المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 400 - بتاريخ: 03 - 03 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 400

- بتاريخ: 03 - 03 - 1941

ص: -1

‌يومان من أيام الرسول

يومان من أيام الرسول تضمنا سر النبوة كما تتضمن النواة سر النخلة، ولخصا تاريخ الإنسانية كما يلخص الجنين تاريخ الإنسان. ذانك يومه الخائف المجهود وقد خرج مهاجراً إلى المدينة، ويومه الآمن المشهود وقد رجع ظافراً إلى مكة!

كان يومه الأول خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام الفواتن تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. . .

وكان يومه الآخر فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، خنس فيه الشرك واستخذت الجهالة وذلت قريش حتى قال الرسول وهو واقف بباب الكعبة: لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!

وإذا كان للرسول في تاريخ الإسلام يومان لا تزال العقول تقع منهما كل يوم على سر، فإن مصدر هذه الأسرار معجزتان لله لا تزال الإفهام تكشف فيهما كل حين عن آية: معجزة الرسول في خلقه، ومعجزة القرآن في بيانه، وقد انكسر القرن الرابع عشر على هاتين المعجزتين والأذهان البصيرة الموالية والمعادية تدرس آثارهما وتستبطن أسرارهما، فما بلغت من ذلك كنها ولا غاية

كان محمد في يوميه العظيمين مثل الإنسانية الأعلى: حمل رسالة الله وحمل أبو جهل رسالة الشيطان، واستحالت مكة المشركة جبلاً من السعير سد عليه طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتتسعر بالعذاب؛ وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبى لهب بالأذى والهون والمعاياة والمقاطعة. وكل قريش كانت يومئذ أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن شياطين مكة في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي قومه وفي أصحابه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لان ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (الندوة) فقرر القتل، وتدخل الله بروحه في (الغار) فقدر النجاة. وانطلق محمد وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المشركين في الطريق الموحش الوعر إلى يثرب. وكأن هؤلاء الناجين بدين الله لم يكادوا يدخلون في غيب الطريق حتى انشقت الصحراء عنهم فإذا هم عشرة الآلاف من جند الله يجرون الحديد على النياق الكوم والخيول الجرد، والرسول في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يظهر منهم

ص: 1

وراء الدروع غير الحدق، وإذا أبو سفيان زعيم قريش قد أشترى حياته بإسلامه، ثم وقف مع العباس بمضيق الوادي يشهد جيش الفتح وهو زاحف إلى مكة ويقول: هذا والله ما لا طاقة لنا به! لقد أصبح ملك ابن أخيك يا أبا الفضل عظيماً. فقال له العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة!

ثم نجا أبو سفيان إلى مكة فصاح بأعلى صوته: يا معشر قريش، لقد أتاكم محمد بما لا قبل لكم به، فسلموا تسلموا

أهذه مكة الطاغية التي لبثت إحدى وعشرين سنة تفور بالسفه والإفك والضغينة والمعارضة على محمد ودين محمد وأصحاب محمد؟ ما بالها خشعت خشوع الجناح الكسير وسكنت سكون المقبرة المهجورة؟ لقد باتت ليلة من ليالي يناير الباردة الطويلة وقلبها يرجف من هول الغد وانتقام الفاتح. ثم أصبحت مكة الساهدة فإذا أهلها بين قابع في منزله، أو عائد ببيت الله، أو لائذ بدار أبي سفيان؛ وإذا فرق الجيش المحمدي الظافر تنحدر من (ذي طوى) مكبرة ومهللة إلى جهات مكة الأربع، فلما ارفضت المخاوف عن الناس خرج القائد الأعظم من قبته المضروبة بأعلى مكة يؤم المسجد الحرام، وعلى جوانب الطرقات ألسنة المسلمين تذكر، ومن وراء الحجرات عيون المشركين تنظر، والرسول الكريم قد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد أن يمس قادمته؛ فلم يجر على باله أن هذه الأرض التي طورد فيها وسال دمه عليها قد أصبحت ملكه، وأن هؤلاء الناس الذين قذفوه بالأحجار ورموه بالأقذار قد أصبحوا أسراه، حتى دخل المسجد فطاف؛ ثم أقبل على الأرستقراطية الصاغرة وهي تتطامن من القلق والفرق وقال لأهلها الذين افرطوا عليه في البذاء والإيذاء: يا معشر قريش، أذهبوا فأنتم الطلقاء!

كان يوم الهجرة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغى على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز

وكان يوم الفتح وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها واجتمعت كلمتها واستحصدت قواها لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله ولا تسالم إلا في الحق

ص: 2

كانت المدينة وحدها بعد يوم الهجرة مجالاً لسياسة الرسول يضم شتات الجماعة ويوثق عقدة الدين ويجمع أهبة الحرب؛ فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعاهد بين المسلمين واليهود، حتى تكتب في يثرب جيش الله الذي فتح الدنيا بفتح مكة!

ثم كان العالم كله بعد يوم الفتح مشرقاً لوحي الله وهدى الرسول، فطهره الإسلام من الأرستقراطية بالمساواة، ومن الرأسمالية بالزكاة؛ ثم علم الناس حكم الشورى، وألزمهم قضاء العدل، حتى أخرجهم من الوطنية المحدودة إلى الإنسانية المطلقة

ذالك يومان من أيام الرسول تضمنا أسرار نفسه ولخصا أطوار حياته. فهل تطمعون يا من تظنون أن الزعامة تجوز من غير صدق، والجهاد يفوز من غير صبر، والحياة تصلح من غير إيمان، أن تكون لكم في رسول الله أسوة حسنة؟

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الدين مصدر المدينة الفاضلة

لإمام المسلمين الأستاذ الأكبر

الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الجامع الأزهر

في هذا الوقت العصيب الذي يفرق الله فيه بين عهد وعهد، وبين نظام ونظام، تعود ذكرى الهجرة النبوية التي فرق الله بها بين الشرك والوحدانية، وبين الحيوانية والإنسانية، فتكون للقلوب المؤمنة هدى يزيل الضلال، وأملا يذهب اليأس

وذكرى الهجرة هي ذكرى ما لقيت دعوة الحق من كيد الباطل، وما أدركت بالصدق والصبر من نصر الله؛ إذ لم تكد تشرق من غار حراء حتى استخفت في دار الأرقم، ثم لجأت إلى غار ثور وقد طاردها الظلم من كل سبيل، وهاجمها الكفر من كل جانب. وهناك أراد الله سبحانه وتعالى أن تدرك قدرته كلمته فطمس عين الباطل فلم ير، وزلزل قدم الشرك فلم يلحق، ومكن لرسالته أن تشرق في الأبصار والبصائر، فاهتدى من حار ورشد من غوى وقوى من ضعف وعز من ذل. ذلك لأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وقد (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً). ثم صدقهم الله وعده، فجعلهم وراثاً للأرض، وخلفاء على الناس، ووطد لدولتهم الملك، وأسعد بمدنيتهم العالم، حتى نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واستجرّوا للهوى فأخضعهم لغيرهم، وتركوا الجادة وسلكوا البينات فضلوا آثار السلف، وغفلوا عن تطور الزمان، وقصروا في اتخاذ العدة، حتى تمزقت وحدتهم، وضاعت هيبتهم، وأصبحوا أتباعاً وأوزاعاً، يقضي عليهم ولا يقضون، ويمضي لهم ولا يمضون

(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون)؟

لقد تحدث بعض الذين مكنتهم القوة المادية من السلطان عن نظام جديد للعالم يكفل له السلام والعدل؛ ومثل هذا النظام لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الدين؛ فقد دلت تجارب

ص: 4

الماضي الطويل أن نظم الإنسان لا تبرأ من النقص لإعواز الكمال فيه وغلبة الهوى عليه. وإذا استحال على العالم كله اعتناق مدنية دينية واحدة، لأن الله لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة، فإن المسلمين أولى الشعوب بالمبادرة إلى هذه المدنية الفاضلة، لأنهم مدينون لدين الله بسلطانهم الذي طبق الأرض، وعمرانهم الذي جمل الدنيا، وشريعتهم التي نظمت فوضى الطبيعة،؛ ولولا الدين ما كان لهم علم ولا حكم ولا حضارة

ولعل الذين استهوتهم مدنية الغرب من الشرقيين فقلدوها تقليد التابع الذليل، قد أدركوا اليوم بعد أن زيفتها التجارب وكشفتها الأحداث وحكم عليها أهلها، أن الرجوع إلى مدنيتهم أحق، واقتباس النافع من حضارة الغرب أولى، وإنشاء مدنية فاضلة مستقلة تقوم على الدين الصحيح والأخلاق القويمة والتقاليد الصالحة، هو الأشبه بأبناء الذين ورثوا مدنيات الشعوب وثقافات الأمم، ثم أجروها على دستور القرآن، ووسموها بطابع العرب، حتى جعلوها مدنيتهم الخاصة، إليهم تعزى وعنهم تؤخذ

اسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهم المسلمين الصواب، ويسدد خطاهم في طريق الحق، ويهيئ لهم من أمرهم رشداً

محمد مصطفى المراغي

ص: 5

‌أدين قتال هو؟

للأستاذ عباس محمود العقاد

من المطاعن التي وجهها أعداء الإسلام إليه أنه دين سيف وليس بدين إقناع: يريدون بذلك أنه لا يقنع الأمم التي دعيت إليه لولا الغزو والإكراه بقوة السلاح

ولتمحيص هذا القول الذي يقال ويعاد في كل زمان نقرر هنا بعض الحقائق التي يسلمها المنصف ولا ينكرها إلا المكابر، لنثبت أن الإسلام شأنه في استخدام القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحاً للانتصار

(فالحقيقة الأولى) أن هذا المطعن لو صدق لوجب أن يصدق في بداية عهد الإسلام الذي دان فيه بهذا الدين كثير من العرب المشركين ولولاهم لما كان له جند وى حمل في سبيله سلاح

لكن الواقع أن الإسلام في بداية عهده كان هو المعتدَى عليه ولم يكن من قبله اعتداء على أحد، وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية واجتماع القوم حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك:(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)

وكانوا يحاربون من لا يؤمن عهده ولا يتقي شره بالحلف والمسالمة: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)

وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أمروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة؛ فلم يكن منهم قط عدوان ولا إكراه

وحروب النبي عليه السلام كلها حروب دفاع، ولم تكن منها حروب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان من نكث العهد والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم

(والحقيقة الثانية) أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع

ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف (سلطة) تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه

ص: 6

لأن السلطة تزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة، ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، بل كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه

وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها لأنهم أصحاب (السلطة) التي تأبى العقائد الجديدة، وتبين بالتجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء، لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كانت تمنع العوائق التي تصد الدعوة الإسلامية فيمتنع القتال

ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب؛ ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة أمثاله في سائر البلاد

فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة، ولا بد من التمييز بين العملين لأنهما جد مختلفين

(والحقيقة الثالثة) أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها

فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟

وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)

والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها بماذا تفض الخلاف بينهم إن لم تفضه بقوة السلطان؟

وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضاً حيث جاء فيه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله.

ص: 7

فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)

وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح. ثم يأتي الصلح والتوفيق أو يأتي التفاهم بالرضى والاختيار.

(والحقيقة الرابعة) أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لابد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع

فاليهودية كانت كما يدل اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس، فكان أبناؤها يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم، فضلاً عن امتشاق الحسام، لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار

أما المسيحية فهي عنيت (أولاً) بالآداب والأخلاق ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة

وهي قد ظهرت (ثانياً) في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال

أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام، وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية

فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه

وآية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين، وأربت حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات. . .

(والحقيقة الخامسة) أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا عني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)

ص: 8

وجاء في القرآن الكريم: (فقاتلوا في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً)

وحدث فعلاً أن المسلمين فتحوا بلاداً غير بلاد العرب ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح

لكن هذه الفتوح لم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه واجتمعت له جنود تؤمن به وتقدم على الموت في سبيله

ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها

فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم، ووجب أن يكف الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسرها منهما إلى حماه

هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب

(والحقيقة السادسة) أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع

فقد أستقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم وكانت جميعا مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه

فإذا قيل أن المدعوين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم أقنعوا به متأخرين، وإن الإسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح

ومن نظر إلى الإقناع العقلي تساوى لديه ما يستميلك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة من ذرائع نشر الإسلام

ص: 9

فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول: كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ الحجة ولا يدفع عن عقيدته دفع العارف البصير

وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك: إلا أن يحال بينها وبين انتضائه أو تبطل عند أبنائها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها، وان الإسلام عقيدة ونظام، فهو من حيث العقيدة قد نشأ وتأسس قبل أن تكون له قوة، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في اخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه

عباس محمود العقاد

ص: 10

‌المنصور بن أبي عامر

للدكتور عبد الوهاب عزام

(مفخرة من مفاخر التاريخ العربي، ومثل من الهمة الطامحة،

والنفس الهمامة، والعزم الذي لا يفل)

- 1 -

ينتسب إلى قبيلة معافر إحدى قبائل اليمن. دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلسي في جند طارق بن زياد، وأقام بعد الفتح في الجزيرة الخضراء فكان له ولبنيه شأن؛ واتصل أبو عامر جد المنصور بالخلفاء في قرطبة، وعدت أسرة أبن عامر في أسر الوزراء. وكان أبو حفص والد المنصور متألهاً زاهداً، شغل بالحديث عن خدمة الخلفاء، ومات قافلاً من الحج فدفن بمدينة طرابلس. وأم المنصور من أسرة تميمية - أسرة بني برطال - ويقول القسطلي في المنصور:

تلاقت عليه من تميم ويعرب

شموس تلالا في العلا وبدور

من الحميريين الذين أكفّهم

سحائب تهمي بالندى وبحور

- 2 -

ونشأ محمد (المنصور) نجيباً، طماحاً، عظيم الهمة، كبير القلب. أثر عنه أيام طلبه العلم بقرطبة نوادر تنبئ باعتداده بنفسه واستشراقه للمعالي. يقول محمد بن أسحق التميمي:

كان محمد بن أبي عامر نازلاً عندي في حجرة فوق بيتي، فدخلت عليه في بعض الليالي في آخر الليل، فوجدته قاعدا على الحال التي تركته عليها أول الليل حين فصلت عنه؛ فقلت له: ما أراك نمت الليلة. قال: لا. قلت: فما أسهرك؟ قال: فكرة عجيبة. قلت: في ماذا كنت تفكر؟ قال: فكرت إذا أفضى إلى الأمر ومات محمد بن بشير القاضي، بمن أستبدله، ومن الذي يقوم مقامه؟ فجلت الأندلس كلها بخاطري، فلم أجد إلا رجلاً واحداً. فقلت: لعله محمد بن السليم. قال: هو والله، لشد ما اتفق خاطري وخاطرك)

وكذلك رشحته للمعالي نفسه العظيمة وآماله الكبيرة، والمرء حيث يضع نفسه

- 3 -

ص: 11

صار محمد من أعوان قاضي قرطبة محمد بن السليم، ثم تقلب في القضاء، وجعل وكيلاً لعبد الرحمن ابن الخليفة المستنصر وأمه. ولما مات عبد الرحمن، جعل وكيلاً لأخيه هشام، ورتب له خمسة عشر ديناراً كل شهر

وعرف الخليفة قدر الرجل، فكان يندبه فيما يعضل من الأمور، ثم ولاه الشرطة الوسطى. ولم يأل ابن أبي عامر جهداً في التقرب من هشام وأمه صبح، وكانت ذات مكانة عند الخليفة

وعهد الخليفة إلى ابنه هشام فحرص أبن أبي عامر على أن يحتفظ لهشام بولاية العهد، ثم الخلافة بعد أبيه، على كثرة ما أجتهد الصقالبة في تولية المغيرة بن عبد الرحمن الناصر عم هشام

وتولى قيادة الجيش إلى غزوة نكص عنها كبراء الدولة، ورجع منها مظفرا فزاد هيبة ومكانة. ثم ولي شرطة قرطبة فسيطرت على المدينة هيبته وعدله. فأمن الأخيار وسكن الأشرار

يقول صاحب البيان المغرب:

(فضبط محمد المدينة ضبطاً أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو. فكشف الله عنهم بمحمد أبن أبي عامر وكفايته وتنزهه؛ فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى أرتفع البأس وأمن الناس. وأمنت عادية المتجرمين من رجال السلطان حتى لقد عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجله جلداً مبرحاً كان فيه حمامه. فانقطع الشر جملة)

ولما رجع من غزاته الثالثة ظافراً رفعه الخليفة إلى الوزارة وجعل راتبه ثمانين ديناراً وهو راتب الحجابة، ثم شارك أبا جعفر الحاجب ثم أستبد بالحجابة عام سبعة وستين وثلاثمائة؛ فقد بلغ أرفع مناصب الدولة

- 4 -

سيطر أبن أبي عامر سبعة وعشرين عاماً على الأندلس كلها فصرف أمورها في الحرب

ص: 12

والسلم كما يشاء، ولم تجتمع أمور الأندلس في يد واحدة قادرة إلا يد عبد الرحمن الناصر ويد المنصور أبن أبي عامر. أما الناصر فقد ورث ملكا ثبته رأيه وعزمه ومضاؤه وإقدامه، وأما أبن أبي عامر فقد رفع إلى السلطان نفس طماحة وعزيمة ماضية وخلق مريم. ولم تكن هيبته في نفوس أعداء الأندلس دون هيبته في الأندلس، فقد أولع بالغزو وانتدب للجهاد فغزا خمسين غزوة في شمالي الأندلس، لم تنكس له راية، ولا بعدت عليه غاية، حتى بلغ (شنت ياقوب) في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، وما طمع أحد من المسلمين قبله أن تنال همته هذا المكان القصي. لقد صدق صاحب البيان حين قال:(ثم أنفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟ فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه فانقاد له وساعده. فاستقام أمره منفرداً بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما أنصرف عن موطن إلا قاهراً غالباً على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم؛ وإنها لخاصة ما أحسبه يشركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده وتمكن جنوده، سعة جوده، وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان)

- 5 -

وكان المنصور عادلاً شديداً في الحق لا تأخذه فيه محاباة ولا شفقة، ولا يعرف في إنفاذ الحق هوادة: (جاء إلى مجلسه رجل فناداه يا ناصر الحق لي مظلمة عند هذا الفتى - وأشار إلى أحد فتيانه - وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت. قال المنصور: اذكر مظلمتك، ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية. وقال للفتى: أنزل صاغراً وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك. وقال لصاحب الشرطة: خذ بيد هذا الظالم الفاسق وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم ينفذ

عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق)

ولما عاد الرجل المتظلم إلى المنصور يشكره قال له: (قد انتصفت أنت فاذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي). وعاقب الفتى وعزله

ما ثبت سلطان هذا الرجل الطماح المتسلط المقدام إلا بهذا العماد من العدل والإنصاف

ص: 13

وإيثار الحق على نفسه وخاصته

وكان له فصاد فاحتاج إليه يوماً فقيل له إنه في حبس القاضي لحيف كان منه على امرأته. فأمر المنصور بإخراجه مع رقيب من رقباء السجن ليفصده ثم يعود إلى محبسه. وشكا الرجل إلى المنصور ما ناله من القاضي فقال: (يا محمد أنه القاضي! وهو في عدله. ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع عنه. عد إلى محبسك أو أعترف بالحق فإنه هو الذي يطلقك)

فمن يسأل عن ملك العرب والمسلمين كيف ثبت هذه الحقب الطويلة على أعاصير الخطوب ففي هذا وأمثاله جواب

- 6 -

وكان على كثرة مشاغله ذا عناية بالأدب والعلم يجتمع العلماء والأدباء كل أسبوع ويتناظرون في حضرته، ويمدحه الشعراء

وكان رحمه الله دّيناً متألها ورعاً كتب بيده مصحفاً كان يحمله في أسفاره. وجمع ما علق بثيابه من غبار الحرب وأوصى أن يجعل في حنوطه إذا مات، كما فعل أمير العرب ابن حمدان من قبله: صنع من غبار الوقائع لبنة لتوضع في قبره تحت رأسه وأتخذ المنصور كفنه من مال موروث من أبيه ومن غزل بناته اتقاء للشبهة، وتورعا أن يكون في أكفانه مال يرتاب فيه.

- 7 -

توفى المنصور سنة ثلاث وسبعين وتسعين وثلاثماية غازياً بمدينة سالم في أقصى الثغور الأندلسية ففرح أعداؤه بموته وصوروا جنازته ولا تزال صور الجنازة في متاحف أوربة

رحم الله المنصور بن أبي عامر! إن في سيرته لقدوة حسنة لكل طامح يسمو بنفسه إلى الدرجات العلى في المنصب والدين والخلق.

رحم الله المنصور! إن في سيرته لحجة يوم نفاخر بتاريخ العرب والإسلام

عبد الوهاب عزام

ص: 14

‌فتح مصر

كما صوره الأديب المجهول

للدكتور زكي مبارك

دخل العرب مصر يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين لهجرة الرسول، على خلاف في ذلك لا يغير الجوهر من موضوع هذا الحديث

ولم تكن مصر بعيدة عن أذهان العرب في الجاهلية، فقد تحدث القرآن عن أخبار مصر بإفاضة وإطناب، ذلك يشهد بأن العرب كانوا يسايرون ما يقع في مصر من حوادث وتقلبات، ومن هنا كانت الحكمة العالية في عناية القرآن بالتحدث عن مصر وملوك مصر وهو يدعو إلى الاعتبار بمصاير الجبابرة والظالمين

كان العرب يعرفون مصر قبل الفتح، وكانوا ينزحون إليها من وقت إلى وقت، طلباً للغنى والثراء. ومن شواهد ذلك شدة القرب بين اللغة العربية واللغة المصرية، وهو قرب يؤيده الاتحاد في ألفاظ كثيرة تعد بالمئات، ألفاظ نطق بها العرب والمصريون مع تشابه في الجرس والمدلول، وذلك لا يقع بين أمتين عن طريق المصادفات، وإنما هو برهان على قوة التعارف فيما غبر من عهود التاريخ.

والحق أن الفترة التي سبقت ظهور الإسلام كانت من مواسم اليقظة العربية، فكانت للعرب سفراء من التجار بأكثر البلاد التي فتحت في أيام الخلفاء، ولا سيما مصر والشام، فمن العسير أن نصدق أن مصر لم تخطر في بال العرب إلا قبيل سنة عشرين وكانوا يعرفون في جاهليتهم أنها أعظم مصادر الخيرات والثمرات، وأنها الطريق إلى أفريقيا الشمالية، وبأفريقيا الشمالية أقطار تسامع بها العرب ودخلت في أساطيرهم قبل الإسلام بأزمان

أقول هذا - وهو حق - لأثبت أن ما سطر التاريخ من أخبار فتح مصر لم يكن إلا من صنع الأديب المجهول، فمن هو ذلك الأديب؟

في الأدب العربي عشرات أو مئات الأدباء المجهولين، فالذي سطر خطب وفود العرب على كسرى أديب مجهول، والذي دون مشاورة المهدي لأهل بيته أديب مجهول، والذي ألف رسالة الطير والحيوان بين رسائل إخوان الصفاء أديب مجهول، والذي حرر المساجلة بين المقوقس وعبادة بن الصامت يوم حصار حصن بابليون أديب مجهول، فماذا صنع هذا

ص: 15

الأديب؟

يجب أولا أن نفهم أن العرب لم يدونوا أخبار الفتوحات يوماً بيوم، كما يصنع الناس في هذا العهد. فقد كان العرب محمومين بالقتال والصيال، وهل دونوا القرآن إلا بعد الخوف عليه حتى يهتموا بتدوين أخبار الفتوحات؟

إذا فهمنا هذا أدركنا بسهولة أن من دون من أخبار فتح مصر لم يكن إلا صورة من التاريخ المزخرف، وهو تاريخ يمثل عقل الكاتب أكثر مما يصور الواقع، وإلا فكيف جاز أن يتفق عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص على خطاب يتلقاه عمرو في الطريق وفيه هذه الكلمات:(إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فأرجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك. . .)

