكره فيها قوله:
(وقد زعم الأستاذ السباعي أن الشيخ المرصفي سرق بعض أفكاره، فليستعد للدفاع عن النظرية التي نهبها نهباً من كتاب (النثر الفني) ونشرها في مجلة السراج)
فهالني من صديقي أن يهفو تلك الهفوة، بل أن يسقط تلك السقطة، لأنه بنى هذا الزعم الفاسد على شيء سطحي ظاهري لا يأخذ به محقق ولا يغتر فيه باحث، ذلكم هو أنه رأى تاريخ العدد الذي نشرت فيه تلك النظرية بمجلة السراج، لاحقاً لتاريخ نشر كتابه المذكور - ناسياً أنها ثابتة لي قبل تاريخ هذا النشر بزمن طويل - فادعى أني نهبت وسرقت؛ وهأنذا باسط هذه المسألة للقارئين بسطاً يجعلهم يوقنون أن صديقي هو الذي نهب وسرق؛ ثم أبى إلا أن يصحب ذلك بجاه عريض من الادعاء والتطاول على رجالات الأدب قدماء ومحدثين، وإلى حضراتهم البيان:
قال الدكتور في كتابه (النثر الفني) من كلامه على نشأة المقامات: (وكان المعروف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أنشأ المقامات، ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان)؛ ثم قال: (وقد وصلت إلى أن بديع الزمان ليس مبتكر فن المقامات، وإنما ابتكره ابن دريد المتوفى سنة 321، وإلى القارئ النص الذي اعتمدت عليه في
تحرير هذه المسألة)؛ وهنا ساق النص الآتي:
(قال أبو إسحاق الحصري حين عرض لكلام بديع الزمان: - كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفاً، والهوى يعشقه ظرفاً؛ ولما رأى أبا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، في معارض عجمية وألفاظ حوشية، فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة وضروب متصرفة، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفاً وتقطر حسناً؛ ولا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، وعطف مساجلتها ووقف مناقلتها بين رجلين، سمى أحدهما عيسى ابن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري؛ وجعلهما يتهاديان الدر ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين وتحرك الرصين، يتطلع منها كل طريفة، ويوقف فيها على كل لطيفة، وربما أفرد أحدهما بالحكاية، وخص أحدهما بالرواية). أنتهي النص
وأنا أؤكد لحضرات القارئين أن قول الدكتور (وكان المعروف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أنشأ المقامات) لم يكن المعروف وإنما كان المنكر الذي ينكره التاريخ ويبرأ منه الأدب قديماً وحديثاً، وإنما هي مقدمة ساقها الدكتور باطلة ليبني عليها تلك النظرية التي طنطن بها وعج. وليسمح لي صديقي أن أعيد على مسمعه ما سبق أن رميته به من قلة الاطلاع، فإن ذلك النص التاريخي لم يكن هو الذي كشف عنه. وكيف وقد كان نصاً معروفاً متداولاً نقله كثير من الأقدمين تدليلاً على أن البديع لم يكن المنشئ الأول للمقامات، كابن خلكان وياقوت في كتابيهما وفيات الأعيان ومعجم الأدباء، وكالشريشي في شرحه لمقامات الحريري. ولولا ضيق (الرسالة) في هذى الظروف لنقلت نصوص هؤلاء الأعلام، ثم لذكرت غيرهم وأتيت على نصوصهم، في سبيل نقض الدعوى التي ادعاها الدكتور، تلك التي أخجل أن أسميها دعوى بالمعنى المعروف لأنها ظاهرة الفساد والبطلان، وليس للخصومة بشأنها أي مجال، ولكن صديقي حين صادفه هذا النص وهو يقوم بما يقوم به في زهر الآداب - بتكليف من طابعه الحاج مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية ولولاه ما كان عثر - أعتقد أنه عثر على ما لم يعثر عليه إنسان، وأنه بهذا الكشف عن
ذلك الكنز: كنز توت عنخ آمون قد أصبح فارس ميدان أو فارس الميدان، وإذن فليجل ويصل وليمش في الأرض مرحاً حتى يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً؛ ثم ليستمع الناس له مرغمين ساكتين وهو يقول بعد القول الذي فندناه:(ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان إلى هذا الفن، وإنما رأيت من يعلل سبقه بنزعته الفارسية) جاهلاً أن رجال النقد يأبون عليه ذلك إن كان قد عرفهم؛ فإن تلك النظرية التي يزعم كشفها بيده وتقديمها للأدباء مخترعة ببحثه، معروفة للأدباء الحديثين، ومدروسة منهم للمتأدبين. وها نحن أولاء أبناء دار العلوم فتحنا عيوننا أول ما درسنا الأدب بتلك الدار على هذه النظرية المزعوم كشفها وتلقيناها على أيدي أساتذتها في العُشر الأول من هذا القرن الذي أوشك أن ينتصف، أي منذ أربعين من السنوات.
هذه هي الحقيقة ناصعة، ولكن ليس لي أن أتركها من غير دليل أقدمه لصديقي الدكتور، بعد الذي قدمه عن نفسه من أنه لا ثقة للناس في اطلاعه ولا علم لهم باتساع أفقه، وإذن فليتلق هذا الدليل من إحدى مذكرات المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري، فقد كان يدرس تلك النظرية لطلبة دار العلوم قبل أن يكون الدكتور شيئاً. قال رحمه الله في الصفحة 310 من مذكرة مطبوعة في الأدب العباسي لطلاب السنة المكتبية 1929 - 1930 طبعة أخيرة، وهو يتكلم على المقامات في ترجمة البديع ما نصه:(وكان ممن أعجبته هذه الطريقة - يعني طريقة المقامات - ابن دريد، فأراد أن يلقن نابتة زمانه اللغة والأدب في هذا النوع من الكلام. قال أبو إسحاق الحصري في كتابه (زهر الآداب): وقد ذكر أبا الفضل الهمذاني بديع الزمان - وهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، كلام غض المكاسر، أنيق الجواهر) إلى آخر هذا النص الذي ادعى كشفه الدكتور ثم نقله في نثره معجباً به أيما إعجاب.
أصدقت إذن يا صديقي أنك كنت في قولك: (ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان إلى هذا الفن) أجرأ منك في قولك السابق: (وكان المعروف أن بديع الزمان هو أول من أنشأ المقامات)
صدق صدق يا دكتور ثم أخل إلى نفسك واحسب عدد من درسوا في دار العلوم على هذا العالم الجليل حقبة تقرب من ثلث القرن؛ وما كان متوسط عدد كل فرقة على سنيه ينقص
عن الستين؛ فإذا ما حسبت علمت أن من يعرفون تلك النظرية من خريجي دار العلوم وحدهم، فما بالك بغيرهم، يناهزون الألفين بل يزيدون. ثم اذكر يا صديقي أن هؤلاء الخريجين يدرسون ذلك لتلاميذهم في مختلفات المدارس، وفيهم من درسوها لطلاب دار العلوم وطلاب كلية اللغة العربية؛ ودونوا هذا في مذكراتهم مفصلاً مبسوطاً، قبل أن تدونه أنت في كتابك موسوماً بسمة الاختراع؛ وأنا أحد من فعل ذلك لطلابي في المعهدين المذكورين منذ أن بدأت دراسة الأدب فيها سنة 32 - 33 وكتابك لم يطبع إلا سنة 34؛ وكذلك فعل زميلي وابن دار العلوم الأستاذ محمود مصطفى في كلية اللغة العربية التي لا يزال فيها إلى الآن.
الحق يا صديقي أنك كنت جريئاً إن صح أن يسمى جراءة هذا الادعاء؛ والحق أن الخجل كان قد رفع حينما زهوت بهذا الكشف المزعوم زهو الطاووس، فقلت أنك حين اطلعت عليه المسيو مرسيه بباريس دهش وعجب كيف اتفق الناس مع هذا على أن بديع الزمان هو منشئ فن المقامات، وأنه أتحفك بهذه العبارة بقولها لك من باب الإطراء وهي:(يظهر أنه ضاع علينا من تاريخ الأدب العربي شيء كثير)؛ ثم زدت في الزهو فنسبت إلى الدكتور طه حسين من العجب والدهش مثل ما نسبت إلى المسيو مرسيه، وأنه جال معك في حديث ألهمه إياه نبأ هذا الاختراع، ولم يك باقياً عليك إلا أن تذيع أخبار هذا الكشف على تيارات البرق وموجات الأثير.
والآن، أفما كان الأجدر والأولى بالأستاذ الإسكندري وأمثاله من المحدثين الذين سبقوا إلى هذا الكشف بسنين أن يدعوه لأنفسهم إن كان هناك اختراع؟ ولكن حاشا لهم وهم ممن يحترمون الحقيقة ولا يتغفلون السواد أن بدعوا دعواك. وأما كان لي أن أرميك - إذ رميتني بالسرقة والنهب - أنك أنت الذي افتريت ومني نهبت؟ ولكن حاشا ونحن كأساتذتنا نحترم الحقائق ولا نتغفل السواد، أن نفعل ما فعلت؛ فإنما الأمر مفهوم معروف، وأنت فيه المتأخر المسبوق. والذي لا شك فيه بعد هذا البيان أنك كذبت على القدماء، واغتصبت جهود المحدثين، ثم لم تتسلل لواذاً ولم تخلص نجياً كما يفعل السارقون، ولكن أبيت إلا أن تهلل وتكبر، وتتعالى وتتجبر، ثم تغالي بالزهو بنفسك، واجتذاب الإعجاب بك من غيرك، وإذا بالحق يصرعك وينتقم للأدب والجماهير منك. . . وأني أستحلفك بالله يا صديقي
صادقاً، كيف وصفت نفسك إزاء ما سميتها نظرية وهي من البدهيات بما وصفت؟ أكان ذلك عن جهل منك إلى هذا الحد، أم هو تغرير وادعاء ليس من بعده بعد؟
وبعد فقد آن لي أن أكر راجعاً على كلمتك التي رميتني فيها بالسرقة منك بعد أن قبضت عليك متلبساً بالسرقة التي ادعيت، فأعلق على باقي ما ذكرت فيها بعبارات خاطفة؛ إن شئت بسطت كل عبارة منها في مقال كالذي سمعت:
1 -
جعلت عنوان كلمتك (الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي) وهذا أمر غبت عنه ولم تشهده فكيف أقدمت عليه قبل أن ينجلي لك؟ وإذا سوغك تطاولك أن تسميه هجوماً فكيف وصفته متسرعاً بالآثم فكنت الآثم بما وصفت؟
2 -
تزعم أن الخطابات قد كثرت عليك في تحقيق ما ادعيته علي في حق الشيخ المرصفي، وأنا أجزم قاطعاً، وأحلف غير حانث، أنه لا خطابات؛ وإذا كانت فإنها لا تعدو ركب النميري الذي قال فيه:
فلما رأت ركب النميري أعرضت
…
وكن من أن يلقينه حذرات
فلما سئل فيما كنت؟ قال والله إن كنت إلا على حمار هزيل ولي رفيق على أتان مثله
3 -
تقول: (وكنت - أي لولا تلك الخطابات - أغفلت هذا الموضوع عن عمد، لأن الأستاذ السباعي له علي حقوق) وما كنت أفهم إلا أن تلك الحقوق إنما هي حقوق الصداقة، فإني لا زلت بها حفياً وعليها حريصاً، ولكنك جعلتها يا صديقي:(أنني كنت دائماً من أنصارك) وليس لمثلي أن ينخدع بخدعة الصبي هذه تسوقها إليه، فالحقيقة المرة التي أسمعك إياها الآن بعد أن طغيت زماناً ولم ترد، أنك ما كنت في يوم زعيما في الأدب حتى يصح أن يكون لك أنصار، وإنما زعامتك نسج عنكبوت حكته من حولك، وتركك الناس تلهو به وتلعب، ثم زدت هذه العلة أخرى تقول فيها:(ولأن مقام الشيخ المرصفي أقوى من أن يهدم بكلمة جارحة تساق إليه في إحدى المحاضرات). وإني أحذرك جريئاً على تحذيرك إن كنت تريدها خصومة أدبية بيني وبينك أن تترك الآن الشيخ المرصفي، فإن التحكك به لن يغني عنك بالموضوع شيئاً؛ وإذا ما صفي الحساب بيننا عدت أبين لك أن مكانة الشيخ المرصفي لا تعلو على النقد؛ وأن الذي يصفه ببعض ما وصف به المبرد لا يكون قد عدا الحقيقة، ولا تعدي على السلف الصالح، فإن المبرد على أية حال أعلم من المرصفي علماً،
وآدب منه أدباً، ثم هو أدخل منه في السلفية الصالحة دخولاً يقوم شاهداً عليه عدد وافر من القرون.
