الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 4
- بتاريخ: 01 - 03 - 1933
ملكة الجمال
للدكتور طه حسين
هناك ابتسامة تتردد كثيراً قبل أن ترتسم على بعض الثغور. وتتألق في بعض الوجوه. أو قل إن هناك ثغوراً ووجوها تتردد كثيرا قبل أن تقبل أن ترتسم عليها، وتتألق فيها بعض الابتسامات. أو قل إن هناك نفوساً تتردد كثيرا قبل أن تتخذ ثغورها ووجوهها مظاهر لهذا الذي يعرب عنه الابتسام في بعض الظروف. وقد فكرت في هذه الابتسامة المترددة، وفي هذه الثغور والوجوه والنفوس التي تتردد بين الرضا والسخط، وبين ما يظهرهما، ويدل عليهما من الابتسام والعبوس، حين قرأت في الصحف أخبار ملكة الجمال وتشريفها لمصر بزيارتها السعيدة الموفقة.
فكرت في هذه الابتسامة المترددة، لأني أحسست ترددها على شفتي، فرأيتهما تحاولان الانبساط ثم تعودان فتنفرجان وتنبسطان بالابتسامة، ثم تستقر عليهما هذه الابتسامة التي كانت مترددة؛ ولكنها تستقر في سخرية إلا تكن شديدة المرارة، فليس فيها شيء من حلاوة الرضا. ذلك لأني لا أدري أوفقت الإنسانية حين فتحت على نفسها هذا الباب الظريف السخيف، الذي يدخل عليها منه ظرف كثير، ويدخل عليها منه سخف كثير؟ ومن يدري لعل الظرف والسخف صديقان لا يفترقان، وحليفان لن يختصما، أو تتغير الأرض ومن عليها وما عليها. وهذا الباب الظريف السخيف الذي يبعث الرضا ويبعث السخط، والذي يغيظ ويلهي هو باب المسابقة إلى الفوز بسلطان الجمال!
خطرت هذه الفكرة لكاتب فرنسي، ليس هو من المتعمقين في الجد، ولا هو من المتهالكين على الهزل. وإنما هو كاتب خفيف ظريف، يرضى في سهولة، ويرضي الناس في يسر، وتنفق عندهم سوقه في غير مشقة. وأكبر الظن انه يسخر من الناس ومن نفسه وأكبر الظن انه إنما يرضي الناس ويعجبهم لأنه يسخر منهم، يستهزئ بهم ويخيل إليهم أنه يجد كل الجد حين يسوق إليهم الأحاديث، مع أنه لا يزيد على أن يهزل أشد الهزل وألطفه، ولعله إنما يفعل هذا كله، فيهزل جاداً ويجد هازلاً لأنه صحفي، أو قل لعله إنما أصبح صحفيا رائجا نافق السوق لأنه يفعل هذا كله. وأنا اعتذر إلى الصحفيين ولكني أعتقد أن صاحبة الجلالة الصحافة إنما أقامت عرشها العظيم على هذه الدعائم المتينة الصلبة من
سياسة الجمهور. وإنما تساس الجماهير في ظل الديمقراطية أحسن سياسة وأجداها حين تلبس لها ثوب الجد وأنت تهزل، وترتدي لها رداء الهزل وأنت تجد، وتظهر لها على كل حال من نفسك ما تريد أن تظهر لا ما ينبغي أن تظهر. هذا الكاتب الفرنسي اللبق الذي فتح للإنسانية باب الجمال على مصراعيه وأثار في رءوسهاالفارغة فكرة المسابقة إلى سلطان الحسن هو (موريس دواليف). خطرت له هذه الخاطرة ذات يوم وهو يمزح، أو ذات ليل وهو يلهو، فتحدث فيها إلى صديق أو صديقين ثم إلى زميل أو زميلين ثم إلى إدارة الجرنال. وما أصبح الصباح حتى ملأت الفكرة باريس. وما أمس المساء حتى ملأت الفكرة فرنسا. وما كان الغد حتى ملأت الفكرة أوربا، وما مضت أيام حتى ملأت الفكرة الأرض كلها ولعبت برؤوس الناس جميعا. وهذا مصدر آخر من المصادر المادية لسلطان صاحبة الجلالة الصحافة هو أنها ترى الرأي فإذا هو أمام الناس جميعا أو أمام جماعات ضخمة منهم في وقت واحد أو في أوقات متقاربة. ومن حوله المغريات والمرغبات والمثيرات للميل. فيلقى الناس بعضهم بعضا وقد قرءوا الصحيفة وإذا هم يتساءلون: وما رأيك في هذه الفكرة الطريفة الظريفة معا فكرة موريس دواليف في هذه المسابقة التي ستدعى إليها الفتيات لإظهار ما لهن من جمال بارع وحسن فتان. ثم تعود أصداء الدعوة من باريس وفرنسا وأوربا وأطراف الأرض إلى الجورنال، وإذا الفكرة قيمة، وإذا التجربة الأولى تهيأ ثم تتم، وإذا للجمال ملكة في فرنسا، وإذا البلاد الأخرى تسير مسيرة فرنسا، وإذا لكل بلد ملكة للجمال، وإذا المسابقة أوربية بين صاحبات الجلالة القومية. وإذا لأوربا ملكة، ثم للعالم كله ملكة، وإذا نظام جديد قد أقيم، وإذا الديمقراطية المتطرفة والاشتراكية الغالية والأرستقراطية المعتدلة والأوتقراطية المسرفة. كل هذه النظم المختلفة المتباعدة قد اتفقت على الإذعان لسلطان الجمال.
ولكن سلطان الجمال وان استعار ألقاب الملكية، أحاط نفسه بألوان القوة وضروب الأبهة، ضعيف نحيف، فاتر قصير المدى كالجمال نفسه، فهو ملك، ولكنه أشبه بالجمهورية، وأي جمهورية؟ أشبه بالجمهورية القديمة؛ جمهورية اليونان والرومان لا يدوم السلطان فيه لصاحبته أكثر من سنة، وهو ملك، ولكنه لا يورث، وإنما يكسب بالانتخاب، وأي انتخاب!! انتخاب ضيق محدود متأثر بالأغراض والأعراض السياسية في كثير من الأحيان، فيجب
أن يكون ملك الجمال قسمة بين الشعوب تتبادل سلطانه فيما بينها، تظفر به فرنسا ثم تمره إلى بلجيكا، وهذه تمره إلى هولندا، وعلى هذا النحو حتى يكون لكل شعب حظه من هذه السيادة العالمية البريئة. البريئة؟ مسألة فيها نظر! فهي سيادة بريئة بالقياس إلى الشعوب والأقاليم والمدن والقرى، ولكن براءتها تتعرض للشك والخطر في كثير من الأحيان، ذلك أن هذا الملك الطارئ السريع الزوال يعبث برؤس الملكات وأسرهن، ومن طبيعة الملك أن يعبث برؤس الا إذا اعتمد على دستور صحيح متين، وليس لملك الجمال دستور، وملك الجمال لا يعبث برؤس الملكات وحدهن، وإنما يعبث برؤس كثير من الرعية أيضا، من الشبان والشيوخ وأصحاب الملاعب والمراقص والسينما، ثم ملك الجمال فصيح على هذا العبث، فهو يجري أقلام الكتاب في الصحف، ويطلق ألسنة السيدات في الصالونات، ويزيد هذا كله في الدوار واضطراب العقول. لذلك لا تكاد ملكة ترقى إلى عرش الجمال حتى يصبح مصيرها بعد الخلع - أستغفر الله - بعد الاعتزال مشكوكا فيه. وأكبر الظن أنها صائرة إلى ملعب من ملاعب اللهو، أو ناد من أندية الرقص، أو دار من دور السينما، أو إلى هذه جميعا.
فملك الجمال في حاجة إلى دستور يضمن الملكة الا يكون ارتقاؤها إلى العرش وسيلة إلى ابتذالها.
على أن ناحية أخرى من نواحي هذا العبث الذي يعبثه ملك الجمال بالعقول خليقة بالملاحظة، فملكات الجمال يؤمن بملكهن عادة، ويصدقن أنهن ملكات حقا، وكثيرا ما تؤمن لهن الجماعات بهذا الملك، فيصبح المزاح جداً واللعب حقا لا شك فيه، وينشأ عن هذا الجد الطارئ وعن هذه الحقيقة الإضافية الموقوتة التي لم يفكر فيها اينيشتين بعد، لون من الحياة الذي يبعث هذه الابتسامات المترددة التي تحدثت عنها أول هذا الفصل.
أنظر إلى ملكة الجمال التي شرفت مصر بزيارتها هذه الأيام لم تكد تهم بهذه الزيارة حتى سبقتها الأنباء فطربنا واستشعرنا شيئا من الغبطة لا حد له وتفضلت صاحبة الجلالة الصحافة فقامت لزميلتها في الملك بما يجب من الإعلان ونشر الدعوة. ثم وصلت ملكة الجمال فلم يكن بد لصاحبة الجلالة الجميلة من أن تتناول الشاي عند صاحبة الجلالة الفصيحة البليغة. وكانت دار الجهاد ملتقى الملكتين على مائدة صديقي توفيق دياب،
وتفضلت الملكتان ملكة الجمال وملكة الكلام بشيء من العطف الغالي الكثير على طائفة من الرعية المولهة المفتونة، وكنت ممن مسهم هذا العطف. ولكن ملكة أخرى ثقيلة ممقوتة تبسط سلطانها الآثم على الناس في الشتاء وهي صاحبة الجلالة البغيضة الأنفلونزا حالت بيني وبين الاستمتاع بهذا العطف السامي من صاحبة الجلالة الجميلة وصاحبة الجلالة الفصيحة. فأسفت وما أشد ما أسفت!
وملكة الجمال ظريفة كما ينبغي أن تكون فلم تكد تصل إلى مصر حتى أدت طائفة من الواجبات بفرضها عليها جلال الملك وسماحة الجمال فقيدت اسمها في قصرها الملكي العالي ثم ثبت فزارت رئيس الوزراء. فلما فرغت من السلطة التنفيذية تعطفت على السلطة التشريعية فتفضلت بزيارة البرلمان. فأدى وكلاء الأمة واجبهم بين يدي جلالتها كأحسن ما تكون التأدية.
ثم لم تكد صاحبة الجلالة تفرغ من مصر الرسمية حتى تفضلت ففكرت في مصر المعارضة. والملك فوق الأحزاب فتعطفت بزيارة حضرة صاحب الدولة رئيس الوفد المصري ثم فكرت في مصر التي لا تشتغل بالسياسة وإنما تشتغل بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي فتفضلت بزيارة حضرة صاحبة العصمة رئيسة الاتحاد النسائي وزارت دار الاتحاد وشهدت فيه التمثيل وزارت دور الصناعة والتجارة وهي في هذه الزيارات تؤدي لكل حقه بما فطرت عليه من جمال وظرف وأدب ورشاقة وخفة روح، وإذا جلالة أخرى رسمية تشرف مصر وهي الجلالة الإيطالية فينقطع حديث الجمال ويبتدئ حديث السياسة. وليست هذه الصحيفة من السياسة في قليل ولا كثير، فلتكتف إذا بأن ترحب في صدق وإخلاص بصاحبي الجلالة الإيطالية ثم لتعد إلى ملكة الجمال، فلتتمن لها التوفيق بعد الملك كما وفقت أثناء الملك ولتلتفت بعد ذلك إلى القارئ الكريم فننصح له بأن يقرأ قصة تمثيلية بديعة أنشأها الكاتبان الفرنسيان جورج بيرولويس فرنويل، موضوعها ملكة الجمال وعنوانها (مس فرانس) فسيجد القارئ في هذه القصة جداً وهزلاً وفكاهة وصراحة ولذة قوية على كل حال.
شعر جديد
لأستاذ كبير
في يوم واحد هو يوم 19 من هذا الشهر قرأت في جريدتين محترمتين من جرائد الصباح قصيدتين إحداهما من شعر آنسة تلقب نفسها (فتاة الصعيد) والأخرى لشاب شاعر من إخواننا السوريين.
فتاة الصعيد توجه تغريدها المنظوم إلى رجل كبير من زعمائنا فتقول:
احبك مهما أثار الخبر
…
كوامن حقد إذا ما انتشر
أرى صورة لك في لوحة
…
فيلهب قلبي هوى مستعر
وشاعر الشباب السوري يقرظ سيدة كبيرة هي أيضا في كل شيء الا في سنها، ألقت محاضرة في بعض النوادي فيهتف على آثارها:
الله اكبر من سحر البيان ومن
…
سحر بعينيك خلى الحفل نشوانا
هذا يدير على الألباب خمرته
…
وذا يدير على الأسماع ألحانا
وما علمنا في الأدب العربي أن امرأة أرسلت كلمة (أحبك) في شعر سائر إلا رابعة العدوية حين قالت تخاطب ربها:
أحبك حبين حب الوداد
…
وحبا لأنك أهل لذاكا
فابتدعت فنا من الشعر الغرامي صوفيا لا يدرك مراميه الا أهل الأذواق والمواجد.
قد يكون في سن الآنسة أو في شكلها أو في غير ذلك من أمرها ما يغفر لها التصايح بالحب في الميادين العامة. ولكنا على ثقة من أن فتيات الصعيد لا يعرفن الهوى المستعر.
ومن صليت منهن نار الحب ماتت شهيدة الكتمان تردد أنفاسها الخامدة قول العباس بن الأحنف:
لأخرجن من الدنيا وحبكمو
…
بين الجوانح لم يشعر به أحد
فصاحبتنا بلا ريب ليست صعيدية ونسبتها إلى الشعر كنسبتها إلى الصعيد، يشهد بذلك قولها في منظومتها على سبيل المدح:
وغيرك في زعمه كاذب
…
ومن ذا سواك زعيم، فشر
أما شاعر الشباب السوري فقد كان من حقه إذ يحضر مجالس العلم والأدب أن يشغله شيء
آخر عن ملء عينيه من شيء غيره.
وليس بمنكر أن يتحدث الشعر عن العيون السواحر، لكن حديث العيون لا يكون في محاضرة أدبية ولا يكون في النادي الكاثوليكي.
غير أن شاعرنا المسكين يعترف بأنه كان سكران حين نحت قريضه. وما كان أجدره بحد السكر حتى يصحو من خمر العيون ثم لا يقول الشعر إلا صاحيا ولا يسكر بعدها إلا في ألحان من خمر الدنان.
ليت شعري ما الذي يزين هذه البدع في أذواق شبابنا؟ ويا خوفي أن يحسبوها من أثر ثقافة لاتينية أو سكسونية على حين لا من ثقافة هي ولا من ذوق!
خواطر وصور
بعض الناس
للأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
عرفت فيمن عرفت من الناس رجلا اجتمع له كل ما يشتهي من جمال في المظهر، كان مديد القامة في غير شذوذ، مكتنز العضلات في غير ترهل، حسن قسمات الوجه في غير تخنث، اشرب لونه حمرة تنطق بما حباه الله من عافية في بدنه، محمود الملبس لا تنقصه فيه أناقة ولا حسن انسجام. وكان يغشى ناديا اختلف إليه جماعة من الإخوان فاستشعرت له أول الأمر هيبة وتوسمت فيه خطرا، وكان أحد الرفاق يتحدث في أمر شديد الاتصال بذاته فرأيت لهذا الرجل نظرة ساخرة. أدركت معها أنه يعلم عن هذا الحديث ما لا يعلم قائله، ولم يطل بي الانتظار حتى رأيته قد استولى على الحديث وأخذ يذكر عن نفسه وتجاربه المتصلة به كثيراً، وتشعب الحديث، وأثار الاستطراد ذكر مسائل مختلفة، وكان هو فارس كل ميدان والحجة في كل موضوع، وكان إذا ما اشتد الجدل علا صوته حتى غلب على كل صوت، وإذا أعوزه في دعوى أن يقيم الدليل، أفحم مناظريه بالضجيج والتهويل. وتكرر التقائي به حتى هان عليّ أمره، وصرت لا أحفل لقول يقوله. ولكني كنت أجد في دعواه العريضة شيئا من الفكاهة يروح عن النفس بعض ما تلقاه من جد الحياة.
وقرأ خبيث من الرفاق في إحدى الصحف خبر اعتصاب الحمالين لخلاف بينهم وبين رؤسائهم، فبيَّت في نفسه أمراً يهتك به ستر هذا الدعي. وأقبل صاحبنا يتهادى في مشية بطيئة وقورة وقد تدلى من بين شفتيه سيكار فاخر. واشرق وجهه بتلك الابتسامة الساخرة التي توحي إلى الرائي هو أن الناس عليه، وعلمه من حقائق الأمور ما لا يعلمون. فتلقاه المداعب الخبيث بتهليل المعجب الذي وقف على ما أخفاه من فعال، وبدا عليه ما يشبه الخجل والحياء لافتضاح مكرمة يأبى عليه تواضعه أن تنشر وتذاع. وقال له الصديق المداعب:(لك الله من بطل! لقد لمست في الأمر أصبعك، وشممت منه ريحك، وقلت منذ قرأت الخبر أنها لا شك إحدى أياديك في نصرة الضعفاء. ولكن نبئني كيف وفقت في جمع كلمة أولئك الحمالين مع انقطاع كل صلة بينك وبينهم، وكيف تم لك تدبير أمرهم؟).
وأشفقت من وقع تلك السخرية اللاذعة المكشوفة على نفس صاحبنا، ووجدت فيها قسوة
شديدة على هذا الغر. ولكني عجبت حين وجدته يهز رأسه في أناة هزة الواثق، ويذكر أنها بداية حملات يقوم بها في رد حقوق المهضومين، وأن هذا شيء لا يستحق الذكر إلى جانب ما ستظهره الأيام من جهوده العظيمة في هذا السبيل.
وانطلقت من الأفواه ضحكات طويلة عددتها سخرية وعدها هو طرب إعجاب وتقدير، وبدأت بعد هذا أرثي للرجل وأشفق عليه مما سيحيق به من السخرية والازدراء في كل مجتمع يغشاه، حتى كانت بعض الحركات العامة فوجدت الرجل يتصدر مجالسها مسموع الكلمة عالي المنزلة!
أدركت عند ذلك أن أولى الناس في هذا البلد بالرثاء، هم ذوو الفضل والحياء.
أقيلوا عثرات الناس
نشأت نشأة محافظة جعلتني أغلو في استنكار زلات الشباب. واشتد بالنقمة على كل عاثر، ولا يتسع صدري لتلمس عذر لخاطئ. وكنت أجافي من أعرف عنهم ذلك واشتط في الحكم عليهم، فلا أرجو منهم خيرا أبداً.
وكان لي صديق ألف الله قلبينا برباط من الود الصادق أنزله من نفسي أكرم منزل، وباعد بيننا طلب الرزق حينا، فلما التقينا بعد طول غياب وجدت على وجهه غمامة من الاكتئاب دلتني على انه يعاني بين جنبيه هماً مبرحاً ثقل عليه حمله. وكان كلما هم أن يفضي إلي بوجيعته ساوره شيء من الخوف فطواه في صدره. وما زلت أترفق به، حتى قص علي قصته، وعلمت انه في إحدى ثورات العواطف جمحت به نفسه، وأفلت منه قيادها فزلت قدمه، وأتى ما يأتيه كثير من الناس. ولم يجد فيما روى به حسه من متع غناء عما فقده من رضى نفسه وطمأنينة وجدانه، فهو لهذا بائس حزين.
وسكت الصديق ونظر إلي نظرة جازعة لما يعلمه عني من القسوة في الحكم على مثل تلك العثرات. والعجيب من أمري أني وجدتني أكثر محبة لهذا الصديق بعد أن قص علي قصته، وأشد فهما لظروفه ووجدتني أرى عثرته مقالة، وزلته مخفورة ورحت أهون عليه الخطب وأتلمس السبيل لتهدئة أعصابه.
وخلوت لنفسي بعد ذلك وفكرت كيف يتغير حكمنا على الأشياء بتغير فاعليها، ليس منا من أمن العثار. وإذا وقانا الله شرها في أنفسنا فقد يعثر حميم نعزه. فلم نقبل عثرات الأولياء
ونتلمس العذر لأخطاء أنفسنا ومن نحبهم ثم نقسو في الحكم على من بعدت بيننا وبينهم الصلات؟
علمتني هذه الحادث أن أقيل كل عاثر وارحم كل خاطئ. وانظر إلى كل زلات الناس على أنها أمراض تعالج بالرفق والعطف والرحمة.
اللذائذ والآلام أوهام
ليست اللذائذ الا بعض خدع الطبيعة تغرينا بها على أداء وظائفنا الحيوية، الست ترى أحدنا إذا مر وهو جائع بمقربة من طعام وفاحت رائحته فمست خياشيمه، أو لاحت صور فرأتها عيناه سال له لعابه وتحرق شوقا إلى التهامه حتى إذا ما ملأ منه معدته وأدى ما تتطلبه الطبيعة لحفظ الذات صد عنه كارها ولم تثر فيه رائحته ومرآه شهوة.
كذلك الحال في كل لذائذ الحس لا تبهر الا جائعا ولا تثير غير صادئ فإذا ارتوى منها زهد فيها.
ومثل اللذائذ الآلام فهي إحساس خادع ينبه المحروم من أداء وظائفه الحيوية إلى أدائها.
واحسبنا نستطيع بشيء من رياضة النفس والمران على حكم الاعصاب، أن نصل إلى منزلة نغالب بها إلى حد كبير خداع الطبيعة فلا تثيرنا كثيرا لذائذ الحس وآلامه.
السلوة
للأستاذ عبد الحميد العبادي
. . . . . . وكان صاحبي كلما سئم تكاليف الحياة، وضاق ذرعا بمعاشرة الناس، التمس الراحة فيما تيسر له من أمور ثلاثة: العزلة، والطبيعة، والماضي البعيد.
أما العزلة فتفرغ عليه هدوء السر: وراحة البال: ثم هي فوق ذلك تهيئ له أسباب التفكير في نفسه، وتعينه على أن يستعرض عمله، وأن ينقده في تؤدة وأناة. وصاحبي شديد الأخذ لنفسه. مسرف في تعهدها ومحاسبتها على الصغيرة والكبيرة، فربما بات ساهرا متململا لبادرة بدرت منه، أو زلة زلها لسانه. وهو بعد حريص على راحة ضميره وطمأنينة قلبه. فان استطاع أن يقيم علاقته بالناس على أساس من العدل والأنصاف فذلك، وإلا فليكن المظلوم غير الظالم والمقتول غير القاتل. من أجل ذلك كانت العزلة كثيرا ما تفتح عليه باب ألم معنوي شديد، بيد أنه ألم في شرعه محتمل مستعذب، يصلى ناره، راغبا ويخلص منها مغتبطا راضيا.
وأما الطبيعة، فهي عنده الأم الرءوم: إليها يستريح ويسكن، ومن جمالها ينهل ويعل، وفي حجرها تنبعث نفسه المجهودة، وتهيج عاطفته المكدودة. قد فتن بالطبيعة وحياة الطبيعة، حتى ليكاد مزاجه يساير فصول العام إنبساطاً وانقباضاً، وابتهاجاً واكتئابا، ولولا بقية إيمان لانقلب صابئا يسجد للشمس عند شروقها وغروبها. ويهتف للقمر حين بزوغه وأفوله، ويساهر النجوم والأفلاك من طلوعها لمغيبها. ولصار حلوليا يرى في ثنايا الجبال وأهضاب الأودية وفي الأجمة الملتفة والصحراء البلقع، جنا تراءى له في غدواته وروحاته، ولفتاته ولمحاته، تحاول أن تستدرجه لتستهويه، وتستميله لتفتنه، أجل! ولولا أثارة من تماسك وتصاون، لحنا على النبتة الواهية، ولكبر للدوحة العالية، ولأجهش للصخرة الراسية على ساحل البحر المتغلغل: ولا ندفع بقول الشعر يساجل الطير: لحنا بلحن وتغريداً بتغريد.
على أن صاحبي ليس بالناسك ولا الزاهد. وقد يكون في قرارة نفسه، وحقيقة أمره، مرحا طروباً، ويود، على شدة انصرافه عن الدنيا؛ ألا ينسى نصيبه منها، ولكنه متزمت متشدد؛ يريد للقوم صفواً من النفاق والدهان، خلوا من الحقد والاضطغان، فأما وقد أعجزه ذلك؛ فقد
أصبح يرى ضالته المنشودة في الغابرين الأولين من أهل القرون الخالية: أصبح يراها في الماضي البعيد، والماضي عنده عالم حافل بأعلامه وأحداثه، زاخر بخيره وشره: لا عيب فيه سوى أن القدم قد صهره ومحصه، وأن الموت قد نفى خبثه عن طيبه، وزغله عن صميمه، فبدت فيه كل نفس على حقيقتها، ومثَّل كل حادث على جليته، من أجل ذلك اصطفى صاحبي من الماضين خلانا وأصدقاء، قد أصفاهم الود، وأخلص لهم الحب؛ وأن اختلفت الدار، وبعد المزار؛ لقد أدرك صاحبي أن الموت حق والحياة باطل.
