الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 40
- بتاريخ: 09 - 04 - 1934
في الحال الحاضرة!
(في الحال الحاضرة) عنوان عزيز عليّ وعلى اخويّ طه حسين ومحمود زناتي! نذكره في مقام الأنِس وساعة التنادر فيفجر الضحك من صدورنا المكبوتة، ويرجع بنا مقتحما تيار الزمن الدافق إلى العهود النفّاحة النضيرة من شبابنا الأول! يرجع بنا إلى بقعة من بقاع الأزهر العتيق، خفت فيها الدوي الهادر قليلا، وتهادنت بها أرواح العلماء فلا تشتجر في لفظة، ولا تختصم في (قولة)، ولا تزدحم على اعتراض، وإنما تسكن إلى هؤلاء الأيفاع الثلاثة ومن اخذ أخذهم سكون الطير المروعة إلى سلام الأيكة المنعزلة، لأنهم كانوا قليلا ما يرغبون في إثارة القلاقل وإهاجة الفناقل، على هذه الأرواح الآمنة البرة. إنما كان وكدهم أن يجتزئوا من علوم الفقه بقسمة القدر، ثم ينصبوا لعلوم اللسان فيدرسوا الادب، ويقرضوا الشعر، ويحاولوا الكتابة، ويتعرفوا إلى العلم الحديث في دور الكتب، ويطلوا على العصر الحديث من نوافذ الصحف، ويقفوا على البرزخ الممدود بين دنيا الأزهر ودنيا الناس، ينزعون إلى الحياة الحاضرة المتجددة نزوع اسماك البحيرة الأسنة إلى البحر الزاخر المزبد.
كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم على غرار (الحماسة)، وفي النثر على غرار (الكامل)، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبرا كأبي عبيدة، ولكنا كنا نجلس على ذلك البرزخ بعيدا عن هتاف الأشباح، نراقب سير المدينة، ونرامق حياة (الأفندية)، ونحاول العبور فيتساءل صديقاي:
- فيم ننظم؟
- في مدح الخديو
- وفيم نكتب؟
- في الحالة الحاضرة
ونكرر كل يوم هذين السؤالين، وهذين الجوابين، حتى استطعنا أن نجد كلاما في مدح الخديو فقلنا ونشرناه.
أما هذه (الحال الحاضرة) فكانت معاياة لم نجد لأمرها مطلعا ولم نقف في وصفها على حيلة! لان مدلولها يومئذ كان غامضا في أذهاننا غموض الجبر! فالقرويين يعيشون على نمط الفراعين، والأزهريون يعيشون في عهد الأيوبيين، والقاهريون يعيشون على حال
المماليك، وهذا الذي نسميه الحال الحاضرة ما كان يذكر إلا في مكاتب الصحف، ولا يعرف إلا في بعض دواوين الحكومة!
عبرنا البرزخ، وتعاقبت الأعوام على ذلك العهد تعاقب الموج، فبعضها هادئ وبعضها مضطرب، فأما محمود فظل على حدود الماضي، وأما طه فظفر إلى آماد المستقبل، وأما أنا فبقيت في الحاضر بين الصديقين، سأحاول أن اقضي عنهما هذه الدين، فاكتب اليوم الموضوع الذي وسمنا بالعجز عنه طوال ربع قرن!!
حالنا الحاضر محنة من محن الانتقال، وخدعة من خدع الاستقلال، وفتنة من فتن الباطل! فهي راكدة ركود العفن، واقفة وقوف الحيرة، لا تستطيع أن تجد لها في لغة التطور اسما ولا صفة! فلا هي سبيل نهضة، ولا هي دليل يقظة، ولا هي مظهر امتعاض! وكأنما تقطعت وشائج الاجتماع بين الطبقات والجماعات والأسر، فتناكر الناس، وتدابر الأهل، ودار كل امرئ على نفسه!
فالفلاح كما كان منذ أجيال، لا يكاد ينزع يده من الأرض، ولا يرفع طرفه إلى السماء، ولا يتبين وجهة الدنيا، ولا يتصور غاية الحكم، ثم يحول عليه الحول فلا يجد نقودا في جيبه، ولا سروراً في قلبه!
والعامل على أسوا مما كان: يقاسي العطلة، ويعاني الفاقة، ويشكو الامية، ويستغله الأجنبي بما دون القوت، ثم لا يجد في بلده العين التي تكلؤه، ولا اليد التي تحميه، ولا النور الذي يهديه، ولا الروح الذي يسيره!
والشاب في لبس من أمره! يتعلم ولا يعرف لأي عمل، ويتقدم ولا يدري لأي غاية؟ ويقولون له كن عزيزاً في بلدك، سيدا في دارك، متصرفا في أمرك، ثم يخضعونه للامتيازات فتكسر من نخوته في المجتمع، وتغض من كرامته في القضاء، وتهجم على ثروته في التجارة، ويفور شبابه الحين بعد الحين فيكفه الهوان الغالب والقيادة المترددة.
والأدب يعتمد في سلطانه على الدعوى والوقيعة، وينقل في أحكامه عن النكران والحقد، ويتفرق شيعا وطوائف، لا ليعدد مذاهب القول، ويجدد طرائق البيان، ولكن ليخلق الخصومة بين الكهول والشباب، ويؤرث العداوة بين الشعراء والكتاب!
والساسة تراشق بالتهم، وتقاذف بالعيوب، وتحتكم إلى الخصم، وتحول مجرى الجهاد،
وتزهق روح النهضة، وتشوه آمال الأمة بالمطامع السود والأهواء الأثيمة.
والحكومة تنبعث من أدراج مكاتبها العليا روائح كريهة تسور في الانوف، وتاخذ بالأنفاس، وتفسد الجو على هذه الأمة المسكينة!!
هذه هي العناوين الصغيرة لهذا العنوان الكبير، والعناصر الأولية لهذا الموضوع الخطير، أجملناها في رأسه قبل أن ينزل بنا التفصيل إلى ذيله! على نحو ما يصنع المعلمون من الكتاب، أو المنشؤن من الطلاب، جمعا لتشتيت الرأي، وتصويراً لهيكل الفكرة.
فليت شعري يا هداة الأمة ماذا كنا نقول لو قدر لنا أن نكتب هذا الموضوع حين اقترحناه منذ خمس وعشرين سنة؟!
احمد حسن الزيات
كرستينا ملكة السويد 1626 - 1686
للدكتور محمد عوض محمد
هذه الصورة - التي عرضتها أمام أهل القاهرة إحدى ممثلات السينما في شيء كثير من الإسراف الذي يعشقه رواد الملاهي، وفي شيء كثير من الانحراف عن حقيقة التاريخ التي قلما يعبأ بها أصحاب القصص، ومؤلفو المسرحيات - هي من تلك الصور التي تتجاوز في حقيقتها وفي طبيعتها مذاهب الوهم ومسابح الخيال. وحسب كل إنسان أن تعرض أمامه الصورة كما كانت لا كما يتوهمها القصصيون.
ليس لكريستينا مكان بين كبار الملوك، ولكن لها شخصية قوية غريبة تستفز لتصويرها كل من يهوى الشيء النافر الغريب الشاذ.
ولدت في أول الربع الثاني من القرن السابع عشر، وكان مولدها في شهر كانون الأول: في عنفوان الشتاء القارس، حين يصبح الهواء زمهريراً والماء جمدا. ويوشك الدم أن يتجمد في عروق الناس والحيوان. . . وكان حقيقا بمن يولد في هذا الشهر أن يكون في طبعه تؤده وبرود، ورزانة وهدوء. . . غير أن ابنه جوستاف اودلف، ما كانت تعرف الهدوء ولا البرود، بل كانت كتلة من الشرر المتطاير واللهيب المندلع.
وسيظن الناس إننا نعبث حين ندعي أن لشهر كانون تأثيرا فيمن يولدون فيه. ولنسلم لهم أن في هذا الزعم ما فيه من عبث، وان شهر المولد ابعد الأشياء من أن يؤثر فيمن يولد فيه. ولكن، بعد التسليم بهذا أنستطيع أن ننكر ما للبيئة من تأثير لا يحد، وقضاء لا يرد، وأفعال لا تعد؟ كيف والبيئة هي الركن الركين في فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء؟
ولقد ولدت كرستينا تحت سماء اسكندناوية مكفهرة تغشاها السحب، وتكتنفها الغيوم، في بلاد تجمد أنهارها في الشتاء، فلا تجري فيها قطرة ماء، وتجمد البحار فلا تستطيع السفن حراكا؛ ويتساقط الثلج، ويتراكم أكداسا فوق أكداس، فلا ترى العين حيثما نظرت سوى هذه الكتل البيضاء، تكسو الشجر والحجر، والحقول والدور. . . ويبرد الهواء حتى ليكاد النفس أن يجمد حين يغادر الشفتين، ويعجز النبات عن النمو، فيبقى في الثرى هامدا جامدا، ينتظر ربيعا لا يجيء إلا أخيرا، وصيفا لا يدوم إلا زمنا يسيرا أما الخريف فما له هنالك من مأرب سوى أن يمهد للشتاء السبيل؛ وكثيرا ما يندمج فيه، ويصبح ويمسي جزءا منه.
وكان خليقا بمن يولد في هذه البيئة - إذا كان هنالك معنى لما يقوله أصحاب مذهب البيئة - أن يكون هادئ الطبع، لا يصدر في أعماله إلا عن تؤدة وترو، بعيدا عن طيش أهل الشرق وخرقهم الذي اكتسبوه من حرارة هوائهم، كثير التبصر في العواقب، والادخار للمستقبل المظلم كظلام الشتاء؛ مولعا بالعدل بعيداً عن الاستبداد والظلم اللذين هما من خصائص الشرقيين، أهل البلاد الحارة، لأن العدل نتيجة الروية والأناة وقلة الاندفاع، وهذا كله من المزايا التي يمنحها الله لعباده الذين يعيشون في بيئة باردة.
وكأنما أرادت كرستينا أن تقلب هذه السنن جميعا فتجعل عاليها سافلها، فإذا هي وسط هذا الجليد والزمهرير شعلة من نار لا تخبو، ولهيب متقد لا يهدأ، وإذا في طبعها اندفاع وعنف، وإذا هي شديدة القلق، بعيدة عن الهدوء والاستقرار. . . مسرفة مبذرة تبذيرا أفقر الدولة، جائرة في الحكم حتى لقد مالت إلى النبلاء ميلا شديداً، ومنحتهم موارد الدولة وغمرتهم بالهبات. . شديدة الغرور حتى لقد كانت تضع التاج تحت قدميها، وتزعم أنها تفخر إذ تطأ برجلها ما يجلل هام الملوك، وقد نسيت أن ممن حمل ذلك التاج أبوها العظيم جوستاف ادولف. . . وعلى حدة ذكائها النادر لم تستطع أن تفهم إنها مهما عظمت فإنما عظمتها الحقيقية في عظمة بلادها. . . فكانت لا تعنى إلا بأبهة الملك، وبمظاهر العظمة دون حقيقتها، ومن اجل أبهة الملك أرسلت في طلب ديكارت المسكين، وألحت عليه في أن يقيم بقصرها في أستكهولم لكي يدارسها العلم والفلسفة. فجاء الفيلسوف العظيم وقضى نحبه بعد ثلاث سنين قضاها في بلاد لا يلائمه هواؤها ولا جوها.
وكانت متكبرة اشد الكبرياء، غيورة لا تطيق أن يعرف لأحد فضل، أو يشتهر له بين الرعية ذكر، حتى لقد أساءت إلى الوزير القدير اكسنستيرنا، الذي لم يكن في البلاد في أوربا كلها اقدر منه. . . وكانت جامحة في شهواتها اشد الجموح، منغمسة في اللذات انغماسا يزري بالمتوحشين من أهل أفريقية، ومع ذلك فما هي من أهل الشرق ولا من أهل أفريقية، بل من ذلك الجنس الشمالي التيوتوني الذي اشتهر بالاعتدال وبرود الطبع، كما اشتهر بالشعر الأشقر والعيون الزرقاء. . . فكأنما أرادت كرستينا أن تصفع أصحاب مذهب البيئة باليمن، وأصحاب مذهب الوراثة بالشمال.
لكن البيئة والوراثة ليستا بالشيئين الوحيدين، اللذين خرجت عليهما كرستينا وطعنتهما في
الصميم؛ بل لقد خرجت أيضا على المؤدبين ونظرياتهم وعقائدهم. . اختاروا لتعليمها وتأديبها رجلا من كبار المؤدبين. فلقد توفي أبوها جستاف ادولف في حومة الوغى، بين قعقعة السلاح وهزيم المدافع، في حرب الثلاثين عاما، ولم تكد الفتاة أن تبلغ السادسة من عمرها.
ولم يكن للعرش وارث سواها فحاول المؤدبون أن ينموا فيها طباع الملوك وأخلاق الرجال، فإذا هي لا تعرف سوى أهواء النساء وميول النساء. وإذا فيها كل ما في المرأة المسرفة من تعسف وتسرع، وعناد كعناد الأطفال، وتطرف، ومتابعة للشهوات، وأرادوا منها أن تناصر المذهب البروتستنتي، الذي مات أبوها في الدفاع عنه، والذي بلغت السويد ما بلغته من العظمة بالذود عن حوضه فإذا كرستينا لا تعبأ بالدين البروتستنتي، ولا يهمها أن تمضي البلاد في تلك الحروب الدينية، بل لقد انتهى بها الأمر إلى نبذ البروتستنتية تماما والميل إلى الدين الكاثوليكي. ولم تكد تبرح البلاد بعد اعتزالها الملك حتى اعتنقت الكثلكة وتركت البروتستنتية غير آسفة عليها، وغير مكترثة لذلك التراث الديني المجيد الذي ورثته. بل لعل السبب أو بعض السبب الذي دفعها إلى اعتزال الملك حب ذلك الدين الكاثوليكي الذي أشربت بغضه وعدواته منذ الطفولة
وبذل المؤدبون كل جهودهم لكي يلقنوها منذ طفولتها كيف تسوس البلاد. وكيف تضطلع بأعباء الملك. وكيف تملا العرش المجيد كما كان يملؤه أبوها. وأن تكون العناية بشئون الدولة. صغيرها وجليلها، همها الوحيد الذي لا يصرفها عنه شيء.
لكنها لم تكد تكبر وتتولى الحكم، حتى كانت شديدة التبرم بالدولة وبأعمال الدولة، وبالحكم ما يفرضه عليها من أثقال وأعباء، ومن عناية بأمور تافهة: مسئمة مملة: وهي التي تريد أن تنصرف إلى لذات الجسد بالانغماس في الشهوات، وإلى لذات العقل بالتحدث إلى الفلاسفة، فكانت تتهرب من الاضطلاع بذلك العبء، البغيض وتفر منه ما استطاعت إلى الفرار سبيلا. . وذلك زمن مقاليد الأمور فيه كلها بيد الجالس على العرش، فكان الفرار داعيا إلى إهمال شئون الدولة ونقضا لمصلحة البلاد.
ومع ذلك فقد كانت كرستينا تحسب نفسها عظيمة، بالغة أقصى حدود العظمة، حتى لقد قالت وهي تناجي ربها: (اللهم لقد جعلتني من العظمة بحيث لو أحرزت ملك الأرض
جميعا ما رضيت به!). .
ورأت من العظمة أن يحيط بها جيش عرمرم من أولئك الناس الذين يدعون النبلاء، وهم طائفة ممن لا غناء فيهم، يعيشون عيش الحشرات الطفيلية، بما تدره عليهم من مال لم يكدحوا لجمعه واكتسابه. وكان يلذ لها أن يحدقوا بها ليمطروها ما شاءت من رياء العبودية، وثناء التزلف. . وأعجبها منهم هذا كله، فجعلت تزيد في عددهم وتخلق منهم قبيلا بعد قبيل، حتى باتوا ضعف ما كانوا في عهد أبيها، وكان بدلا لهم أن يعيشوا عيشة البذخ والترف، فجعلت تمنحهم الأراضي والضياع بإسراف وتبذير منقطع النظير، حتى استنفذت ثروة الدولة في إشباع هذه الحشرات النهمة، وأسلمت بلادها إلى الإفلاس.
وكان من العظمة أن تشجع العلم والتعليم، وجنت البلاد من هذا بعض الخير، ولكنها غلت، فأرادت أن يكون بلاطها مأوى العظماء من رجال الفلسفة والعلم. فكانت تنفق من اجل هذا المأرب، إنفاقا مسرفا لكي يقال إنها حارسة العلم وصديقة العلماء، وأعجبها أن يقصدها السفراء من أقاصي الممالك، وأنيكيلوا لها المدح والاطراء، ولم تلبث أن بات لهؤلاء الغرباء من النفوذ عليها ما ليس لأحد من وزرائها وبني وطنها. وبينما هي تسمح لهؤلاء أن يستميلوها إلى المذهب الكاثولكي، ويخرجوها عن دين آبائها، إذا هي تنفر من مستشار دولة الأمين ووزيرها المحنك أكسل أكسنسترنا محبب إلى الناس، ولأن الشعب يرى فيه خادمه المخلص، المتفاني في خدمته.
كانت كرستينا بلا شك، من أولئك الملوك الذين لا يستطيعون أن يفهموا أن عظمتهم لا قيمة لها إلا إذا استمدوها من عظمة امتهم، وانهم لن يعلو لهم شأن إلا إذا علا شأن دولتهم. فما كان بمجديها أن تكون عظيمة وأمتها حقيرة، غنية وأمتها فقيرة. ذات صولة وقوة، وأمتها لا حول لها ولا قوة. فما لبثت أن أفنت موارد البلاد، واستنفدت خزائن دولة كانت تعد في طليعة دول ذلك الزمن. .
وأراد المخلصون من رجال الدولة أن تتزوج ملكتهم، لكي يضمنوا لعرش الدولة وريثا يجري في عروقه دم أسرة فازا، يرجون - ويلحون في الرجاء - أن تتخذ لها شريكا في حياتها. وكان حديث الزواج هذا أبغض الأشياء إليها، ولم يكن نفورها من الزواج عن تعفف، بل لأنها كانت ترى في الزواج أغلالا تكبح جماحها، وتثني من عنانها، وهي التي
تريد أن تبقى حرة طليقة. فلما اشتد إلحاح رجال القصر عليها. طلبت من البرلمان أن يكون ابن عمها شارل جستاف هو وارث العرش من بعدها.
وفي عام 1654 - ولم تكد كرستينا أن تبلغ الثامنة والعشرين تنفس شعبها الصعداء، لان ملكتهم قد اعتزلت الملك وغادرت البلاد، وليس من السهل أن نقدر الدافع الأكبر الذي دفعها إلى سلوك هذا السبيل، فقد كانت هنالك بواعث شتى تعتلج في صدرها، فمن شعب مضطرب ثائر على تبذير ملكته، إلى بغض شديد لتلك التكاليف المضنية التي يستلزمها الاضطلاع بالحكم، إلى رغبة شديدة كانت تدفعها لأن تعيش في جنوب أوربا، وأن تعتنق الدين الكاثوليكي. ولعل أقوى دافع لها إلى اعتزال الملك أنها كانت تريد أن تبهر ملوك العالم حين يرون ملك في ريعان شبابها تنزع عن جبينها التاج وتلقي به في ازدراء واحتقار.
وقد تم لها ما أرادت، فغادرت وطنها، ومعها ثروة حسنة لم تلبث أن أتت عليها، واعتنقت دين الكاثوليك. واتخذت لها في روما قصرا عاشت فيه زمنا عيش الإسراف الذي لا يعرف حدا.
وزارت فرنسا مرتين، في المرة الثانية أدهشت وأغضبت ولاة الأمور حين أمرت رجالها بقتلعشيقها مونالديسكي. فاضطروها إلى مغادرة فرنسا والعودة إلى روما.
لقد كانت المقادير ارحم بكريستينا والطف، لو أنها وافتها منيتها بعد أن نزلت روما، وبعد أن نفذت ثروتها، ولكن الأجل قد تراخى بها حتى بلغت الستين، وكان الشطر الأخير من حياتها مفعما بالألم والشقاء. وعادت إلى وطنها حين بلغت الأربعين تحاول عبثا أن تسترد الملك فلن تلقى سوى الأعراض والنفور. ورجعت إلى روما حيث قضت بقية العمر، وقد نسيها العالم وأهملها الناس، وظلت تعيش عيشة الضنك والضيق وجل رزقها مما يجود به عليها البابا من الهبات حين امتنعت عنها الموارد وتقطعت بها الأسباب.
محمد عوض محمد
نعمة الألم
للأستاذ أحمد أمين
لندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في أن الألم شعور موجب، أو لذة سالبة، ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع: فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، ونوع كالذي نشعر به عند مواجهة ما نكره الخ.
ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الألم ولا يهرب من شيء غيره، وانه حين يفر من اللذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وانه حين يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم اكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل - ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع.
لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي إنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وإن فضل الألم عل العالم أكبر من فضل اللذة
إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب، أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق، وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثراً، ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى كسائر العقلاء - وإنما فضل المجنون لآن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.
ولولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لان يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشا قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.
وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى - لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته، ولا
أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب - إنما خلده ألم نفسه، وأبقى أسمه قوة حسه.
ولو شئت لعددت كثيراً من أدباء العرب والغرب أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا النوع من أنواع الآلام.
نعم قد أجدت اللغة العربية على الأدب كثيرا - لقد أنتجت لهو امرئ القيس وطرفة، وخمر أبي نؤاس، وفخر أبي فراس ومجون الماجنين، وفكاهة العابثين، وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات - وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا، كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدبالمسلاة (الكوميديا) وخلف الألم أدبالمأساة (التراجيديا) ولكن أي الأدبيين أفعل في النفس، وأيهما أدل على صدق الحس، وأيهما أنبل عاطفة، وأيهما أكرم شعوراً، أي النفسين خير؟ أمن بكى من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين؟ أمن رأى فقيرا فعطف عليه، أو هزأت فضحك منه؟!
على أني أخشى أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا أو علقما (مبرشما) أليست خمر أبي نواس محورها (وداوني بالتي كانت هي الداء)؟ أو ليس قد هام بها لأنها (لو مسها حجر مسته سراء)؟ فهو يهيم بالخمر فرارا من ألم الدنيا ومتاعب الحياة؟
ولو فتشت عن دخيلة ابن المعتز، لرأيت ألما قد بطن بلذة وجحيما في شبه نعيم.