4 -
ورابعاً تقول: (ولكن سكوت الأزهريين عن الانتصار للشيخ المرصفي أزعجني وكنت أرجو أن يكونوا درعاً واقية لذلك الشيخ الجليل وهو رجل لم ير مثله الأزهر منذ أجيال طوال). وأنا أصدقك القول يا صديقي بغض النظر عن نصيب هذا التفضيل الذي أسبغته على الشيخ من الحقيقة والواقع، بأن عبارتك هذه من باب الاستعداء الذليل والملق الرخيص الذي ينقص منك ولا يزيد فيك، فقد فاتك أن الأزهريين يقدسون حرية البحث في دراساتهم أول ما يقدسون، وأنهم يرثون المبرد قبل أن يرثوا المرصفي، وأن ديدنهم في ماضيهم وحاضرهم يأبى عليهم إجابتك إلى ما تطلب، لما يحسونه في طلبتك من غرض وهوى، ولأنه إذا كانت هناك حقيقة اعتدى عليها كان من شأن هذا الاعتداء أن يحفزهم على نصرتها من دون صراخ لك فيها ولا استعداء منك بشأنها.
5 -
وخامساً تعتبر مضايقتي بلاء لصداقتي، والسكوت عن المرصفي بلاء لأستاذيته، ثم تخرج من هذه الحيرة بنقل القضية من وضع إلى وضع، لتصيرها أدبية بعد أن كانت شخصية، ثم تعلن عن هذه الخصومة فإذا هي أمران، أحدهما زعمك أني زعمت الشيخ المرصفي قد سرق بعض أفكاري، وإهابتك بي أن أستعد للدفاع عن النظرية التي نهبتها من كتابك النثر الفني ونشرتها في مجلة السراج، والآخر أنني أستر جنايتي على المبرد بجنايتي على المرصفي، وأنك ستعرفني أن تهذيبي للكامل لم يكن إلا جناية أدبية، وأن التطاول على مقام الشيخ المرصفي لا يذهب بلا عقاب.
ورأيي لك يا صديقي في الأمر الأول، أمر سرقتي من نثرك إلى مجلة السراج قد سمعت فيه كلمتي الثانية هذه التي سقتها إليك بشأنه، واثقاً أن لك فيها دواء ناجعاً من الادعاء وشفاء شافياً من الغرور، وراجياً أن تكون أهلاً لثقتي هذه فيك.
أما رأيي لك عن الأمر الثاني فقد أنبأتك آنفاً بإرجائه إلى ما بعد كلمتي هذه والسابقة، لأنه موضع الخصومة وفيه سيكون النزال. وأني بهذه الخصومة لجد مسرور، أتدري لماذا؟ لأني سأعرضك فيها للجمهور على حقيقتك التي غشيتها ما غشيتها، وتسامح الناس فيها معك ما تسامحوا. وسيكون أول كشف لك فيما عملت، واقعاً على زهر الآداب إن شاء الله،
لأنه دون سائر أعمالك أشبه بما عملت في تهذيب الكامل الذي عددته جناية أدبية، حتى إذا ما أخرجتك بمقالاتي فيه، معترفاً لي ببراءتي من هذه الجناية، ومعترفاً على نفسك بإجرامك على الزهر وصاحبه وعلى الأدب، انبريت إلى تصانيفك - التي لا شبه لها عندي إلا أفراخ البغاث كثرة عدد وقلة غناء - أرد ما ليس لك فيها وهو أكثرها إلى مآخذه ذاكراً ما أوقعت فيه من تحريف، وأبين زيف ما هو من صنع يدك وهو القليل، بما لا مخرج لك منه أمام الناس لا أمام نفسك.
6 -
بقي قولك في نهاية كلمتك إنك تكره البغي على أصدقائك وإن أمرك معهم لم يكن إلا شبيهاً بأمر أكثم بن صيفي (إن قول الحق لم يدع لي صديقاً) وما كان أكثم لك بشبيه، فإن الذي لم يدع لك صديقاً إنما هو دأبك على الباطل في كثير مما تبحث، وبغيك على حق الصديق في جل ما تنقد، حتى لقد أمللت ومللت. ولقد حدثتني نفسي أن أكون فيما بغيت عليّ عاملاً بالآية (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) كما فعل كثير، ولكني رأيت في بعض وجوه الحزم - وأنت عالم بالوجه الذي رأيت - أن أحيد في معاملتك عن تلك الآية السمحة إلى هذه الآية العادلة (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) وحقاً لا تثريب عليّ ولا سبيل (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)
وإليك يا صديقي سلامي حتى ألقاك في مقالي المقبل بالدفع العنيف لما كتبت في العدد الماضي مصحوباً بالهجوم الأعنف على ما صنعت بزهر الآداب.
السباعي بيومي
في العقد
لأستاذ جليل
- 1 -
طالعت الجزء الأول من كتاب العقد الذي أظهرته في هذا الوقت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أو دولة العلم والأدب والفضل في مصر، وضبطه العلماء الإجلاء: الأستاذ الكبير أحمد أمين، والأستاذ الفاضل أحمد الزين، والأستاذ الفاضل إبراهيم الإبياري، فرأيت في هذه الطبعة الرائعة تحقيقاً كثيراً، وفضلاً في الشروح والتعاليق كبيراً. وقد عثرت على أشياء في هذا الجزء في أربع مئة صفحة كنت أعاين ضعفها (والله) في صفحة واحدة من تلك الطبعات القديمات الخبيثات. ولا ريب في أن أكثر الخطأ في طبعة اللجنة إنما هو تطبيع، وإن لم يرد في جريدة الإصلاح، وسأكتب في هذا (الإملاء) معظم ما وجدت غير متبع ترتيب الأقوال في صفحاته.
1 -
ص (119) قال الشنفري:
إذا حُملتْ رأسي وفي الرأس أكثري
…
وغودر عند الملتقى ثَمَّ سائري
وجاء في الحاشية: في 1: احتملت. وفي عيون الأخبار: هم ضربوا وفي البخلاء: إذا ضربوا
قلت: هذا البيت في مقطوعة (ثلاثة أبيات) رويت في العقد وفي ديوان الحماسة، ورواية أبي تمام:(إذا احتملوا)، وفي شرح التبريزي:(ويروى إذا احتملت)، واللفظة غير مشكولة. وإذا صحت هذه الرواية، فالفعل مبني لما سمي فاعله، فيعود الضمير إلى (أم عامر) في البيت قبله في أول المقطوعة:
لا تقبروني إن قبري محرم
…
عليكم ولكن ابشري أم عامر
أو إلى شيء حذفه أبو تمام، فقد كان يختار من قصيدة طويلة بعض أبياتها. وضبط (حملت) بالبناء لما لم يسم فاعله مشكلة أي مشكلة، بل مصيبة. . . إذ يؤنث بها (وطن النهى) والرأس في أقوالهم في جميع أزمانهم مذكر. قال التاج: اجمعوا على أن الرأس مذكر.
ويلوح لي أن صاحب هذه الأبيات هو صائغ اللاميتين: لامية الشنفري ولامية تأبط شرّا. .
في الرثاء، وأولها:
إن بالشعب الذي دون سلع
…
لقتيلاً دمه ما يُطل
قال التبريزي: (إنها لخلف الأحمر وهو صحيح)؛ وقال أبو علي في أماليه: كان أبو محرز أعلم الناس بالشعر واللغة، وأشعر الناس على مذاهب العرب. حدثني أبو بكر بن دريد أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفري التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
…
فإني إلى قوم سواكم لأميل
له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول؛ فكان أقدر الناس على قافية.
قلت: وأبو بكر بن دريد كان خير خلف لخلف ولمن سلف من الصواغين المزخرفين، فصنع ما صنع، وأمالي القالي ملآنة مما ابتدع.
2 -
ص (361) ودخل أعشى ربيعة علي عبد الملك ابن مروان، وعن يمينه الوليد، وعن يساره سليمان، فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي (ما بقى) وأنشأ يقول. ورويت مقطوعة بيتها الرابع هو هذا:
وإن فؤادي بين جنبي عالم
…
بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وجاء في الحاشية: زيادة (ما بقي) يقتضيها السياق وألذ في ب: مضى وبقى
قلت: جاء في شرح الحماسة للتبريزي:. . . فقال له: يا أبا المغيرة ما بقي من شعرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بقي منه وذهب، على أني الذي أقول. . . الأبيات. وقوله: ذهب أي ذهب منه، وهو قول حلو محكم. والبيت الرابع هذه روايته في الحماسة:
وإن فؤاداً بين جنبيَّ عالم
…
بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
قال الإمام التبريزي: (نكَّر فؤاداً لأنه باتصال قوله بين جنبيّ - اختص، حتى علم أنه قلبه من بين القلوب) وقد ائتم المتنبي بهذا الشاعر في قوله:
وفي الناس من يرضي بميسور عيشه
…
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما له
…
مدى ينتهي بي في مراد أحده
وتنكير فؤاد الرَّبعي وقلب الكندي في هذا المقام - من ألطف الكلام.
3 -
(ص 367) والدهر (أطرقُ مستتب)
وجاء في الحاشية: كذا ورد هذان اللفظان (أطرق مستتب) في الأصول والأغاني (ج 18
ص74 طبعة بولاق)، وكذلك في النسخة الخطية ولم تتبين معناهما.
قلت: هذا القول من أمثالهم، وقد رواه الميداني في (مجمع الأمثال)، وقال في تفسيره: أي مطرق مغض منقاد. وفسره في مكان آخر بقوله: الطرق استرخاء وضعف في الركبتين، والاستتباب: الاستقامة: يريد أن الدهر تارة يعوج وتارة يستقيم
قلت وأطرق في التفسير الأول مبني من (أفعل) قال الرضي: وعند سيبويه هو قياس من باب أفعل مع كونه ذا زيادة، ويؤيده كثرة السماع، ومجوزه قلة التغيير لأنك تحذف منه الهمزة وترده إلى الثلاثي، ثم تبني من أفعل التفضيل، فتخلف همزة التفضيل همزة الأفعال، وهو عند غيره سماعي مع كثرته.
4 -
(ص367) فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة
قلت: لا تجعلن بجنبك الأسدة. وهو من أمثالهم. قال الميداني في كتابه: هذا مثل يقع فيه التصحيف، فقد روى بعض الناس: لا تحفلن بجنبك الأشد، وتمحل له معنى يبعد عن سنن الصواب. وقد تمثل به أبو مسلم صاحب الدولة حين ورد عليه رؤبة بن العجاج، وأنشد شعره ثم قال له أبو مسلم:(إنك أتيتنا والأموال مشفوهة، والنوائب كثيرة، ولك علينا معول، وإلينا عودة، وأنت لنا عاذر، وقد أمرنا لك بشيء وهو وَتِح. فلا تجعلن بجنبك الأسدة، فإن الدهر أطرق مستتب)؛ ثم دعا بكيس فيه ألف دينار فدفعه إليه. قال رؤبة: فو الله ما أدري كيف أجيبه. . . قال الجوهري: السد بالفتح واحد الأسدة، وهي العيوب مثل العمي والصم، جمع على غير قياس، وكان قياسه سدوداً، ومنه قولهم: لا تجعلن بجنبك الأسدة، أي لا يضيقن صدرك فتسكت عن الجواب كمن هب صمم أو بكم. . .
قلت: كان أبو مسلم من كبار البلغاء الفصحاء. أورد الإمام الزمخشري في الكشاف قراءة له في تفسير الآية الكريمة: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سلطاناً، فلا يسرفْ في القتل، إنه كان منصوراً) فقال: (وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة: فلا يسرفُ بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر، وفيه مبالغة ليست بالأمر.
وهذا الخبر في الكشاف يدلنا على مكانة أبى مسلم في العربية وقدره العظيم عند جار الله.
ووصف المدائني أبا مسلم - كما نقل ابن خلكان - فقال: كان قصيراً أسمر، جميلاً حلواً، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر، طويل
الظهر، قصير الساق والفخذ، خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية، حلو المنطق، راوية للشعر، عالماً بالأمور، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئباً، وإذا غضب لم يستفزه الغضب.
وكان أبو مسلم ينشد في كل وقت:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت
…
عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم
…
والقوم في غفلة بالشام قد رقَدوا
حتى طرقتهم بالسيف فانتبهوا
…
من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة
…
ونام عنها تولي رعيها الأسد
بين عامين
سراب وأمل. . .