ليس هذا خبراً من الأخبار، وإنما هو أقصوصة من الأقاصيص؛ فعمر بن الخطاب لا يسير جيشا لفتح مصر إلا وهو مصمم على ضم مصر إلى الممالك الإسلامية. وعمر بن العاص لا يدافع رسولا يحمل إليه خطاباً من أمير المؤمنين، كما تشاء (القصة) أن تقول لغرض شريف هو وصف عمر بالحذر، ووصف عمرو بالإقدام، وكذلك وصف عمر وعمرو في أكثر ما تحدث به القصاص، وهم أقطاب التاريخ المزخرف في شباب العصر الإسلامي

ثم أنتقل الأديب المجهول إلى وصف الحوار الذي دار حول حصن بابليون، وهو حوار ترى فيه المقوقس يتكلم اللغة العربية بفصاحة يصورها هذا التحذير الطريف:

(إنكم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فاعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء)

ثم يتلطف الأديب المجهول فيجعل رسول عمرو إلى المقوقس هو عبادة بن الصامت مع جماعة من الفرسان، فلأي غرض تخير عبادة لذلك اليوم المشهود؟

أنا أفترض أن الفن الأدبي هو الذي قضى بذلك التخير، فقد كان عبادة أسود، وكان العرب

ص: 16

يعيرون بالسواد، فلم يكن بد من قرن الشجاعة بالسواد ليصبح وهو من مزايا الرجال

المقوقس: كيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟

أصحاب عبادة: إنه وإن كان أسود، كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيا، وليس ينكر السواد فينا

المقوقس: تقدم يا أسود، وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك

عبادة: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سوادا مني

من هذا الحوار نفهم أن ذلك الأديب المجهول قد أتجه إلى الدفاع عن اللون الأسود، وهو لون كان يعير بع العرب في بلاط كسرى وبلاط قيصر، وشعور العرب بالتأذي من السواد هو الذي فرض على شعرائهم أن يكثروا من التغني بالبياض، وهم لم يجعلوا (البياض نصف الحسن) إلا لكثرة ما عيرهم الناس بالسواد، وهل كانت رسالة الجاحظ في تفضيل السود على البيض إلا دفعاً لما تأذى به العرب من أراجيف الشعوبية وهم قوم ألحوا في تعيير العرب بالسواد؟

أنا أفترض أن سواد عبادة له دخل في جعله رئيس القوم عند محاورة المقوقس وقد شجع عبادة وهو أسود، وجبن المقوقس وهو أبيض، ليظهر الأديب المجهول فضل الأخلاق على الألوان، إن لم أخطئ في هذا الافتراض

ولكن ما الغاية الأصيلة لذلك الحوار الجميل؟

هو حوار يصور الخصائص الإسلامية في أدب النفس، وينفي عن العرب تهمة القول بأنهم لم يفتحوا الممالك إلا حبا في المغانم الدنيوية

لهذا نرى الأديب المجهول ينطق رسل المقوقس إلى عمرو بهذه الكلمات:

(رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد)

فهذا كلام مصنوع قد أبتدعه ذلك الأديب المجهول ليصور شمائل المسلمين على ألسنة

ص: 17

رسل المقوقس، وإلا فكيف يمكن الحكم بأن هذا الكلام وقع بألفاظه ومعانيه، وما كان رسل المقوقس يتكلمون العربية، ولا كان الغزاة بقادرين على تسمع ما دار في مجلس المقوقس من وصف للعرب بتلك الأوصاف؟

والظاهر أن الأديب المجهول كان حريصاً على تأكيد هذه المعاني، فلم يكتف بإجرائها على ألسنة رسل المقوقس، وإنما أجراها بصورة أروع على لسان عبادة بن الصامت، إذ تصوره يقول وهو يحاور المقوقس:

(أنا قد وليت وأدبر شبابي، وأني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى وأقتصر على ما يبلغه، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبيه، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه)

ثم ترفق الأديب المجهول فأدار الحوار بأسلوب رشيق يجد القارئ تفاصيله في الجزء الأول من (النجوم الزاهرة) ويرى فيه ملامح من الحجاج الذي دار بين كسرى وأشياخ العرب يوم صاولهم وصاولوه في الصورة التي زخرفها أديب آخر مجهول

ومن الطريف أن نرى المقوقس يزين لأصحابه الصلح مع العرب بطريقة تشبه ما يسمى في هذا العصر (حجة دعاة التردد والهزيمة) فنفهم أن ذلك الأديب كان من أئمة الابتداع

المقوقس لأصحابه: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث أفوالله مالكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين

أصحاب المقوقس: وأي خصلة نجيبهم إليها

المقوقس: إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم

ص: 18

لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة (وهي دفع الجزية)

أصحاب المقوقس: فنكون لهم عبيداً أبداً؟

المقوقس: نعم تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خيراً لكم من أن تموتوا عن أخركم

أصحاب المقوقس: فالموت أهون علينا

وبهذا انقطع الأمل في الصلح، ودارت الحرب فاقتحم المسلمون الحصن، وانتهت الأمور إلى الخصلة الثالثة بعد أن أدى المصريون واجبهم في الدفاع عن بلادهم دفاعاً سلم من الخضوع لتخاذل المقوقس، وإن انتهى بالتسليم بعد احتدام نار القتال، والهزيمة في الحرب لا تغض من أقدار المحاربين، فالغالب والمغلوب في شرف الرجولة سواء

قد يعترض معترض فيقول: وهل تظن يوم الحصن خلا من مفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس حتى تحكم بأن ما دون من ذلك لم يكن إلا بدعا حبره أديب مجهول؟

وأجيب بأني واثق بأن المفاوضات دارت بين الفريقين، وإنما ارتاب في صحة الوثائق التي صورت بها تلك المفاوضات؛ لأنها أصغر مما يجب أن تكون، ولأنها أنطقت المقوقس وأصحابه بألفاظ صنعها كاتب فنان

ثم ماذا؟ ثم أهجم على خطاب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر الخطاب الذي يقول: (مصر قرية غبراء وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات) والذي يقول: (فبينما مصر يا أمير المؤمنين، لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء)

أهجم على هذا الخطاب فأحكم بأنه موضوع لأني أستبعد صدوره عن عمر بن العاص، لأني أراه عبث عابث، لا كلام رجل مسئول

أما بعد فقد كان أسلافنا يقولون في ختام كل بحث: (والله أعلم) فأنا أختم هذا البحث بعبارة (والله أعلم) تأدباً بأدب السلف وفراراً من وصمة الرجم بالغيب

كتب الله لنا النجاة من الخطأ وهدانا إلى الصواب، إنه قريب مجيب

زكي مبارك

ص: 19

‌اثر الهجرة في التشريع الإسلامي

للأستاذ محمد محمد المدني

في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عبر عظمى ما تزال الأقلام والأفكار جاهدة في كشفها، والبحث عنها، وتجلية أسرارها

ومن هذه العبر التي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون وينتفعوا بها، ما نجعله اليوم مساق الحديث وموضوع المقال

كان للهجرة في التشريع الإسلامي أثر معروف مذكور، ولهذا الأثر ناحية دلالة وإرشاد، ربما كان القول فيها جديداً، والبحث عنها مفيداً

فأما الأثر المعروف المذكور، فهو أن القرآن الكريم ظل ينزل بمكة ثلاثة عشر عاماً لا يعرض فيها إلا إلى أصول الدين، وقواعد الأيمان، وبرهان التوحيد، ومحاسن الأخلاق، يريد بذلك أن يقتلع ما كان للعرب من العقائد الفاسدة، والأخلاق المستنكرة، ويزيل ما في نفوسهم من شبه في إرسال هذا الرسول إليهم على فترة من الرسل، وظلام من الشرك، وإغراق في الجهل، وجمود على تقليد الآباء والأجداد ولو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون!

ولا يكاد يعرف أن القرآن الكريم عني في هذه الفترة إلا بهذه الناحية يضرب لها الأمثال، ويقص لها القصص، ويحشد لها الآيات البينات، فإذا عني بغيرها فإنما يعني بما كان من سبيلها من التشريع الذي له صلة بحماية العقيدة والحفاظ على أساس الدعوة

فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعل القرآن ينزل بياناً للعبادات والمعاملات والنظم وأحوال الناس، وجعلت آياته تترى في تشريع كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة من المواريث والوصايا والزواج والطلاق والقضاء والجنايات والحدود والجهاد وغير ذلك

هذه السياسة التي ساس بها القرآن أمر الإسلام في مكة والمدينة، وأخذ بها المسلمين في سبيل التمكين لهم، والتثبيت لسلطان دينهم، سياسة ظاهرة الرشاد، مضمونة النجاح، متفقة مع نظام التدرج الطبيعي الذي أخذ الله به جميع الكائنات فما كان الله ليدع الناس فيما هم عليه من رجس وعبادة أوثان وتقاطع وتدابر وحروب وفتن وسفك دماء، ثم يدعوهم فجأة

ص: 21

إلى النظام المطلق الشامل، وقد ألفوا الفوضى، ويأخذهم بالتشريع المحكم المفصل، وقد عاشوا في كفالة الأهواء والشهوات، ويتعبدهم بأنواع من العبادات فيها سمو وفيها تهذيب، وهم الذين كانوا في مراتع الغي يسيمون!

ذلك هو المعروف المذكور من أثر الهجرة في التشريع الإسلامي: أما موطن العبرة فيه، وناحية الإرشاد والدلالة منه، فهي أنه يحسن بنا، ونحن بصدد الدعوة إلى أن يكون التشريع الإسلامي أساساً للقانون العام في مصر والشرق، أن نطبق هذه السياسة الرشيدة التي ساس لها القرآن أمر المسلمين الأولين، لنضمن نجاح هذا المسعى الشريف، وليعود ذلك على الإسلام بالعزة والقوة!

إن أهم ما يعترض هذا المسعى، ويقف في سبيل تنفيذ هذه الفكرة ما يتخيله كثير من الذين بيدهم الحول والطول، وتحت إشرافهم مراكز المال والاقتصاد، وفي عهدتهم حراسة الأمن والطمأنينة في الدولة، وبث أسباب الرغد والرفاهية في الأمة من أن في الأخذ بالشريعة الإسلامية الآن إعناتاً للناس وإرهاقاً، وشلاً لحركات التعامل التي أصبحت جزءاً من النظم العامة في العالم كله، وتنفيراً للأجانب من الإقامة بيننا، ونحن أحوج ما نكون إلى التعاون معهم، والانتفاع بنشاطهم، وما يديرون بيننا من أموالهم!

يقول هؤلاء للذين يطالبون بالتشريع الإسلامي: ماذا تصنعون في هذه المصارف التي انبثت في صميم الحياة المالية، وأصبحت في سائر الدول أساساً من أسس الاقتصاد ولا يستغني عنه تاجر، ولا زارع، ولا موظف، ولا صاحب مال؟ وماذا تصنعون في هذه الشركات التي فتح الله بها للصناع أبواباً من الرزق، وجعل منها للأموال الراكدة حظاً من الربح، وسد بها حاجة بعد حاجة مما لا يستغني عنه الناس؟ لاشك أنكم ستضطرون إذا بسطتم سلطان الشريعة الإسلامية إلى إغلاق هذه المصارف، وفظ هذه الشركات، التي تتصرف تصرفاً لا يتفق وأراء الفقهاء، فإذا لم تغلقوا المصارف ولم تفضوا الشركات، أرهقتموها بالشروط والنظم التي توافق شريعتكم إرهاقاً لا تستطيع معه الحياة، ولا أداء ما تؤديه إلى الناس من خدمات!

ثم كيف تنفذون الحدود؟ كيف ترجمون الزاني، وتقطعون السارق، وتقتصون من عين بعين، ومن سن بسن؟ بينما العالم ناظر إليكم، متعجب من هذه العقوبات الصارمة تنزلونها

ص: 22

على الجناة بلا رحمة ولا شفقة في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار المصلحين إلى مداواة الإجرام، بإصلاح نفوس المجرمين، وإلى اقتلاع أسباب الشر، بتهذيب الأشرار في غير عنف ولا تغليظ؟

ومتى نصبر على سياط الجلاد أجسام غذيت بالنعيم، ونشئت على الرفاهية وعاشت في عصر الطب والكهرباء والمدافيء والمراوح بين مروج الحدائق، ومتاع القصور؟

ومتى يعيش معكم أجنبي إن لم تنفذوا الحد فيه نفذتموه في صديق له أو جار أو عميل، فإذا هو يلقاه بيد مبتورة، أو عين مفقوءة، أو سن كسير؟

هكذا يقوا الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم! وهم من غير شك مخطئون، لأن الشريعة الإسلامية تستطيع أن تنظم أحوال المصارف والشركات بما لا يتنافى مع قواعدها، ولا يرهق القائمين بها، ولا المتعاملين فيها

وهم مخطئون فيما تخيلوه من أمر الحدود والقصاص، فإن هذه الأشياء التي اعترضوا بها هي الوسيلة إلى اقتلاع الإجرام من أساسه، واجتثاث الفساد من أصوله، وتوفير الجهود العظيمة التي تذهب سدى في مكافحة الإجرام والمجرمين!

وهم مخطئون لأنهم حين يظهرون بهذا المظهر الذي يفيض رحمة وشفقة بالمجرمين وأهل الفساد، ويتناسون إجرامهم وفسادهم وما أساءوا به إلى الآمنين!

وهم مخطئون لأنهم حين يذكرون اتجاه المدنية الحديثة إلى تهذيب الجناة وإصلاح نفوسهم بالرفق واللين، ينسون اتجاه بعض الأمم إلى إعدام المجرمين، وأصحاب الشذوذ، والمصابين بالإمراض التي لا يرجى لها شفاء، رفقاً بالأمة في مجموعها وصيانة لها كما يصان الجسم ببتر بعض أعضائه الفاسدة التي لا يرجى لها صلاح!

هم مخطئون لهذا كله، ولكنهم لا يقتنعون بخطئهم، ولا يرجعون عن غيهم، ومن العبث أن ننفق الوقت والجهود في سبيل إقناعهم وما هم بمقنعين، ونحن لا نستطيع أن نمضي في طريقنا، ونغض النظر عنهم، لأن هؤلاء - كما قدمنا - لهم أثر لا ينكر في توجيه سياسة البلاد، ولهم قوة وسلطان يستطيعون بهما إقامة العراقيل، ووضع العقبات في سبيل كل مشروع لا يرضون عنه، ولا يقتنعون به

فما هي الحيلة التي ينبغي أن نتوسل بها إذن إلى تنفيذ هذه الفكرة الجليلة، فكرة إحلال

ص: 23

التشريع الإسلامي محل التشريعات الوضعية؟

إن أثر الهجرة في التشريع الإسلامي يوحي إلينا بهذه الحيلة، ويرشدنا إلى هذه الوسيلة، فما دام الله القادر العليم الحكيم قد أرتضى للمسلمين أن يعيشوا حيناً من الدهر موقناً بدون تشريع تفصيلي شامل، لأن المصلحة كانت يومئذ تبرر ذلك، وما دام هذا لم يؤثر في اطراد تقدم المسلمين ونجاح دعوتهم، فيحسن بنا أيضاً وقد عاد الدين غريباً كما بدأ، أن ننادي بتنفيذ ما ليس بيننا وبين أحد خلاف عليه ونؤجل تنفيذ ما فيه الخلاف، حتى إذا اقتنع الناس فيما بعد بما لم يقتنعوا به اليوم مضينا في تنفيذه أيضاً، وإلا صبرنا حتى نهيئ لذلك العقول والأفكار

ينبغي أن نقول لهؤلاء الذين يحاجوننا عن دعوتنا: سنترك لكم المصارف والشركات تسير على النظام الذي شرعتم لها حتى نستطيع إقناعكم بنظام أفضل منه يتمشى مع التشريع الإسلامي وينهض بحاجات الأمة، وسنترك تنفيذ هذه العقوبات التي ترونها صارمة منافية للرحمة حتى نقنعكم يوماً بخطأ فكرتكم، وفساد تخيلكم، وسننفذ ما نحن وأنتم عليه متفقون؛ فقد رضى الله مثل ذلك للمسلمين من قبل. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ولنتعاون جميعاً على جعل التشريع الإسلامي أساساً لما نشرع بعد اليوم من قانون أو نضع من نظام!

إن الشريعة الإسلامية لا تأبى مثل ذلك، وقد أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذ القطع في عام المجاعة، وأخذ بذلك أحمد بن حنبل والأوزاعي. وقد روى في سنن أبى داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وروى صاحب أعلام الموقعين أن عمر رضى الله عنه كتب إلى الناس:(أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار)

وفي كل هذا توسيع على المسلمين وإرشاد لهم إلى رعاية المصالح وتقرير الظروف والأحوال؛ ولا شك أن من مصلحة الإسلام الآن أن نأخذ في تشريعنا الحاضر بما نستطيع أن ننفذه من أحكامه، على أن نوقف ما لا يمكن تنفيذه حتى يهيئ الله للمسلمين من أمرهم رشداً

هذه فكرتي، ولعلي أكون قد جليتها وأوضحتها حتى لا أثير بها ثائرة الذين يحرفون الكلم

ص: 24

عن مواضعه، ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

ص: 25

‌طارق بن زياد

من شاطئ إلى شاطئ

للأستاذ علي محمود طه

أشباحُ جِنٍّ فوق صدرِ الماءِ

تهفو بأجنحةٍ من الظلماءِ؟

أم تلك عُقبَان السماءِ وَثَبْنَ من

قُنَنِ الجبالِ على الْخضمِّ النائي

لا، بل سفينٌ لحْنَ تحت لواءِ

لمن السفينُ تُرَى! وأيُّ لواءِ؟

ومَن الفتى الجَّبارُ تحت شراعها

متربِّصا بالموج والأنواءِ؟

يُعلى بقبضتِه حمائلَ سيفهِ

ويضمُّ تحت الليل فضلَ رداءِ

ويُنيلُ ضوَء النجم عاليَ جبهةٍ

من وَسْمِ (إفريقيَّة) السمراء

ذَهَبٌ ببوتقةِ السَّنى من ذَوْبِه

مَسَحَتْ مُحَيَّاهُ يَدُ الصحراء

لونٌ جَلَتْ فيِه الصحارى سحرَها

تحت النجوم الغُرّ والأنداء

وسماءِ بحرٍ ما تطامنَ موجُهُ

من قبلُ لأبنِ الواحةِ العذراء

بحرٌ أساطيلُ الخيالِ شطوطهُ

ومسابُح الإلهامِ والإيحاء

ومدائنٌ سحريةٌ شارَفْنَهُ

بنخيلها وضفافِها الخضراء

ومعابِدٌ شُمٌّ، وآلهةٌ على

سُفُنٍ ذواهبَ بينهنَّ جوائي

أبطالُ يونان على أمواجه

يطوون كلَّ مفازةٍ وفضاء

يتجاذبون الغارَ تحت سمائهِ

يتناشدون ملاحمَ الشعراء

ما زالَ يرمي الرُّومَ وهو سليلُهم

ويُديلُ من (قرطاجة) العصماء

حتى طَلَعْتَ به فكنتَ حديثَه

عجباً! وَأيَّ عجائبِ الأنباء

ويسائلونَ بك البروقَ لوامعاً

والموجَ في الأزبادِ والإرغاء

من علَّم البَدوِيَّ نّشْرَ شراعِهِ

وهداهُ للإبحارِ والإرساء!

أين القفارُ من البحارِ؟ وأين من

جِنَّ الجبالِ عرائسُ الدأماء

يا ابن الِقبابِ الحمرِ ويحك! من رمَى

بكَ فوق هذى اللجَّةِ الزرقاء؟

تغزو بعينيك الفضاَء وخَلْفَهُ

أفقٌ من الأحلامِ والأضواء

جُزُرٌ مُنَوَّرَةُ الثغورِ كأنها

قطراتُ ضوء في حفافِ إناء

ص: 26

والشرقُ من بُعْدٍ حقيقةُ عالَمٍ

والغربُ قُرْبٍ خيالةُ رائي

ضحكتْ بصفحتهِ المنى وتراقصتْ

أطيافُ هذى الجنةِ الفيحاء

ووثبتَ فوق مروجها وتلمَّستْ

كفاكَ قلباً ثائرَ الأهواء

فكأنما لكَ في ذَراها مُوعِدٌ

ضَرَبَتْهُ أندلُسيةٌ للقاء!

ووقفتَ والفتيانُ حولك وانبرتْ

لكَ صيحةٌ مرهوبةُ الأصداء

هذى الجزيرةُ إن جهلتم أمرَها

أنتمْ بها رهطٌ من الغرباء

البحرُ خلفي والعدوُّ إزائي

ضاع الطريق إلى السفين ورائي

. . . وتلفتوا فإِذا الخصمُّ سحابةٌ

حمراءُ مُطْبِقَةٌ على الأرجاء

قد أحرقَ الربَّانُ كلَّ سفينةِ

من خلفِه إلاّ شراعَ رجاء!

ألقى عليهِ الفجرُ خيطَ أشعةٍ

بيضاَء فوق الصخرة الشمَّاء

واتى النهارُ وسار فيه طارقٌ

يبنِي لملكِ الشرق أيَّ بناء

حتى إذا عَبَرَتْ لَيَالٍ طوفت

أحلامُه بالبحر ذاتَ مساء

ترعى على الأفُقِ المرصَّع قريةً

أعْظِمْ بها للغزوِ من ميناء!

مَدَّ المساء لها على خلجانها

ظِلا فنامتْ فوق صدور الماءِ!

على محمود طه

ص: 27

‌العقيدة الإسلامية تكون البطولة

عمر المختار

للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي

دخلت الهزيمة على الطليان من أقطار الصحراء، فأمعنوا في الفرار لا يتلبثون ولا يستأنون. . . لا ينتظرون عند المساء صباحاً، ولا عند الصباح مساءً، كأنما يغزوهم الرعب، ويقتلهم الخوف، من قبل أن تدهمهم الجيوش، ومن قبل أن يحاط بهم

كلما طلع نهار أو غسق ليل، تتابع الصور الشاحبة لتلك الهزيمة النكراء، وفي أعقابها ألمح صوراً مشرقة لأبطال (طرابلس) ومن بينها صورة فريدة تتألق أمام عيني في هالة من الجلال والتهيب، تلك هي صورة البطل المسلم الشهيد (عمر المختار) ومن عجب أن تتلاحق الصورتان: صورة الهزيمة النكراء، وصورة الشجاعة البلقاء!

هذه صورة للأفئدة الهواء، وتلك صورة للأحلام الرزان، وللنفوس الوثابة مطمئنة راضية مرضية

تباركت يا الله!! تجلت آيتك الكبرى في هذا البطل المسلم الصحراوي، فقد أفرغت عليه إيماناً من فرعه إلى قدمه، فإذا هو وقد خرج صورة مجسدة للعقيدة الإسلامية، يضرب للناس أروع الأمثال: من همامة نفس وقوة بأس، لا يحدث نفسه بالأدباء، ولا يفسد مروءته بعرض زائل، ولا ينتفض رجولته بقبول الهضيمة والهوان

في شوال من عام 1329هـ اندفعت القذائف (الطليانية) الغادرة، مصوبة إلى طرابلس وبرقة، فكانت مؤذنة بتوقد جذوة الإيمان في قلوب المجاهدين؛ ومن بينهم عمر المختار

ولم يكن لهم من العتاد ولا من الذخر ولا من الحشد ما اجتمع لأولئك الغادرين، ولكن كان لهم شأن واحد أغناهم عن كل أولئك الشئون. . . كان لهم أيمان، وكانت لهم عقيدة، ولم يكن لهم أهواء، ولا بهم نزوات. . . وحسبك هذا غناء أي غناء. . .! فلقد بقى عمر المختار يفل شوكة أعدائه، ويقلم أظفارهم، ويتخطفهم من حولهم، ويكسر سلطانهم، حتى كانت سنة خمسين وثلاثمائة وألف الهجرية!

اثنتان وعشرون سنة دأباً، وعمر لا تخضد شوكته، ولا تفل عزيمته، تتكسر الأحداث أمام يقينه وإيمانه

ص: 28

وما خطبه بعد ذلك؟ - نضر الله وجهه - امتدت يد غادرة من وراء ظهره، فعبثت بحريته، ثم عبثت بحياته الدنيا، لكنها - الحق - قد أطلقت روحه إلى أعلى عليين، فإذا موته حياة، وإذ ذكره خلود، وإذا سيرته سناء. . .

ويا فرق ما بين ثبات الأعزاء، وبين فرار هؤلاء الأذلاء، وبضدها تتميز الأشياء

نشأ (عمر المختار) ببرقه، من أبوين مسلمين، لقناه العقيدة الإسلامية، وثقفاه بالقرآن الحكيم، ونشأه أبوه (المختار) في زاوية (الجغبوب) في البيئة السنوسية، تلك البيئة التي تلهم النفس فجورها وتقواها، وتفقهها أن قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، ثم تبعث في الإنسان: حرية الإرادة وحرية الفكر، وسلامة الرأي وصفاء الطوية؛ وقلما ينحرف ربيب تلك البيئة عن الفطرة النقية: فطرة الله التي فطر الناس عليها

فلما بلغ (عمر) أشده واستوى، اكتملت فيه معاني الرجولة، وبرزت صورته صورة (للرجل الكامل المسلم)

اختاره - في صدر شبابه - (السيد المهدي السنوسي) ليرافقه في رحلة إلى السودان، وكانت فراسة السيد المهدي فراسة صادقة، فقد اجتمع حول (عمر) بالسودان رجال أولو بأس وأولو قوة، عرفوه بالحاسة الصادقة، وعرفهم بنور الله؛ ثم أحبوه وأكبروه وأعظموه

والسيد المهدي معنى بأمره، معجب بإيمانه، يرى أنه قد جمع - في برديه - ما تفرق من القبيل وتناثر في الرجال، فكان يقول: ليت لنا عشرة كعمر، إذن لفتحنا بهم كل قلب موصد، وأنرنا كل بصيرة مطموسة. .! ثم تركه في السودان يعلم الناس الرجولة الإسلامية

عقد الصلح الأبتر بين تركيا القديمة وبين الطليان سنة 1912م واشتعلت نيران الحرب في البلقان، واستقدمت الدولة (أنور) فسلم الآمر (لعزيز) المصري، وهم (عزيز) أن يدع القتال وأن يذهب إلى الحدود المصرية، فتحرج الموقف، وثارت روح عاصفة عنيفة بين المجاهدين؛ وأخذ كل فريق يكافح الفريق الآخر، وتمشت فتنة عمياء صماء، وكاد المجاهدون يخربون بيوتهم بأيديهم

وهنا تتدارك الجميع رحمة الله، ويظهر الفيصل المغوار (عمر المختار) فيطفئ نيران الشر، ويجدع أنف الفتنة، ويهيب بالمختلفين: يا للفضيحة ويا للعار. . .! لو تسامعت الأمم: أن المجاهدين قد أصبحوا - وبأسهم بينهم شديد - تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى

ص: 29

دوت تلك الصرخات في شعاب الصحراء، وفعلت في النفوس كما يفعل السحر، ونزل الثائرون على حكم (عمر)؛ عزمهم جميع وقبلتهم واحدة

وهكذا يكتب لهذا البطل الظفر على نوازع النفوس، وينبسط سلطانه على نزوات القلوب، ويستل السخائم والترات بهدى الدين، وبترياق الإخلاص

أحصى الرواة (لعمر) ألف معركة أشتبك فيها مع الطليان في اثنتين وعشرين سنة، وهو يتعقبهم، وهم يحتالون لأمره، ويتحيرون في القضاء عليه، ويستبدلون القائد بالقائد، وعمر وحده هو القائد الصامد، حتى ظنوا - آخر المطاف - أنهم قد رموه بالداهية الدهياء (بجرازياني)

ويتحدث جرازياني في مذكراته: أنه قد نازل عمر في ثلاث وستين ومائتي معركة، كانت مدتها عشرين شهرا وعمر - كما وصفه شوقي -:

لم تُبق منه رحى الوقائع أعظماً

تبلى، ولم تبق الرماح دماء

كان عمر قافلاً إلى برقة من رحلة له في مصر يصلح ذات البين، فلقيه عسس الطليان وتصدوا لقتاله وهم في سيارات ثلاث، مسلحات فتاكات مزودات، وعمر فوق صهوة جواده، وسلاحه سلاح أبناء الصحراء، فما هو إلا أن كر كرة في حصانه اليقين وثبات المؤمنين؛ فإذا بالسيارات الثلاث، وقد صرن سلباً وغنائم، وإذا بأصحابها الطليان، وقد صاروا خبراً من الأخبار؛ ولله إلهام شوقي:

بطل البداوة لم يكن يغزو على

(تنك) ولم يك يركب الأجواء

لكن أخوخيل حمى صهواتها

وأدار من أعرافها الهيجاء

ما نسى جند عمر ولا قواده: أنهم يحمون عقيدة، وأنهم جند الله. . .