تكاءدت الهموم هذا الفيلسوف يوما، فخرج من منزله، وقد طفلت الشمس للغروب، فما زال يتخير الأمكنة والبقاء؛ حتى آوى إلى صخرة قد استقبلت بحرا خضما، واستدبرت مرجا معشوشبا مدهاماً؛ وفي شرقيها المدينة هائجة مائجة؛ صاخبة داوية؛ وفي غربيها قصر عتيق مثلم الجنبات متداعي الأركان.
فأخذ الفيلسوف مجلسه من ذلك المنظر الفخم؛ وجعل تارة يسرح الطرف في البحر الواسع؛ فتطير شعاعا فوق صفحته أشجانه؛ وتذوب في هدير أمواجه آهاته وأحزانه، وتارة ينثني نحو المرج يداعب منثور زهره؛ ويتسمع سجع طيره، وأخرى يلتفت إلى القصر يسأله أخبار من نزلوه ثم ارتحلوا عنه، وكانوا أحاديث. حتى إذا ما ارتوى الفيلسوف من نسيم البحر؛ وعبير الزهر، وحديث القصر؛ تناول هراوته، وزر معطفه، وعاد يؤم المدينة متثاقل الخطى، مرددا قول الشاعر:
أن الطبيعة أم نستجير بها
…
من جانب للبرايا غير مأمون!
مسارح الأذهان
مشروع مقالة
للأستاذ احمد أمين. أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب
1
جلست إلى مكتبي وأمسكت بالقلم واستعرضت ما مر علي أثناء الأسبوع لأختار منه موضوعا أكتب فيه، فخطر لي أن أكتب في المساجلات الأدبية التي دارت بين شيخ العروبة والأستاذ مسعود في (الطرطوشي ولاردة)، وبين الدكتور زكي مبارك والأستاذ عبد الله عفيفي في كتاب (زهرات منثورة)، وبين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد في (اللاتينيين والسكسونيين). وقلت أن هذا موضوع طريف جدير أن يكتب فيه الكاتب ويعرض فيه لنوعي النقد اللذين ظهرا في كتابة هؤلاء الأدباء؛ فأحد النوعين قاس عنيف، تورط فيه الأربعة الأولون حتى يخيل إلي أنه لم يبق إلا أن يتسابوا بالآباء، أو يتضاربوا بالأكف، ويتبارزوا بالسيوف! والآخر عفيف خفيف كالذي سلكه طه والعقاد، فيه لذع، ولكن بالإيماء والإشارة، وفيه مهاجمة عنيفة، ولكن للفكرة لا لقائلها، ويخيل إلي أنهما إذ تقابلا تعانقا، ومهما أطالا فلن يتباغضا، ليس في أسلوبهما إدلال وفخر وإعجاب وعجب، كالذي بين شيخ العروبة ومسعود، وليس فيه إسفاف وتنابز بالألقاب وإدخال للعمامة والقبعة في وسط المعمعة، كما بين عبد الله عفيفي وزكي مبارك! يدعو أحدهما الآخر إلى التلمذة له، ويلقي كلاهما درسا في النحو على أخيه، ويذكر أن من الألفاظ ما لو ذكرته لهاج بي قراء الرسالة يوسعونني تأنيبا وتجريحا، ولغضب عليً صاحب الرسالة فعاقب مقالتي بإهمالها.
وقلت من الحق أن تصرخ في وجه هؤلاء، وأن تعلن أن نقدهم يعجبك موضوعا ولكن لا يعجبك شكلا، وأن الذوق إذا رقى اكتفى في الخصام بلمحة، وأن الأديب يعجبه التعريض والتلميح، ويشمئز من الهجو المكشوف والتصريح، وأن العامة إذا تسابوا أقذعوا، وأن أولي الذوق إذا تخاصموا كان لهم في الكناية ومراتبها، والإيماء ودرجاته، والتعريض ومقاماته، مندوحة من الأسلوب العريان والصراحة المخزية، وأن الحقيقة الواحدة يمكن أن تقال على ألف وجه، يتخير الأديب أحسنه، على حين لا يعرف العامي إلا وجها واحدا يتلوه
الضرب، وأن في أعناق شيوخ الأدب حقا للناشئة من المتعلمين الذين يضربون على قالبهم ويسيرون على منوالهم، وأن هؤلاء الناشئة ليجدون في هذه الصحف والمجلات مدرسة تثقفهم وتغذيهم، ثم هم بعد قادة الأدب وهداة الأمة، فلو أنا علمنا النشء هذا النقد الذي لا يرعى صداقة ولا يأبه لوفاء كان علينا وزرهم، ووزر الأجيال بعدهم، وكانت مدرستنا التي ننشئها قاسية البرامج فاسدة الطريقة.
وقلت: ان هذه الطريقة لا تخدم الحق كما يزعم أصحابها، فلسنا نطلب منهم أن يسكتوا على باطل، وأن يغمضوا عن خطأ. بل نحمد منهم جدهم في خدمة الحق، وسهرهم في كشف الصواب، ولكنهم يسيئون إلى الحق إذا ظنوا أنه لا يؤدي الا بهجر، ولا يكشف إلا بسباب، والحق إذا عرض في أدب كان أجمل وأجدى على رواده، وإذا عرض في سفه حمل المعاند أن يصر على عناده، وحمل الخجول أن يكتم آراءه في نفسه حتى لا ينهش عرضه ولا تبتذل كرامته، فقل التأليف وضعف الإنتاج.
جال كل هذا في نفسي، ولكني خفت أن أكتب مقالتي في هذا الموضوع، وقلت إن فعلت هاجوا بك وتركوا خصومتهم لخصومتك، وتصادقوا لعداوتك، وقالوا أتلقي علينا درساً في الأدب ونحن أساتذة الأدب؟ ومن أنت وما شأنك؟ وجلسوا مني مجلس الملكين يسألون ويسفهون. وأنت ما أغناك عن هذا الموقف! وما أبعدك من هذا المأزق! فتركت هذا الموضوع وعدلت عن المشروع.
ففيم أكتب إذن؟
2
كنت في الترام عصر يوم من هذا الأسبوع، فصاح بائع الجرائد: المقطم! البلاغ! فلم ألتفت إليه لأني كنت قرأتهما. فلم يصدق أني سمعت فصاح صيحة أنكر من الأولى، فكان موقفي منه هو موقفي، فأمعن في الصراخ وأمعنت في البرود، فما وسعه إلا أن صعد لترام ومسني بالمقطم والبلاغ، فاضطررت إلى أن أقول أني قرأتهما ليصدق أني سمعت وفهمت!
وقلت: إن هذا موضع للكتابة طريف، أدعو فيه إلى دقة الحس ورقة الشعور وظرف المعاملة، فان ذلك لو كان لأغنانا عن كثير مما نلاقي من عناء وجفاء، وما معاملاتنا الا كالآلة بلا زيت: تسير ولكن تصدِّع.
على أنني قلت أن هذا الموضوع من جنس الأول، فلو أن أساتذة الأدب رقوا في نقدهم، لرق بائعو الجرائد في عرضهم.
فعرضت عن هذه إذ عرضت عن تلك.
3
وجلست في مجلس يجمع طائفة مختارة من الأدباء، فعُرضَت بعض القصائد والمقالات، فما من قصيدة أو مقالة إلا استحسنها قوم واستهجنها آخرون، ورأيت من استحسن لم يستطع أن يقنع من استهجن، ولا من استهجن قد استطاع أن يقيم الدليل على من استحسن، ورأيتهم إذا تناقشوا في المعقولات أطالوا حججهم وسددوا براهينهم، وذكروا لقولهم الأسباب والنتائج، وهم أعجز ما يكون عن ذلك في الفنون والآداب.
فقلت هذا موضوع جيد، أليس من الممكن أن يوضع للذوق منطق كما وضع أرسطو للعقل منطقا؟ فلتكتب في (الذوق الفني) ولتحاول أن تبين أسباب الخلاف ووجه الصواب ووجه الخطأ، وترسم سلما للرقي في الذوق تعرف به من اخطأ ومن أصاب، وتبين به علة الخطأ في المخطئ والإصابة للمصيب، وكيف تحكم على ذوق بأنه أرقى من ذوق، كما تحكم على عقل أنه أرقى من عقل.
ولكني رأيت الموضوع عميقا يحتاج إلى أن أفرغ له وأهجم عليه ابتداء من غير أن أشتت فكري في موضوعات مختلفة فأرجأته إلى حين.
وقلت: ما الذي يمنع أن أجعل مشروع المقالة مقالة؟ فليكن!
إلهتي
ما رونق البدر إلاّ
…
أشعة من عيونك
ما سحر بابل إلا
…
إشارة من جفونك
هديتي لآلهي
…
فنوره في جبينك
وحيرتي فيه بعض
…
من حيرني في شئونك
وأنت سر وجودي
…
فكيف أحيا بدونك؟
صالح جودت
قلب!!
يا حسان النبات هاكن قلبي
…
زهرة لا تزال في الأكمام
ملؤه في الصميم عرف شذى
…
من حنان ورقة وهيام
طله باكر الندى فهو غض
…
لم تفارقه روعة الاحتشام
لقنته الطيور في الأيك لحنا
…
وقعته قيثارة الإلهام
وهو نسج الطبيعة الحر قد صا
…
نته عن كلفة وعن أوهام
يرقب الشمس أن تغذيه بالن
…
ور حتى يبيح سر الختام
يوم يفتر بعد طول اغتماض
…
عن غرام لم يفوق كل غرام
جنين - فلسطينح أ
أثر الثقافة العربية في العلم والعالم
بقلم أحمد حسن الزيات
3
لم يشهد الشرق فاتحا قبل العرب يفتح البلدان والأذهان ويستعمر
الألسنة والأفئدة في وقت معا. فاليونان والرومان غزوه بالسيف
والحضارة والعلم، ولبثوا الحقب الطوال يمكنون لأنفسهم فيه، ويطبعون
آثارهم في أكثر نواحيه، حتى إذا وهنت اليد القوية، وأمكن من يده
السلطان الغريب، تنكرت المعارف وعفت الآثار.
وكان ما كان من ملك ومن ملك
…
ثم انقضى فكأن القوم ما كانوا!
ولكن العرب تدول دولتهم وتزول صولتهم ويعمل الفاتح الغشوم في رجالهم السيف، وفي آثارهم النار، حتى إذا ظن انه ملك، وان عدوه هلك، إذا بالعرب يقولون له في كل مكان وفي كل إنسان؛ أنا هنا! وإذا بالمغير المزهو يستسلم لهذه القوة الخفية فتحتل خواطره ومشاعره وكيانه، ثم ينقلب على الرغم منه داعيا لخلافتها ناشرا لثقافتها! فهل رأى التاريخ مثيلا لهذه الأمة التي حكمت الناس ظاهرة ومضمرة؟ وهل رأى التاريخ ضريباً لهذا الشعب الذي طبع قسما كبيرا من الدنيا بطابعه منذ ثلاثة عشر قرنا ثم لا يزال هذا الطابع على رغم العوادي جلي السمات واضح الدلالة؟ فسلطان العرب على العالم قد زال منذ قرون، ولكن ثقافتهم ما تنفك قائمة في الشرق الإسلامي حتى اليوم! ومن الشبيه باللغو أن نفصل أثر هذه الثقافة في أفريقيا وآسيا، فان من خضع للعرب من شعوب هاتين القارتين قد انقطع ما بينهم وبين أسلافهم من صلات اللغة والأدب والعقائد والتقاليد، فأصبحوا لا يتكلمون ولا يفكرون ولا يعتقدون ولا يعيشون إلا بما للعرب من جميع ذلك. وذو الحيوية القوية منهم كالفرس استطاع بعد حين أن يجمع فلول لغته من يد البلى فأعادها إلى الحياة بعد ما اقتبس لها من الألفاظ العربية ما يشارف الستين في كل مائة، فضلا عن استمداده من العربية الروح والحرارة والبلاغة والخط. ومع ذلك ظل الفرس ومن فعل فعلهم يستعملون العربية إلى وقت قريب في التأليف والتعليم والأدب كما كان الأوربيون في
القرون الوسطى يستعملون اللاتينية لمثل ذلك. على أن الثقافة العربية لم تقف في الشرق عند حدود الفتوح وإنما تجاوزتها إلى حدود الهند والصين على يد التجار من العرب، والمهاجرين من الفرس، والغازين من الترك والمغول، فالعرب نقلوا في رحلاتهم التجارية طائفة كبيرة من المعارف إلى تلك البلاد ظنها الأوربيون فيما بعد أصيلة فيها. وقد ألح العلامة سديو الفرنسي صاحب كتاب تاريخ العرب في التدليل على هذا الرأي. والرياضي النابغ محمد بن احمد البيروني المتوفى سنة 430 نقل إلى الهند أثناء اتصاله الطويل بمحمود الغزنوي خلاصات قيمة من العلوم العربية نقلها الهنود إلى السنسكريتية في مثنويات من النظم. وكوبلاي خان المغولي أدخل في الصين طب العرب وبعض ما ألف من الكتب في بغداد والقاهرة. ثم أخذ الفلكي الصيني (كوشيوكنج) أزياج ابن يونس المصري من جمال الدين الفارسي ونشرها في بلاده.
وبينما كان الشرق من أدناه إلى أقصاه مغمورا بما تشعه منائر بغداد والقاهرة من أضواء المدينة والعلم، كان المغرب من بحره إلى محيطه يعمه في غياهب من الجهل الكثيف والبربرية الجموحة، وكان حظه من الثقافة يومئذ ما تضمه حصون الأمراء المتوحشين من بعض الكتب، وما يعلمه الرهبان المساكين من قشور العلم. وانقضى القرن التاسع والقرن العاشر للميلاد وأولئك الأمراء في قصورهم يتبجحون بالأمية ويرتعون في الدماء، وهؤلاء الرهبان في ديورهم يمحون الكتابة من روائع الكتب القديمة لينسخوا على صفحاتها الممحوة كتب الدين، حتى أزال الله الغشاوة عن بعض العيون فرأوا من وراء هذا الظلام الداجي بقعة من المغرب تسطع فيها شمس المشرق، فلما تبينوا أن البقعة هي جزء من أسبانيا، وان النور قبس من نور بغداد، استيقظفي نفوسهم طموح الكمال الإنساني فطلبوا العلم فلم يجدوه إلا عند العرب. ففي سنة 1130 أنشئت في طليطلة مدرسة للترجمة تولاها الأسقف (ريموند) وأخذت تنقل جلائل الأسفار العربية إلى اللاتينية وأعانهم على ذلك إليهود، فبعثت هذه الترجمة في أوربا الخامدة شعورا لطيفا وروحا طيبة، وتضافرت على هذا المجهود النبيل قواعد أخرى للترجمة طوال القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر حتى بلغ ما ترجموه من العربية يومئذ ثلاثمائة كتاب أحصاها الدكتور (لكلارك) في كتابه تاريخ الطب العربي وأحصاها غيره أربعمائة. وكان أكثر ما ترجم في هذه العهود
كتب الرازي وأبي القاسم الزهراوي وابن رشد وابن سينا وما نقل إلى العربية من اليونانية لجالينوس وأبقراط وافلاطون وأرسطو واقليدس الخ. . . وظلت هذه الكتب المنقولة منهاجا للتعليم في جامعات أوربا خمسة قرون أو ستة، واحتفظ بعضها بقوته وقيمته حتى القرن التاسع عشر ككتب ابن سينا في الطب مثلا، وكان ابن رشد هو المهيمن المطلق على الفلسفة في جامعات فرنسا وإيطاليا وبادو على الأخص ابتداء من القرن الثالث عشر. ولما أراد لويس الحادي عشر تنظيم التعليم سنة 1473 أدخل في المنهج فلسفة ابن رشد وارسطو. فلولا وجود العرب في الأندلس وترجمة علومهم في صقلية والبندقية لما تهيأ للقرون الوسطى أن تظفر بكتاب من كتب اليونان ولا أثارة من علم العرب، ولما تيسر لطلاب العلم من الأوربيين أن يردوا مناهله الصافية في جامعات اشبيلية وقرطبة وطليطلة. قال المؤرخ الإنجليزي جورج ملر في كتابه فلسفة التاريخ: إن مدارس العرب في أسبانيا كانت هي مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوربيون يهرعون إليها من كل قطر يتلقون فيها العلوم الطبيعية والرياضية وما وراء الطبيعة. وكذلك أصبح جنوب إيطاليا منذ احتله العرب واسطة لنقل الثقافة إلى أوربا. وممن ورد تلك المناهل الراهب جربرت الفرنسي. فانه بعد أن ثقف علوم اللاهوت في (أورياق) مسقط رأسه جاب عقاب (ألبيرانس) والوادي الكبير حتى ورد اشبيلية. فدرس فيها وفي قرطبة الرياضيات والفلك ثلاث سنين. ثم ارتد إلى قومه ينشر فيهم نور الشرق وثقافة العرب فرموه بالسحر والكفر، ولكنه ارتقى إلى سدة البابوية سنة 999 باسم سلفستر الثاني. كذلك تخرج على علماء قرطبة (شانجة) ملك ليون واستوريا، وأولع بعض أمراء إيطاليا بالعربية وعدوها لغة الأدب العالي، وأوصى قومه الراهب (روجر بيكون) الإنجليزي في كتبه بتعلم اللغة العربية وقال:(إن الله يؤتي الحكمة من يشاء، ولم يشأ أن يؤتيها اللاتين، وإنما آتاها اليهود والإغريق والعرب) وروى فولتير أن جميع ملوك الفرنج كانوا يتخذون أطباءهم من العرب واليهود، وذكر مثل ذلك (جيبون) في الفصل الثاني والخمسين من كتابه تاريخ اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها، وزاد عليه أن مدرسة (سالرنو) التي نشرت الطب في إيطاليا وسائر أوربا كانت غرس العبقرية العربية. وقال المسيو ليبري (امح العرب من التاريخ تتأخرنهضة الآداب في أوربا قرونا طويلة) وتلك حقيقة لا ريب فيها. فان العرب كانوا الحلقة التي لابد منها لصلة المدنية
القديمة بالمدنية الحديثة. فهم الذين وقفوا أوربا على مخلفات اليونان وغير اليونان، وهم الذين عالجوا هذه العلوم بالتجربة والاختبار لا بالحفظ والتكرار، حتى جلوا غامضها ونقدوا زائفها ورفعوا مباحثها على أساس من النظر الصحيح. ومالنا نحمل تبعة الكلام ونتعرض للنقض والإبرام وقد كفانا الأمر ثقاتهم ومنصفوهم؟ قال المؤرخ الإنجليزي (ولز) في كتابه ملخص التاريخ:(هب العرب يظهرون ما خفي من مواهبهم فبهروا العالم بما أتوه من معجزات العلم وأصبح لهم السبق بعد اليونان فبعثوا كتبهم من مراقدها. ونفخوا فيها من روحهم الحياة والقوة، فجعلوا بذلك سلسلة العلوم متصلة الحلقات محكمة السرد لا يمسها انقطاع ولا وهن. فإذا كان اليونان آباء الأبحاث العلمية المبنية على الصراحة والأمانة والوضوح والنقد، فان العرب مربوها؛ وما جاءنا العلم والمدنية الا عن طريقهم لا عن طريق اللاتين) وأنكر كاتب من الإنجليز فضل اليونان على العلم الحديث وعزاه كله إلى العرب قال: إن العلم الحقيقي إنما دخل أوربا عن طريق العرب لا عن طريق اليونان، فان الرومان أمة حربية، واليونان أمة ذهنية، وأما العرب فكانوا أمة علمية.
لبث الفرنج يا سادتي في طور التخرج والنقل حين أخذوا عن العرب، أكثر مما لبث العرب في هذا الطور حينما أخذوا عن اليونان. فان من اليسير أن نعد كثيرا من العرب قد بذوا أساتذتهم من اليونان قبل انقضاء قرن على الترجمة، ولكن من المستحيل أن نعد من الفرنج مؤلفا واحدا قبل القرن الخامس عشر كان يعمل شيئا غير النقل عن العرب أو الجري على أسلوب العرب، فرجور بيكون، وليونارد دبيز، وأرمان دفيلنوف، وريمون لول، وهرمان الدلماشي، وميخائيل سكوت، ويوحنا الاشبيلي، وسان توما، وألبيرلجراند، والفونس العاشر أمير قشتاله، لم يكونوا غير تلاميذ للعرب أو نقله عنهم. قال مسيو رنان: إن البير لجراند مدين بعلمه كله لابن سينا، وسان توما مدين بفلسفته لابن رشد.
أسمعوا يا سادتي ما يقول (بترارك) شاعر إيطاليا العظيم ينعى على قومه تخلفهم في مضمار العلم وقعودهم عن مجاراة العرب، والشاعر من رجال القرن الرابع عشر فلا جرم أن شهادته حجة: قال في لهجة مرة من الإنكار والتعجب:
(ماذا! ماذا! أبعد ديموستين يستطيع شيشرون أن يكون خطيبا، وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعراً، وبعد العرب لا يستطع أحد أن يكتب؟ لقد ساوينا الإغريق غالبا
وشأوناهم حينا. وإذا شأونا الإغريق فقل شأونا جميع الأمم ولكن ما عدا العرب! يا للجنون! يا للضلال! يا لعبقرية إيطاليا الراقدة أو الخامدة!!)
هذه يا سادتي صفحة واحدة من صفحات الثقافة العربية تعب فيها الإيجاز وضاق عنها الوقت. ظهر فيها أثرها العلمي العالمي على عموميته وإجماله ناصع البيان مشرق الدلالة. وتراءى من خلالها الذهن العربي ساطع العبقرية باهر الجلالة، فهل من الإخلاص للإنسانية والمدنية أن نترك هذا التراث الفكري العجيب يذهب ضحية لخطأ الحكم في الماضي وسوء الفهم في الحاضر؟ أن الثقافة اليونانية وهي أقدم من العربية لا تزال تستغل، وأن الأدب الأوربي ليستمد من روحها قوة ومن قديمها جدة، وأن ثقافة العرب وهي عصارة أذهان الشعوب وخلاصة أديان الشرق لحرية أن تبعث في آدابنا القوة وفي أخلاقنا الفتوة وفي نهضتنا الطموح والحركة على أن هناك صفحات ناصعات من هذه الثقافة في الخلق والأدب والفن سنجعلها موضوع محاضرة أخرى في فرصة أخرى. . .
رفائيل
للدكتور عبد الوهاب عزام
البارحة بعد نصف الليل أتممت قصة رفائيل قراءة. وكنت بدأت قراءتها منذ زمان بعيد فتطاول الأمد، وتثاقلت النفس، تثاقل الغم والحزن على قلبي جوليا ورفائيل.
ما حسبت قط أن الحزن الذي شربته جرعات، وأشربه قلبي وأحسسته حينا بعد حين يبلغ بي هذا المبلغ. بلى؛ أذكر أني في إحدى الليالي وقفت القراءة إشفاقاً على نفسي حينما بلغت برفائيل وجوليا حديقة منسو. وحم هنالك الوداع! أذكر أني حينئذ وضعت الكتاب على حافة السرير، وألقيت على الوسادة رأسا بنوء بالهموم، فماج بي الليل وطار الفكر في أرجاء السماوات، وقذف القلب بأحزانه زفرات، ودارت النفس في أعماق من الظلام والفكر ما لها من قرار. ولكني ما حسبت قط أن الحزن آخذ بي إلى هذه الغاية. وأذكر في هذه القصة مواقف موجعة، ومشاهد مروعة. أذكر جوليا ورفائيل، وهما في نفسيهما مأساتان أحكم الله تأليفهما. وبعث بهما إلى الأرض في صفحات الحادثات أو في صفحات لا مرتين ليقرءوا على مر الأيام. . وأذكر البحيرة، بحيرة (برجيه) يوم جمع القضاء بين حبيبين لا يعرف أحدهما الآخر، فكأنهما التقيا على موعد بعد أن برح يهما الشوق، وأمضهما الانتظار، ويوم حان فراق اكس، ورحلت جوليا إلى باريس فتبعها رفائيل يرقبها عن كثب وهي لا تدري، وينجدها كلما عرض لها ما تكره؛ حتى أبلغها دارها ثم رجع، وأذكر تلاقيهما في باريس يجتمعان على هوى عذري، وفرح هو أشد ضروب العذاب، في ملتقى حبيبين هو أشبه بمأتم تهيأ فيه للقضاء الذي ليس منه مفر. ويوم يبيع رفائيل لؤلؤة أمه وهو يبلها بدمعه ليستطيع الإقامة على مقربة من جوليا، ويوم ذهب إلى أمه فأخبرها أن الطبيب أشار عليه بالمسير إلى سافورا، فلا تجد أمه بدا أن تقسو على أعز صديق وأنفس ذخيرة وأجمل ذكرى: الشجرات اللاتي يظللن المنزل واللاتي حنون على هذه الأسرة دهراً طويلا! فكان في ظلالهن مسارح اللهو ومدارج الصبا لرفائيل وأمه وأبيه. فانظر كيف تضطرها الأقدار، أن تسلط الفأس على هذه الأشجار!