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
رجعت اليوم مبكراً إلى غرفتي المتواضعة في الضاحية النائية، في موكب من الوحدة والصفاء والانطلاق، فلم يعد يحلو لي أن أطوف في أرجاء المدينة، أو أذرع شوارعها العابسة بعد أن لفّتها الظلمة، وغيض منها النور، وكرهت نفسي هذا الرداء الأسود ذا النجوم الزرقاء الكابية الذي يضفونه على جنباتها الزاهية، فلم أجد إلا مصباحي وزاويتي. . . أعوذ بهما من شر الظلام الحالك.
جلست إلى جوار النافذة أرقب النهار المدبر. لقد تجهمت السماء، وأخذت تودع ألقها الصافي، وانتشرت في أطرافها البراقع القاتمة كأنها نذر الليل الزاحف. . . ولم يبق من الشمس إلا تلك الشعاعات الجريئة القوية التي أبت الهزيمة، وكرهت الفرار، فوهبت دمها القاني لهذا الطرف البعيد من الأفق كآخر ما تملك من فداء وتضحية!!
لشد ما يأسرني الغروب. .! إني لأجد له في نفسي أجمل الوقع. أترى كان ذلك لأنه يذكرني آمالي الغاربة التي بددتها الريح وابتلعها اليأس؟
- 2 -
كان كل من في الضاحية يتشح بالسكون، ويغرق في الصمت، ويدعو إلى التأمل. . . هذه الأرض الحلوة الطيبة تضم ذراريها التي تفتحت عنها من الخضرة الزاهية، وتنام معها على هدهدة المساء؛ وهذا النخيل القائم، يرتكز إلى نفسه، كأنما ملَ هذا الانتصاب؛ والشارع الطويل الممتد، كأنما كان طريقاً في صحراء لا يقطعه إنسان، ولا تجوزه مركبة، ولا تخترقه سيارة؛ وهذه الخراف الصغيرة في أرض الجارة العجوز قد اطمأنت إلى حظيرتها الناعمة. . . لم يبق أحد أو شيء. . . إلا أنا. . . أنا وهذه الساعة التي لا تني تتحدث وتتحدث.
- 3 -
واستغرقت في هذا التأمل، وأصغيت إلى هذا الحديث، وأحسست له معنى جديداً. لقد كنت أستمع إليه في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء، فلم يكن ليحظى بشيء من انتباهي إليه وإصغائي له، ولكنه يلقي إلي الآن معنى رهيباً أجد له في نفسي ألواناً من الصدى، وأنواعاً من التأثير، ثم هو يقترن إلى هذه الشعاعات الأخيرة الذاهبة في الفضاء فيكون معها شيئاً رائعاً ينفذ إلى أعماقي، ويستثير فيها الذكريات الجاثمة التي احتضنها الألم وغشاها الحزن.
أيظل الإنسان رهن هذه اللفتات النفسية التي تصرفه عن دنياه، وتباعد بينه وبين أجوائه، وتقذف به في عوالم مواجة، وتطيح به هنا وهناك ألعوبة في يدها. يذكر كل شيء وينسى كل شيء، ثم لا يخرج من هذا الذكر والنسيان بغير الابتسامة الفاترة أو النظرة القلقة أو الأمل المريض.
وتثاءب الكون، فسرت في جسم الأرض نسمة هادئة اهتز معها العشب الأخضر، وانثنت لها أغصان النخيل ورقص قرص الشمس المضطرب في كبد الأفق وهو يغوص في بحر اللانهاية.
- 4 -
في هذه الساعة كانت تتمثل آخر معارك النور والظلمة على مشهد الكون. لقد ظلت هذه المعارك أياماً كثيرة ما أطولها! لقد امتدت مع العام الراحل كله، تسجل غدر الزمان وغلبة الشر وتظهر هذا الإنسان المتفائل على مكاره الحياة ومصاعب الدهر، ولكنه يأبى إلا أن يسرف في التفاؤل، ويُغرق في الضحك، ويرى الحياة بعيني طفل غرير.
وأصغيت من جديد إلى حديث الساعة، كما أصغي لوحي الحنين حين يهيج بي الشوق، وعجبت لنفسي كيف تأخذ على هذه التمتمات الخافتة كل مشاعري وانتباهي، أكان ذلك لأنها نشرت لعيني حديث الماضي، وطوفت بي في ثنايا العام، ووقفت بي عند هذه اللحظات من سنة خلت، حين كنت أرقب مطلع الشمس من ضمير الأفق ومنبت البذور في مغرس الأمل، وحياة النعيم في دنيا الشقاء؟ أم كان ذلك لأنها تريدني أن أعب من هذا النور المرتجف قبل أن يخنقه الظلام، وأتزود بهذه الحرارة قبل أن يودي بها العدم، وأشهد ساعة الوداع قبل أن يطغي الليل؟!
سواء لدي الأمر فلقد أثرت أيتها الساعة القابعة في طرف الغرفة كل شجوني فاستفاقت على أنغامك العذبة ذكرياتي الغافية كما تستفيق جماعة الطير على أنداء الفجر، وتحركت نفسي الراكدة على نبراتك الساحرة كما تتحرك صفحة الماء في استقبال النسيم، وأحسست حرارة الحياة حين خضت على هدى منك هذا الفضاء الذي أخلفه ورائي في العام الراحل.
لقد كنت أتجنب أن أنظر إليه، لأنه يرهبني أن أرى الزهرة الناظرة تذوي في الكهف المظلم، والبرعم الحلو ينطفئ في رطوبة الفناء، والشعلة المقدسة تخفت في مهب الريح العاتية.
- 5 -
في مثل هذه اللحظات من العام الماضي كنت اقتطفت هذه الزهرة من روضة الصبي فغرستها في أرض الحياة، وسقيتها بماء الأمل، وغذيتها بالأماني، وانتظرت ثمرتها الغضة. . . ولكن الحياة التي ألفت الغدر وعشقت الشر، تريد أن تمنع عني الأريج وتحول بيني وبين الثمرة!
وفي مثل هذه اللحظات من العام الفائت، حملت يداي المصباح الذي يستمد حرارته من دم القلب، ونوره من شعاع العقل، وطوّفت به أنشد الهدف وأرنو إلى الغاية. . . ولكن السبيل ما تزال تملؤها العقبات، وتعترضها الحواجز، وأنا أمضي وأمضي. . . ثم أجدني حيث كنت. . . كأنما أدور حول محيط الدائرة دون أن أستطيع بلوغ مركزها، والمصباح يرف رفيف الأمل المنكسر، كأنما يظهرني على خفقات القلب الآيسة من هذا الطواف الممل. . .
وفي مثل هذه اللحظات أيضاً مددت يدي إلى الحياة، في نفسي السرور، وعلى وجهي البشر، وفي يميني الحق. . . وانطلقت أصافحها، تملأني الثقة، ويزدهيني المستقبل، ولم أفطن لهذا العطاء الناعم الذي كان يكسو يدها ويربق عليها مظاهر الفضيلة. . . ثم أدركت بعدُ أن القفاز يستر الشوك، وأن الشوك ينطوي على السم، وأن السم يكيد للحق ويخنق المستقبل.
لقد أدركت الآن لماذا كان لدقات الساعة في هذه اللحظات مثل تلك الروعة وذاك الأثر. . . لقد كانت توقع بنبراتها الهادئة رنين الأمل الهادي في قرارة اليأس، وتمثل حشرجات الأماني في صدر الزمن، وتبكي بنغمتها المؤثرة العام الراحل. . . وكانت تستفزني أن
أرفع بصري إلى السماء، وأدير نظري في الكون لأشهد هذا الوداع. فما كنت أستطيع أن أرى شيئاً، فقد اختلط عليّ الأمل واليأس، كما يختلط قتام الليل بوضح النهار، وتساوى عندي الأمس واليوم، كما تساوى الماضي والمستقبل في عمر الدهر، وأحسست في نفسي فراغاً كبيراً ممتلئاً بكل شيء ويتسع لكل شيء. . . يتجاوب فيه كل صدى، وترن فيه كل نغمة. . . ثم تضيع فيه هذه الأشياء والأنغام والأصداء، كما تضيع هذه الأشعة في كهوف الأفق.
- 6 -
إني لأفتح عيني الآن فلا أرى شيئاً، لقد امتزجت في أذني الأصوات المنبعثة عن حداء الزمن، وضحك الأمل، وصعقات العاصفة، كما اختلطت في عيني الأنوار المنبعثة من جوف الماضي وغياهب الآتي، وصفحات الحاضر. . . فما تغريني دقات الساعة لأن الزمن لم يعد شيئاً في حياتي، فقد أسفت للزمن، وما تبكيني الشجون، لأن اليقين قد طوى الألم، وما ينتابني القلق، لأن الإيمان يصرع الهواجس.
سأقتطف الزهرة الجديدة من قلب الصبي الناعم. . . وسأغرسها في رعاية الله وحنانه وبره، وستمتد يدي من جديد لتصافح ملائكة السمو والمجد، وسأحمل المصباح، يستمد نوره من الإيمان واليقين، وسأنشد الغاية رضى النفس، وسأقطف الثمرة، تباركها يد الله، وأحقق الهدف يهدي إليه نور الله. . .
في طرف الأفق، كانت تُغيب الأرض غلالة النور وفي كبد الجو كانت تطلع السماء أنوار النجوم، وتبعث شعاعاتها المهتزة على الأرض المكروبة، تبشرها بالنور الطالع والفجر القريب، وفي الحاشية البعيدة، كان يرقص خط دائر من النور. لقد طلع الهلال، وولد العام، فعاشت معه آمال، وانتعشت أماني وضحكت نفوس.
(القاهرة)
شكري فيصل
الفنون وضمائر الشعوب
للأستاذ سيد قطب
حين تفسد الفنون في أمة من الأمم تفسد فطرتها، والعكس صحيح، فما تفسد سليقة الأمة حتى تتبعها الفنون؛ ومن هنا كان اهتمامنا بمكافحة (الغناء المريض) لأننا نكره لهذا الشعب أن تفسد فطرته، كما نكره له أن يكون عنوان هذه الفطرة هو هذا الغناء.
والموسيقى والغناء أمسُّ بضمائر الشعوب من سائر الفنون، فقد يكون الأدب كما يكون النحت والتصوير لغة جماعة من خواص المثقفين المدبرين على الإحساس والفهم، أما الموسيقى والغناء فهما لغة البداهة والتعبير المباشر عن أعماق السليقة
نعم إن الطبائع تتفاضل في فهم الموسيقى والغناء والحس بهما، ولكن يبقى مع ذلك فارق أصيل بين السلامة - وهي أولى درجات الفنون، والمرض - وهو لا يلتبس على طبيعة مستقيمة أو فطرة سليمة.
ونحن لا نتطلب من الملحنين والمطربين اليوم سمواً في التعبير عن الفطرة الإنسانية ولا امتيازاً في الإحساس على الجماهير، ولكننا نقنع فقط بالسلامة في الشعور الإنساني، بل نتواضع فنقنع بالسلامة الحيوانية، غير أننا لا نجد حتى هذا المطلب المتواضع فيما يذيعونه من أغنيات ولحون.
ويبدو أننا مبالغون فيما نطلب من هؤلاء الناس، وأنه تكليف مجهد لطبائعهم ولثقافتهم ذلك التكليف الذي نسومهم إياه. وإذا كانت هناك بارقة من أمل فلن تكون من محاولة توجيههم أو تقويم فطرتهم أو رفع مستوى إحساسهم؛ فذلك ما لم يتهيئوا له، ولكن المحاولة يجب أن تتوجه إلى وخز طبيعة هذه الأمة، فإن كان فيها خير عافت هذا الترجيع وانصرفت عن هذا الترنيم، وإلا فقد (وافق شن طبقة) وعفاء على الجميع!
ووجه المبالغة فيما نكلفه هؤلاء الناس أن الموسيقى والغناء مهما يكونا لغة الفطرة وتعبير البداهة، فهما في حاجة إلى طبائع سليمة، وتلك موهبة لا يؤتاها إلا القليلون وإن كانت تبدو حقاً مباحاً للجميع، وفي حاجة إلى ثقافة عقلية ونفسية كذلك وإلى فهم أو إدراك لدُني لمهمة الفنون، وتلك شقة بعيدة علة نشأة هؤلاء القوم، وآفاق لم يفتحوا أعينهم عليها ولم يتطلعوا مرة واحد إليها.