ويا ما أروع وأرهب الصورة التي يصفها عمر لموقعه وكرسه بالجبل الأخضر، وقد حانت صلاة الظهر، وقائد الموقعة الشهيد (الفضيل أبو عمرو)، فقسم الجند طائفتين، وصلى بهم صلاة الخوف، فطائفة تأخذ حذرها وأسلحتها، وطائفة تتوجه إلى ربها وقد انجلت الموقعة هن قتلى عددهم خمسمائة طلياني بينهم (ماجور) وثلاثة ضباط

أعجز الطليان شأن عمر، وأعياهم أن يأخذوه أخذ الجند للجند، فهو لا يضجر ولا يستخذي، فأعملوا السفارة بينهم وبينه ليتهادنوا، وأرادوا أن يعرفوا شرطه لوضع السلاح وحقن

ص: 30

الدماء، فكانت شروط عمر، قطعة من عقله، كلها سياسة رشيدة، وكلها من العزة والكرامة والسداد

فأولها: أن يشهد المفاوضات مندوب من (مصر) ومندوب من (تونس) ليكون الناكث مسئولاً أمام العالم بشهادة مندوبي الأمتين.

وثانيها: حرية المسلمين الدينية، وتأديبهم لكل خارج على الدين أو هازئ به أو مستخف بتعاليمه أو متهاون في شعائره

وثالثها: أن تكون اللغة العربية لغة رسمية للبلاد، كالطليانية سواء بسواء

ورابعها: أن تنشأ مدارس يعلم فيها التوحيد والتفسير والحديث والفقه وعلوم الدين

وخامسها: أن يلغى قانون سنة 1923 م الذي يحرم على الوطنيين دخول المدارس العالية، كما يلغى القانون الذي ميز حقوق الطليان عن حقوق المواطنين، وأن ترجع الحكومة ما غصبته من الأملاك والأموال

عرف الطليان من تلك الشروط أن الأيام والأحداث لم تنل من شدة الشكيمة العمرية، فأظهروا له وفاء بشروطه، وأضمروا لها الغدر والخيانة. ثم راحوا يدبرون للمجاهدين الحصار والإجاعة؛ وفكروا أن يذروا عليه الصحراء من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها بالإجاعة.

وقد أختار عمر المبيت على الطوى، وأن يسلم له الشرف الرفيع؛ كما وصفه شوقي:

خُيرتَ فاخترت المبيتَ على الطوى

لم تبن جاهاً أو تلم ثراَء

إن البطولة أن تموت من الظما=ليس البطولة أن تعب الماء

وهكذا بقيت البطولة العمرية تبعث اليأس في نفوس الطليان منها، حتى أصيبت في مأمنها! يوم سلمت (جغبوب) للطليان، فحصروا - بالأسلاك الشائكة - الرقعة التي يأوي إليها المجاهدون، وحموهم أن يتصلوا بالحدود المصرية، حتى لا يجدوا قوتاً، وحتى تنقطع بهم الأسباب

وبينما (عمر) يتنقل - بين الغداة والأصيل يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة1350 هـ - يستطلع كمينا، أو يناوش شرذمة، وهو في خمسين فارساً من رجاله، إذ التقى بطائفتين من الطليان، كانتا تجدان في قص أثره، فأحدقوا به، وثارت في نفسه - تلك

ص: 31

الساعة - كل المعاني التي قامت عليها بطولته، فهاجمهم هجوم المستأسد، من اليمين ومن الشمال، حتى تساقط رجاله، ونفق جواده من تحته، فنزل عنه يترنح من الجراح، ثم يحاول النهوض، فتكاثروا من حوله رجالا وركبانا

واهتزت الأسلاك البرقية في جوف الصحراء، ومن فوق أعلام الشواطئ: أن البطل أمسى أسيراً، فسالت الأودية بالكتائب والفصائل، واجترأت السرايا والأجناد، وكانت من قبل تتحاماه وتخشاه

وجاء طراد حربي فنقله إلى بني غازي، وتقررت محاكمته في مركز الإدارة الفاشستية

وإنها لمحاكمة أبانت عن نقائب وصفات في عمر، ما سمعنا بمثلها من قبل في الموقف الضنك والساعات الفاصلة

وقف عمر أمام الحكام العسكريين كما قال فيه شوقي:

لبى قضاء الأرض أمس بمهجة

لم تخش إلا للسماء قضاَء

وافاه مرفوع الجبين كأنه

سقراط جر إلى الفضاء رداء

سئل عمر: هل أنت رئيس الثوار ضد إيطاليا؟

فأجاب بنبرات قوية وفي حزم قاطع: نعم!

سئل: هل شهرت السلاح واشتركت في القتال، وأمرت بقتل الجنود، وجبيت الضرائب؟ فأجاب على كل ذلك بنعم!

سئل: هل لديك ما تقوله بعد ذلك؟ وكأنما أرادوا أن ينتزعوا من عمر - في البرهة الذاهلة - ضراعة أو استعطافاً، ولكن هيهات هيهات، فقد أجاب:

ليس لدي شيء وراء ذلك:

الأسد تزأر في الحديد ولن ترى

في السجن ضرغاماً بكى أستخذاَء

واختلى الحكام العسكريون ثم أعلنوا حكم (الإعدام)

ولم يستطع محاكمو (عمر) إلا أن يصرحوا وقت المحاكمة بقولهم: إن المتهم يمتاز عن بقية الزعماء بأنه لم يبتز أموال الدولة

شهادة بأفواههم تسجل عليهم عار الحكم، وتخلد للشهيد النزاهة والعفة في جهاده المتصل العنيف!!

ص: 32

لقد لخص (الطليان) تلك المقاومة العمرية في اثنتين وعشرين سنة، فإذا هي تركزت في البلاغ الرسمي الذي صدر عقب تلك الأحداث يقول:

(هكذا انتهت حياة الرئيس العظيم (البرقاوي) أحد تلاميذ مدرسة (جغبوب) القرآنية)

فيا أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها:

من مبلغ أبناء هذا الجيل من المسلمين: أن تداع البطولة الإسلامية لا يتصل حاضره بماضيه، إلا إذا وجدت مدارس على غرار مدرسة جغبوب القرآنية، تعلم القرآن، وتعلم العقائد، وتعلم العزة والكرامة!!

الجديلي

ص: 33

‌في الحروب

بماذا كان ينتصر الإسلام

للأستاذ عبد العزيز البشري

ما وقع حدث من أحداث هذه الحرب، وخاصة في ألبانيا التي أصبحت معتركاً حامي الوطيس، بين دولة صغيرة، قليلة العدد، قليلة العُدد، ضئيلة الموارد، كل همها من العيش أن تحظى داخل حدودها بالأمن والسلام، قانعة باليسير مما أفاءت عليها الطبيعة، وما يعالجه أبناؤها النشيطون من فنون الصناعات، وما يزجونه إلى أسواق العالم المختلفة من ألوان التجارات؛ لها من كل أولئك مقنع وليس لها من وراءه أي مطمع، فإذا كان لها جيش أو كان لها أسطول فبقد ما تؤمن الحدود وتمنع الثغور، ولو إلى حين - أما الطرف الثاني من هذا المعترك فدولة عظيمة، قوية بعددها، قوية بصناعاتها وبتجاراتها، قوية بمستعمراتها الواسعة الشاسعة التي ضمنت أرضوها من الكنوز المعدنية ما يغني في كل شيء من أسباب الحياة القوية الفنية ليس أعز منها في هذا العالم حياة - ومع هذا فإننا نرى أن هذه الدولة الصغيرة الدقيقة في كل شيء، لا تفتأ تضرب هذه الدولة العظيمة الضخمة في كل شيء، كلما طلعت الشمس ضربة، وتركلها كلما غربت الشمس ركلة. وبين ذلك لا تفتأ في كل ساعة تجرعها من الصاب والعلقم ما يفري الحناجر، ومن الغسلين ما يذيب الأحشاء. وتلون لها من المهانات ما أجراها مثلاً للخزي على ألسن العالمين

لعمري ما وقع حدث من هذه الأحداث إلا اذكرني سير العرب السابقين، وأحضرني شأنهم في فتوحهم ومغازيهم. فلم يكن هؤلاء في الأكثر الأغلب أكثر من عدوهم عددا، ولم يكونوا أقوى منه عددا، ولم يفوقوه في تنظيم الجيوش وتنسيق الكتائب، وتدبير المكايد، وإحكام خطط الحرب، وتدبير وسائل الكر والفر؛ بل لقد كانوا أضعف وأهون شأناً في كل أولئك جميعاً! ومع هذا فإنهم ما صارعوا إلا صرعوا، ولا قارعوا إلا قرعوا، ولا شدوا إلا ظفروا، ولا حملوا إلا قهروا، ولا هجموا إلا انتصروا؛ ففتحت بين أيديهم أبواب المعاقل، ومهدت لهم السبل إلى أمنع المدائن، وحشدت لهم أضخم الغنائم، واستأسر لهم من المقاتلة أضعاف أضعافهم في يسر، بلغت عين الدهر. وكذلك لم تجهد دورة الفلك إلا قرناً واحداً حتى دانت لهم مناكب الأرض، وذلت نواصي البر والبحر!

ص: 34

إذن لم يظفر العرب، في حروبهم، كل هذا الظفر، ولم يتهيأ لهم ما دوخوا من البلاد، وما ملكوا من الأقطار، وما فتحوا من هذه الفتوح العظيمة في قواصي الأرض وأدانيها لأنهم كانوا أكثر من عدوهم عدداً، ولا أمضى سلاحاً، ولا أعلم بفنون الحرب وأخبر بأساليبها ومكايدها؛ بل لقد علمت أنهم كانوا دائماً دونه في جميع أولئك بما لا يجوز فيه التشبيه ولا يصح معه القياس

وبعد، فلعمري ما مشى النصر بين أيديهم أنى قاتلوا في شرق الأرض وفي غربها، بالغاً ما بلغ من الضآلة عددهم، وواقعاً حيث وقع الضعف سلاحهم، إلا بأسباب ثلاثة:

1 -

الأيمان 2 - الرحمة 3 - العدل

فالإيمان ييسر على النفس التضحية، مهما جلت، بل لقد يغري بها ويدفع إليها في المطلب الجسام.

ولا ننس أن من أثر الأيمان بناء النفس على الصبر عند معاناة الشدائد وخوض المكاره، فإن إصابة الغرض الذي يدفع المجاهد إليه إيمانه لحقيقة بأن تحد من عزمه، وتشد من متنه، فلا يعتريه خور ولا خذلان، وأنت خبير بأن الصبر هو مفتاح النصر، وصدق من قال: الشجاعة صبر ساعة، والأمثلة على هذا مما لا يحيط به الحساب!

وبعد هذا أحسب أن العجب قد أخذ فيك بادئ النظر، من نظم الرحمة والعدل في أسباب الظفر في الحروب والتنكيل بالأعداء، والواقع أنهما قد يكونان أمضى من السيف في كسب الحروب، وذلك بأن القسوة وغلظة الكبود لا تجدي على المقاتل شيئاً البتة، بل إن شهرته بين مقاتليه بالرأفة إذا تمكن، والمعدلة إذا حكم، لما يخزلهم عن الاجتهاد في قتاله، ويشيع فيمن وراءهم قلة الاستحماس لهم وثقل القادرين على القتال عن نجدتهم، بل لقد يرجون النصر لهذا العدو ليخرجوا من ظلمهم، وينعموا في ظلال حكم ملائكة الرحمن والرقة والعدل والإحسان

وكذلك ساد العرب الدنيا، وما هداهم إلى هذا إلا دينهم العظيم. . .

والشواهد على هذا في حروب المسلمين مما لا يبلغه كذلك الإحصاء

وبحسبنا أن نورد في هذا الباب مثلين يسيرين: أولهما أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، قال في وصاة له لأسامة ابن زيد قائداً أحد جيوشه ولأصحابه، وهم مرتحلون إلى الحرب

ص: 35

التي وجههم إليها: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تتبعوا موليا، ولا تقعروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. الخ)

أسمعت حديثا في الرحمة بالعدو المقاتل والرقة له أبلغ من هذا الحديث؟

ذلك بأن الإسلام لا يبغي بالحرب كيدا ولا شفاء ضغن! إنما يبغي بالحرب أعلى المثل: فإما دفع أذى، وإما بسط الحق والخير والفضيلة في هذا العالم. قال الله تعالى يخاطب رسوله الكريم:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) صدق الله العظيم

ولقد قال تعالى في كتابه العظيم: (إن الله يأمر بالعَدْلِ والإحسان، وإيتاء ذي القربىَ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)

وكيف ظنك بدين يأمر بالإحسان حتى في القتل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة).

أما التمثيل حتى بالحيوان فقد أغلظ هذا الدين في النهي عنه، واشتد في الوعيد عليه، فقد روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من مثل بحيوان فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)

وتلك كانت سنة الغزاة والفاتحين في صدر الإسلام

وإن تعجب فعجب أن يكون ذلك أدب الإسلام في عصر كان من السائغ المألوف فيه سوم المحكومين المقهورين ألوان الخسف من إهدار الدماء، وتخريب الدور، واستصفاء الأموال، في غير جرم يقترف، أو إثم يجترح، حتى كاد يكون ذلك شرعا مشروعا وواجبا مفروضا!

وأما المثل الثاني فأجلوه لك في حادثين مأثورين عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهذان الحادثان معروفان شائعان، وما كنت لآتي بهما لولا أنه قد اقتضى الإلمام بهما نظم المقال: وأولهما ما حكى من أن جبلة بن الأيهم - وكان آخر ملوك بني غسان - أسلم وخرج إلى مكة، فلما كان في بعض طوافه داس رجل من فزارة على طرف ردائه فحل أزراره، فلطمه جبلة، فاستعدى الرجل عليه عمر، فدعى به، وخيره بين أن يترضى الرجل أو يقيد له منه. فقال: يا أمير المؤمنين: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال ولكن الإسلام

ص: 36

سوى بينكما؟

وأما الحادث الثاني، فما حكي عن رجل من أهل مصر قدم على عمر، فقال: عائذ بك يا أمير المؤمنين! فقال رضي الله عنه: عذت بمعاذ! فقال: لقد ضرب ولد عمرو بن العاص ولدي (وكان عمرو يومئذ عامله على مصر)، فأرسل في طلبه معه ولده واستقاد من الولد والوالد جميعاً؛ ثم أقبل على عمرو وقال: يا عمرو بماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟

هذه الأمثلة، على قلتها، تريك مبلغ ما يدعو إليه الإسلام من الرحمة بالمقهور والرقة له، وإقامة العدل بين الناس، مهما يكن الفرق بين الظالم والمظلوم، وأخيرا توطيد الحرية وتوكيدها على أنها حق طبيعي للإنسان، كائناً من كان

أما الحرب في هذا العصر، فلقد صارت إلى ما ترى، وهي إن امتازت بشيء فأبرز ما في وجوه هذا الامتياز أن ضحاياها وصالو حرها من المستأمنين الوادعين، أصبحوا أكثر كثيراً ممن تجردوا للقتال، واستنفروا للكفاح والنزال؛ بل لقد تعدل الموبقات القواصف من الطائرات عمداً عن المسالح ومستودعات الذخائر، وثكنات الجند، وغير ذلك من أسباب الحرب، إلى دور المستأمنين، حيث المرأة ترضع ولدها، وحيث الرجل الذي نام ليستجم للعمل من بكرة الصباح إلى غاية النهار الأطول، سعياً على الأم الشيخة والزوج والطفل الثلاث أو الأربع، وحيث المريض المدنف يتلوى على الجنبين من ألم وعذاب - لقد تعدل تلك المدمرات القواصف إلى هؤلاء عمداً، وتزلزل بهم الأرض زلزلة، وتدمر الدور تدميراً، فإذا هؤلاء أجزاء تتناثر، وأشلاء تتطاير. فمن سلم منهم على الموت، فليستقبل حياة شرا من الموت

فإذا جاءك أن الإسلام فتح كل هذا الفتح، وملك كل هذا الملك، وانبسط له على وجه الأرض كل ذلك السلطان في أقل من قرن واحد، فإن السر لا يعدو ما قدمنا لك من قوة الأيمان، وإشاعة العدل بين الناس، وإيثار الرقة والرحمة بالإنسان وبالحيوان!

وإذا طلعت عليك الأنباء في كل صباح وكل مساء بأن الجيش اليوناني الصغير الضئيل لا يفتر لحظة عن صفع الجيش الطلياني الضخم الكثيف باليد، وركله بالرجل، إذ لا يكاد يرى فيالقه وكتائبه إلا من الأقفاء من انهزام إلى انهزام - إذا طالعتك الأنباء كل ساعة بهذا

ص: 37

فصدق، وأرحل عن الأمر كله على قوة الأيمان بحق الوطن المعتدى عليه بغير إثم ولا عدوان!

فإذا قال لك قائل، لقد ذهب عنك ما فعلت القوة القوية من اجتياح للممالك، وقبض على نواصي الشعوب، واستصفاء لأموال الأمم، وامتصاص لدمائها، واتخاذها عبيدا، فقل له لا تعجل بالحكم، فإن الله ليملي للظالم، ولتعلمن نبأه بعد حين

عبد العزيز البشري

ص: 38

‌فارس وفارس

للأستاذ محمود الخفيف

بَنَى الشرْقِ أَيَّام أَبْطاِلكُمْ

شَدَوْتُ أَحَدِّثُ أَخبارَها

أُغَنِّي لكمْ لَحْنَ قيثارَةٍ

تَهُزُّ البطولاتُ أوْتارَها

وَأُسِمُعكُمْ من حديثِ الْخُلودِ

أغاني الّليالي وأسمارَها

بَنُو السفِ نحنُ، بُنَاةٌ العُلَا

رَكِبْنَا الرِّمَالَ وَخُضْنَا البِحارا

شَرَعْنَا عَلَى الدَّينِ منهاجَنَا

وسِرنْا إلى حيثُ شِئنا اقتدارا

وأخلاقنا. . . كم بأخلاقِنا

رَكزْنا صُوًى وَرَفَعْنَا مَنارا

وكم أُفقٍ في سماءِ العُقولِ

شَأَوْنَا بني الأرْض فيهِ ابتكارا

إلى فْتَيِة الشرقِ هذا النشيد

تقارَعَ فيهِ القَنَا واشتَجَرْ

وَقعْقَعَتِ البيضُ بين الصفوفِ

وَغَالَ الكُمَاةَ الرَّدَى وَاستَعَرْ

وَحَمْحَمَتِ اْلَخْيُل تَحْتَ الْغُبَارِ

أضاَءتْ جوانِبَهُ بالشّرَرْ

أدِيرُ الّنشِيدَ إلى فارِسَيْنِ

حَوَتْ رُكنَيِ الأرْض لُقْيَاهُما

فمِنْ أَنْجُمِ الشّرْق هَذا الكمِيُّ

وَمِنْ أُفُقِ الْغَرْبِ ثَانيهِما

وكلٌّ يُرَى بين فُرْسانهِ

غَدَاةَ الوَغَى الفارِسَ الْمُعْلَمَا

على هذه الأرْضِ تَفنَى القُرُونُ

وَتُوحِي البُطولةَ ذِكراهُما

سَمَا بابْن أَيُّوبَ مُلْكٌ بَنَاهُ

فأَعْلَى عَلَى السَّيْفِ هذا البِنَاء

أخو الْخَيِل والسَّيْفِ والبيد واللْ

يلِ يَمْضِي فيزُجي الردى كيفَ شاء

فتى كان في الشّرقِ بعد الظّلام الضيَ

اَء وكان بمِصرَ الرَّجَاَء

كَرِيمُ الْخٌصومَةِ عَفُّ الْحُسَامِ

يُرِيكَ التُّقَى وَيُرِيكَ الْمَضاَء

فتَى الغَرْبِ إِفْرِنْدُهُ فَيْصَلٌ

به المُلكُ في ظِلّهِ يَحْتَمِي

لهُ لَقَبٌ فوق تاجِ الْمُلوكِ

به باتَ يُقْرَنُ بالضَّيْغمِ

على الماءِ كرْسِيُّهُ قَائِمٌ

وَذِرْوَتٌهُ في ذرى الأَنجُمِ

مَشَتْ في النّجيِع إلى (أُرْشِلِيمَ)

جيَادٌ من الغربِ رُعْنُ الخَبَبْ

خَبَبْنَ بِكلِّ مُدِلِّ الْحُسامِ

صَرِيم الخِصامِ دَعِيِّ الْحَسَبْ

ص: 39

لقَدْ كان للدِّينِ ما هَزَّهُ

فأَصْبَحِ لِلْمُلْكِ حين أغْتَرَبْ

مَضَوا يَزدَهِي الفوْزُ أفراخَهُمْ

وَيُغْرِي بُزَاتَهُمُ الْمَأْرَبُ

غِلَاظٌ، سَرَابيلُهُمْ مِنْ حَدِيدٍ

مِنَ الصَّخْرِ أكبادُهُم أَصْلَبُ

يُحَدِّثُ كلاًّ هَوَاه بما

يُجَنْدِلُ في القُدْسِ أو يَسْلبُ

وَيَسْتَهْزِؤُونَ بدُنيا الْهِلَالِ

وَحَشْدُهُمُو بالْمُنَى يَصْخَبُ

فما إنْ نَجَا قَط مِنْ بَطْشِهمْ

صَبِيٌ ولا طِفلَةٌ لَاعِبَهْ

وَلَا مُقْعَدٌ قَوَّسَتْهُ السُنونَ

وَلَا جَدَّةٌ شَمْسُها غارِبَةْ

وَلَا سَلِمَتْ من بناتِ الحِجَالِ

عروسٌ مُلَّفَقٌة هَائِبَةْ

لدَى مَدْرَج السَّمْح عِيسَى الَمسِيح

أثارَ دُعاةُ السلامِ القِتالا!

مُسُوحُ الرَّهابينَ باتَتْ حديداً

وَأَلسِنَةُ الزاهدينَ نِصالا

وَعُدَّ هُدّى كلُّ غَيّ جَسورٍ

وأصبحَ كلُّ حَرام حَلالا

وطالَتْ عَلَى الشرْقِ سودُ السِّنين

أَذَلَّ الصَّليبُ بِهِنَّ الهِلالا

أقاموا على الْبَغْيِ بُنْيَانَهُمْ

وعاشوا على البغيِ دهْراً طويلا

وَغُمَّ عَلَى الشرقِ تِسعينَ عاماً

فَمَا يَلْمَحُ النورَ إلاْ ضَئِيلا

يَسيلُ عَلَى الأُفْقِ جُرْحُ الِهلال

إذا ما أطَلَّ، سَقيِماً هَزِيلا

وتَسمعُ مِصْرُ وَمَنْ بالحجازِ

وَمَنْ بالعراقِ الأذَان عَوِيلا

وما زال يَبْطِشُ طُغْيَانُهُمْ

إلى أن تَألَّقَ فجرُ الأملْ

وَهَلَّ من الشرقِ مثلَ الصباحِ

زعيمٌ ترَدَّى ثِيابَ البَطَلْ

تُجدِّدُ وَثْبَاتُهُ أبنَ الوَليدِ

وَسَعْداً وعَمْراً بنيه الأوَلْ

إذا سارَ فالنصرُ من يُمْنِهِ

فتّى لا يرَى العيْشَ إلا كِفاحا

فتًى ذِكرُهُ هَزَّ شم الْحُصونِ

ويغزو اسمُهُ إذ يَهُزُّ السَّلاحا

صلَاحٌ ومن كابن أيوبَ سيفاً

إذا ذكرَ الدَّارِعونَ صَلاحا!

وَمَنْ مِثلُهُ حينَ يُعْطِي العُهُودَ

وَيَرَعى الحُدودَ وَيأسو الجراحا

مشى نحوَ (حِطَّينَ) في فَيْلَقٍ

يَرِفُّ له النصرُ حوْلَ العَلمْ

يَدِينُ لأِرْوَعَ ثْبَتِ الجنانِ

جَمِيِلِ الفَعالِ كريمِ الشِّيَمُ

ص: 40

ذَلولِ السَّماَحَةِ حُلْوِ اللِّسَانِ

عَصِيِّ الأبَاءِ بعيدِ الهِمَمْ

تقدَّم فانهارَ مِنْ حَوْلِهِ

عَلَى الْبَغْيِ رُكنٌ أقِيمَ اغْتِصابا

رَأَى يوْمُ حِطَّينَ تحتَ العجَاج

جُنودَ صلَاحٍ أسُوداً غِضابا

ألوفُ الرجالِ لدَيْهِ أسارَى

ومَن فَرَّ ليس يطيقُ اقترابا

وَيُذْعِنُ كلُّ قوِيٍ عزيزٍ

وتهوِى المعاقِلُ باباً فبَابا

وَدَانَ له القُدْس بعد الإباءِ

وَأَعْظِمْ بهِ لِلْهِلَالِ انتِصَارا

وراحَ الْمُظَفَّرُ يُولي الأمانَ

ويُطِلقُ في (أرْشِليمَ) الأسارى

وَأَجْمَلُ ما كان عَفْوُ الرِّجالِ

إذا ساقَهُ ما نحُوَه اقتدارا

تَرَفَّعَ لا سَيْفُهُ قاتِلٌ

بريئاً، ولا وعْدُهُ خاتلُ

ولا غرَّهُ النَّصْرُ في أَوْجِهِ

ولا خابَ في عَدْلِهِ آمِلُ

وديعُ السِّماتِ جَمِيلُ الأنَاةِ

وفي دِرْعِهِ أَسَدٌ بَاسِلُ

يَلوذُ بهِ الحقُّ مُسْتَعْصِماً

وَيَفْرَقُ من وَجْهِهِ الباطلُ

وَأَدْهَشَ أعداَءهُ نُبُلُهُ

وذاعَتْ أحادِيثُ أفعالِهِ

وأروَعُ ما هَزَّ سَمْعَ الفِرِنج

من الفضل غُرَّةُ أفضالِهِ

يجود لفدِيْةِ بعضِ الأَسَارى

لفُرْسانهِ الشُّمِّ من مالهِ!