ثم تعال معي إلى الحياة الاجتماعية، فخير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به، وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم، أو ليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة - ثم من هو المصلح؟ أليس اكثر قومه لما مما هم فيه. أو ليس هو أبعدهم نظرا، واصدقهم حسا. دعته رؤية ما لم يروا، وإحساسه ما لم يحسوا، أن يكون أعمق منهم ألماً وأشد منهم سخطاً، فلم يسعه إلا أن يجهر بالإصلاح وان يتحمل منهم عن رضى ما يصيبه من ألم، لأن ألم نفسه مما يرى بهم، أكبر من أي ألم يناله منهم؟ - وما الوطنية؟ ليست شعورا بألم يتطلب العمل؟
ومن نعم الله أن أوجد أنواعا من الألم هي آلام لذيذة تتطلبها النفوس الراقية وتعشقها. ولو
عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها. فلو عرض على الفيلسوف المتألم لذة غنى جاهل لرفض في غير تردد، ولو خير المصلح المجاهد، ينغص عليه قومه، وينغص عليه غير قومه، وينغص عليه بعد نظره، وينغص عليه قوة شعوره ما اختار من حياته بديلا - ذلك لأن آلامه سرى فيها نوع من اللذة لا يدركه إلا العارفون، واصبح يهيم بهذا الألم اللذيذ. ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة - وكل ميسر لما خلق له.
أكره من الألم أن يكون ألماً يائسا، فهو يسلم للضعف فالموت، وأحب الألم الأمل فهو أبعث للقوة والحياة.
وتعجبني اللغة العربية إذ اربت في اللفظ بين الألم والأمل، وباعدت بين الألم واليأس، فاللهم لا تحرمني من الألم، ولكن قدر أن يكون ألماً لذيذاً.
احمد أمين
سحب في بلاد العرب
الحرب بين نجد واليمن
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان الخلاف يشتد منذ حين بين زعيم الجزيرة العربية، جلالة ابن السعود ملك نجد والحجاز وسيادة الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن. وكانت آمال العرب والمسلمين قوية في أن تنتهي الزعيمان بالمفاوضة والحسنى إلى حسم الخلاف القائم بينهما، وأن يبذل كل ما في وسعه لاتقاء حرب أهلية تشقى الجزيرة بعواقبها. ولكن العرب والمسلمين فجعوا أخيرا في هذه الآمال، فوقع الخطب ونشبت الحرب في جزيرة للمرة الثانية خلال بضعة اشهر. وكانت قد نشبت في الخريف الماضي بين القوات اليمنية والنجدية لنفس الخلاف الذي يثيرها اليوم؛ ولكنها أخمدت بسرعة وتغلبت الروية والحكمة يومئذ؛ وكان لصوت العرب والمسلمين أثره في ذلك؛ فعاد الزعيمان إلى التفهم والمفاوضة، وعقد مؤتمر نجدي يمني ليبحث وجوه الخلاف، وليحاول الوصول بها إلى تسوية مرضية ولكنه لم يوفق في مهمته لتمسك كل من الفريقين بوجهة نظره فكان تفاقم الخلاف، وكانت الحرب.
وهذا الخلاف الذي يضرم الحرب في جنوب الجزيرة العربية قديم يرجع إلى أعوام بعيدة. ومنشؤه مسألة الحدود بين البلدين وتنازع السيادة بينهما على المناطق والأراضي الواقعة بين الحجاز واليمن، وهي تشمل ولاية عسير الواقعة في جنوب الحجاز وشمال اليمن، ومنطقة نجران الواقعة شرق عسير جنوب شرقي الحجاز وشمال شرقي اليمن. وقد كانت السيادة في عسير حتى سنة 1922 مقسمة بين قبائل بني شهر القوية في قسمها الشرقي، وبين الأدارسة في قسمها الغربي وهو لمعروف بتهامة؛ ففي سنة 1922 اجتاحت القوات السعودية منطقة عسير الشرقية، وحطمت قبائل بني شهر واستولت على أراضيها حتى بلاد اليمن وضمتها إلى نجد. ولما استولى ابن سعود على الحجاز سنة 1925 رأى أن الاستيلاء على تهامة ضروري لتأمين حدود الحجاز الجنوبية، ورأى الأدارسة أن القوات النجدية تطوق بلادهم من الشرق والشمال فآثروا التفاهم مع ابن السعود والاستظلال بلوائه، وعقد زعيمهم السيد الحسن الأدريسي اتفاقا مع ملك نجد توضع عسير تهامة بمقتضاه تحت حماية نجد وإشرافها (سنة 1926)؛ وأستمر الأدارسة في حكم البلاد تحت
إشراف مندوب من قبل ملك نجد؛ ولكن هذا الوضع الشاذ كان مثارا لمصاعب وخلافات لا نهاية لها؛ واضطر السيد الأدريسي في النهاية أن يتخلى عن مهمة الحكم والإدارة وأن يفوض الأمر إلى ملك نجد؛ وشعر ابن سعود انه لا ستطيع المحافظة على عسير إلا إذا ضمها إلى أملاكه، فأعلن في سنة 1930؛ ونزع الأدارسة كل سلطان حقيقيي، وبذلك امتدت حدود المملكة السعودية إلى شمال اليمن، وزادت بذلك أسباب الاحتكاك بينهما. وكانت هذه الأسباب قائمة منذ استولى ابن سعود على أراضي بني شهر (عسير الشرقية)، وأشرفت بذلك على منطقة نجران التي يدعى إمام اليمن إنها من ملحقات مملكته وأن قبائلها تلتمس حمايته، ويدعي ابن سعود أن قسمها الشمالي داخل في أراضيه. ولكن استيلاء ابن سعود على أمارة الأدارسة كان أبعد في استياء الإمام وتوجسه من إشراف (الأخوان) على حدوده الشمالية. وكان للإمام من قبل نفوذ قوي على الأدارسة، وكانت عرى التفاهم والتحالف بينهما قوية متينة، وكان يرى دائما انه أولى وأحق بضم هذه المقاطعة إلى أملاكه من منافسة القوى الذي قصد إليها من قلب الجزيرة، واستطاع في أعوام قلائل أن يدفع حدود أملاكه حتى البحر الأحمر غربا واليمن جنوبا، ولكن الإمام لم يكن في ظروف تمكنه من الإقدام على هذه الخطوة لأنه في الوقت الذي استولى فيه ابن سعود على عسير كان مشغولا بخصومته مع الإنكليز على بعض المناطق اليمنية الجنوبية المجاورة لعدن، وقد احتلها الإنكليز بحجة إنها اختارت الحماية الإنكليزية، وأغارت أسرابهم الجوية على اليمن مرارا وألقت قنابله على صنعاء عاصمة اليمن، ولم يستطع الإمام يومئذ أن بفعل شيئا لمقاومة الغزو السعودي في عسير.
تلك هيأسباب الخلاف الجوهرية بين اليمن والمملكة السعودية. وقد استطاع ابن السعود والإمام أن يتغلبا مدى حين على بواعث الخصومة، وان يتذرعا بالروية والتفاهم، وان يحسما أسباب الخصومة في كثير من المواطن؛ بل لقد انتهى التفاهم بينهما إلى أن عقدا معاهدة صداقة وحسن جوار في سنة 1931 تعهد فيها كل منهما بمراعاة المودة والصداقة وتسليم المجرمين من رعايا الفريق الآخر، وتبادل حقوق التوطن والإقامة بالنسبة لرعايا الدولتين، ولكن هذه الجهود المحمودة في سبيل الوفاق والتفاهم لم تنجح على ما يظهر في حسم أسباب الخلاف الحقيقي؛ واستمرت بواعث الاحتكاك على مسائل الحدود تنفجر من
آن لآخر. وفي سنة 1932 انتفض الأدارسة على عمال الحكومة السعودية، واضطرمت في عسير ثورة خطيرة وهوجمت القوات السعودية بشدة، وأصيبت بخسائر فادحة، وردت عن بعض المواقع الهامة، فبادر ابن المسعود بإرسال النجدات القوية إلى عسير، أخمدت الثورة بعد خطوب، وفر الزعماء الأدارسة إلى اليمن، والتجئوا إلى حماية الإمام. واستشعر ابن السعود على ما يظهر ريبا من موقف الإمام إزاء هذه الثورة، وفي أنها ليست بعيدة عن وحيه وتدبيره ومؤازرته المعنوية على الأقل، خصوصا وقد رفض ما طلبه ابن السعود من تسليم الزعماء الأدارسة بالاستناد إلى المعاهدة المعقودة؛ عندئذ عاد الخلاف بين الملكين إلى اشده، واخذ كل منهما يحشد قواته على الحدود. ومع ذلك فقد حاولابن السعود أن يبذل مجهودا أخيراً في سبيا الوفاق والتفاهم، فأرسل إلى الإمام وفد للمفاوضة، ولبث الوفد السعودي في صنعاء عدة أسابيع دون أن يوفق إلى مفاوضة الإمام والتفاهم معه؛ وقيل يومئذ أن الوفد وضع بأمر الإمام أو بأمر ولده سيف الإسلامفي حالة اعتقال. وعلى أي حال فقد فشلت هذه لمحاولة، وتفاقم الخلاف حين تقدمت القوات اليمانية شمالا في مقاطعة نجران، واستولت على بعض مواقع في جنوب تهامة، واشتبك الفريقان يومئذ في بعض المعارك المحلية؛ واستشعر العالم العربي والإسلامي خطر هذه الحرب الأهلية فرفع صوته يحذر الزعيمين من عواقبها، ويناشدهما حقن الدماء واتقاء الشر، فوقفت الحرب يومئذ في بدايتها، أصغى الفريقان مدى حين لهذا النداء الحكيم.
ولكن الحرب تعود فتضطرم اليوم بين زعيمي الجزيرة العربية ويعود الخطر فيهدد مستقبل الجزيرة بشر العواقب. واشد ما نخشى أن تكون المطامع والدسائس الاستعمارية جاثمة وراء هذه الحرب الأهلية تنفح النار فيها، وتترقب من خلالها فرص التدخل. ذلك أن المملكة السعودية بلغت من الضخامة والقوة حدا أضحى يشغل السياسة البريطانية. والمملكة السعودية (نجد وملحقاتها) تجاور بحدودها جميع مناطق النفوذ البريطاني في شبه الجزيرة؛ فهي تجاور العراق من الشمال الشرقي، وتجاور شرق الأردن وفلسطين من الشمالالغربي، وتجاور الكويت وعمان من الشرق، وتشرف على حضرموت من الجنوب؛ وقد دلل ابن السعود في أكثر من فرصة على قوته ومنعة مملكته التي تشمل جميع أواسط الجزيرة من شرقها إلى غربها ودلل بالأخص على أنه شديد الحرص على سلامة حدوده وأراضيه لا
يغضى عن أية محاولة تقوم بها السياسة البريطانية لتوسيع نفوذها داخل الجزيرة، وقد رفض مرارا ما عرضته بريطانيا من الاتفاق معه على استثمار مواد الحجاز الطبيعية، أو منحه قرضا يمكنها من التدخل في شؤون مملكته؛ وعلائق ابن السعود حسنة مع روسيا السوفيتية، والتجارة السوفيتية متفوقة في الحجاز، وهذا ما لا يرضي بريطانيا. وابن السعود يدعي ملكية العقبة وما حولها من الأراضي التي تحتلها بريطاني، ويهدد بالإغارة عليها من حين لآخر، حتى أن بريطانيا اضطرت أن تنشئ لها في العقبة مركزا بحريا ومركزا للطيران الحربي. فهذه العوامل والظروف كلها تحمل السياسة البريطانية على التوجس من صديقها القديم ابن السعود ومن ازدياد قوته ونفوذه داخل الجزيرة، هذا وأما اليمن فهي محطأنظار السياسة الإيطالية، لأن موقعها على الضفة الشرقية من البحر الأحمر تجاه مستعمرة إريترية الإيطالية الواقعة على ضفته الغربية يجعل لها في نظر إيطاليا أهمية خاصة. وقد توثقت العلائق بين اليمن وإيطاليا منذ سنة 1928 وزار رومه يومئذ وفد يمني برئاسة سيف الإسلام ولد الإمام، واستقبل بمنتهى الحفاوة؛ وعقدت بين اليمن وإيطاليا معاهدة تجارية اقتصادية. وتقربت روسيا السوفيتية من اليمن أيضا وعقدت معها معاهدة ودية تجارية (سنة 1929) وكان ذلك عاملا في جزع السياسة البريطانية وتطور سياستها نحو اليمن. ذلك أن بريطانيا تجاور اليمن في عدن اعظم مراكزها البحرية في البحر الاحمر، وتحتل إلى جانب عدن عدة مناطق أخرى تجاور اليمن من الجنوب الشرقي وينازعها الإمام في ملكيتها. وكان الخلاف قويا مستمرا بين الإنكليز والإمام منذ أعوام طويلة، والسياسة البريطانية تتردد بين خصومته وصداقته، وتحاول إرغامه من وقت لآخر بتنظيم الغارات الجوية على أراضيه، أن يعترف بملكيتها للمناطق التسع التي تحتلها. فلما أتجه الإمام نحو السياسة الإيطالية، وظهرت روسيا السوفيتية في الميدان تتقرب إلى اليمن، خشيت السياسة البريطانية عواقب هذه الخصومة، فعادت إلى مصانعة الإمام، ودارت بينهما مفاوضات انتهت أخيرا بعقد كعاهدة يمنية بريطانية تعترف فيها بريطانيا العظمى باستقلال اليمن، وتسوي فيها بعض المسائل المعلقة بين الفريقين، وتنظم علائقهما. فهذه العوامل والظروف كلها مما يحمل على الاعتقاد بأن اضطرام الخصومة بين الإمام وابن السعود زعيمي الجزيرة العربية ليس مما يعنيهما وحدهما، وأن نشوب الحرب بين اليمن
والمملكة السعودية مما يثير أشد الاهتمام من جانب السياستين البريطانية والإيطالية؛ ومن الصعب أن نحاول الآن أن نلتمس ما قد يكون لإحدى هاتين السياستين أولهما معا عناصر الوحي أو التأثير في سير الظروف والحوادث التي أدت إلى هذه الأزمة الخطيرة في علائق زعيمي الجزيرة العربية؛ ولكن الذي لا ريب فيه أن السياستين البريطانية والإيطالية ترقب كل فرصها خلال هذه الحوادث، وتبذل وسعها للاستفادة منها، ودفعها إلى الطريق الذي يتفق مع مصالحها وغاياتها
وليس هنا مقام التحدث عن المسؤولية، عمن ترجع إليه التبعة في وقوع هذه الحرب التي تهدد مصاير الجزيرة العربية بشر العواقب، فلكل من الفريقين المتخاصمين وجهة نظر، ولكل أسبابه التي يستند إليها في تأييد موقفه. ويكفي أننا سردنا الحوادث والظروف التي أدت إلى هذا الموقف. وهي كما يرى القارئ حوادث وظروف تجتمع وتتهيأ منذ عدة أعوام، ثم اشتدت وتفاقمت في العامين الأخيرين. بيد أننا لا يسعنا إلا أن نعرب عما يخالجنا ويخالج العرب جميعا والمسلمين جميعا من الأسف والجزع لاضطراب أفق الجزيرة العربية بهذا الحدث الخطير الذي لا تقتصر عواقبه على المملكة السعودية وحدها أو على اليمن وحدها، ولكنها تلحق القضية العربية بأسرها. ونحن على يقين من أن جلالة عبد العزيز بن السعود، وسيادة الإمام يحيى يدرك كلاهما خطورة لموقف ويود أن يتقيه بكل ما وسع؛ ولقد برهن كلاهما خلال الأعوام الأخيرة في اكثر من موطن على انه يؤثر التذرع بالروية والحكمة ويؤثر الصفاء والسلام، وقد استطاعا حتى اليوم أن يتجنبا كارثة الحرب؛ فمثل هذه الحرب مهما كانت نتائجها بالنسبة للمملكة السعودية أو اليمن لا يمكن إلا أن تكون شرا على مستقبل الجزيرة العربية؛ وما تزال ثمة فرصة للمهادنة والتفاهم، فهلا بذل زعيما الجزيرة مجهودا أخيرا لتدارك الخطب وحقن الدماء، فيحققا بذلك رجاء كل عربي وكل مسلم، ويعيدا بذلك إلى الجزيرة سلامها وأمنها؟
محمد عبد الله المحامي
فلسفة القصة
ولماذا لا اكتب فيها. .؟
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
سألت الأستاذ مصطفى الرافعي، لماذا لا يكتب في القصة، ولماذا يخلو أدبه منها؟
- فأجاب:
(لم اكتب في القصة إلا قليلا، إذا أنت أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الأسم، ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها، هي قصة هذا العقل الذي في رأسي، وهذا القلب الذي بين جنبي.
(شاع أدبالقصة في اوربا، وطغى عندهم على المقالة، والكتاب وديوان الشعر جميعا، فقام عندنا المتابعون في الرأي، والمقلدون في الهوى، والضعفاء بطبيعة التقليد والمتابعة - قاموا يدعون إلى هذا الفن من الكتابة، ولا يرون من لا يكتب فيه إلا مدبرا عن عصره وأدبعصره. ولا جرم إذا كانوا هم أنفسهم مدبرين عن الحقيقة ومعنى الحقيقة. وأنت متى كان وجهك إلى الباطل وظهرك إلى الحق، فمهما تقدم في رأي نفسك فإنما تتأخر في رأي الحق، وكلما قطعت إلى غايتك رأيت الذي وراءك مختلفا متراجعا بمقدار ما أبعدت كأنه في أمس، وكأنك في عد، ولا يوم بينكما يجمع منكما ما تفرق.
(أنا لا اعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي يوم وينسخها يوم آخر. والقبلة التي اتجه إليها الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا اكتب ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا - ثم انه يخيل إلى دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبداً في موقف الجيش (تحت السلاح) له ما يعانيه وما يكلفه وما يحاوله ويفي به وما يتحاماه ويتحفظ فيه، وتاريخ نصره وهزيمته في أعماله دون سواها. وكيف اعترضت الجيش رأيته فن نفسه، لا فنك أنت ولا فن سواك، إذ هو لطريقته وغايته وما يتأدى به للحياة والتاريخ (وقد عابني مرة أحد الكتاب بأني (لا اكتب في الدراما) فلو أن هذا الكاتب وقف على شاطئ المحيط وجعل يتهكم بالأسطول الإنجليزي فيزري عليه انه ليس شيوعيا ولا بلشفيا، فما عسى أن يقول الأسطول إذا هو أجابه إلا أن يقول شيئا كهذا:
تبارك من صنع هذا الإنسان مدفع لحم لإطلاق الكلام الفارغ.
(أنا من اجل ذلك لا أزال إلى الآن مع الأدب العربي في فنه وبيانه اكثر مما أنا مع الحكاية ولغتها وعواطفها، فأكبر عملي إضافة إلى الصور الفكرية الجميلة إلى أدبنا وبياننا متحاشيا جهد الطاقة أن أنقل إلى كتابي دواب الأرض أو دواب الناس أو دواب الحوادث، فان الكتب ليست شيئا غير طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. والرواية إذا وضعها كاتب فاجر، فهي عندي ليست رواية بل هي عمل يجب أن يسمى في قانون العقوبات (فجورا بالكتابة).
(أن اكثر ما تراه من القصص، وبخاصة هذه التي غمرت الكتابة عندنا - إنما هي صناعة لهو، ومسلاة فراغ، وهذا قد يكون له وجه في علاج الحياة العملية، وفي تخفيف حطمة الاجتماع في أوربا وأمريكا، ولكن ما موضعه عندنا في الشرق، والشرق إنما تعمل في نهضته لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجوده السياسي عدما، ولملء الفراغ الذي جعل نصف الحياة الإنسانية موتا؟ هذا الضرب من القصة هو لرجالنا ونسائنا إذا قراؤه وتلهو به أشبه بإدخال أولئك الرجال والنساء - إدخالهم وإدخالهن على الكبر - في مدارس رياض الأطفال.
(الأطفال يستلذون الحكاية بالفطرة لأنها تجيئهم بالدنيا التي يعسر أن يذهبوا إليها أو يغامروا فيها، وتهيئ لهم أن يشعروا خيالهم قوة الخلق فتكون لذتهم على مقدار من بعد هذه الدنيا عنهم وعلى مقدار مثله من طبيعة العجز في خيالهم، وهذا الضعف في الناحيتين هو بعينه الذي يجعل لأكثر القصص شأنا عند سخفاء الناس وفراغهم، وأهل الحمق فيهم، يسعرهم شهوات وخيالات وأوهاما من الباطل، فذلك أذن ليس أدبا يكتب ويقرأ، بل هو بلاء اجتماعي يطبع ويوزع في الناس. . .
ألا ترى أن تلك الروايات توضع قصصا، ثم تقرأ فتبقى قصصا؟ وان هي صنعت شيئا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخدرات تكون مسكنات عصبية إلى حين ثم تنقلب بنفسها بعد قليل إلى مهيجات عصبية؟!
وأنا لا أنكر أن في القصة أدبا عاليا، ولكن هذا الأدب الغالي في رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها في الرواية كما يربى الأطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة.
فالقصة من هذه الناحية مدرسة لها قانون مسنون وطريق ممحصة، وغاية معينة، ولا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ من فلاسفة الفكر الذين تنصبهم مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة، والأعلام من فلاسفة البيان الذين رزقوا من أدبهم قوة الترجمة عما بين النفس الإنسانية والحياة، وما بين الحياة وموادها النفسية في هؤلاء وهؤلاء، تتخيل الحياة فتبدع أجمل شعرها، وتتأمل فتخرج أسمى حكمتها، وتشرع فتضع اصح قوانينها.
(وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص فهم في الأدب رعاع وهمج كان من اثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم من فوضى الغرائز - هذه الفوضى الممقوتة التي لو حققتها في النفوس لما رايتها إلا عامية روحانية منحطة تتسكع فيها النفس مشردة في طرق رذائلها
إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست في نفسك بأشياء بدأت تسفل، وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت من نفسك أشياء بدأت تعلو. تنتهي الأولى فيك بأثرها السيئ، تبدأ الثانية منك بأثرها الطيب، وهذا عندي هو فرق ما بين فن القصة، وفن التلفيق القصصي!!
هذا هو رأي الأستاذ الرافعي ننشره على اصله، لينظر فيه الكثير من شبابنا الناشئين، الذين أقبلوا على كتابة القصة، لعل فيه ما ينفعهم ويفيدهم، ويمهد لهم سبيل الكمال في إنتاجهم.