الفن - شعراً كان أم تصويراً أم غناء أم موسيقى. . . - هو (صورة الكون في نفس إنسان) وهو (تبلور الحياة في حس فنان) فهل ترى حين تقول هذا الكائن من كان من المشتغلين بالموسيقى والغناء في مصر يحسبك تتحدث بلغة مفهومة أم يفغر فاه عجباً من هذه اللغة الغريبة التي لم يسمع بها في لغة أبناء هذا الزمان ولم يحس لها تفسيراً في نفسه وهو يعالج ما يعالج من ألحان؟!
الموسيقى والتلحين، هما هذا الذي يدرسونه في معهد الموسيقى الشرقي من السلم الموسيقي والمسافات في النوتة والتوفيقات التوقيعية بين وزن القطعة التي بين يدي الملحن وبين النغمات التي تناسبها - أيا كان معنى هذه القطعة وجوها الفني فذلك آخر ما يفكر فيه الملحنون. فإن خرج (موسيقار مجدد) عن هذه الحدود، فإلى بعض الألحان الإفرنجية وبعض ألحان سيد درويش: سرقة واقتباساً وتمزيقاً وتشويهاً، ويا ليتها سرقة صريحة واضحة ولكنها (مرمطة) لهذه الألحان المسروقة حتى تلين وتتكسر وتتخلع وتناسب هذه الدغدغة الماجنة التي يدعونها تجديداً في التلحين.
هذه وتلك آفاق المشتغلين بالموسيقى والغناء في مصر، فما تكون إذن (صور الكون في نفس إنسان وتبلور الحياة في حس فنان)؟ ما يكون هذا الكلام الذي يشبه المعميات والألغاز عند هذه النفوس الضعيفة الصغيرة، وهذه العقول المسكينة المحدودة؟!
بلغتني قصة طريفة عن مولد قطعة غنائية يتميع بها شبان البلد وشوابه في هذه الأيام، ولست متأكداً من صحة جميع تفصيلات هذه القصة ولكنها ليست بعيدة التصديق ولا متعارضة مع المعروف عن هؤلاء (الفنانين)!
قال مغني القطعة لمؤلفها: ما رأيك في (ما يهونش) ألا ترى أنها تكون (مؤثرة)؟ قال المؤلف: تكون!. قال المغني: وحياة أبيك تضع لنا عليها (طقطوقة). . . فكان!
هذه قصة لا أجزم بصحة تفصيلاتها هي بالذات ولكنها تتفق مع ما أجزم به من طريقة تأليف المقطوعات الغنائية وبواعثه وعن غناء هذه القطع وأسبابه في نفوس المؤلفين والمطربين، فليست هذه البواعث أحاسيس نفسية تبعث بالقطعة في نفس مؤلفها ألفاظاً وأوزاناً وفي نفس مغنيها نغمات وألحاناً.
فكيف يتأتى إذن لهذه الأغاني أن تكون شعوراً إنسانياً كريماً، أو شعوراً حيوانياً وتلك
بواعث القول والغناء عند هؤلاء وهؤلاء!
ولكنني أغمط التأليف الغنائي حقه حين أسوي بين مستواه ومستوى التلحين والغناء في هذه الأيام، فنحن إذا تجاوزنا عن المؤلفين المحترمين الذين يطنون كالذباب حول المطربين والمطربات نجد آخرين من كرام الشعراء ومشهوري الأدباء قدموا بعض مقطوعاتهم للغناء، ولكنها خرجت من يدي الملحن جثثاً هامدة بعد إخضاعها للنغمات المحفوظة والترنيم الممجوج.
ولو سارت خطوات الموسيقى والتلحين في مصر على هدى خطوات الشعر، لكان لنا فن موسيقي محترم، ولكُنا شيئاً في رقعة العالم العريضة التي تموج بالفنون الحية، بينما نحن منها في الرميم.
ولا زلت أذكر أن مطربة كبيرة مشهورة ذات صوت فريد في جوهره مستعد لأداء كل النغمات، كانت تغني في مناسبة بهيجة قطعة تفيض ألحانها غبطة، ولكني كنت أتصورها هناك وراء (الميكرفون) وهي تعتصر دموعها اعتصاراً وتنوح نوح المفجّع المكلوم!
وإذا ذكرنا الأصوات فلنعترف مرة أخرى أن لدينا منها ثروة لم نحسن استغلالها بالتلحين، كما لم نحسن استغلال ثروة التأليف، فالتلحين هو علة العلل، لأنه جوهر الإحساس الفني وموجّه الأصوات والأنغام، وهو في أيدي هؤلاء الفارغين المشوهي الفطرة، بل في يد هذا الحطام الآدمي الذي لا يقوى على إحساس الآدميين.
وكل لفظ مؤدب عف لا يكفي لتصوير جريمة التلحين على بعض المطربات والمطربين، وعلى سبيل المثال أذكر المطربة (أسمهان) ففي جوهر صوت هذه المطربة تعبير عن لذة الغريزة وفورة الجنس، وهو في نظر المعدمين من التعبير السليم مثلنا مكسب كالكعكة في يد اليتيم! لأن السلامة الحيوانية مطلب من المطالب البعيدة عنا في عالم الغناء، ولكن التلحين الغشوم لم ينتبه إلى هذه الخاصة في ذلك الصوت، فما هي إلا أغنية أو أغنيتان فيهما حتى تتوارى وراء التلحين المريض الشائه والتكسرات المغشوشة التي ينفر منها حتى الحيوان السليم!
وبعد فما كان لنا أن نأمل شيئاً في محترفي الغناء والتلحين، ولكن أملنا كله كما أسلفت في طبيعة هذه الأمة، وفي ضمائر القلة القليلة التي (لم تشرب من النهر) أن يثيرها الاشمئزاز
من كل ما ترجعه الأوتار والحناجر في هذه الأيام، وأن تدفعها حوافز البشرية الحساسة، فتقوم بالدعاية الواجبة في كل مجتمع وكل صحيفة ضد هذا الزيف الكريه.
ولقد حمدت للأستاذ (عبد الحميد يونس) المذيع بمحطة الإذاعة برنامجه المختار (نصف ساعة من الموسيقى الغربية) وهممت أن أرسل إليه - على غير معرفة - رسالة شكر وإعجاب بحسن اختياره للأسطوانات التي أذاعها لولا أن صرفتني عن ذلك بعض المشاغل العارضة.
وإني لأذكر ذلك اليوم علاجاً مضمون العاقبة للسامعين وجرعة منبهة إلى ما في الكون من تعبير رفيع عن المشاعر الإنسانية في الموسيقى العالية يجب تكراره وتكراره كل يوم ضمن برامج محطة الإذاعة لا بين الحين والحين.
وإني لأخشى أن يكون وقف هذا البرنامج ثمرة لمسعى بعض المشهورين بالغناء المريض، فقد كان في بعضه كشف لمواضع سرقاته وفي بعضه عرض لمثل حية رفيعة تعاف النفوس بجوارها فهم الرخيص.
سيد قطب
دراسة شاعر
جوفري شوسر
للأستاذ أحمد الطاهر
إذا أنست لهذا الشاعر وتذوقت شعره، فإنك واجد فيه صورة ناطقة لبلاد الإنجليز في العصور الوسطى، أو في القرن الرابع عشر الميلادي. وأجمل ما في هذه الصورة أن (شوسر) يمثل بأسلوبه البارع - الذي وصفنا في مقال سابق - نظرية اجتماعية أخلاقية، تتلخص في أن الغرائز الإنسانية باقية كما هي على مدى الدهر، لا تتغير ولا تتحول، وهي سواء في الناس جميعاً، وأما ما يكتنفها أو يخفيها من التخلق أو اكتساب العادات أو ما إلى ذلك، فما هو إلا عرض لا يتصل بجوهرها. خذ مثلاً رجال الدين - كما أراد شوسر - أولئك الذين هاجمهم في عنف وشدة، تر أنه لا يحفل بما يبالغ فيه بعضهم من إبداء النسك والتبتل والتظاهر بالتأبد والتنطس، وإنما يعمد إلى المسوح السوداء فيرفع إسدالها، وإلى المسابح فيقطع أوصالها، ثم يبرز لك الرجل من وراء ذلك إنساناً ككل الناس: يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويضطرب في كل شأن من شئون الحياة، كما يضطرب سائر الناس. فينزع إلى الهدى والرشد أحياناً، وإلى الغواية والعشوة أحياناً. والشاعر حين يتناولهم بقلمه، لا يصدر عن ضغينة في نفسه، ولا عن ميل إلى التندر والتظرف، ولا عن استخفاف بالدين، كلا، بل لقد كان هو من أكثر الناس تديناً وإغراقاً في الصلاح والتقوى. إنما هي أسباب أخرى لو سمعها اليوم (شوسر) لم يرض عنها، أو لم يعترف بها: فعصره كان عصراً تغلي فيه مراجل الثورة النفسية، يؤجج أوارها عناصر أربعة متنافرة متدابرة: الكنيسة والشعب والبرلمان والقصر.
ففي القصر إدوارد الثالث ثم ريتشارد الثاني يرهقان الشعب بالجبايات والإتاوات، ويسرفان في التمكين للأشراف وأصحاب الضياع من إذلال الدهماء عبيدهم ومواليهم يبتزون جهودهم ويستغلون نشاطهم، ولا أقول أموالهم فما كان للعبيد والموالي أموال ولا أملاك. والبرلمان يأنس في الملك ضعفاً وخوراً في حين من الأحيان، وجبروتاً غاشماً في حين آخر، وطراءة في الشباب في عهد من العهود فيحفز للنضال حقه المهضوم وسلطانه المكلوم وتغريه كثرته فيثور ثم يناوئ ثم يعتدي ثم يمالئ. كل ذلك على حساب الشعب؛
والشعب مرهق مغلول ضعيف مفلول يتلقى العذاب من ملك يرميه بالتمرد ويكديه بالجباية، ومن أمير أو شريف يتهمه بالكسل ويرهقه بالعمل. والكنيسة يطيب لها أن تثبت وجودها بأن تتهم الناس بالكفر والضلال وتعزو سوء الحال إلى إسراف الملك في سلطانه والحد من سلطانها فتصور الشعب فريسة أطماع الملك الضليل، وتصور الملك مغلوباً على أمره من شعب مغرق في الأباطيل، وتستعدي الشعب على الملك والبرلمان يوماً، وتستعدي البرلمان أو الملك على غيره يوماً آخر. وهكذا ألقيت بينهم العداوة والبغضاء وألْبِسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض. تلك أمة قد خلت.