كل أولئك أذكره، وأنها لذكرى ممضة. ولكن ما حسبت قط أن يبلغ الحزن بي هذا المدى!
البارحة بعد نصف الليل أخذت الكتاب أقرأ الوريقات القليلة الباقية ونفسي تضطرب فزعا
مما سيلقاها في ثنايا هذه الصفحات التي بدت كأنها صحف الغيب تنفتح عن المقادير واحدا بعد آخر.
حتى إذا بلغ رفائيل الكوخ الذي حمل إليه جوليا، فلم ير الا ظلاما ولم يسمع بين الظلام نأمة حي، فدار يقبل الجدار والجدار، حتى بلغ المكان الذي ركع فيه بين يدي جوليا وهي في غشيتها يوم البحيرة. ثم يتحامل إلى جدول يأكل على حافته ما يمسك ذماءه. على ذكرى قاتلة، وحرقة يعيا بها الوصف.
قرأت حتى جاء الملاح إلى رفائيل برسالة من صديقه لويس يبلغه رسائل جوليا، فعاد رفائيل إلى حجرته يسير إلى مهلكه على شعاع ذاو من أشعة الشمس الغاربة. يفض رفائيل الغلاف عن رسالة لويس ثم عن رسائل باريس فإذا كتاب معلم بالسواد، وإذا خط (ألن) لا خط جوليا. يقرأ سطورا سوداء تنعى إليه جوليا. وينظر بصره الزائغ فإذا خط جوليا نفسها، أجل خط جوليا نفسها، ولكنها كلمة أرادت قلمها عليها وهي في غمرات الموت تعزي رفائيل عن نفسها، فلله ما أفظعها تعزية! تركت رفائيل يخر مغشيا عليه. وخررت على فراشي فبكيت ثم بكيت ثم لج بي البكاء.
وحاولت سدى أن أسكن جأشي أو أكفكف دمعي، ما تعمدت البكاء ولا رجوته، ولا خلت أن أنتهي إليه، ولكنه كان وحيا من الحزن والدمع لا أعرف من أين هبط، بل ثورة من هموم راكدة، وأحزان كامنة، كانت قصة رفائيل لها كقداحة الزناد. أو كضربة مسحاة على نبع يدافع الثرى لينفجر.
كذلك انتهت بي قصة رفائيل، وكذلك أبكي لامرتين بعد مائة سنة شاعراً مجهولا يشبه لامرتين طبعاً مكتئباً، وقلبا منقضباً، ونفساً ملتهبة. شاعرا قد يبلغ به الاعتداد بنفسه أن يظن أن ليس بينه وبين أن يكون لامرتينا آخر الا (التأملات).
كذلك فعلت بي قصة رفائيل، فلما أفقت لم أدر أأساء إلى لامرتين أم أحسن، ولم أدر أأحمد صديقي الزيات أم ألحاه؟.
هذا الغروب.
. .
للأستاذ راشد رستم
شهدت غروب الشمس في كل ناحية من نواحي هذا الوادي الفسيح الممتد: رأيت الشمس من أعلى الهرم الأكبر تذهب مع ذهب الصحراء، ورأيتها تختفي وراء صفحة الماء، أو تودع حسرى خلف جبال ليبيا، أو تغيب كاسفةً وراء الأفق بين أطلال وآثار، أو تغوص في لجة الغيب تحت إشراف المنائر وأعالي الأشجار، أو تحتجب عن الأبصار وسط جمع من كثيف السحاب، أو تذوب في سماء صافية تمسحها من لوحة النهار يد الليل القاتمة، ولها في كل حال ما شاءت لها الأيام من وحشة ومن وراء.
وهؤلاء القدماء آباء هذا القطر القديم كانوا يسيرون، هادئين طائعين، مع الشمس حتى الغروب: كم أعطتهم حياة وحرارة! وكم أمدتهم بأسباب الخلود في الجلمود! وهم اليوم قد غابوا عنها. أما هي فما غابت عنهم ولن تغيب عنا وإنما يأتي اليوم الذي نغيب نحن فيه كما غابوا وكما تلقيناها نحن عن الأجداد سيتلقاها عنا الأحفاد.
وهذه الشمس المانحة، تسير عبر الوادي سابخة، كما كانوا يقولون، تقبل عليهم نياما وتتركهم أيقاظا، تمنهحم بهجة النهار، وتنزل عليهم سكينة الليل، ولكنها بين ذلك قد تأتيهم وقت الغروب بالوحشة ذات الخفايا والظلمات، حتى ليظنون في يقين أن هذا الغروب وداع للنور وتسليم بظلمة الوجود.
ينقطعون عن الحي الصاخب المتحرك، ويدخلون البيوت الهادئة الساكنة كأنهم يدخلون القبور، وفي السكون مع الهدوء تنشأ الحركات - ولكنهم يتركون الفضاء الواسع والنجم الساطع ويخضعون لكابوس الليل الزائل، يسيرون بالركب وئيدا مستسلمين، يضمهم وينضمون إليه وهم فيه صامتون، إلا ما كان أمراً لصارخ بالسكوت، أو زجراً لسريع بالهدوء، أو همساً لآمل باليأس الممقوت. . .
أما أنا فما ساءني غروب في هذا الوادي الخصيب، بل دلني كل غروب، في اختلاف حالاته، على انه حركة تتلوها حركات، وانه علامة للفصل، تنبئ عن وجه جديد بشروق جديد، في نور جديد بأمل جديد. . وهكذا حييت مع هذا الفاصل، متصلا دائما بالأمل الجديد. . .
ولم أسأل نفسي ولن أسألها عما يكون مع الشروق الجديد، ولن أسأل غيرها عن غدها إذ الكل على الغد عيال، وما عرفنا عند الناس علم الغيب ولا عناوين الأيام.
إنما أناجي نفسي كل غروب: ماذا أعددت للغد أيتها النفس الساكنة في قلق، الآملة في يقين؟ ماذا هيأت من أثر يضاف إلى آثار سابقات، أو من حسنة تمحو سيئات، أو من بسمة تذهب بالآهات، فيكون ذلك منك فهماً لمعنى الواجب بل لمعنى الحياة. . .
حتى إذا سحبت الشمس بعد غروبها ذيل ضيائها وتمكن الليل من الأحياء، فأني أودع صاحبي وأقول: قم يا صاح فللغروب شروق، وللمساء صباح. . .
فلسفة نيتشه
للأستاذ زكي نجيب محمود
لسنا نحسب أن داروين، حينما أذاع رأيه في تنازع البقاء وبقاء
الأصلح، كان يدور في خلده أن ذلك الرأي سيكون له من العمق
والسيطرة الفكرية ما له اليوم، وأنه لن يقتصر على الأحياء من نبات
وحيوان، بل سيتعداها إلى كل لون من ألوانالنشاط الإنساني؛ فأساليب
الحكم، والدين، والأدب، والفن، والفلسفة، كل هذا وما هو أدق من هذا
وأجل، يحاول الكتاب الآن أن يخضعوه إخضاعاً لقانون تنازع البقاء.
فعسانا لا نسرف في القول إذا زعمنا أن داروين هو رب الفكر
لحديث، يتأثر خطاه آلاف المفكرينوالكتاب، وأصبح بقاء الأصلح
غرض الرمي في الكثير الغالب من أبحاث العلم والفلسفة والفن جميعاً.
وفلسفة نيتشه هي واحدة من تلك الفلسفات العديدة التي يرجع نسبها إلى قانون داروين، فقد استولد نيتشه ذلك القانون واتخذ منه مقدمة، ثم استخرج فلسفته كنتيجة لازمة لتلك المقدمة، ولم يجد التردد إلى نفسه سبيلا في إذاعتها في الناس على خطورتها، واقعة ما وقعت من نفوسهم.
ما دام قانون تنازع البقاء وبقاء الأصلح يسيطر على كل مظاهر الحياة، فلابد للواهن أن يخور ويتلاشى، ولابد للقوة في كل شيء أن تظفر آخر الأمر، وإذا فالمثل الأعلى للفضيلة هي القوة دون سواها، والضعف هو علة العلل وآفة التقدم. فأيا كانت الأخلاق التي تثبت قدمها في معترك البقاء، فهي الفضيلة وهي الخير، وأيا كانت الأخلاق التي تخور قواها فتسقط صريعة في الميدان لتخلي الطريق لسواها فهي الرذيلة وهي الشر.
هكذا يبدأ نيتشه منطقه ثم يتابع هذا المنطق إلى نهايته، حتى يصل آخر الأمر إلى نتيجة خطيرة كل الخطر: إلى نبذ المسيحية بل إلى نبذ الأديان جميعا ما دامت تنتشر مبادئ العطف والإيثار والاستسلام؛ ثم ينادي بدوره بوجوب القسوة والقوة والعنف لأنها قوية،
ولأنها أقدر على البقاء.
الإنسانية في حياتها وفي تقدمها تحتاج إلى القسوة دون الرحمة، وإلى الكبرياء دون التواضع، وإلى الذكاء والسيطرة دون الإيثار. أما هذه المساواة والديمقراطية التي اتجهت إليها الشعوب في التاريخ الحديث، فإنما تقف عقبة كؤوداً في سبيل الانتخاب الطبيعي للبقاء، فليس في الكثرة العددية والجموع البشرية كمال الإنسانية المنشود. ولكن في الصفوة القوية العبقرية وحدها. إذا فليس من المنطق في شيء أن تكون المساواة أساس الأجتماع، تلك المساواة التي تحد من قوة القوي، وتضيف إلى الضعيف قوة مصطنعة أبتها عليه الطبيعة. فلننبذ الديمقراطية نبذ النواة، ولنخل الطريق أمام القوة لكي تستطيع أن تتبوأ مكانها وتتحكم في أعناق الجماهير، وليكن المثل الأعلى في الحكم هو بسمارك وأشباهه الذين يسوسون الشعوب بالنار والحديد.
الأخلاق
أراد نيتشه أن يقوض بناء الأخلاق السائدة من أساسه، ليقيم على أنقاضه بناء خلقياً جديداً. أراد أن يبيد هذا النوع الإنساني ليخلق ضرباً آخر من الإنسان قوياً عنيفاً ذكياً كما يريد: هو السوبرمان (الإنسان الأعلى).
فقد شهد التاريخ نوعين مختلفين من الأخلاق: أخلاق نبيلة سامية، كانت شعار الشعوب القديمة، وبخاصة الرومان. إذ كانت الفضيلة تعني الرجولة والجرأة والشجاعة، وأخرى وضيعة دنيئة ظهرت في الشرق، اصطنعها اليهود اصطناعاً أيام ضعفهم. حيث الفضيلة عبارة عن مجموعة من صفات ترجع في أصولها إلى الخوَّر والاستكانة والذل. فالخضوع قد خلق التواضع خلقا، والعجز كون الإيثار تكويناً، وهكذا نسج القوم حولهم نسيجا من الأخلاق الهزيلة الخائرة يدرعون بها حيث لا مقدرة لهم ولا سلطان، ونزعت النفوس إلى السلم والتماس لنجاة، بعد أن كانت تلتمس مواضع القوة والخطر؛ فحل الخداع والمكر محل القوة، والإشفاق والعطف مكان الصلابة والعنف، وجاء التقليد دون الابتكار والإنشاء، وقام الضمير حكماً يلتجأ إليه مقام التفاخر بالشرف. . فالشرف وثني، روماني، أرستقراطي؛ أما الضمير فأثر من آثار اليهودية فالمسيحية فالديمقراطية.
ويقول نيتشه إن الأنبياء استطاعوا بما أوتوا من قوة الشخصية. وسحر البيان أن يزينوا
للناس ذلك النوع الهزيل من الأخلاق، حتى رسخت في نفوسهم وأصبحت عقيدة ليس إلى نبذها من سبيل، فإتقلبت الأوضاع، وأصبح الفقر والضعف هما جوهر الفضيلة، والقوة والثراء عنوان الرذيلة.
وقد بلغ هذا التقدير الخلقي أقصى حدود التقديس أيام المسيح الذي جعل الناس جميعا سواسية، ومن هنا أشتق العصر الحديث مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، التي يعتقد نيتشه أنها الطريق المؤدية إلى الدمار والخراب.
ولكن الطبيعة تأبى الا أن تهدي الإنسانية سواء السبيل، فزودتها بإرادة غريزية لا تخطئ ولا تطيش لها سهام، فأنت إذا أمعنت النظر في الطبائع البشرية، أيقنت أن هذه الأخلاق السائدة من عطف ورحمة وإيثار وتضحية وما إلى ذلك، ليست الا ستاراً رقيقاً يخفي وراءه دافعاً غريزياً يمتلك من الإنسان قياده، نعم ذا أنت أمعنت في تحليل النفس الإنسانية، وجدت (إرادة لقوة) مستقرة في صميم الأعماق، تسير بالإنسان حيث تشاء. أعني أن الإنسان يلتمس القوة والسيطرة في كل ما ينزع إليه من أعمال وما يجيش في نفسه من مشاعر، وهذا الحب الذي يتخذه كثيرون دليلا على الإيثار بحجة أن التضحية فيه واضحة لا تحتاج إلى دليل هو في أعماقه رغبة في التملك، فما يبذله المحب في سبيل حبيبه يدفعه ثمنا للسيطرة على مخلوق آخر!! بل يزعم نيتشه أكثر من هذا فيقول إن من يتفانى في البحث عن الحقائق، لا يصرف مجهوده في سبيل الله من دونه. بل هو في الواقع يحاول أن يمتلك الحقائق قبل الآخرين.
وإرادة القوة هذه تملي على الإنسان ألوان الفلسفة وشتى ضروب الفكر، فمخطئ واهم من يحسب أنها تمثل الحقائق الواقعة، وإنما هي صورة منعكسة لرغباتنا، فالفيلسوف لا يضع المقدمات الصحيحة ثم يستنبط منه حكمته، ولكن الفكرة تنشأ وتتكون في ذهنه أولاً ثم يجيء بعد ذلك المنطق الذي يبررها.
فهذه الرغبات الغريزية المستترة وراء تلك الحجب الكثيفة من الأخلاق الظاهرة، هذه (إرادة القوة) هي التي توجه ميولنا وتكون آراءنا.
فالمنطق إذا ثوب رياء نخدع به أنفسنا، أو بعبارة خرى، تتخذ إرادة القوة من المنطق مبررا لأعمالها أمام العقل الإدراكي، ولكن الرجل القوى لا يحاول أن يستر إرادته وراء
هذا الستار المنطقي الشفاف، الرجل القوي لا يعرف الا منطقا بسيطاً ينحصر في كلمتين، هما:(أنا أريد) ومتى أراد فلا حاجة إلى التماس المبررات. ولكن جاءت المسيحية فعكست الأوضاع الطبيعية. وأصبح الرجل القوي يستحي من قوته، ولابد له من البحث عن منطق لرغباته. وبذلك أخذت الأخلاق الأرستقراطية القوية الصالحة تذوي وتندثر، ونهضت قطعان الشعوب تقيم على أنقاضها صرحاً جديداً للأخلاق التي تلائم ضعفهم، وليس من سبيل إلى الشك في أنه إذا أرغمت أنوف الأقوياء، وأخذت السوقة تتبوأ مكان الزعامة من الإنسانية، فهي سائرة بخطى حثيثة إلى الدمار والفساد. ولسنا بحاجة إلى أن نقول إذا كانت الشفقة والرحمة والسلام خيراً، فليست الصراحة والعنف والحروب بأقل منها نفعا للمجتمع الإنساني: وبديهي أن هذه الأخلاق قد دافعت عن بقائها طوال العصور، ولم تبق الا لأنها نافعة وصالحة. ولولا أن (الشر) خير لاختفى من الوجود. فمن الحمق أن ننشد خيراً مطلقاً. بل لابد للأخلاق أن تتطور في الخير والشر على السواء، أي لابد للخير والشر أن يقفا جنبا إلى جنب، وأن يأخذ كل سبيله إلى الارتقاء.
السوبرمان
ما دامت الأخلاق تنزع إلى القوة في تطورها، فغرض الإنسانية لا يجوز أن يلتمس في السمو بالطبقات جميعا، وإنما يلتمس في تكوين نخبة صالحة؛ في تكوين السوبرمان، ومن العبث أن ينصرف المجهود البشري نحو إسعاد السوقة. بل يجب أن يتجه بكل قوته نحو إبادة هذا النوع من البشر، وإيجاد نوع أعلى مرتبة في الأخلاق؛ وانه لخير للإنسانية ألف مرة أن تتلاشى وتندثر من الوجود إذا لم تكن سائرة نحو تحسين النوع والارتفاع به. فليس المجتمع غرضا في ذاته، إنما هو أداة لزيادة قوة الفرد ونمو شخصيته، وهذا الفرد القوي السامي هو السوبرمان. الذي يؤمل نيتشه أن يخرج من أحضان الإنسان الحالي، وهو لا يعتمد في ذلك على الانتخاب الطبيعي، بل يريد أن يتعمد تكوينه بوسائل التربية، لأنه لاحظ أن تطور الحياة الطبيعي لا يعمل على إيجاد الفرد القوي الممتاز، وأن الطبيعة أقسى ما تكون على خيرة أبنائها، فلا سبيل إلى السوبرمان إلا بالانتخاب الصناعي والأخذ بوسائل (اليوجنية) والتربية الكاملة، وهو يقترح لتحقيق ذلك أن نعني بزواج الرجال الأقوياء من نساء ذوات قوة ممتازة، حتى لا يكون الزواج لمجرد التكرار، بل أداة للتسامي،
فإذا ما أنتج ذلك الزواج نسلا، أعددنا له مدرسة خاصة تروضه على القسوة والعنف والجرأة والشجاعة، لا يتردد في تنفيذ أغراضه مهما اعترض سبيله من عقبات، غير عابئ بشر أو بخير، فليس الخير إلا ما يزيدنا شعورا بالقوة، وليس الشر الا ما تخور معه العزائم.
الأرستقراطية
الأرستقراطية وحدها هي الطريق إلى السوبرمان، فيجب أن نبحث الديمقراطية من أصولها، وأن نحطم في سبيل ذلك المبادئ المسيحية بأسرها لأنها والديمقراطية صنوان.
الديمقراطية معناها الدمار، معناها أن يتصرف كل جزء من الكل العضوي كيفما شاء، معناها التحلل والفوضى، معناها استخفاف بالعبقرية والنبوغ. معناها استحالة ظهور العظماء، إذ كيف يخضع العظيم لمهزلة الانتخابات، وهذه الشعوب تنبذ النفوس الكبيرة الحرة الجريئة نبذ الكلاب للذئب الجسور؟ نعم تنبذ النفوس الثائرة على القيود والعبادات، والتي لولاها لظلت الإنسانية حيث بدأت في ركود مميت. فكيف السبيل إلى استنبات السوبرمان في مثل هذه التربة الجدباء؟ كلا! لا سبيل إلى ذلك في مثل هذا المجتمع الذي يرفع على أكتافه رجل الأغلبية دون الرجل العبقري العظيم. في مثل هذا المجتمع الذي يحاول عبثا أن يسوي بين أفراد جعلتهم الطبيعة درجات بعضها فوق بعض.
وإذا كان نيتشه ينادي باقتلاع الديمقراطية وتحطيمها. فهو بالتالي يسخر من الاشتراكية لأنها وليدة الديمقراطية وربيبتها، فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً، أفلا تكون المساواة الاقتصادية عدلا كذلك؟
لا! العدل أن لا مساواة بين الرجال، والطبيعة نفسها تأبى هذه المساواة وتسعى جهدها في تباين الأفراد والطبقات والأنواع.
الحوت الكبير يلتهم السمك الصغير، هذه سنة القوة وخلاصة الحياة؛ فلتكن كذلك سنة الإنسانية ومثلها الأعلى في الأخلاق بغير مواربة ولا رياء.
نقد
يدعو فردريك نيتشه الإنسان الحالي إلى الفناء والتضحية بنفسه في سبيل السوبرمان، ومن
التناقض الظاهر أن يصدر عنه نداء بالتضحية في الوقت الذي يؤكد فيه أن الأخلاق القوية الصحيحة هي التي تدور حول الأنانية والاعتزاز بالنفس! كيف تريدني على إنكار نفسي وتمهيد الطريق لسواي، أستغفر الله بل تدعوني إلىإخلائها وتركها لمن هو خير مني، وفي هذا من الاستكانة والضعف ما يعود نيتشه فينكره أشد إنكار؛ ولم لا أثبت أنا في الميدان؟ ولم لا أكون أنا السوبرمان المنشود بعد إصلاح ما اعوج من طبيعتي؟ كذلك يريد نيتشه أن يقوض الأخلاق السائدة التي تعتمد على الرحمة والإيثار والعطف، ويقول أن ذلك خلقه الضعيف خلقا ليتقي به القوي وقسوته؛ وكم كنا نود أن نسأله كيف تغلب الضعيف حتى سادت آراؤه وأصبحت أخلاقا معترفا بها؟ وأين كانت الأرستقراطية القوية عندما شهرت صفوف الشعب في وجهها هذا السلاح الرهيب؟
الحق الذي لا شك فيه أن النزعات والأخلاق جميعا قد فرضها القوي على الضعيف فرضا، فان كان بها من الوهن شيء، فلا يقع تبعته إلا على عاتق القوي الذي يروج لحكمه نيتشه.
بين كرامة الثقافة وضآلة المهنة
في العالم الأوربي والأميركي ملايين المثقفين الذين تلقي بهم المقادير مكرهين إلى المهن الضئيلة في غير رفق ولا رحمة، فلا يقال إن العلم بذلك قد أهينت كرامته وانتهكت حرمته، لأنهم يفهمون العلم على أنه سبيل الرجولة التي تدفع بصاحبها إلى الضرب في زحمة الحياة في غير ترددأوتبرم حتى يساهم في الإنتاج وقد أنف من أن يعيش حميلة على غيره. . أما نحن فنفهم العلم على أنه الوسيلة إلى المكاتب الفخمة والمراوح الجميلة والأبهة المرموقة والفخفخة المغبوطة، ولذلك أصبحت للعلم في مصر كرامة (محلية) خاصة بهذا البلد التعس ينبغي إن ذكرتها أن ترفق بها ، وألا تشتد عليها وإلا فقد أدميتها بشدتك وآذيتها بقسوتك. .!
هذا الترفه في مظاهر الحياة آية الأمم عندما تدب إليها الشيخوخة ويمضي عهد شبابها. ولست أجد شاهدا على صدق هذا أعدل من الدولة الرومانية التي أصابت في عهد فتوتها من الغنى والثراء والأسرى ما أدخل الغرور إلى نفوس أبنائها، فمالواعن فلاحة الأرض واستثمارها، وجنحوا عن الاشتغال بالجندية إلى اللهو والترف، فلم يغن عنهم ما لهم وعبيدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعلومهم. وارتج عرش دولتهم أمام القبائل المتوحشة من الصقلب والكلت والجرمان. وما لبث التاريخ أن شهد مصرع الدولة العظيمة ومجدها يتوارى، وعزها يغرب، وجلالها يميل إلى الانحدار. .!