تَأَلَّقَ في الشرق نور الهلال

وصاحبه اليُمْنُ في طَلْعَتِهْ

وكان غريباً بأوطانِهِ

خَيَالُ المذَلَّةِ في هالَتِهْ

تَبسَّمَ في الأُفْقِ بَعْدَ الشُّحُوبِ

فغاَظَ وَأعجَبَ في بَسْمَتِهْ

وَدَوَّى فأَطَربَ صوْت الأَذَانِ

جلالُ المصلِّينَ في نَبْرَتِهْ

أفاقَ على نَبَأٍ جاءهمْ

بنو الغَرْبِ، يَكرَهُهُ السامِعُونا

تثيرُهُمُ النُّذُرُ الشائِعَاتْ

وَيَقَتِنصُ الفرصةَ الطّامِعُونا

وَيَنْفُخُ في الصُّورِ رُهْبَانُهُمْ

فيأتي على الصَّيحَةِ الدَّارِعُونا

وهَّبتْ منَ المغْرِب العاصفة

على الشرْقِ تُنْذِرُ بالراجفَةْ

ففي البحْرِ طائِفَةٌ في السَّفِينِ

تُسَارِعُ في إثْرِهَا طائِفَةْ

وفي البَرِّ فَوْق مُتُونِ الجِيادِ

ألوفٌ مُدَجَّجَةٌ زاحفَةْ

ص: 41

إذا هاجَها الزَّحف غَنَّى الحديدُ

وغنَّتْ حناجرُهم هاتفةْ

أطَلَّتْ على الحشْدِ أسوارُ عَكا

خِضَمًّا يَزيدُ لديْهَا ارْتِطاما

حَوَى الْمُرْدَ والشِّيبَ والعِلْيةَ الصِّ

يدَ والتَّابِعبهم خليطاً تَرَامى

نَشَاوَى النِّصَالِ، بأرماحِهِمْ

جُنونٌ سَقَاهَا هناك احتداما

ومِن دون عَكا شُبُولُ العَرِينِ

من الشرْقِ يمْنَعُ أسوارَها

يطوفُ على الْجُنْدِ سلطانُهُمْ

مَهِيبَ الملامِحِ قَهَّارَهَا

مُطاعاً له طَلْعَةٌ في الصُّفوفِ

تَعَوَّدَتِ الْجُنْدُ إكبارَها

وَيَفْدِيهِ في الحرْبِ أجنادُهُ

إذا رَاحَ يَرْكَبُ أخطارَها

وَعَزَّتْ على الطالبينَ القِلاعُ

وإذ مَرَّ عامانِ زِدْنَ امتناعا

وَذَاقَ حُماَةُ الصليبِ الهوانَ

فما شَهِدوا مِثل هذا صِراعا

أهابوا وقد عَجَّ مَوْجُ المنَايا

بأَوْطانِهِمْ فأجابَتْ سِراعا

وَلبَّى الملوكُ النِّداَء ففي البَ

رِّ جيشُ (فِرِدريكَ) جَمُّ العددْ

وجيشُ الفِرِنْسِيسَ حشدٌ عظيمٌ

وفي البحرِ أسطولُ قلبِ الأسدْ

فتَى الغربِ ريكَرْد خيْرُ السيوفِ

الجسورُ النَّجيدُ القَوِيُّ السَّنَدْ

فتَى ليسَ يَنْزِعُ عن قَوْسِهِ

سِواهُ ولا جَلَّ عنهُ أحدْ

وَأَرْغَمَ (رِيكَرْدُ) تلك الحصونَ

فما إن تَطَامَنُ إلاّ لهُ

وَإِنْ كان لَاقَى من ابنِ القِفارِ

من البطشِ والبأسِ ما هالهُ

وكانَ (صلاحٌ) رَمَى بالرِّجالِ

(فِرِدْرِيكَ) يَدْفَعُ إِقبالهُ

وما كادَ يُزْهَى بإِكليلهِ

فَتى الغَربِ حَتَّى اعتراه الهزالُ

أَلَحَّ على جِسْمِهِ الْقَسْوَرِىِّ

لدى ساحِة المَوْتِ داء عُضال

ثَوَى اللَّيْثُ حيناً على رَغمِهِ

وَعُلِّقَ - حَتَّى يُبِلُّ - القِتال

يُعَذِّبْهُ خَوْفُهُ أن يطولَ

ضناهُ، وأن يَتراخى الرِّجال

وَأَعْجَبَ ذاكَ الهصورَ المريضَ

طَبيبٌ سعى من لدُنْ خَصْمِهِ

يقول لهُ قومُهُ: أَقْصِهِ

وَنَجِّ دِماءكَ من سُمِّهِ

فقال: جَهِلتُمْ لعَمْرِي صلاحًا

تَنَزَّهَ عن ذاكَ عالي اسمِهِ!

ص: 42

سقاهُ وناولهُ رُقعةً

تَنَزَّي وَغَمْغَمَ لمَّا تلاهَا!

تمنى لهُ البُرَْء في طيِّهَا

صلاحٌ لِتَدْرِى الوَغَى من فَتاها:

(إذا رُمْتَ سِلماً مَنَنتُ بها

وإن رُمْتَ حَرْباً أَدَرْتُ رَحاها

وأَعْزِزْ بِنَفْسٍ كَنَفْسِكَ أن

يكونَ بِغَيْرِ الحُسامِ رداها)

وَأَكْبَرَ (ريكرْدُ) هذا العَدُوَّ

فأثنَى وأطنبَ في حَمْدِهِ

وكم أخجلت لدى ذِكْرِها

شمائلهُ الغُر في جُنْدِهِ

أخو البيدِ أسمَى فروسيَّةً

فأَنَّى لهُ ذاكَ في بِيدِهِ؟

أَتَتْ بَابَهُ من بَنَاتِ الفِرِنْجِ

تُوَلْوِلُ أُمٌّ، وَتَدْعُو بهِ

قَدْ اختَطَفَ ابناً لها فارِسٌ

وَيَا هَوْلَ ما كان من غَصْبِهِ

بكى رَحْمَةً وَهْوَ ذاك الذي

إلى اللْيثِ يُنْسَبُ في وَثْبِه

وَأَجْزَلَ لِلْجُنْدِ من مالِهِ

فِدَى للصَّبيِّ، فَجيَء بهِ

وَمَالَ إلى السِّلمِ قَلْبُ الأَسَدْ

وَلَبَّى صلاحٌ فأمضَى العُهُودا

وَلَكِنَّهُ رِيعَ أَنْ جَاَءهُ

من الْخَصْمِ خُلْفٌ أثارَ الْجُنودا

لقد فتَكَ القَوْمُ بالأبرِياء

وما إن رعَوا لِعُهُودٍ وُجُودا

سقَتْ أَرْضَ عَكّا دِمَاءٌ حَراٌ

وَطافَ الفِرِنْجُ بها باطشينا

فوارِسُهُمْ يَذبحونَ النِّسَاَء

وَزُغْبٌ البناتِ بها وَالبنينا

وَكم ذَكَرُوا الشرق سُلطَانَهُ

وَصَفْوَةَ فُرْسَانِهِ هازئينا

أَهَابَ صلاحٌ بفُرْسانِهِ

فَسَلّوا سُيوفَهُمو صائحينا

لدى غابِ أَرْسُوفَ سَوَّى الرجالَ

صُفُوفاً تَلَاحَق تحتَ العَلَمْ

مِنَ الغِيِل أَصْحَرَ أجنادُهُ

وَجَرَّ الحدِيدَ أسُودَ الأَجَمْ

ونَادَى المنَادُون فيهم هَلُمُّوا

تراءى العَدُوُّ لنا من أُمَمْ

هُنَا الشرْقُ جُنْدُ الهلالِ، هنا

بنو الشَّمْسِ والبِيدِ شُمُّ القَنَا

دماءُهُموكم كَوَنْهَا الصَّحَارى

وأعْظِمْ بِصَحْرَائِهم مَوْطِنا

خِفَافُ الهياكِلِ ضُمْرُ الْجِيَادِ

إذا زَحَفُوا قلتَ وَمْضُ السَّنَى!

تَنَادَوْا على نقَرَات الطَّبولِ

فداعٍ هناك وشادٍ هنا

ص: 43

على فْرسخين يُرَي الغَربُ حَشْدَاً

خَلِيطاً هناك تَلَاقَوْا دِرَاكا

فَمِنْ كلِّ لِسْنٍ ومن كلِّ شَعْبٍ

وَمَلْكٌ هنا وَأَمِيرٌ هناكا

حُمَاةٌ الصَّلِيبِ نَسُوا الصَّلِيبِ

خِصَاماً فَشَى بينهم واعتِراكا

وَدَارَ القِتَالُ فَطَارَت سِهامُ

بَنِي البِيدِ يَغْرِقُ فيها البَصَرْ

تُصَوَّبُ تحْتَ مُثَارِ العَجَاجِ

وَتَنقضُّ يقْدَح منها الشَّرَرْ

فَتُصْمِى الْجَيادَ وَتُلْقى الرِّجالَ

على الرَّمْلِ مُلْتَهِباً وَالصَّخَرْ

كأَنَّ الْجَحيمَ رَمَتْ بالّلظي

على مُلتَقًى بالغُبَارِ أعْتَكِرْ

وَذَاقَ الفِرِنجُ صُنُوف العَذَاب

ففي كلِّ يوْمٍ يَرَوْنَ الرَّدى

وَرَاحَ قَبِيلٌ يقولون: ماذا

نَرَى من سِهام العَدُوِّ غدا

يُسِرُّونَ سُخْطاً على من دَعاهمْ

وَأَوْرَدَهُمْ ذلِكَ الموْردا

وَغِيظَ الفِرِنْجُ فَشَدُّوا الوَثَاقَ

وَجَدَّتْ لهمْ كَرَّةٌ خاسِرَة!

وَهَرْوَلَ ريكردُ بين الصُّفوفِ

يَشُدُّ عَزَائِمَهَا الخائِرَةْ

وَزَمْجَرَ كالْليثِ يَدْعُو الْجُنُودَ

وَيَجْمَعُ آلافَهَا النّافرَة

وَهَاجَ، فَجُنَّ جُنونُ الرِّجالِ

وَكَرَّتْ عَلَى صَوْتِهِ زائرَة

دَعا وَتَقَدَّمَ تحتَ السِّهام

بِيُمْنَاهُ صَمْصَامُهُ الهائِلُ

تحَدَّى الرَّدى وَمَشَى تحْتَهُ

فما إن تَصَدَّى لهُ صَائلُ

يُهَزْهِزُ في النَّقْعِ إِفْرِنْدَهُ

فيُومِضُ عالِيهِ وَالسّافلُ

مَضى مُغْضَباً خَلْفهُ جُنْدٌهٌ

يُفَزَّعُ ذاك وذا يَضربُ

يُجِنْدِلُ كلَّ فتًي مِن عِدَاهُ

وَما كَلَّ من سيِفِه الْمَضْرِبُ

لهُ وَثبَةُ الأسْدِ، صَمْصَامُهُ

كما أنقَضَّ في الُحلْكةِ والكوكَبُ

وَطاشَ الكماة جنودُ صلاحٍ

وَطابَ لهم في الوغَى المهْرَبُ

تَلَفَّتَ تحت الِّلوَاء صلاحٌ

إلى جَحْفلٍ حَوْلهُ رُوِّعا

تَفَرَّقَ في البيدِ إِلاّ فَريقاً

يُفَدَّوْنَ ذا الباسِلَ الأرْوَعا

وَمَا طاشَ في الرَّوْعِ مِمَّا رَأَى

وَهَلْ شِيمَةُ اللَّيثِ أن يَفْزَعا؟

رَأَى جُنْدُهُ اللَّيثَ تحت اللِّوِاءِ

فعادُوا يُموتُونَ دُونَ اللِّوا

ص: 44

وَجدَّ اللِّقاءُ وَحَقَّ الفِداءُ

وَأَجْفَلَ بَعْدَ الصِّيالِ العدا

وَخَفَّ صلاحٌ فقادَ العديدَ

وَأَعمَلَ في الزاحِفين الظُّبَا

رَأى هَبَّةَ الأُسْدِ من دُونهِ

فخافَ العَدُوُّ الوَغى وانثنى

وأرسَل ريكرُدْ يدعُو صلاحاً

إلى السَّلمِ حينَ توافى الأَمَلْ

يقول: لَقيتُ هنا مُشْبِهي

وَأَحْبَبْتُ في الشَّرْق هذا البَطلْ

وَلبَّى أبنُ أيُّوبَ عالي الجبين

عَلَيهْ من المجدِ أضفَي الْحُلل

الخفيف

ص: 45

‌مشروعية الحرب في الإسلام

دفع شبهة لا موجب لها

للأستاذ محمد فريد وجدي

اشتد خصوم الإسلام عليه في إقراره الحرب، ذاهبين إلى أن الدين الذي يشرع لتطهير قلب الإنسان من الميول العدوانية، وتخليص نفسيته من آثار الحيوانية والوحشية، لا يجوز له أن يقر مبدأ التناحر في العالم الإنساني؛ فإن كان ولا بد فدفاعاً عن النفس، أو ذيادا عن الحوزة؛ أما الهجوم على الآمنين في ديارهم للتبسط في الأرض، والتوسع في وسائل الثروة، فإن رآه طلاب الدنيا سائغاً، فلا يصح أن يعده دعاة السمو الخلقي من محاولات الصالحين

كثرت هذه الشبهة في رؤوس خصوم الإسلام، ورأوا فيها مثاراً خصباً للتشهير به، ونبزه بالألقاب، حتى تأثر بعض المدافعين عنه، فأخذوا يحاولون أن يثبتوا أن كل ما ورد فيه خاصا بالحرب، فالمراد منه الدفاع لا الهجوم، وغاب عنهم أنهم بعملهم هذا يضرون بقضية الإسلام، ويسجلون عليه الشبهة أصرح تسجيل

الحق أن الإسلام أقر الحرب دفاعاً وهجوماً، لأن مهمته التي شرع من أجلها لا تتم إلا على هذا الوجه؛ فليس الإسلام بدين خاص شرع لجماعة من الناس في بيئة محدودة من الأرض كما كانت عليه حال جميع الأديان التي شرعت للأمم قبله، ولكنه شرع ليكون دينا عاما للأمم كافة، فهو بحكم الغاية التي أنزل من أجلها يجب أن يماشي ما فطرت عليه الطبيعة البشرية، في كل ما تدفعها إليه الغرائز النفسية، من الحركات الاجتماعية؛ وقد اندفعت الجماعات في التناحر لا لمجرد توفيه أغراضها المادية، ولكن لحاجتها الأدبية أيضاً، فلولا الحروب التي ثارت بين الجماعات، لتعطل تقدمها في طريق العمران والمدنية كما نبه إليه علم الاجتماع نفسه، ودورة الحياة الإنسانية العامة تجعل الحرب من ضروريات التطور أيضاً، فإن تلاشي الجامدين وعديمي الصلاحية للحياة، وضرورة نبوغ الأصلح فالأصلح للبقاء، لا يمكن أن يتم في بيئات يسودها السكون المطلق. هذه أمور يدركها أولو العلم إدراكهم للبدهيات، وهذا لا يمنع أن يجيء عهد تصبح فيه الحرب شراً مستطيراً بسبب زوال الموجبات الطبيعية لها، ونشوء عوامل أدبية تقوم مقامها في تطوير الجماعات دون

ص: 46

أن تضطرها إليه بواسطة الحركات العنيفة؛ يجوز أن يكون قد أظلنا الآن ذلك الزمان، فيقرر البشر بعد هذه الحرب المستمرة حذف هذه الوسيلة الجائحة، فينعم الناس بسلام يناسب ما وصلوا إليه من علم ومدنية، وقد أشار الإسلام إلى إمكان حدوث هذا العهد، فجاء في كتابه:(وإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله)

ولكن إلى العهد الذي شرع فيه الإسلام وما بعده إلى أكثر من أثني عشر قرناً، لم تكن فكرة السلام العالمي قد نشأت، وقد رأينا الأديان التي جاءت ناهية عن الحرب كالبوذية والنصرانية قد اضطرت إليها، وتوسلت بها، وهذه الديانة الأخيرة لم تستطع أن تستقر كدين إلا بواسطة حروب شنتها، حتى اضطرت البابوية إلى اتخاذ الجيوش البرية والبحرية، وإلى الاشتراك في الحروب دفاعاً وهجوماً على حد سوا

فكيف يراد من الإسلام وقد شرع دينا عالمياً، أن يتجرد منها، وهو مضطر بحكم مهمته أن يسيطر على الغرائز الجبلية، ويهيمن على الميول النفسية، محاولاً التأثير فيها بالتعديل والتقويم، دون أن يعرقل ناموس التطور الذي يعمل إلى إيصالها لغاياتها البعيدة من السمو الذي قدر لها أن تبلغه بجهودها الذاتية

إن الصفة المميزة للإسلام أنه دين يماشي الطبيعة ويعدلها، ولا يلاشي عاطفة منها؛ ولو كان غير ذلك لما صلح أن يكون ديناً عاماً للبشرية بأسرها، ولا يكون محترم الأصول، مراعي التعاليم، لا عذر للمتخلف عنه، أو للخارج عليه

أفكنت تريد أن ينشأ الإسلام ناهياً عن الحرب فلا يتم له قيام أصلاً، بدليل لجوء جميع الأديان إلى الحرب بعد أن أعيتها الحيل في القيام بدونها؟ أم كنت تريد أن يحرمها على أتباعه، ثم متى اضطرتهم الحياة لجئوا إليها، غير آبهين لنهيه عنها، كما حدث ذلك لأهل الأديان التي كانت قبله؟

لا هذا ولا ذاك، فالإسلام دين صراحة ومنطق، يعطي كل حالة من حالات الإنسان حقها من التقدير والرعاية، ويبني حكمه فيها على مصلحتي المادة والروح معاً

فالحرب إن كانت شراً فهي من الشرور الضرورية ولو في أوائل الأدوار البشرية، وإغفالها أو تركها بلا ضوابط قد يفضي بالآخذين به إلى الإفراط أو التفريط فيها، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، فجعلها الإسلام لهذا السبب من أهم ما عني به، وختم كل آية

ص: 47

نزلت في الحرب بوصاة مؤكدة بوجوب العدل فيها وعدم توخي العدوان بوساطتها، إلى حد لم يسبق له مثيل في كل ما أثر عن تعاليم الأمم قديماً وحديثاً

لم يكتف الإسلام بكل هذا فوضع للسلم والحرب أصولاً بدأها بوجوب احترام العهود، وبوجوب تتبع الحوادث الاجتماعية، مع إحاطة كل منها بما يحميها من التطرف والظلم، حتى إذا أفضت الأمور إلى تحكيم السيف أحاط حكومته بالملطفات من كل ضرب، عاملاً على ألا تراق قطرة دم ولم يكن لإراقتها موجب يوجبها، حتى أمر بعدم تعقب المهزومين، وباحترام حياة خدمة المحاربين، وحياة الهرمي والنساء والأولاد ورجال الدين

في تاريخ الإسلام من هذه الناحية طرائف لا يروى مثلها عن جماعة من الجماعات الإنسانية إلى اليوم، منها أن أسامة بن زيد تعقب مهزوما حتى صعد وراءه الجبل؛ فلما رأى الرجل السيف يهوي عليه نطق الشهادتين، فلم يكترث أسامة له وقتله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استحضره وعنفه على فعله، فقال أسامة: يا رسول الله إنه نطق بها تقية لينجو بنفسه. فقال النبي منكراً عليه: أشققت عن قلبه؟

لا أظن أن بعد هذا غاية في التنبيه على وجوب احترام الحياة البشرية

محمد فريد وجدي

ص: 48

‌على طريقة الصين أو أبى دلامة

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قرأت في بعض ما كتب عن الصين الحديثة وحروبها الداخلية - قبل أن تغزوها اليابان - أنه كان يحدث أن يخرج القائد من القواد الصينيين لقتال غريمه فيلقى الجمعان ويصطف الجيشان ويبرز أحد القائدين، ويدعو خصمه فيخرج إليه ويقف بين العسكرين يتبارزان ولكن بالحجة والمنطق، ويتصاولان ولكن على الورق والخرائط، ويتجادلان في أي الخطتين كانت خليقة أن تجيء صاحبها بالنصر، حتى يقتنع أحدهما بأن الدائرة ستدور عليه لا محالة، فيعد نفسه مهزوماً، ويرتد بجيشه عن الساحة، وينصرف خصمه وقد رفع ألوية النصر

كذلك قال بعض الكتاب. وزعموا أيضاً أن هذا بعض ما أطمع اليابان في الصين وأوهمها أن قتالها أمر هين، وأن المنال قريب والغاية في حكم المدركة، فإذا بها تتورط في حرب لا تعرف لها منها مخرجاً ولا تتبين لها نهاية قريبة، بعد أربع سنوات طويلات دخلت في خلالها مئات من المدائن، واحتلت رقعة أوسع من نصف القارة الأوربية وما زالت الحرب - إذا اعتبرنا قوة المقاومة - كأنها في بدايتها

وليس من همي أن أقول شيئاً عن الصين، وإنما سقت هذا الخبر لأني ذكرت له مشبها له من أخبار أبى دلامة الشاعر الماجن الظريف فقد حكوا عنه - وحكى هو عن نفسه فيما يروون عنه - أن الخليفة - المنصور أو المهدي - غضب عليه لاعتكافه على الخمر، فأمر به فخرج في بحث حرب مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. قال أبو دلامة:(فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه) فضحك وقال: (والله لأدفعن ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك) ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى ودعا بغيرهما، فلما حصل ذلك زالت عني حلاوة الطمع فقلت له:(أيها الأمير هذا مقام العائذ بك) فقال: (دع عنك هذا) وبرز رجل من الخوارج يدعو إلى المبارزة فقال: (اخرج إليه يا أبا دلامة) فقلت: (أنشدك الله أيها الأمير في دمي) قال: (والله لتخرجن) قلت: (أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج)

ص: 49

فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعيناه تتقدان، فقلت له:(على رسلك يا هذا كما أنت) فوقف، فقلت:(أتقتل من لا يقاتلك. . .) قال: (لا) قلت: (أتقتل رجلاً على دينك) قال: (لا) قلت: (أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتل إلى دينك) قال: (فأذهب عني إلى لعنة الله) قلت: (لا أفعل أو تسمع مني) قال: (قل) قلت: (هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك عليّ، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً) قال: (لا والله) قلت: (ولا أن أعرف والله إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأريد السوء لمن أراده لك) قال: (يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف) قلت: (إن معي زاداً أحب أن آكله معك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا) قال: (أفعل) فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلها على معارفها والناس يضحكون، فلما استوفينا ودعني، فقلت له:(إن هذا الجاهل - يعني روح بن حاتم - إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل) قال: (قد فعلت) ثم انصرف وانصرفت، فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك. فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى المبارزة، فقال لي: اخرج، فقلت له:

إني أعوذ بروح أن يقدمني

إلى النزال فتخزى بي بنو أسد

إن البراز إلى الأقران أعلمه

مما يفرق بين الروح والجسد

إن المهلب حب الموت أورثكم

وما ورثت اختيار الموت عن أحد

لو أن لي مهجة أخرى لجدت به

لكنها خلقت فرداً فلم أجد

فضحك وأعفاني

وهذا الذي كلم به أبو دلامة قرنه فكفاه شره، احتجاج قوي لترك الحرب، ولو كان الأمر إلى الجنود المسوقة وخوطبت بمثله لكان الأرجح في الرأي والأغلب في الاحتمال أن تلقى السلاح وتنفض يدها من كفاح لا تعرف باعثاً عليه أو موجباً له، ولكن الأمر للقادة والرؤساء وهؤلاء لا يعبئون إلا بما يطمعون فيه ويسعون له، ولا يبالون من رضى ممن سخط، ومن بقى ممن هلك، إذا هم أدركوا بغيتهم ونالوا وطرهم

وقد خاطب الألمان جنود فرنسا بمثل كلام أبى دلامة - في هذه الحرب فكانوا في الشهور الأولى - شهور الركود والتربص - كل ليلة ينادونهم من خط سجفريد (أن لماذا تحاربوننا

ص: 50

يا معاشر الفرنسيين ولا عداء بيننا وبينكم ولا مطمع لنا في مستعمراتكم، وقد سمعتم (الفوهرر) يقول في خطبته إن بناء خط سجفريد اعتراف من ألمانيا بأنها تعد الحدود بينها وبينكم نهائية، ولولا ذلك ما جشمت نفسها مشقة البناء ونفقاته، إنما غريمنا وغريمكم الإنجليز، وقد زجوا بكم إلى الحرب ليقاتلونا بكم) الخ الخ وقد فعل هذا الكلام فعله في نفوس الفرنسيين وظهر أثره في معركة فرنسا

وأعود بكم إلى صاحبنا أبى دلامة فأقول: إن الرصافي - شيخ شعراء العراق في هذا الزمان - أسبغ الله عليه برد العافية صنع شعراً في خبر أبى دلامة مطلعه (قضت المطامع أن تطيل جدالاً)

قال فيه:

أمن السياسة أن يقتل بعضنا

بعضاً ليدرك غيرنا الآمالا

تفنى الجيوش ولا ضغائن بينها

سبقت ولا ترة ولا أذخالا

وأستطرد إلى قصة أبى دلامة ثم ختم القصيدة بقوله:

إن الدهور - وهن أمهر سابك -

سترد أضداد الورى أشكالاً

حتى كأني بالطباع تبدلت

غير الطباع وزلزلت زلزالا

وكأنني ببني الملاحم أصبحوا

لأبي دلامة كلهم أشكالا

ويا عسى ولعل، وسمع الله منك صديقنا، ولكن هيهات. . . هيهات! والسلام عليك إذا لم يكن على الأرض سلام

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 51

‌مزامير

للنفس العربية

للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

2 -

غول المهد الأول

كان المهد الأول للعربية (غول) عجوز شوهاء، عمرت هناك دهرا طويلا تأكل أكباد الرجال بالحقد والضغينة والحسد والأنانية والتفرد، وتلعب بقلوبهم، تتخذ منها عقوداً وقلائد، إذ تغري بينها العداوة والبغضاء، فتوقد نيران الحرب الطاحنة لتلغ في دماء الجميع: القاتل والمقتول، والخاذل والمخذول. . .