اسعد حنا
الإسماعيلية
الملقبون بالحشاشين
أين نشأ ابن الصباح
ورد فيما مضى ذكر لدار الحكمة وهي المدرسة التي أنشأها في مصر الحاكم بأمر الله العيدي في القرن الثالث الهجري لتعليم مذهبه التوحيدي، فلما مات أبو طاهر الجنابي عام 332هـ وهو الذي خلف أبا سعيد الجنابي كانت هذه المدرسة قد زهت وأفلحت فلاحا عظيما، وكان أساس التعليم فيها قلب الخلافة العباسية وزوال دولتها، وكان الدخول فبها مباحا لكل راغب، ويلقي العلوم فيها شيوخ تصرف لهم المرتبات والمكافآت العظيمة من أموال الدولة، وكانت علوم هذه المدرسة تسعة كلها دينية منقولة عن مبادئ أبن القداح (القداح هو ولد ديصان واسمه عبد الله ولقب بالقداح لأنه كان يعالج العيون بقدحها، وكان أبوه قد علمه الحيل، واطلعه على أسرار نحلته ومخاريقه، فلما مات خلفه أبنه، وكان يدعو إلى ظهور المهدي في ذلك الزمان في اليمن، وهو المذهب الذي تفشي في البحرين في القرن الثالث الهجري كما ذكرنا)
وكانوا فيالدور الأول من هذه العلوم يعمون على الطالب ويشوشون عليه تشويشا مخيفا ويلقنونه معنى مكتوما لمتن القرآن، وفي الدور الثاني يفرضون عليه إيمانا وأقساما يقسم بها ويبالغ في حفظها، ثم يعلمونه الأئمة المقامين من الله تعالى الذين هم في مذهبهم أصل كل معرفة، فإذا بلغ الطالب الدور الثالث علموه، عدد هؤلاء الأئمة الذي لا يتجاوز سبعة، وإذا بلغ الدور الرابع علموه انه منذ خلق الله العالم وجد سبعة متشرعون الاهيون هم الرسل. السبعة المعروفون في مذهبهم بالنطقاء، وكيفية إقامتهم لتلك الشرائع. فإذا بلغ المرتبة الخامسة علموه أن لكل واحد من هؤلاء السبعة اثني عشر رسولا للدعوة إلى الإيمان الصحيح، وإذا بلغ السادسة علموه السنن الإسلامية، ولقنوه أن كل الشرائع الدينية المشروعةيجب أن تكون خاضعة للشرائع العمومية والفلسفة، معولين في ذلك على فلسفة إفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، وهي عندهم رأس كل تعليم، وإذا بلغ المرتبة السابعة انتقل من الفلسفة إلى الأسرار، وفي الثامنة كانوا يثقفون عقله بتعليم أشياء من مراتب الأنبياء والرسل، ويلقنونه وجوب إنكار وجود الجنة والنار، ويبطلون الأعمال ويقولون أن
ليس على الأعمال ثواب ولا عقاب لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم يدخل الطالب في الدور التاسع وفيه ينقاد الانقياد الأعمى لشيخه فلا يخالف له أمرا ولا يعصي له كلمة ولو أدت إلى الموت.
ونظرة إلى هذه التعاليم ترينا مقدار مخالفتها للدين الإسلامي، فأن منها ما لو آمن به المسلم لكفر، ونتبين منها الكراهة لبني العباس والتشويش على الطالب بتلقينه معنى مكتوما لمتن القرآن حتى يتيسر لهم التوفيق بين إنكار الجنة والنار، وما ورد في ذلك الكتاب المقدس عن وجودهما بأصرح عبارة. ثم هذا إلى ذكر المشرعين الإلاهيين والرسل الذين يدعون إلى الدينالصحيح، وما في ذلك من التشكك في صحة النبوة والدعوة إلى الارتياب فيها وقصر الصحة على أولئك الرسل وحدهم.
في هذه المدرسة التي ذكرنا تعاليمها الخبيثة درج زعيم الحشاشين، وعلى هذه المبادئ التي تناقض الدين نشأ ابن الصباح. فلا عجب إذن أن فعل ما سنراه من المنكرات، ولا عجب أن تكون هذه الأفعال نتيجة سيئة لإنكار الحساب والجزاء والعقاب. وإذا كان الشخص الناشئ على هذه التعاليم خطراً على الدين والأخلاق فماذا يكون إذا شابه ابن الصباح فيما كان عليه من دهاء وعلم وحذق؟! لكإن ابن الصباح اصلح نفسية تلائم هذه المدرسة واخصب عقلية لغرس تعاليمها.
كيف تولى ابن الصباح أمر الإسماعيلية
لا يقول ابن الأثير (وكان الحسن من تلاميذ ابن العطاش الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان، ومضى ابن الصباح فطاف البلاد ووصل إلى مصر، ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالا، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان، ودخل كشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضللهم. فلما رأى قلعة (آلموت) واختبر أهل تلك النواحي أقام عندهم وطمع في غوايتهم ودعاهم في السر، واظهر الزهد والورع ولبس المسوح فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن به، وجلس إليه وتبرك به. فلما احكم الحسن أمره دخل يوما على العلوي في القلعة، فقال له ابن الصباح: أخرج من هذه القلعة، فضحك العلوي وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح أصحابه فأخرجوه إلى
دامغان، وأعطاه ماله وملك القلعة).
هذا الدهاء الذي اتصف به الحسن كان من اكبر العوامل التي ساعدته على تسليم الرياسة الكبرى للإسماعيلية، والى جانب هذا الدهاء انصراف الخلفاء من بني العباس في وقته عن الشؤون العامة وعجزهم عن تحصين إمامتهم، وضبط خلافتهم لاسترداد الملك للعجم من الديلم والسلاجقة فباتوا لا يقدرون على كف الغوائل عنهم، والإسماعيليةينتشرون في أنحاء الشرق القاصية.
وبعد استيلاء الحسن على قلعة آلموت في ولاية جيلان بفارس وهي أقوى القلاع زادها قوة واحكم تحصينها وجعلها تحت دولةالإسماعلية، فعظم أمره بين اتباعه ولقبوه بالشيخ وهو اكبر ألقابه، وقد كانت له ألقاب أخرى منها الرئيس والسيد.
وبعدان تولى الرياسة كثر اتباعه وانقادوا له الانقياد الأعمى فأتخذ منهم أداة للظلم والطغيان فارهب بهم الخلق والملوك والسلاطين وحاربهم هزمهم، وقد قام بترتيب الطائفة إلى ثلاث مراتب: الدعاة وهم الداعون إلى مذهب الطائفة، والرفاق وهم الذين اعتنقوا المذهب وخضعوا لسلطة الرئيس، والفدائية وهم عدة الرئيس خاصة يسيرهم كما يشاء، وكانوا يربون في بيوت الرؤساء منذ نعومة أظفارهم يلقنون طاعة الرئيس والتضحية بالنفس في سبيل إنفاذ أوامره، ويفهمون أن الواحد منهم قد علقت سلامته بفداء روحه ويصور لهم العذاب في ابشع صورة أن خالفوا للرئيس أمرا، والنعيم في أشهى مظاهره أن هم تفانوا في خدمته. وهنا تظهر صولة القوم وخداعهم فقد كانوا كي يحققوا الفدائية ما يعدونهم به من النعيم مقيم ينشئون الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء يحيطونها بالأسوار العالية ويضعون فيها من الصناعات ما حسن تنسيقه مما يبهر الأنظار ويخلب الألباب ويجعلون فيها كل أنواع الفاكهة والأزهار والورود والرياحين تتدفق فيها الشلالات الجميلة وسط المزروعات الخضراء والمروج الفيحاء، وينبعث من أرضها ماء الينابيع والنافورات، ويخصصون أمكنة من تلك الحدائق تكون مجالس فاخرة وأروقة مزخرفة بالخزف والصيني والفرش، والبسط والطنافس والرياش ويودعون فيها الأواني الفضية والذهبية والبلورية المموهة بالذهب الخالص يزين ذلك كله اجمل العذارى، واظرف الولدان في ثياب ارق من نسيج العنكبوت يروحون في تلك الحدائق ويغدون كالأطيار الجميلة تنتقل
من دوحة إلى دوحة، يغرون الناظرين بالتيه والدلال، وبالجملة فقد جعلوا من تلك الحدائق فتنة لاتباعهم، فذا فاز أحد الرفاق على الآخر في إظهار منتهى الطاعة للرئيس والخضوع لأوامره خضوعا تاما وكتم السر والاحتفاظ بالعهود، أعطوه من الحشيش ما يذهب معه لبه، ويفقده صوابه. ثم أرسلوه إلى تلك الحدائق الساحرة حيث يفيق بين مظاهر الجمال ويغمر بأنواع الملذات ويتركونه ساعة يعطونه بعد مضيها الحشيش مرة أخرى حتى إذا غاب عن صوابه أعادوه إلى مكانه الأول.
وهناك يمنونه بالعودة إلى تلك الجنان أن هو زاد في طاعته، وبلغ في التفاني والولاء أقصى ما يستطيع.
وبعد أن تفشت هذه التعاليم أباح الرؤساء لتابعيهم كل أنواع الملذات وأطلقوا لشهواتهم العنان، وأباحوا لهم زواج الأخوات وكل من يحرم الدين الزواج منهن، وعكفوا على تعاطي الحشيش وأدمنوا في ذلك وأسرفوا، حتى انقلبت تلك الطائفة التي تدعى أن لها تعاليم دينية راقية وأنها تدعو إلى الإيمان الصحيح إلى فئة طاغية مجرمة تحلل المحرمات وتحض على المنكرات. وترى في القتل عملامشروعا يثاب عليه فاعله.
ولما قامت الحروب الصليبية كان للحشاشين فيها يد سوداء، وقاموا في أثنائها بأفظع الأعمال الوحشية، فأطلق الفرنجة اسم وهو تحرف لكلمة حشاشين وجعلوه لكل قاتل مجرم. ويروي المؤرخون لأولئك الحشاشين من فظائع الأعمال ما يعطينا عنهم صورة بشعة رسمت بلون الدماء الحمراء، ووضعت في إطار من عظام القتلى وأشلائهم، فيقول المسعودي وأبو الفداء انه بلغ من جرأة الحشاشين انهم كانوا يخطفون الناس من الشوارع والحارات بأغرب الطرق، وكان الرجل يتبع خاطفه في سكون وخشوع، والويل له أن أبدى مقاومة أو تحرك لسانه طلبا للنجدة، فانه أن فعل استقر خنجر الفداوي في قلبه، وكان إذا غاب أحدهم ساعة عن أهله تحققوا انه قد خطف وقتلفيقيمون عليه الأحزان، وصار الناس يلبسون الدروع تحت الثياب مخافة الفدائية، وكان من دهائهم تعليم اتباعهم المهن كالطباخة والحلاقة والخياطة ودسهم في بيوت الأمراء يقومون فيها بالخدمة الجاسوسية. يقال أن أحد السلاطين أرسل يوما إلى شيخ الجبل يدعوه إلى الطاعة والكف عن إيذاء الناس. فقال الشيخ للرسول: أمخلصون انتم لسلطانكم؟ فأجابه كلنا نفتديه. فقال له قل
لسيدك موعدنا يوم كذا، وقل له أن يضم إلى مجلسه اخلص المخلصين له، وكان عند السلطان غلامان لا يطيق فراقهما لحظة، فلما حل اليوم اقبل الشيخ في قلة من أصحابه مدججين بالسلاح فجعل يحادث السلطان فقال السلطان للشيخ سألت عن إخلاص قومي وكفايتهم، وأني مريك الآن ما لم تراه، وكان المجلس غاصا بالقواد والوزراء، فرمى السلطان بخنجره من شرفة المكان إلى الوادي فترامى القواد لإحضاره فهلكوا جميعا. فقال الشيخ نعم القوم قومك. فقال السلطان وهل أنت على مثل ذلك من قومك؟ قال لي كلام أقوله لمولانا في خلوة. فأخرج السلطانكل من كانوا عنده عدا الغلامين، فنظر إليهما الشيخ وقال يا عبدي مولانا إذا قلت لكما أن مولاكما هذا يهدد شيخكما ويفسد عليه أمره، فماذا تفعلان به؟ فاستلا سيفهما ولوحا بهما على راس السلطان وقالا نقتله، فدهش السلطان وحار في أمره ثم التفت إلى الشيخ يقول انصرف فأنت في حل مما تفعل. . .
وقد توفي الحسن ابن الصباح عام 518 هـ وتولى الزعامة بعده نحو سبعة من الرجال نجد ترتيب زعامتهم في دائرة المعارف الإسلامية مادة وقد ظلت الزعامة في طائفة الحشاشين قائمة في قلعة آلموت حتى 654 هـ أي نحو قرنين لم يبطل لهم فيهما شر، ولم يكفوا في أثنائهما عن أذى إلى جانب إفساد الأخلاق بتعاطي الحشيش وتحليل المنكرات وإباحة الملذات.
وكان من اكبر دعاتهم في أفريقية رجل خرج من صنعاء يقال له أبو عبد الله احمد بن محمد بن زكريا، ويعرف بالشيعي يبعث الدعوة للمهدي. أما مصر فلم يكن لهم فيها حوادث أو وقائع، اللهم إلا تلك الخرافات يرويها الناس عنهم كقصة الشاطر حسن وشيخ الفداوية. أما القبة الموجودة الآن في العباسية والتي يزعمون إنها للفداوية فقد كانت قبة للصلاة بناها الأمير يشبك بن مهدي الداودار عام 884 هـ في ولاية السلطان قايتباي، وقد تداعت فرممها الأمير حسين كتخدا ثم رممها ديوان الأوقاف الخيرية عام 1317 هـ في عهد محمد توفيق باشا.
ولا يزال للإسماعيلية إلى وقتنا هذا صوت كدبيب النملة، وزعيمهم آغاخان الذي عرف واشتهر بوفرة ماله لا بزعامة لتلك الطائفة الموزعة بين الهند وفارس. والظاهر أن القوم قد غيروا ما عرف به سلفهم من قبيح العادات والتقاليد، وإلا لما استطاعوا الإقامة بين
الحكومات التي تنبهت وتوصلت إلى طرق من الرقابة على الناس مباشرة، وقد انصرف القوم عن نشر دعوتهم واكتفوا بعقيدتهم والحياة فيما هم فيه من يسر البيع وربح لتجارة، وما كان القرن العشرين ليتسع لمثل دعوتهم.
لك شأنالإسماعيليةعامة والحشاشين خاصة، وتلك مكانتهم التاريخية طوال أيام الدولة العباسية، وهي وان كانت مكانة لا يحسدون عليها لما قامت عليه من شر ونكر إلا أن التاريخ سجل يحتفظ بين طياته حوادث الأيام والناس لا يفرق بين مخازيها ومفاخرها. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؟
محمد قدري لطفيليسانسيه في الآداب
حول الشاعر كورني
عزا الدكتور الفاضل حسن صادق في مقاله عن كورني ضعف رواياته الأخيرة إلى اضمحلال قواه الذهنية من اثر الهرم، والحقيقة أن كورني بالغ في مبدئه الذي يعني بتصوير الأشخاص كما يجب أن يكونوا فجاءت شخصيات قصصه الأخيرة خارجة عن حدود المعقول، وذلك ما أرى كان السبب الأول في سقوط رواياته
وقد جاء في المقالة أيضا: قال فولتير (الشرح الوحيد لكتيب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في اسفل كل صحيفة: جميل. جليل. الاهي!) وهذه الكلمات على ما جاء في كتب الأدب الفرنسية قيلت في راسين لا في كورني، وذلك اقرب إلى العقل لان فولتير كان يعجب بمبدأ راسين الذي يريد تحليل نفس الإنسان كما هو لا كما يجب أن يكون، اكثر من إعجابه بمبدأ كورني الذي تعرض له بعض كتبه بالنقد اللاذع.
صلاح الدين وصفي
كتاب النثر الفني
حضرة الأستاذ محرر الرسالة:
قرأت في باب النقد من العدد الماضي مقال الأستاذ الجليل أحمد أمين في نقد كتاب (النثر الفني في القرن الرابع) وسرني أن اظفر من مثل هذا الباحث الفاضل بمثل ذلك الثناء، وقد رأيت من باب الدعابة أن اعد سطور ذلك المقال. فرأيت خمسة منها تمهيدا، وخمسة وستين في نقد طريقة المؤلف في الحديث عن نفسه ومصاولة ناقديه، وثلاثة عشر في نقد هندسة الكتاب، ثم رأيت مع السرور الفائق ثمانية عشر سطرا كلها ثناء صرف على المؤلف وعلى الكتاب، ومن النادر أن يظفر مؤلف بثمانية عشر سطرا كلها ثناء على كتاب جديد من رجل كالأستاذ احمد أمين.
وكتابي كما تعلمون يقع في نحو ثمانمائة صفحة، وملام الأستاذ احمد أمين لا ينصب على اكثر من صفحتين يمكن حذفهما بسهولة في الطبعة المقبلة إن شاء الله
ويقول الأستاذ:
(وأني وإن احترمت الكتاب من الناحية العلمية والعقلية فأني ناقده من جهة الذوق)
ثم أشار إلى كلمات وهوامش جمح فيها القلم، وهو ينقد بعض العلماء، وصح لدي بعد
التأمل أن مجموع ذلك يزيد عن عشر كلمات سأحذفها في الطبعة المقبلة، لأنها ضربت أذني وانقبض منها صدري كما ضربت أذن الأستاذ وانقبض منها صدره.
وعجب الأستاذ من أن يراني قاسيا في بعض النقد، ولطيفا لبقا في البعض الآخر، وتمنى لو يعرف لم كنت لطيفا لبقا هنا، وقاسيا صارما هناك؟
وتفسير ذلك سهل: فأن الأدب يأخذ وقوده أحياناً من الأعصاب والاحاسيس، وقد تتمثل للنفس ظلال من إحدى المعارك الأدبية فتثور تعصف، وتمضي حينا في هدوء فلا يفيض عنها غير اللباقة واللطف
والى حضرة الأستاذ تحيتي واحترامي
زكي مبارك
إخوان الصفا والإسماعيلية
للأستاذ أديب عباسي
علاقتهم بالإسماعيلية - تشيعهم - دعوتهم إلى الإمام المنتظر
يقول كازنوفا المستشرق الفرنسي الكبير ما معناه:
(أنني على أتم الثقة من أراء أخوان الصفا هي برمتها أراء الإسماعيلية. ومحور هذه الآراء هو الاعتقاد بعودة الإمام الذي سوف يملأ الأرض سعادة، وقدر اتهم القرامطة والحشاشون من قبل أعدائهم بالكفر، لكن ليس لهذه التهمة ظل من الحقيقة. فان الرسالة الجامعة، وهي خلاصة هذه الفرق، ليس فيها شيء من ذلك. فمذهبالإسماعيليةوما تفرع منه هي في اصلها بريئة من كل ما نسب أليها، واكرر القول هنا بأن النزعة التي تسود أراءالإسماعيليةهي الاعتقاد بوحدة الكون (البانتيزم). وهو مذهب يقاوم الإلحاد وإنكار الخالق مقاومة عنيفة.
(والنتيجة التي انتهيت إليها هي أن هذه المذاهب هي مثل من أمثلة التاريخ التي تبين كيف أن المذهب يكون نقياً، ولكن في أيدي ذوي الأطماع يصبح آلة للفتك والتدمير)(نيكلسن ص371)
نقلنا هذه القطعة عن المستشرق الفرنسي لكي نبين أننا لا نسيء إلى إخوان الصفا إذ نسبهم إلىالإسماعيلية، ولكن ما هي طبيعة هذه النسبة وما هو مقدارها؟ هذا ما يجيب عنه اولياري بقوله (هناك ما يغري بالظن أن حركة الإخوان حركة إصلاح من جانب بعضالإسماعيليةالذين أرادوا الرجوع إلى تعاليمالإسماعيلية القديمة) وأل ما يلحظ من أوجه الشبه بين الإسماعيلية وإخوان الصفا الأسلوب الذي جروا عليه في نشر دعوتهم والدعاية لمذهبهم وهو أسلوبالإسماعيلية المعهود - أسلوب التدرج في بث الفكرة والتلطف في عرضها على الناس. فأخوان الصفا كل الإسماعيليةيوصون (بأنه ينبغي لمن حصلت له هذه الرسائل من إخواننا الكرام أن يدفع منها إلى كل من يستحق ما يقرب من فهمه، وما يعلم انه يصلح له أو يليق بمرتبته أولا فأولا. فكلما ارتفعت نفسه في العالم إلى درجة درجة وانتهت إلى مرتبة في المعرفة رقي إلى ما بعدها ورفع إلى ما يتلوها (ج 4 ص288).
ومن أبوب التشابه بين الجماعتين اتفاقهما اتفاقا كليا في مذهب الحلول. فهو في رسائل الإخوان كما في تعاليمالإسماعيليةالمحور الذي تدور حوله هذه الرسائل والتعاليم.
ووجه آخر من اوجه التشابه هو تفسير القرآن تفسيرا غير ما يدل عليه ظاهر اللفظ. وهذا الأسلوب هو أسلوب الباطن الذي جرى عليه الشيعة ومن تفرع منهم. واليك ما يقوله إخوان الصفا في هذا الشان: -
(واعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولكن لها تأويلات خفية باطنة: وهي المعاني المفهومة المعقولة. . . وفي استعمال أحكامها الظاهرة صلاح للمستعجلين في دنياهم، وفي معرفتهم أسرارها الخفية صلاح لهم في أمر معادهم.)(ج4 ص189).
هذه بعض اوجه الشبه بينالإسماعيليةوإخوان الصفا من حيث المعتقد وطرائق النشر والدعاية. على أن ثمة وجهين آخرين للشبه بينهما: هما التشيع لآل البيت والدعوة إلى الإمام المنتظر أو المهدي. أما أمر التشييع فظاهر من قولهم: -
(ومن الناس طائفة ينسبون إلينا أجسادهم وهم براء منا ويسمون أنفسهم العلوية وما هم من العلويين، ولكنهم في اسفل السافلين لا يعرفون من امرنا إلا نسبة الاجساد، ولا من القرآن إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه (ج4 ص195). وهم لا يذكرون الإمام إلا مقرونا بأفخم النعوت كقولهم (وأيضا من الآراء الفاسدة رأي من يرى أن بارئه وألهه روح القدس قتله اليهود. . وهكذا أيضا حكم من يرى ويعتقد أن الإمام المنظر الفاضل الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين)(ج4 ص76 - 87).
ومثله قولهم: (واعلم يا أخي أن أقوى ما يكون فعل إبليس في دور الشهر (دور الشهر في مصطلحات الشيعة هو الزمن الذي لا يكون فيه إمام. وهو الفترة بين الإمام الواحد والذي يليه). وذلك لأن حجة الله على أرضه وخليفته على عباده يكون مختفيا مستوراً، وأن كانتأنواره تضيء في نفوس العارفين به) (ج4 ص355).
ما تقدم لا يدع مجالا للشك في تشيع إخوان الصفا وإيمانهم بالإمام المنتظر. ولكن لنا أن نسأل هل وقف إخوان الصفا عند حد النظر من الإيمان بالإمام المنتظر أو هم تخطوا ذلك إلى بث الدعوة له والتعريف به؟ نعتقد أن في القطعة التالية إيضاحا لذلك وذلك حيث
يقولون: -
(وقد أخذناك أيها الأخ لأمر فيه قربة إلى الله تعالى ونصرة للدين. فكن واثقاً بما اخترناك، وسر على بركة الله وحسن توفيقه، متوكلا عليه في نصرته وتأييده إلى أخ من إخواننا الفضلاء، وتلطف في الوصول إليه وبشره بما ألقيناه من الأسرار في شأنه.: وعرفه بان إخوانه الذين وجهوك إليه لهم مجلس يجتمعون فيه يتذاكرون العلوم ويتحاورون الأسرار. فتذاكروا يوماً فيما بينهم من حوادث الأيام وتغييرات الزمان وما تدل عليه دلائل القرآن من تغيير شرائع الدين والملل، وتنقل الملك والدول، من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت وقد اعتبرنا بهذه الوجوه التي ذكرناها حتى عرفنا (صاحب الأمر) بصفاته والسنة والشهر الذي يكون فيه الحادث (ج4 ص224 - 25).