نعلم أن من طبيعة المجتمع أن يحن إلى الكمال، وينزع إلى المثل الأعلى، ولا يقيم على حب (الواقع) فيطمح إلى ما ينبغي أن يكون. ولا أكاد أشك في أن المجتمع لا يسعه أن يحقق مثله الأعلى كما ينبغي أن يحقق إن ظلت المهن التافهة مقصورة على الأميين والجهلة. لأن جمودهم الذهني وظلامهم العقلي يحولان دون تطور هذه المهن وتدرجها إلى الكمال. وهكذا حدثنا تاريخ الزراعة في مصر. . شغل بها الجهلة ومال عنها المثقفون من طلاب الزراعة الذين انطلقوا كلما أتموا دراستهم يبحثون عن وظيفة يظفرون فيها بالمكتب والمروحة وما إليهما من راحة ونعيم. . فكانت النتيجة أن الفلاح المصري ما زال يستخدم من الآلات ما كان يستخدمه أجداد أجداده الأولين. ولو مارس المهنة المثقفون من طلاب الزراعة لتطورت على أيديهم وسارت إلى الكمال بين الحين والحين. وبدت آياتها في شتى مناحيها، ولكن هؤلاء قد جهلوا أن غاية العلم تنحصر في (خدمة المجتمع). ولست
في شك من أن السائح الذي يرى معالم النهوض تبدو في مصر واضحة في العمارة والعلم والفن والاقتصاد، ثم يشهد الانحطاط لذي يدب في مهنة الزراعة عندنا سيأخذه الذهول والعجب. . . إذا أردنا أن نحقق للمجتمع مثله الأعلى الذي ينشده ويحن إلى تحقيقه فلنعد إلى شتى طبقاته ونوجد بينها التعاون الفكري ليوجد التوازن في التطور الذي يعم الحياة ويسود مرافقها. . .
وأظن أن المجتمع يحسن إلى نفسه كثيرا إن هو غير نظرته إلى المهن التافهة، لأن الاحتقار الذي يصبه الناس عليها يباعد بينها وبين رغبة المثقفين في الاشتغال بها. . كان توماس كارليل يتغنى بالبطولة ويناشد الإنسانية عبادة أصحابها وإجلال شأنهم. فما تاريخ الإنسانية في زعمه الا تاريخ العظماء من أبنائها. .! ولكن سبنسر يقول إن البطل يبني عظمته على حساب من يبخل عليهم المجتمع باحترامه. . . فمن جهاد الجندي المسكين استعار القائد عظمته ومن شقوة العامل المعذب استمد الثري راحته. فمن الظلم والجور أن نقول أن تاريخ الإنسانية بأسرها تاريخ العظماء من أفرادها. .
ولكن الإنسانية قد بدأت تكفر عن سيئاتها حين هبت تحيي الجندي المجهول (في ميدان الحرب) وترفع من شأنه وتجل من ذكره، وقد بقي عليها أن تمضي إلى إجلال الجندي المجهول في ميدان السلم، إذ ما زالت تعيش على عرق جبينه في الكثير من مناحي حياتها. وأكبر ظني أن هذا الإجلال الذي سيظفر به الجندي المجهول قبل أن يواريه التراب خير ما يمهد للمثقفين الطريق إلى الاشتغال بالمهن الضئيلة.
تساءل صاموبل سمايلر: أيهما يخفض أو يرفع من شأن الآخر: المهنة أم الإنسان. .؟ إنما يرفع من شأن المهنة التافهة ناضج الفكر سليم العقل، وكأنما تستعير المهنة من جلاله جلالة، ومن رهبة مكانته قداسة. . وهذا بالإضافة إلى نتاجها الذي سيربو ويزداد على يديه. . واعتبر عكس هذا في المهن الرفيعة العالية يوم يشغلها من ليس أهلا لها.
ولا ينبغي أن نخشى على عبقرية المثقفين أن تنزوي وتفنى في تفاهة المهنة، فان العبقرية الصحيحة لا تستكين لظلم الزمان ولا تخضع لحكم القدر، وان آياتها لتبدو وتلوح ولو كرهت ظروف صاحبها وعملت على طمس معالمها. . فاتركوا المثقفين يعملوا ويضربوا في زحمة الحياة حيثما ألقت بهم المقادير، والجهاد خير محك للعبقرية وأصدق ميزان لها.
توفيق الطويل
في الأدب العربي
العوامل المؤثرة في الأدب
2
ومن العوامل المؤثرة في الأدب الأديان وما يتصل بها من الأخلاق والمعتقدات، وتأثير الأديان في الأدب أمر ثابت بأدلة الطبع والسمع فأنها تخلق موضوعات جديدة لمصنفات جديدة. وتؤثر في الأخلاق والعواطف تأثيرا يتردد صداه في مناحي الأدب. على أن تأثيرها الذي يعنينا الآن هو إيجادها لأنواع خاصة من النظم والنثر، فان بنى الإنسان منذ أفزعتهم تهاويل الطبيعة وأدهشتهم تعاجيب الفلك أحسوا بقوة القوى فألهوها كما فعل اليونان والهنود، أو نسبوا الأعاجيب الممتعة الخيرة لمبدأ، والتهاويل المفزعة الشريرة إلى مبدأ آخر كما فعل الإيرانيون الأقدمون، ثم امتلأت نفوسهم بجلالها وجمالها وعظمتها ففاضت على ألسنتهم بالأناشيد والصلوات، فكان من ذلك الشعر الديني وهو مبدأ كل شعر في كل أمة، ومن أقدمه أناشيد (رع) عند المصريين، وأناشيد (فيدا) عند الهند البرهميين، وأناشيد (جالا) عند الإيرانيين، وأناشيد (أرفيه) عند اليونانيين، وسفر أيوب عند العرب.
وعندي أن الشعر العربي لم ينشأ في الصحراء على ظهور الإبل وإنما نشأ كذلك في المعابد العربية أبان انفصال العرب عن الأسرة السامية الأولى، فظهر على ألسنة الكهان باسم السجع ومن أقدمه سفر أيوب على أرجح الآراء. وربما عدت إلى بسط هذا الرأي في فرصة أخرى.
وتأثير الأديان في الآداب غير متحد ولا متشابه لاختلاف العقول في إدراك هذه القوة الخفية، فاليونان قد عددوا آلهتهم وجسدوها على صور البشر، ونسبوا إليها ما للإنسان من كرم ولؤم وغضب وحلم وحرب وسلم وعفة ودعارة وزواج ولذة، ولم يميزوهم من الناس الا بالقوة والخلود. لذلك كان شعرهم الديني في الآلهة أشبه بشعرهم الدنيوي في الملوك: يصف الخوارق والعظائم والقوة، ولا ينم عن رحمة الخالق وخشوع المخلوق، ولا يدل على الرجاء الذي يبعث على الطاعة، ولا على الخوف الذي يردع عن المعصية.
أما بنو إسرائيل فقد وحدوا الله وبرءوه من النقص، ونزهوه عن المثل وملئوا صدورهم بهيبته وعزته وجلالته، فكان شعرهم في ذاته العليا فياضاً بالتقديس والإجلال والابتهال
والاتكال وللبكاء والرجاء والخوف. كذلك يختلف تأثير الدين الواحد في الأدب باختلاف الأزمان والبلدان وطبقات الناس ونظام الحكم، فان في كل دين من الأديان السماوية قسما وجدانيا اجتهاديا يختلف أبناؤه في فهمه اختلافهم في الطبائع والمنازع والغاية. فأشعار الخوارج مثلا تنضح بالدماء وتطفح بالحماسة لتعصبهم وتصلبهم وجعلهم غاية الإسلام جهاد مخالفيهم في الرأي، وأشعار الشيعة تفيض بإجلال زوج البتول وصهر الرسول وتمجيد ذكرى بنيه وتمثيل آلامهم، ورثاء من قتل من أعلامهم. وأشعار الصوفيين تصف مقاماتهم وتذكر إشاراتهم وتكثر من الكناية بالخمر والسكر والعشق والعبق عن شدة تعلقهم بالله. ولا يقتصر تأثير الأديان على النظم وإنما يؤثر كذلك في النثر، فلولاها لما كانت النبوءات عند الإسرائيليين، ولا التعازي عند الفرس، ولا خطب المنابر ومقامات الوعظ عند المسلمين والمسيحيين.
ومنها: العلوم النظرية والتجريبية. وتأثيرها العام في ترقية العقل وتقوية الشعور وتنمية الصور لا يحتاج إلى تمثيل ولا تدليل، ولكن لها تأثيراً خاصاً في خلق أنواع طريفة من الآداب كالشعر التعليمي مثلا وهو نوع من الشعر يجمع بين رشاقة اللفظ ولطف التخيل وجودة الوصف ودقة البحث وحقائق العلم. وتراه في الآداب الأجنبية القديمة والحديثة أرفع وأمتع منه في الآداب العربية، فان من الغضاضة على الفن والإساءة إلى الذوق أن ندخل فيه منظومة ابن عبد ربه في التاريخ، وألفية ابن مالك في النحو. وقد استحدث اليونان في النثر المحاورات الفلسفية كمحاورات أفلاطون، وهي نوع طريف من الأدب الإغريقي قلده شيشرون في محاوراته في الأخلاق والفلسفة والبلاغة. كذلك احدث انتشار العلوم نوعا من القصص الخيالية تمتزج فيها حقائق العلم بروعة الخيال وغرابة الحوادث تحقيقا لرأي من الآراء أو تشويقا لعلم من العلوم كما فعل الفرنسيان فلا مريون الفلكي وجول فيرن القصصي. وكما صنع من قبلهما أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل الأندلسي في رسالة حي بن يقظان، فقد أراد بوضع هذه القصة أن يشرح كيف يستطيع الإنسان بمجرد عقله أن يتدرج من المحسوسات البسيطة إلى أسمى النظريات العلية، ولكنه يعجز عن إدراك أرقى الحقائق بغير وحي من الله أو هداية من نبي، ثم كان من نفاق العلوم التاريخية في صدر القرن التاسع عشر، وميل الجمهور إلى دراسة الماضي، أن ظهر في إنجلترا
القصص التاريخي، ابتدعه الكاتب الإنجليزي (ولترسكوت) واقتفاه في فرنسا (الفريد دفني) في رواية خمسة مارس. وفي ألمانيا (جورج ايسبرس) في قصته المصرية وردة. وفي مصر جرجي زيدان في رواياته الإسلامية. وللعلوم فضل ظاهر على اللغة في المادة والاسلوب، وأثر قوي في ترقية النثر خاصة لأنها تكسبه القوة والدقة والوضوح. وما ارتقى النثر في أمة من الأمم إلا بعد تقدمها في الحضارة ورقيها في العلم، لأن النثر لغة العقل كما ان الشعر لغة الخيال. فالنثر اليوناني لم يرق الا بعد عصر هوميروس بأربعة قرون حين دون تاريخ توسيديد ومحاورات أفلاطون وخطب ديمستين. والنثر العربي لم يرق الا أوائل الدولة العباسية على يد ابن المقفع، والنثر الفرنسي لم يرق الا بتأثير الفلاسفة والرياضيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر كبسكال وديكارت.
ومن تلك العوامل: أحوال السياسة الداخلية، فإن لمدها وجزرها، ولانتقاض حبلها أو أتساق أمرها، أثراً بالغا في فنون الآداب يختلف باختلاف حاله.
ففي خلافة معاوية مثلا انتشر الهجاء المقذع في العراق، وفاضت بحور الغزل الرقيق في الحجاز، وما علة ذلك إلا سياسة هذا الخليفة، فقد كان يخشى العراق على عرشه الواهي الدعائم، فساسه بالتفريق وإحياء العصبية وإذكاء التنافس بين الشعراء والقبائل ليشغل الناس عن الخصومة في خلافته بالخصومة في أمر جرير والفرزدق والأخطل، وكان يستوحش من ناحية الحجاز فاعتقل شباب الهاشميين في مدنه، وسلط عليهم الترف وشغلهم بالمال وخلى بينهم وبين الفراغ فعكفوا على اللهو والصبابة والغزل. وبعد خلافة المتوكل العباسي ازدهر الأدب العربي وازداد ابتكارا وانتشارا وكثرة. وعلة ذلك السياسة أيضا، فان الخلافة العباسية قد انتقض حبلها في أواخر عهد المأمون وانصدع شملها في عهد المتوكل باستقلال الولاة في فارس والشام ومصر والمغرب. فكان ضعف السياسة قوة للأدب لأن الشعراء والأدباء والعلماء بعد أن كانوا مكدسين في بغداد لا يريمون عنها تفرقوا في الممالك الجديدة فوجدوا من أمرائها وأجوائها ما ساعدهم على وفرة الإنتاج ورفع شأن الأدب. وللأحوال السياسية كذلك أثر في خلق فنون جديدة من الأدب أو ترقية ما كان منها، ومثل ذلك النوع الذي يسميه الفرنج بالخطابة السياسية كالخطب الرائعة التي ألقاها ديمستين في مجالس اليونان العامة حين كان فيلبس ملك مقدونيا يتربص بحرية أثينا
وسلامتها ريب المنون، وكتلك التي ألقاها شيشرون في مجالس الأعيان دفاعا عن شؤون الجمهورية الرومانية، وقد نفق هذا النوع في مصر الحديثة على لسان الزعيمين الكبيرين مصطفى باشا كامل وسعد باشا زغلول، وهذا الفن وليد الحرية السياسية والحياة الديمقراطية والأنظمة الدستورية. فإذا منيت الشعوب بالاستعباد أو طغيان الاستبداد تلاشى وانقرض، كما تلاشى في اليونان حينما وقعوا في العبودية، وانقرض عند الرومان حين فدحهم طغيان القياصرة، وهناك الشعر السياسي أيضا كالشعر الذي كانت تصطنعه الأحزاب والفرق في صدر الدولة الإسلامية. ومن ذا الذي ينسى فيضان بحور الشعر وطغيانها في بغداد ودمشق حين أعلن الدستور العثماني؟ لقد كان الظلام ضاربا على العيون، والجهل غالبا على الافئدة، والجمود مستوليا على العواطف، وقوى العرب المنتجة معطلة، وأياديهم العاملة مغللة، فكان إعلان الدستور بسمة الأمل في قطوب اليأس، وومضة المنارة في بحر مكفهر الجو بالضباب مضطرب الموج بالعواصف، فاهتزت النفوس وانطلقت الألسن وصدحت البلابل تنعى الليل وتبشر العيون بالصباح.
كذلك من هذه العوامل اختلاط الأجناس المختلفة العقليات والعادات والاعتقادات بالمصاهر والمجاورة في أمة واحدة، وأثر هذا العامل أظهر ما يكون في دولة العباسيين في بغداد ودولة الأمويين في قرطبة، فان حضارتيهما نتيجة اختلاط شعوب مختلفة لكل شعب منها خصائص ومزايا أكملت نقص الآخر وساعدته على العمل والإنتاج ففي البلدين اتصلت المدنية السامية بالمدنية الآرية فالتقى التصور العميق بالتصوير القوي، والعقلية العلمية بالوجدان الشعري، وكان من أثر هذا اللقاح في الفكر والعقل ما يعلل لنا وفرة المعاني الجديدة في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي. ولولا هذا اللقاح المخصب العجيب لظل الأدب العربي ظامئ الجذوع دقيق الفروع ذابل الأوراق واحد المذاق قليل الثمر.
ومنها التقليد والاحتذاء، والتقليد فطري في الإنسان لا يستطيع بدونه أن يتكلم ولا أن يتعلم ولا يملك لنفسه اكتساب عادة ولا تربية خلق، ولولا الاحتذاء لما كانت فنون الآداب، لأن الشعر والنثر إنما يصاغان على قواعد وأساليب خاصة. وما مراعاة هذه القواعد والأساليب إلا اقتداء الأديب بمن سبقه سواءً أكان إقتداؤه مقصودا منه أم غريزيا فيه.
على أن التقليد الذي نقصد إليه هنا هو تقليد أمة لأخرى لشدة ارتباطها بها، أو لاعتقادها السمو في آدابها، وقد أشرت منذ هنيهة إلى مثال من ذلك وهو ظهور القصص التاريخية في إنجلترا وانتقالها إلى الأمم الأخرى بالاحتذاء، ولقد كان للتقليد في الآداب القديمة شأن نابه وأثر ظاهر. فالشعر اللاتيني في عصر أغسطس عاف أساليبه الفطرية وأوزانه القديمة، واغترف من بحور الشعر اليوناني فحاكاه في أوزانه وأنواعه ومعانيه، والأدب الفرنسي قبل (رنسار) و (ماليرب) كان حائراً بين اللاتينية والإغريقية، والتمثيل إنما نشأ بديا في كنائس رومية وباريس أثناء القرون الوسيطة لتمثيل صلب المسيح وآلام الشهداء الذين أوذوا وقتلوا في سبيل المسيحية على نحو ما يفعل الفرس من تمثيل ما أصاب أهل البيت من الخطوب والاضطهاد والمحن، ثم انتشر التمثيل بالتقليد في سائر الأمم. ولما حييت الآداب اليونانية واللاتينية واطلع أدباء الغرب على ما صنف فيهما من الروايات التمثيلية تهافتوا على تقليدها واقتباسها فدخل فن التمثيل من جراء ذلك في طور جديد. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والخطب والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك ولسدوا في الأدب العربي خللا ما بريء منه حتى اليوم. إنما استفادالأدب العربي من التقليد في فن الحكايات والأمثال حين ترجم ابن المقفع وبعض الكتاب شيئا من القصص الفارسي ككليلة ودمنة وهزار افسانه ودارا والصنم الذهب، فكان ما ترجموه حديا للعرب ونموذجا لهم في وضع ما وضعوه منها.
أما الأدب الفارسي والأدب التركي فهما صنيعة التقليد ونفحة من نفحات الأدب العربي، فان الفرس حينما استولى الإسلام على أفئدتهم ولغته على ألسنتهم ظلوا زهاء قرنين يقرضون الشعر بالعربية دون الفارسية. فلما هبوا في القرن الثالث يستردون مجد أجدادهم، ويطاردون العربية ونفوذها من بلادهم، ويوحون إلى شعرائهم من أمثال الدقيقي والفردوسي أن يجددوا مفاخر الأسلاف بتأليف المنظومات القصصية والأناشيد القومية لم يجدوا ذلك ميسورا إلا باحتذاء الشعر العربي واقتباس أوزانه وبديعه وكذلك فعلوا في النثر فقد أخذوا يوشونه منذ أوائل القرن الخامس برشيق الألفاظ وغريب المجاز وزخرف البديع اقتداء بما نشر في أقاليم العجم الشمالية الشرقية من الكتب التاريخية العربية التي كتبت
بالسجع المونق ككتاب اليميني الذي ألفه أبو نصر العتبي للسلطان محمود الغزنوي.
وأما الأتراك العثمانيون فانهم حين أخذوا يدونون أشعارهم في أوائل القرن الثامن اقتبسوا من الفرس بعض الأوزان العربية مدداً لأوزانهم القديمة، ولكنهم ابتداءً من القرن التاسع أغفلوا أوزانهم واصطنعوا العروض الفارسي فجروا علىمناهجه وفنونه. وظل الأدب التركي صورة من الأدب الفارسي يترسم خطاه ويردد صداه حتى منتصف القرن الماضي حين هب الوزير ضيا باشا المتوفى سنة 1295 للهجرة يقوض دعائم الشعر القديم وينعى على الشعراء ما هم فيه من جمود وقصور ورق، فانضوى إليه رهط من الشعراء المجددين ككمال يكن وأكرم بك وناجي أفندي فأنقذوا أدبهم من سخف التقليد، وقووه بالابتكار والتجديد، هذا مثل من التقليد العاجز الذليل الأعمى. أما التقليد البصير القوي المستقل فهو الذي يهذب أدبنا اليوم ويتمم نقصه، فالأقصوصة والقصة والرواية، والأسلوب المهذب والفن التمثيلي، كل أولئك قد أخذ بفضل تقليد الفرنج ينبت في حقوله، ويضيف فصولا خالدة على فصوله.
هذه هي أقوى العوامل التي تؤثر في الآداب على اختلاف لغاتها، وهي تعمل أما مجتمعة وأما منفردة، والواجب على مؤرخ الآداب أن يحلل ما تركب من أفعالها المتنوعة كما يحلل العالم بالميكانيكا القوة الناتجة ثم يردها إلى القوى البسيطة الفاعلة. وهيهات أن يقف الأديب على هذه العوامل ما لم يكن المؤرخ في عونه، ولا يتسنى للمؤرخ أدراك كنهها الا بالاستقصاء البالغ والبحث الشديد في أحوال الشعب الذي يدرسه ويؤرخه. وكل تعليل لأطوار الأدب وظواهره قبل دراسة هذه العوامل ضرب من التخرص لا يطمئن عليه القلب.
البيروني
(إنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره). . سخاو
تمهيد:
قرأت في العدد الأول من الرسالة في مقالة (حلقة مفقودة للأستاذ أحمد أمين) ما يلي:
(وبالأمس كنت أتحدث إلى طائفة من المتعلمين عن البيروني العالم الإسلامي الرياضي المتوفى سنة 440هـ وما كشف من نظريات رياضية وفلكية، وأن المستشرق الألماني (سخاو) يقرر انه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره وانه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية البيروني. فحدثني أكثرهم أنه لم يسمع بهذا الاسم ولم يصادفه في جميع قراءاته، وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيراً ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة الإسلام).
عند قراءة هذه القطعة تبادر إلى ذهني أمران: أولاً روح الإنصاف عند بعض علماء الفرنج، ثانياً جهل المتعلمين منا بفلاسفة الإسلام والعرب وفحول علمائهم. . . أما الأمر الأول فليس بغريب على رجل سيطرت عليه روح العلم الصحيحة التي لا تعرف غير توخي الحقيقة أن يجاهر بما يعتقد حتى ولو كان ما يجاهر به مما لا يسر أبناء وطنه، على حين أننا نجد بعض علماء الغرب قد أغار على الكتب العربية وادعى ما فيها لنفسه، وبعضهم لم يذكر المصادر العربية التي اعتمد عليها أو نقل عنها، وقد أتينا بأمثلة على ذلك وعلى أن العرب سبقوا الفرنج إلى اكتشاف بعض النظريات والأبحاث الرياضية في مقالات نشرناها في مجلة المقتطف الغراء.
وأما الأمر الثاني فقد يكون لدى هؤلاء المتعلمين مبرر ولا سيما أن تاريخ بعض رجالنا السالفين قد أحيط بسحب كثيفة من الإبهام، وفقد البعض الآخر منه، وكان لكسلنا وخمولنا الأثر الأكبر في إهمال نوابغ العرب وتبيان مآثرهم في مختلف فروع المعرفة، ولكن مما لا شك فيه أن هذا التبرير حجة علينا ومن واجبنا بل من دعائم نهضتنا القومية أن نتولى أمر الكشف عن حقيقة رجالنا ومآثرهم بأنفسنا، وبذلك (وعلى الأقل) نضع حدا لادعاءات بعض المتعصبين وبعض المتفرنجين منا الذين يزعمون أن العرب لم يكونوا مخترعين مستنبطين، وانهم لم يكونوا الا نقلة عن غيرهم. وقد عنيت بوضع كتاب يبحث في أثر
العرب على العلوم الرياضية وما أخذه الغربيون من هذه العلوم، وتأثير ذلك في تقدمها. والمقالة التالية مجمل من ترجمة نابغة من نوابغ العلماء المسلمين قال عنه سخاو:(انه اكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره).
مولده ومنشؤه
هو محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي أحد مشاهير رياضيي القرن الرابع للهجرة ومن الذين جابوا الأقطار ابتغاء البحث والتنقيب. ولد أبو الريحان في خوارزم عام 362هـ - 873م ويقال أنه اضطر أن يغادر مدينة خوارزم على أثر حادث عظيم إلى محل في شمالها اسمه (كوركانج) وبعد مدة تركه وذهب إلى مقاطعة جرجان حيث التحق بشمس المعاني قابوس أحد أحفاد بني زياد وملوك وشمكير، ثم عاد إلى كوركانج وتمكن بدهائه أن يصبح ذا مقام عظيم لدى بني مأمون ملوك خوارزم. وبعد أن استولى سبكتكين على جميع خوارزم ترك أبو الريحان كوركانج وذهب إلى الهند فبقي مدة طويلة (ويقال انه سافر فيها أربعين سنة) يجوب البلدان ويقوم بأبحاث علمية كان لها تأثير في تقدم بعض العلوم. وقد استفاد البيروني من فتوح الغزنوبين في الهند وتمكن من القيام بأعمال جليلة؛ فانه استطاع أن يجمع معلومات صحيحة عن الهند، ويلم شتات كثير من علومها ومعارفها القديمة. وأخيرا رجع إلى غزنة ومنها إلى خوارزم ولم يعرف بالضبط تاريخ وفاته. وإنما الراجح أنه توفي سنة 440 هجرية - 1048 ميلادية.