وقد اتخذوها إلهة معبودةً وقدموا لها القرابين من دماء الأحرار، وزينوا عرشها بجماجم الشبان المفتون دائماً بالبطش والحرب، وأنشدوها الأشعار، واجتلبوا لها الأسمار، وقرعوا الطبول، ونفخوا الزمور. . .

ما تركت فيهم شاباً يكتهل أو كهلاً يشيخ؛ فكبدها عطشى مخلوقة من نهم الرمال، وجشعها للدم المسفوح والدمع المنضوح. . . فلم تك تبقي للحياة إلا النساء والأطفال والمستضعفين، من الذين يقال فيهم: بقايا السيف، وطلقاء عفو القادرين. . .

وكان لها كأسان: تتلقى في إحداهما دم الرجال، وفي الأخرى دمع النساء على الرجال. . . ثم تمزج وتشرب وتعربد وتقهقه. . . كاشفة عن أنيابها الزرق المسنونة. . .!

تلك هي الفرقة! حليلة الشيطان المحظية. . . يقدمها بين يدي الجليل الخطير من كيده، ويرصدها لتحطيم الشأن العظيم في حياة الإنسان غريمه. . . أخرجه بها من الجنة حين فرق بين هوى آدم وحواء ووصايا ربهما، فأزلهما. . . فهبطا إلى الأرض للمحنة والعناء. . . فكانت بيده مفتاحاً عريقاً يفتح به قلوب بني آدم للشر، ويغلق به أبواب الخير. . .

وقد أسكنهما قلب الجزيرة العربية، وأوصاها ألا تترك قلوب هذه الأمة تجتمع وشملها يلتئم وذكاءها الخارق وبيانها الحاذق ييسران لما خلقا من أجله؛ إذ كان يعلم أن وثيقة ملاعنه وبيان خدائعه للنفس البشرية، ستكتب بقلم هذه الأمة، وتسجل في (كتابها)، وتنزل على قلب أحد أبنائها؛ فاستجمع لها كل خبائته ومكايده، واستعان حليلته وأرصدها لها بكل سبيل،

ص: 52

وفتنها بأكرم خصالها: الشجاعة والكرم والبيان!

حول الشجاعة إلى وحشية وإسراف في سفك الدماء، كأن ذلك حرفة. . .

وحول الكرم إلى إسراف في مقومات الحياة وتفريط في بنائها المادي، حتى لا يحصل تمدين فيستقر السلام، فيكون وراءه عمران مستفحل وخدمة باقية في الذريات والأعقاب، للتحضير والترقية والتهذيب. . .

وحول البيان إلى شقاشق تهدر ثم تضيع، وأناشيد ترسل فيما لم تخلق له؛ إذ تسجل المخازي وتعرض العورات على الأسماع، وتهيم بأصحابها في أودية الخيال. . .

وكان يعلم أن الظلم والشرك والعبودية والجهالة - وتلك هي قوائم عرشه - ستهدم بأيدي هذه الأمة، وأن ألاعيبه وتماثيله التي كان يملأ بها معابد الأقوام وجوانح إنسانية الشرق والغرب ستتركها معاول العرب حطاماً وجذاذاً. . . . فجعل من بينها سداً ومن خلفها سداً، وغشى أبصارها عن إدراك مواهبها ومكارمها وما عندها من الفطرة الصادقة. ووضع همه الأول في تفريق قلوبها وتمزيق وحدتها، ووسوس لكل قبيلة أنها أمة لها دم خاص منحدر من ماء السماء وضياء النجوم. . . وإلى كل فرد أنه خير هذه الأمة، وأنه عملها المفرد، وبدرها والفرقد! فغنى لنفسه وشرب على هواها مع النجوم في ظلمات الليل، ومع الشمس والشياه والبعران في مراعي الصحراء. . .

وفي الأرض أمامه سعه ومذهب لكل من أراد الاستقلال والتملك. . .

وفي السماء هول وعظمة يغريانه بمد آفاق نفسه كما يشتهي. . .

وفي القلب الإنساني حطب ولهب لكل فرقة ولكل شرود وجموح فلا عليه أن ينشد الإمارة ولو على الحجارة. . .

يا لهذه الصرخات الدائمة في أذن الصحراء من حناجر فتيان هذه الأمة!

يا لبكر. . .! يا لتغلب! يا لمضر! يا لربيعه! يا لعدنان! يا لقحطان! يا لكل قبيلة على كل قبيلة!

وسباع الأرض وهوامها وخشاشها، وعقبان السماء ونسورها، تتسمع إلى هذه الصيحات وتتبعها؛ لأنها أبواق دعوتها إلى الولائم التي تقام من الدماء التي تشخب، والبطون التي تبقر، والأكباد التي تفرى، والقلوب التي تسحق، والعيون التي تفقأ، والأشلاء التي تتناثر.

ص: 53

فكم من قلب كبير لبطل كريم في فم ذئب لئيم. . .!

وكم من لسان فصيح بليغ في منقار غراب بكى منكر الصوت قبيح المرآة. . .!

وكم من عين نجلاء صافية تحت خنفساء قذرة وعقرب عمياء!

ثم يصحوا الذين نحروا الجزور وشربوا الخمور وأنشدوا الأشعار وهتفوا وصرخوا بدعوى الجاهلية، ويستيقظون بعد أبتراد الغلة وذهاب الحمية وسكون الترة، ويعودون إلى الخيام يسمعون للبوم والخفافيش وندب النساء وعويل الأطفال على الجثث الطريحة على الشراجع والنعوش. . .

والغول واقفة تقهقه فيذهب صوتها كصرخات مفزعة في شعاب الجبال وبطون الوديان وأغوار الكهوف. . .

ثم يسمع لقهقهتها صدى بعيد من حناجر الشباب الهاتفين: إلى الحرب. . .

إلى الفطام من الحب ونعيم السلم وقرار الأمن. . .

إلى الثأر من الذين قتلوا الآباء واستحلوا الحرمات. . .

ثم تدور الرحى على أمواج الرمال وضفاف بحار السراب والآل

فيلتقي رجل برجل (تحية بينهم ضرب وجيع)

ثم ترقص الحرب عارية حمراء، تنوس على الآفاق ذوائبها السود وغدائرها التي نسجت من ريح السموم. . .!

وتحولت الأمة العربية تحت سحر هذه الغول إلى أمة من الأحطاب. . . لا تتوهج عناصرها وتظهر عبقرياتها الكامنة إلا إذا مستها النار برهة تستحيل بعدها إلى رماد وهباء منثور تذروه الرياح على وجه الصحراء أرض الفناء والصمت الذي لا يخرقه إلا صرخات هذا الإنسان الضائع الفريد. . .

أما النمو والإبراق والإزهار والإثمار فتلك أدوار لم يكن لشجرة الأمة العربية منها نصيب كبير. . . وأنى للأخشاب والأحطاب أن تثمر وأن يكون فيها مناطق نمو؟ لقد أوشك الجفاف المادي والمعنوي أن يميت جذور هذه الشجرة العظيمة العريقة فاحتبس عنها فيض السماء وسيح الأرض مدة جعلت لبلبها يوشك أن يموت ويقسو كالأحجار أو يكون أشد

ص: 54

قسوة

ولكن الله رب الطبيعة وموزع إنسانها وحيوانها ونباتها على بقاعها بقدر موزون، ومخرج الحي من الميت ومفجر العيون الثرارة من قسوة الحجارة. . . كان يصنع هذه الأمة هكذا تحت عوامل الحرمان والقسوة والجفاف والجهالة ليصنع منها معجزتها الأخيرة ويخرجها فجأة على إنسانية الشرق والغرب الناعمة المتعلمة الغنية بموارد الخصب والمال وأفانين الحكمة والجمال كما يخرج الفجر الصادق الوضاح من ظلمة الليل البهيم. . . ليعلم الإنسان أن عقله وقلبه في قبضة الذي (الأرض جميعا قبضته والسماوات مطويات بيمينه. . .) الذي يجلو بياض النهار، وينسخ سواد الليل ويحيي الأرض بعد موتها ويحول بين المرء وقلبه. . . الذي وضع قوانين الطبيعة وإن شاء خرقها: فهو لا يخضع لها كما يخضع أبناء العجز والفناء. . .

فقال للفجر الصادق في حياة الإنسانية: أبزغ من هنا. . . من أفق هذه العقول المحرومة من هدى النبوات وإرشاد العلوم، واسطع من هذه السماء التي لا ينظر إليها أحد من عباد دنيا الروم وفارس والمفتونين بعلوم اليونان. . . وأشرق من أرض الأوثان على المعابد والهياكل والبيع والصوامع (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)

وقال للنهر الدافق مخصب العقول البشرية: تفجر من هنا. من هذه الرمال الظامئة والجبال الكزة القاسية، من غير نطفة دافقة ورحم لاقفة واعية، وأفض فيضك وأرسل سيحك على المواضع العفنة والبؤر الفاسدة التي اطمأن فيها الشيطان وعشش، ثم باض وفرخ. . . وأغسلها؛ فإن استعصت على التطهير فليجرفها عبابك وليحدر بها سيلك مع القش والغثاء والزبد الذي يذهب جفاء

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين!)

وقال للوحدة القومية بل للوحدة الإنسانية الجامعة: استعلني من هذه الأرحام المقطعة والعرى المنفصمة، واقتلي (الغول) واجمعي الفلول. . . (. . . وألف بين قلوبهم. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)

ص: 55

(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)

فإذا أمة من الرهبان الفرسان يحملون المصحف والسيف لرسم الطريق وحماية السائرين فيه. يأخذون الدين بكاء وخشوعاً بالقلوب في المحاريب. ودفاعاً نبيلاً في الميادين، وعملاً صالحاً مثمراً في الأسواق والمعاهد والحقول والمصانع والجيوش. . .

وإذا دولة يحكمها سائسون قديسون! ليس فيهم خيلاء الحكام ومطامعهم وغطرستهم، وخداع الساسة وختلهم ونفاقهم، إذ كانوا يفقهون أن الحاكم خادم، والأمير أجير، والسياسة نصح وتربية وإرشاد، لا تجارة واحتراف وذبذبة مع اتجاه رياح المطامع، وخطب جوفاء، ووعود خلابة، وأماني براقة كالتي يلقيها ساسة هذا الزمان على آذان الإنسانية الشقية ليحشدوها بها في مواكب مجدهم الشخصي الكاذب وخيلائهم العاهرة. . .!

عبد المنعم خلاف

ص: 56

‌غضبة إسلامية

للأستاذ عبد الله عفيفي بك

استهل عام اثنين وستين وثلاثمائة والدولة الإسلامية ببغداد تعاني جرحاً أليماً أصابها في الصميم، فقد اقتحم الروم بلاد الجزيرة وأمعنوا فيها، ودخلوا نصيبين واستباحوا وقتلوا وسبوا أهلها إلا من نجا بنفسه وهم عدد قليل

وجاء الناجون إلى بغداد ودخلوا المساجد وكسروا المنابر ومنعوا الخطباء ووقف رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يخطبون الناس. وهل هنالك أخطب من امرأة تقص على الناس مأساة ابنتها العذراء، أو طفل يحدثهم عن مذبحة أخوته الصغار؟

هنالك ثار المسلمون ومادت بغداد بثورتهم حتى أصبحت أرضها وسماؤها وجوها ونهرها وجبلها رجوما من النار

وكان عز الدولة بن بويه القائم بالأمر في خلافة المطيع لله غائبا في بالكوفة، فذهب إليه وفد من علماء المسلمين ووصفوا له الخطب الفادح والثورة الجائحة، وأن ليس للمسلمين إلا أن ينتقموا أو يموتوا، وعادوا وعاد معهم عز الدولة، ونادى بالنفير في الناس. . .

هنالك ثارت الجماهير، وتألبت العامة، وخرج كل رجل عما يملك، وخرجت كل امرأة عما تملك، حتى عن أولادها فتياناً وصبياناً، وكل من يغني غناء قل أو كثر في سبيل الله

ونزل الخليفة عن ماله كله، وأثاث بيته كله، ثم جمع ثيابه وباعها، وهدم داره وباع أنقاضها، وقدم الحديد العاصم لها ليستعين به المجاهدون في الله

وسار الجيش كالسيل المندفع، أو كالعاصفة الثائرة، وأقوى أسلحته الغضبة الحامية لما أصاب المسلمين من ذل وهوان؛ وغضبة المسلم لله شعلة الإيمان في صدره وقوة الله في يده

وكان الروم قد أقاموا مقالع الصخر ومجانيق الحديد ومقاذف اللهب على أسوار نصيبين؛ فلما جاء المسلمون قذفهم الروم بذلك كله فلم يبالوا بشيء منه. وما أسرع ما أحاطوا بالعدو وأوقعوا به وقعة قد لا يكون لها نظير في التاريخ. وأسروا أمير الجيوش وقواده وبطارقته والسفاحين من رجاله وساقوهم إلى بغداد ليقضي فيهم أمير المؤمنين بقضاء الله المنتقم الجبار

ص: 57

وبعد ثلاث سنوات حشد الروم قوى هائلة ولم يهاجموا هذا الحصن من حصون الإسلام بل هاجموا الحصن الثاني وهو الدولة الفاطمية واقتحموا حلب وحمص وحماة وفعلوا بها مثل ما فعلوا من قبل بنصيبين

وهنا يظهر الروح الإسلامي النبيل

فقد كتب عز الدولة إلى العزيز بالله الخليفة الفاطمي يقدم له ولاءه وولاء الخليفة العباسي ليشترك المسلمون في مصر وبغداد على دفع العدو المشترك، فتقبل العزيز هذا الود الإسلامي بأحسن القبول وقال إن الجيش المصري سيحمل هذه المرة العبء كله

وسار الجيش الفاطمي يحمل الراية الإسلامية من نصر إلى نصر، حتى دفعوا العدو دفعا وراء الحدود، ثم وقف الفريقان متحاجزين يحجزهما نهر يسمى (نهر المقلوب) ولكن الجيش الإسلامي آلى على نفسه أن يضرب العدو في عقر داره، حتى يقلم أظفاره عن الغدر بالمسلمين، فكيف وليس على النهر جسر، وليس فيه مخاضة؟ هنالك تظهر القوة الإسلامية التي لا تخاف الموت، فقد خلعت إحدى الفرق الإسلامية ثيابها الظاهرة، وتقدمت في النهر سابحة، وبينما هي تسبح كانت تضرب العدو بالنشاب!! وكان العدو ضربها كذلك بكل ما ملكت يداه

وبعد جهاد تحار من هوله العقول بلغت الفرقة الشاطئ وتبعها الجيش كله وضربوا العدو ضربة مزقته أشنع تمزيق. ولو طال عمر العزيز بالله أياماً لسار هذا الجيش يحمل رسالة الله إلى آخر مداه

أيها المسلمون في بغداد وفي مصر؛ بل أيها المسلمون في بقاع الأرض جميعا:

بعد عامين اثنين ينقضي على موقعة نصيبين التي باع فيها الخليفة ثيابه ونزع الحديد من أنقاض بيته ألف عام

وبعد خمسة أعوام ينقضي على موقعة حلب التي ضرب فيها المسلمون عدوهم وهم مندفعون سابحين في النهر ألف عام

وبعد خمسة أعوام ينقضي على الوحدة المقدسة التي انعقدت بين المسلمين في مصر وبغداد ألف عام

فهل تتأهبون لإقامة الأعياد الألفية لهذه الأحداث الجسام؟

ص: 58

وليست الأعياد زينات تمر ولا أعلاما تقام، ولكن الأعياد الشاملة عرض للقوة، وتوثيق للوحدة، وإبرام للعهد، وإذكاء للعزيمة، وإعزاز للإسلام

فهل أنتم مستعدون؟

عبد الله عفيفي

ص: 59

‌كتيبة الإسلام

للأستاذ محمد عبد الله العريان

مضى الركب على وجهه يطأ الحزونة ويجوب الصخر في المفازة الجرداء، لا يتكاءده سهل ولا جبل، فما هو إلا أن انتهى إلى (ثنية المرار) من أسفل مكة، حتى حط رحاله ووقف ينظر ما يكون من أمره وأمر قريش. . .

أربع عشرة مائة من أصحاب محمد عليهم الدروع والحلق، وفي أيديهم سيوف طالما رويت من دماء المشركين علا بعد نهل؛ لو شاءوا لدخلوا (مكة) دخول الفاتح لا يقف دون غايته شيء ولا يثبت له بطل؛ ولكن محمداً وأصحاب محمد لم يسعوا مسعاهم ذلك لحرب يحشون نارها في الشهر الحرام في البلد الحرام؛ وإنما جاءوا معتمرين حاجين يدعون دعوة السلام في دار الأمن والسلام. . .

أفترى قريشاً وقد أخرجت محمداً وأصحابه بليل منذ ست سنين فأجلتهم عن ديارهم وأموالهم عنوة، تأذن لهم اليوم أن يدخلوا البلد الحرام في عدة وعدد ليستلموا ويطوفوا ويدعوا دعوتهم بين سمع العرب وبصرها؟. . .

وكتبت قريش كتائبها وأجمعت أمرها على أمر؛ وخرج بنو عبد مناف وأحلافهم في جلود النمور، وعهم النساء والولدان، يقفون لمحمد على الطريق معاهدين ألا يدخلها عليهم عنوة أبداً!

ونظر محمد إلى أصحابه عليهم الدروع والحلق، وأيديهم على مقابض سيوفهم يريدون أن يقابلوا عدوانا بعدوان؛ ثم أرتد نظره إلى قومه الذين فارقهم وفارقوه، قد اجتمعت جماعتهم هناك تترقرق دماؤهم بين اللحى والترائب؛ ثم هتف محزوناً أسوان:(يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب! فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة!)

هنا جيش وهناك جيش، والرسل ما تزال ساعية ذهاباً وجيئة تحاول (الهدنة) بين العسكرين المتعاديين، حفاظاً على حرمات الشهر والبلد؛ وهدأت فورة الدم حيناً ريثما ينتهي أمر المتفاوضين إلى أمر؛ ولكن هناك، في مكة، على مسيرة ساعة أو بعض ساعة، كان بضع عشرات من المسلمين يعض الحديد على أرجلهم، ويعانون ذل الأسر في ظلمات

ص: 60

فوقها ظلمات؛ أولئك جماعة من المستضعفين قد تقطعت بهم الوسائل، فلم يهاجروا فيمن هاجر من المسلمين إلى المدينة، وضرب عليهم وأهلهم ومواليهم بسور ليس له باب، يجرعونهم الذل ويسومونهم سوء العذاب ليفتنوهم عن دينهم؛ ولكنهم صبر على الضراء، مؤمنين بأن يوما قريبا يوشك أن ينطلقوا فيه من إسارهم إلى حيث يعبدون الله جهرة، ويتملون وجه محمد وأصحاب محمد. . .

متى الميعاد. . .؟

كذلك راح كل واحد من هؤلاء الأسارى يسأل نفسه؛ فما هو إلا أن جاءهم النبأ بأن محمدا وأصحابه قد بلغوا ثنية المرار من أرض الحديبية، حتى راح كل منهم يأمل أملاً ويتمنى أمنية، ومضى بعد عدته لأمر؛ أليس جيش محمد يوشك أن يدخل مكة فاتحاً منصوراً لا يقف له شيء؛ فما بقاؤهم في الذل والإسار بعد!

وانتهى العسكران إلى شروط الهدنة الموقوتة، وراح محمد يملي على كاتبه:

(هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يامن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير أذن وليه رده عليهم، ومن جاءه قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه. . .!)

ووثب عمر بن الخطاب كالملسوع يقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟

قال محمد: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني. . .!

ومضى الكاتب يكتب. . . ولاح شبح من بعيد يتقارب، تجاذبه أثقال الحديد في رجليه؛ وطلع فتى أشعث أغبر على وجهه قترة وفي عينيه ذبول، فما هو إلا أن لاح له مجلس محمد وأصحابه حتى ترامى عليه وهو يهتف: الحمد لله الذي آمنني بك يا رسول الله من ذل الإسار وعسف الكفرة!

ذلك (أبو جندل) بن سهيل بن عمرو، قد فر من أسر المشركين إلى رسول الله يستعينه على الخلاص. . .

وصمت محمد، وغمغم أصحابه بكلام؛ ونظر إليه أبوه سهيل أبن عمرو وقال وفي لهجته شماتة وسخر: هيهات أن يؤمنك محمد بعد!. . .

وعاد الفتى إلى محبسه وبين جنبيه هم يضيق به!

ص: 61

وكان ثمة رجل آخر يتربص، ذلك (أبو بصير) بن أسيد ابن جارية؛ إن الحديد ليعض على رجليه في محبس بني زهرة بمكة منذ سنوات؛ فمتى يحين له الخلاص بنفسه ودينه؟

وجاءه ما كان من أمر (أبى جندل) وما حكم فيه رسول الله، ولكنه لم يجزع

وآب النبي في صحابته إلى المدينة وإن قلوبهم لتفور بالحقد والحفيظة، فلولا أن رسول الله نهاهم لما انتهوا عما أرادوا؛ وتوزعتهم خواطر وهموم، وثقل عليهم ما يلقى إخوانهم هناك، ولكنهم طائعون لأمر الله ورسوله!

. . . ووجد أبو بصيرة سهوة من حراسه فحطم أغلاله ومضى، وتقاذفته الفلوات وحيداً بلا زاد ولا راحلة، حتى بلغ يثرب، وإنه ليعلم ما هناك. . .

وجد الطلب في أثره، فما أدركه قومه إلا وهو في أمان محمد، وما كان محمد ليغني عنه وذلك العهد بين محمد وقريش قائم، ولكن أبا بصير قد أعد عدته لأمر. . .

وجاء رسولا بني زهرة يذكران محمداً العهد القائم ويطلبان إليه أن يرد أبا بصير إلى قومه؛ وما كان لمحمد أن يغدر بما عاهد عليه القوم. . .

. . . وطأطأ أبو بصير رأسه وعاد مع الرسولين أدراجه وعيون المسلمين تشيعه بالدمع، وإن قلوبهم لتفيض بالألم والحسرة؛ ولكن أبا بصير لم يلبث أن عاد إلى المدينة وحيداً وعلى ظبة سيفه دم يسيل!. . .

وماذا على محمد بعد وقد وفى بما عاهد عليه القوم فرد إليهم رجلهم ثم أختار الرجل لنفسه؟

حر أنتصر فلا جناح عليه!

وافتر ثغر النبي عن ابتسامة وهو يقول: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال!)

وسمعها أبو بصير فوعاها، ثم ودع صحابته ومضى لأمره وما تزال يده على قائم السيف. . .

وعلى سيف البحر من ذي المرؤة، كمن أبو بصير كمون القدر يتربص لكل رائحة وغادية

(ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال!)

كلمة تجاوبت بها نسائم القفر بيمن مكة ويثرب، فإذا صداها يتردد بين جدران المعاقل والسجون حيث يرسف المستضعفون من المسلمين تحت حكم قريش، فتلقفتها آذان ووعتها قلوب. . . (بلى، إن معه لرجالاً لا يريدون شيئاً إلا كان!)

ص: 62

ذلك كان رجع الصدى!

وفي ظلال صخور الحرة من ذي المروة على سيف البحر، كانت جموع تتجمع، وكما تجتمع الظلال ثم تفترق فتراها العيون ولا تلمسها الأيدي، كان أبو بصير وصحابته؛ وانطلق السجناء من محابسهم يدرعون الظلماء من كل حدب ليجتمعوا بذي المروة؛ وركز أبو بصير رايته في الوادي الأفيح يستظل بها بضع عشرات مرابطين على طريق قريش لكل غادية ورائحة؛ وانثال عليه المدد، فإذا العشرات بضع مئين؛ وعسكرت (كتيبة الإيمان) على الطريق تحمي الحمى وتمنع الجار، وكان على الميمنة (أبو جندل) وعلى الميسرة (أبو بصير)؛ وكانت قريش الكافرة تزودها وتميرها بكل قافلة تغدو وتروح!. . . وانقطع طريق الرائح والنادي على مكة من أرتد أن يطل دمه!

وتسامع الناس بما هنالك ففزعوا وراحوا يداولون الرأي. . .

وسعى ساعي قريش إلى محمد في المدينة: يا محمد، نسألك بالرحم إلا ما آويتهم، فلا حاجة لنا بهم بعد!

وابتسم محمد، ثم دعا كاتبه ليكتب إلى أبى بصير يدعوه إلى الأمن والدعة. . .

ومضى الرسول بكتاب محمد يغذ السير إلى ذى المروة ليدفع كتاب محمد إلى أبى بصير إلى الأمن والدعة، بعد جهاد العمر ومشقة الحياة؛ فما بلغ الرسول حتى كان أبو بصير سطيحاً بين أثنين من صحابته وهو ينشد في صوت يختلج:

الحمدُ للهِ العليَّ الأكبرْ

من ينصر الله فسوفُ ينصراْ!

ودفع الرسول إليه الكتاب، فتناوله ونظر فيه نظرة ثم أغفى، وكانت إغفاءة الأبد!

وسكنت الريح، وخفت الصوت، وتجاوب بين الصخور صدى الصم هاتف:

(اللهم قد بلغت! اللهم إلى أمنك ودعتك!)

محمد سعيد العريان

ص: 63

‌درس في التصوف

للأستاذ زكي نجيب محمود

- مالي أراك يا بني مزوراً عن الدرس نافراً؟

- أخشى، يا أبتاه، أن يثقل على سمعي فيثقل ذلك على نفسك، فما لشبابي الغض وهو في شرخه وعنفوانه ولهذه النظرة البائسة العابسة، وهي نظرة المدبرين العاجزين

- انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطليق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح. . . أو ينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق وذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار وذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها وهذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟

- ومالي ولهؤلاء يا أبتاه، وأنا إنسان، وهي من الجماد والنبات والحيوان؟

- أنت يا بني كل هؤلاء؛ وهؤلاء كلها أنت. . . أنت الكون العظيم بكل ما فبه من قوة وفتوة وجلال وجمال. . .