ما تقدم لا يدع مجالا للريب في أغراض إخوان الصفا السياسية، وهي نشر الدعوة وأعداد الأفكار لظهور أحد المهديين.
بين المعري ودانتي
بقلم محمود النشوي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
في سماء الأدب العربي تتألق رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. وفي سماء الأدب الطلياني تتألق الكوميدية المقدسة لشاعر الطليان دانتي اليجييري وفي كل منهما خيال يقرب من الخيال الآخر حتى ظن كثير من الأدباء أن شاعر الطليان سرق شاعر العرب. وان خيال المعرة انتقل إلى فلورنسا. وسواء لدينا أسرق دانتي فكرة المعري أم هي المصادفة أتاحت لكل منهما ما أتاحته للآخر، ففي كل من الروايتين حوار مع أهل الجنة وأهل النار، وفي كل منهما رحلة في دركات الجحيم، وفي طبقات الجنة، سنعرض لذلك كله بالموازنة والتحليل ما اتسعت لنا صفحات الرسالة الغراء.
التعريف بالشاعرين
في سنة 973 م ولد أبو العلاء المعري في سنة 1059 انتقل إلى قبره بعد أن عمر ستة وثمانين عاما، ولم يكد يناهز الرابعة من عمره حتى أصابه الجدري فذهب بعينيه.
وكأن الله أراد أن يعوضه عما فقده من حاسة البصر، فرزقه حافظة تعلق بها الكراريس العدة إذا تليت عليها مرة واحدة وكأني به استوعب ما احتوته قريته المعرة من العلوم والمعارف فرحل إلى العواصم الإسلامية يرتشف منها مناهل العلم، فزار حلب وإنطاكية وطرابلس الشام واللاذقية وبغداد، إلى أن بلغ من العمر سبعة وثلاثين، فزهد في الدنيا واعتزل الناس في منزله بالمعرة. وقضى بقية حياته رهين المحبسين: العمى والمنزل، فأوحت إليه عزلته ما ظهر في لزومياته وفي رسالة الغفران.
وأما دانتي فولد في سنة 1265 وتوفي سنة 1321 بعد أن عاش ستة وخمسين عاما.
ولقد كان جده كاتشا جويدا المسلمين في صفوف الصليبين لاغتصاب بيت المقدس تحت آمرة الإمبراطور كوناردو الثالث. وكأني به اشتد على المسلمين في حربه، فانعم عليه ذلك الإمبراطور بلقب فأما والده فقد كان من غمار الناس ودهمائهم لم يترفق بدانتي حينما توفيت أمه بل تزوج امرأة تدعى لابا أذاقته الآم الحياة وهو في عهد الطفولة، حتى إذا اشتد
ساعده قليلا هرع إلى مدارس الفرنشسكان يتعلم الدين قليلا من الهندسة والحساب، متتلمذا للقديس فرانشسكودي اسيزي، ولا يزال يتشرب روحه وتعاليمه حتى أدركه دور المراهقة فوقع في إشراك من الغرام امتدت نحوه من الفتاة بياتريشي تلك التي ألهبت شاعريته، وكان لها اثر كبير في كوميديته المقدسة، ثم توفيت تلك الحبيبة في سنة 1289 فزادت الآم. غير أن نجمه بدأ يتألق في سماء السياسة فاختير عضوا من ستة أعضاء يحكمون في مدينة فلورنسا التي كانت تعصف بها الحروب الأهلية. والأمر ما اغتاظ منهم البابا بونيفاشيو عليهم شقيق ملك فرنسا كارلودي فالوا فأخذ مدينتهم، وفر دانتي مع الهاربين بعد أن حكموا عليه بالموت حرقا سنة 1301، ولولا ذلك الهرب لنفذوا في حكمهم ثم صادروا أملاكه ونفوا ولديه جاكر وبيترو ولا زالت البلاد تتقاذفه حتى مات شريدا طريدا سنة 1321 بعدنفي قارب العشرين عاما.
أسباب تأليف الروايتين
فأما رسالة الغفران فهي رد على رسالة ابن القارح التي أرسلها إلى المعري
وابن القارح هو علي بن منصور الحلبي، ولقبه دوخلة، خدم أبا علي الفارسي في صباه وقرأ عليه بعض كتبه، ثم جاء إلى مصر يؤدب ولدّي الحسين بن جوهمه القائد بمصر. وكان له شعر من نوع ضعيف كمدحته للحاكم بأمر الله الفاطمي التي يفتتحها بقوله
أن الزمان قد نصر
…
بالحاكم الملك الأغر
وكان فيه شيء من ذكاء. وشيء من دعابة أملت عليه دعابته أن يرسل لأبي العلاء رسالة فيها لهو، وفيها سخر، وفيها حوار للشعراء والمتزندقين والمتألهين. وفيها أسلوب معري يكثر من ذكر الآيات القرآنية يوردها أدلة على مالا تدل عليه إلا قليلا، أو من طريق بعيد، أو لا تدل عليه بالمرة. وفيها كثرة الجمل الإعتراضية بالدعاء للمخاطب والإسهاب في الترضي والترحم وفي اللعنة، مما لم نعهده في كتاب غير رسالة الغفران وغير رسالة ابن القارح تلك التي بدأها بقوله (كتابي أطال الله بقاء مولاي الجليل، وجعلني فداءه على الصحة والحقيقة، وليس على مجاز اللفظ، ومجرى الكناية) ثم يروي عن صاحب الزنج انه خطب في زنوجه قائلا (أنكم قد أعنتم بقبح منظر، فأشفعوه بقبح مخبر. اجعلوا كل عامر قفرا، وكل بيت قبرا.) ثم يروي لأبي العلاء أن رجلا دفع إلى صديق له جارية وأودعها
عنده ثم ذهب في سفره. فقال المودع لديه بعد أيام لمن يأنس به وتسكن نفسه إليه. يا أخي ذهبت أمانات الناس: أودعني صديق لي جارية في حسابه أنها بكر. . فجربتها فذا هي ثيب!. ثم يعيب على الراوة تصحيفهم قول علي كرم الله وجهه تهلك البصرة بالريح فهلكت بالزنج، كما تحدث المعري عن الرواة وتصحيفهم وتحريفهم.
ثم تحدث عن المتنبي، وانه كان مغرما بتصغير كلماته فصغر أهل الزمان حينما قال
أذم إلى هذا الزمان أهليه
فانحنى عليه بالأئمة فقال (وما يستحق زمان ساعده بسيف الدولة أن يطلق على أهله الدم) ثم تحدث ابن القارح عن المتنبي وعن سجنه في بغداد فقال: (إن المتنبي اخرج من الحبس في بغداد إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير رحمه الله، فقال له: أنت احمد المتنبي؟ فقال أنا احمد المتنبي. ثم كشف عن سلعة على بطنه وقال: هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي. ثم تحدث عن ابن الرومي وعن طيرته. وعن أبي تمام، وان الحسن بن رجاء بلغة انه لا يصلي، فوكل به من يلازمه فلم يره صلى يوما واحدا فعاتبه، فقال يا مولاي: قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبعد الشقة، ولم أره يثقل عليّ. فلو كنت اعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضرني ما تركتها: قال الحسن: لأردت قتله فخشيت أن يحمل على غير هذا فتركته.
ثم تحدث عن الذين ادعوا الألوهية كالقصار الأعور الذي اتخذ له وجها من ذهب وخوطب برب العزة، والصناديقي الذي خوطب بالربوبية وكوتب بها، وكانت له دار يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلا
ثم ذكر الحلاج وانه كان يخاطب الله بقوله
يا جملة الكل لست غيري
…
فما اعتذاري إذاً آليا
ثم تحدث عن المتزندقين فذكر بشارا وان المهدي قتله على الزندقة. وعن صالح بن عبد القدوس وأن المهدي قتله لأنه قال
ولو إني أظهرت للناس ديني
…
لم يكن لي - في غير حبسي - أكل
وذكر الوليد بن يزيد وأن انه رمى المصحف بالنشاب وخرقه، وأن الحجاج كانوا يطوفون بالكعبة فيقولون (لبيك اللهم لبيك: يا قاتل الوليد بن يزيد)
ثم ذكر أبا عيسى بن الوليد، وانه برم بشهر الصيام ونذر إلا يعود إلى صومه فقال:
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر
…
ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
ثم يختم ابن القارح رسالته بأنها استحسنت منه وكتبت عنه. ثم يسأل المعري أن يجيب عنها ليذيعها في حلب وغيرها من الأفاق فيبطئ المعري في الرد ثم يجيب بأنه كفيف البصر مستطيع الكتابة بغيره، أن غاب الكاتب فلا إملاء. .
ثم يبدأ الرد سالكا سبيلا عبّدها له ابن القارح. وأثار من نفسه حنينا للسير على منهاجها، والاتجاه مع تيارها. ولكن المعري أرانا أفانين من الخيال، واطلاعا في اللغة وفي التاريخ، مما لا يمثل به ابن القارح إلا كما تمثل الذرة بالجبل، أو الحلقة في الفلاة.
يتبع
5 - التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
الرقم 13
إن كثيرا من الغربيين يعتبرون أن رقم 13 يحمل الويل والدمار في طياته، كما يعتقدون المصريون في العدد (11) أما 3 و 7 فهما رمز السعادة عند بعض الغربيين.
ومن الغريب أن رقم 13 تناول العلماء وذوي الثقافة ولملوك والعظماء كما سرى بين الجهلاء وتناوله بعض الحكومات ايضا، فهم يتوّقون هذا الرقم في الولائم والحفلات وبعض الفنادق وغيرها فيقفزون في عدد الغرف الفنادق وغيرها من 12 إلى 14 حتى لا يتشاءم النازل بالفندق من هذا الرقم.
ويتفق في بعض الشهور السنة أن يطابق يوم الجمعة الثالث عشر من الشهر فيتطير الواهمون من هذا التطابق ويتوقعون الشرور والأخطار العظيمة، لان هذا الرقم دليل على الشؤم عندهم فيملأ نفوسهم رعبا فضلا عما يعرف به يوم الجمعة من النحس.
والأسرة المالكة في إنكلترا تتقي ذكر الرقم لمذكور، ومحال أن تضم المائدة الملكية على 13 مدعوا.
وفي عام 1912 حينما دعا المستر جون وارد جلالة ملك إنكلترا الحالي جورج الخامس إلى مأدبة غداء في بستان (شلتن) كان عدد المدعوين 13 فجاءوا بالرابع عشر.
ومما يحكى عن ملكة رومانيا ماري إنها تتشاءم من رقم 13 أسوة بكثير من الغربيين، وقد حدث عند زيارتها لأهرام الجيزة ومعها كريمتها الأميرة اليانا عام 1930 حادث يدل على مبلغ تشاؤمها من الرقم 13.
شاهدت الملكة عمال الحفر الذي كان يديره هناك الأثري المعروف المستر فيرث، وعند انتهاء الزيارة دعاها إلى الغداء، وما كادت ماري تستعد للجلوس على المائدة حتى شاهدت أن عدد المدعوين 13 فاكفهر وجه الملكة فجأة، واعتذرت بالمرض إلا أن المستر فيرث أدرك حقيقة الأمر بسرعة خاطره فبادر بإصلاح هذا الخطأ ودعا ضابطا مصريا ظريفا للجلوس على المائدة حتى يكون العدد 14 فلم تتردد الملكة عندئذ في قبول الدعوة.
وكان إمبراطور ألمانيا السابق غليوم يحذر هذا الرقم ويتشاءم منه، ويقال انه رفض أن
يعلن الحرب عام 1913 لان السنة تنتهي بالرقمين المشؤمين.
وكان بسمارك يكره الخرافات إلا انه كان يبغض الرقم 13 بغضا عظيما، وما حاول أن يهم بأمر ذي بال في يوم 13 منأي شهر، وكذلك المستر تشرشل الوزير الإنكليزي وهو سليل آل مرلبورو أعرق الأسر الإنكليزية نسبا.
ولكن الرئيس ويلسون يعتقد أن الرقم 13 هو عدده الجالب لليمن والسعد، ومن دلائل حب الرئيس ويلسون للرقم 13 انه وصل إلى ثغر برست بفرنسا يوم الجمعة 13 ديسمبر عام 1918 ليحضر مؤتمر الصلح وانه أودع 26 فقرة (2 في 13) وأتمها يوم 13 فبراير سنة 1919 ودعا لمائدة عيد ميلاده 13 مدعوا فقط.
ولم يكن الرئيس ويلسون بالرجل الوحيد الذي احب هذا الرقم، فان المستر لويد جورج رئيس حزب الأحرار بإنجلترا وقف عام 1924 في حفلة انتخابية وقال أن الرقم 13 هو رقمه المحبوب.
ودعا أحد رجال الأعمال بإنكلترا بعض خلانه ليتناولوا معه طعام العشاء، فلما جلسوا إلى المائدة فطن أحدهم إلى أن عددهم 13 فتشاءموا وأرسلوا الخدم في اصطياد أي رجل ليأكل معهم، ولم يتناولوا الطعام حتى انتظموا على المائدة أربعة عشر.
ويتشاءم المركيز نيجرو توكمبيازو العضو الإيطالي في صندوق الدين برقم 13 تشاؤما كبيرا، ويروي عنه قبل شيوع السيارات انه كان يمتنع عن ركوب مركبة رقمها 13 أو مؤلفة من مضاعفات 13 كأن يكون رقمها 26 أو 39 الخ. . .
وحدث لما زار الدكتور أميل لدويج الكاتب والمؤرخ الألماني الشهير القطر المصري أن أدب له أحد الأصدقاء مأدبة عشاء ودعا إليها 14 شخصا، وفي أخر لحظة تخلف أحدهم عن لحضور فأبت سيدتان أن تجلسا إلى المائدة لان عدد المدعوين اصبح 13 فجيء بمائدة صغيرة وضعت على مقربة من المائدة الكبيرة، وجلس إليها اثنان من المدعوين لكي يصبح عدد الآخرين 11.
ويرد الباحثون في الضائقة الاقتصادية التي غشيت العالم من أقصاه إلى أقصاه إلى أسباب شتى إلا أن أحدهم في نيويورك قال أن السبب فيضائقة عام 1930 هي عام 1930 وحجته الدامغة هي أن مجموع أرقامه 13، ولكن مرت سنوات وما تزال الأزمة المالية
باقية حتى الآن. ولكي يزيد الجمهور اقتناعا وبرهانا بتأييد ذك رجع إلى سني الضنك المشهورة في القرن الحالي فإذا هي كما يلي
سنة 1903 ومجموع أرقامها 13، سنة 1912 ومجموع أرقامها 13، سنة 1921 ومجموع أرقامها 13، سنة 1930 ومجموع أرقامها 13.
ولكن هدئ روعك أيها المتشائم فسوف تمر 96 سنة قبل أن تأتي سنة أخرى مجموع أرقامها 13 وهي سنة 2029.
ومن الشواهد التي يستندون إليها أن كلا من نابليون بونابرت وهنري الرابع ولدا في 13 من الشهر، فنفي نابليون في مثل هذا اليوم وقتل هنري الرابع أيضا في مثله.
وتمتنع الأسر الإفرنجية بتاتا عن سكنى المنازل المرقمة بالعدد 13 ولا يستأجر الأمريكي غرفة رقمها هذا الرقم في أي فندق أو باخرة.
وقد اتفق مدير وبعض المستشفيات على حذف رقم 13 من مستشفياتهم، فهم لا يضعونه على غرفة لمريض أو سرير خشية تأثر المريض من الوهم الناشئ عنده من التشاؤم. وشوهد في إيطاليا أن الفنادق لا تضع ذلك الرقم على الغرف، وذلك لتذمر المسافرين وامتناعهم عن النزول في الغرف التي يوجد بها الرقم المذكور، وإدارة سكة حديد لندن والشمال الشرقي قد ألغت هذا العدد من مركبات النوم.
وأدرك الوهم اصحب البواخر فوضعوا عدد 12 13
منها يثبت أن الناس اصبحوا يخشون الرقم المذكور حتى أن أحد شوارع لا يحمل رقم 13 وان حكومة فرنسا إذا وضعت الأرقام على المنازل ووصلت إلى المنزل الذي ينبغي أن يوضع عليه الرقم 13 لا تكتب عليه هذا الرقم وإنما تضع عليه رقم 12 والى جانبه لفظة مكرر تخلصا من شؤمه.
ووقف أحد المجرمين إمام القاضي فقال اقسم أن شؤم عددي هو الذي يسوقني هنا دائما، فسأله وما ذلك الرقم؟ قال ما وقفت متهما إلا وكان المحلفون 12 والقاضي واحداً وما الـ 12 والواحد إلا 13 وهو الرقم اللعين. . .
ولكن هناك حوادث أبدل النحس فيها بالسعد، ولو أن الرقم 13 كان موجودا. فقد اتفق أخيرا أن وقع بناء مدخنة داخل أحد منازل مدينة بريتون، وكان في المنزل ثلاثة عشر
ساكنا فلم يصيب أحد منهم بسوء، مع أن قطع الحجارة وجدت على الوسائد بجوار النائمين.
واشترى بعضهم منزلا فلما رأى أن رقمه 13 جعله 12 وما مر يومان حتى سرق المنزل برغم العدد السعيد الميمون مع انه ما سرق يوم كان شؤما.
وقد عمدت إحدى السفن الكبرى إلى وضع علامة 1 بجوار العدد 12 للدلالة على الغرفة 13 وبذلك تريح فكر المسافر الذي يكون نصيبه تلك الغرفة.
وقد علل الكاتب الاجتماعي الإنكليزي هـ. ج. ولز شؤم هذا الرقم (بأنه لا يقبل القسمة) على أن حين غيره من الأرقام التي قبله أو بعده تقبل القسمة، وبعبارة أخرى نقول أن الإنسان الأول كان رديء الفهم في الحساب لا يعرف الكسور، ثم هناك أشياء لا يمكن كسرها فإذا كان عدد السبايا 13 حدثت المشاجرات بين أفراد القبيلة من اجل امرأة تزيد في حظ أحدهم أو تنقص، في حين أن الأرقام الأخرى لم يكن فيها ذلك.
ويقال إن الخرافات التي نسجت حول الرقم 13 مصدرها عشاء السيد المسيح الأخير مع تلاميذه الأثني عشر، وجلسوا على مائدة واحدة فكان جموعهم ثلاثة عشر، وكان واحد من التلاميذ خائنا هو يهوذا الأسخريوطي الذي سلمه. لذلك كان الناس يتشاءمون من الجلوس ثلاثة عشر شخصا على مائدة واحدة، لان ذلك نذير شؤم بسوء أو موت يقع لأحدهم خلال سنة على الاكثر، ثم سرى التشاؤم من الرقم 13 حتى شمل كل شيء ولم يقتصر على مائدة الطعام.
الهلال
جميع الأمم تقريبا تتفاءل بالهلال الجديد، وكثيرا ما يرى الناس في مصر وغير مصر قد تهللت وجوههم استبشارا لرؤية الهلال في أول الشهر القمري وهم يدعون الدعوات.
وان العامة في مصر يتناولون قطعة من العملة الفضية ويديرونها نحو الهلال لأول ولادته تيمنا، ولا يصنعون مثل ذلك في الذهب لأنهم يتطيرون به، وهكذا يفعلون في الشام ويزيدون عليه أن يتمتم الواحد بعبارة مثل قوله (يهلك ويستهلك، ويجعلك علينا شهرا مباركا)
وفي إنكلترا يتشاءمون من النظر إلى الهلال المولود حديثا من وراء زجاج النوافذ.
والمرجح أن الإنسان الأول كان يعتقد انه إذا ظهر القمر جديدا وجب عليه أن يخرج إلى العراء للترحيب به بوسائل كانت معروفة عنده وكان لا يلزم منزله وينظر إليه من ثقوب الجدران ولا عوقب على ذلك
وان الإنسان نظر إلى القمر من زمان بعيد نظرة التفاؤل والاستحسان، والإنسان الأول معذور في تفاؤله بالهلال الجديد إذ هو يعيش في خطر المداهمة والغارة، فالهلال يكشف له عن ظلمات الليل ويؤمنه بعض التامين، لذلك كان القمر من اقدم الإله التي عبدها الناس بل أقدمها. وان العرب اشتقوا لفظة تهلل من الهلال، ولا نزال نرى كثيرا من الأعياد حتى الأعياد المسيحية تقرر تبعا لأوجه القمر.
(تم البحث)
إبراهيم تادرس بشاي
2 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
تكلم الأستاذ في المقالة الأولى عن الحال السياسية والأدبية في القرن الرابع، وعن أسرة بديع الزمان وسيرته إلى أن رحل إلى نيسابور.
وقد وقع خطأ مطبعي أثناء ترتيب المقالة فوضعت الأسطر من الثالث إلى الحادي والعشرين من صفحة 501 النهر الأيمن في غير مكانها، وكان ينبغي أن توضع بعد السطر التاسع من النهر الأيسر في الصفحة نفسها
فهذا الإسماعيلي هو، فيما يظهر أحد هؤلاء الإسماعيلية الذين اكرموا مثواه في جرجان.
وفي رسالة إلى أبيه يقول (وقد كان رسم أن اعرفه سبب خروجي من جرجان، ووقوعي في خراسان، وقد كانت القصة أني لما وردت من ذلك السلطان حضرته التي هي كعبة المحتاج. لا كعبة الحجاج ومشعر الكرام، لا مشعر الحرام، ومنى الضيف لا منى الخيف، وقبله الصلات، لا قبلة الصلاة، وجدت فيها ندماء من نبات العام، اجتمعوا قبضة كلب، على تلفيق خطب، أزعجني من ذلك الفناء، واشرف بي على شرف الفناء، لولا ما تدارك الله بجميل صنعه وحسن وقعه، ولا اعلم كيف احتالوا، وما الذي قالوا، لكن الجملة أن غيروا السلطان وأشار على أخواني، بمفارقة مكاني، وبقيت لا اعلم أيمنه اضرب أم شآمة، ونجدا اقصد أم تهامة،
ولو كنت من سلمى أجا وشعابها
…
لكان لحجاج عليّ دليل
قد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه. وبحر إذا تغير لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه فليس بين رضاه والسخط عرجه، كما ليس بين غضبه والسيف فرجه
ونظرت فإذا أنا بين جودين، أما أن أجود ببأسي، وإما أن أجود برأسي، وبين ركوبين إما المفازة وإما الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن أفارق أرضي أو أفارق عرضي، وبين راحلتين إما ظهور الجمال، أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن، وأنشدت:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً
…
فلا رأى للمضطر إلا ركوبها
ولست ادري من هذا السلطان. واحسبه فخر الدولة ابن بويه، وأما شمس المعالي فلم يكن سلطانا في جرجان ذلك الوقت
في نيسابور
ورد نيسابور فكتب إلى أبي بكر الخورزمي، وهو شيخ أدبائها وأحد أغنيائها (أنا لقرب الأستاذ أطال بقاءه (كما طرب النشوان مالت به الخمر) ومن الارتياح للقائه، (كما انتفض العصفور بلله القطر) ومن الامتزاج بولائه، (كما التقت الصهباء والبارد العذب) ومن الابتهاج بمرآه (كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب) فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان، وكيف اهتزازه لضيف في برده جمال، وجلدة حمال.