تنقلاته العلمية ومآثره:
كان البيروني رياضيا وفلكيا وطبيباً ومؤرخا وجغرافيا. وهو أبرز شخصية بين علماء عصره الذين بفضلهم كان للعرب عصر ذهبي تقدمت فيه العلوم تقدمها المعروف. قرأ فلسفة الهند وله فيها وفي الرياضيات والفلك مؤلفات كثيرة، وهو من أوسع علماء الإسلام اطلاعا على آداب الهند وعلومها ويقال انه ضرب بسهم وافر في الجغرافيا حتى أن أبا الفداء كان يعتمد أحياناً في أبحاثه الجغرافية على كتب أبي الريحان. قال سيديو: إن أبا الريحان (اكتسب معلوماته المدرسية البغدادية ثم نزل بين الهنود حين أحضره الغزنوي فأخذ يستفيد منهم الروايات الهندية المحفوظة لديهم قديمة أو حديثة، ويفيدهم استكشاف أبناء
وطنه ويبثها لهم في كل جهة مر بها، وألف لهم ملخصات من كتب هندية وعربية، وكان مشيرا وصديقا للغزنوي استعد حين أحضره بديوانه لإصلاح الغلطات الباقية في حساب بلاد الروم والسند وما وراء النهر. وعمل قانوناً جغرافياً كان أساسا لأكثر القسموغرافيات المشرقية؛ نفذ كلامه مدة في البلاد المشرقية ولذا استند إلى قوله سائر المشرقيين في الفلكيات، واستمد منه أبو الفداء الجغرافيا في جداول الأطوال والعروض وكذا أبو الحسن المراكشي. . .) ويعترف
(سمث) في الجزء الأول من كتابه تاريخ الرياضيات أن البيروني كان ألمع علماء زمانه في الرياضيات، وان الغربيين مدينون لكتبه في معلوماتهم عن الهند وعلومها الرياضية، والبيروني ذو مواهب جديرة بالاعتبار، فقد كان يحسن السريانية والسنسكريتية والفارسية والعبرية عدا العربية، وفي أثناء إقامته بالهند كان يعلم الفلسفة اليونانية ويتعلم هو بدوره الهندية، ويقال انه كان بينه وبين ابن سينا مكاتبات في أبحاث مختلفة ورد أكثرها في كتب ابن سينا. وكان يكتب كتبه مختصرة منقحة بأسلوب مقنع وبراهين مادية. لكنه لم يتعد أن يوضح القوانين الحسابية بأمثلة ما، قال اليبروني عن الترقيم في الهند: إن صور الحروف وأرقام الحساب تختلف باختلاف المحلات، وان العرب أخذوا أحسن ما عندهم (أي عند الهنود) والقطعة التي قالها في ذلك هي لدينا ولا مجال لذكرها الآن. وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملما بعلم المثلثات وكتبه فيه تدل على أنه عرف قانون تناسب الجيوب. ويقال انه وبعض معاصريه عملوا الجداول الرياضية (للجيب والظل) وقد اعتمدوا في ذلك على جداول أبي الوفاء البوزجاني.
وعمل اليبروني تجربة لحساب الوزن النوعي، واستعمل في ذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء والماء تمكن من معرفة مقدار الماء المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعي، واستطاع أن يجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً ومركباً بعضها من الأحجار الكريمة، وله أيضا كتاب في خواص عدد كبير من العناصر والجواهر وفوائدها التجارية والطبية، وهو وابن سينا من الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين.
مؤلفاته
من اشهر مؤلفات البيروني التي وصلت إلى أيدي العلماء كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وهذا الكتاب يبحث فيما هو الشهر واليوم والسنة عند مختلف الأمم القديمة من آشوريين ويونانيين إلى وقت البيروني، وكذلك في التقاويم وما أصاب ذلك من التعديل والتغيير وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية والتركية تبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض، وتجد فيه أيضا جداول لملوك آشور وبابل والكلدان والقبط واليونان قبل النصرانية وبعدها، ولملوك الفرس قبل الإسلام على اختلاف طبقاتهم. ولم يقتصر الكتاب على ذلك بل بحث في المتنبئين وأممهم من أهل الأوثان وأهل البدع في الإسلام، وغير ذلك من الموضوعات التي يتعلق بالأقباط وأعيادهم، وأعياد النصارى على اختلاف طوائفهم. . .
يقول كشف الظنون عن هذا الكتاب: (إنه كتاب مفيد، ألفه لشمس المعالي قابوس وبين فيه التواريخ التي تستعملها الأمم. . .) ومنه أيضا يستدل على أن البيروني أول من استنبط تسطيح الكرة. وقد فصل ذلك في كتابه المذكور الذي يدل أيضا على أن له استنباطات جليلة في الفلك والرياضيات، وقد ترجم (سخاو) الآثار الباقية المذكورة إلى الإنكليزية، وطبع عام 1879م في لندن، وله كتاب تاريخ الهند، وقد ترجمه أيضا سخاو إلى الإنكليزية وطبع الأصل في لندن سنة 1887م والترجمة فيها سنة 1888م، وفيه تناول البيروني لغة أهل الهند وعاداتهم وعلومهم.
واعتمد عليه (سمث) وغيره من المؤلفين عند بحثهم في رياضيات الهند والعرب، وله كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة وقد ترجم إلى الإنكليزية عام 1887م، وكتاب مقاليد علم الهيئة ما يحدث في بسيط الكرة. وفي هذا الكتاب بحث في (شكل الظل) اعترف فيه بان (الفضل في استنباط الشكل الظلي لأبي الوفاء بلا تنازع من غيره)، وقد كنا نشرنا هذا في مقالنا عن البوزجاني في مجلة المقتطف. وجاء أبو الريحاني في بعض كتبه على ذكر قسم من الكتب القيمة التي دخلت في زمن العباسيين والتي كان لها اثر كبير في تقدم علوم الفلك والرياضيات، فقد أتى ذكر على المقالتين اللتين حملهما أحد الهنود إلى بغداد في منتصف القرن الثاني للهجرة، فالمقالة الأولى في الرياضيات والثانية في الفلك، وبواسطة الأولى دخلت الأرقام الهندية إلى العربية واتخذت أساسا للعدد،
والثانية اسمها (سدها نتا) التي عرفت فيما بعد باسم كتاب (السند هند) ترجمها إبراهيم الفزاري وكان نقلها بداءة عصر جديد في دراسة هذا العلم عند العرب. مما مر نستنتج أن البيروني كتب في تاريخ الرياضيات عند الهنود والعرب. ولولاه لكان هذا الموضوع اكثر غموضا مما هو عليه الآن، كما إن أكثر الكتب الحديثة التي تبحث فيه (في الرياضيات عند الهنود والعرب) تعتمد في الأغلب على كتبه كما يتضح لمن يتصفح كتب تاريخ العلوم الرياضية. وله مؤلفات أخرى يربى عددها على المائة والعشرين، منها: كتاب القانون المسعودي في الهيئة والنجوم، وقد ألفه لمسعود بن محمود الغزنوي، وكتاب استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وكتاب استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، وهو مسائل هندسية أدخل فيها طريقته التي ابتكرها في حل بعض الأعمال، وكتاب العمل بالإسطرلاب، ومقالة التحليل والتقطيع للتعديل، وكتاب جمع الطرق السائرة في معرفة أوتار الدائرة وكتاب جلاء الأذهان في زيج البتاني، وكتاب التطبيق إلى تحقيق حركة الشمس، وكتاب في تحقيق منازل القمر. وتمهيد المستقر لتحقيق معنى الممر، وكتاب ترجمة ما في براهم سدهانه من طرق الحساب، وكتاب كيفية رسوم الهند في تعلم الحساب، وكتاب استشهاد باختلاف الأرصاد، وقد ألفه البيروني لأن أهل الرصد عجزوا عن ضبط أجزاء الدائرة العظمى بأجزاء الدائرة الصغرى، وكتاب الصيدلة في الطب (استقصى فيه معرفة ماهيات الأدوية ومعرفة أسمائها واختلاف آراء المتقدمين فيها وما تكلم كل واحد من الأطباء وغيرهم فيه، وقد رتبه على حروف المعجم)، وكتاب الإرشاد في أحكام النجوم، وكتاب في إفراد المقال في أمر الظلام، وكتاب تكميل زيج حبش بالعلل وتهذيب أعماله من الزلل، وكتاب الجماهر في معرفة الجواهر، ومقالة في نقل ضواحي الشكل القطاع إلى ما يغني عنه، وكتاب تكميل صناعة التسطيح، وله كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم، وهذا الكتاب لم يطبع بعد ولابد ان تكون بعض نسخ خطية منه موجودة في المكاتب الأوربية والمصرية، وهو لدينا في نسخة خطية نسخت منذ تسعين سنة عن نسخة قديمة، وهو يبحث في الهندسة والحساب والعدد ثم هيئة العالم ثم أحكام النجوم وذلك (لأن الإنسان لا يستحق سمة التنجيم الا باستيفاء هذه الفنون الأربعة)، وقد ألفه على طريقة السؤال والجواب ولغته سهلة سلسلة، ونترك التفصيل عنه الآن لكتابنا الذي نؤلفه.
نابلس. فلسطين. قدري حافظ طوقان
من طرائف الشعر
الشاعر والسلطان الجائر
للأستاذ إيليا أبو ماضي
أمر السلطان بالشاعر يوما فاتاه
في كساء حائل الصبغة واه جانباه
وحذاء أوشكت تفلت منه أخمصاه
قال: صف جاهي، ففي وصفك لي للشعر جاه.
ان لي القصر الذي لا تبلغ الطير ذراه
ولي الروض الذي يعبق بالمسك ثراه
ولي الجيش الذي ترشح بالموت ظباه
ولي الغابات، والشم الرواسي، والمياه
ولي الناس، وبؤس الناس مني والرفاه
إن هذا الكون ملكي. . أنا في الكون اله!!
ضحك الشاعر مما سمعته أذناه
وتمنى أن يداجي فعصته شفتاه
قال: أني لا أرى الأمر كما أنت تراه
إن ملكي قد طوى ملكك عني ومحاه
القصر، ينبئ عن مهارة شاعر
…
لبق، ويخبر بعده عنكا
هو للآلي يدرون كنه جماله
…
فإذا مضوا فكأنه دكا
ستزول أنت ولا يزول جلاله
…
كالفلك تبقى إن خلت فلكا
أنا من حواه بعينه وبلبه
…
ولئن حواك وحزته صكا!
والروض؟ إن الروض صنعة شاعر
…
سمح طروب رائق جزل
وشى حواشيه وزين أرضه
…
بروائع الألوان والظل
لفراشة تحيا له، ولنحلة
…
تحيا به، ولشاعر مثلي
ولبلبل غرد يساجل بلبلا
…
غردا، وللنسمات والطل
ولديمة تذري عليه دموعها
…
كيما تقيه غوائل المحل
فإذا مضى زمن الربيع أضعته
…
وأقام في قلبي وفي عقلي
والجيش معقود لواؤك فوقه
…
ما دمت تكسوه وتطعمه
للخبز طاعته وحسن ولائه
…
هو (لاته الكبرى)(وبرهمه)
فإذا يجوع بظل عرشك ليلة
…
فهو الذي بيديه يحطمه
لك منه أسيفه ولكن في غد
…
لسواك أسيفه وأسهمه
أتراه سار إلى الوغى متهللا
…
لولا الذي الشعراء تنظمه؟
وإذا ترنم هل بغير قصيدة
…
من شاعر مثلى ترنمه؟
والبحر. . قد ظفرت يداك بدره
…
وحصاه. . لكن هل ملكت هديره؟
أمرجت أنت مياهه؟
أصبغت أنت رماله؟
أجبلت أنت صخوره؟
هو للدجى يلقى عليه خشوعه
…
والصبح يسكب وهو يضحك نوره
هو للرياح تهزه وتثيره
…
والشهب تسمع في الظلام زئيره
للطير هائمة به مفتونة
…
لا للذين يروعون طيوره
للشاعر المفتون يخلق لاهيا
…
من موجه حوراً، ويعشق حوره
ولمن يشاهد فيه رمز كيانه
…
ولمن يجيد لغيره تصويره
يا من يصيد الدر من أعماقه
…
أخذت يداك من الجليل حقيره
لا تدعيه. . فليس يملك، أنه
…
كالروض جهدك أن تشم عبيره
ومررت بالجبل الأشم - فما زوى
…
عني محاسنه، ولست أميرا
ومررت أنت فما رأيت صخوره
…
ضحكت ولا رقصت لديك حبورا
ولقد نقلت لنملة ما تدعي
…
فتعجبت مما حكيت كثيرا
قالت: صديقك ما يكون؟ أقشعماً؟
…
أم أرقم؟ أم ضيغماً هيصورا؟
أيحوك مثل العنكبوت بيوته؟
…
حوكا؟ ويبني كالنشور وكورا؟
هل يملأ الأغوار تبرا كالضحى؟
…
ويرد كالغيث الموات نضيرا
أيلف كالليل الأباطح، والربى
…
والمنزل المعمور والمهجورا؟
فأجبتها: كلا، فقالت: سمه
…
في غير خوف (كائنا مغرورا)
فاحتدم السلطان أي احتدام
…
ولاح حب البطش في مقلتيه
وصاح بالجلاد: هات الحسام
…
فأسرع الجلاد يسعى إليه
فقال دحرج رأس هذا الغلام
…
فرأسه عبء على منكبيه
قد طبع السيف لحز الرقاب
…
وهذه رقبة ثرثار
اقتله. . واطرح جسمه للكلاب
…
ولتذهب الروح إلى النار!
سمعا وطوعا سيدي - وانتضى
…
غضبا يموج الموت من شفرتيه
ولم يكن إلا كبرق أضا
…
حتى أطار الرأس عن منكبيه
فسقط الشاعر معروضا
…
يخدش الأرض بكلتا يديه
كأنما يبحث عن رأسه
…
فأستضحك السلطان من سجدته
ثم استوى يهمس في نفسه
…
(ذو جنة) أمسى بلا جنته
أجل! هكذا هلك الشاعر
…
كما يهلك الآثم المذنب
فما غص في روضة طائر
…
ولم يتطفئ في السما كوكب
ولا جزع الشجر الناصر
…
ولا اكتأب الجدول المطرب
وكوفئ عن قتله القاتل
…
بمال جزيل وخد أسيل
فقال له خلفه السافل
…
ألا ليت لي كل يوم قتيل!
في ليلة طامسة إلا نجم
…
تسلل الموت إلى القصر
بين حراب الجند والأسهم
…
والأسيف الهندية الحمر
إلى سرير الملك الأعظم
…
إلى أمير البر والبحر!!
ففارق الدنيا ولما تزل
…
فيها خمور وأغاريد
فلم يمد حزنا عليه الجبل
…
ولا ذوى في الروض أملود
في حومة الموت وظل البلى
…
قد التقى السلطان والشاعر
هذا بلا مجد، وهذا بلا
…
ذل، فلا باغ ولا ثائر
عانقت الأسمال تلك الحلي
…
واصطحب المقهور والقاهر
لا يجزع الشاعر أن يقتلا
…
ليس وراء القبر سيف ورمح
ولا يبالي ذاك أن يعذلا
…
سيان عند الميت ذم ومدح
وتوالت الأجيال تطرد
…
جيل يغيب وآخر يفد
أخنت على القصر المنيف فلا
…
جدران قائمة ولا العمد
ومشت على الجيش الكثيف فلا
…
خيل مسومة ولا زرد
ذهبت بمن صلحوا ومن فسدوا
…
ومضت بمن تعسوا ومن سعدوا
وبمن أذاب الحب مهجته
…
وبمن تأكل قلبه الحسد
وطوت ملوكا ما لهم عدد
…
فكأنهم في الأرض ما وجدوا
والشاعر المقتول باقية
…
أقواله، فكأنها الأبد
الشيخ يلمس في جوانبها
…
صور الهوى، والحكمة الولد
البحر
للدكتور محمد عوض محمد
أيها الزاخر ذو الصدر الرحيب!
…
كم طوى صدرك من سر رهيب!
قد شهدت الكون والكون فتى
…
وسترعاه إلى وقت المشيب
كم قرون عصفت وانقرضت
…
وخطوب قد مضت إثر خطوب
ومحياك رزين، ناظر
…
بابتسام تارة أو بقطوب!
ساخراً مما يلاقيه الورى
…
من نعيم زائل أو من كروب
هازئاً مما أثاروا بينهم:
…
من جدال أو خصام أو حروب
ثائراً حينا، وحيناً هادئاً
…
باعثا رعبا، وأمناً للقلوب!
مهلكا حينا، وحيناً منقذاً
…
كعدو ناقم أو كحبيب
باسماً طوراً وطورا عابساً
…
في كلا الحالين ذو شأن عجيب
لابساً للدهر ثوباً أزرقا
…
يسحر الأعين ذا حسن مهيب
حلة تزهر بها الدنيا كما
…
تخطر الحسناء في الثوب القشيب
زرقة الفيروز تحكيها وإن
…
كبرت عن أن تضاهي بضريب
عانقتك الشمس من جو السما
…
وهي تجري من شروق لغروب
هل رأى العالم في غير كما
…
كيف يحلو مزج ماء بلهيب
قلبك الهادئ لا تزعجه
…
زعزع نكباء جدت في الهبوب
لم تحرك منك إلا ظاهرا
…
دفعته لشمال أو جنوب
تحته قلب عميق ساكن
…
هازئ من حادث الدهر العصيب
ليت شعري ما الذي تضمر في
…
قلبك الهائل من أمر غريب!
عالم آياته قد أتعبت
…
فكرة الحاسب أو عقل الأريب
لقاء
للأستاذ محمود الخفيف
هزها الشوق والخيال فغنت
…
وحباها الغرام لحنا جميلا
أسرعت في مسيرها وتأنت
…
ثم مالت لتستريح قليلا
أنظر الزهر كيف يرنو إليها
…
والمح العشب كيف يبدو نضيرا
وارقب الغصن كيف يحنو عليها
…
واسمع الطير كيف تشدو سرورا
فتن الكون كله بفتاة
…
بث فيها الجمال سحراً حلالا
مذ تبدت على بساط نبات
…
كست الكون بهجة وجلالا
هي كالزهر رونقا وبهاء
…
وهي كالطير خفة ودلالا
هي كالماء رقة وصفاء
…
صاغها الله للجمال مثالا
هي كالصبح روعة وابتساما
…
وهي كالفجر ريبة وحياء
وهي كالشمس حدة واحتداما
…
وهي كالبدر رقة وسناء
أطلقت في الخلاء صوتاً رخيما
…
مثل سجع الحمام عند البكور
هادئا ناعما شجيا رخيما
…
دق في الوصف عن أدق الشعور
ذكرت حبها وقالت كلاما
…
من رقيق العتاب سامي البيان
لم ترد بالعتاب إلا سلاما
…
وحديث العتاب جم المعاني
ضحكت برهة ولكن عراها
…
أثر هذا السرور شيء عجاب
عبست فجأة وخارت
…
وسعت الهم نحوها والعذاب
أنظر الدمع كيف يجري سخينا
…
أغرق الخد يأبى انقطاعا
واسمع اللحن كيف صار أنينا
…
يملأ القلب رأفة والتياعا
هتفت باسمي وهي تحسب أني
…
لا أراها ولم أزل في بعادي
ويح قلبي! أيهرب القلب مني؟
…
ويح نفسي! أشعلة في فؤادي؟
أبصرتني فكفكفت مقلتيها
…
وعراها وقد رأتني اضطراب
وعراني وقد هرعت إليها
…
نشوة ثم رجفة واكتئاب
قد دهاني عند اللقاء إختبال
…
وعصاني فلم يترجم لساني
حين لم يبق للسان مجال
…
ترجم الدمع عن أدق المعاني
أمهلتني هنيهة ثم قالت
…
ويح نفسي لقد سمعت عتابي
واطمأنت لحيرتي ثم مالت
…
تطل البعد وهي ترجو اقترابي
قلت مهلا ترفقي بفؤاد
…
شفه الوجد والحنين إليك
جئت أسعى إليك بعد بعاد
…
ووضعت الفؤاد بين يديك
لست أرضى الخلود عنك بديلا
…
فحياتي رهينة بهواك
لا ولا المجد أرتضيه خليلا
…
غاية المجد أن أنال رضاك
لك نفسي إذا أردت فداء
…
أنت روحي وأنت غاية نفسي
لا أدرى في الوجود عنك عزاء
…
أنت عيني وأنت سمعي وحسي
أطرقت عفة وأغضبت حياء
…
إذ رأتني محدقا في اشتياق
وأرتني تمنعا وإباء
…
وإباء الدلال حلو المذاق
لست أنسى جمال ذاك المحيا
…
بين زهو الصبا وطهر العفاف
وحديثا وعاه قلبي شهياً
…
أين من وصفه بليغ القوافي؟
لست أنسى طلاقة وبهاء
…
وانتشاء وغفلة وابتساما
لست أنسى تعففاً وحياء
…
وانتباها وفطنة واحتشاما
لست أنسى تلهفا وافتتانا
…
وهي تصغي إلى حديث اغترابي
لست أنسى ترفقا وحنانا
…
ما أحيلاه بعد طول الغياب!
إن هذا اللقاء يملأ قلبي
…
كل حين مسرة وهناء
فأراها على البعاد وحسي
…
ذاك حتى يجود دهري عزاء
ثم ماذا؟
ثم ماذا يا دهر؟ هل من جديد
…
أجتني منه لوعتي وعنائي؟
هات ما قدر القضاء علينا
…
ولتفض كأس عيشنا بالشقاء
// لست أخشى القضاء إن قصد العد
…
ل. ولكن أخاف ظلم القضاء
ورضينا بالظلم. . لو أن دهري
…
ينتهي ظلمه بهذا الرضاء
سخريات هذي الحياة وسر
…
لم يزل غامضا على الأذكياء
أي معنى للزهر يولد في الرو
…
ض صباحا وينتهي في المساء؟
أي معنى للحسن أصبح فيه
…
كل صب نضواً من البرحاء
ثم يخبو ضياه حتى كأن لم
…
يك بالأمس بالوضئ الرواء
وترى دمعة الحنين إليه
…
حول الدهر سيرها للرثاء!
غدرات الأيام تأتي سراعا
…
وسراعا تمضي ليالي الهناء
رب ليل ظللت أرشف فيه
…
كل ما شئت من معاني الصفاء
ورأيت الغرام أيقظ مني
…
شعر نفس أشفت على الإغفاء
فخلقت البديع من كل معنى
…
وجلوت الجمال للشعراء
هكذا بت، لا فؤادي شاك
…
من هواه، ولا حبيبي ناء
فأتى الصبح بالخطوب التوالي
…
من عذاب وفرقة وجفاء
فتساءلت: كيف جرع قلبي
…
غصة البين بعد حلو اللقاء؟
أين قلبي؟ فقدته في غرامي
…
أين عيني؟ أذبتها في بكائي. .
ورجائي أضاعه لي دهري
…
في شبابي، يا رحمتا للرجاء!
لسواء علي عشت سعيدا
…
أم قضيت الحياة في بأساء
فالزهور التي ذوت ظامئات
…
كالزهور التي ذوت في الماء
والطيور التي تغرد في الأي
…
ك سرورا مصيرها للبكاء. .
عشت في عالم تهيج شجوني
…
كلما قيل: عالم الأحياء
علموني كيف الغباء لأحيا
…
هانئا بينهم حياة الرخاء
وامنحوني بعض الرياء لعلي
…
أرتوي غيلة ببعض الرياء!
مصطفى كامل الشناوي
في الأدب الشرقي
الأدب العربي والأدب الفارسي
للأستاذ عبد الوهاب عزام. أستاذ الأدب الفارسي بكلية الآداب
3
وكان من آثار هذا الاختلاط والتنافس ظهور الشعوبية من فرس وغيرهم، وهم الذين قاموا يردون على العرب دعواهم في فضلهم على الأمم. ولم يقتصر الشعوبية أن يسووا أنفسهم بالعرب، بل تمادى الجدل بهم إلى تفضيل غير العرب عليهم، كان من الشعوبية غير الفرس، وكان من الفرس أنصار للعرب، ولكن النزاع كان في معظمه نزاعا بين العرب والفرس خاصة. وقد تناضل الفريقان عن كثب، وأرسلوا الكلام إلى غاياته في غير تحرج.
فعلان الشعوبي الفارسي وهو نساخ في بيت الحكمة أيام الرشيد والمأمون، كتب كتاب الميدان الذي (هتك فيه العرب وأظهر مثالبها) كما يقول ابن النديم، وسهل بن هارون صاحب خزانة الحكمة في عهد المأمون كان شديد العصبية على العرب، وقد كتب رسالة في البخل وكأنه أراد بها الزراية بالجود الذي كان عمدة مفاخر العرب، وسعيد بن حميد بن البختكان لم يتحرج، وهو على مقربة من الخلفاء، أن يكتب كتابا يسميه فضل العجم على العرب، وأشباه هؤلاء كثيرون، وقد استمر النزاع في الكتب عصوراً طويلة، وليس يسعنا أن نستقصيه الآن.