ولكني يا أبت أراني فرداً واحداً محدوداً، فها هي ذي حدودي أراها بعيني وأحسها بأصابعي

- ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل هذه لغة العيون والأيدي، ثم هي كذلك لغة العقل وحده، وهذه كلها أدوات لم يخلقها الله إلا لتفهم المادة المحدودة بالموازين والمكاييل. . .

- فأن لم أركن يا أبت إلى حواسي وعقلي، فإلى أي شيء أركن في فهم الوجود؟

- إلى فطرة عليا يا بني، هي فوق العقل والحواس. . . اركن يا بني إلى البصيرة لا البصر، فالبصر خادع خادع خادع، فهو تارة لا يربك الموجود، وهو طوراً يربك غير الموجود. . .

أن الوجود يا ولدي كائن واحد ضخم. وهذه الأشياء منه جذوع وفروع وأطراف، وهذا الوجود الواحد هو أنت، وأنت هو هذا الوجود. . .

- كيف لي أن أفهم هذا القول يا أبت؟

- إيتني بثمرة من تلك الشجرة، فسأحدثك بلغة تفهمها

ص: 64

- هاهي ذي

- ماذا ترى في جوفها؟

- أرى في جوفها بذوراً صغيرة

- اقطع بذرة منها إلى نصفين

- هاأنذا، يا أبت، قد فعلت

- ماذا ترى فيها؟

- لا أرى شيئاً

- أن الجوهر الدقيق الذي عجزت عيناك أن تراه قد نبتت منه هذه الشجرة الباسقة. فصدقني إن زعمت لك أن من مثل هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت!

-. . . . . . . . .

- تعال يا بني فضع هذه القطعة من الملح في الماء، ثم أذبه

- لقد فعلت

- إيت لي بالملح الذي وضعته في الماء

- لست أراه يا أبت. . .

- ولكن ذلك الماء كيف مذاقه

- إنه ملح!

- دع الماء جانباً واقترب مني. . . إن الملح الذي لا تراه موجود؛ وهكذا نعجز أن نرى الموجود الحق في دخيلة أجسامنا، ولكنه موجود، ومن وجود هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود. إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت

فهذا الرباط الخفي الذي يصلنا بأجزاء الوجود فيجعل منا كائناً واحداً، قد لا تبصره العيون، ولا تحسه الأيدي، ولكنه مع ذلك كوجود. وذلك يا بني أول ما أريد أن أعلمك إياه: الوجود كله حقيقة واحدة لا فرق بين إنسان عارف وكون معروف؛ فإن زعمت أنك شيء والوجود شيء آخر، فأنت في نغمة العالم (نشاز) بغيض. . . والتطبيق العملي على هذه الخطوة الأولى هو أن تحطم من ذهنك كل ما يميز إنساناً من إنسان، حطم هذه الفواصل التي تباعد

ص: 65

بين الغني والفقير، حطم هذه الفواصل التي تفرق بين القرشي والحبشي، حطم هذه الفواصل التي تفاضل بين سامي وآري. . . فالإنسانية كلها عند الصوفي رجل واحد

أستغفر الله، بل حطم هذه الحواجز بين الإنسان وأبناء عمومته وخؤولته من بني الحيوان، فليس عبثاً أن حرم الله قتل الحيوان آناً من الزمان، فالحياة كلها عند الصوفي آية واحدة. . .

أستغفر الله، بل حطم هذه الحدود التي تجعل من النبات كائناً ومن الحيوان كائناً؛ ثم ماذا؟ ثم أمح يا بني ما أقامه العقل المتكلف بين الحي والجامد من سدود. . . فأن الوجود بأسره عند الصوفي كائن واحد

إن أس البلاء يا بني هي هذه الحواس التي تجزيء لنا الوجود قطعاً قطعاً فتحسب الوجود أشتاتاً وما هو بأشتات. . .

- وكيف السبيل إلى النجاة يا أبت؟

- عليك بثلاثة أمور: أولها الصلاة وثانيها الصلاة وثالثها الصلاة. . . عليك بالصلاة يا بني، فهي فترات أراد لنا الله فيها أن نخلص من جزئيات الوجود، لنتصل بالواحد القيوم خمس مرات كل يوم. ألست ترى كيف يحاول الماثل بين يدي ربه أن يغلق حواسه فلا يبصر مما حوله شيئاً ولا يسمع شيئاً؟ ذلك لئلا تعطل حواسه الفكر عن الوصل المنشود. . . ألا ترى إلى المساجد كيف تزداد روعة على روعة، ورهبة على رهبة، حين يخفت ضوءها ويهمس صوتها، وحين لا تكون فيها الحركة إلا في بطء وتثاقل. . .؟ ولم ذاك؟ ليساعد الفكر على التركز في الغرض المقصود، والحد من عوائق الحواس ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً: فلا نور يبهر البصر، ولا صوت يملأ السمع، ولا حركة تثير الأعصاب. . . عندئذ يتحقق ما أجراه أفلاطون في محاورة فيدون على لسان سقراط:

(. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر العقل في حدود نفسه، فلا يعكر صفوه أصوات في السمع ولا رؤية في البصر، ثم لا يعكره شعور بألم وشعور بلذة. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر روابطه بالجسم في أضيق دائرة ممكنة، فلا إحساس في الجسم ولا وعي في الشعور. . . عندئذ يطمح الفكر في أن يصل إلى الكائن الأسمى)

وتلك هي الفكرة الثانية التي أريد أن أعلمك إياها يا بني هذا المساء: فارتفع عن صغائر

ص: 66

الأشياء ما استطعت إلى الترفع عنها سبيلاً. . . إن هذه الأجزاء أشباح زوائل، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. . .

- يا لهول ما تريد من يا أبتاه! إن لحمة الحياة وسداها هي هذه الأجزاء التي تدركها الحواس، فإن حكمت لي على الحواس بالطمس، وعلى هذه الأجزاء بالبطلان، ففيم عسى أن أجاهد في حياتي، ولطالما علمتني أن الحياة جهاد!؟

- لقد أخطأت يا ولدي، فإنما أردت لك أن تهمل أحداث الحياة الصغرى لتتعلق نفسك بمعانيها الكبرى، وفي هذا فليجاهد المجاهدون. . . إنما أردت لك أن تهمل القشور لتعب من اللباب. . . فاهجر ما تغريك به الحواس، ليتسنى لك أن تقبل على الحياة إقبال الجريء الباسل الذي لم تعد تهزمه المخاوف الصغرى والأخطار التوافه!

إن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. . . إنه حين قال ذلك كان المتصوف الأكبر الذي أهمل صغائر الحياة ولذائذ الحس لينصرف إلى أداء الرسالة الكبرى مهما لقى في سبيل أدائها من عناء

وتلك هي الفكرة الثالثة التي أردت أن أهديك بها اليوم: اترك جانباً من الحياة لتمعن في جانب. انفض عن كاهلك غبار الدنيا من ناحية لتقبل عليها تقياً نقياً من ناحية أخرى. . .

إن التصوف يريدك أن تقف من دنياك موقفا وسطاً بين الإهمال والإقبال، فإن أنت أهملت كأنك لست منها، فلست بالمتصوف الحق، وإن أنت أقبلت على الدنيا كأنها عندك كل شيء فلست بالمتصوف الحق. . . إن شغلت منصباً من مناصب الدولة الملحوظة، فأهملته ولم تأبه لشيء مما يتصل به، فلست بمنصبك جديراً، وإن شغلت المنصب بحيث تندك قوائم نفسك لو أفلت منك، فلست كذلك بالمنصب جديراً. فالرجل الحق هو الذي يبذل وسعه مجاهداً يريد النجاح ولا يخور للفشل. . . إن التصوف الصحيح ليريدك على أن تنغمس في العالم بقدر وتنسحب منه بقدر، بهذا تكون سيد نفسك، ولا تصبح ألعوبة لاعب في أيدي القدر. . .

ولتعلم يا بني أخيراً أن العالم الحق لا يكون كذلك إلا إن كان متصوفاً، فهل رأيت عالماً لا يفني نفسه إفناء في سبيل علمه؟ هل رأيت عالماً لا يضحي بشواغل الحياة الصغرى

ص: 67

ليصل في بحثه إلى الحقيقة الكبرى؟ هل رأيت عالماً صحيحا يميل مع هواه فيثبت حقيقة تعجبه ويحذف حقيقة تؤذيه؟ ثم ماذا؟ ثم هل رأيت عالما لا يحب موضوعه إلى درجة الفتنة والجنون؟ وما موضوعه! هو الوجود أو ناحية من نواحيه!

- لو كان التصوف يا أبت هو أن أؤاخي بين أجزاء الوجود فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف يا أبتاه يدعو إلى إهمال الأجزاء الحسية الصغرى لينعقد الفكر على مهمة كبرى، فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف معناه الجهاد المخلص في سبيل الحق فأنا أول المتصوفين

زكي نجيب محمود

ص: 68

‌في الغار

للأستاذ محمود غنيم

(ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن. إن الله

معنا)

(قرآن كريم)

مَنْ ذلك الساري على وَجْنائِهِ

يطوي الدُّجى وَيَخُب في أحشائهِ

في قِلَّةٍ من صحبه، لكنه

في فيْلق من عزمه ومَضائه

ما ضرَّه حَلَكُ الظلام وقلبُه

يَتألَق الأيمانُ في أرجائه

الصبر والتّسليم حَشْوُ إِهابه

والهم والتصميمُُ مِلُء ردائه

ينسابُ في آثاره أعداؤُه

وحمامةٌ تنجيه من أعدائه

لو يُحْسِنُ الترحيبَ طيرٌ أعجمٌ

هشَّ الحمام مرحَّباً بلقائه

أخفاه نسْجُ العنكبوتِ ولم تكن

أُسْد الشرَى تقوى على إخفائه

جاء النَّفيرُ بخيله وبِرَجْلهِ

تتزلزلُ الصحراءُ من ضوضائه

نفرت وحوشُ الغاب خشية بأسه

ومحمدٌ كالطَّود في إرسائه

ما طوَّفت أشباحُهم بخياله

إلا طوافَ الحُلْم في إغفائه

ضاق الفضاء بهم وصدرُ محمدٍ

ما ضاق في اللأواء رَحْبُ فضائه

كَهْفٌ كَكِفَّةِ حابل في طِّيه

صدر يتيه الظنُّ في بيدائه

نزلت عليه سكينةٌ من رِّبه

ففؤاده مستسلم لقضائه

ما هَمُّهُ نفسٌ يريد نجاتها

بل مذهبٌ يسعى إلى إعلائه

غرماءه شدوا إليه رِحالهم

واللهُ كان أشدَّ من غرمائه

ضلُّوا فلم تأخذه أعيُنهم

ولم تمتدَّ أيديهم إِلى إِيذائه

وكذلك شاء الله نُصرَةَ عبده

وارتدَّ شانِئُهُ بوجهٍ شائه

ما كان أوْفى صاحبين كلاهما

يَفدِي أخاه مرحِّباً بفدائه

سَهْلٌ عليه أن تسيلَ دماؤُه

ويفوزَ صاحبُه بحَقْن دمائه

ص: 69

غار يضلّ النجمُ في دَيْجوره

لا فرق بين صباحه ومسائه

لا يأمنان النابَ من ثعبانه

أو يأمنان الذيلَ من رَقْطائه

لا أرضُه الجدباء مُثمرة

ولا في صخره نَبْعٌ يجود بمائه

قضيا النهار على الطَّوى في جوفه

وتقلَّبا ليلاً على حصبائه

قم سائل الصِّدِّيقَ ماذا صدَّه

عن ماله وثناه عن أبنائه؟

وَعَلَام يضربُ في المهامة هائماً

في سيره كابن السبيل التائه؟

ما بين ليلٍ حالكِ الأسحار

أو مُستقبَل كالليل في ظلمائه

ما بين شدة رُعبه ويقينه

يَنْبَتُّ أو يمتدُّ حبلُ رجائه

لم يخش إلا أن يُصَابَ محمدٌ

بأذى فيفنى دينُه بفنائه

عجبي على الصِّدِّيق، ماذا يتَّقي

واللهُ رَبُّ العرش من رفقائه؟

ما أصدقَ ابن أبي قُحافةَ صحبةً

لمحمد هند اشتداد بلائه

لِمَ لا يكونُ خليفةً من بعده

أرأيت كالصِّدِّيق أو كوفائه؟

ما ضر غاراً باتُ يؤوى المصطفى

إجدابُ واديه وضيقُ فِنائه

وَدَّت بُرُوجُ النجم لو آوَيْنه

إذ ذاك أو شاركن في إيوائه

غارٌ على (الإيوان) جرَّ ذيوله

عُجْباً وتاه عليه من غُلَوَائه

ما سدُّ ذي القرنينِ قيسَ به ولا

هَرَمُ الكنانة في علوِّ بنائه

هل كان يدري الغارُ أن نزيلَه

سيرجُّ ركنَ الأرض بعد نجائه؟

وَيُزلزل الدنيا بعزم رَفيقِه

وثلاثةٍ كالشُّهْب من خُلفائه

فإذا رجالُ الروم بعضُ عبيده

وإذا نساء الفرس بعضُ إِمائه

وَإِذا بدين محمد يغزو الورى

غزو الكتائب تحت ظل لوائه

وإذا كتاب محمد مُتَغَلغلٌ

في الكون والثَّقَلان من قُرَّائه

نجمٌ من الصحراء كان بُزوغُه

فإِذا الحواضرُ تهتدي بضيائه

الله قدرَّ أن يُتِّممَ نورَه

مَنْ ذا الذي يقوى على إِطفائه؟

(مدرسة فؤاد الأول)

محمود غنيم

ص: 70

‌قبس من نور صاحب الهجرة

أدبني ربى فاحسن تأديبي

للأستاذ محمود الشبيشي

. . . وأخذت القوم الحيرة الممزوجة بالإعجاب من سحر ما أبان، وصدق ما اظهر. وزاد من حيرتهم وإعجابهم انه كان أميا؛ فتلطف أبو بكر رضى الله عنه وقد أصابه ما أصاب القوم وأخذه ما أخذهم، وهو العالم الخبير بأنساب العرب وأخبارهم، فقال يا رسول الله: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت افصح منك؛ فمن أدبك؟

قال: (أدبني ربي فاحسن تأديبي)

إنها لكلمه جامعه، مركبه من كلمات قي منطق اللغة، كثيرة في منطق العقل، تملك القدرة التي تأسر بها كل الحواس. يخيل إلي أن الحروف فيها ليست كالحروف؛ فهي من مادة الروح، وهي من عنصر القلوب، ثم هي بعد ذلك كله من جوهر النور السماوي، ينزل هبه علوية لخير من يعرف أقدار الهبات.

(أدبني ربي فاحسن تأديبي)

جماع الحكمة في ألفاظ حكيمة، ومبعث النور في ألفاظ من نور، وروض الأخلاق الكريمة في حروف كريمة، نطق بها اكرم الخلق فزادت فوق سموها سموا، لان الرسول الكريم ترنم بها. . .

يكاد المرء يلمس في طياتها تتحرك، ويحس هداية الرحمن خلال كلماتها تتلألأ، وهي من سر الروحانية؛ يخيل إليه إن سالت فجرت سيلا من طبيعة الحياة لا التدمير، فهو ينهل من عذبها، ويرى في ثناياها ألوان الروحانية السماوية تتألق بمعاني الهداية، وتتلألأ بأنوار الحكمة، فهو بتأملها ويكاد البصر يتعلق بها فلا يبرحها

ثم هو يوشك أن يشعر بألفاظها تتحرك من سحر ما فيها، وتحيا فكأنما يلمسها ويراها، وهو لما يظهر فيها من نضج الحكمة واكتمال ثمارها يكاد يلتهم أطايبها التهاما، ثم هو لا يشبع من معانيها. ومن ذا الذي يشبع من أطايب الرسول؟ (أدبني ربي فاحسن تأديبي)

ياله من اعتراف نبيل من اكرم الخلق بفضل بارئ الخلق! اعتراف مسلك الهداية، وقول نهج للناس منهج للسعادة. نعم أدبه ربه فاحسن تأديبه، فكان المثل العالي في خلفه؛ فهو

ص: 72

الأمين طفلا، وهو الأمين شيخا. ائتمنه قومه فكان له في الطيبات فضل سابغ وفي المكرمات مجد سامق. وأتمنه ربه فاختصه بأعباء الرسالة، فنهض بها على اكمل الوجوه، وما اختصه بها إلا وقد طهره من كل غرض ونزهه عن كل دنس. أدبه ربه فكان أميناً، ومن أمانته شعت أنوار أخلاقه. لقد أدب الرسول ربه فسمت أخلاقه، ونبلت صفاته، فكان أصدق الخلق حيث يقول:(أدبني ربي فأحسن تأديبي)؛ لا يقف صدق هذه الكلمة الروحانية على نبل صفات الرسول وأمانته، وصدقه، وسمو غايته؛ بل إنها لصادقة في كل تصرفاته كرجل اجتماعي. ومن ذا الذي جمع دقيق أمره وجليله مثلما جمع؟ ومن ذا الذي ربط بين أغراضه وأغراض الإنسانية مثلما ربط؟ ومن ذا الذي قبل الرأي قبل الفصل مثلما قلب؟

من ذا الذي جرى في أعماله وراء الضمير الطاهر مثلما جرى؟ أفلم يبعث للعرب ولم تكن تقيدهم غير تيهاء مترامية، فلم الشعث، وألف القلوب، وآخى بين النفوس، ورأب الصدع، ووحد الثقافة وناهيك بتوحيد الثقافة في إنهاض الأمم! لكم كان الرسول محقاً حين قال:(أدبني ربي فأحسن تأديبي) فهو مثال المصلح الاجتماعي الذي يعلم أن إدراك الداء هو سر الدواء، المصلح الذي يخاطب القلوب والعقول، المصلح الذي يلابس الحياة وما يضطرب في الحياة، فتسوقه هذه الملابسة إلى كل مناحي الإصلاح ولقد كان الرسول كل هذا، وكان فوق هذا المصلح القوي الكريم الذي لا يغويه السلطان فيبطش، وما كان إلا ما يدل على قوة اليقين، والترفع عن الأهواء، والعفو عند المقدرة، والنفور من الطمع. إلا إن هجرة الرسول الكريم لأعظم دليل على إدراكه لروح المجتمع، وحسن تصرفه كمصلح سماوي ذي رأي سديد، وفكر صائب. ما هاجر رجل وصاحبه، إنما هاجرت فكرة وعقيدة. وما اضطهدت فكرة وعقيدة. وما أنتصر رجل، وإنما انتصرت فكرة وعقيدة

ما هاجر الرسول إلا وقد عقد العزم على العودة، ولكن بعد أن يستشعر القدرة على رياضة تلك النفوس الجامحة. ما هاجر الرسول إلا بعد أن أدرك أن من العبث نقاش عقول جامحة غطى عليها الغضب، وران عليها الحقد، فلا سبيل لتقويم عوجها، وتثقيف منآدها إلا بعد أن تسكن فيها عوامل الثورة، وتبرد جمرات التحفز. وأدرك الرسول هذا فكان حكيما، وعلم أن امتداد الزمن بينه وبينهم وابتعاد الشقة - ولو إلى حين - سيفعل في النفوس الجامحة فعله فتتحرك الضمائر، وتحيا القلوب. ولقد كان كل هذا، ودارت السنون، واجتمع للرسول

ص: 73

العدد والعدة، وفعلت العوامل النفسية في القوم فعلها، فرجع فاتحاً منتصراً؛ ولكنه كان كريم الخلق، جميل العفو. لقد ضرب للناس بآدابه مثلاً لو أدركوه وساروا في هديه لعم العالم السلام، ولصفق في جوه الإخاء، ولكن العالم قد فسد تأمله، ففسدت أغراضه، وسار أكثره وراء الطمع، فكان ما كان من جور وطغيان، واستسلم العالم لحروب تأتي على الأخضر واليابس

وكان الرسول كريم الخلق، وكان المصلح الاجتماعي البصير، وكان الخطيب الذي لا يصيبه في الملمات عي، ولا يدركه في المخوفات بهر، يزن كلامه بميزان الحكمة، وما كانت آياته السامية إلا صورة لنفسه السامية. كان خطيبا لا يبارى؛ وكان الشجاع الذي لا يبالي الهلكات

اجتمعت له النجدة والبسالة والشدة، وكان شهما فيه صرامة وفيه قوة لا يطمع في خداعه، ولا يغمز جانبه؛ وكان عظيم الثقة بنفسه، وتلك صفة الرجل الذي يعلم أن الله معه وأن الثقة بالنفس من لوازم الرسالات، حسنت معاشرته واستقامت أغراضه؛ وكانت له هيبة الروح وسعة الحلم، وكرم العفو، ورعاية الرحمن

انظر إليه وقد لقيه عل ى غرة أحد أعدائه، وشهر السيف على رأسه قائلا: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال:(الله) ما أروعها كلمة! نعم يمنعه الله، ولقد منعه حقاً، فسقط السيف من الرجل وأخذه الرسول وقال: من يمنعك مني؟ فقال الرجل وقد أسقط في يده: كن خير آخذ. فقال الرسول: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال: لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون معك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى الرسول سبيله

فهل رأيت أعظم نفسا من هذه النفس الروحانية؟ وهل رأيت رجلا يقدر الرجولة ولو في عدوه هذا التقدير؟ الرسول الكريم يطلب منه الأيمان فيأبى، ولكنه يعاهده على السلام فيكون له العفو الجميل. إن في ذلك لآية رائعة للقدرة حين ترحم. إن في ذلك لفلسفة عالية لو أدركها العالم لتجمعت أطرافه، ولرفرفت عليه أجنحة السلام

إنها لحكمة من الرسول الكريم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه

(المنصورة)

محمود الشبيشي

ص: 74

‌وأد البنات عند العرب في الجاهلية

عوامله الصحيحة وموقف الإسلام منه

للدكتور علي عبد الواحد وافي

لم يكن نظام وأد البنات متبعا عند جميع العرب في الجاهلية، بل كان مقصورا على بعض عشائر من ربيعه، وكنده، وطي، وتميم. وكانت الطريقة السائدة في الوأد أن تحفر بجانب الموضع الذي اختير لولادة الأم حفرة عميقة، فإذا ظهر أن المولود أنثى، قذف بها حية عقب ولادتها مباشرة في هذه الحفرة، وهيل على جسمها التراب، وبعضهم كان يلجأ إلى وأد بناته في أمكنة خاصة بعيدة عن المنازل حتى لا يدنسها بجثثهن ورفاتهن. وأشهر مكان كان يجرى فيه الوأد على هذه الطريقة هو جبل أبى دلامة

وقد ظل هذا النظام متبعا عن العشائر السابق ذكرها حتى قبيل الإسلام، ثم ألقيت في نفوس كثير من العرب كراهته، وانكشفت لهم شروره، وظهر لهم تنافره مع سنن الطبيعة ونواميس العمران، فنهض كثير من سادتهم إلى محاربته إذ كانت النفوس مهيأة لما يدعون إليه، فلم يجيء الإسلام حتى كان هذا النظام على وشك الانقراض، وقد شن الإسلام على البقية الباقية منه حرباً شعواء انتهت بمحوه محواً تاماً، فلم نسمع بعد وفاة الرسول عليه السلام بأي حادث من هذا النوع، حتى بين العشائر التي بقيت على دينها القديم

وقد اختلف الباحثون في العوامل التي حملت العشائر السابق ذكرها على اتباع هذا النظام الوحشي؛ وانقسموا بهذا الصدد إلى فريقين: فريق يعلله بالفقر، وآخر يتلمس أسبابه فيما جبل عليه العربي من شدة الحرص على صيانة عرضه، واتقاء ما عسى أن يصيبه بمكروه

فأما الفريق الأول فيرى أن أسباب هذا النظام ترجع إلى الإملاق وعدم القدرة على تربية الأولاد؛ وان التبعة في هذا تقع على بيئة بلاد العرب وحالتهم الاقتصادية: فإجداب أرضهم وضالة دخلهم من مهنة الرعي التي كان يزاولها كثير منهم، واحتكار التجارة في يد أفراد من سراتهم، وحيات الشظف التي كانت تعانيها الدهماء، والمجاعات المتوالية التي كانت تنتابهم، وكثرة تنقلهم في طلب الكلأ لإنعامهم. . . كل أولئك وما إليه جعل من الصعب على كثير منهم تربية أولادهم، واضطر القبائل السابق ذكرها على طريقة الوأد للتخلص من هذا العبء الثقيل ويرى هذا الفريق في قوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق. .

ص: 76

ما يزيد مذهبه تأييدا

وهذا المذهب لا يتفق في شيء مع حقائق التأريخ ولا مع المنطق السليم. فمن الثابت إن هذا النظام لم يكن معمولا به في الطبقات الفقيرة وحدها، بل كان عاما عند الفقراء والأغنياء في العشائر التي أخذت به. وقد حدثنا التأريخ عن بعض من وأدوا بناتهم في العصر الجاهلي، وذكر من بينهم عددا كبيرا من سراة القوم وأغنيائهم، ومنهم عمر بن الخطاب نفسه. . .