وهناك نتساءل أين موضع شاعرنا من هذا المعترك المصطخبة أمواجه المتلاطمة أفواجه؟ كان من رجال القصر وسفرائهم ومن خدم الملك، فليس عجيباً أن نراه من رجال الدين في الموضع الذي رأيناه؛ وليس غريباً أن نراه يصورهم بالصورة التي تفزعهم وإن تلطف أو داجى، ولا يتعاظمنا أن ينظم قصة فيسلكهم في صدرها ساخراً مقذعاً متندراً: قال:
في عصر الملك الصالح أرثور كنت ترى بلادنا الإنجليزية مشرقة بالبشر رافلة في حلل النعيم تمرح في أرضها وغابها أميرات الجن تحوطهن صاحبات لهن من الخود الرعابيب، فإذا أمسى المساء خطرن على مروج الزهر، وإذا أصبح الصباح رأيت في الأرض ما تناثر من عقود الزهر التي نظمنها في حلقات رقصهن. وأما الآن فما بقي في الأرض إلا شحاذو الكهان والرهبان نفروا كل مليحة من أميرات الجن، وأفزعوا كل غضة من بنات الغاب، وملئوا المكان بعد أن كان زاخراً بالأميرات. كان أحد فرسان ذلك الملك الصالح ممتطياً صهوة جواده وعلى وجهه سحابة من الحزن وغشاوة من الشجن فأفضى به التسيار إلى جانب من الغابة قد اتخذته أميرات الجن مرقصاً فركض إليهن جواده يلتمس عندهن شفاء من آلام نفسه وأوصاب صدره، فما أن رأينه حتى شردن وتوارين ولم تبق إلا عجوز شمطاء شوهاء قامت إليه وأخذت عليه السبيل ثم قالت:(أأكول في عونك أيها الفارس؟) قال: (نعم أيتها الجدة، وإن لم تفعلي لأكون من الهالكين) لقد سلفت مني بادرة لا تليق بالسادة الأشراف. أسأت إلى فتاة فحكمت علي الملكة بأن أقصي عن بلاطها سنة ثم أعود فأنبئها وفتياتها الغاضبات بجواب عن سؤال حيرتني به ألا وهو (ما أحب شيء للمرأة؟) فإن أعجبهن جوابي كنت سعيداً موفقاً، وإن أخطأني التوفيق فهنالك هلاكي. ولقد تصرم يا
جدتي العام بعد أن التمست الجواب عند الأمهات والزوجات والعاتقات فما اتفقن على رأي ولا عرفن شيئاً واحداً هو أحب ما يحب النساء: قيل لي أن النساء يعجبهن الملق والمداجاة؛ وقيل لي أحب شيء إليهن الحب والهوى؛ وقيل بل الزواج وقيل المرح والطرب؛ وقيل التكريم والثناء، وقيل البذخ والثراء؛ وقيل غير هذا وأنا لا أزال حائراً مضطرباً. فهل عندك الجواب وعندي لك كل حاجة تريدين قضاءها وكل مطلب مجاب؟) قالت العجوز:(أتقسم أن لي كل حاجة عندك مقضية؟) قال: نعم. وأقسم بشرفه ليفيَنّ لها بما وعد: قالت: (هلم معي إلى القصر) وأفضت إليه في الطريق بالجواب. فلما بلغا القصر عقدت الملكة مجلساً ومثل أمامها الفارس وقالت له: (حياتك رهن بالجواب عن هذا السؤال: أي شيء أحب إلى المرأة سواء أكانت عانساً أم بكراً أم زوجة) قال الفارس: (ليس أشهى إلى المرأة يا صاحبة الجلالة من السيطرة والسلطان تشتهي السيطرة على زوجها وعلى بيتها وعلى ثروتها وعلى ضيعتها وعلى كل شيء وكلهن في ذلك سواء. أنتن أيتها النساء تردن الحكم، تردن التحكم في جميع الناس، تردن أن يكون لكن الأمر وعلى الرجال الطاعة.) وما فرغ من إلقاء جوابه حتى أمَّن الحاضرات عليه وغشيت وجه الملكة حمرة لا تخفيها. وهنا برزت العجوز وصاحت: (أنا يا مليكة صاحبة هذا الجواب لقنته إياه بعد أن أقسم ليأتمرن بأمري ويجيبن مطلبي؛ وهاأنذا بحضرتك أتَنَجَّزه وعده، وما حاجتي إلا أن يتزوجني) شده الفارس لهذا المطلب العسير الفظيع، والتمس إليها الوسيلة للخلاص من وعده، وأخذ يغري هذه العجوز بالثروة والنشب فما أغنى عنه ماله وما كسب، وكرهت الملكة أن تكون هذه الشمطاء زوجة لفارس من فرسان القصر؛ ولكنها آثرت ذلك على أن يدنس الفارس شرفه فينقض عهده وينكث وعده وأمرته أن يتزوجها. وبنى بها الفارس مكرهاً في ليلة لم ير أسود منها. ولم يخف عليها حنقه وغيظه إذ قال:(ليت مصابي بك كان عند قبح وجهك وكبر سنك، ولكنه تجاوز هذا إلى خسة منبتك وضعة شأنك) قالت العجوز: (أهذا كل ما يؤلمك - ألا تعلم أن شرف المنبت وطيب الأعراق ليست إلا ثروة عتيقة موروثة، وماذا يغني عنك حسبك ونسبك؟ إن كان لك مجد تليد فالفضل فيه لمن كسبه من آبائك وأجدادك؛ وإن كان لك مال قد خلفوه لك واسم كريم قد ألصقوه بك واعتمدت على هذين في طلب المجد والشرف، فما أخيب مسعاك وما أبعدك عن بلوغ القصد. المجد والشرف لا يشتريان
بالمال. هأنذى امرأة وضيعة المنبت لا أملك طارفاً ولا تليداً، ولكنني لست امرأة سوء هل كان المسيح غنياً وهو مثلنا الأعلى في المجد والشرف؛ كلا بل كان جهده أن يفعل أفعال الكرام. أما قبح وجهي وكبر سني فإني أعرض عليك في ذلك اختياراً: أتريدني عجوزاً حصيفة الرأي أم فتاة ضالة في سبيل الحياة؟) قال الفارس: (الرأي لك أيتها العجوز العاقلة) قالت: (ألا ترى أنني بسطت عليك سلطاني وأخضعتك لأمري فأذنت لي أن أفعل ما أريد) قال: (نعم) قالت: (أنظر إلي واعجب لما تحولت إليه قسماتي) فنظر الفارس وإذا بالعجوز قد تحولت إلى فتاة نضرة غضة لم تقع عيناه على أجمل منها.
(الإسكندرية)
الصباغ
أحمد الطاهر
معركة السياسة بين هتلر وبيتان
للأستاذ يوسف شبلي
كان المحور الدكتاتوري في المدة التي سبقت إعلان الحرب في سبتمبر في سنة 1939، وفي المدة التي لحقت إعلانها لا يقوم على أساس مشترك في العمل بين طرفيه، أو تساو عادل في إبداء الرأي والقطع فيه، بل استقل بتوجيه المحور في أعماله وفي أفكاره طرف واحد دون الآخر؛ وتطور الأمر فيما يختص بأحدهما إلى احتلال المقدمة؛ وفيما يختص بثانيهما إلى الوقوف في المؤخرة؛ حتى أهمل أمره وهان شأنه في الكبيرة والصغيرة على السواء.
لقد حار الكل في تعليل الموقف في مظهره الجديد، وطارت الأفكار في تلمس المعاذير والأسباب كل مطار ومدار؛ فكثرت الاحتمالات، وتعددت الإشاعات، واجتهد القريب والغريب في الاستنتاج والاستخراج؛ ونشط الفهيم والعقيم في الإفصاح والإيضاح. إلا أن شيئاً واحداً انقطع دونه التفكير وجف عنده مداد التحبير، وهو أن يكون الضعف سبب الجمود، ونفاد الحيلة العلة الأصيلة في هذا الهبوط والقعود.
أليس من دلائل القوة أن يعمد الزعيم الإيطالي في كل مناسبة وغير مناسبة إلى الخطب الحماسية يلهب بها أعصاب سامعيه، حتى إذا انتهى من إلقاء الخطاب تأبط شباب الفاشست - وكلهم دون سن النضوج - منشورات مليئة بالقذف والبذاء في الإنجليز والفرنسيين، وهرولوا مسرعين إلى حيث يقيم السفير الإنجليزي فيقابلونه بالصفير والتهليل، وبإلصاق تلك المنشورات على سيارته وعلى دار سفارته!
بل أليس من دلائل القوة أن يعمد السنيور موسوليني في تقديم مطالبه ونشر مآربه إلى رأس المدفع فيتخذ منه مسنداً، وإلى جناح طائرة فيجعل منه مقعداً، ليكون من مجمل هذه المظاهر الجوفاء والحركات النكراء صورة لقوة زعيم ورمزاً لغضب الحليم!
ما كان أحد يتوسم في إيطاليا غير القوة والجبروت، حتى إذا أشرفت معركة فرنسا في الميدان الغربي على الانتهاء، وأعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء، طمعاً في كسب غير مشروع، ورغبة في غنم مأمون ومضمون؛ وحتى إذا فوتت إنجلترا على الدكتاتورية قصدها بإطالة أجل الحرب، وتعين على إيطاليا أن تقوم بدورها في القتال، تكشفت الحقيقة
السافرة عن ضعف تام في جميع ميادين الحياة والنشاط
وبينما أحد طرفي المحور يعاني من مرائر الهزائم المتوالية في ميادين القتال: ففي الميدان الشرقي انقلبت الجيوش اليونانية في الدفاع في بادئ الأمر إلى الهجوم؛ وانقلبت الحرب من البلاد اليونانية إلى الميدان الألباني في بضعة أيام. وفي شمال أفريقيا وشرقها، أحرزت الجيوش الإنجليزية انتصارات حاسمة في معارك فاصلة، فوصلت في الشمال إلى ما بعد بني غازي وأسرت ثلاثين ومائة ألف أسير، وغنمت كثيراً من عتاد القتال؛ كما توغلت في الشرق أميالاً عديدة في المستعمرات الإيطالية. نقول بينما أحد طرفي المحور يعاني كل ذلك، إذا بالطرف الثاني يفشل فشلاً تاماً فيما كان يأمله من غزو الجزر البريطانية جواً وبحراً، وما كان يرومه من إنهاء الحرب في هذا الميدان؛ وكلما امتد الوقت بالحرب زاد استعداد الجزر البريطانية لملاقاة العدو إذا غامر بغزوها، حتى صارت فكرة الغزو اليوم مما لا يمكن تحقيقه أو الإقدام عليه.
وهنا وجب على إيطاليا أن تطلب المساعدة الألمانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حطام ومخلفات. . . كما وجب على ألمانيا أن تبحث في ميدان جديد تقهر فيه إنجلترا، يكون أقل مناعة، وأضعف حصانة.
ولما كان أمام الألمان خطة واحدة يجب عليهم أن يسلكوها، وهي أما الاتجاه شرقاً، والانتقال بالحرب إلى البلقان، ثم إلى الشرق الأدنى وأما الاتجاه جنوباً، لتجربة خطة الغزو بحراً في ميدان ضيق إلى شمال أفريقيا؛ فقد وجدت في هزيمة حليفتها واضطرارها إلى طلب المساعدة الفرصة المرتجاة؛ فتسللت الجنود الألمانية إلى شمال إيطاليا، واحتلت أسرابها الجوية جميع المطارات لتعمل هذه القوات في ميدان البحر الأبيض المتوسط، وتمنع النجدات البريطانية في حالة الاتجاه شرقاً، أو الاتجاه جنوباً.
غير أن المطارات الإيطالية، صار يقابلها في ليبيا بعد الانتصارات الإنجليزية الأخيرة عدد مضاعف من هذه المطارات، مما يجعل التفوق للقوات الإنجليزية في هذا الميدان
إذن يجب البحث عن قواعد بحرية وجوية تطل على البحر الأبيض المتوسط لضمان التفوق والاطمئنان على نجاح التجربة الجديدة.
لكن كيف السبيل إلى ذلك، ولم يبق إلا أسبانيا وفرنسا. أما أسبانيا فقد قال جنرالها للهر
هتلر: إن للبحر الأبيض بابين، أحدهما غربي، والآخر شرقي؛ فإذا تمكنت من إقفال الباب الشرقي، فكرت في مساعدتك في إقفال الباب الغربي في جبل طارق، وهذا رد لا يفوت معناه ومغزاه على لبيب.
اتجه الهر هتلر إلى فرنسا، فهي أولى بأن تتحمل نتائج الهزيمة، وغرم الانكسار. فكاشف المسئولين من رجال حكومة فيشي بأغراضه ونياته، من الاستيلاء على المواني الفرنسية، في فرنسا غير المحتلة وفي المستعمرات؛ ومن انضمام وحدات الأسطول للعمل مع الأسطولين الألماني والإيطالي، ضارباً بشروط الهدنة التي حفظت لفرنسا أسطولها ومستعمراتها ناحية الأفق؛ فأبى عليه المريشال بيتان وصحبه أن يجيبوه إلى هذه المطالب والأغراض؛ وابتدأت المعركة السياسية بين هتلر وبيتان، تلك المعركة التي كانت منذ شهر يونيو من السنة الماضية، تتفاوت بين مظاهر اللين والشدة، وبين الاعتدال والاحترام، تبعاً لتطورات الحال، وظهور المفاجآت بين آن وآن.
ففي الأيام التي تلت انكسار فرنسا في الميدان الغربي، كانت هذه المعركة بين ألمانيا وفرنسا، تعلوها مسحة من اللين والتهاون، حيث كان الزعيم الألماني يمني نفسه بقرب غزو إنجلترا، والدخول إلى قصر بكنجهام، إذ يشرب فيه نخب الانتصار!
وأما اليوم، وقد أغلقت جميع الأبواب، وسدت كل المنافذ والفتحات؛ ولم تعد يد تمتد إلى الزعيم الألماني بالمصافاة، فقد تطورت المعركة بينه وبين بيتان إلى احتدام عنيف، وصفته التلغرافات بأنه نضال البقاء أو الفناء.
والحقيقة أن الهر هتلر يحسب حساباً خاصاً للفرنسيين، لما يعرفه عنهم من حدة المزاج، ولما يعلمه تمام العلم من استعداد المستعمرات لاستئناف القتال ضده عند الإشارة الأولى. لذلك جاملهم كثيراً في بداية الأمر، وحاول جاهداً أن يستدرجهم إلى داخل الدائرة الألمانية بالحسنى ولين الجانب. ولم يطرق بابهم بشدة إلا عندما أفزعته الحوادث، ووصل إليه فعل التيارات الآخذة في الاقتراب منه. حتى لقد فضل أن يلج الباب الإيطالي، بحيلة هتلرية، تحت ستار المساعدة ومباشرة عملية الإنقاذ، قبل أن يطرق الباب الفرنسي، ويلح في طلب ولوجه.