بعد هذا كله نسأل السؤال الذي يفهم جوابه استنتاجا مما تقدم: ما أثر الفرس في الآداب العربية؟
مهما تحدث الناس عن النزاع بين العرب والفرس، فان هذا النزاع لا يشرح لنا كل شيء، كان المتنازعون إما من الرؤساء ومن التف حولهم، وإما من الطامعين في الزعامة والمناصب. فأما العلماء أكثرهم فكانوا كدأبهم في كل زمان يعملون ولا تسمع أصواتهم، وهم الذين تعاونوا على إغناء اللغة العربية بالكتب في شتى الفنون. فقد تقدم الفرس النجباء لحمل الأمانة العلمية منذ العهد الأموي، وثابروا فإذا هم المتقدمون في كل فن: في التفسير، والحديث، والفقه، حتى علوم العربية من نحو وصرف وعروض، والآداب العربية شعرها ونثرها، قديمها وحديثها، وما عنوا بالكلام عن الفرس والعرب. وكانوا يتحرجون أن
يخوضوا في هذا، وكان حسبهم أن ينصروا الدين وعلومه، ولو كان لابد لهم أن يتجاوزا إلى أخذ الفريقين لآثروا نصرة العرب تدينا وتقوى. وحسبنا أن نذكر هنا أمثال الحسن البصري، والبخاري، ومسلم، والأمام أبي حنيفة، ومحمد بن جرير الطبري، وابن قتيبة، وابن فارس. على أن المتعصبين أنفسهم قد اتخذوا العربية لغتهم، فلم يكن لهم بد من إمدادها بمعارفهم طوعا أو كرها. والحق أن كراهيتهم للعرب لم تكن كراهة للغة العربية. وأصدق شاهد على هذا أبو عبيدة اللغوي: كان شعوبيا متعصبا على العرب، وأصله يهودي فارسي، وأنت تعلم ما أجدت مؤلفاته على اللغة العربية، وما بذل من جهد لحفظها ورواية آدابها، ومن هذه الآداب كتابه في مثالب العرب.
للفرس يد أخرى على الآداب العربية، هي ترجمتم ذخائر لغتهم إلى اللغة العربية ترجمة حاذق قد اتخذ العربية من لغته بديلا. ولعل عصبيتهم حفزتهم إلى هذا ليحفظوا آثارهم من الضياع وتقوم لهم الحجة بما يترجمون على فضل آبائهم، وعظم حضارتهم، وقد بدأت هذه الترجمة - فيما يظن - أيام الخليفة هشام بن عبد الملك: ترجم جبلة بن سالم كاتب هشام سير ملوك الفرس، ثم جاء زعيم المترجمين ابن المقفع، وعبد الحميد بن أبان، وآل نوبخت. وقد عد صاحب الفهرس أربعة عشر مترجما غير ابن المقفع وأسرة نوبخت.
والكتب التي ترجمت من الفارسية أقسام ثلاثة:
1.
كتب في الحكمة: وهذه ليست ذات خطر، فإنما هي فلسفة اليونان جاءت من طريق الفرس، وكان العرب يأخذونها من مصادر خير من الفارسية.
2.
كتب في التاريخ والقصص: مثل كتاب (خداي نامه) أو سير الملوك، وكتاب التاج في سيرة أنوشروان اللذين ترجمهما ابن المقفع، وسيرة أردشير، وسيرة أنوشروان، اللتين ترجمهما أبان اللاحقي. وبعضها مأخوذ عن السجلات الرسمية الفارسية. وهذه الكتب لها أثرها في كتب التاريخ العربي. وهي أصل لكل ما في الكتب العربية من تاريخ الفرس وأساطيرهم، فأخبار الساسانيين في الطبري مثلا مأخوذة منها. يثبت هذا مقارنة الكتب العربية بعضها ببعض وبالكتب الفارسية كالشاهنامه. فهذه الكتب على اختلاف مصادرها المباشرة تتفق في سرد التاريخ اتفاقا يؤدي إلى الاعتقاد بأنها أخذت من أصل واحد.
3.
كتب المواعظ والآداب والسياسة وما يتصل بها: مثل عهد (أردشير بابكان) إلى ابنه
سابور. وعهد أنوشروان إلى ابنه هرمز، وجواب هرمز إياه، ورسالة كسرى إلى زعماء الرعية، وكتاب (زادان فرخ) في تأديب ولده، وآيين نامه الذي ترجمه ابن المقفع، وقد أمدت هذه الكتب اللغة العربية بثروة من الحكم الأخلاقية والأقوال المأثورة تتجلى في مثل كتب ابن المقفع: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، واليتيمة، وهي أصل لكتب الأخلاق العربية التي ألفت من بعد، ومن هذا النوع الكتب التي عرفت باسم المحاسن، أو المحاسن والمساويء، مثل: المحاسن لعمر بن الفرخان الطبري (في عصر المأمون). والمحاسن المنسوب لابن قتيبة. والمحاسن والمساوئ للبيهقي، والمحاسن والأضداد للجاحظ، فهذه الكتب لها نظائر في الفهلوية ألفت حتى في العصر الإسلامي. وهي معروفة باسم شايد نشايد، أو (شايسة نشايسة).
كتب التاريخ وكتب المواعظ لها أثر كبير على الأدب العربي بالمعنى الأخص. أعني الكلام البليغ نظمه ونثره، فهذه الأساليب المسهبة السهلة التي تقدم بها عبد الحميد وتلاه فيها ابن المقفع وغيره تأثرت بالأساليب الفارسية كما كانت موضوعاتها فارسية. وقد ذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين وهو يحتج على أن البلاغة ترجع إلى المعاني: ذكر أن الذين عرفوا لغات غير العربية نقلوا بلاغتها إلى العربية في كتابتهم، وضرب مثلا بعبد الحميد الكاتب إذ أجدت على العربية بلاغته الفارسية، وأمر آخر يرجع إلى الشعر: هو الشعر المزدوج الذي نظم به أبان بن عبد الحميد كتاب كليلة ودمنة وغيره، فقد نظم شعراء الفرس فيما بعد كل ما نظموا من قصص في هذا النوع من النظم وسموه المثنوي. فلعل هذا النوع من أثر الفرس على اللغة العربية أيضا على قلة معرفتنا بحال الشعر عند الفرس قبل الإسلام.
طرف من شعر السلاطين
هذه طرف من شعر سلاطين آل عثمان، وقد نبع منهم شعراء كثيرون، ولبعضهم دواوين متداولة. وأعظمهم أثراً في الشعر بايزيد الثاني، ومحمد الفاتح، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وسليم الثاني، (وكل واحد من هؤلاء أب لمن بعده) ثم مراد الثالث، ومراد الرابع، ولكل من هؤلاء السلاطين الشعراء اسم عرف به في الشعر فالفاتح (عوني) وسليمان القانوني (محيي) وهلم جرا.
وقد يشوق القارئ أن يسمع إلى السلاطين يتحدثون عن سرائرهم ليرى أن الدولة والسلطان لا يرفعانهم عن مستوى الآلام والآمال.
ومن يظن أن السعادة ملك وغنى وصيت وجاه وجبروت فليسأل سليمان القانوني، وإرادته قضاء محتوم، وقوله في العالم قانون، ليسمع أن السعادة ليست ملك (سليمان)، وأن العروش لا تسمو على الأشجان.
السلطان محمد الفاتح (عوني)
أيها الساقي هات المدامة! ّفسيذهب البستان من اليد،
سيأتي الخريف، وتذهب الحديقة والربيع من اليد
أيها الحبيب! أوف بالعهد، ولا يغرنك الجمال والنضرة
ياملكي، قد جعلتني أسيراً في سلسلة طرتك
ويا رب لا تحررني من هذه العبودية
جور الحبيب، وطعان العدو، وحرقة الفراق، وضعف القلب
لهذه الألوان من الآلام خلقتني يا رب!
قد اجتمع على إحراقي وهدمي
حرقة القلب، ونار الآهات، ودمع العين
السلطان بايزيد الثاني (عدني)
يبدى لنا الفلك حينا حبا ووفاء
ويتقلب حينا فيبدل بالنعمة ألف نقمة!
ما عهدت من قبل تلك الآلام التي احتملت في سبيل العشق
وكذلك ترى هذه البدور العاشق ما لم يره
هاأنذا أتحامل في طريق العشق غريبا!
والجميلات يتغامزن بي
لا تحسبن هذا الفلك الغدار يمكن للسرور
فانه يضمر جوراً ويبدي صفاء
قد سير طبيبي آلامي بنظرة واعدة
كأنه لقمان تذهب يده بالسقام
إن ضللت طريق العشق فسل (عدني)
فهو يهدي إلى السبيل كل من أضل طريقه يهدي!
السلطان سليمان القانوني (محيي)
إن الذي يؤثر الفقر لا يريد عرشاً ولا إيوانا
ولا يبغي لنفسه إلا من زاد الأحزان
ولن يتبوأ عرش القناعة ملكا حرا
لا يريد أن يكون سلطانا على سبعة الأقاليم كلها
إنما أهل العشق من يقيم في دار الحبيب
يجن ولكن لا يريد الصحاري ولا الجبال
يا محبي: من يشرب قدحا من يد حبيبه
لا يرد حتى ماء الحيوان من يد الخضر
لا شيء أعظم من الدولة في هذا العالم
ولكن الدولة في هذه الدنيا لا تزن نفساً واحدا من العافية
ما هذا الذي يسمى سلطنة إلا ضوضاء الخليقة
وما في هذه الدنيا سعادة ولا جد كالوحدة
دع هذا العيش واللهو فإلى الفناء المصير
وإذا أردت الصديق الباقي فلا شيء كالطاعة
إن يكن عمرك عدد الرمال
فلن يبلغ ساعة واحدة في زجاجة هذا الفلك
إن ترد الحضور يا محبي فأفرغ قلبك
فليس للوحدة مقام كزاوية العزلة
في الأدب الغربي
معنى الشعر
للشاعر الإنكليزي درنكووتر
(المستر جون درنكووتر نزيل مصر الآن من أقطاب الشعر الإنكليزي الحاضر وله عدة مجموعات شعرية وقطع مسرحية شهيرة، ولد سنة1882 وبدأ حياته العملية كاتبا في إحدى وكالات التأمين. وهو الآن أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة برمنجهام. وأشهر مؤلفاته (إبرهام لنكولن). وهي قطعة مسرحية رائعة. ومنها مجموعة شعرية عنوانها (رجال وساعات) وهي أولى مجموعاته و (العصيان) وغيرها. وقد دعت الجامعة المصرية المستر درنكووتر ليلقي خمس محاضرات عن الشعر الإنكليزي. فألقى الأولى منها يوم الخميس 17 فبراير في الجمعية الجغرافية الملكية، وموضوعها
(معنى الشعر) وهذه خلاصتها):
قال مستر درنكووتر:
تقوم اليوم كثير من الصعاب الخطيرة والمسائل الهامة التي تزعج معظم دول العالم. وهذه المسائل تشغل عقول المفكرين جميعا. ولكن أحدا لم يوفق إلى حلها، بيد أنهم على يقين من أمر واحد: هو أن هذا الحل لا يحقق ما لم تتناول مسائلنا بروح متبادل من التفاهم وحسن النية، وهذا هو الجوهر، فالناس لا يود بعضهم لبعض سوى الخير، ولكن ذلك لا يتم إلا بالاحتكاك الشخصي: فإذا ما اقتنعنا بوجوب التعامل بتعقل، خفت متاعبنا.
ورمز هذا الروح المشبع بالتفاهم وحسن النية: هو الشعر، فالشعر يعني بالأشياء الكونية الخالدة الخالقة، والشعر يبغض الظلم، وتبديد النشاط البشري، وخيبة الأمل، وقد خلق للاحتشام، والتسامح، والاحترام المتبادل.
فمما يشجع إذن أن يعمل شيء في تلك الأيام العصيبة لتقوية التفاهم بين الشعوب. وهذا بلد (يعني مصر) قد دعا شاعراً من بلد آخر ليأتي ثم يتحدث عن شعر بلاده، وهي بلاد ذات لغة وتقاليد، وذات أغراض سطحية أخرى، فهذا في نظري أمر وافر الحكمة؛ وإني لفخور بأن أنتهز هذه الفرصة التي قد يعدها كثير من الساسة خارجة عن نطاق عملهم، ولكني أراها عملا حرا كريما من أعمال السياسة.
ثم قال مستر درنكووتر: إنه سيحاول أن يبين في محاضراته أمرين: الأول أن يلفت النظر إلى جمال الشعر الإنكليزي في ذاته، والثاني أن يبين أن الخلافات السطحية بين الشعر الإنكليزي والشعر المصري (العربي) ليست في الواقع أكثر من سطحية، وإنه عندما نتأمل الحقائق التي يعنى بها الشعر، نجد الحياة البشرية تضطرم في نفس الشاعر، سواء أكانت بين الفلاحين المصريين أم بين الفلاحين الإنكليز، أو بين طلبة جامعة إكسفورد وكامبردج أم بين طلبة جامعة القاهرة، أو شاعر أيرلندي مثل يتس أو شاعر عربي مثل شوقي. ثم قال أنه قرأ (مجنون ليلى) التي ترجمها مستر أربري، فدهش إذ رأى مبلغ ما هنالك من تشابه بينها وبين ما يكتبه شاعر كمستر يتس.
ولكن يجب أن أقول أني لم أدهش، لأننا نعرف أن هذه هي طريقة الشعر، فالشعر لا يعرف الحواجز التي تقيمها بين الشعوب مصالح التجارة أو السياسة، بل تقيمها العادة والإقليم، والشعر يذهب إلى أعماق الحياة ويرى أن أعماق الحياة لا تختلف بالنسبة لمختلف الشعوب، وأنها واحدة في العالم بأسره.
فإذا كنت أحدثكم فأرجو ألا تعتبروني سائحاً من بلد أجنبي، ولكن صديقا يتحدث باسم الشعر عن أشياء يجب الا يظن متأملاها أن أحدهما غريب عن الآخر: واسمحوا لي أن أكون جريئا، فأستميح عفوكم في بيت لشاعركم شوقي.
ولست أعتقد، بعد الذي غمرني به المصريون من العطف، أنني رجل متعثر ضال.
ثم قال مستر درنكووتر: ما هو الشعر؟ يمكن أن نقول: أنه (الفن) فالفن في كل خواصه الجوهرية كالشعر سواء بسواء. والشعراء لا يخلقهم الشعر، ولكن الشعراء هم الذين يمدون العالم بعلم النظريات الشعرية، وإذن فالشعر هو فهم تام للتجارب، وإبراز هذا الفهم في صيغ الألفاظ. وعقولنا جميعا مهما اختلفنا في الجنس واللون والمركز والآراء والأطماع نستقبل جميعا في كل وقت أسفارا ضخمة من التجارب، والمسألة هي كيف نفهم هذه التجارب، والعقل القوي دائما سيد تجاربه؛ وهنا يتدخل الشاعر، فالشاعر لا يختلف في النوع عن أقرانه، ولكنه يحتاج إلى فهم أعمق لهذه التجارب، وهذا الإجهاد، وهذه الرغبة، وهذه الضرورة هي المجد، وهي المأساة في حياة الشاعر. هي المجد إذا استطاع أن يرضي هذه الضرورة؛ وهي المأساة لأن معظم هذه التجارب لا يمكن أن يحقق ويفهم.
والشاعر يعتبر أحياناً محسناً عاما؛ وهذا صحيح إلى حد ما؛ ولكن الشاعر لم يكن قط باختياره محسناً خلقياً، فالشاعر حين يكتب لا يفكر في فعل الخير؛ فهو يتفهم تجاربه فقط. وإذا اعتقد الشاعر نفسه محسنا عاما، فانه يتعثر في عمله. ذلك لأنه يفكر عندئذ فيما قد يراه الناس في عمله، ويكتب تحت هذا الأثر، بدلا من أن يقول الحقيقة.
ثم قال: أن الشعر في كل أمة يتأثر إلى حد ما بالأقاليم والمناظر وما إليها، وأن مناظر الخريف الإنكليزية وتناثر أوراق الشجر، والسماء الشهباء، وفصل الكآبة، قد أثرت في عقول ألوف وألوف من الإنكليز، ولكن رجلا واحدا لاحظها وفهمها؛ ثم أخرج منها أصدق صورة، وصاغ قطعة من أبدع ما في الشعر الإنكليزي؛ وكان هذا الرجل شكسبير. وكذا البلبل وأغاريده، فقد نفذت إلى ذهن فتى يقيم في ضاحية لندن فاخرج عنها قصيدته الخالدة (نشيد إلى البلبل) وكان هذا الشاعر كيتس.
(والفن كله هو التعبير عن التجارب؛ ولكن الشعر لا يعبر عنها إلا باللفظ. وذلك لأن الألفاظ تستعمل للتعبير عن كثير من الأشياء العادية. ولذا وجب أن يستعمل الشاعر الألفاظ بطريقة تجعلها حية دائما. والشعر أعظم من الشعراء، فهؤلاء يموتون، ولكن شعرهم يبقى دائما حياً صبوحاً)
كلمات في البحث العلمي
ترجمة الأستاذ احمد أمين
قال فرنسيس بيكون:
(لم أجد نفسي صالحة لشيء صلاحيتها لدرس الحقيقة، ذلك أني منحت عقلا له من النشاط والمرونة ما يمكنه من إدراك وجوه الشبه بين الاشياء، وله من الثبات ما يعينه على تعرف وجوه الخلاف، ولأني منحت رغبة في البحث، وصبرا على الشك، وغراما بالتفكير، وبطأ في الجزم، واستعدادا للنقد، وعناية بالترتيب، ولأني ليس لي ولع بالجديد، ولا إعجاب بالقديم، وأكره كل أنواع الخداع، لذلك أرى أن لي طبيعة تألف الحقيقة، ولها بها اتصال).
وقال هكسلي:
(إذا تكلمت عن الأغراض التي كانت نصب عيني من يوم أن بدأت حياتي العلمية فتلك باختصار هي أن أستزيد من المعلومات الطبيعية، وأن أطبق طرق البحث العلمي على كل قضايا الحياة جهد الطاقة وقد نما الاعتقاد عندي بأنه لا يخفف آلام النوع الإنساني إلا الإخلاص في الفكر، والإخلاص في العمل، ومواجهة العالم كما هو بعزم ثابت بعد أن تمزق عنه ثوب الرياء الذي خلعه عليه المراءون).
وقال فارادي:
(يجب على الفيلسوف أن يصغي لكل رأي، ولكن لا يكون مصدر الحكم الا نفسه، لا يخدع بالظواهر ولا يميل إلى فرض فروض خاصة، ليس تابعا لمذهب معين، وليس له في اعتقاده أستاذ، لا يحترم الأشخاص ولكن يحترم الحقائق. غرضه الأسمى الوصول إلى الحق، فان هو أضاف إلى ذلك الجد في السعي كان خليقا أن يخترق حجب الظواهر، ويصل إلى حقائق العالم).
وقال السير ميكائيل فوستر في خطبة له في المجمع البريطاني سنة 1899:
(أن الصفات التي تلزم الباحث في العلم ثلاث:
1.
يجب أن تكون طبيعته متموجة تموج ما يبحث عنه، فالباحث وراء الحق يجب أن يكون مخلصا للحق، والباحث في أحوال الطبيعة الصادقة يجب أن يكون صادقا.
2.
يجب أن يكون يقظ العقل، فأن الطبيعة إنما تفهم بالإشارة أو تهمس في الأذن بأوليات
أسرارها، فعلى الباحث أن يكون مستعدا لفهم إشاراتها مهما دقت، ولسماع أصواتها مهما خفيت.
3.
الشجاعة، وأعني بها التحمل والصبر)
وقال نيكون:
(أن الحق يظهر من الخطأ بأسرع مما يظهر من الخلط والغموض، فإذا بدأنا نحدد الخطأ بدأ الخطأ يختفي كالذي يحكي عن الجني إذا بدا يتجسد سنحت الفرصة للقبض عليه.
وصور (دارون) اشتباك العالم تصويرا دقيقا محكما وسمى ذلك (نسيج الحياة) فقال إن العالم كله سلسلة متصلة مشتبكة وأوضح ذلك بأن للقطط علاقة بمحصول البرسيم، وليس يقع طائر الا وقد يحدث من وقوعه أعمال واسعة النطاق. فالقطعة الصغيرة من الطين قد تعلق برجل الطائر ويرمي بها إلى الأرض فتتصل بها بذرة (تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهناك دورة لا تنقطع للمادة، والقوة فقد تؤثر (1) في (ي) ولو لم تعلم (ي) بـ (1) فهناك علاقة بين تقليل الأشجار ووباء الحشرات، وبين الطيور وانتثار البذور، وبين ضوء الشمس وصيد أنواع من السمك، وهذه الأمثلة قد تظهر بادئ بدء كأنها ألغاز، ولكن إذا بينت الارتباطات المتسلسلة وضحت وضوح الشمس).
وقال آخر: (غرض العلماء أن يروا العالم شفافا وأن يجعلوه (سينما) عقليا، صوره المعروضة أسباب متعاقبة تمر أمام أعيننا بدون انقطاع)
وقال كارل بيرش:
(يجب على العالم أول كل شيء أن يزيل العوامل الشخصية من أحكامه، وأن يقدم على ما يقول برهانا تقبله عقول الناس كما يقبله عقله، وأن يعني بتقسيم الحقائق وملاحظة تسلسلها وارتباط بعضها ببعض)
القرية المهجورة
للشاعر أوليفر جولد سمث
أتى عليك زمان كله رغد
…
يفيض فوق رباك الخير مطردا
وكان عهدك والفلاح مغتبط
…
يأتي له الرزق من غلاته رغدا
لكن تنكرت الأيام وامتلكت
…
هذي البلاد قساة أغلظوا الكبدا
فعطلت من ليالي الأنس أربعها
…
والأهل قد هجروها، لا أرى أحدا
(أوبرن) يا لمحة السحر التي اختلست
…
لقد طواك زمان كله عِبرُ
لكم رجعت إليك اليوم مكتئبا
…
والنفس ولهانة والقلب منفطر
أرتاد فيك مكانا كان يؤنسه
…
ظليل كوخك أو نسرينك العطر
فتملأ الذهن أفكار تراوحني
…
بذكريات عهود كلها صور
لما رمت بي النوى في دار غربتها
…
وذقت فيها نصيب الحزن والتعب
ركبتها ولقلبي الصب أمنية
…
في أن يكون إلى (أوبرن) منقلبي
وكنت أحرص في جهدي الطويل على
…
قنديل عمري حرص المشفق الحدب
ألكي أقضي في قومي بقيته
…
أروي لهم كل ما لاقيت من عجب
دعوهم حول نيراني لأطرفهم
…
بعد العشي بأخباري وأهوالي
كأنني أرنب في الدوِّ أفزعها
…
صيد فعدت لوكري بعد إجفال
قد كنت أحلم في آفاق دسكرتي
…
وكان عودي إليها جل آمالي
فذاك أحسن شيء سحر بهجتها
…
وذاك خير معادا تربها الغالي
يا عزلة الريف يا مكنون روعته
…
يا إلف شيخوخة الإنسان في الكبر
آها على طيب أحلام رزئت بها
…
وسدتها فيك بين الماء والشجر
ما كان أصفى نعيم المرء لو ختمت
…
مشيبه راحة في دوحك الخضر
يجفو الحياة وما تحويه من خدع
…
غرارة ونعيم غير ذي أثر
ما كان أعذب ذاك الصوت سيرسله
…
وحي المساء ليفني في أصائلك
قد كنت أمشي وئيد الخطو منتشيا
…
أصغي له وهو يعلو من منازلك
والليل أرخى على الراعي ستائره
…
فخب يحدو الرواعي في خمائلك
وقد تهادى الإوز الغر في شغف
…
على مياهك. . يلهو في جداولك
يا لهف نفسي عليك اليوم قد سكنت
…
عن سكب ألحانها هذي الأغاريد!
لم يبق في الغاب من صوت يجاوبه
…
صدى السكون ولا للريح ترديد
ولم تعد فيك تحيي الأنس ثانية
…
في الليل فتيانك الطيب الصناديد
لم يبق غير عجوز جد عانية
…
أو ثاكل هَّدها هَمٌ وتسهيد
قد أكرهتها حياة لا تبدلها
…
من مأكل خشن أو مشرب رنق
فقوست ظهرها فوق الضفاف على
…
هشائم العشب تجنيها أو الورق
وثم ترجع في ضعف يغالبها
…
لكوخها توقد النيران في الغسق
ظلت لتبقى على الوادي مؤرخة
…
له وتطوي بقايا العمر في قلق
هناك في أجمة كانت تشارفها
…
أشجار مهتزة الأزهار فيحاء!