هذا إلى أن في قصر الوأد في العشائر السابق ذكرها على البنات دون البنين، لدليلا على أن الدافع إليه شئ آخر غير الفقر؛ إذ لو كان الفقر هو الدافع إليه، للحق جميع الأولاد بدون تمييز بين الذكور والإناث. . . ويزيدنا إقناعا بفساد هذا المذهب أنه لم يرد مطلقا ذكر الفقر في أي آية من الآيات التي نزلت في وأد البنات. أما الآيات التي ورد فيها قتل الأولاد مقرونا بخشية الإملاق، والتي يزعم أصحاب هذا المذهب أنها تؤيد وجهة نظرهم فهي لا تتحدث عن النظام الذي نحن بصدده، بل تتحدث عن نظام آخر كان متبعا عند بعض عشائر العرب، وهو قتل الأولاد على الإطلاق بدون تمييز بين ذكورهم وإناثهم، تحت تأثير الفقر وعدم القدرة على تربيتهم

ويذهب الفريق الأخر من الباحثين إلى أن أسباب هذا النظام ترجع إلى مبالغة بعض العشائر العربية في الحرص على صيانة أعراضها واتقاء ما يحتمل أن يصيبها بمكروه. فكان الواحد منهم يخشى، أن هو أبقى على بنته، أن تجر عليه وعلى عشيرته عاراً في المستقبل، إذا وقعت سبيه في يد الأعداء واستباحوا عرضها أو زلت في حياتها وقدر لها السقوط. ويروى أنصار هذا المذهب قصة يدعون أن حوادثها كانت السبب الأول في توجته العشائر السابقة هذا الاتجاه. وخلاصة هذه القصة أن عظيماً من عظماء العرب يدعى قيس بن عاصم قد سبيت بنته في غارة شنتها عشيرة معادية على عشيرته، ثم عقد بين العشيرتين صلح كان من شروطه أن ترد السبايا مقابل فدية مالية. غير أن ابنة قيس هذا كانت قد شغفت حباً بمن وقعت في يده، فآثرت البقاء عنده، ولم تقبل الرجوع إلى أبيه وعشيرتها. فآلى أبوها على نفسه ليئدن كل بنت تولد له، وسارت عشيرته على سنته، واقتدى بها بعض العشائر الأخرى

ص: 77

وهذا الرأي لا يقل فسادا عن الرأي الأول. فالقصة التي يستند إليها تبدو عليها علامات الاختلاق وإمارات الأساطير. هذا، إلى أن ما تقرره يتعارض مع النواميس التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها. فعهدنا بهذه الظواهر أنها لا تنشأ من حادث فردي، بل تنبعث من العقل الجمعي، وترتكز إلى اتجاهات المجتمع وعقائده ونظمه العامة. على أن قيساً هذا شهد الإسلام ومات حوالي السنة العاشرة بعد الهجرة. فلا يعقل أن يكون هو الذي قد سن نظام الوأد عقب حادث حدث لبنت كبيرة له. إذ يترتب على ذلك أن نظام الوأد لم يظهر إلا قبيل الإسلام ببضع سنين؛ مع أنه من الثابت أنه سابق لبعثة الرسول بعهد طويل، وأنه كان على وشك الانقراض قبيل الإسلام؛ وفضلا عن هذا وذاك، فإنه لم يرد في أي آية من الآيات الخاصة بالوأد إشارة ما لسبب من هذا القبيل. ولو كان هذا السبب هو الباعث الحقيقي على الوأد، لعني القرآن بإظهاره وتقبيحه وبيان ما ينطوي عليه من سخف وانحراف عن التفكير السليم. . .

وقد رأيت، بعد أن تبين لي فساد هذين المذهبين، أن خير طريق للوقوف على أسباب هذا النظام هو الرجوع إلى الآيات القرآنية التي نزلت بصدده، وربطها بما يتصل بها، والتأمل فيما عسى أن تتضمنه من إشارة ظاهرة أو خفية إلى العوامل التي دفعت إليه. وقد هداني ذلك إلى النظرية التي أعرضها فيما يلي:

كانت طائفة من عشائر العرب تلجأ إلى قتل أولادها تحت تأثير الفقر ورغبة في التخلص من تكاليف تربيتهم. وهذه الطائفة ما كانت تفرق بين ذكور الأولاد وإناثهم. وهذا هو ما تشير إليه الآية الواحدة والثلاثون من سورة الإسراء: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا)، والآية الواحدة والخمسون بعد المائة من سورة الأنعام:(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. . . الآية)

وغني عن البيان أن هذا نظام آخر غير النظام الذي نحن بصدد الكلام عنه

وكانت طائفة أخرى من العشائر العربية تئد البنات من أولادها على النحو الذي شرحناه في صدد هذا المقال. ولم تكن تفعل ذلك خشية الفقر أو العار كما يزعم أصحاب المذهبين السابقين، بل كانت تفعله بدافع ديني بحت. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن البنات رجس من

ص: 78

خلق الشيطان أو من خلق إله غير آلهتهم؛ وأن مخلوقا هذا شأنه ينبغي التخلص منه. وأصل عقائدهم هذه أنهم كانوا يقسمون ما تخرجه الأرض وما تنتجه الأنعام قسمين: قسم ينسبونه لآلهتهم (اللات، العزى، مناة. . . الخ) ويعدونه من خلقها، وهو قسم طاهر زكي؛ وقسم ينسبونه لله تعالى يعدونه من خلقه، وهو قسم كانوا يعتقدون أنه مدنس بالرجس، فكانوا يحرمونه على أنفسهم، أو يرون أن واجبهم الديني يقتضيهم التخلص منه أو تقديمه قرباناً لآلهتهم، وما زين لهم اعتقاده بصدد نتاج الحرث والأنعام زين لهم اعتقاد مثله بصدد نتاج الإنسان، فقسموا ما يولد للإنسان قسمين: قسم طاهر زكي من خلق آلهتهم وهو جنس الذكور، وقسم من الله وهو نوع الإناث، وهو قسم مدنس بالرجس كانوا يحرمون بقاءه ويرون أن واجبهم الديني يقتضيهم التخلص منه ومن أجل ذلك كانوا يتقون ذبحهن ويؤثرون وأدهن عقب ولادتهن مباشرة حتى لا تنتشر دماؤهن فتنتشر معها ما تحمله من نجس ورجس.

بل كان بعضهن يبالغ في هذا التحرج فيئدهن بعيداً عن المنازل كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ولم يقف أمر اعتقادهم هذا عند حدود العالم الطبيعي: عالم النبات والحيوان والإنسان، بل جاوزوه إلى عالم السماء. فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث، ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم أنهم من هذا النوع

وإليك جميع الآيات التي عرضت لوأد البنات، وسيتبين لك من التأمل فيها وربطها بعضها ببعض صحة ما ذهبنا إليه

1 -

(ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. اهـ بيضاوي) نصيباً مما رزقناهم (من الزروع والأنعام اهـ البيضاوي) تالله لتسألن عما كنتم تفترون. ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم (أي لآلهتهم) ما يشتهون (يعني البنين) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون) (النحل 56 - 59)

فالآية الأولى تقرر عقائدهم في نتاج الحرث والأنعام ونسبة بعضه لآلهتهم. والآية الثانية تقرر عقائدهم في نتاج الإنسان ونسبة الذكور لآلهتهم وجنس الإناث لله. والآية الثالثة تصف ما كان يفعله أحدهم إذ بشر بالأنثى. وغني عن البيان أن في مجيء الآية الثالثة

ص: 79

عقب الثانية مباشرة لدليلا على أن ما كانوا يسلكونه حيال البنات من وأدهن وإمساكهن على هون كان مترتبا على نسبتهم الإناث إلى الله تعالى، فبدون هذا التفسير يكون المعنى الذي تقرره الآية الثالثة مجرد استطراد لا تربطه بالحقائق التي تقررها الآيات السابقة أية رابطة منطقية وهذا ينبغي أن ننزه كلام الله عنه

2 -

(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا (أي لآلهتهم) فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو لا يصل إلى شركائهم (عن طريق تقديمه قرباناً مثلاً)، ساء ما يحكمون. وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين) (سورة الأنعام 136 - 140)

فالآية الأولى تقرر ما كانوا يعتقدونه بصدد ما ينتج من الحرث والأنعام وقسمتهم هذا النتاج بين آلهتهم وبين الله تعالى على النحو الذي شرحناه. والآية الثانية تقرر أن قتلهم أولادهم كان مبنيا على نفس الأساس الديني الذي بني عليه تقسيمهم السابق، كما يستفاد ذلك من عطف هذه الآية على ما قبلها، ومن تصديرها بقوله (وكذلك) ومن نسبة تزيين هذا الفعل إلى الشركاء (وكذل زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم)، ومن قوله (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم).

ويستفاد من الآية الثالثة أن الذين كانوا يقتلون أولادهم على هذه الطريقة هم الذين كانوا يحرمون بعض منتجات الحرث والأنعام، وأن الباعث لهم على الأمرين عقيدة واحدة، والمقصود من الأولاد في هذه الآيات البنات وحدهن، كما أشار إلى ذلك كثير من المفسرين وكما يدل عليه السياق

3 -

(وجعلوا له من عباده جزءا (وهو الإناث) إن الإنسان لكفور مبين. أم أتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين. وإذا بشر أحدهم بما ضرب الرحمن مثلاً (أي بالجنس الذي نسبه لله) ظل وجهه مسودا وهو كظيم. وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، أشهدوا خلقهم؟! ستكتب شهادتهم ويسألون) (الزخرف 15 - 19)

ولست في حاجة إلى أي تعليق على هذه الآيات، فهي صريحة في المعنى الذي قررناه،

ص: 80

وخاصة إذا ربطت بالآيات السابقة

4 -

(أفرأيتم اللات والعزى ومنآة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذن قسمة ضيزى. . . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن. . . الآية)(النجم 19 - 27)

5 -

ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً محصوراً. أفأصفاكم ربكم البنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً) (الإسراء 39 - 40)

6 -

(فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟! أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟! ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله، وإنهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين؟! مالكم كيف تحكمون؟!. . .)(الصافات 149 - 154)

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون

ص: 81

‌الرنوك في عصر المماليك

للدكتور محمد مصطفى

للرنوك شان عظيم عند الغربيين، لها سجلات رسمية خاصة بها، يسجلون فيها شكل الرنك (الشعار) وألوانه والرسوم التي فيها، مع لقب العائلة التي يحق لها حمله، وأسماء أفرادها، وكل ما يتعلق بهم من البيانات عن تواريخ ميلادهم ونشأتهم وحالتهم المدنية مع إضافة علامة جديدة لبعض أفراد العائلة الجدد. وللرنوك عندهم علماء تخصصوا في البحث فيها، وفي تتبع رنك كل عائلة واستقصاء أصله وتاريخ نشأة العائلة. وهنالك رنوك أخرى للمدن والبلاد في أوربا لتمييز جماعات كل بلد أو صناعاته أو مناخها عن غيرها. وقد حاول بعض هؤلاء العلماء إرجاع أصل الرنوك عند الغربيين إلى الشرق، وقالوا إنهم اقتبسوا فكرتها أيام اتصالهم بالسلاجقة والأيوبيين والمماليك إبان الحروب الصليبية، بدلي وجود رنوك سلجوقية وأيوبية ومملوكية مشابهة لرنوكهم على بعض الآثار في مصر وسوريا وفلسطين

وبينما نرى أن للرنوك في أوربا صفة عائلية محضة يتوارثها الابن عن أبيه وجده، نجد أنها كانت تدل في عصر المماليك على الوظيفة التي كان يتقلدها حامل الرنك في البلاط السلطاني. وكان للمماليك في جيشهم نظام عسكري لا يحيدون عنه، فكانوا يعتمدون فيه على الجند من المماليك فقط، يجددون دائماً بشراء مماليك صغار، يتولى جلبهم إلى مصر موظف معين لذلك يلقب بتاجر المماليك. وهؤلاء المماليك الجدد كالهم حديثو السن، يلحقون بمدرسة المماليك بالقلعة حيث يقيدون كمماليك كتابية، ويتعلمون القراءة والكتابة، ويدربون على الأعمال والنظم الحربية. فإذا ما تم تعليمهم وتدريبهم، أعتقهم السلطان، ووهبهم ما يبدءون به حياتهم الحرة، وما يتناسب مع تدريبهم الحربي، أي ملابساً تميزهم عن إخوانهم الأرقاء وأسلحة وخيلاً. وتطلق كلمة مملوك عليهم بعد عتقهم أيضاً، فكان مؤرخو العرب يستعملون أسم (مملوك) لمن يؤدي أعمالاً داخلة في النظام العسكري، وكلمة (عبد) لمن يستخدم في أعمال منزلية مثلاً وهو في الرق

ثم يعين السلطان المماليك (الأحرار) الجدد للخدمة في الجيش أو في المقاطعات والبلاد، بعد أن ينتخب منهم عدداً لحراسته وخدمته الخاصة، ولذلك يسمون بالخاصكية. وهؤلاء هم

ص: 82

نخبة الجند، يقلدهم السلطان درجات ضباط الجيش ووظائفهم، فيبدؤها الخاصكي برتبة أمير عشرة، فأمير طبلخاناه، فأمير مائة، فمقدم ألف، وهذه أرقاها. وكان لكل من هؤلاء الضباط أو الأمراء شعار خاص به يسمى (رنكا) يرسمه على كل ما يمكن أن يتصوره العقل من الأدوات التي يستعملها في حياته اليومية كالأسلحة والمشكاوات والأقمشة والمخطوطات وأدوات الزينة وأواني الطعام والشراب، وعلى واجهات المباني والشبابيك والأبواب والأعمدة وتيجانها وغير ذلك.

والرنوك في مصر والشام كانت موضوع بحث عند كثيرين من العلماء الأوربيين اذكر منهم ويعقوب أرتين باشا. وكان آخر من بحث هذا الموضوع الأستاذ الدكتور الذي ألف كتاباً فيه. ولا يزال يتابع البحث، وينشر ما أستجد من الأبحاث في المجلات العلمية.

ومما يؤسف له ألا نجد شيئاً وافيا عن هذا الموضوع في كتب مؤرخي العرب الذين عاصروا المماليك: كأبي الفداء والمقريزي والقلقشندي وأبي المحاسن وابن إياس سوى ما ذكروه من الرنوك عرضا - وفي حالات قليلة - في سياق كلامهم عن الحوادث أو وفيات بعض الأمراء. ومن هذه الحالات القليلة ما ذكره أبو الفداء في تاريخه من علامات وظائف الدوادار والسلاحدار والطشتدار والجمدار والأمير آخور والجاويش. وإننا نعتقد أن مؤرخي العرب اعتادوا رؤية الرنوك، فلم يجدوا فيها ما يستلفت النظر ولذلك لم يبحثوا فيها، ويؤيد هذا الرأي الأستاذ جاستون فيبت في نقده لكتاب الدكتور ماير، ويقول إن الذهبي وصف مرة رنك السلطان كتبنا مع رسم توضيحي له. ولهذا فنحن مضطرون في دراستنا للرنوك إلى الاعتماد فقط على الكتابات التاريخية التي ترافقها في بعض الأحيان، ودراسة تراجم الأمراء المذكورة أسماؤهم في هذه الكتابات لكي نصل إلى معرفة الوظائف التي كانوا يشغلونها، ونستخلص من ذلك ما نفسر به رنوكهم

وقد دلت هذه الدراسات على أن الوظائف الممثلة في الرنوك هي وظائف صغيرة في البلاط السلطاني يشغلها الخاصكية؛ واستنتج الدكتور ماير أن المماليك كانوا يحتفظون مدى حياتهم برنوك وظائف الخاصكية التي شغلوها في خدمة السلطان قبل ترقيتهم إلى درجات الأمراء، بل إن كبار الأمراء كانوا يفخرون بما تولوه في أول عهدهم بهذه الوظائف الصغيرة

ص: 83

وأثبتت هذه الدراسات أيضاً أن سبع علامات من التي ترى على الرنوك يمكن الاستدلال بها بوجه قاطع على الوظائف التي تمثلها، وهذه العلامات هي: الكأس للساقي أو الشراب دار وهو من يتولى سقاية السلطان، والخانجة أو المائدة المستديرة للجاشنكير الذي يتذوق الطعام للسلطان، وعصاتا لعبة البولو للجوكندار وهو المشرف على هذه اللعبة. والدواة للدوادار أي كاتب السر - وكان المرحوم عبد الحميد مصطفى باشا أول من أثبت أن الدواة علامة كاتب السر - والبقجة المربعة للجمدار أي حامل الملابس، والسيف أو الخنجر للسلاحدار وهو الذي يحمل أسلحة السلطان، والقوس للبندقدار أي رامي النشاب. وجل هذه الوظائف لها صبغة عسكرية يتقلدها - على حد قول مؤرخي العرب - (أرباب السيوف) من المماليك. وهنالك علامات أخرى نراها على الرنوك، منها: السبع والنسر وزهرة الزنبق والوردة والهلال وغيرها. وهذه العلامات إما شخصية كالسبع الذي يرى على نقود السلطان بيبرس البندقداري ومبانيه، أو علامات لم يمكن معرفة ما تدل عليه، لأن تراجم الأمراء المذكورين في الكتابات المرافقة لها غير مستوفاة، أو لا تشير إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها قبيل ترقيتهم إلى درجات الأمراء.

وقد استطاع أخيراً الدكتور ماير أن يفسر إحدى هذه العلامات تفسيرا قريبا من المنطق، وهي على شكل قرن، وقال إنها تدل على القرن الذي كان يحفظ فيه البارود، وذلك لأن أول ظهورها كان في رنوك الثلث الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي، أي عندما عم استعمال البارود في الأسلحة.

وللرنك أشكال مختلفة منها المربع والمدبب والذي يتألف محيطه من تقاطع عدة دوائر، ولكن أكثر هذه الأشكال انتشارا هو الذي يتكون من دائرة يقسمها خطان متوازيان إلى ثلاثة أقسام يسمى القسم الأوسط منها (الشطب). وتلون الرنوك بألوان مختلفة حسب ما يختاره صاحبها؛ وتظهر هذه الألوان في رونقها في الرنوك المرسومة على الزجاج والخزف والفسيفساء والرسوم الحائطية

ويقسم الدكتور ماير الرنوك إلى نوعين: رنوك بسيطة، ورنوك مركبة. فالرنوك البسيطة هي التي تحوي علامة أو أكثر على الشطب، أو على الرنك إذا لم يكن بوسطه شطب، وهي رنوك شخصية تدل على الوظيفة التي كان يشغلها حاملها قبل ترقيته إلى درجات

ص: 84

الأمراء. أما الرنوك المركبة فيرى عليها علامات متعددة على أقسام الرنك الثلاثة، وهي ليست شخصية، كما هي الحال في الرنوك البسيطة، بل هي رنوك جماعات من المماليك تنتسب كل جماعة منهم إلى أحد السلاطين أو أحد كبار الأمراء كالمماليك المؤيدية والأشرفية والظاهرية مثلا

وكانت الرنوك البسيطة هي الشائعة في عصر المماليك البحرية. ولم تظهر الرنوك المركبة إلا في عصر المماليك الشراكسة، فبدأت بعلامتين فقط على الرنك أيام السلطان برقوق، وتدرجت إلى أن وصلت إلى سبع علامات على الرنك الواحد في عهد السلطان قايتباي والسلطان قانصوه الغوري

ويوجد نوع آخر من الرنوك خاص بسلاطين المماليك فقط ويسمى في الاصطلاح العرفي - نقلا عن الغربيين - (خرطوشاً).

وهذا النوع على شكل دائرة مقسمة إلى شطب في الوسط وقسمين آخرين أحدهما أعلاه والآخر أسفله ولا توجد عليه علامات كما في الرنوك الأخرى، بل عليه كتابات باسم السلطان، مثال ذلك كتابة باسم السلطان قايتباي (انظر الشكل) تقرأ: على الشطب: عز لمولانا السلطان الملك الأشرف، وفي أعلاه: أبو النصر قايتباي، وفي أسفله: عز نصره. ويرجع أقدم هذه (الخراطيش) إلى أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي فظهرت أولاً على الأواني كالمشكاوات الزجاج، وأقدم ما نعرفه منها على المباني خرطوش باسم السلطان الناصر بن محمد قلاون على حائط في حوش بردق بجوار مسجد السلطان حسن

وتوجد بدار الآثار العربية مجموعة قيمة من الرنوك على الأواني والأدوات المختلفة الأشكال والأنواع من الزجاج والخشب والأقمشة والرخام والأحجار والقاشاني والخزف والفخار المطلي والنحاس إلى غير ذلك. وكذلك في المتاحف الأخرى والمجموعات الخاصة، ولكن عدد الرنوك المصحوبة بكتابات تاريخية قليل بالنسبة إلى العدد الهائل الذي وجد منها في حفائر الفسطاط.

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية

ص: 85

‌صفحة لامعة من تراث العرب العلمي

ثابت بن قرة

للأستاذ قدري حافظ طوقان

يدهش المؤرخون من حياة بعض العلماء ومن نتاجهم المليء بالمبتكرات والنظريات والآراء، ويحيط هذه الدهشة إعجاب إذ يرون هؤلاء المنتجين يدرسون العلم للعلم وقد عكفوا عليه رغبة منهم في الاستزادة وفي كشف الحقيقة والوقوف عليها. ومما لا شك فيه أن هذا النفر كان يرى في البحث والاستقصاء والمتابعة لذة هي أسمى أنواع اللذات، ومتاعا للعقل هو أفضل أنواع المتاع، فنتج عن ذلك تقدم في فروع العلوم المختلفة أدى إلى ارتقاء المدنية وازدهارها.

ولقد كان في العرب نفر غير قليل رغبوا في العلم ودرسوه حبا في العلم وعرفوا حقيقة اللذة العقلية فراحوا يطلبونها عن طريق الاستقصاء والبحث والإخلاص للحق والحقيقة والكشف عن القوانين التي تسود الكون والأنظمة التي يسير العالم بموجبها.

ومن هؤلاء ثابت بن قرة فقد كان من الذين تعددت نواحي عبقريتهم، فنبغ في العلم والطب والرياضيات والفلك والفلسفة ووضع في هذه كلها مؤلفات جليلة، ودرس العلم للعلم، وشعر باللذة العقلية فراح يطلبها في الرياضيات والفلك فقط فيها شوطاً بعيداً وأضاف إليها ومهد إلى إيجاد أهم فرع من فروع الرياضيات - التكامل

كان ثابت يكنى بأبي الحسن، ويعجب كثيرون من هذه الكنية لأن (ثابتاً) لم يكن له ولد أسمه حسن، ولكن الثابت أنه كان له ولدان أحدهما اسمه سنان والآخر إبراهيم. وكنية (أبى الحسن) هي لسنان بن ثابت. أما سبب تكنية ثابت بأبي الحسن فلأن الخليفة المعتضد كان يكنيه بها تحببا.

ولد ثابت في حران سنة 221هـ، وتوفى في بغداد سنة 288هـ (وكان في مبدأ أمره صيرفيا بحران ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها وبرع) ويقال إنه حدث بينه وبين أهل مذهبه (الصابئة) أشياء أنكروها عليه في المذهب، فحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل، فخرج من حران وذهب إلى كفر توثا حيث اتفق أن التقى لمحمد بن موسى الخوارزمي ولدى رجوعه من بلاد الروم فأعجب هذا بفصاحة ثابت وذكائه فاستصحبه معه

ص: 87

إلى بغداد ووصله بالخليفة المعتضد فأدخله في جملة المنجمين، ويقول إبن النديم:(. . . قيل قرأ على محمد بن موسى فتعلم في داره فوجب حقه فوصله بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين. . .) وعلى ذكر المعتضد نقول إنه كان يحترم العلماء وأصحاب المواهب والكفاءات ويجلبهم ويغدق عليهم العطايا، فقد روى أنه لما تقلد الخلافة أقطع ثابتا وغيره (الضياع الجليلة)، ومما يدل على تقديره لمواهب ثابت وفضله أنه بينما كان يمشي (ثابت) مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة، وقد اتكأ على يد ثابت إذ نزع الخليفة يده من يد ثابت بشدة (. . . ففزع ثابت فإن الخليفة كان مهيبا جدا، فلما نزع يده من يد ثابت قال له: يا أبا الحسن سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها، وليس هكذا يجب أن يكون، فإن العلماء يعلون ولا يعلون. . .)

كان ثابت من ألمع علماء عصره ومن الذين تركوا مآثر جمة في بعض العلوم، وكان يحسن السريانية واليونانية والعبرية جيد النقل إلى العربية، ويعده سارطون من أعظم المترجمين وأعظم من عرف في مدرسة حران في العالم العربي. وقد ترجم كتباً كثيرة من علوم الأقدمين في الرياضيات والمنطق والتنجيم والطب. وثابت أصلح الترجمة العربية لمجسطي بطليموس وجعل متنها سهل التناول. ولبطليموس كتاب آخر اسمه - كتاب جغرافيا في المعمور ووصفة الأرض - نقله ثابت إلى العربية، وأصلح أيضاً كتاب الكرة والأسطوانة لأرشميدس المصري، والمقالة الأولى من كتاب نسبة الجذور. وكذلك أصلح كتاب المعطيات في الهندسة لأقليدس - وقد عربه إسحق وهو خمسة وتسعون شكلا. واختصر المجسطي اختصارا لم يوفق اختصاراً لم يوفق إليه غيره. ويقول ابن الفقطي:(. . . إنه لم يختصر المقالة الثالثة عشرة. . .) وقد قصد من هذا المختصر تعمي المجسطي وتسهيل قراءته. ولا يخفى ما أحدث تعميمه من أثر في نشر المعرفة وترغيب العلماء في الرياضيات والفلك

وفي بداية القرن الثالث للهجرة استعملت الجيوب بدل الأوتار، ومن الصعب تعيين الشخص الذي خطا هذه الخطوة، ولكن ثبت أن ثابتاً هو الذي وضع دعوى (منالاوس) في شكلها الحاضر. وفوق ذلك فقد حل بعض المعادلات التكعيبية بطرق هنسية استعان بها بعض علماء الغرب في بحوثهم الرياضية في القرن السادس عشر للميلاد ككاردان وغير

ص: 88

ذلك من كبار الرياضيين، وقد لا يصدق بعض الذين يعنون بالعلوم الرياضية أن ثابتاً من الذين مهدوا لإيجاد التكامل والتفاضل ولا يخفى ما لهذا العلم من أهمية على الاختراع والاكتشاف فلولا هذا العلم ولولا التسهيلات التي أوجدها في حلول كثير من المسائل العويصة والعمليات الملتوية لما كان في الإمكان الاستفادة من بعض القوانين الطبيعية واستغلالها لخير الإنسان. جاء في كتاب تاريخ الرياضيات للعلامة سمث الأميركي ما يلي:(. . . كما هي العادة في أحوال كهذه يتعسر أن نحدد - بتأكيد - لمن يرجع الفضل في العصور الحديثة في عمل أول شيء جدير بالاعتبار في حساب التكامل والتفاضل، ولكن باستطاعتنا أن نقول إن ستيفن يستحق أن يحل محلاً هاماً من الاعتبار. أما مآثره فتظهر خصوصاً في تناول موضوع إيجاد مركز الثقل لأشكال هندسية مختلفة اهتدى بنورها عدة كتاب أتوا بعده. ويوجد آخرون حتى في القرون المتوسطة قد حلوا مسائل في إيجاد المساحات والحجوم بطرق يتبين منها تأثير نظرية إفناء الفرق اليونانية. وهذه الطرق تنم نوعاً ما على طريقة التكامل المتبعة الآن. من هؤلاء يجدر بنا أن نذكر ثابت بن قرة الذي وجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره. . .)