وإذا كانت الأنباء قد أجمعت على القول بثبات المرشال بتان أمام تهديد الألمان، ورفضه
إجابة مطالبهم، معرضاً فرنسا لما يحتمل أن تتعرض له، من ظروف قاسية، لن تكون بحال أقسى مما هي عليه الآن؛ فليس الغريب أن تأتينا الأنباء بمثل ذلك، بل الغريب أن يجيب المريشال بتان هذه الطلبات، ويستسلم للتهديدات، في وقت وضح فيه الطريق أمام الحلفاء، واتسعت فرجات النور وسط الظلام الذي كان مخيماً على أوربا عند عقد الهدنة بين الفرنسيين والألمان.
إن العوامل التي ترغب الفرنسيين في استئناف القتال، وتحفزهم إلى تجديد النضال، كثيرة وعديدة. تجد هذه العوامل في ثبات البريطانيين، وظهور قدرتهم التامة على الوصول بالحرب إلى نتيجة مرضية. وفي موقف أمريكا التي وعدت رسمياً بمساعدة الحلفاء مساعدة لا تسمح لدولتي المحور بالانتصار بأي حال من الأحوال؛ كما أن القانون الذي يطلق يد الرئيس روزفلت في العمل، على وشك أن يفوز بالإقرار في مجلس الكونجرس. وفي شجاعة اليونانيين، واستبسالهم في الهجوم في الميدان الألباني وفي الانتصارات الباهرة التي أحرَزتها الجيوش الإنجليزية في ميادين الحرب الإفريقية الثلاثة، مما يبشر بضياع الإمبراطورية الإيطالية قريباً. وفي موقف الدول التي لم تدخل الحرب بعد، ولكنها أعلنت في صراحة تامة عن عزمها على الدفاع عن كيانها ضد كل من توسوسه نفسه بمباشرة الاعتداء عليها. وأخيراً في روح الحماس البالغة عند أهل المستعمرات الذين يتحرقون شوقاً إلى ملاقاة العدو، والانتقام للشرف الفرنسي من هزيمة يونيو من السنة الماضية.
وإذا تركنا كل ذلك، نجد أن لفرنسا قوة مادية في أسطولها، وفي مستعمراتها كفيلة بترجيح كفة الحلفاء إذا اختارت أن تستأنف القتال إلى جانبهم. وإذا عرفنا أن الخمسين مدمرة التي أرسلتها أمريكا إلى إنجلترا، كانت سبباً حاسماً في بعض الميادين، خصوصاً في ميدان البحر الأبيض المتوسط؛ فكم بالحرى يكون الفصل لمائة وخمسين مدمرة تملكها فرنسا. لا شك أن عدداً كهذا، يضاف إلى قوة المدمرات البريطانية، وما عساه أن يرد من أمريكا، وما تخرجه المصانع قريباً يكون له فصل الخطاب فيما هدد به الهر هتلر في خطبته الأخيرة من عزمه على مباشرة حرب الغواصات في الربيع القادم.
فإذا ألانت فرنسا قناتها، مع توفر أسباب الثبات، وأجابت الألمان إلى ما يطلبون؛ وقنعت بنصيبها الذي بذلته في هذه الحرب، وبنصيبها الذي قدر لها أن تنتهي إليه، من جرها في
ذيل العربة الألمانية؛ فكيف يكون موقفها من مؤتمر الصلح القادم، عند ما تنتهي الحرب بنصرة الحلفاء!
أترضى فرنسا لنفسها، ويرضى كبرياء شعبها، وكبرياء قوادها، وفيهم أبطال فردون، وأبطال المعارك الهائلة في الحرب الماضية، أن تلعب اليونان، وبولندا، وهولندا، والنرويج، وتركيا، دوراً رئيسياً في هذا المؤتمر، ولا تستطيع فرنسا أن تمثل دوراً ثانوياً فيه! وإذا أجلستها إنجلترا إلى جانبها في مكان الصدارة من المؤتمر، فكيف يكون موقفهما فيما بينها وبين نفسها وهي تعلم الدور الذي قنعت بتحمله والقيام به.
لا شك أن كل ذلك، في جملته وفي تفصيله، وقد قدره المرشال وأعوانه حق قدره وحسبوا حسابه في المفاوضات الدائرة الآن بين فرنسا وألمانيا، في صدد المطالب المزجاة. ومن يدري! فقد يرى المسئولون عن مصير فرنسا من رجال حكومة فيشي، أن متاعب الحرب من جديد إلى جانب حليفتهم أقل من المتاعب التي تنشأ عن مزيد من التسليم، فيفضلوا الحل الأول على الثاني ويصلوا بدورهم في الحرب إلى النهاية المفروضة على أمثالهم.
وليس الغريب أن يقر قرارهم على شيء من هذا، بل الغريب أن يقف الفرنسيون جامدين، وأن يدوم تصميمهم بالتخلف في الطريق. وستأتينا (جهيزة) في الأيام القليلة القادمة بفضل الخطاب في هذا الشأن الخطير، عند ما يقول المرشال بتان كلمته النهائية في شأن المطالب الألمانية، وهي كلمة الشرف والإباء، والأنفة والكبرياء، على ما نظن، ويظن معنا الكثيرين.
(دار الأهرام)
يوسف شبل
من وراء المنظار
المتعاظم الصغير
يملك حب العظمة عليه نفسه، ولقد ركبه هذا المتعاظم منذ مدرجه وكبر معه، فهو اليوم في منتصف العقد الرابع، طفل في الخامسة والثلاثين. قتر على نفسه حتى اقتنى سيارة قديمة راح يتشبه بها بذوي اليسار من أصحاب السيارات الفخمة، وإن كان مرتبه كله لا يساوي ما يدفع هؤلاء من (بقشيش)؛ وقتر على نفسه مرة أخرى، فقضى الصيف في أوربا، وإن كان من ذوي رحمه الأدنين من لا يكاد يجد قوته.
ومن أحب الأشياء إليه أن يذهب في سيارته إلى القرية، فيطلق نفيرها هناك عالياً في داع وفي غير داع، وبنظر الفلاحون البسطاء إلى هذا (المحدث) مبتسمين، فيزهى إذ يخيل إليه غروره أنها ابتسامات الإعجاب. ولقد رأيته مرة - وكأنه أحد الدكتاتورين يدخل المدينة على رأس قوته المصفحة لكثرة ما تجبر يومها وتعاظم، ولكن سيارته لسوء حظه أصابها في تلك اللحظة عطل فوقفت، ونظر مبهوتاً على صوت ضحكات قريبة، وكنت غير بعيد من الفلاحين الضاحكين، فحبست ضحكاتي مخافة أن يفهم الدكتاتور أني غيران!
ومن آلم الأشياء عنده أن تمر به فلا تحييه، ففي ذلك إنكار منك لعظمته، ولقد يبلغ به الألم من ذلك حد الحمى، فإذا أقبلت مع ذلك تحييه: تباطأ وهو يقبل عليك، وتكلف سلام العظماء ونبرات العظماء وحركة رؤوس العظماء وعبوس العظماء أو تبسمهم حسب مقتضيات الظروف.
وشاع في القرية أو أشاع هو فيها أنه ما من كبير من رجال الحكومة إلا وله عنده مكانة مهما اختلفت على كراسي الحكم ألوان الأحزاب، وتهاوت عليه عرائض البسطاء يطلبون الاستخدام وما تزال تتهاوى عليه وهو يدسها كل مرة في جيبه في اتزان ووقار بالغين ولكنهما مع ذلك بثيران الضحك العميق!
وهو ينظر إلى هؤلاء من عل ويفرح أشد الفرح إذ يجد من يتملقه، ويغتر إذ يكون بعض الناس منه كما يكون هو ممن يطرق أبوابهم من ذوي المناصب مستجدياً متملقاً، وهو كثيراً ما يتملق ويستجدي، وقصارى أمره أن يظفر بتعيين فراش أو نقل ساع من جهة أخرى إلى أخرى يحبها ويحسب ذلك هو الجاه أعظم الجاه، وهكذا يتمسكن ويتضاءل في المدينة
ليزهي ويتعاظم في القرية ويريق ماء وجهه عند أولى المناصب من يعرف منهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف ليصعر خده لطالبي الرزق وذلك عنده من أعظم لذات حياته.
وإذا جلس أحب أن يلتف حوله طالبو جاهه وفضله وتراه؛ يعجب أشد العجب إن صغرت الحلقة من حوله، فهو يعتبر نفسه كبيراً عظيماً ومن حقه أن يلتف حوله الناس كما يلتفون حول أقرانه من العظماء، وما كان في حلقته إلا من يضمر له السخرية حين يريه الاحترام.
وتراه يلوك بعض كلمات إفرنجية تعد على أصابع اليد فيحرك بها لسانه في لهجة محطمة أكثر تحطماً من سيارته، لهجة أشبه بلهجة الأوربي الذي ينطق كلمات عربية لم تطرق سمعه إلا منذ شهر، وأرى شأنه في هذا كشأنه في استبدال ملابسه العربية بحلة إفرنجية.
أما مكانته عند من يزعم من الكبراء فقصاراه في هذا السبيل ألا تفلته فرصة إذا رأى أحد هؤلاء أو بعضهم في أي مكان فيتقدم إليهم محيياً متهللاً يهز الأيدي التي تمتد في فتور إليه هزاً حماسياً قوياً وهو يقول: (أهلاً فلان بك. . . كيف حال سعادة البك). ولا ينصرف إلا بعد أن يكرر تحياته وإن هموا هم بالانصراف دون أن ينظروا إليه لأنهم لا يعرفونه! وهي بعد مقدرة على أي حال أميل إلى أن أسميها (فن الحياة) ففي الناس من لا يستطيع أن يسلم على من يعرف حق المعرفة ممن هم أكبر منه!
رأيته ذات يوم يطلع المحيطين به على البطاقات الكثيرة التي جاءته في العيد، وقد مهد لذلك بذكر ما شاء له زعمه ممن يعرف من (الباشوات والبكوات). وكانت البطاقات كلها مرسلة إليه حقاً وفيها من هذه الألقاب حقاً؛ ولكن لم أر على واحدة منها غير كلمة (للشكر) فحسب!
وآخر مرة رأيته فيها كان محنقاً فقد حياه أحد الريفيين بقوله يا شيخ فلان، وهذا هو اللقب الذي يجري على ألسنة البسطاء من أهل الريف إذا أرادوا التعظيم، وعجبت لم يغضب وهو شيخ في نشأته العلمية قبل كل شيء وكان أولى به أن يجعل هذا اللقب مدعاة فخره، ولكن هيهات أن يرضى حتى بالأفندي وهو عند نفسه سعادة البك!