قد أوحشتها غصون لا تشذبها
…
عناية فتدلت جد لفاء!
هناك من بين أغصان محطمة
…
تغشى المكان. . وبين الظل والماء
يقوم مرتبع القسيس في خفر
…
مستحيياً يتوارى تحت أفياء!
قد كان شيخاً وقور الذات متقيا
…
يخشى الإله ويقضي الليل أوابا!
يعده القوم من أهل اليسار وإن
…
لم يحو غير التقى ذخرا وأسلابا!
وكان في الناس محبوبا ومحترما
…
يلقي الغريب ويلقي الأهل أحبابا
لم يقرب المدن من إثم يطوف بها
…
بل كان يطوي القرى للوعظ جوابا!
ما زال سائله المسكين يقصده
…
وضيفه الشيخ يرعاه بلا برم!
ولم يزل يجلس الجندي مصطليا
…
في داره موقد النيران من أمم!
يروي له كل ما لاقى وتلذعه
…
نار الجراح فيشكو شدة الألم
والشيخ جانبهم دوما يقاسمهم
…
آلامهم بحنان غير متهم
يظل كالطائر الشادي يرف على
…
صغاره فوق أغصان الخميلات
يحتال كيما يطيروا. . ثم يحملهم
…
إلى جناب خصيب في السماوات!
قد راح يزجر من يبطئ ويسعفه
…
إذا تخلف عن طير الجماعات!
يهديهم نحو كون لا يطوف به
…
غير السعادة في علوي جنات!
م. ع. الهمشري
العلوم
سبيل الإنسان والطبيعة.
للدكتور احمد زكي. أستاذ الكيمياء بكلية العلوم.
الطبيعة تسير في كل ظواهرها وحوادثها على قوانين مرسومة منذ الأزل، وستسير فيما يظهر على تلك القوانين الموضوعة إلى الأبد.
وقد كان الإنسان القديم يعجب بهذه الظواهر، وتأخذه الرهبة، ويلبسه الإجلال والإكبار عند اعتبار تلك الحوادث، ولكن لم يحفزه شيء إلى تفهمها، ولم تجش في نفسه رغبة إلى تعرف أسبابها، لأنها كانت تستأذن على عقله فُرادي وأشتاتا ثم تُركَم فيه على غير نظام كما يركم المتاع عند تاجر الأمتعة القديمة، فالحذاء البالي إلى جانب المرآة الصقيلة، والكتاب القيم بجوار قدر الطعام. وكان عقله صبياً، والعقل قد يصبو في الشيخ، والعقل قد يشيخ في الصبي، وعقل الصبي في القرن العشرين قد يزيد على عقل الشيخ في قرون الحياة الأولى، وعقلي وعقلك اليوم ليسا من خلق هذا الجيل، بل هما تراث لأجيال جاء دوري ودورك في احتوائه، وقد أورِّثه أعقابي من بعدي وتورثه أعقابك من بعدك وفيه نقص، وقد أورثه وتورثه وفيه زيادة، ولكن لا شك أن ما يورثه جيل جيلا من ذلك يزيد بمر الأجيال بزيادة التجارب وتسلسل الثقافات وتتابع المدنيات.
ولما تفتح الذهن الإنساني أخذ يدرك بين ظواهر الكون العديدة أشباها برغم تراكمها، وبدأ يبصر بين الأشياء منها وجوها للخلاف برغم خفائها وتعسرها، وأخذ يرتب ما دخل عقله شتيتا فيقرب بين المتعارفات، ويباعد بين المتناكرات، وأصبح ما يدخل عقله يقصد من فوره إلى مكانه من ذلك النظام وما يستأذن على رأسه يُؤذن له ولكن من باب دخل فيه من قبله أجناسه، وبهذا العقل المنظم، وبما فيه من وحدات متآلفة متخالفة مترابطة، أخذنا نحن بني الإنسان نتفهم الطبيعة، فاستكشفنا أن لها قوانين، وأن لها مُثُلا تنسج عليها في كل ما تصنع، ونماذج تحتذيها في كل ما تأتيه.
وقد يتراءى لنا نحن بني العدم والفناء أن الطبيعة تشذ عن مثلها أحياناً، وتخرج عن مألوفها أطوارا، وما في الطبيعة من شذوذ، ولا هي تخرج عن مألوف، وإنما هو سوء فهم منا لمألوفها، وقصور منا عن إدراك نواميسها، وما ذلك القانون الذي شذت عنه، ولا
الناموس الذي خرجت عليه، إلا من خلقنا نحن، فنحن الألى أوجدناه، ونحن الذين فرضناه وفرضنا اطراده. فلما لم نجده مطرداً سمينا ذلك شذوذاً، ولما لم نجد القاعدة التي ابتدعناها متبعة أسمينا نواقضها استثناء.
على أننا أثناء ذلك لم نفقد حبنا للنفع، ولم تنقض فينا الرغبة في الفائدة، فكنا لا نكشف سراً ناقصاً من أسرار الطبيعة الا ونتساءل كيف ننتفع به في بيوتنا، وكنا لا نزيح الستار عن عجيبة من عجائب الكون لم نفهمها كل الفهم حتى نتساءل كيف نستفيد منها في مدننا وأسفارنا، وما ضرنا ونحن بنو المادة أن تكون قوانين الطبيعة ناقصة ما دمنا نستهدي بها إلى البخار يحملنا من بلد إلى بلد؟ وما ضرنا ونحن بنو النفع أن تكون لنواميس الطبيعة استثناءات ما دمنا نصنع بعونها الطوائر من المعدن والخشب، ونبني المواخر تشق البحر ولا تعبأ بما فيه من أمواج وأنواء؟ ونجحنا في هذا السبيل نجاحا زاد أقدامنا فيه ثباتاً. فبدل أن كانت الغاية مقصورة على فهم الكون ودرس طبائعه، وقبل أن نفهم الكون وندرس طبائعه فنشتفي من ذلك، تطلعنا إلى محاكاة الطبيعة، إلى إنتاج ما تنتج، إلى خلق ما تخلق، إلى التحريك بمثل ما تحرِّك، والتسكين بمثل ما تسكن، وعمدنا إلى مناهضتها كذلك، إلى إماتة ما تحيي، وإلى إحياء ما تميت، إلى تحريك ما تسكْن وتسكين ما تحرّك، وإلى توجيهها إلى ما أرادت وإلى ما لم ترد. هذه غاية ابن آدم: يريد أن يخلق وهو مخلوق، ويحل الوثاق عن قوى للطبيعة هو بها موثوق، ويسيطر على عالم قليل ما هو فيه، وكان الناس يرون في ذلك افتئاتا من المخلوق على الخالق، فأصبحوا يرون فيه تمجيدا من المخلوق للخالق، وكانوا يرون فيه زندقة ومروقا وعصياناً، فأصبحوا يرون فيه إيمانا وتخشعا وتعبدا، وتبينوا أن سر الإنسان من سر الله، وأن ما يأتيه الإنسان إنما يصدر عن فطرة وفطنة هي لله ومن الله.
حاول الإنسان أن يقلد الطبيعة في أمور عدة، فبلغ غايته في البعض، وفات الغاية في البعض، وخاب في كثير من الأمور.
رأى النبات يخرج ألوانا تشبه ما في الطيف من ألوان ويخرج ألوانا على ما في الطيف من ألوان، ولكن النبات بطيء في عمله، والإنسان خُلق من عَجَل، والنبات لا يجود من ألوانه إلا بالنزر اليسير، والإنسان يريد منها الوافر الكثير، والنبات يجود منها بعدد على
كثرته قليل، والإنسان يريد منها عددا كآماله لا حد لها ولا حصر. فأخذ يبحث ويدأب ويصمد ويصابر الجيل بعد الجيل حتى أتى من الأصباغ بما تحسده الطبيعة عليه، أو لعل الأوفق أن نقول بما تغتبط الطبيعة به، فالإنسان بعضها. أتى من الأصباغ بما يطابق أصباغ النبات أحياناً ويشابهها أحياناً، وأتى منها بما يفوقها زهواً وإشراقاً، وأتى منها بعدد يكاد يجل عن الحصر وخلط بينها فأتى بكل لون وقعت عليه أعين الأحياء وهم أيقاظ صاحون، وكل لون وقعت عليه أعينهم وهم نيام يحلمون، أتى بألوان تزري بألوان الربيع في إبانه، وتستحقر ما يتنزل به وحي الشاعر عند صفاء قريحته وفي سمو خياله.
ورأى الإنسان الطائر يطير فأراد أن يقلده في طيرانه، رآه طليقا من قيود الأرض مالكا أعنة الهواء يسرح في أبعاد ثلاثة من طول وعرض وارتفاع، فأراد أن يكسر قيده ويستعير للهواء أعنة ويزيد على بعدي هذا السطح الأرضي بعداً ثالثا، وبعد خيبة تتلوها خيبة، وبعد نفس تتبعها إلى خالقها أنفس، وُلدت الطائرات، ولم تولد كالإنسان في ساعة ولا يوم ولا عام، وإنما يوم ميلادها كان حقبة من الزمان، فلم تكن بنتاج ذهن، ولكن نتاج أذهان، وأصبح إنسان هذا العصر يطير في الجو كيف شاء وحيث شاء، وحصد بنو اليوم حصادا حصدت في سبيله رقاب بني الأمس.
ومن أحدث الأمثلة في تقليد الإنسان للطبيعة ما جاءت به الأنباء منذ قريب بما يحق لنا أن نسميه ثورة قصد العلم إليها في الإضاءة والضياء. كنا في الأزمنة الأولى نقنع في حلك الليل بالضوء القليل يخرج علينا من حريق الخشب مع فحمه ودخانه، وحمدنا القدر لما هدانا إلى الزيوت والشموع نشعلها على هوانا ونطفئها على هوانا، وزدنا للقدر حمدا لما تهيأت لنا مدخنة من زجاج وضعناها على المصباح فوقتنا سخامه، وجاء المصباح الكهربائي فوجمنا له حيناً نحسبه من عمل السحرة أو صنع الشياطين، ولما اطمأننا إليه زدناه على السنين شدة وزدناه جمالا، وكنا نحسب أن هذا غاية المنى ومنتهى الأمل، ولكن الإنسان بعد أن وجم لهذا المخلوق الجديد مستغربا معجبا، وبعد أن رباه ونماه فخورا زاهيا، وجد أخيرا أنه لم يبلغ به هواه. ونظر إلى الشمس في بياض ضيائها وبارح سناها فابتسمت له أو ابتسمت منه، فوجد فيها الغاية التي ليس من بعدها غاية. وتبين فيها آية الطبيعة الكبرى والمثل الذي تضاءل بجواره الأمثال. فرجع يقسم ألا يفتر له عزم حتى
يأتي بمثل هذا السنا والضياء.
وجاءت البشائر في الأشهر القريبة الماضية بأنه نجح في هذا أو كاد. وأنه استعاض عن المصباح الكهربائي الأثري، أو الذي سيصبح عن قريب أثريا، بمصباح جديد لا فتيل فيه. وإنما ملئت زجاجته بمزيج من غازين بنسب خاصة تمر فيه الكهرباء فيخرج منه ضياء يشبه ضياء الشمس في أمرين: في نصوع بياضه وفي انتظام توزعه. وهو فوق ذلك لا يتكلف من الكهرباء ألا خمس ما كان يتكلف المصباح القديم، أو الذي نرجو أن نسميه في القريب العاجل قديماً. وهم يعدوننا أنه لا يمضي شهر حتى تضاء أميال من الطرق بجوار لندن بهذا الضياء الجديد. وهم يعدوننا أنه لن تمضي سنوات حتى يستعاض بمصابيح الشوارع وما يحملها من عمد طويلة بأنابيب متواصلة من هذا الضياء تمد على الأرض على جانب الطرقات. فلا يكون ثمة حاجة إلى إنارة العربات والسيارات في الليل أو في النهار الذي صنعه الإنسان.
القصص
أديب
للدكتور طه حسين
- 1 -
زعموا أن من أظهر خصائص الأديب حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئا إلا أذاعه، ولا يشعر بشيء إلا أعلنه. وهو إذا انظر في كتاب أو خرج للتروض أو تحدث إلى الناس فأثار شيء من هذا في نفسه خاطرا من الخواطر، أو بعث في قلبه عاطفة من العواطف، أو حث عقله على الروية والتفكير لم يسترح ولم يطمئن حتى يقيد هذا الرأي أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر في دفتر من الدفاتر أو على قطعة من القرطاس. ذلك لأنه مريض بهذه العلة التي يسمونها الأدب، فهو لا يحس لنفسه وإنما يحس للناس. وهو لا يشعر لنفسه وإنما يشعر للناس، وهو لا يفكر لنفسه وإنما يفكر للناس، وهو بعبارة واضحة لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس. وهو حين يأتي من الأمر هذا كله يخادع نفسه أشد الخداع ويضللها أقبح التضليل. فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير، وإنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي تنتجه طبيعته الدقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعا معتدل الرأي في نفسه فهو شقي تعس محزون يجب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعس وحزن. لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه، وربما لم ير في نفسه إيثارا ولم يحسس أنه شقي، وإنما آثر نفسه بالخير وأحبها قليلا أو كثيرا فهو يسجل ما يحس وما يشعر وما يفكر ليحفظه من الضياع، وليستطيع العودة إليه من حين إلى حين كلما خطر له أن يستعرض حياته الماضية. وكثيرا ما تعرض له الفرض التي تحمله على أن يستعرض حياته الماضية، والذاكرة قصيرة ضعيفة. فلم لا يسجل خواطره وعواطفه وآراءه التي يتكون منها تاريخه الفردي الخاص ليعود إليه كلما دعاه إلى ذلك جد الحياة أو هزلها، وما أكثر ما يدعو جد الحياة وهزلها إلى أن يستعرض الإنسان حياته الماضية وما اختلف عليه فيها من الأحداث.
يخدع الأديب نفسه هذه الضروب من الخداع. ويعللها بهذه الألوان من التعللات، وحقيقة الأمر أنه يكتب لأنه أديب لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كتب، يكتب لأنه محتاج إلى الكتابة
كما يأكل ويشرب ويدخن لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين. وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يحسن أن يكتب، وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب ويدخن قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ؛ إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة فيتحرك، وتدفعه إلى العمل فيعمل. فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يوم من الأيام حين تصبح أمرا مقضيا لا ينصرف عنه، ولا سبيل إلى التخلص منه.
إذا كان هذا كله صحيحاً، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب واستأثرت بقلبه ولبه ونفسه كصاحبي هذا، كان لا يحس شيئا ولا يشعر شيئاً ولا يقرأ شيئاً ولا يرى شيئاً ولا يسمع شيئاً إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو الرضى، وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء. وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أما عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار، فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح، ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائماً كما كان يكتب يقظاً، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات، ينمق هذه ويدبج تلك كما كان يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها، وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا، وكثيرا ما كان يقرأ عليهم فصولا من النثر ومقطوعات من الشعر أملتها عليه يقظته وسجلتها يده حين كان يخلو إلى نفسه بعد أن يكون قد ملأ عينيه وأذنيه وحسه وشعوره وقلبه وعقله بما يحيط به من الأشياء، وبما يمسه من الناس ومن الحياة، وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحوا عليه أن
يذيع ذلك وينشره، فيبتسم ثم يهزأ ثم يمتنع عليهم ويلح في الامتناع، لأنه كان يؤمن بأن ما يكتبه لم يصل بعد إلى أن يكون خليقا بأن يقدم إلى المطبعة، فهو كان يخاف المطبعة ويكبرها ويحيطها بشيء من التقديس غريب، وكان يتحدث بأن ما يقدم إلى المطبعة من الآثار المكتوبة أشبه شيء بما كان يقدمه الوثنيون القدماء إلى آلهتهم من الضحية والقربان، وبما يتقدم به الآن المؤمنون المترفون إلى إلههم من الصلاة والدعاء. فمن الحق أن تصطفى الضحية وأن يتخير القربان، وأن تكون الصلاة قطعة من النفس، وأن يكون الدعاء صورة للقلب، والعقل جميعا، وكان صاحبنا يرى أن ليس فيما كتب ضحية تصطفى، ولا قربان يختار، وانه لم يوفق بعد إلى أن يودع القرطاس قطعة من نفسه، أو يسطر عليه صورة قلبه وعقله، فما زالت الآماد بينه وبين المطبعة بعيدة، وما زالت الأستار والسجف دونه مسدلة، فليكتب إذا لنفسه لا للمطبعة، فإذا ضاق بنفسه وبما تملي فليظهر أصدقاءه على شيء منه ليرضي هذه الحاجة القوية التي نحسها جميعا إلى أن نشرك الناس فيما نجد من حس أو شعور، والحق أن صاحبي لم يكن يقدم على هذا الا كارهاً مضطرا حين لا يجد بداً من الاقدام، أو حين يسأله أصدقاؤه عما أحدث بعدهم، وكان حياؤه يمنعه من إظهار عقله وقلبه، كما يمنعه من عرض جسمه عاريا على الناس، ولكن أصدقاءه لم يكونوا في حاجة إلى أن يروا شخصه عاريا، وكانت حاجتهم شديدة إلى أن يروا نفسه كما هي، لأنها كانت جميلة خلابة تروعهم حينا وتثير في نفوسهم الحب والمودة دائما.
كان قبيح الشكل نابي الصورة تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، وكان إلى القصر أقرب إلى الطول، وكان على قصره عريضاً ضخم الأطراف مرتكبها، كأنما سوى على عجل فزادت بعض أطرافه حيث كان يجب أن تنقص، ونقصت حيث كان يحسن أن تزيد، وكان وجهه جهما غليظاً يخيل إلى من رآه أن في خديه ورما فاحشا، وكان له على ذلك أنف دقيق مسرف في الدقة، منبطح غال في الانبطاح، قد اتصل بجبهة دقيقة ضيقة لا يكاد يبين عنها شعره الغزير الجعد القاصم، لم تكن قد تقدمت به السن بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقده لا يخدع عنها أحد، كان على قصره مقوس الظهر إذا قام، منحنياً إذا جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة وإسرافه في الانحناء
على الكتابة أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه، وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائما إلى اليمين أو إلى الشمال؛ وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائما لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى ما يليه من إحدى نواحيه. ولم يكن صوته عذبا ولا مقبولًا، وإنما كان غليظاً فجاً، ولكنه مع ذلك لم يكن يخلو من نبرات حلوة تجري عليه إذا قرأ شيئا فيه تأثر وانفعال، وكان له ضحك غليظ مخيف يسمع من بعيد، بل كان كل ما يصدر عن صوته غليظاً مخيفاً، يسمع من بعيد، ولم يكن للنجوى معه سبيل، وكثيرا ما ضايقه ذلك حين كان في باريس، وكثيرا ما حمل ذلك الناس عامة وأصدقاءه خاصة على أن يضيقوا به ويجتنبوه إذا لقوه في قهوة أو ناد أو ملعب من ملاعب التمثيل. وهو على رغم هذا كله كان أحب الناس ألي وأكرمهم علي وآثرهم عندي وأحسنهم مسلكا إلى نفسي ومنزلا من قلبي، كان يزورني فانصرف إليه عن كل شيء، وأقضي معه الساعات، فإذا تركني خيل ألي أني لم أقض معه الا اللحظات القصار. وكنت إذا أعياني الدرس واحتجت إلى الرياضة أو الراحة، آثرت زيارته والتحدث إليه والاستماع له على كل ما كانت تقدم إلى القاهرة أو باريس من أنواع الرياضة والراحة.
- 2 -
فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس ثم أدركته إلى باريس بعد أن سبقني إليها، عرفته مصادفة وكرهته كرها شديدا حين لقيته لأول مرة؛ كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات حريصاً عليها مشغوفاً بها معتزماً أن لا أضيع حرفاً مما يقول المحاضرون. وكان مجلسي لهذا دائماً قريبا من الأستاذ، فأني لمصغ ذات ليلة إلى الأستاذ وإذا بصوت من ورائي ينطلق بالحديث هادئا ولكنه، على هدوئه يغمر أذني جميعا، ويكاد يخفي علي صوت الأستاذ، فأجد في التخلص منه فلا أفلح، وأضيق بهذا الصوت ويضيق به صاحباي اللذان يكتنفانني، فنلتفت إلى صاحب الصوت نطلب إليه الصمت فلا يسكت الا ريثما يستأنف الحديث، ونراجعه مرة أخرى فلا يحفل بنا، فنشكوه إلى الأستاذ فيضطره الأستاذ إلى الصمت، حتى إذا انتهت المحاضرة وخرجنا من غرفة الدرس رأيناه قد وقف لنا ينتظرنا، فيعرض لنا في غلظة،
فإذا زعمنا له أن من حقنا أن نسمع الأستاذ، وأن ليس له أن يصرفنا عنه قهقه قهقهة مخيفة، وقال في صوت ما نشك أن الأستاذ قد سمعه:(وماذا تريدون أن تسمعوا؟ ولكنكم معذورون، جئتم من الأزهر فكل شيء عندكم قيم، وكل شيء عندكم جديد).
واجتهدنا بعد ذلك في أن نجتنب مكانه من غرفة المحاضرات، وأن نختار لأنفسنا مجلساً بعيداً منه أقصى غاية البعد. تركناه ولكنه لم يتركنا، وكأنما عمائمنا كانت تغريه بنا وتحرضه علينا، فلم نكن نخرج من محاضرة حتى يعرض لنا ويأخذ بجبتي أو قفطاني وهو يسألني (أأعجبتك المحاضرة؟) فان قلت (نعم) قال: وماذا أعجبك منها؟ وهل فهمتها على وجهها؟ وكان يقول لي: هون عليك من هذا الحرص على المحاضرات، ولا تتهالك عليها هذا التهالك، فهي أقل غناء مما تظن وخير لك أن تقرأ من أن تسمع، فلما ألح علي في ذلك سألته وإذا كنت ترى هذا الرأي فما اختلافك إلى الجامعة؟ وما استماعك للمحاضرات وما تهويشك علينا بصوتك العالي وحديثك الذي لا ينقطع؟ فضحك وقال: الجامعة شيء جديد أحب أن أراه، وقد سئمت القهوة، ولو لم يكن في الجامعة الا أنت وأصحابك هؤلاء الذين تتفتح عقولهم للعلم الحديث فيتلقون ما يسمعون في كلف ونهم مصدرهما الجهل العميق، لكان هذا كافيا لأن اختلف إلى الجامعة واستمع للمحاضرات. ثم سألني ذات يوم: أين تقيم؟ أجبته: أقيم في حي كذا. قال: ومع من تقيم؟ قلت: مع جماعة من الأهل والأصدقاء كلهم يطلب العلم في الأزهر أو في المدارس المدنية، قال: إن منزلك بعيد وليست بيئتك بالتي تحب، فأنا لا أحب مجالس الطلبة، وأنا مع ذلك حريص على أن أجلس معك وأتحدث إليك فأطيل الحديث، بل أنا حريص على أن أقرأ معك بعض الكتب، فلابد إذا من أن نلتقي، ومن أن نلتقي في نظام واطراد فليكن ذلك عندي، ولك علي أن أردك إلى أهلك وأصدقائك قبل أن يتقدم الليل، ودون أن تجد في ذلك مشقة أو تحتمل فيه عناء. وكان يقول هذا بصوته الغليظ العريض في لهجة الحازم الواثق بأن أمره سيطاع، وقد هممت أن أرد عليه معتذراً، وما كان أكثر المعاذير! فلم أكن أستطيع أن أسهر ولا أتعرف إلى أحد دون إذن من أخي، وكان علي أن أغدو مع الفجر إلى درس الأصول، ولم يكن بد من أن أستعد لهذا الدرس وغيره من دروس الأزهر، وأن أعوض هذا الوقت الذي أضيعه كل مساء في الجامعة على كره من أخي في القاهرة وأسرتي في الريف. هممت أن
أعتذر ولكنه لم يمهلني ولم يتح لي أن أقول حرفا، وإنما استوقف عربة ودفعني فيها دفعا وأمر خادمي الأسود الصغير أن يجلس إلى جانب السائق، وجلس هو إلى جانبي وقال للسائق بصوته الغليظ العريض: إلى القلعة، وكنت أسكن في أقصى الجمالية، فلما أخذت أقدر بعد الأمد بين داره وداري، وهممت أن أتكلم وضع يده على كتفي وقال: ألم أقل لك أني سأردك إلى حيث تقيم؟!