رث الشمائل منهج الأثواب
…
بكرت عليه مغيرة الأعراب
وهو أيده الله ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه إلى مستقري لأفضي إليه بسري، أن شاء لله تعالى)
ويؤخذ من كلام البديع انه ذهب إلى دار الخوارزمي فلم يحسن لقاءه، أو لم ترض نفس الهمذاني بهذا اللقاء فكتب إليه (الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه أزرى بضيفه أن وجده يضرب إليه آباط القلة في اطمار الغربة فأعمل في رتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أنواع المضايقة من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام، وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا، فأن المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، وأتقزز صف النعال، فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت أن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف وفيهم مقامات حسان وجوههم=وأندية ينتابها القول والفعل
ولو طوحت بأبي بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر قريبا، ومحط الرحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا، ورأى الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق أن شاء الله تعالى) فرد الخوارزمي رداً حسنا
وسعى سعاة السوء بين الرجلين. ثم جمع بينهما الشيخ أبو الطيب فلم يحمد ذلك الاجتماع.
ثم كانت بينهما المناظرة الأولى في دار السيد أبي علي أحد الكبراء في نيسابور، فتناظرا في ارتجال الشعر مناظرة ظهر فيها غلب البديع وقد غضب من قطع الخوارزمي إنشاده عليه فصمت برهة، يقول الهمذاني: (ثم عطفت عليه وقلت يا أبا بكر أن الحاضرين قد عجبوا من حلمي، أضعاف ما عجبوا من علمي، وتعجبوا من عقلي، اكثر مما تعجبوا من فضلي، وبقى الآن أن يعلموا أن هذاالسكوت ليس عن عي، وان تكلفي للسفه اشد استمرارا من طبعك، وغربي في السخف امتن عوداً من نبعك، وسنقرع باب السخف معك، ونفترع من ظهر السفه مفترعك، فتكلم الآن. فقال لي أنا قد كسبت بهذا العقل دية أهل همذان مع قلته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته، فقلت: أما قولك دية أهل همذان فما أولاني أن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي تمتدح به وتتبجح وتتشرف وتتصلف، من انك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت واجتديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذم يا عافاك الله.
ذهب البديع إلى بيت الخوارزمي واصطلحا. ثم شاع بين الناس أن البديع غلب، فكتب الخوارزمي إليه يتهمه بأنه شاع هذا الكلام، ويقترح مناظرة أخرى، فكانت المناظرة الثانية في بيت الشيخ أبي القاسم الوزير. وحضرها عظماء نيسابور، وكانت مباراة الارتجال والترسل والنحو واللغة، وقضى بالفلج للهمذاني فلما خرج لقيه الناس بالتقبيل ولم يستطع الخوارزمي الخروج حتى جنه الليل.
وفي رسائل الهمذاني تفصيل المناظرة التي قضت له بالفلج. وينبغي أن لا ينسى القارئ أن هذا قول أحد الخصمين، ولست اتهم الهمذاني بالكذب الصراح، ولكني لا أبرئه من محاباة نفسه. ثم ينبغي أن نتذكر أن الخصمين ليسا سواء: أحدهما شيخ طائر الصيت يخشى أن يؤخذ عليه ما ينقص من قدره، والأخر شاب طامح إلى الصيت يريد أن يبني مجده على هزيمة قرنه، وهو لا يخسر كثيراً إن غلب، وهذا مظنة أن يستعظم الحاضرون ظفر البديع ولو كان قليلا وهفوة الخوارزمي ولو كانت مما يغتفر أمثالها. ثم أظن أن بعض النيسابوريين كانوا يحسدون الخوارزمي، ويودون أن يذهب بمجده ذلك الضيف الشاب الجميل الطلعة، الخفيف الروح.
وكان الخوارزمي، فيما يظهر متكبرا ذا جفاء، قليل الوفاء:
قال الصاحب بن عباد حين جاءه نعيه:
أقول لركب من خراسان قافل:
…
أمات خوارزميكم؟ قيل لي نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره
…
ألا لعن الرحمن من كفر النعم
ويقول أبو سعيد الخوارزمي:
أبو بكر له أدب وفضل
…
ولكن لا يدوم على الوفاء
مودته إذا دامت لخل
…
فمن وقت الصباح إلى المساء
ثم لم تكن المناظرة في صميم الأدب من الشعر والترسل، بل كانت في البديهة والارتجال والحفظ. قال الهمذاني وهو يتحدى خصمه:(ومثال أن أقول لك اكتب كتابا يقرأ منه جوابه هل يمكنك أن تكتب؟ أو أقول لك اكتب كتاباً على المعنى الذي اقترح لك، وانظم شعراً في المعنى الذي اقترح، وافرغ منهما فراغا واحداً. هل كنت تمد له ساعداً؟ وأقول لك اكتب كتابا في المعنى الذي أقول وأنص عليه، وانشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت ذلك قرء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرء من أسفله هل كنت تفوق لهذه الغرض سهما أو تجيل قدحا أو تصيب نجحا، أو قلت لك اكتب كتابا إذا قرء من أوله إلى أخره كان كتابا، فأن عكست سطوره مخالفة كان جوابا الخ، وقد أجاب الخوارزمي على هذا كله بقوله: (هذه الأبواب شعبذة) وهي أن لم تكن شعبذة فهي ليست من الأدب، وأن دلت على توقد الذكاء وسرعة البديهة.
ولست أقول أن البديع ليس أعلى من الخوارزمي في الأدب مقاما. ولكن أقول ما غلب بديع الزمان أبا بكر الخوارزمي هذه الغلبة التي تصورها رسائل الهمذاني ويرويها الأدباء.
اغتيط بديع الزمان بنيسابور ولقي من سراتها حفاوة وإكراما يقول في رسالة إلى أبيه عن صديق كان قد وعده اللحاق به: (وكان سألني أن أرود له منزلا وماؤه روى، ومرعاه غذى وأكاتبه لينهض إليه راحلته. فهاك نيسابور ضالته التي نشدتها، وقد وجدتها، وخراسان منيته التي طلبتها وقد أصبتها. وهذه الدولة بغيته التي أردتها، فقد وردتها، فان صدقني رائداً، فليأتني قاصدا. . . وأما أنا وأخباري بهذه الناحية فمتقلب في ثوب العافية، موقر بهذه الحضرة مرموق بعين القبول)
وقد كتب كثيرا من رسائله إلى جماعة من رؤساء نيسابور وهي تدل على ما كان بينه وبينهم من مودة. وفي نيسابور لقي بني ميكال ومدحهم. وفي رسائله واحدة إلى أبي جعفر
الميكالي يشكو فيها تقصيره في تعظيمه: (وهل كنت تلا ضيفا هداه منزع شاسع، وأداه أمل واسع، حداه فضل وان قل، وهذا رأي وأن ضل، ثم لم يلق إلا في آل ميكال رحله، ولم يصل إلا بهم حبله، ولم ينظم إلا فيهم شعره، ولم يقف إلا عليهم شكره. . . ودخلت مجلسه وحوله من الأعداء كتيبة فصار ذلك التقريب ازورارا. وذلك السلام اختصارا، والاهتزاز ايماء، والعبارة اشارة، ويقول في رسالة أخرى إليه: (واعرفه إني ما اطوي مسافة مزار إلا متجشما ولا أطأ عتبة دار إلا متبرما. ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستغذيا. فان كان الأمير الرئيس، أطال الله بقاءه يسرح طرفه في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظراً) ثم ينقلب عتابه هجاء فيقول في رسالة إلى ابن ميكال (اشهد لئن صدق البحتري في اللامية، لقد صدق الأعشى في الصادية، وان وصف الدريدي في المقصورة، فلقد تغير الأمر عن الصورة، وان كان كالآخر الأول فما أحوج الكتب المقراض، وأكذب السواد على البيض - إلى أن يقول: اللامية قول البحتري:
ثلاثة عجب تنبيك عن خبري
…
فيها وعن خبر الشاه ابن ميكال
والصادية قول الأعشى:
كلا أبو بكر كان فرعى دعامة
…
ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا
يريد الهمذاني أن يقول أن بني ميكال كانوا كما قيل فيهم ولكن هذه الرئيس من بينهم قصر عن شأوهم.
ونجد الهمذاني في نيسابور يكتب إلى الشيخ العميد مستنجزا وعده في توليته بعض الأعمال: (فهل للشيخ أن يلطف بصنيعته لطفا يحط عنه دون العار، وسمة التكسب والافتقار، ليخف على القلوب ظله، ويرتفع عن الأحرار كله، ولا يثقل على الأجفان شخصه بإتمام ما كان عرضه عليه من اشغاله، ليعلق باذياله، وليستفيد من خلاله، فيكون قد صان الفضل عن ابتذاله، والأدب عن إذلاله، واشترى حسن الثناء بجاهه كما يشتريه بماله)
وفي نيسابور أملي المقامات. وسيأتي الكلام فيها.
يتبع
عبد الوهاب عزام
من طرائف الشعر
يريد الحب أن نضحك
للأستاذ إيليا أبو ماضي
تعالى نتعاطاها
…
كلون التبر أو اسطعْ
ونسقي النرجس الواشي
…
بقايا الروح في الكأس
فلا يعرف من نحن
…
ولا يبصر ما نصنعْ
ولا ينقل عند الصب
…
ح نجوانا اسلي الناس
تعالى نسرق اللذا
…
ت ما ساعفَنا الدهر
وما دمنا وما دامت
…
لنا في العيش آمال
فان مر بنا الفجر
…
وما أيقضنا الفجر
فلا يوقضنا علم
…
ولا يوقضنا مال
أراد الله أن نعش
…
قَ لما أوجد الحسنا
وألقى الحب في قلب
…
ك إذ ألقاه في قلبي
مشيئته وما كانت
…
مشيئته بلا معنى
فان أحببتِ ما ذنب
…
ك أو أحببت ما ذنبي؟
دعي اللاحي وما صنَّفَ
…
والقالي وبهتانهَ
وللجدول أن يجري
…
وللزهرة أن تعبقْ
وللأطيار أن تشتا
…
قَ أيَّاراً وألوانه
وما للقلب وهو القل
…
ب أن يهوى وأن يعشق
تعالى أن رب الحب
…
يدعونا إلى الغاب
لكي يمزجنا كالما
…
ء والخمرة في الكأس
ويغدو النور جلباب
…
ك في الغاب وجلبابي
فكم نصغي إلى الناس
…
ونعصي خالق الناس؟
يريد الحب أن نضحكَ
…
فلنضحك مع الفجر
وأن ترقص فلنرقص
…
مع الأمواج في النهر
وأن نهتف فلنهتف
…
مع البلبل والقمري
فمن يعلم بعد اليوم
…
ما يحدث أو يجري؟
تعالى قبلما تسكُ
…
ت في الروض الشحارير
ويذوي الحور والصفصا
…
ف والنرجس والآس
تعال قبلما تطمر
…
أحلامي الأعاصير
فتستيقظ لا فجر
…
ولا خمر ولا كاس
-
إليه!
أحب ولو لم أحظ منك بنائل
…
وحسبي من حبي تعلل آمل
كتمت شكاتي عنك حتى حسبتني
…
بما رحت ألقى في الهوى غير حافل
وبي من تباريح الهوى ما أعادني
…
بزفرة محزون وأنة ثاكل
لكَم بت ظمأنا لريقك صاديا
…
فأُوردْتُ دون العذب مرّ المناهل
وقد كانت الدنيا كأرحب ما ترى
…
فصيرتها بالهجر كفة حابل
أعدلاً تبيت الليل جذلان هانئاً
…
وأقطع هذا الليل جمَّ البلابل
لشد الذي لاقيت من عنت الهوى
…
وأن كان في بردي له صبر باسل
وأقسمت لا أشكو صدودك بعد ما
…
تبينت أن القول في غير طائل
فكن كيفما تبغي فلست مباليا
…
أأشفقت أم أثقلت بالهم كاهلي
محمد برهام
كيف تشكو؟
كيف تشكو إلىَّ زيداً وعمرا
…
إنما كل ما أتوه صوابُ
إن دنياك قوةٌ فكن الذئ
…
ب وإلا تخاطفتك الذئاب
إن عيش القوى رغد هنيٌّ
…
وحياة الضعيف فيها عذابُ
لا تقل لي الضميرُ والعهد والعدْ
…
ل كلام منمق مستطاب
فارْم عنك القشور وانفذ إلى اللب
…
بّ يطالعك بالمفيد اللباب
في قرار الكأس التي ضمت الشه
…
د تفاني سم زعاف مذاب
ووراء العيون تطفحُ بالبش
…
ر قلوب بالغدر ملأى صلاب
فادَّرع للحياة عزما من الفو
…
لاذ وانهد فالعيش ظفر وناب
حمص (سوريا)
صفي قرنفلي
ذكرى العيد
فراقٌ إلى غير اللقا لا يرده
…
بكاء ولا وجد ولا حر أنفاس
ولا نظرة قبل الوداع أفدتها
…
ولا دمعة تذري لدى الراحل الناسي
حلفت يمينا بالصبابة والهوى
…
لقد ضيعتْ أوفى محب من الناس
وخلَّت فؤاداً لم يخفَّ لغيرها
…
طعينا ولا يشفيه طبٌ ولا آس
خفوقا وقد شدت عليه أضالعي
…
وليس له من بينهن مواس
كنجم بدا في حندس الليل مفرداً
…
يطل على جيش من الليل فراس
وخلفت نفسي في الأسى لا تريمه
…
ووجدٍ مُلِحٍ ظلمه فادح قاسٍ
كشاةٍ أضلت صحبها وتخلفت
…
بيداء تعدوا بين هم ووسواس
كذلك ذكرى العيد من قاتل الهوى
…
وكان نديمي كل عيد وإيناسي
إذا العيد لم يحمل إليَّ حديثها
…
ونشراً زكيا دونه عابق الآس
فما العيد إلا مأتم متجدد
…
يهدم قلبي أو يقطع أنفاسي
شرق الأردن
حسني فريز
الشعراء الرمزيون
1 -
بول فرلين 1844 - 1896
للأستاذ خليل هنداوي
شخصية هذا الشاعر شخصية غريبة، قد اصطلحت عليها أعاصير الحياة، وانحطت عليها الآلام، وهي خلال ذلك تبعث بالألم، وتنشد الشقاء خاليا من الحان الشقاء.
كانت حياته الأولى حياة هادئة كالسماء الصافية لا يغشى أديمها شيء. ثم بدأت سحائب سوداء قاتمة تحتشد من كل صوب لتحجب هذا الصفاء، واستطاعت أن تحجبه، واستطاعت أن تعكر عليه صفاءه. وتجعل حياته الجميلة مأساة عاشت مع نفسه. وترددت أنفاسه في هذه المأساة التي عصفت به وعصف بها!
رحم الله أبا نواس. فقد كان يدعو الندامى والشاربين إلى أن يغبطوه على سكره كلما شرب، لأنه يرى في سكرته نشوتين، ويقول لنداماه: تسكرون انتم سكرة واحدة، وأنا اسكر سكرتين.
لي نشوتان وللندمان واحدة!
وكذلك كان (بول فرلين). فسكره كان متصلا، وذهوله الروحي كان متصلا، يقتله السكر الأول ولكن السكر الثاني يحييه. ولعله كلما توغل في السكر القاتل زادت محبة الحياة عنده في السكر المحيي، فألح عليه أصدقاؤه أن يتحرى المرأة فتحرى فوجدن وشفع له جمال نفسه عن دمامة وجهه. ولكنه لم يجد الشفاء المرتجى في المرأة، فذهب يتحرى، ولعله تمثل أن شفاء نفسه في صديق يفهمه، ولعله اعتقد انه وجده في الشاعر الرمزي (ارتور راميورد) فمال إليه ميلا غريبا. . وفتحت قصائده مغاليق نفسه، فاتصلا بضعة اشهر ثم انفصلا، ولعل أمر انفصالهما كان كأمر اتصالهما، لان الأرواح قد تتجاذب وقد تتدافع. ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا إلى حين، لان (فرلين) الضعيف كتب إلى صديقه يدعوه، فلبى الصديق نداءه، وعاد إليه يقضيان - في بلجيكا - حياة تضل فيها الظنون، وتحلق فيها الأوهام. ولكن أمد هذه الصداقة لم يطل. وليته مات موتاً، ولكنه انقطع انقطاعا. فأن (فرلين) عقب سكرة عنيفة قد اقتفى اثر صديقه في الطريق. وأطلق عليه رصاصة جرحته جرحا بليغا. شاء ذلك (فرلين) السكير. وشاءت ذلك نفسه الذاهلة الغلبة على نفسه الواعية،
ولعل مبعث ذلك كله هو الخمر! فلبث عامين يتخبط في سجن (بروكسل). حتى إذا انطلق من السجن عاد إلى ميدان الحياة يغامر فيه، ويطلب لنفسه منفسحا، فشغل مناصب علمية في أقطار مختلفة، ثم لجأ إلى باريس. لا يحمل إلا قلبه الشاعر! وقلب الشاعر أرجوحة تترجح بين الشقاء والهناء، فعزاه عن خطوبة انه طفق يرى كوكب مجده يسطع ويتألق، وان أصدقاءه المعجبين به يشيعون ويظهرون، فلتفن كل آلام الحياة أمام هذا الأمل المشرق، ولتقو ما شاءت أشواك الألم ما ظللت هذه الزهرة حية لا تقدر على خنقها.
أما مجده الشعري الذي خلقه من بعده، فهو يتجلى في مذهبه الرمزي الذي لم يتكلفه تكلفاً. وإنما كان برموزه يساير روحه التي تأنس بالغموض والإبهام، وتأوي إلى عالم ملؤه الأوهام والأحلام.
جرب (فرلين) جل المذاهب الشعرية الشائعة في عصره، فسمع الحان (الرومانتيكيين) وطرب لها، ولكنه فر عاجلا وأبى أن يظهر مرارته بهذه الألحان، فأتى المدرسة (البرناسية) ووجد فيها ضالته، فنظم قصائد كثيرة خالية من ميول النفس واهوائها، وهو القائل:
(أليست من رخام (فينوس ميللو))؟
فقد فرض على قلبه أن يكون من رخام أيضاً يوم يتلمس هذا الجمال الرخامي.
ولكن (فرلين) المتقلب لا يجد أن هذه المذاهب تستطيع أن تتسع لنفسه الفياضة، فهو يحس - في نفسه ميولا غامضة تتمشى، ونزوات مبهمة تتهادى، فأي فن رخامي يقدر على بيانها؟ فمال عن المدرسة (البرناسية) ومشى وراء الشاعر (بودلير) مشية المحترس فاخذ من (بودلير) كثيراً. وولد شعر (بودلير) في نفسه كثيراً وأيقظ في نفسه كوامن كان يحسها، ولكن لا يجد إلى الإفصاح عنها سبيلا.
وبعد أن رأينا (فرلين) يصارع أصحاب الشعر العاطفي الشخصي نراه غدا أوضح الشعراء شخصية وعاطفة في شعره، ونرى قصائده الأخيرة إنما هي رسالات حقيقية يمكننا أن نعتمد عليها في درس شخصية الشاعر، تلك الشخصية المعقدة الجوانب التي اجتمعت فيها مذاهب متباينة وميول من الحياة متنافرة، وصدر من اجتمعت فيه هذه المذاهب وهذه الميول نراه طوراً كالرخام تمر به وتضج وتثور فلا يحسها، وطوراً تمر به مر النسيم
فيتأثر ويهيج، و (فرلين) الرخامي القلب الذي كان يصف الأشياء وصفا متجردا عن الأهواء يصبح شاعراً محللا نفسياً، نزل إلى أعماق النفوس، وصف الكآبة العميقة المتمددة في حناياها، ووصف التأملات المشوشة يوم تعبس، وأحلامها المتبدلة حين تطرب. كل ذلك وصفه بعبارات تتمشى مع حركات النفس، وتنسجم مع ألحانها متوافقة متلائمة، ووراء هذه العبارات إحساس حي دقيق، ولكنه إحساس لا يظهر فيه الشقاء واضحاً منتصراً غالباً على كل شيء، ولكنه ذلك الإحساس المفعم بالظلمة والمغشي بالإبهام، كأنما يسري الساري فيه في جو مبطن بالضباب، والشاعر بين حقيقة حياته المظلمة الممقوتة وبين تلك التعازي التي كان يرسلها فنه وإحساسه أحلاماً جميلة ملونة، كان يمشي بفنه، ويحلق في افقه، مبدعا ذلك الشعر الذي دعاه معاصروه بحق (بالشعر الرمزي) وأضافوا لحنه الجديد إلى ألحانهم الشعرية.
(وفرلين) بعد هذا كله أبدع شعراً جديداً البسه مطارف فن جديد، وخلق للشعر لغة جديدة اجمع النقاد على أنها أسمى لغة شعرية، ولم يكن (فرلين) بنفسه إلا أنشودة جديدة مرت على أوتار قيثارة الشعر.
مختار من شعره
- 1 -
أغنية الخريف
تجرح تلك الأنات الطويلة
التي ترسلها قيثارة الخريف. . .
وتبعث في نفسي الكلال والفتور
تدق الساعة! فتطفح نفسي بالذكريات القديمة!
فتبهت ملامح وجهي، وتضيق أنفاسي!
وتذرف عيناي الدموع.
استسلم إلى رياح الخريف!
فتحملني مثلما تبتغي. . كما تحمل الزهرة الذاوية!
- 2 -
القمر الأبيض
هذا هو القمر اللجيني يسطع في الغابة،
وتحت كل فرع، ومن كل غصن
يتعالى صوت هاتف (يا محبوبتي!)
هذا هو الغدير الرقراق كالمرآة المصقولة،
تسبح فيه خيالة الصفصافة السوداء
حيث تبكي الريح
ألا فلنحلم. . . هذه هي ساعتنا
والهدوء الشامل قد غمر الكون،
كأنما تنزل من اللانهاية المشرقة ألوانها
إلا إنها الساعة المنتظرة. . .