الخفيف
الفنان
(مهداة إلى الصديق النابغة صلاح الدين طاهر)
للأستاذ عبد المعطي حجازي
كلما أسفر في الليل القمرْ
…
مثل معنى في خيال الشاعرِ
أو مشى الموج صفوفاً واندثر
…
كأمان هجستْ في خاطرِ
أو سرى برق أو انهلَّ مطر
…
كسنا الشرِّ ودمع الحائرِ
أو تهادي في الأصيل الجدْوَلُ
…
خافتَ الأنغام حلو النَّبراتْ
قبس الفنان عنها
…
بعض ألحان الخلود
وجلى للناس منها
…
بعض أسرار الوجود
وإذا احمرَّتْ من العُتب خدود
…
أوشكتْ من خجل تستعرُ
وإذا ماست من الدلَّ قدود
…
عبث الكاس بها والوتر
وإذا ثارت على الصدر نهود
…
يأمر الثوبُ فلا تأتمر
أو تناجت في الشفاه القُبل
…
فتلاقت فاستحالتْ لثماتْ
ترجمتها رشة الفن
…
ان للحسن نشيدا
وكستها روعة الأل - وان إبداعاً جديدا
وجمال العيش في صبح الربيعْ
…
وجلال الموت في ليل الخريف
والمنى تشرق في الوجه البديع
…
والأسى يعصف بالقلب الضعيف
وحنان الأم للطفل الرضيع
…
ووميض الغدر في وجه المخيف
وابتسام الدهر لما يقبلُ
…
وعبوسَ الحظ عند النائبات
كلها أصداء حس
…
وخيال عبقري
مزجت سعداً بنحس
…
وجميلاً بِزَرِي
أيها السابح في دنيا الجمالْ
…
كشعاع الشمس في الروض الأنيق
تنثر النور وتلقى بالضلال
…
كسناء العين من الهدْب الرشيق
تمزج الحس بألوان الخيال
…
مثلما يمزج بالماء الرحيق
أنت للفن نبي مرسل
…
شهدت عيناي منك المعجزات
أنت ظل الله في الأر - ض افتناناً وابتداعا
أنت وحي الشمس للرو
…
ض حياة وشعاعا
أيها الطائر كالنسر الجسورْ
…
بجناحين: سمَوّ وابتكار
تحت ظل الغصن أو فوق الصخورْ
…
ترسل الوحي إلى غير عثار
فإذا الطوَّد على الرق سطور
…
وإذا الروض نزيل في إطار
وإذا الماضي جديد مقبل
…
هب كالنائم من طول سُبات
أيها الجبار هذا الكو
…
ن مَعْنًى في خيالك
وصدى سجله الفن
…
ليحيى في ضلالك
أيها الساهر والناس نيامْ
…
تصنع الحسن وتلهو بالخلود
أيها الراهب في دير الظلام
…
تكشف الأستار عن لغز الوجود
هذه دنياك، دمع وابتسام
…
وأغاريد عِذاب ورعود
ونعيم بالأماني مثقل
…
وجحيم مستطير الجمرات
أنت عنوان الحياة=أنت رمز للزمان
مستبد أنت عات
…
ورفيق أنت حانِ
إن يكن في الأرض سحر أو جمالْ
…
فهو الفنان في الدنيا سناهْ
أو يكن في الحب شوق أو ملال
…
فهو الفنان للحب صداه
أيكن للشمس نور أو جلال
…
فهو الفنان مشكاة الحياة
ذلك الفنان وحي منزل
…
انطلقَ الصامتَ بل أحيا الموات
أوقفت ريشته الدهر
…
فلبى واستجابا
وكستْ من خلدها العمر
…
مدَى العمر شبابا
بَشَر مثل جميع البشر
…
رفعته ريشه عن مستواهْ
كاد لولا قطرة من حذر
…
يزدري الناس ويحيا كإله
إنه الفنان، صوت القدر
…
وهوي الفنان دستور الحياة
هو دنيا رف فيها الأمل
…
وثوى اليأس ودارت دائرات
عالَم تصطخب الآلا
…
م والآمال فيه
ويظل العقل والأفها
…
م فيما يحتويه
(الإسكندرية)
عبد المعطي حجازي
البريد الأدبي
زهر الآداب
أخبرني جماعة من الأصدقاء أن الأستاذ السباعي بيومي حدثهم أنه سيكشف الأغلاط التي فاتتني وأنا أنشر كتاب الحصري، كما أصنع في كشف الأغلاط التي فاتته وهو ينشر كتاب المبرد.
وأقول: إني طبعت كتاب (زهر الآداب) مرتين، وقد تداركت في الطبعة الثانية ما فاتني في الطبعة الأولى، فإن كان الأستاذ يريد كشف أغلاط الطبعة الثانية فسيؤدي إليَّ جميلاً أذكره له مع الثناء في الطبعة الثالثة. أما إن كان يريد كشف أغلاط الطبعة الأولى فجهده ضائع، لأني سبقته بذلك بنحو عشر سنين، ولأن صفحات الرسالة تضيق عن الحديث المعاد.
الوحدة العربية
أجبت دعوة (جماعة الطلبة العرب) بكلية الآداب لسماع محاضرة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام في شرح (عناصر الوحدة العربية) فالتفت ذهني إلى ظاهرة تستحق التسجيل، وهي إقبال الجمهور على تلك المحاضرة مع بعد المكان، فهل يكون ذلك إلا دليلاً على أن فكرة الوحدة العربية صارت في مصر من الأمور ذوات البال؟
أرجو أن ينشر الدكتور محاضرته تبليغاً لما دعا إليه من كرائم الأغراض.
نقل الأديب
من واجبي نحو نفسي أن أعلن أني استوحشت لغياب الشذرات النفسية جداً، الشذرات التي كان ينشرها الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي على صفحات (الرسالة) فمتى يعود؟
هي مختارات منقولة من هنا وهناك؛ ولكن الذوق في نقلها قد بلغ الغاية في شرف التحليق؛ وأظنها ستصبح كتاباً يحق لهم أن يسمى (كتاب الأمة العربية)
زكي مبارك
بعد انتهاء مناقشات رسائل الأستاذية
في يوم الاثنين الماضي انتهت المناقشات العلنية لرسائل (الأستاذية) الأزهرية المقدمة في
هذا العام. وقد رأيت بهذه المناسبة أن أدلي ببعض الملاحظات بشأن هذه الدرجة العلمية التي لا أشك في أن الأزهر يفتتح بها في حياته الدراسية الحافلة عهداً جديداً سيكون ذا أثر بعيد في توجيه نشاطه العلمي توجيهاً صحيحاً.
وقبل أن أدلي بهذه الملاحظات، أود أن أنوَّه بظاهرتين جديرتين بالتسجيل، تجلتا بوضوح أثناء المحاضرات العامة والمناقشات العلنية:
الأولى: أن الأزهريين قد خطوا خطوة موفقة في التقريب بين طريقتهم الخاصة في التعمق في النقاش والبحث والتحليل اللفظي، والطريقة الحديثة في العرض المنظم والابتكار، بما جعل جمهور المستمعين يدرك أن الطريقين تتكاملان ولا غنى عن الاستعانة بهما معاً في الدراسات الأزهرية في العصر الحاضر.
الظاهرة الثانية: وجود مدرستين علميتين في الأزهر: المدرسة القديمة التي تتشبث بما خلف السلف من تراث علمي تقف بنشاطها عند حد تفهمه وتفهم أحكام الشريعة والعلوم المتصلة بها في نطاقه؛ والمدرسة الحديثة التي ترى أن السير على منهاج أولئك الأئمة الأمجاد يقتضي بذل المجهود الشخصي المستقل لأداء رسالة العصر الحاضر للشريعة وعلومها، كما أدوا رسالة عصورهم لها؛ ومن وافر حظ الأزهر أن تتم الغلبة للمدرسة الحديثة في ظل إدارته الحالية.
تفضل الأنظمة التي اتبعت في امتحان هذه الدرجة نظائرها المتبعة في امتحانات الدكتوراه في الجامعات الأخرى في نواح، كما تقصر عنها في نواح أخرى.
أما ما تفضلها فيه فهو:
1 -
إلزام طلاب (الأستاذية) بإلقاء محاضرات عامة تعطى مع الرسائل فكرة صحيحة عن مقدرة كل منهم في الإبانة بالقول والكتابة والبحث.
غير أننا نلاحظ على المحاضرات والرسائل أن موضوعات معظمها أبواب عامة من الفقه لا يكون للمجهود الشخصي فيها سوى أثر ضعيف قوامه التجميع والتنظيم. وعهدنا بموضوعات الرسائل والأبحاث الجامعية التي من هذا القبيل أن يتناول كل منها بالبحث نقطة معينة يتولى الباحث تقرير كيان مستقل لها مما لا يبرز فيه سوى المجهود الشخصي المستقل.
2 -
خضوع كل عضو من أعضاء لجنة مناقشة الرسائل لرقابة بقية الأعضاء أثناء دوره في المناقشة، تلك الرقابة التي يظهر أثرها بتدخلهم للفصل فيما يكون موضع خلاف بين الأستاذ وصاحب الرسالة، أو لجلاء بعض النقط الغامضة أو لغير ذلك مما تتكشف المناقشة عن ضرورة الاشتراك في بحثه. وإننا مع ترحيبنا بمثل هذا التدخل النافع لا يفوتنا أن ننبه إلا أن ما تقضي به الضرورة يتقدر بقدرها الذي لا ينبغي تجاوزه بحال.
3 -
جعل الحكم في صلاحية الرسالة للمناقشة في يد هيئة بدلاً من فرد.
ويقصر نظام هذا الامتحان عن نظام (الدكتوراه) في النواحي الآتية:
1 -
لا يخصص لكل رسالة أستاذ يكون لصاحبها نصيب في اختياره ليشرف على توجيه توجيهاً علمياً أثناء كتابتها.
2 -
التساهل في إقرار صلاحية رسائل للمناقشة ظهر أنها لم تكن جديرة بذلك مما أدى إلى تكليف أصحابها تقديم رسائل أخرى.
3 -
لم يتبع التقليد الجامعي في إتاحة الفرصة لصاحب الرسالة لعرضها بإيجاز على جمهور المستمعين قبل البدء في المناقشة.
4 -
لم يبدأ أعضاء اللجنة أدوارهم في المناقشة بالتنويه بما يعتبرونه مواطن إجادة في الرسالة المقدمة، بل كان كل همهم محصوراً في تقصي النقائص أو الإطراء بصفة عامة مما فوت كثيراً من التشجيع النافع والتنويه بما يستحق التنويه.
5 -
كانت الأحكام التي صدرت في الرسائل متأثرة في الغالب بما أصابه أصحابها من التوفيق في المناقشة الشفوية، لا بمجهود كل منهم في كتابتها وأثره الشخصي فيها.
6 -
لا يقضي النظام الحالي - فيما نعلم - بطبع الرسائل ولم توضع قواعد لتبادلها مع الجامعات الأخرى؛ وينبغي - على الأقل - أن يقوم الأزهر بطبع الممتاز منها على نفقته مع تقرير نظام التبادل حتى يعم النفع.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخرج في الأزهر وكليتي باريس والقاهرة
تعليق
طلب مني من لا تسعني مخالفته، أن أعلق على ما كتبه الأستاذ مصطفى محمد إبراهيم في العدد الأخير من الثقافة في أيجابه أن تكون مفاتيح جمعاً لمِفتَح، وتخطئة من يقول إنها جمع مفتاح.
وعندي أن الأستاذ قد أسرف في دعوى التخطئة، ولو قال إن جمع مفتاح على مفاتح في غير ضرورة مخالف لرأي البصريين لكان قوله أدنى إلى الصواب.
فلقد جوَّز الكوفيون زيادة الياء فيما يماثل مفاعل في عدته وهيئته، وحذفها مما يماثل مفاعيل، فقالوا في جمع جعفر: جعافر وجعافير، وفي جمع عصفور: عصافر وعصافير. وجعلوا من الأول قوله تعالى: (ولو ألقى معاذيره) ومن الثاني قوله: (وعنده مفاتيح الغيب) على أن يكون مفرد الجمع الأول مقدرة، ومفرد الجمع الثاني مفتاح.
محمود حمزة
مفتش بالمعارف
إلى الأستاذ محمود الخفيف
تحية طيبة. . . وبعد فقد تهجمت (من وراء المنظار) على نائب محترم نعزه ونجلّه أعيان دائرته فكتبت إليك هذه الكلمة رداً على مقالك من غير تعليق.
قرأ أحد النواب الفرنسيين ذات صباح مقالاً يهاجمه فيه الكاتب هجوماً بلغ حد الإهانة، فبلغ به الغضب مبلغاً عظيماً وأسرع إلى صديق له يسأله كيف يستطيع أن يرد هذه الإهانة: أيدعو الصحفي إلى المبارزة؟ أم يطلب منه أن يعتذر رسمياً؟ ولكن صديقه كان عاقلاً إذ ابتسم وقال: (لا عليك يا صاحبي من هذا كله، فإن نصف قراء الصحيفة لم يلاحظوا هذا المقال، ونصف الذين لاحظوه لم يقرءوه، ونصف الذين قرءوه لم يفهموه، ونصف الذين فهموه لم يصدقوه، ونصف الذين صدقوه لا قيمة لهم. . . فماذا يبقى بعد ذلك؟)
هل أنت فاهم يا صاح؟ وهل عرفت أنك كالحادي وليس له بعير؟
حسين فهمي صادق
بكلية الحقوق
إلى الأديب حسين فهمي
حيرتني في غير داع بكلمتك، فما كتبت مقالي عن شخص معين؛ والذي كتبت عنه ليس بنائب ولا بذي دائرة بالطبع، ولا هو ممن يعزه أحد بالضرورة.
وما قابلت إنساناً ممن يفهمون ما يقرءون إلا حدثني أن هذه الصور التي أجلوها إنما هي صور شائعة في كل بلد فلا تعني واحداً بالذات.
أما عن قصتك فيكفي أن أنبهك وكنت خليقاً أن تنتبه من تلقاء نفسك أني لم أكن حادياً بغير بعير، وأظنك فهمت الآن مَنْ بعيري. . . فأنت بلا شك من ذلك النصف الذي فهم، ولا عليّ إن كنت صدقت أم لم تصدق.