- 3 -
وقطعت بنا العربة أحياء مختلفة، ومضت بنا في أجواء متباينة وكنت أحس اختلاف الأحياء وتباين الأجواء فيما يصل إلي من أصوات الناس وحركاتهم، ومن اضطراب الأشياء من حولنا كما كنت أحس ذلك في سير العربة نفسها وفي لهجة السائق وهو يدفع الناس أمامه ويطلب أن يتنحوا له عن الطريق، أو أن يجنبوا أنفسهم خيله وعربته.
كان الحي رشيقاً أنيقاً، وكان الجو سمحاً طلقاً، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدة وعنف، ولكن فيها ظرفا وتأنقا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق واشتد أمامنا الزحام وكثر من حولنا الصياح، وأخذت أصوات الأطفال ونساء الشعب تختلط بأصوات الرجال من العمال وسائقي عربات النقل، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار، وارتفع صوت السائق واتصل، وكثر نذيره، وتحذيره وكثر من حوله لوم الناس له وتأنيبهم إياه، وتردد في الهواء هذا الصوت المعروف الذي يحدثه السائقون بأسواطهم حين يأتون بها هذه الحركة التي يرعون بها الخيل وينبهون بها المارة، ثم نتفسح الطريق وتتسع، ويصفو الجو، ويخف الهواء، وتهدأ الحركة، ويتنفس السائق مطمئنا، وتمشي الخيل رفيقة، ولكن ذلك لا يطول إلا ريثما تنعطف العربة ذات اليمين، وإذا نحن في حارة ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضها الأخاديد فالعربة تقفز بنا قفزا والسائق يهز سوطه في الهواء ويحذر وينذر في هدوء ورضى، ويدعو ذلك بعض النوافذ إلى أن تفتح، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يبيتون بالسائق، ومنهم من يتعلق بالعربة ثم ينصرف عنها، ونحن نضحك من هذا كله ونضحك من السائق خاصة وهو ينظر أمامه ويلتفت وراءه ويضرب الهواء بسوطه ويطلق لسانه بألفاظ ترق حتى
تبلغ المداعبة الحلوة، وتغلظ حتى تصل إلى الشتم القبيح، وكل ذلك يصل إلى نفسي فيحدث فيها آثارا مختلفة، ولكنها على اختلافها تتفق في شيء واحد هو الطرافة لأني لم أكن تعودت ركوب العربات، ثم يقف السائق فجأة وننزل من العربة، وإذا صاحبي يقول لي لم نبلغ البيت بعد، ولكننا انتهينا إلى حيث لا تستطيع العربة أن تمضي، فهل تعودت التصعيد والرقي في الجبل، فأنا لا أحب أن أسكن في السهل المنبطح فأكون كغيري من الناس، وإنما أحب أن أشرف على القاهرة وأن أخيل إلى نفسي أني لست منغمسا فيها وأني أدخلها إذا غدوت إلى عملي مع الصبح وأخرج منها إذا رحت إلى بيتي مع الليل، ولست أخفي عليك أني أجد لذة قوية حين أدخل المدينة مع النهار هابطاً إليها من هذه الربوة كأني أغزوها وأسقط عليها سقوط النسر على فريسته، وأجد لذة أخرى ليست أقل من تلك اللذة قوة حين أمضي النهار كله في المدينة مضطرباً مع الناس فيما يضطربون فيه من عمل، خائضا مع الناس فيما يخوضون فيه من حديث، مشاركا للناس فيما يأتون من خير وشر، نافعاً ضاراً منتفعاً محتملاً للضرر، حتى إذا كان المساء ضقت بهم وضاقوا بي وأويت إلى جامعتكم هذه الجديدة أريح نفسي بما اسمع من كلام فيه الممتع وفيه السخيف، ولكنه على كل حال ليس بذي غناء، حتى إذا أخذت بحظي من هذه الراحة الأولى رحت إلى بيتي فلا تسل عن هذا الشعور العذب الذي ينبسط على قلبي شيئا فشيئا، كلما دنوت من هذا المكان أحس كأني أنسل من المدينة وأتخفف من أثقالها وألقي آثامها من ورائي وأطهر جسمي ونفسي من أوضارها وأدرانها حتى إذا رقيت هذه الربوة وبلغت قمتها هذه (وكنت قد أحسست الجهد من الصعيد في طريق عالية ملتوية) وقفت وقفة من كان في مكروه فخلص منه، وأرسلت زفرة يخيل ألي أنها تحمل بقية ما علق بنفسي من شر المدينة، ثم تنفست ملء رئتي مرة ومرة ثم أقبلت هادئا مطمئنا قصير الخطى إلى هذا الباب. وهنا وقف ودق الباب دقتين ففتح لنا ثم أغلق من دوننا.
رحلة إلى دير طور سينا
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة الامتحانات والسجلات وزارة
المعارف.
2
ها قد وصلنا بعد ثلاثة أيام وبعض اليوم على ظهر مطية القرن العشرين ونحن على أحسن حال، فترجلنا أمام الباب وأرسلنا إذن الدخول إلى المطران مع أحد خدمة الدير، وبعد برهة خرج إلينا أحد القساوسة فرحب بنا ثم قادنا إلى دهليز ضيق كمداخل الطوابي انتهى إلى طريق صاعد، ثم إلى طرقة تطل على كنيسة، ثم ارتقينا سلما انتهى إلى باحة مكشوفة فيها حجرة استقبلنا فيها واقفا رئيس الدير، وبعد أن صافحنا جلس وجلسنا على مقاعد وثيرة، بعد تبادل عبارات التحية والترحيب دخل الخادم يحمل بين يديه صينية من الفضة عليها كؤؤس صغيرة بها شراب الزبيب، فطاف بها علينا، ثم خرج وعاد يحمل صينية أخرى عليها أقداح كبيرة فيها قهوة لم أذق ألذ منها، ثم وفد إلى الحجرة قساوسة الدير بملابسهم الكهنوتية السوداء، وقبعاتهم العالية، وكان عددهم ثمانية، فحيونا ببشاشة ولطف، وجلسوا على المقاعد القريبة من الرئيس، وبعد حديث قصير وأسئلة شتى وقف الرئيس وانصرف إلى مكتبه، وقادنا القسوس إلى الأماكن المعدة لنزولنا، وهي صف طويل من الحجرات أمامها ممشى مسقوف ويتوسطها دورة مياه ومطبخ وحجرة للمائدة. والحجر كثيرة الأثاث والرياش، ففيها الأسرة والمقاعد والدواليب والصور وأرضيتها مغطاة بالسجاجيد والأبسطة، وحجرة المائدة كاملة المعدات، وبالجملة قد توافر في مكان الضيافة جميع وسائل الراحة مع النظافة وحسن الترتيب.
ونوافذ الحجرة تطل من علو شاهق على مدخل الدير وحديقته، وتشرف على الجبال والوديان والمسالك لمسافة بعيدة.
وبعد أن استرحنا وتناولنا الغداء تفرقنا في نواحي الدير للفرجة وخرجت أنا وأربعة من الرفاق نصعد إلى قمة جبل المناجاة أو جبل موسى عليه السلام.
وتبدأ الطريق المؤدية إلى القمة من قاعدة الدير في الجهة الجنوبية صاعدة رأسية تقريبا على درج من حجر مرصوص يشبه الدرج العادي، وقد مكثنا نصعد هذه السلالم نحو
ساعتين ونحن نلهث لهثا شديدا من فرط ما أصابنا من الإعياء، وقبل بلوغنا القمة اجتزنا فجوة في الجبل دخلنا منها إلى رحبة فيها كنيسة وحديقة صغيرة ينمو فيها شجر السرو، تسقى من نبع يفيض ماؤه العذب على جوانب الصخر.
استرحنا قليلا ثم استأنفنا الصعود، وبعد نصف الساعة تقريبا وقفنا على قمة جبل موسى، وهي على ارتفاع 2200 متر من سطح البحر (نحو 8000 قدم) وكان الهواء باردا والسماء صافية والشمس تؤذن بالمغيب. فأجلنا النظر فيما حولنا، فكان منظرا ساحرا بديعا لم تر العين أجمل منه، فضوء الشمس ينعكس على القمم بلون أحمر كلون الشفق، وعلى جوانب الجبال بلون أزرق قاتم كالدخان وبلون أحمر مشرب بالزرقة على الربى والتلاع، وفي الجنوب البعيد ماء البحر الأحمر يتلألأ تحت أشعة الشمس، ومن تحتنا تتقابل الوديان وتتقاطع متجهة كل صوب كأسارير الوجه العجوز فلما عدت إلى نفسي وجدتني مسند الظهر إلى حائط مسجد صغير، وعلى بعد خطوات منه كنيسة صغيرة كذلك، فلم أتمالك ان دخلت المسجد أنا وصديقي الأستاذ فريد أبو حديد (ألبسه الله ثوب العافية) وركعنا لله ساجدين بقلوب خاشعة ونفوس طافحة بالذكريات التاريخية والدينية، وعند خروجنا من المسجد لمحنا جماعة من البدو رجالا ونساء وأطفالا وقد جلسوا في وهدة تحت جدار المسجد من جهته المقابلة، حول نار أوقدوها للتدفئة فلما رأونا هبوا إلينا مهللين مكبرين، فصافحناهم وتبادلنا وإياهم التحيات والتمنيات، ثم سألناهم عن سبب وجودهم، هنا في هذا البرد القارص، فقالوا قد جرت العادة من قديم الزمان أن نجتمع هنا يوم وقفة عيد الأضحى المبارك، ثم نقضي الليلة، وفي الصباح نصلي صلاة العيد في هذا المسجد العتيق وننحر وبعد تبادل التهنئات والدعوات الصالحات نتفرق عائدين إلى ودياننا.
ملأنا العين بهذه المناظر الفريدة ثم عدنا أدراجنا إلى الدير وقد غابت الشمس وظهر القمر، فكان الهبوط أسهل من الصعود وأكثر خطرا بسبب الظلام.
في صباح اليوم الخامس جلنا في الدير ومشتملاته وملحقاته. فالدير نفسه من حيث هندسته وأسواره وطرقاته ومخابئه وأقبيته وسلالمه الحلزونية الكثيرة وأبراجه وعيون المدافع ومواضعها أكثر شبها بالحصن منه بالدير، والحقيقة أنه بني ليكون معقلا للرهبان يقيهم غزوات البدو، والمشهور أنه بدئ في تشييده سنة 527 ميلادية أثناء حكم الإمبراطور
البيزنطي يوستينيانوس.
يبلغ طول الدير نحو 300 متر وعرضه نحو 200 متر وارتفاعه في المتوسط نحو 15 مترا وهو مبنى بحجر الجرانيت المنحوت، ويوجد في فنائه كنيسة كبيرة ينزل إليها بسلالم، وهي عامرة بالتحف الثمينة من شمعدانات وثريات ومصورات وما إلى ذلك من الأشياء الكنسية ذات القيمة الغالية، والكنيسة أفخر مباني الدير وأجملها من حيث المباني والزخرف، ولها برج عال معلقة فيه الأجراس النحاسية الكبيرة، وتقام فيها الشعائر الدينية في أوقاتها.
وفي الجهة الشرقية من الدير صوامع الرهبان، وهم لا يخرجون منها الا نادرا، وقد تقابلت مصادقة بواحد منهم أثناء تجوالي في الدير فرأيته شيخا ضعيفا لا يقوى على السير الا بصعوبة، وبمجرد أن وقع نظره علي أسرع إلى أقرب صومعة واختفى فيها بحالة عصبية دهشت لها، وعدد رهبان الدير الآن لا يزيد على العشرين مع أن عددهم قبل الحرب كان كبيراً، وهم من شعوب مختلفة، معظمهم من روسيا والأمم السلافية الأخرى، وليس لهؤلاء الرهبان من عمل في الدير إلا النسك والعبادة، أما شئونه الأخرى من إدارة وإقامة شعائر وحراسة فهي من وظائف القساوسة. وبالقرب من الكنيسة وفي مستو أعلى منها جامع أثرى صغير مفروشة أرضه بالبسط، وفيه منبر صغير ويلتصق بالجامع مئذنة مرتفعة. وهو يفتح للصلاة في أوقاتها الخمسة.
وفي أقباء الدير شاهدت طاحونة يديرها بغل، وبجوارها مخبز يصنع فيه الخبز اللازم لرجال الدير وللتوزيع على البدو على حسب العادة التي جرى عليها الرهبان من زمن بعيد.
وفي الجهة الشمالية حجر القساوسة ومكتبة الدير وكانت مغلقة. وأمام الدير حديقة واسعة منسقة تنسيقا حسنا، وبها كثير من أشجار السرو والتين والزيتون والموالح والكروم، ومزروع فيها شتى البقول والخضر والزهور الجميلة، وفي ناحية منها كنيسة الجماجم، وهو بناء حديث جمعت فيه جماجم وعظام الرهبان والقساوسة الذين توفوا بالدير من عصور بعيدة. وقد رصت فيها صفوفا بعضها فوق بعض ووضع في صناديق خاصة تكريما لأصحابها، أما لمكانتهم الكهنوتية أو لقيامهم أثناء حياتهم بعمل مجيد للدير.
ويسقى الدير والحديقة من عيون عذبة على شكل آبار قليلة الغور. وبعد ظهر هذا اليوم تفرقنا نجوس خلال الوديان القريبة، ومن أجمل المشاهد منظر الصوامع المنتشرة بين الربى على الجبال المحيطة بالدير، وترى بجانب كل صومعة شجرة سرو طويلة أو نخلة تسقى من نبع أو ثؤلول يسيل ماؤه على الصخر فيفيض في المنخفضات والثقوب، وفي الوصول إلى هذه الصوامع صعوبة لوعورة الطريق أو انزلاقها أو انحدارها الشديد، وللقساوسة حكايات ونوادر ظريفة طريفة يروونها عن تاريخ كل هذه الصوامع أو المشاهد لا يقع المجال هنا لسردها.
وفي صباح اليوم السادس قفلنا راجعين إلى القاهرة فوصلناها سالمين مغتبطين في مساء السابع.
الكتب
في الصيف لطه حسين
(في الصيف) بعد (الأيام) دليل بعد دليل على ملكة أخرى كانت مجهولة في هذا الذهن العجيب! فقد كان عهد الناس بصديقنا طه عالما غزير البحر، وباحثا جريء الرأي، وناقدا نافذ البصيرة، وجدليا دامغ الحجة؛ أما الكاتب الذي يستشف بالإلهام حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحيي بالعاطفة خمود الفكرة، فظل مغموراً بين الأديب الذي يبحث في ضوء العقل، والأستاذ الذي يدرس في حدود العلم، فلم يكد يظهر الا في صفحات من ذكرى أبي العلاء نسي فيها المعري وذكر نفسه، وفي مقالات نشرت في السفور صور فيها عواطفه وحسه، حتى نشرت (الأيام) فعجب الناس أن يكون وراء هذا العقل المتمرد هذا القلب الشاعر، واقبلوا في دهشة يتعرفون إلى طه التلميذ والأخ والزوج والوالد، ويتحدثون إليه في منازله ومباذله وبين أهله، فيجدون من اللذة في أحاديثه، أمثال ما وجدوا من الفائدة في بحوثه، ثم جاء كتاب اليوم قاطعا في الدلالة على بلوغ هذه الشخصية الأدبية الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لا يغنى فيها الخيال عن الواقع، ولا السماع عن النظر!
قرأ (في الصيف) أديب كبير فطلب إلى طه في شيء من الدعابة أن يترك العلم إلى القصص، وتقرأ أنت (في الأدب الجاهلي) فتقول هذا اختصاصه وتلك مادته، ولعلك إذا سمعته يحاضر أو قرأته يناظر تقول هذا عمله وهذه غايته. وأبلغ آيات العبقرية أن تكون في كل مادة أصيلة، وفي كل موضوع سامية، وفي كل غاية مبرزة.
طه قصصي من طراز خاص، أو هو لم يشأ إلى اليوم أن يكون على غير هذا الطراز. فالأيام وفي الصيف طوائف شتى من الذكريات والتأملات والملاحظات أنثالت في وقت الفراغ على ذهن شديد النفاذ، وفكر دقيق الملاحظة، وشعور صادق الحس، ثم ألف بينها خيال كروح المنطق فيه لذة وفيه عقل، وأبان عنها أسلوب كأسلوب الحديث فيه طلاوة وفيه فضل، ثم تقرأ قليلا وإذا بك متصل بالكتاب، مغمور بشعوره، مسحور بحديثه، مشغول بتفكيره، يخرج بك من موضوع إلى موضوع، وينقلك من موضوع إلى موضوع، دون أن يدع لك السبيل إلى استرجاع الذكريات التي هاجها بذكرياتها، واستقبال الخواطر
التي جددها بخواطره، فأنت منه كما تكون من البحر الداوي لا تدري بماذا استولى على مشاعرك؟ أبحلاله أم بجماله أم بسعته أم بروعته أم بكل أولئك جميعا؟ ثم تفرغ من القراءة وتعود إلى نفسك فتقول: ربما ولدت هذا المولد؛ ونشأت هذا المنشأ، ودرت هذه الدراسة، وسحت هذه السياحة، ورأيت هذه الصور، وعرضت لي مثل هذه الخواطر، ونعمت بمثل هذه الأسرة، ولكن أولئك كله جف في خيالي كما يجف نمير الماء في العود الذابل، ومات في خاطري كما يموت رنين الصوت في الصخر الأصم! ولكنها في الأيام أحيا ما تكون في ذهن، وفي كتاب (في الصيف) أزهى ما تكون في خيال!! ذلك إذن هو الفن الذي يخص الله به إنسانا دون انسان، وذلك إذن هو ما ينقص الناس فيجدونه في الفنان!!
(في الصيف) لا يروعك منه الحادث، ولا تدهشك المفأجاة، ولا تشوقك العقيدة، ولا تفتنك الصنعة، فانه كما قلت لك مجموعة من الذكريات والتأملات يتشقق بعضها كما تتشقق الأحاديث، وإنما يأخذ بلبك منه الصدق في تصوير الفكرة، والحذق في نقل الشعور، والنفس التي تشتد في المجتمع حتى تشتط، وترق في الأسرة حتى تضعف، والروح التي تحلق فوق الأحداث متمردة، وتخفض الجناح لأهواء الطفلين الحبيبين حانية، والألمعية التي تصور بالظن فلا تخطيء اليقين، وتسمو على جناح الخيال فلا تفوت الحقيقة، والأسلوب الذي يحار في تعريفه البيان المكتوب، وأقل ما يصفه به الكاتب العجلان أنه تفضيل في غير إملال، وبساطة في غير ابتذال، وتدفق في غير كدورة، وجدة في غير عجمة، وإهمال نادر يجره وتجرفه الحركة، ومذهب جديد كثر في ناشئة الكتاب من يحاول الجري عليه.
إن في هذا الكتاب صفحة ضاقت بما يضيق به القلب الصديق! نشرتها ظروف وستطويها ظروف، وسيطيل النظر فيها من يعني بفهم هذه النفس الكبيرة على حقيقتها، ودرس ما تتأثر به من العوامل في بيئتها، وان في هذا الكتاب صفحات على نحو ما في (الأيام) من ذكريات الأزهر، وأحاديث إخوان الصفا من طلابه، وآلاف الجمود من شيوخه، ولن يتذوق ما فيها من جمال الفن الا من حي هذه الحياة وشعر هذا الشعور، وان في هذا الكتاب صفحات خالدات لن تجد كثيرا من أمثالها في الأدب العالمي! تلك ما كتبت عن فرنسا عامة وعن الألزاس خاصة.
أما التحليل والتمثيل فلن يغنياك عن قراءته شيئا، وفي اعتقادي أن خير ما يسر به الإنسان نفسه أن يغيب عن دنياه في دنيا هذا الكتاب ساعة أو ساعتين!
الزيات
ضحى الإسلام أو أحمد أمين
- 1 -
إذا قرأت ضحى الإسلام عرفت أحمد أمين، وإذا عرفت أحمد أمين فكأنك قرأت ضحى الإسلام، وكمال المعرفة بالاثنين أن تفهمهما معا، لأنك لا تجد تلازما بين شيئين أشد مما هو بين هذا الرجل وما يكتب، فإذا ألف أو أنشأ مقالا أو ترجم فصلا ظل باقيا وراء كلماته، وخلال سطوره، يعرض عليك الصور، ويقرر لك الآراء، بطلعته الباسمة في غير افترار، ولهجته الحازمة في غير أمر، وعقله القوي في غير عنف، وطبعه الحيي في غير ضعف، وأسلوبه الهادئ في غير فتور فلا تدري أتقرأ أم تسمع، وكتاب في يدك أم رجل معك!
وهو في بروز الشخصية العلمية يتفق مع صديقه طه، ثم يختلف بعد ذلك عنه في كل شيء.
أستبن الجاحظ في أدبنا القديم، وأحمد أمين في أدبنا الحديث، ثم قل بعد ذلك فيما يشبه التعميم: أن كل كتاب متى أخرجه إلى الناس مؤلفه، يكاد من وهن الصلة به لا يعرفه، وإنما تظل مسائله في قلقها أشبه بالطيور المقنوصة، لا تفتأ نزاعة إلى الجو الذي عاشت فيه، وإلى الوكر الذي أخذت منه. فإذا كثر الحديث عن احمد أمين منذ ظهر فجر الإسلام، واستفاض هذا الحديث عنه منذ نشر ضحى الإسلام، فذلك لأن هذين الكتابين وحدهما فتح في الآداب العربية، ونصر للعقيدة الإسلامية، ومجد للعقلية المصرية، لم يهيئهما الله في الغابر والحاضر لهؤلاء الا على يد احمد أمين.
ومعاذ الله أن نهجم على الحق وندخل على القارئ برأي لا يقره الضمير ولا يرتضيه العلم، فقد قضينا العمر بين أشتات المؤلفات العربية، نكابد ما يكابد غيرنا من تناقض وتعارض وغموض، ثم عالجنا التأليف وبلونا ما يعانيه ناشد العلم في بيد دونها بيد، ثم قرأنا هذين الكتابين فأكبرنا فيهما الجهد الذي لايكل، والعقل الذي لا يضل، والبصيرة التي تنفذ إلى الحق من حجب صفيقة، وتهتدي إليه في مسالك متشعبة.
نشأ أحمد أمين نشأة أزهرية، ونعني بهذه النشأة ما يلازمها من نمط خاص في الحياة والتربية والدراسة والوجهة، ومن غريب هذه النشأة أنها تساعد على الهبوط كما تساعد على الصعود، فمتخرجو الأزهر إما قادة للشعب وإما حميلة عليه، لأن حرية التعليم فيه
كانت تهيئ كل نفس لما خلقت له: فهذا تعده ليكون قارئا في ضريح أو إماما في زاوية، وذاك تعده ليكون مستشارا في محكمة أو أستاذا في جامعة، واحمد أمين كمحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين قد زوده الأزهر بخير ما فيه من صبر على الدرس. واتكاء على النفس، واستقصاء لأطراف البحث، ثم دفعه إلى الحياة دفعا فاستكمل ثقافته في مدرسة القضاء ثم اشتغل بالتعليم، ثم تولى الحكم بين الناس في المحاكم الشرعية، ثم ثقف على نفسه اللغة الإنجليزية، ثم تبوأ كرسيه في الجامعة المصرية، وها هو ذا بكتابيه يحتل مكان الزعامة العلمية.
إن ألمع ما في شخصية هذا الرجل متانة خلقه، ولأمر ما شغف منذ شب بتدريس (الأخلاق)، وترجمة (الأخلاق)، وتأليف (الأخلاق)، ولسر ما يتجدد انتخابه بالإجماع رئيسا للجنة التأليف والترجمة والنشر تسع عشرة مرة في تسع عشرة سنة متوالية!!
إن نجاح الأستاذ احمد أمين في الحياة نجاح للعلم وفوز للفضيلة، لأنه لم يعتمد في شهرته العلمية على الإعلان
و (التهويش). ولا في مناصبه الحكومية على الاستخذاء والملق. وإنما يجري في عمله على الأخلاص، وفي معاملاته على الحق، وفي علاقاته على الشرف. وما حياته الحافلة إلا مثل للحياة العاملة في غير ضجيج، الناصبة في غير ملل، المثمرة في غير غرور ولا دعوى، فهي أشبه شيء بالنبع السلسال العذب، يسيل حلو الخرير تحت شواجن الأدغال، وفوق مطمئن الأرض، فيروي العطاش ويمرع السهول، في غير هدير ولا صخب!
ذلك هو الكاتب، وأما الكتاب فنرجو أن نوفق إلى تحليله في العدد المقبل.