- 3 -
منظر
والبلبل القائم على الغصن يخال نفسه
ساقطا في الماء يخشى على نفسه
الغرق وهو في ذروة السنديانة
(سيرانو)
تموت ظلال الشجر على صفحة الساقية التي غمرها الضباب
كما يموت الدخان.
بينما الحمائم في الفضاء تبث الشكاوي
وترسل النجاوى بأمان
أيها المسافر! إن هذا المرأى الحائل
ليبعث في نفسك الحؤولة
ويغادرها تحت الظلال العالية، كاسفة كئيبة
آمالك الغرق التي تموت،
- 4 -
من السجن
السماء - هنالك - لامعة زرقاء. .
وشجرة - هنالك - تهتز غصونها في الفضاء
الناقوس تتهادى دقاته في الأجواء
والعصفور يرسل شكواه نشيدا وغناء
إلاهي! إلاهي! إن الحياة - هنالك - يحفها الهدوء والسكينة
وهذه النأمة الخفيفة - هي أصوات المدينة،
يا أيها الساكن - هنالك - تبكي البكاء الطويل!
قل: ماذا تصنع أنت بشبابك الجميل
- 5 -
جرين
إليك هذه الثمار، وهذه الأزهار!
إليك هذه الأوراق، وهذه الأغصان!
إليك قلبي، الذي لا يخفق إلا من أجلك،
لا تمزقه بالله يداك الناعمتان البضتان
ولتقبل هديتي الوضيعة عيناك الجميلتان!
وصلت إليك! وعلى جبيني تتألق قطرات الندى
التي جمدتها ريح الصباح
تألمي لي! فأن شقائي الذي يسكن تحت قدميك،
يحلم بتلك الثواني العزيزة التي ستزمع الأرواح.
دعي رأسي على صدرك الساطع،
ترى فيه أصداء قبلاتك الأخيرة،
دعيه يسترح من العاصفة الثائرة
وذريني يطبق جفني الكرى حيث أنت تهجعين. . .
- 6 -
كآبة
تهوى الكآبة على قلبي كما تهوى على المدينة ماء السماء!
فما عسى تكون هذه الكآبة التي غمرت قلبي! وما هذا الشقاء؟
آه! أن وقع المطر على الأرض والسقوف يبهج الفؤاد
الذي اعتاده سأم. . . آه يا أغنية الشتاء!
تهبط الكآبة والشقاء القاتم، بدون سبب على هذا القلب الساهم.
فعلى أي عهد ضائع أكتئب؟
ألا أن هذا الحداد بغير سبب.
ألا أن هذا هو العذاب الأكبر!
يكتئب فؤادي
وينتابه الأسى، دون أن يعتاده حب أو يهيجه بغض
وهو لا يعلم - بعد ذلك - لحزنه سبباً!
دير الزور
خليل هنداوي
5 - في البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغنى على حسين خريج جامعة برمنجهام
لهذه البحوث جانب علمي وجانب ديني. أما الجانب الديني فقتله بحثا جهابذة من المصريين، وأما الجانب العلمي فأمنية هذا القلم الضعيف أن يبسط ما تم منه، ويتتبع عن كثب ما يستجد فيه، ومن وراء هذا القلم نفس تتمنى لو أن بمصر معهدا لهذه البحوث، فلعل الأماني تحققها الأيام.
وللبحوث الروحية أيضا جانب تاريخي، إذ الظاهر الروحية لم يخل منها عصر من العصور، عرفها سقراط، وأندفعت بتأثيرها جان دارك، ومارسها الكهنة والسحرة، دع جانبا وحي الأنبياء ومعجزاتهم، وكرامات الأولياء، وما أدى ويؤدي إليه التصوف. ليست الظواهر الروحية بمكتشف جديد، وإنما الجدي هو أن يفلحها العلم الحديث بمحراثه التجريبي البطيء الأكيد.
هل الحياة بعد الموت إحدى الحقائق الكونية، أم كل ما يقال عنها توهم وإيهام؟ وإذا كانت تلك الحياة حقيقة واقعة فما القوانين الطبيعية التي تربطها بهذه الحياة؟ وما العلاقة بين الجسم المادي الذي نعيش به هنا والجسم الروحي الذي نعيش به بعد الممات؟ وكيف ينشأ وينسلخ هذا من ذاك؟ سيخيل إلى القارئ أن المبحث عبث، والمطلب مستحيل، ولكن عددا من رجال العلم قد أوغلوا في هذه السبيل، ووصلوا إلى نتائج حاسمة، ونبشوا في صخرة الموت الصماء ثغرة يضع انفه فيها كل يوم باحث جديد، وقد تتسع يوما ما لكل الأنوف.
الجسم البشري يتألف من كهاب سالبة وموجبة، والتمثال الحجري يتألف من نفس تلك الكهارب. ولكن الجسم البشري يحس ويتصور ويتذكر ويفكر ويريد. فما السر في أن كهارب الجسم البشري حية عاقلة، وكهارب التمثال ميتة خاملة؟
هناك رأيان. أحدهما أن ظواهر الحياة في الجسم الحي ليست سوى نتائج طبيعية لترتيب كهاربه على نسق خاص، أو هي، بصيغة أخرى، نتائج آلية لتركيب الكيميائي. ذلك أن المادة بمفردها تكون ذات خواص معينة، فإذا اتحدت بمادة أخرى نتج مركب تختلف خواصه عن خواص المادتين اختلافا بيناً.
فالأيدروجين مثلا غاز خفيف، تصعب اسلته، والأوكسجين غاز يتوهج فيه القبس المتقد،
ولكن إذ اتحد الأوكسجين بالأيدروجين نتج الماء، وشتان بين خواص الماء وخواص كل من الأيدروجين والأوكسجين. وخذ مثالا آخر: الكلور غاز يعافه الانف، متلف، مهلك، سم زعاف، والصوديوم فلز نشيط قوي الفعل، ولو وضع الإنسان حبة منه في فمه لنسف حلقه نسفا، ولكن إذا اتحد الكلور بالصوديوم نتج جسم لطيف، يصلح المعدة، والدم، هو الملح الذي به نأتدم، وبدونه لا نستمرئ الطعام. فأصغر تعقيد كيميائي في تركيب المواد يحدث اكبر تغيير في خواصه، فلعل كل ظواهر الحياة، على غرابتها، ليست سوى خواص طبيعية وكيميائية للمركب المعقد المسمى بالبروتوبلاسم
هذا الرأي الكثرة من علماء البيولوجيا. وأصحاب هذا الرأي لا يرون البعث من الممكنات، وعندهم أن الرجل إذا مات، وتفككت ذرات جسمه، فصعد بعضها في الجو بهيئة غاز، ورسب الباقي في التربة بشكل ملح، وشتت الريح الغاز فيالقارات الخمس، وأسلمت التربة الملح إلى جذور النبات، فقد عاد الرجل كأن لم يكن، وبعثه من جديد رجع بعيد، وليس له روح إلا بقدر ما يكون للملح روح بعد تحليله إلى الكلور والصوديوم.
ومن زعماء هذا الرأي سر آرثر كيث، أستاذ البيولوجيا وعضو المجمع العلمي البريطاني، فهو يقول: -
(. . . إذا كنا نخلد فإنما نخلد في أبنائنا وذرارينا. . . قبل أن نتساءل عن كنه الحياة وإمكان استمرارها بعد الممات، يحسن أن نقول ما هو الموت. إذا وجد الطبيب قلب مريضه سكت، ولم يبق لتنفسه مد وجزر، قرر أن الموت حل بساحته. ولكن ليس هذا بصحيح، إذ لو هيأ الطبيب في الحال جهازاً يدفع دماً طازجا مشبعا بالأوكسجين في الأوعية الدموية لمخ الميت، لاستعاد هذا وعيه وذاكرته، وقدر على التفكير، ونطق بالكلام، وبقى كذلك ما بقى في عروق مخه دم صبيح. فإذا أوقف الدم عشر دقائق دخلت خلايا المخ في موت لا حياة بعده، ولكن خلايا القلب تظل حية، بحيث لو اقتطع وأحيط بوسائل خاصة عاد يدق كما كان يفعل بين ضلوع صاحبه، أما خلايا الشرايين فتعيش بعد الوفاة أربعين ساعة. الموت لا يحدث دفعة واحدة بل بالتدريج، وخلايا الجسم تموت فرادى كما يموت السكان في قرية جائعة - الضعيف يموت أولا والقوي يعيش بعده إلى حين. لو كان الموت كما يقول سر أليفر لدج هو خروج روح من الجسم لحدث دفعة لا بالتدريج. . . لا يستطيع
البيولوجي أن يسلم بوجود روح للإنسان أو للحيوان، وعنده أن الروح والجسم شيء واحد لا يتجزأ).
هذا رأي في تعليل ظواهر الحياة. أما الرأي الآخر فزعيمه سر أليفر لدج، ومجمله أن كل حيوان، ابتداء من الأميبا (حيوان أحادي الخلية بدأ يتميز من الجماد بالشعور والإرادة) يتألف من كيان مادي وكيان اثيري، وينفرد الثاني إذا ما تحطم الاول، وتستمر الحياة بعد ذلك بهيئة لا تدركها حواسنا الخمس.
هذان رأيان نقيضان فأيهما الصحيح؟ العلم الحديث لا يقف عند حد الإدلاء بالآراء، بل سر قوته ونجاحه هو اختبار الآراء بالتجارب العملية، فهو لا يقيم وزنا لآراء تأبى الامتحان العملي، ولو فعل لتصدعت الرؤوس بآلاف الآراء الجامحة. فقبل أن يصبح الرأي حقيقة علمية يجب أن تحققه التجارب العملية.
نظرة في هذين الرأيين
الرأي الأول (رأي العدميين) لا سبيل إلى إثباته عمليا إلا بصنع خلية حية من مواد كيمياوية عادية وهذا لم يحدث بعد. نعم. نسمع في الحين بعد الحين أن كيميائيا احدثه، ولكن الخبر يذاع اليوم ويموت غدا، فهو مبالغة أو اختلاق. أما الرأي الثاني فتوجد اليوم ظواهر تؤيده، نذكر هنا مثالا منها:
مستر (فرانك لي) وسيط يعمل بجمعية للبحث الروحي بلندن، وله خاصة الكشف البصري، فهو يرى الأرواح كالأشباح. ولكنه يزيد عن أمثاله من الوسطاء بأنه رسام ماهر، فعندما يرى الروحويصفها، يتناول القلم والورق ويرسمها. للتحقق من صدقه يفاجئه الباحثون كل يوم بأشخاص ليست لديهم معرفة. ولكنه برغم ذلك يرسم صوراً صحيحة لأرواح أقربائهم. ويجد القارئ هنا رسمين لروحين من عمل مستر (لي)، وبجانب كل رسم صورة عادية من صور المتوفي أيام حياته. ويلاحظ أن الشبه متوفر بين الأصل ورسم الوسيط.
كيف يمكن أن يرى الروح إنسانا كائنا من كان، ليس الأمر من الغرابة كما يبدو. نحن نرى من الأشعة ما يقع منها بين الأحمر والبنفسجي. ولكن هل هذه هي كل ما في الكون من أشعة؟ لا. لقد كشف العلم عن سلسلة طويلة من موجات أطول من الحمراء، وسلسلة أخرى اقصر من البنفسجية - أشعة يعج بها الفضاء من حولنا ولا نراها. ويمكنك أن تدخل حجرة
حالكة الظلمة، وتملأ فضاءها بتلك الأشعة، ومع ذلك لا تميز عينيك غير الظلمة الحالكة.
يفترض سر أليفر لدج أن الروح بعد الموت تعيش في جسم أثيري. فلعل هذا الجسم الأثيري يشع من الموجات ما لا يؤثر في العصب البصري للشخص العادي ولكنه يؤثر في عصب شخص شاذ هو الوسيط.
لعل العالم المرئي لنا هو واحد من عوالم كثيرة تحف بنا من كل جانب وبيننا وبينها حجاب رقيق.
القصص
قصة مصرية
صدمة الغرور
أتم كامل تسريح شعره بعد أن نضحه بماء الكلونيا ووضع طربوشه فوق رأسه. ثم نظر في المرآة المثبتة في خزانة ملابسه نظرة اختبار وتأمل، فحسن في عينه كل شيء إلا نظام المنديل الحريري المدلى من جيب سترته، فأخذه في يده وجمع أطرافه إلى وسطه وأعاده بعناية ورفق إلى مكانه.
ارتدى بعد ذلك معطفه، وامسك بعصا دقيقة وخرج من المنزل الصغير، بعد أن أوصى الخادم أن يعد طعام الغداء مع شيء من الزيادة وكثير من العناية، لان ضيفا سيأتي لزيارته اليوم وسيعود إلى المنزل معه.
سار كامل في طريقه إلى عمله بمكتب (التلغراف) في تؤده ونظام، ترتسم على شفتيه نصف ابتسامة يتكلفها دائما ليكون عظما علا الأقل - في نظر نفسه - وكان حريصاً كعادته على أن يقتصد في نظراته وتحياته في الطريق، وعلى أن يظل منتصب القامة واضعا يده اليسرى في جيب معطفه، وممسكا بالأخرى قفازيه وعصاه الثمينة، ويرفعها ويهبط بها على نظام ثابت، وبين مسافات متساوية. مبتعدا بحذائه اللامع عن آثار المطر القليل في الشارع.
وصل المكتب فحيا الوكيل وحيا زملائه بابتسامة كاملة لم تنفرج لها شفتاه، ثم جلس إلى عمله يستقبل البرقيات ويعنونها ويضعها في أغلفتها ويسلمها بإصلاتها إلى السعاة الموزعين.
يفكر كامل في نفسه كل التفكير ويتأنق في ملبسه كل التأنق، فهو يشفق أن تقتحمه نظرة أرستقراطية تقع منه على ضعف في التجانس بين قميصه الحريري وبين بذلته أو رباط عنقه. ولذلك يأخذ نفسه بكثير من الدقة في اختيار الألوان وفي انسجام كل مجموعة من ملابسه على ذوق مناسب للفصل وللوقت. يرعى ذلك كله وأن يعمل في مدينة صغيرة من مدن الوجه البحري قلما تقع فيها العين على اكثر من اللباس العادي النظيف الذي يمتاز بالبعد عن الكلفة والإمعان في البساطة.
ويحرص على هذا كله برغم ما يقتطع من مرتبه الشهري الذي لم يزد على سبعة جنيهات ونصف جنيه من يوم أن عين في وظيفته. وهو راض بذلك يعيش منه في جو من الغرور وخيال العظمة يعزله عن وسطه وزملاءه ويجعله أحيانا مبعث دهشتهم وأحيانا موضع نكاتهم.
قلبه يحمل إلى جانب ذلك حبا يملكه كأقوى ما يمتلك الحب، وهوى يعذبه كأشد ما يعذب الهوى. فإذا به وهو ممسك بصورة محبوبته يقلبها بين يديه في مناجاة ذليلة، وضعف ينسى فيه نفسه ويتخيل الحبيبة كل شيء، طالما أوصد على نفسه باب حجرة نومه الصغيرة. واخرج الصورة من حرزها الحريز في خزانته ولبث ينظر إليها في ذهول حتى يغيب عن وجوده عن حجرته، ويعود في ذكرياته إلى أيام الدراسة ثم إلى أيام العمل الأولى في القاهرة. فيرى نفسه وقد ذهب محملا بالأماني غارقا في الأحلام إلى منزلها ليزور والدها واخوتها، حاملا إليهم تحيات أسرته الصديقة كان ينتهز لذلك فرصا كثيرة. وكان يقابل هناك بكثير من الحفاوة للصلات القديمة المتينة التي تربط العائلتين. وكانت تأتي (هي) لتحيته فيقوم لها وقد سرت في جسمه هزة سريعة ينهزم لها قلبه، وينعقد لسانه، وتتسمر عيناه، إلا أن الابتسامة التي كانت تنطبع على شفتيه دون وعي كانت تحجب عن الأنظار كثيراً من ذلك. ثم يجلس مفكك الأوصال كما يعتدل في فراشه المريض الناقه بعد أدوار الحمى القاسية. ويمضي الزمن سريعا سريعا فيستأذن ويخرج مهيض الجناح ملتاع القلب. يذكر ذلك وفي يده الصورة فينهال عليها بفمه الملتهب يقلبها في حرارة، ويرفع نظره عنها ويثبته في السقف وهو لا يرى منه شيئا. ثم يرسل تنهدة عميقة، ويقوم في تراخ فيفتح صوانه ويضع الصورة حيث كانت. ثم يعود إلى سريره يستلقي عليه في فتور وإعياء.
هذه الصورة عزيزة عليه يحتفظ بها ويحرص عليها كل الحرص لأنها لم تصل إلى يده إلا بعد عناء شديد، شاركته فيه أمه عندما سافرت لرؤيته في مصر، فأعملت حيلتها في تبادل الصور بين الاسرتين، ولم تظفر بها إلا بعد جهد ورجاء في الزيارة الثانية. وقد تشجعت - بعد إلحاح أبنها الشديد - على أن تشير في سرعة وغموض إلى أملها في أن تتصل بينهما أواصر صلة قريبة. وكم اطمأن قلبها عندما لمحت حمرة الخجل تشيع في وجه (رسمية) وابتسامة المجاملة تبدو على ثغر والدتها!
كل هذه الذكريات كانت تطيف بكامل كل يوم قبل أن يأوي إلى فراشه، وعندما يخلو إلى الصورة العزيزة يناجيها ويتنهد من أقصى رئتيه، لا يستطيع التفكير في مصير أمله الغامض.
لم يسافر إلى مصر من عهد أن نقل منها، وقد أرسل خطابا إلى (عمه) رأفت بك والد رسمية يعرفه فيه حاله، ويتجه بتحية إلى الأسرة جميعها. وورد إليه منه رد رقيق يتمنى له فيه الراحة ويبدي استعداده لخدمته فيما يريد. وقد استحى بعد ذلك أن يكتب إليه مرة أخرى، ثم هو لا يعرف طريقا يقربه من غرضه. فوق انه لا يعتمد على شيء لهذا الغرض إلا على الصداقة القديمة بين أبيه وبين رأفت بك. وهو لا يثق كل الثقة في أنها تكفي بعد أن بعدت الشقة واصبح رأفت بك موظفا كبيرا، نشأت رسمية على حياة راقية وآمال واسعة. كما انه لا يثق من مساعدة أبيه له لنفس هذه الاعتبارات، ولذلك يؤثر إلا يكاشفه بالأمر في رغبة ورجاء استبقاء على أمله أن يتبدد من اقرب الناس إليه.
كانت تؤلمه هذه الخواطر حين ينتهي في تفكيره إليها فيحاول أن يبعده عنه فلا تببتعد، فيعلق نفسه بخيوط من الأماني. لعله يوما أن يكتسب عطف رأفت بك، ولعله يوما أن ينعم بحب رسمية. أليس شابا مستقيما؟ أليس وسيما أنيقا؟ وتحمله هذه التعلات من مكانه فإذا به أمام المرآة ينظر إلى نفسه ثم يبتسم لها ويعود إلى فراشه. ويسلم أفكاره إلى الهواجس ثم إلى النوم حتى الصباح.
حان موعد قيام القطار فدوى صفيره في الفضاء، ثم انطلقت أنفاسه المحبوسة، وتحرك في خفة وهدوء، وارتفعت أصوات المودعين، واخذ القطار يبتعد عن الرصيف شيئا فشيئا، واخذ المودعون والمسافرون يلوحون بمناديلهم في الهواء. ثم أغلقت النوافذ، وتتابعت المناظر من خلال الزجاج في سرعة عظيمة.
وجلس الدكتور أمين ممسكا بيده المجلة العلمية التي ابتاعها واخذ يقلب صفحاتها ليعرف موضوعاتها وكتابها. ثم وضعها إلى جانبه وسبخ في خياله. هو اليوم يعود إلى القاهرة منقولا إليها بعد أن فارقها من سنتين،. فارق فيهما حريته الواسعة وأصدقاء الدراسة، واندمج فيهما بالتقاليد الاجتماعية، التي ينفر منها، ولكنه لا يجد مفرا من الخضوع لها. سيعود إليها الآن شبه غريب فقد تفرق زملاءه، واصبح هو مقيدا بعمله وواجباته. ولكن
القاهرة هي القاهرة على كل حال، ولابد أن فيها كل امرئ راحته وسعادته.
اتسعت أحلامه وذكرياته فقام من مكانه ومد يديه إلى الإمام ثم إلى الخلف في بطئ واسترخاء مالئا رئتيه من الهواء المنعش البارد كمن يود أن يستجمع نشاطه المتفرق. ثم سار في بهو العربة الخالي ينظر أحيانا إلى الركاب اللاهين في أحاديثهم أو صحفهم، أو المسلمين أنفسهم إلى سنة خفيفة من نوم أو تفكير، سار مرات في ذهاب وجيئة لم يتعد العربة التي هو فيها، ثم خطر له أن يجتاز مركبات الدرجة الأولى إلى عربة الأكل ليتناول فيها فنجانا من الشاي. فسار سيرا وئيدا في ممرات العربات التي يسودها سكون لا تسمع فيه قرقعة العجلات، ولا صفير القاطرة. وانقلب تفكيره وخياله إلى حال من العظمة والشعور بالكبرياء. وسمح لآماله أن تسبق الزمن فتراه طبيبا شهيرا جمع إلى ذيوع الصيت ثروة ضخمة تؤهله أن يكون دائما من رواد هذه العربات الفاخرة دون أن يكون دخيلا عليها. ثم تسرب فكره وخياله إلى نواحي العظمة الأخرى فتصور الضياع والقصور، وتخيل رحلة لذيذة في الصيف إلى خارج القطر يمثل فيها مصر في مؤتمر دولي طبي. وكان قد استند قليلا إلى إحدى النوافذ وإذا بيد تنزل على كتفيه في ملاطفة وتنبيه، فالتفت سريعا وملأت وجهه ابتسامة شاكرة، ثم مد يده مسلما في احترام ولين.
- إلى أين أنت مسافر يا دكتور؟
- إلى مصر يا بك فقد نقلت إليها للعمل في المصلحة
- عال. إذن ننتظر منك أن تزورنا كثيرا. فأنت من الآن طبيبنا الخاص. أليس كذلك؟
- بكل سرور يا بك، ولي الشرف
- العفو يا دكتور. وكيف حال عمك؟ ألم تزوره حديثا؟
- كنت عنده في الأسبوع الماضي وهو في صحة جيدة ولو انه يعلم بهذا النقل لأوصاني أن أزور سعادتكم وأن أحمل إليكم أطيب تحياته.
- وكيف حال كامل ابنه فإني لم أره منذ أن نقل من القاهرة بعد تعيينه بمصلحة التلغراف.
- بخير يا بك. وسأمر عليه اليوم لأراه.