الخفيف
شبابيك القلل
كتب الدكتور زكي محمد حسن في العدد 112 من (مجلة الثقافة) مقالاً بهذا العنوان أود أن أعلق عليه بكلمة صغيرة فقد قال: (ومن العجيب أن يعني بزخرفة شبابيك القلل إلى هذا الحد بينما تبقى القلل نفسها بغير طلاء أو رسوم زخرفية).
ولقد فات الزميل الفاضل أن القلل في العصور الوسطى كانت على نوعين أحدهما نسميه - في اصطلاحنا العرفي - (القلل الصيفية) وتستعمل صيفاً وهي من الفخار غير المطلي، لأن مسامها تساعد على تبريد الماء. والنوع الثاني (القلل الشتوية) وتستعمل شتاء لأنها مكسوة بطلاء زجاجي يحفظ على الماء درجة حرارته الطبيعية.
وقد لاحظنا أن بعض أبدان القلل التي وصلت إلينا من هذين النوعين تزدان برسوم زخرفية غاية في الجمال كما يظهر ذلك في اللوحات الثلاث الأول من كتاب الأستاذ أولمير الذي ذكره في مقاله. وإذا كنا لم نجد كثيراً من القلل ذات الرسوم الزخرفية فهذا يرجع إلى أن الأجزاء التي عثرنا عليها هي بقايا من هذه القلل فقط، ولا ينهض ذلك دليلاً على ما ذهب إليه الدكتور من أن أبدان القلل لم تكن مزخرفة.
وقال أيضاً: (إن الرسوم الآدمية ورسوم الحيوان والطيور والأسماك التي نراها على تلك الشبابيك يشهد معظمها بأن صانعها كانت تنقصه المهارة ودقة الملاحظة حتى أن رسومه
تبدو صبيانية وغير دقيقة).
ولئن صحت هذه الملاحظة نسبياً فيما يختص بالرسوم الآدمية فإنها لا يمكن أن تصح بأي حال في الحيوانات والطيور والأسماك وأن نظرة واحدة للرسوم التي نشرها الدكتور - وهي ليست بأجمل ما في مجموعة شبابيك القلل - لكافية للإقناع بما كان عليه هؤلاء الفنانون من دقة الرسم وحرية التعبير.
وعندما تعرض لتأريخ هذه الشبابيك قال (وليس من السهل تأريخ شبابيك القلل المحظوظة في المتاحف والمجموعات الأثرية لأنها من منتجات افن الشعبي).
فهل للزميل المحترم أن يعرف لنا ما يفهمه هنا من اصطلاح الفن الشعبي؟ ألم تكن القلل كباقي أنواع الصناعات الزخرفية في الفن الإسلامي مثل الخزف والخشب والمنسوجات والزجاج الخ. . . فيها الثمين والرخيص، يشتريها خاصة الناس وعامتهم كل على حسب مقدرته المالية؟ وكانت الرسوم الزخرفية والدقة الفنية في الصناعة توزع بين هذا وذاك كل حسب قيمته؟
وفي ختام كلمته قال الدكتور زكي بعد أن أشار إلى كتاب الأستاذ أولمير عن شبابيك القلل: وصفوة القول أن الأستاذ أولمير ظن أنه يستطيع الوصول إلى تأريخ بعض شبابيك القلل بواسطة الموازنة بين رسومها ورسوم سائر التحف الممكن معرفة تاريخها، ولكنا نظن أنه بالغ في تقدير النتائج التي تؤدي إليها هذه الطريقة.
فهل فات زميلي الدكتور أننا عثرنا على بعض هذه الشبابيك مطلية بالطلاء ذي البريق المعدني، وكان الفضل الأكبر في ذلك إلى الأستاذ حسين راشد رئيس أمناء دار الآثار العربية، كما ذكر ذلك الأستاذ أولمير في مقدمة كتابه (ص8 وما بعدها)، ونشر صورتها في اللوحة الأولى، وكان لهذه المجموعة أكبر الأثر في تاريخ شبابيك القلل التي تنسب إلى العصر الفاطمي؛ والبريق المعدني كما يعلم صديقي الفاضل معروف وقت استعماله في الخزف المصري. ولا أدري لماذا لم يذكر حضرته هذا النوع في مقاله. ولعله على رأي آخر في هذا الصدد نود لو يكشف لنا عنه.
دكتور محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية
القصص
الرجل الصامت
عن الروسية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان في فندق القرية ضيوف كثيرون لا أعرف معظمهم، وانقضى النهار وجانب من الليل ونحن في هزج وضوضاء، فلما بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل بدأنا نفكر في النوم فانصرف من انصرف وبقى في الفندق ثمانية. ولم يكن خالياً من غرفة غير أربع، فقالت لي صاحبة الفندق: إن هذا الضيف سيكون شريكاً لك في غرفتك واسمه (ماكسيم سيمو نوفتش) وأشارت إلى رجل قصير القامة ضئيل الجسم فقلت: لا بأس وإن كنت أوثر أن تكون لي غرفة وحدي.
تقدم نحوي سيمون وقال: أترى مانعاً من مشاركتي إياك؟. . .
فقلت: كلا وماذا عسى أن يكون المانع؟. فقال إنني قليل الكلام وأخشى أن يكون من عاداتك قبل النوم أن تتحدث فلا تسر برفيق صامت مثلي.
قلت: وأنا أيضاً أحب الصمت. فقال: إذن فلن يؤذيك صمتي الطويل.
ودخلنا غرفة النوم فقال: في الناس من لا يستطيعون الصبر على صاحب صامت، ولذلك سألتك حين رأيتك هل تحب الكلام فإن كثيرين ممن عرفوني أبغضوني لأنني قلما أتكلم.
ابتسمت وقلت له: لا يشغل بالك هذا الخاطر. فقال: شكراً لك. وخلع إحدى حذاءيه وأمسكها بيده. ثم أطرق لحظة وقال: لقد حدثت لي حوادث بسبب الصمت أذكر لك منها: أنني سكنت في عهد شبابي في غرفة واحدة مع صديق لي اسمه أورلوف وكان ينقضي اليوم واليومان وأنا صامت؛ فتضجر وصار يسخر مني ويتهمني بأني سيئ الضمير، وسألني: هل أقسمت لا أتكلم؟ فقلت: كلا. فقال: إذن تكلم. فقلت: عن أي شيء؟.
وانقضى يومان وأنا صامت، فأمسك زجاجة وقال: تكلم وإلا ضربتك بها في رأسك.
قلت: إن ذلك لن يكون جميلاً منك لو فعلته.
ومضت ثلاثة أيام ولم أتكلم. ودخلنا نبدل ثيابنا كما نفعل الآن فخلع حذاءه ورماني به
وقال: أنت كالميت لا تنطق ولا تتحرك، وأن الحياة معك كالحياة بين المقابر؛ فسأترك لك الغرفة غداً. هذا ما قاله ولكن هل تعرف ماذا فعل؟
قلت: كلا.
فضحك سيمون واستمر يقول: والله لقد خرج. . . خرج من الغرفة ولم يعد إليها وقد كان في حالة عصبية. . . ولكن هل تعرف أن فتاة غضة الشباب موفورة الصحة تنتابها هذه الحالة؟ لقد كانت لي خطيبة أحبها وكانت تحبني وقالت إنها أحبتني لأني رجل جد وعمل ولأنني مفكر غير ثرثار. لقد قالت ذلك في أول عهدي بها ولكن لما قدم العهد بيننا سألتني لماذا أنا كثير الصمت؟ فقلت ولماذا أتكلم؟ فقالت أليس لديك ما تقول؟ قل ما فعلته اليوم أو ما رأيته. فقلت لها باختصار لقد كنت في مكتبي ثم تغديت وجئت لزيارتك. فقالت: إنها تخافني لأني قليل الكلام فقلت: هذه طريقتي فأحبيني كما أنا. . .
وبعد أيام زرتها فوجدت معها شاباً كثير الكلام، فظل يحادثها بغير انقطاع، وكان كل حديثه تافهاً، وإنني لأعجب له كيف كان يواتيه هذا الكلام. لقد كان يسألها هل تعرف الرقص، ثم يقص عليها خبراً رآه ويسألها عن معنى إهدائها إليه وردة صفراء. . . كلام كثير لا أعرف من أين يخلقه وهل لإهداء وردة صفراء أي معنى؟ وكانت تصغي إليه. . . إلى أحاديثه التافهة. . . إلى أسئلته. . . وكانت تجيبه. . . وكنت أراهما ولا أتكلم. ثم أخذا يتهامسان ويبتسمان وهما ينظران إلي. وبقيت صامتاً ثم تركت لهما المكان. . . وبعد أيام زرتها فجاء هذا الشاب وقال لي: ما الذي تفعله هنا! اذهب وإلا قتلتك فقلت: جئت لأزور ماريا بتروفنا فقال: اذهب أيها الوغد.
وأردت إقناعه بأنه مخطئ ولكني رأيت الفتاة تضحك وتقول: اذهب فإنني لا أحبك لأنك قليل الكلام! آه ما أحمق هذه الفتاة!
لما بلغ سيمون هذا الحد من حديثه كنت شعرت بحاجة شديدة للنوم، فابتسمت وقلت: قصة جميلة! أسعدت مساء.
فقال: سعد مساؤك وطاب نومك. إن الرجل خير من النساء، فهم يزنون الأمور بميزان المنطق، وأما النساء فهن غاية في الغرابة. إنني أعترف لك بأنني أحببت امرأة متزوجة وأحبتني في أول الأمر، ولكنها بعد ثلاثة أيام فقط زهدت فيَّ واحتقرتني وقالت: لقد قبَّلتُ
قبلك كثيراً من الرجال، ولكنني لم أقبَّل غيرك جثة هامدة. . . أنت رجل مضحك فاذهب من أمامي لقد قالت لي ذلك؛ فلما لم أذهب، خرجت هي من تلك الغرفة، وقالت لزوجها بنفسها: إن في المنزل رجلاً غريباً. . . هل أنت سامع؟
فقلت له وأنا بين النوم واليقظة: إنني أريد أنام، فنحن في منتصف الساعة الرابعة، فقال: أنحن في منتصف الساعة الرابعة؟ لقد آن وقت النوم.
وخلع حذاءه الثاني وقال: لقد كنت مسافراً مع أحد الأعيان، فبقيت كعادتي صامتاً في الطريق.
عند ذلك أغمضت عيني ودفعت صوتي بالغطيط لكي يحسبني نائماً فيسكت، ولكنه استمر يقول: فسألني عن الجهة التي أسافر إليها؛ فقلت له: نعم. . . هل نمت أيها الشاب؟ هل أنت سامع؟ أنائم هو؟ أهو غير نائم؟ ها ها! لقد كان الشاب الذي سكنت معه يفعل مثل ذلك. . . لقد كان ينام ساعة يضع رأسه على الوسادة. . . إن الناس لا يحبون كلامي. . . ها ها!
فرفعت رأسي وقلت له بلجة المتهكم:
- لقد قلت لي إنك رجل صامت، وأنا الآن أشك فيما تدعيه.
فقال: إنني أتكلم عن حوادث جرها حب السكوت. ومن تلك الحوادث، أنني ذهبت مرة لأعترف للقسيس فسألني:
- أي خطيئة ارتكبتها؟ فقلت: خطايا كثيرة.
فقال: قلها. قلت: كل الخطايا.
فسكت القسيس وسكت أنا.
فقلت له بصوت مغضب وقد جلست على الفراش:
- كلما زدت في حديثك عن الحوادث المؤيدة لحبك للصمت زاد في نفس اليقين بأنك كاذب!
فقال: لماذا؟ هل في حديثي ما يبعث على الشك في حبي للصمت؟ إن حبي للصمت قد آذاني كثيراً، فقد كنت مرة بالمكتب، فجاء رئيسي وسألني: هل لدي أخبار؟ فقلت: كلا، فقال: ما معنى قولك كلا؟
قلت: إنني نائم، ليلتك سعيدة! ليلتك سعيدة!
فقال سيمون: ليلتك سعيدة، وقد قلت له إنني لا أعلم شيئاً من الأخبار فقال: هذا جواب غير مناسب؛ فقلت: وبأي جواب أجيبك؟
غلبني النعاس فنمت نوماً عميقاً، ولما استيقظت في الصباح سمعت صوتاً بجانبي، فنظرت إلى سيمون فوجدته يقول:
- وقد طلبت مني زوجتي الطلاق لأنني صامت، وهي تريد إنساناً لا جماداً؛ فقلت لها: يا عزيزتي ليدا عن أي شيء أتكلم؟
عبد اللطيف النشار