- إذن أنت لا تسافر فوراً إلى مصر في هذا القطار؟
- سأتخلف عنده ساعتين، وأصل أن شاء الله مصر في هذا المساء.
- والى أين كنت تسير الآن؟
- كنت أريد الذهاب إلى عربة الأكل أتناول فنجانا من الشاي
- إذن تفضل. وعمل ترتيبك على أن تنزل عندنا إلى أن تنظم مسكنك الجديد، فاهم؟ سأنتظرك في المساء. لا اقبل منك اعتذاراً. أن لعملك عندي منزلة كبيرة. وأنت دكتورنا الصغير العزيز - ها. ها. ها! بلغ كامل سلامي.
- متشكر يا بك، أن شاء الله
وقف القطار واستقبل كامل ابن عمه في حفاوة وترحيب وكان قد انتهى من عمله حين كانت الساعة الواحدة بعد الظهر. فسار به إلى المنزل، وتحدثا في الطريق عن النقل، فهنأه به كامل تهنئة حارة، وبادله الدكتور التهنئة على أناقته ومظهره الفخم الذي يبدو فيه من أبناء الطبقة الراقية
بلغا المنزل وكان الخادم على استعداد لتقديم الطعام. فأمره كامل بأعداده، وساعده في ترتيبه على مائدته البسيطة. ودعا ابن عمه أمين الذي في حجرة النوم مشتغلا بالتفرج على ملابس كامل العديدة الجميلة الصنع واللونفذهب إليه واخذ مكانه من المائدة وبدأ الحديث. .
- برافو كامل أنت لا تزال محتفظا برشاقتك المعروفة عنك برغم بساطة البلد الذي تعيش فيه. فمجموعة ملابسك تعتبر من أبدع ما يملكه هاو للأزياء الحديثة.
- أبدا، أنها في منتهى البساطة. ويظهر أن للعادة حكما لا يستطيع الإنسان أن يتغلب عليه ولو عاش في الأرياف أو في الصحراء.
- (على فكرة) رأفت بك كان مسافرا إلى مصر في القطار الذي وصلت فيه. وقد عرفني أثناء مروري في العربة وسأل عنك. وكلفني أن احمل سلامه إليك.
- رأفت بك: وكيف عرفك؟ وماذا قال لك؟
- يظهر أن ذاكرة الرجل قوية. فقد مرت سنتان لم أره فيهما، ولكنه رآني مع عمي كثيرا قبل ذلك. وقد هنأني تهنئة رقيقة يوم ظهور نتيجة الدبلوم. وقد سألني اليوم عن عمي. وطلب مني بإلحاح أن انزل عنده في مصر حتى أهيئ لي سكنا، وقال انه في انتظاري الليلة.
- في انتظارك الليلة؟ إذن أنت لا ترغب في البقاء معي ولو يوما واحداً؟
- بكلأسف. فأنا مضطر إلى الذهاب إلى المصلحة غدا صباحا ولذلك سأسافر بقطار الساعة الثالثة. ولا تنس إنني وعدت رأفت بك بالذهاب إلى منزله هذا المساء
- إنها فرصة سعيدة جدا، إلا تعرف؟
- فرصة لا باس بها وأن كان لا يهمني كثيرا الاختلاط بالطبقات الأرستقراطية، بل إني أضيق بالعادات والتقاليد الخاصة بها. وأحاول أن أتكلفها لئلا يفوتني شيء منها، فتقابل تصرفاتي بابتسامة أشفق منها على نفسي. ولذلك فأني في الغالب سأعتذر للبك بعد لليلتين بحصولي على مسكن وانتقل إلى أحد الفنادق
- كيف ذلك؟ أني أريد أن أكلفك بهمة هذا المنزل. مهمة شريفة جداً. يتوقف على قضائها مستقبلي، واقل تتوقف عليها حياتي، وقد خدمتني الظروف أجل خدمة بما حدث بينك اليوم وبين رأفت بك مما جعلك تقبل النزول في بيته، فتكون ضيفا كريما مسموع الرأي، مجاب الإرادة. فهل أنت مستعد أن تقدم لابن عمك وصديقك هذه المكرمة الميسورة لك؟
- لا افهم. إنما ثق أني على أتم الاستعداد لخدمتك فأنت أخي قبل كل شيء، فما هي هذه المهمة وكيف يتوقف قضاؤها على بقائي في منزل رأفت بك. أأنت تريد العودة إلى القاهرة؟
- هذا طلب ثانوي سيكون له وقته القريب أو البعيد.
اسمح لي دقيقة. . .
وقام كامل فغسل يديه بسرعة وجففهما ثم دخل إلى حجرة النوم وعاد ومعه الصورة في غلافها.
اقترب من أمين وقد امتقع لونه وعلت أنفاسه ورفع بين إصبعين من يده المرتعشة. فامسك أمين عن الأكل وحملق بعينيه وفغر فاه وقال بصوت ملؤه الغرابة والدهشة:
(رسمية! بنت رأفت بك، أنت بتحبها!؟ مين جاب لك الصورة دي؟). . . (آه يا عفريت). جلس كامل وهو لا يكاد يعي ما يسمع أو ما يقول ثم أجاب - الصورة مهداة إلى أمي. وليست لي بالذات، أما إني احبها فلست ادري إن كان الحظ أو سوء المصير هو الذي أوقد نيران هذا الحب في قلبي، فهو يستعر به ولا تنبئ عنه إلا هاته الزفرات.
وهل كاشفت أحد بهذا الحب؟
أبداً لم أجد الفرصة أو لم أجد شجاعة. حتى إني أحس الآن بألم في نفسي كأني استبحت حرمة دفينة حين صرحت لك، ولكنه الأمل، فعزائي الآن بيديك. وإنما أمي تعرف عنه كل شيء، وأظنها أبدت الرغبة ذات مرة في زواجي من رسمية، وأخبرتني ولست ادري أكان حقا أم قصدت سروري. أخبرتني أن رغبتها صادفت ارتياحا من الجميع.
إذن المسألة أصبحت سهلة. وماذا يمكنني أنا أن أقدمه إليك في هذا الأمر؟
- ماذا يمكنك؟ يمكنك كل شيء. تستطيع أن تعرف الميول الحقيقة نحو الفكرة. وميول رسمية بصفة خاصة. وتستطيع أن تكون صريحا في ذلك. وان تستعمل حيلتكوتأثير شخصيتك. وعندك الفرصة سانحة لتمكنك من قضاء وقت طويل أثناء إقامتك في المنزل.
- على كل حال ثق أنني سأجرب نفسي في هذا الموضوع، وأنني سأتخذ ما ليس من طبعي من التبسط في التفاصيل، وسيساعدني على ذلك أن مثل هذا الحديث عند الطبقة الراقية مألوف لا غضاضة فيه. وإن كنت لا أكتمك ظني أن لأمثال هذه الطبقات ميولا وآمالا قد لا تدخل في تقديرنا فلا نعمل لها حسابا. إنما يمكنك أن تعتمد عليّ في ذلك إلى ابعد حد.
- إذن أضع كل أملي فيك. حياتي ومستقبلي بين يديك، عاملني كأخ، ولا تنس أن قلبي يتفطر، وأنني لن أرى الراحة حتى أرى بواكير خدمتك. وسأظل مدينا لك بروحي مدى الحياة.
لماذا أمسكت عن الأكل؟ كل فإن المسافر يجب أن يأكل كثيرا
متشكر، لقد امتلأت. أين ماء الغسل؟
سافر الدكتور ومضت أيام، فأرسل إليه كامل خطابا يستثير فيه اشفاقه، ويرجو منه إفادته عما عمل وما رأى وما سمع، ومضى أسبوع، وأرسل كامل كتابا أخر يعتب فيه اشد العتب، احتدت فيه عاطفته أول الأمر ثم لانت وتوسلت وتذللت وطلبت رداً. . . أي رد
واتى الرد أخيراً. نشر كامل الخطاب بين يديه في سرعة ورجفة وقرأ. .
عزيزي كامل
أحييك وأتمنى لك الصحة والراحة. جاءني خطاباك وقد كاشفتها بحبك، فامتعضت وزمت شفتيها في احتقار وتبرم. ولم أشأ أن اجرح شعورها بعد ذلك، اجتهد أن تنسى عاطفتك
الجامحة، وثق انك تستطيع ذلك، ويمكنك أن ترسل الصورة إلى الوالدة، أو تتخلص منها على أي حال. فهذا يساعدك على ما ذكرت، وإني لك على الدوام المخلص
أمين
ومنذ شهر، عاد كامل في نهايته من أجازته المرضية الطويلة. وإذا به يتلقى في البريد الدعوة الآتية:
(محمد رأفت بك، والدكتور أمين سامي يتشرفان بدعوة حضرتكم إلى حفلة عقد قران الآنسة رسمية كريمة الأول على الثاني في الساعة السادسة من مساء الخميس 25 الجاري بمنزل الأول في الزمالك ويسرهما أن يشفعا هذه الدعوى بأطيب الأماني)
وجمد كامل في مكانه من ألم الصدمة. ولكن سؤالا سريعا وجوابا حاسما، طافا بمخيلته في غير شعور أيذهب؟ مستحيل!
محمد فريد عبد القادر
3 - شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
- ما هذه يا دكتور كرسلاند؟
- هذه حدائقي المرجانية
- عجبا وما هذه الألوان الجميلة؟
- هذه ألوان المرجان نفسه
- ولكن عهدي بالمرجان - أن يكون شعبا صلبة من مادة جيرية بيضاء أو حمراء
- ما تقوله يصدق على بيوت المرجان بعد إخراجها من الماء وتعرضها للهواء والشمس
- إذن أرجو أن تزيدنا علما بهذه الكائنات العجيبة
- بكل سرور - المرجان كائن حي هلامي الجسم صغير جداً من فصيلة الحيوانات الدنيئة، وله القدرة على بناء بيت له من مادة جيرية يفرزها جسمه، وهذا البيت يعيش فيه الحيوان ويرتكز عليه وهو يتكاثر بطريقتين: طريق التوالد أي التلقيحوطريق الانقسام، أي أن الواحدة تصير اثنتين بطريقة تشبه الأزرار في النبات، وشانه في ذلك كثير من أنواع هذه الفصيلة - فالمرجان في تكاثره يشبه النباتات والحيوانات العليا معا، فهو مثل النباتات في أن كلا منهما يحتاج إلى رواكز ينمو عليها، كما انه ينتشر في الأماكن المتباعدة بطريقة تكاد تشبه طريقة الانتشار بالبذور، وهو مثل الحيوانات العليا في انه ينقسم إلى ذكر وأنثى - وتكاثر المرجان من الأمور المدهشة العجيبة، فالجزر تحت أقدامنا والشاطئ من السويس إلى المحيط الهندي والحاجز المرجاني العظيم شرقي قارة استراليا وكثير من جزائر المحيط الهندي والهادي ما هي إلا تكوينات مرجانية من نوع الخمائل التي ترونها الآن والتي تثير فيكم الإعجاب والدهشة - فمتى حان وقت اللقاح قذف الذكر من فمه سائلا لبنيا خفيفا ينتشر في الماء، فإذا وصل السائل المذكور إلى الأنثى واختلط بالبويضات في جوفها حصل التلقيح وأخذت البويضات في النمو على شكل كرات صغيرة جداً لا ترى بالعين العادية، وبعد تمام نموها تطرحها الأنثى في الماء بكميات عظيمة، فتعوم فيه بحركة ضعيفة بواسطة أهداب على جسمها تدفعها إلى الإمام، وبعد أيام أو أسابيع تستقر هذه الأجنة في
قاع البحر بالمكان الملائم لنموها فتلتصق سريعا بالقاع، ثم تتطور فيتميز لها فم تحيط به اذرع لدفع الغذاء إلى الفم، ثم يتكون للحيوان هيكل جيري يأخذ في النمو سريعا فتقوى اذرعه ويكبر تجويفه حتى إذا اكتمل نموه بدأت عمليتا التوالد والتكاثر على نحو ما قدمنا فتتسع قاعدته وتطول شعبه، وتتفرع بالتزر كما يزرع نفسه في الأماكن المجاورة بالتوالد.
وهنا اقتلع الدكتور كرسلاند من الماء شعبة مرجانية زرقاء فانساب منها سائل هلامي شفاف له قوام كثيف ثم قال: إن هذا السائل عبارة عن أشلاء مئات الحيوانات المرجانية، تسقط عن هياكلها الجيرية بعد أن فارقت الحياة لأنها لا تقوى على البقاء خارج الماء، وأما هذه الشعبة - انظروا إلى الثقوب فيها فهي قرية أو مستعمرة مرجانية، وعما قليل يضيع لونها الأزرق وتصير سمراء ثم بيضاء - إنها قصفة تنكسر، بسهولة، وهذه المرجان لا يغرنكم شكله الجميل، فهو حيوان مفترس، فالكائنات البحرية الصغيرة التي يسوقها سوء الطالع بالقرب من اذرعه تلاقي حتما حتفها، فعلى الأذرع تنتشر ابر دقيقة تنتهي عند قواعدها بأكياس صغيرة تحتوي على سم شديد الفعل، فمتى انغرزت الإبر في جسم الحيوان شلته عن الحركة فيقف جامد فتمتد إليه الأذرع وتلصقه بها، ثم تدفعه رويدا إلى الفم، فمتى وصل إليه انفتح بالقدر اللازم لابتلاع الفريسة، ثم يطبق عليها وتبدأ عملية الهضم داخل التجويف، والمرجان من أكلة اللحوم فهو لا يتغذى بالنبات، وهو يتنفس مثلنا بالأوكسجين يأخذه من الماء ونحن نأخذه من الهواء.
والمرجان موجود في معظم بحار العالم، ولكن النوع الذي يبني الجزر والحواجز العظيمة لا يعيش إلا في البحار الاستوائية قليلة العمق، حيث يتوافر دفء الماء وصفاؤه، ومن صفات المرجان انه يموت إذا انكشف عنه الماء أو غطته رواسب كطمى الأنهار. والمرجان نوعان: نوع صلب وهو هذا، ونوع لين يكاد يشبه العشب البحري وله ملمس كالجلد، ثم أن النوع الصلب على اشكال، فمنه الريشي أي ذو الشعب، وهو أكثرها انتشارا وأجملها منظراً، ومنه ألوان كثيرة بديعة كالأرجواني والأصفر والأخضر والأسمر، ومن أشكاله أيضا النوع المخي وهو على هيئة تلافيف المخ، والنوع الطبقي وهو على هيئة أطباق صغيرة، والنوع الخيمي وهو على هيئة عيش الغراب.
ثم إن الدكتور كرسلاند بعد أن خطا بضع خطوات ونحن نتبعه وقف متفرسا وقال انظروا
في الماء: انظروا إلى هذا الأسماك الصغيرة التي تعيش بين الشعب، أليست جميلة حقا؟ إن وصفها يحتاج إلى بلاغة اكبر الكتاب وخيال اعظم الشعراء وريشة امهر المصورين - انظروا إلى حركاتها الرشيقة وهي تتسلل بين الشعب - فهذه اسماك لا يزيد طولها على سنتيمتر ونصف ذات ألوان بديعة براقة بين أزرق وأخضر وبرتقالي وأصفر وأحمر وأرجواني وأسمر، وبعضها نصف جسمه بلون والنصف الأخر بلون، وبعضها مخطط بخطوط واضحة محدودة: أزرق وأبيض، أو أصفر وأسود، وبعضها جسمه رفيع وبعضها جسمه مبطط يكاد أن يكون شفافا.
ثم انظروا إلى هذه المحارة العظيمة، أنها من النوع ذوي المصراعين، إنها كذلك تعيش مختبئة هكذا بين المرجان - ثم أن السماكين يخشونها ويحاذرون أن تزل قدم فيسقط أحدهم بين فكيها، فإذا انطبق المصرعان على القدم فانه لا يخرج منهما إلا مهصورا مهشما.
ثم انظروا إلى هذا (السجق) الأسود والأبيض، انه كذلك من سكان هذه المنطقة، والصيادون يسمونه خيار البحر، وهو حيان وديع لا يؤذي أحداً، ثم انه يكون عديم الحركة، فهو لا يسعى للقوت بل يكتف بدفع ماء البحر مع الرمل إلى جهازه الهضمي وهو عبارة عن قناة بطول جسمه، فيدخل الماء من طرف ويخرج من الطرف الاخر، والحيوان يكفيه ما في هذا الماء والرمل من موادعضوية حيوانات صغيرة لتكون غذاء له.
ثم انظروا إلى هذه السمكة التي تحاول مسرعة أن تختفي منا بين المرجان الأخضر - أنها (الدرمة) أو السمك البالوني - أن لونها يكاد يكون كلون البيئة التي تعيش فيها: - ظهر أخضر وبطن أبيض - ثم أنظروا إلى رأسها الكبير، وخصوص الفم، إلا ترون أن لها منقارا كمنقار الببغاء - ثم انه أمر (خير الله) كبير صيادي المحطة باقتناصها، فبعد دقائق كان يسحبها من الماء، ولم تكد تخرج منه حتى انتفخ جسمها وصار كالكرة الكبيرة (البالون) ثم قال هكذا طبيعتها كلما خرجت من الماء فهذا هواء الجو تضغطه في جسمها فإذا عادت إلى الماء زفرته فيتقلص جسمها كما كان - ثم قال لا تلمسوها بأيديكم لان جسمها مغطى بأهداب بيضاء من مادة لاذعة تحدث في اليد تخديراً.
ثم انه أنطلق ونحن في أثره اقبل على بقعة غنية بأنواع المرجان فقال هنا تعيش حيوانات بحرية كثيرة، والجهاد للحياة بينها على اشده، فهي لا تنفك في هجوم ودفاع - إن الغذاء
هنا وافر ولكن المنطقة مفتوحة للبحر فلا يجد فيها السمك الضعيف الحماية الكافية لصد هجمات السمك القوي فهو يعمد إلى الخديعة والحيلة - انظروا إلى هذا الثقب، إن حيوانا لا شك انه مختبئ هنا - ثم أنه ادخل في الثقب طرف عصاه فقفز منه شيء متحرك لم نميز فيه شيئاً - فمد الدكتور يده إلى الماء بخفة وحذر وانتشله منه فكانت دهشتنا كبيرة إذ رأينا سرطاناً بحريا (أبو جلمبو) في حجم الليمونة قد نما على ظهره عشب مائي غطى منه الرأس والأرجل حتى أنه إذا وقف على الأرض أو تعلق بالعشب أو اختبأ في ثقب فأنك لا تفرق بينه وبين قطعة من العشب إلا بعد جهد وأنعام نظر.
ثم أنه تقدم ونحن وراءه وقال: في كل خطوة مخلوق عجيب، وفي كل شبر كائن غريب، ولا حصر لعجائب مخلوقاته. فتبارك الله العظيم!
ثم ركبنا اللنش فعاد إلى المحطة وقد أنتصف النهار.
وفي المقال التالي سنتكلم إن شاء الله عن منابع الزيت ومناجم الفوسفات.
الدمرداش محمد
-
العالم المسرحي والسينمائي
فن التنكر -
لناقد (الرسالة) الفني
فن التنكر - أو الماكياج، من أدق الفنون التي تتطلب من الممثل مهارة خاصة، أو خبرة واسعة، ودراية تامة، ذلك لان الممثل يعتمد على تعبيرات وجهه وما يكون لها من التأثير في نفس المتفرج في إبراز الشخصية التي يمثلها، وفي تلوين بعض المشاهد بلون العاطفة التي تناسبها من الغضب أو الرضا، اليأس أو الرجاء، الحب أو البغض، إلى غير ذلك من شتى الانفعالات النفسانية التي تختلج في القلب، ويلجأ الممثل في إظهاره إلى رنة الصوت وطبيعة اللهجة التي يتحدث بها، وبما يأتيه من الحركة المناسبة، هادئة كانت أم عنيفة، ثم بما يلوح على وجهه من الملامح التي تعبر عن هذه العاطفة، ومن هذا المجموع، من الصوت والحركة وملامح الوجه، يستطيع الممثل أن يحدث في نفس المتفرج الأثر الذي يريد، وينقل إليه إحساس الشخصية التي يحيا في تضاعفيها على المسرح.
على أن الوجه وما ينطبع عليه من تعبيرات شتى، ما يلوح على صفحته مما يترجم عن خلجات النفس وعواطف القلب، اكبر معوان للممثل في فنه. والممثل القدير قد يعطيك بنظرة ساهمة، أو لمحة خاطفة، مالا تؤديه عشرات الجمل، بل قد يشرح الممثل المؤلف والقصة كلها بهذه النظرة، أو هذه الملامح التي تنطبع على صفحة وجهه في مشهد من مشاهد القصة.
اذكر أني يوم قرأت (شمشون) للمؤلف الفرنسي المعروف هنري برنشتين، أستكثر على الزوج أن يضحي ثروته ومركزه الذي ناله بكده وجده، وكان حمالا فأصبح من كبار رجال المال والنفوذ؛ استكثرت عليه أن يضحي كل جهوده حياته في سبيل الانتقام من عشيق زوجته. وطويت الرواية وأنا أقول إن برنيشتين لا يزال يجعل العنف المسرحي غرضا من أغراضه، وشاهدت هذه القصة بعد ذلك من فرقة فرنسية على أحد مسارح القاهرة، ورأيت الممثل الذي قام بدور الزوج في المشهد الرائع الذي يتضمن في تضاعيفه القصة كلها، تراه في هذا الموقف بين اثنتين: أما أن يكف عن طريقته في الانتقام من عشيق امرأته، وإما أن تجرفه العاطفة معه فيسقطان إلى الهاوية معا، وقف الزوج مشدوها لا
يتحرك، ينتابه ألف عامل وتمر بقلبه ألف عاطفة، وفجأة ينظر إلى غرفة داخلية كان قد احتبس فيها خصمه، ينظر إلى الغرفة فتلمح في نظرته وترى على وجهه من معاني الحقد والثار والغضب ما يفزعك، ثم يصدر أمره إلى أحد رجاله بان يمضي إلى النهاية، النهاية التي فيها الخراب والدمار، وفي هذه النظرة الحاقدة، وفي هذه الملامح التي غمرت الوجه لحظة أو بعض لحظة، ملامح الغضب الكمين والرغبة في الثأر والانتقام الفظيع برّر الممثل ما أخذه الناقد على المؤلف، بل شرح الممثل المؤلف وأعان المتفرج على أنه يفهم كيف أرتضى الزوج أن يهدم حياته كلها في سبيل هذا الانتقام.
وأنت إذ تمضي في الطريق ترى عشرات الوجوه، بل المئات بعضها سمح طلق تحس الراحة والطمأنينة بالتطلع اليه، وبعضها قاس عنيف تنفر منه، بعضها تحس أن وراءه طبيعة طيبة وقلبا كريما، وبعضها الآخر تحس أن وراءه خبثا كمينا وشرا مستطيرا، وقد ترى إنسانا لا تعرفه ولم تحتك به في عمل أو حديث، ولا صلة لك به، ثم تهمس في أذن صديقك انظر! هذا رجل ابله، أو هذا رجل طيب، أو هذا رجل شرير، إلى غير ذلك من المعاني التي توحيها إليك ملامح الوجه الذي رأيته.
ومن العبارات المألوفة أن تقول عن شخص معين في حديث يدور حوله إن وجها يدل على الطيبة وكرم الأخلاق أو أن ملامح وجهه تدل على أنه شرير خبيث ولن تجد لغة من اللغات تخلو من هذه العبارات التي تتردد على الألسنة والأفلام، فتمر بالسمع أو يقع عليها النظر وكأنها بديهة لا نقاش فيها ولا جدال، وفي العربية من مثل هذا شيء كثير، وفي شعرها ونثرها قديمه وحديثه مطولات في وصف الوجوه على مختلف ما تنبئ عنه ملامحها وقسماتها، وهذا هو الشاعر العربي لم ينس أن يستهل القول في مديح من أراد وصفهم بأنهم (بيض الوجوه. . .). وهذا الحطيئة لما أراد أن يهجو نفسه، هجا وجهه!!
ولسنا نمضي في هذا إلى النهاية، فإننا لا نكتب بحثا في الأدب، وكل ما أردناه من هذا الاستطراد أن نقول أن لوجه المرء وما يرتكز عليه من ملامح، أو يمر عليه من تعبيرات، أهمية كبيرة في إعطاء الناظر فكرة خاصة عن صاحبه، سيئة كانت أم حسنة، سواء أكانت هذه الفكرة عن طبيعة الشخصية ذاتها في سائر أطوارها، أم عنها في ظرف خاص ووقت معين، ومن هنا كانت هذه الأهمية الكبرى التي يعلقها فن التمثيل على قوة تعبير الممثل
بوجهه، ولهذا كان لفن التنكر خطره الذي لا ينكر، فإذا أجاده الممثل أعانه إلى مدى كبير على خلق شخصية دوره خلقا صحيحا مستقيما مع طبيعة الدور، وأعانه على إعطاء المتفرج فكرة حقيقية عن الشخصية التي يقوم بها كما أرادها المؤلف، وكما تفرضها طبيعة القصة، وإذا اخطأ الممثل في تنكره المسرحي ولم يعط الوجه - مستعينا بما لديه من الأدهنة والألوان وغيرها من أدوات التنكر المعروفة - الصورة التي يجب أن يكون عليها، فقد يؤدي به ذلك إلى الفشل المحتوم والسقوط الذي لا مفر منه، بل هذه هي النتيجة التي لا محيص عنها، وضع على وجه اقدر الممثلين وأكفئهم قناعا كثيفا وأخرجه أمام الجمهور المتفرج فلن يرى فيه إلا دمية تتحرك وجثة تروح وتجئ، بعد أن حجبت منيع الحياة، ومرآة القلب والشعور.
وفن التنكر من أدق الفنون واشقها، يتطلب خبرة واسعة ودراية كبيرة، حتى ليضطر الممثل الذي يريد أن يحيط به إحاطة تامة أن يدرس تشريح الوجه من الوجهة الطبية ويلم بكل التفاصيل التي تتعلق بهذه الناحية إلماما شاملا. وعليه أن يدرس أيضا إلى جانب هذا مختلف التغيرات التي تطرأ على وجه الإنسان في شتى أطوار حياته وكلما تقدمت به السن. فوجه أبن العشرين ليس كوجه أبن الأربعين أو الستين، كما أن علائم المرض والصحة تترك أثرها على الوجه، وهناك بعض الأمراض تترك آثارا مادية تدل عليها كالجدري مثلا.
وإلى اختلاف السن، هناك اختلاف البيئة والمركز الاجتماعي والمعروف أن لكل حرفة طابعا خاصا يميز صاحبها، ولا تخطئ النظرة الدقيقة الخبيرة هذا الطابع على الوجه، وما أظن أن من العسير أن تميز الفلاح من بين المئات ولأول نظرة وفي مقدورك أن تشير إلى أحد المارة فتقول أنه عامل، وتكون مصيبا في قولك صادقا في فراستك، كما تستطيع أن تحكم على معين أنه من الدهماء أو من أوساط الناس أو أثريائهم من ملامح وجهه، ومن العبارات المألوفة قولنا (هذا الشخص تلوح على وجهه آثار النعمة)
والتعاسة والشقاء يتركان على الوجه آثار لا تخطئها العين في تلك التجاعيد والغضون ومسحة الألم التي تنبئ عما وراءها من كدر العيش ومرارة الحياة، كما أن السعادة والهناء يخلفان هذه البسطة في الملامح والسماحة في تعبيرات الوجه، تتوجها كلها الابتسامة
المشرقة التي تدل على راحة البال وخلو الفؤاد مما يشغله من أكدار الدنيا.
وأنت تعرف بعد كل هذا أن للإقليم تأثيره في ملامح الإنسان، بل قد تتعدد السحن والوجوه في الإقليم الواحد والوطن الواحد، فالأوربي غير الآسيوي؛ وفي أوربا الإنجليزي غير الفرنسي، والألماني غير الإيطالي، كما أن فيآسيا الصيني والياباني غير الهندي والتركي والسوري، وفي أفريقيا المصري غير السوداني وهكذا.
كذلك يختلف أبناء الوطن الواحد، فالقاهري غير الصعيدي أو الإسكندري مثلا، وقس على ذلك مئات الفروق التي تجدها في هذه الدنيا العريضة، والممثل بحكم مهنته معرض لان يقوم بتمثيل شخصية من هذه الشخصيات المنتشرة على رقعة الأرض، وقد يكون من المستحيل أن تتطلب منه أن يدرس كل هذه الشخصيات الدراسة التفصيلية التي تعينه على تنكره وتكييف ملامح وجهه، بما يعطي الشخصية الطابع الأصيل لها، ولكن من الميسور لديه أن يدرس الشخصية التي سيمثلها الدراسة التي تؤهله لإعطاء المشاهدصورة منها، مستعينا على ذلك بأدوات التنكر التي تحت يده.
من هذا يستطيع المرء أن يكون فكرة عامة عن دقة هذا الفن، فن التنكر، وعن العناية التي يتطلبها العمل المسرحي من الممثل حتى يستطيع أن يصور على وجهه الوجه الآخر، وجه الشخصية التي يتقمصها ويؤديها أمام النظارة. ونستطيع بعد هذا أن نتحدث عن فن التنكر من الناحية الفنية العملية مستعينين في ذلك ببعض الصور والرسوم التي تشرح ما نقول.
محمد علي حماد
-
النقد
الينبوع
للدكتور احمد زكي أبو شادي
من جد الحياة أن نضحك. ومن جد الحياة أن نعمل ونشقى، وبين الضحك والعمل، تنساب الأيام وتتراكم الأعوام، ويفنى قديم ويعيش جديد، ويقضي قوم وينشأ آخرون.
ومن جد الحياة أن يرسم الإنسان نفسه في وقت ضحكه، ومن جد الحياة أن يرسم الإنسان نفسه في وقت عمله، وأن يصور خلجات قلبه القلب، وجموح نفسه الوثابة، ومطامع روحه الهائجة، أو نمثل حياتنا التي هي مسرح نضال بين عواطفنا وعقولنا.
فنحن أما عمل لذيذ مفرح، نتمثل فيه الماضي، ونرسم صورته الحائلة بصورة لماعة رائعة، ونخلد فيه ذلك الشبح الباهت بطيف براق فاتن. فيه سحر الحياة وفتونها، وفيه غموضها واسرارها، وفيه جمالها وبهائها، وفيه موسيقاها المتزنة، وأنغامها المتناسقة. إننا نخلق من القتام نوراً، ومن الموات حياة، أو ننتج نتاجا فنيا.
إننا نشيد هذه العواطف والاحساسات، التي أوحت بها إلينا الحياة، والتي صبغها الأسى بلونه الأحمر الدامي، أو أيقضها الأمل بعطره وشذاه، أو حركها الأباء والشمم، والغيظ والشفقة، والغضب والرحمة، تلك العواطف التي تتلاعب بعقولنا وأرواحنا، والتي تتحد في دائرة، سمها إن شئت حياة. وان شئت حركة الكون.
والفنان إنما خلق ليسجل هذا الشعور الذي يصور وحدة الكون، ولا يستطيع تسجيلها إلا إذا أحس بالكون ذاته، ولا يستطيع أن يحس بالكون إلا إذا كان نفس صافية، تنطبع عليها المشاهد، وتظهر على صفحتها الرؤى، وقد تشابك بعضها ببعض. وقد ارتبطت بروح واحد هو روح التناسب. فهي كالنغمة الموسيقية، مترابطة مؤتلفة متزنة.
وعمل الفنان في هذا المجال. هو أن يقف أمام دولاب الزمن الذي يدعس كل شيء فينتشل من تحته رؤى ومشاهد. وعواطف واحساسات، ونوعا من الشعور المبهم الغامض. ونوعا من الإدراك الناقص. اجدر بها أن تبقى لأنها تمثلنا. لأنها قريبة منا شديدة الصلة بنا. إننا نحتفظ بها لنبقى نحن. فهي تخلدنا ونحن تخلدنا فنشعر بها في أدمغتنا، ثم نصورها بألفاظنا وكلماتنا. فنحس أنها قد أتت بسامة فتانة. نحس بنورها المشرق على نفوسنا فيبعث مواتها.
ويحي رميمها، وقد لا نرسمها بالكلمات، فأن اللغات أضيق من أن تشرح ما في النفوس، قد تستعين بالرسم أو النقش أو الموسيقى أو غير ذلك، فعملنا في سبيل إحيائها ورسمها هو الفن وجزاؤنا منها هو الخلود.
فهل الفن الذي يتنفس عنه رجال الفنون في بلادنا من هذا القبيل؟
وهل لي أن أقول واسأل عن الشعر الذي يفيض من قرائح شعراء الزمن أيكون تلك الأداة المادية التي تصور تلك الصور الفتانة التي تمتلك علينا تفكيرنا. وتستبد بنفوسنا؛ أو تلك العواطف المتبدلة المتغيرة التي تستنفد حياتنا،
أيكون تلك الأداة المادية التي لها موسيقاها وتوقيعها، والتي نسعى لان نظهر لعيوننا نوعا من الشعور الغامض والإدراك الناقص، لا يدركه إلا القلب الشعري الذي يستمد قوته من الإلهام والعلم والعقل والخيال، كأنه أدراك شامل لما تحويه لحظة من لحظات النعيم أو الشقاء، وبإبراز هذا الشعور الغامض وهذا الإدراك الناقص، في صورة واضحة ناطقة، تامة كاملة فيها حياة وفيها حركة.
واذا كان الشعر العصري كما يقول الدكتور أبو شادي في مقدمة ينبوعه (هو لسان حياة العصر، والحياة العصرية ذات صلات شتى بالماضي، وذات تطلع إلى المستقبل، فليس غريبا في الثورة الروحية والفكرية الحاضرة أن يأتي هذا الشعر مزيجا منوعا، لا في مصر وحدها بل في العالم الأدبي بأسره) ويضرب على ذلك المثل بالشاعر الألماني العظيم (إننا لا نجاريه في قوله ولا نجاريه في استشهاده بالشاعر الألماني العظيم، فبينما يشرح ذلك الألماني النبيل عواطفه المتدفقة في نفسه، أو يشرح نفسه الواسعة الفياضة، بأنواع من النظم، نرى الدكتور، لا يرتفع في شعره عن أن ينظم في بعض مناسبات خاصة. وفرق كبير جداً بين هذا الشعر الذي يكاد يكون (شعرا صحفيا) وبين شعر هين المختلف المتناسق، الذي نرى اختلافه في أغراضه وسعتها، والذي تراه يتناسق في الصفات الأولى، التي تتصف بها نفس ذلك الشاعر العبقري، أما أن يجد الدكتور احمد زكي أبو شادية حجة على الناس في مناسباته التي صاغ كل شعره من اجلها فهذه حجة غير واردة كما يقول رجال القانون في بلادنا، ولا ادري أن كانوا يقولون كذلك في مصر.
وأنا عالم كل العلم بأن أقوالي قد لا تفيد مع الدكتور الشاعر، لأنه قد قطع عليَّ الطريق في
مقدمة ديوانه فقال (وإذا كنت أؤمن إيمانا عميقا، بأن الفنون الجميلة من أقوى عوامل السلام ورسول الإنسانية المشتركة. فلست اعني بذلك أن تقديرها شامل في الظروف الحاضرة. فكم تتباين الأذواق، وعلى حد تعبير (بردنز لاهو برمان)(لا يرتقب أن يجيد عزف موسيقى بتهوفن إجادة المتذوق المعجب بها، من ليست لديه إثارة من عواطف بتهوفن) كذلك شأن الشعر وغيره من الفنون الجميلة).
والأستاذ أبو شادي يشير إلى أن (ليس محتوما على غير مريديها - أي أشعاره - أن يطلعوا عليها حتى أكون معرضا لمؤاخذتهم إياي)
والشاعر يحدث الناس في صراحة ما بعدها صراحة فيقول (نوازع وجدانية، صوفية تحبب ذلك إلى - أي نشر أشعاره - كأنما أنا مكلف برسالة أؤديها)
وأبو شادي يقول (إن الشاعر ككل فنان يعمل على تخليد صورة الحياة الفانية، وذكرياتها في النسق الذي يستطيع به استرجاعها لروحه العالمية)
وأنا متفق مع الدكتور في هذه الفكرة إلى ابعد حد، مؤمن بالنوازع الوجدانية الصوفية التي تحفز الشاعر العبقري على إذاعة بنات شعره، ولكنني أكاد أكون كافراً بفكرته الأخرى فكرة النقد واطلاع الناس على الشعر.
إن هذا الشعر الذي نشره صاحبه قد خرج من يده واصبح ملكا للناس، لقد تنازل لهم الشاعر عنه، فسيقرئون وسيفهمون وقد لا يفهمون كثيراً، وسيؤخذون وينقدون، فما دخل الشاعر هنا، لقد صار هذا الكلام في حكم التاريخ وسيتكلم الناس عنه بما يرضي صاحبه وبما يكره.
وأنا باسم هذا الحق المكتسب قد استعرضت الكتاب، ووقفت على مقدمته، وبعد أن قرأت الينبوع من الجلد إلى الجلد بما فيه من مقدمة وتصدير وإلمامه، ودراسات مختلفة. وبما فيه من شعر اختلفت ألوانه، وتباينت أمزجته، وبعد أن أنعمت النظر بما فيه من صور جميلة ملونة تستهوي كثيرا من الناس، وأنعمت النظر مرة أخرى في عنوان الكتاب، وصورته الفنية التي تزين غلافه. آمنت بفكرة واحدة، جسمتها في ذهني قراءة ديوان أبى شادي الجديد.
آمنت أن من النادر أن ينتج لإنسان كما يتصور الإنتاج، وأخذت أطبق هذا الحدس على
نفسي. هل الشعر الذي انظم عقوده، يوافق ما أريد أن افهم من الشعر، ثم رجعت اسأل مرة أخرى، إلا يخطئ الإنسان في تصوير الصورة التي تقوم في ذهنه، ومن ثم سألت نفسي، هل الشعر الذي يفيض من ينبوع أبي شادي يشبه في شيء الشعر الذي يشير إليه في مقدمته،؟
وأنا حائر بين الفكرتين، أو أنا أؤمن بأن لأبي شادي اكثر من شخصية واحدة في الشعر، كما أن له اكثر من شخصية في مناحي الحياة، فقد يكون من الوجهة الشعرية، نظرياً وعملياً، وعمله لا يتفق مع نظرياته، كما نه في الأعمال لا يتمسك بمهنة أو فكرة واحدة، فهو طبيعي وشاعر يحرر وينشر ويقرأ ويطالع ويهتم بالوظيفة والنظم وتربية الحيوان، أكاد أتمثله بصورته الرمزية، والجاهرة أمامه والمبضغ في يد والريشة في الأخرى والآلة الموسيقية إلى جانبه، وفتاة الإلهام تنضو عليه، والنحل من حوله وله أزيز وطنين، ويتمثل أمامي وعيناه في الأفق البعيد واحدة تنظر إلى الشرق ولا ترتفع عن الشرق. وواحدة في الغرب تذهب بنظرها عنه ثم تعود إليه كأنها أبصرت ما يريبها، ولسانه يردد بين هذه النظرات الحائرة شعره المقفى الموزون هو ناظر إلى بلد آبللوخياً، وشاخص ببصره إلى عمرو بن كلثوم يردد معه أقوالا تشبه قوله:
قفي قبل التفرق يا ظعينا
…
نخبرك اليقين وتخبرينا
وأنا شاك في أن يكون أبو شادي مجددا ملتوي التجديد، لقد وقف على أدب الغرب ما في ذلك شك، وعرف من أدبالغرب كل غث وسمين، فماله قد ضيق على نفسه كل هذا التضييق وهو يحاول بين العسر وذاك، أن يضع لنفسه مزاجا خاصاً. يتمثل لك فتكاد تنفر منه، لضعفه في التعبير، وتقصيره في التصوير. ثم هو لا شيء من وجهة التفكير.
اقرأ معي الينبوع وهي قطعة من الديوان سمي الديوان باسمها يتمثلها في صورة (سكس ابيل) اقرأها جملة. فماذا ترى. . . أنا إلا أرى فيها نظرة صوفية، ولا افهم منها فكرة فلسفية عميقة، هي فكرة عادية بسيطة، من الفكر التي يسميها (بول فاليري) فكرة غير شعرية،. وهي بعد هذا كله، شهوانية مفرطة في الشهوة، تتمثل في بطن أملس، انتصب فوقه جبلان وفي أسفله واد عميق، ربما كانت الفكرة طيبة، ربما كنت تهم علماء الغريزة، ربما كانت تهم رجال النسل، ولكن المادة الصرف، المادة المنتجة الملموسة، المادة التي
تشبع شهوة الجسم، أو التي تنتج الجسم، المادة التي لا روح فيها. هذه المادة النجسة التي ترى في كثير من النساء، قد لا تعجب ذا النفس الشاعرة، وقد لا تروق في عينيه كثيرا.
وأعوذ بالله أن أكون كمن حاول عزف مقطوعة لبتهوفن فما استطاع لأنه لم يتأثر بالمؤثرات التي دفعت بتهوفن إلى تأليف قطعته. لو أن يكون الدكتور كذلك المصور الذي أتيت إليه ليرسمني فشوهني، فلما عاتبته في ذلك. قال هذا تصوير فني وأنا عوذ بالله من أن يكون كلامي لغواً من ناشئ ارعن، يقلق على الدكتور صفاء نفسه. وما عرفته وغيره من إخواننا المصريين، لا أباة على النقد، يثيرون من اجله المعارك. ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع.
وأنا بعد هذا الذي قمت أسال نفسي. إذا كنت على اتفاق والدكتور من حيث النظرة إلى الشعر كفن من الفنون العالية، أفلا يجدر بي أن اتفق معه على اللغة التي يدون بها هذا الشعر؟ إلا يصدق معي الدكتور أن العلة هي اللغة التي يشتكي منها الشعراء، فهي التي تؤلمهم عند التعبير، وتضيق عنهم أو يضيقون بها عند التصوير، فيداورونها ويتلاعبون بها حتى تأتي طيعة راضية لا تحس فيها ضعفاً، وهل يرى الدكتور معي أن لغته في شعره، ابسط من أن تسمى لغة شعرية، بل أكاد أحس بضعفها في كل بيت من أبيات الينبوع التي تبلغ ألفي بيت ونيفا
التمس من الدكتور، أن يقرأ معي قطعة أخرى أو قطعتين. وقعت يدي عليهما من غير تفتيش أو تنقيب. الأولى دنيالفي جب الأسود. أقرا هذا البيت وافهم منه شيئا:
جعلوا المليك محرماً
…
لسوى الميك دعا المسود
أظن أن في هذا الكلام ركاكة وتعقيدا. وأظن أن الزمن ليس زمن عبد القاهر الجرجاني. لنعيد النظر في بيت الشعر والفاظه، ولكننا نقول: أن ضعف هذا البيت وغيره من أبيات هذه القطعة اظهر من أن يظهر
بل ما تقول في هذا البيت الهزيل من القطعة ذاتها. وكثير على شاكلته؟
أنا في أمان يا مليك
…
بفضل ربي من ملك
أتدري أية مناسبة بين حكمة من ملك ومليك. ما الذي هزها. فأنت مختالة تضع نفسها في آخر البيت لتكمل القافية
أو قوله في قصيدة العودة صفحة (30)
وقفنا في جوار اليم سكرى
…
كسكر الناظرين إلى الرحيق
نرى في البر ألوان التناجي
…
وفي البحر المشارف والعميق
البحر المشارف والعميق، وسكر الناظرين إلى الرحيق، لا يكملها إلا قوله
وأبنا أوبة المحزون لكن
…
بنا طرب من الأدب الحقيقي
أو قوله
وتمضي الغانيات على تثن
…
تثنى النور في الجو الصفيق
الحق أن الجو الصفيق والأدب الحقيقي. والبحر المشارف والعميق والرحيق إذا زف بعضها إلى بعض خرج شيء ليس في الحسبان هو قصيدة العودة.
أنا لا أريد أن اذهب إلى كثير من شعر الديوان فبعض يجزي عن بعض، بل لا أريد أن أطيل الحوار في قضية يراها الدكتور قضية ذوق، وأنا أراها أدبية عربية، تهم الناطقين بالضاد جميعا، فما كانت الكلمات تتلاعب بالشاعر، فتسخره ولا يسخرها، وأنا أومن إيمانا واثقا أن كلمات الشعر يجب أن تكون كالكلام المنزل، لو رفعت كلمة من بيت فلن تجد في اللغة بأجمعها كلمة تحل مكانها وتؤدي المعنى الذي كانت تؤديه الأولى، بل أنا افرق كثيراً من أن توضع الكلمة في غير موضعها فيبخس حقها، ويبخس المعنى حقه بل ما رأى الدكتور في قرط جميل من الماس الفاخر تعلقه أنثى في اسفل ذقنها؟ إنها تشوه جمالها، ويضيع قدر الماس الثمين، فما للدكتور يسوق الكلام فيمواضعه وفي غير مواضعه، بل ما يلجئه إلى كثرة الإنتاج هذه، وللقليل الناضج خير من الكثير الفج، وأنا أرجو أن أكون مخلصا كل الإخلاص في قولي، جريئا كل الجرأة في تعبيري، فقد كفى هذا التبلبل في الأدب العربي، وينهض ولكن ليقعد، ويسير ولكن، إلى الوراء، ينتج الأديب أو الشاعر، ويظن انه فوق النقد، ولو عرف أن النقد سيتناوله في عنف وفي قسوة ما انتج إنتاجا كهذا، ولحاول أن يكون مدققا اكثر مما دقق.
حلب
(المرتيني)