وأظن إن أساتذة الرياضيات يوافقونني على أن العقل الذي استطاع أن يجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره لهو عقل جبار مبدع، يحق لنا أن نباهي به أمم الاختراع والاكتشاف في هذا العصر، وهو دليل ساطع على خصب العقلية العربية، وعلى أنها منتجة إلى أبعد حدود الإنتاج

ولثابت أرصاد حسان تولاها ببغداد وجمعها في كتاب بين فيه مذاهبه في سنة الشمس، وما أدركه بالرصد في مواضع أوجهها ومقدار سنيها وكمية حركاتها وصورة تعديلها. . . فقد استخرج حركة الشمس وحسب طول السنة النجمية، فكانت أكثر من الحقيقة بنصف ثانية، وحسب ميل دائرة البروج وقال: بحركتين مستقيمة ومتقهقرة لنقطتي الاعتدال

وهو أيضاً من الذين اشتغلوا في الهندسة التحليلية وقد أجاد فيها إجادة عظيمة وله فيها ابتكارات لم يسبق إليها. وقد وضع كتابا في الجبر بين فيه علاقة الجبر بالهندسة وكيفية الجمع بينهما. وله أيضاً مقالة في الأعداد المتحابة، وهو استنباط عربي يدل على قوة الابتكار التي امتاز بها ثابت. ومن هذه المقالة يتبين أن ثابتاً كان مطلعا على نظرية

ص: 89

(فيثاغورس) في الأعداد، وأنه استطاع أن يجد قاعدة عامة لإيجاد الأعداد المتحابة. وقد أوضحناها في كتابنا (تراث العرب العلمي)، الذي انتهينا منه، ومنعتنا ظروف الحرب من طبعه في هذه الأوقات

وثابت أول شرقي بعد الصينين بحث في المربعات السحرية وخصائصها؛ ويقال إنه قسم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية بطريقة تغاير الطرق التي كانت معروفة عند اليونان

واشتهر ثابت بالطب وبمؤلفاته القيمة فيه، ولم يكن في زمنه من يماثله في هذه الصناعة. ولا أظن أني بحاجة إلى القول أني لست من فرسان هذا الميدان، لذا أترك البحث في مآثره الطبية إلى من يعنون بناحية الطب عند العرب، ولكن لا بأس من إيراد هذه القصة الآتية التي تدل على ثاقب نظر ثابت وسرعة خاطره وحدة ذكائه. جاء في كتاب (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) ما يلي:(. . . وحكى أبو الحسن بن سنان قال: يحكى أحد أجدادي عن جدنا ثابت أنه أجتاز يوما ماضيا إلى دار الخلافة. فسمع صياحا وعويلا؛ فقال: مات القصاب الذي كان في هذا الدكان؟ فقالوا له: إي والله يا سيدنا البارجة فجأة؛ فقال: ما مات، خذوا بنا إليه. فعدل الناس معه وحملوه إلى دار القصاب، فتقدم إلى النساء بالإمساك عن اللطم والصياح، وأمرهن بأن يعملن مزورة (وهي أكلة معروفة في ذلك العصر)؛ وأومأ إلى بعض غلمانه بأن يضرب القصاب على كعبه، وجعل يده في يده في مجسه، وما زال ذلك يضرب كعبه إلى أن قال: حسبك. واستدعى قدحا وأخرج دواء ووضعه في القدح مع قليل من الماء، وفتح فم القصاب وسقاه إياه فأساغه، ووقعت الصيحة والزعقة في الدار والشارع بأن الطبيب قد أحيا الميت، فتقدم ثابت يغلق الباب، وفتح القصاب عينه وأطعمه (مزورة) وأجلسه وقعد عنده ساعة؛ فإذا بأصحاب الخليفة قد جاءوه يدعونه فخرج معهم والدنيا قد انقلبت، والعامة حوله يتعادون إلى أن دخل دار الخلافة. ولما مثل بين يدي الخليفة قال له: يا ثابت، ما هذه المسيحية التي بلغتنا عنك؟ قال: يا مولاي كنت أجتاز على هذا القصاب وألحظه يشرح الكبد ويطرح عليها الملح ويأكلها، فكنت أستقذر فعله أولا، ثم قدرت أن سكتة قلبية ستلحقه، فصرت أراقبه، وإذ علمت عاقبته انصرفت وركبت للسكتة دواء أستصحبه معي كل يوم. . . فلما اجتزت اليوم الدار وسمعت الصياح قلت: مات القصاب؟ قالوا: نعم مات فجأة البارحة. فعلمت أن السكتة قد لحقته، فدخلت إليه ولم أجد له نبضاً،

ص: 90

فضربت كعبه إلى أن عادت حركة نبضه، وسقيته الدواء ففتح عينه وأطعمته (مزورة) والليلة يأكل رغيفا، وفي غد يخرج من بيته. . .)

والآن نأتي إلى مؤلفات ثابت فنقول إن المجال لا يتسع لذكر كل مؤلفاته لكثرتها. ويمكن لمن يرغب في الاطلاع عليها أن يرجع إلى كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة حيث يتجلى له فضل ثابت على العلم وأثره الكبير في تقدمه. لقد ألف كتبا عديدة ورسائل كثيرة في الطب والرياضيات والفلك نأتي على بعضها:

كتاب في العمل بالكرة، كتاب في قطع الاسطوانة، كتاب في الشكل الملقب بالقطاع. كتاب في المخروط المكافئ. كتاب في مساحة الأشكال وسائر البسط والأشكال المجسمة. كتاب في قطوع الاسطوانة وبسيطها. كتاب في أن الخطين المستقيمين إذا خرجا على أقل من زاويتين قائمتين التقيا في جهة خروجهما. كتاب في المسائل الهندسية. كتاب في المربع وقطره. كتاب في الأعداد المتحابة. كتاب في إبطاء الحركة في فلك البروج. كتاب في أشكال إقليدس. كتاب في النسبة المؤلفة. مقالة في حساب خسوف القمر والشمس. كتاب في صفة استواء الوزن واختلافه وشرائط ذلك. كتاب في مساحة الأشكال المتكافئة. كتاب في عمل شكل مجسم ذي أربع وعشرين قاعدة تحيط به كرة معلومة. كتاب في إيضاح الوجه الذي ذكر بطليموس به استخراج من تقدمه مسيرات القمر وهي المستوية. كتاب في الهيئة. كتاب في تركيب الأخلاق. كتاب في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية. رسالة في عدد الوفق. كتاب الفروضات، وهو ستة وثلاثون شكلا. . . وترجم ثابت أيضاً بعضا من كتاب المخروطات في أحوال الخطوط المنحنية. ويقول صاحب كشف الظنون:(وهو (أي الكتاب المذكور) سبع مقالات لأبولونيوس النجار الحكيم الرياضي؛ ولما أخرجت الكتب من الروم إلى المأمون أخرج منه الجزء الأول فوجده يشتمل على سبع مقالات. ولما ترجم دلت مقدمته على أنه ثماني مقالات، وأن الثامنة تشتمل على معاني المقالات السبع وزيادة، واشترط فيها شرطا مفيدة، فمن عصره إلى يومنا هذا يبحث أهل الفن عن هذه المقالة فلا يطلعون لها على خبر. لأنها كانت في ذخائر المأمون لعزتها عند ملوك يونان. وقال أبو موسى شاكر: الموجود من هذا الكتاب سبع مقالات وبعض الثامنة وهو أربعة أشكال، وترجم الأربع الأول منه أحمد بن موسى الحمصي، والثلاث الأواخر ثابت بن قرة. . .) -

ص: 91

كتاب المختصر في علم الهندسة. ولمنالاوس كتاب في أصول الهندسة عمله ثابت في ثلاث مقالات. كتاب في أشكال طرق الخطوط التي يمر عليها ظل المقياس. . . الخ

ولثابت عدا هذه كتب أخرى في الطب منها: كتاب في مسائلة الطبيب العليل. كتاب في صفة كون الجنين. كتاب في المولودين لسبعة أشهر. كتاب في أوجاع الكلى والمثاني. كتاب في أجناس ما توزن به الأدوية

أما مؤلفاته في الموضوعات الأخرى فهي كثيرة منها: كتاب في حل رموز كتاب السياسة لأفلاطون - مختصر في الأصول من علم الأخلاق - رسالة في اعتقاد الصابئين - رسالة في الطهارة والنجاسة - رسالة في الرسوم والفروض والعبادات - رسالة في ترتيب القراءة في الصلوات، وصلوات الابتهال إلى الله عز وجل كتاب في الموسيقى ويشتمل على خمسة عشر فصلاً

ومن المؤسف حقا إلا يصادف المرء إلا القليل من هذه الآثار التي تركها ثابت إذ القسم الأعظم منها ضاع في أثناء الحروب والانقلابات، ومنها ما هو غاية في الخطورة من الوجهتين الرياضية والطبية ولو عثرنا على بعض كتبه لانجلت النقط الغامضة في تاريخ الرياضيات فلقد ظهر من رسالة في النسبة المؤلفة أنه استعمل (الجيب) وأيضاً الخاصة الموجودة في المثلثات والمسماة (شكل المغنى) أو دعوى الجيوب، وكذلك لولا بعض القطع التي وصلت إلينا من كتاب له في الجبر لما عرفنا أنه بحث في المعادلات التكعيبية

هذا مجمل عن مآثر ثابت في الفلك والرياضيات يتبين منها الأثر الكبير الذي خلفه في ميدان العلم كما تتجلى العبقرية المنتجة التي تقدمت بكثير من العلوم خطوات واسعة، وقد اعترف معاصروه وبفضله وقدروا نبوغه ونتاجه فسجل بعضهم ذلك في قصائد رائعة قيلت في رثائه

جاء في قصيدة أبى أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم النديم ما يلي:

ألا كل شيء ما خلا الله مائت

ومن يغترب يُؤمل ومن مات فائت

أرى من مضى عنا وخيم عندنا

كسَفر ثوى أرضاً فسارٍ وبائت

نعينا العلوم الفلسفيات كلها

خبا نورها إذ قيل قد مات ثابت

وأصبح أهلوها حيارى لفقده

وزال به ركن من العلم ثابت

ص: 92

ولما أتاه الموت لم يغنه طبه

ولا ناطق مما حواه وصامت

فلو أنه يسطاع للموت مدفع لدافعه عنا حماة مصالت

ثفات من الأخوان يصفون وده

وليس بما يقضي به الله لافت

أبا حسن لا تبعدون وكلنا

لهلكك مفجوع له الحزن كابت

إلى أن يقول:

وكم من محب قد أفدت وإنه

لغيرك ممن رام شأوك هافت

عجبت لأرض غيبتك ولم يكن

ليثبت فيها ملك الدهر ثابت

تهذبت حى لم يكن لك مبغض

ولا لك لما اغتالك الموت شامت

وبرزت حتى لم يكن لط دافع

عن الفضل إلاّ كاذب القول باهت

مضى على العلم الذي كان مقنعاً

فلم يبق إّلا مخطئ متهافت

ولقد توارث آل قرة العلم عن ثابت، فكان منهم ابنه أبو سعيد ابن سنان، وكان منهم أحفاده: إبراهيم ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحق أبو الفرج. وهؤلاء نبغوا في الرياضيات والفلك والطب فقد كان منهم الطبيب والعالم والفيلسوف والمهندس، فأبو الحسن ابن سنان بن ثابت مثلا كان طبيبا عالما نبيلا قرأ كتب أبقراط وجالينوس، وكان فكاكا للمعاني، سلك مسلك جده في الطب والفلسفة والهندسة وجمع الصناعات الرياضية للقدماء وله تصنيف في التاريخ

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 93

‌هو النبي المنتظر

مسرحية شعرية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تقدمة

أبطال هذه المسرحية جماعة من شعراء العصر الجاهلي، هم: زهير بن أبي سلمى، وحسان بن ثابت، وأعشى قيس، وقس بن ساعدة. قد جعلناهم في المسرحية يلتقون ويتحادثون؛ وقد لا يكونون من الناحية التاريخية الزمنية التقوا، أو جمعتهم دار واحدة، أو ضمهم مجلس يدور فيه الكلام، أو تقع فيه الأحاديث

وأولهم (زهير) مات قبل البعثة، وثانيهم (حسان) عاش في الجاهلية وعمر في الإسلام، وثالثهم أعد للنبي قصيدة يمدحه بها ويعرض إسلامه، إلا أن الله لم يشرح صدره ولم يوفق له، ورابعهم عاش في الجاهلية

ولقد حاولت أن أعرض هنا ألوانا من تفكير كل واحد منهم، وطرفا من معيشته يبدو من خلال حديثه، كما تدلنا على ذلك كتب التاريخ والأدب.

(فزهير) حكيم مفكر يؤمن بالبعث والحساب، ويعتقد بالثواب والعقاب، وقيس يشعر ويخطب، وينظر في الكون وما فيه من ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج فيؤمن بأن له موجدا أوجده، ومنشئا دبره، و (حسان) يحس في قرارة نفسه بأنه سيكون له في الغد شأن، وأن الأقدار تعده ليكون لسانا صارما، ويكاد يلمح من خلال الغيب ومن وراءه السحب مكانه في الإسلام وشهادة النبي له بالجنة

أما (الأعشى) فهو عابث خليع. . . يلهو ويلعب، ويشرب ويطرب، ويرى الحياة لذة ومتاعا

المشهد

يجلس هؤلاء الشعراء الأربعة في ناحية من نواحي مكة، بعد أن جمعهم موسم الحج، وعلى (زهير) وقار وهدوء، وهو مطرق إلى الأرض، بينما يرفع (قس) بصره، ويقلب وجهه في السماء، و (الأعشى) يبدو في المجلس وقد عاودته خفة الطرب، وظهرت عليه مسحة من

ص: 94

روح عابثة ماجنة، وبجانبه (حسان) تتحرك شفتاه ويكاد يبدو من بينهما لسانه كأنه يريد أن يقول شيئا. . . ثم يبدأ الحوار هكذا:

الأعشى:

حَلَفْتُ بها وبأَرْبابها

وَبالنَّعَمِ الْحُمْرِ في بابها

وبالمْعَبِد الطُّهْر في أرضها

وباركْن منها وَمحرَابها

وَكُومِ المطَايا وقد أقبلتْ

تُساقُ إلى يَدِ حُجَّابها

لأَتّخذنَّ بها طَوْفَتي

وَأَقِضي الحقوقَ لأصحابها

وَأَرْجعُ بْعدُ إلى دارتي

وفي النَّفْس من حُبَّهَا ما بها

فأَنْشقُ من طِيب ريْحَانهَا

وَأَشربُ من خَمْرِ أَعْنَابها

وَألوِي بهَا غُصْنَ فتَّانةٍ

يُلَفُّ الشبابُ بأثوابها

فأُسمِعها الشِّعْر مُسْتعَذَبا

وَتُسْمِعني لحْن أقصابها

زهير:

ظننتَ حياةَ المرءِ يا شيخُ غادةً

تُلَفُّ وأكواباً تُراقُ وتُسْكَبُ

دَع القَصَبات اليومَ واسمع لحكمةٍ

يؤلفِّها شِعْراً حكيم مجرِّب

أَمَالك في الشِّعر المهذّبِ غايةٌ

ومالك في صدق التجارب مَطلَب

وَحَتَّامَ تلهو والزمانُ كما ترى

يجيءُ بأَحْداث جِسام ويذهب

عجبتُ لمن يَقضِي الحياةَ مُلاعباً

وأيامُهُ من جِدهَّا ليس تلعب!

الأعشى

ما العيشُ إلاّ صَباباتٌ موزْعَةٌ

وَمُتعةٌ وَلذَاذاتٌ وأوْطَارُ

كم مجلسٍ كان لي فيه مُعَابثَةٌ

وأرْبُعٌ كان لي فيها أسمَارُ

تَظَلَّ فيها العَذارَى يَرْتمين على

بُسْطٍ وشَاهدُنَا جلُّ وأزهارُ

وكم وقفتُ عَلَى الأطلالِ أسألهُا

قس: وهل تجيبُك في الأطلال أَحْجَارُ؟

الأعشى:

بالله هلْ نَفَعْتكَ اليومَ فلسفةٌ

وحكمةٌ نَظَمَتْها منك أشعارُ؟

ص: 95

وهلْ تجاريُبك الغرّاءُ نَافعةٌ

إذا نأَتْ بكَ بعد الموْتَةِ الدارُ

وهل أَتَتْنَا من الماضين تَذْكِرةٌ

أو طالعَتْنَا من الفِانين أخبارُ

قيس:

عَجِبْتُ لأَعشى قَيْس وَهَو يداورُ

ويُمْعنُ في أهوائه ويُكابر

فما صَرَفَتْهُ عن هَواهُ شريعةٌ

ولا ردَّه عن لهوهِ اليومَ زاجرُ

تجَاذِبُه تلكَ القِيانُ فؤادَهُ

وَتَفْتِنَهُ تِلك المها وَالجآذِر

فهلْ فَتنَتْهُ في السماء نجومُها

وَهُنَّ بآفاق السماءِ زَوَاهر؟

وهل ليلُها الداجي يُفتِّقُ ذِهنَه

وهل صُبحُها اللمَّاحُ والضوء باهر

وهل فَتَنتْه الريحُ والريحَ عاصِفُ

وَأَثَّر فيه البحرُ والبحر هادِر

بَدائِعُ شادَتها يَدُ القادرِ الذي

تَدين لهُ الدنيا وَتَعْنو الجبابر.

هُوَ الموتُ ما في الموتِ شكٌّ على امرئ

وللهِ منْ بعد الحياةِ المصائرُ

وَما نحن إِلا الواردون على الوَّرى

وَلَوْ كَثُرَتْ بالواردين المصادِر

زهير:

يا قُسُّ إِنك قد رُزقتَ لقانةً

ووُهِبْتَ من فَصْل الخطاب نصيبَا

وأرى عليك من الحكيم مَلاحظاً

تَرْمى الغُيوبَ فلا يَعُدْنَ غيوبا

عَينُ البصيرة فيك وَهْيَ قويةٌ

نَظَرَتْ تَرُودُ العَاَلمَ المحجوبا

أنَا ما عرفتُك قبلَ ذلك شاعرا

لكِن عرفتُك في النَّدِىَّ خطيبا

سبحان من لَقَّاكَ من آياته

وَحَباك من صدق اليقين ضُروبا

قيس:

إني وجدتُ في السماءِ خبرَا

كما وجدتُ في دُجاها عِبَرا

أَمْعَنْتُ فيهَا وأَطَلْتُ النَّظرا

وَرُحْتَ أَطوي في مَدَاها الفِكَرا

أَسْتَقِرئُّ الشمس بها والقَمرا

وأَقْطَعُ الفِكْرَ إِليها سَفَرا

كأنَّ لي عِنْد السماء وَطَرا

فأَلهْمتْني من ذَراها سُوَرَا

رَأَيْتُ فيها الخالِقَ المصوَّرا

وقد تجلَّى وجهُهُ وأَسْفَرا

يَا لَيْتَ مَنْ أَضاَء لي ونوَّرا

أضاَء للأَعشى الظلامَ الأكدرا

ص: 96

وفي هذه اللحظة تمر على الشعراء الأربعة فتاة في برد يماني مخطط. وقد اعتدل قوامها واسرعت خطواتها. . . فتغض عنها عيون ثلاثة من الشعراء. . . أما الأعشى فيتابعها بنظراته الطامعة المتلهفة. . . ولا ينصرف عن النظر اليها حتى تواريها بعض الجدران فيوجه الكلام إلى (قيس):

الأعشى:

يَا نَاظِراً في السماء اليومَ نَظرَته

هلاّ أطلت لتلكَ الْقَيْنَةِ النَّظَرا

مَرَّتْ بنا كَوميض البرقِ مُعْجلةً

كأنها الحُلْمُ بعد النَّوْم قد عَبَرا

تفوح أرْدانُها مِسكاً وأَصْوِرَةً

وَينفَح الْغُصْنُ منها زَنبقاً عَطِرا

ما البدرُ أَجْمَل إِشراقاً ولألأةً

منها إِذا مَا بدا في الأَفْقِِ أو ظهرا

انظرْ إلى الشمس في أحضانِ غانيةٍ

ونَاج بينِ ذِراعيْ حِبِّكَ القمرا

لا تقطع الْعُمْر تفكيراً وفلسفةً

تجني بها الشّوكَ لا تجني بها الزهَرَا

زهير:

صاحبُنا الأعشْى نَطَقْ

بِسِقْهِ وما صَدَقْ

ما الشِّعرُ يا أَعْشى جنُوُ

نٌ ومُجُونٌ يُسْتَبَقْ

الشعرُ حِكمة تُصا

دُ من جوانب الأُفُقْ

في الأرضِ! في السماء! في

ضَوْءِ الصَّباحِ! في الْغَسَقْ

حسان:

صَدَقتَ يا زُهَيرُ فالشِّ

عْرُ هِدَايَةُ الْبَشَرْ

مَنْ لي بميْدانٍ أَصُو

لُ وأَجولُ بالْغُرَرْ

أَنُشرُ عَضْباً قاطِعاً

كَأَنْهُ وَخْزُ الإبَرْ. . .

وهنا يمسك حسان لسانه ويضرب به أرنبة أنفه في زهو وخيلاء. . . من زهو الجاهلية! ثم يتابع قائلا:

لسانُ حَسَّانَ الذي

يَفْرى به صَلْدَ الَحجَرْ

يَقذفُ بالحقِّ عَلَىال

باطل مَهْزومَ الزُّمَرْ

إنيّ أُحس أنَّ لِي

غداً مِكاناً يُدَّخَرْ

ص: 97

وأنني يَكونُ لِي

فيه المقَامُ والخَطَرْ!

الأعشى:

لعلّها أضغّاثُ أَحْلَا

مٍ فَدَعْ عنك الهذَرْ

فأَيّ شأنٍ تَرْتجي؟

وأيُّ أمْرٍ تَنْتَظِرْ؟

حسان:

لعَلَّ هَادياً بدَا

لعلَّ مُصْلحاً ظهرْ

فَفي بطاحِ مِكةٍ

شواهدٌ مِن الخَبرْ

زهير:

حَسَّانُ! أنتَ مُلهمٌ

وأنتَ صَادِقُ النَّظِرْ

بَشَّرَ عيسى بِنَبِيٍّ

مَنْ عَصَاه قد كَفَرْ

يَا ليتني يَطُولُ بي

إلى لِقائهِ العُمُرْ!

حسان:

إِني أُحِسُّ أنني

مُدْرِكهُ على الكِبَرْ

إِنَّ دَليلي صادقٌ

ما خانني ولا غَدَرْ

زهير:

والحكماءُ عِنْدَهم

على ظهوره أَثَرْ

تَرَامَتِ البُشرَى به

عند النَّصارَى في السُّوَرْ

حسان:

هُوَ الرَّسولُ المرْتَجَى

هٌوَ النَّبيُّ المُنْتَظَرْ

وهنا يخفض قس طرفه من السماء قائلا:

هو النبي المنتظر. . .

محمد عبد الغني حسن

ص: 98

‌يبغي رباً

للأديب لبيب السعيد

كان كغيره في القبيل يعكف على (نهم): يرجو رحمته ويخشى عذابه، ويتقرب إليه زلفى. . . وكان على سنة آله يسعى إلى معبوده بالقربان ويؤدي إليه بعض حقه، يدرأ بها غضبه، ويبتغي بها مرضاته!

كان في هذا على آثار آبائه مقتديا، ولكن شيئا من القلق كان يغمز على قلبه، ولكن جمرات من الشك كانت تلسع ضميره، ولكن أقباساً كانت تبدو لعقله حيناً بعد حين فتشعره أنه يخبط في ظلمات. . .

أهو الهدى يبدو له، أم هو الضلال توسوس به نفسه؟

وصبر أو تصبر. . .

وأتى يوماً إلى (نهم) يصب له لبناً، وإن فيه لإيماناً يمتزج بالشك، ونوراً وظلمة يتصارعان. . . على أنه قدم قربته المتواضعة خاشعاً، ثم أنصرف. . .

كانت نفسه تبتغي طمأنينة وهداية، فإما أن تعالج إيمانها بنهم، وإما أن تطرح هذا الإيمان طرحاً، لتؤمن إيماناً حقاً بإله لا ترتاب في أنه حق. . .

وحانت منه التفاتة عارضة لمعبوده، فما كان أبلغ دهشه! لقد رأى - ويا عجباً - كلباً يشرب اللبن المقدس، والمعبود مغلوب على أمره: أصم. . . أبكم. . . أعمى. . .

وتريث قليلا. . . فرأى الكلب وقد فرغ من اختلاس قربة المعبود العاجز يرفع رجله فيبول عليه!

أذلك مبلغ (نهم) من الحول والقدرة والعز؟ أهذه جلالته وذاك سلطانه:

ألا يا نهم إني قد بدا لي

مدى شرف ببعد منك قربا

رأيت الكلب سامك حظ عسف

فلم يمنع قفاك اليوم كلبنا

لقد تمرد فؤاده على الأيمان بالتمثال المهين، وقد بدا له ما كان يخوض هو وقومه من ضلال. . .

وسمعته أمه يسخر بإلهها وإله ذويها فهالها الأمر وأقبلت عليه غضبى تنبهه إلى فداحة جرمه وضلالة حكمه وهول زعمه مشفقة عليه من عذاب (نهم)!

ص: 99

بيد أن إنكارها ما لبث أن استحال إقراراً، وإخلاصها لنهم ما لبث أن عاد ازوراراً، ذلك أنها سمعت حكاية الإله التعس، والحق أبلج لا يستعصي على البصائر إدراكه، مادام القلب سليما والنية الخالصة

وأنشأت تقول:

فديتك فابغنا ربَّاً كريما

جواداً في الفضائل يا بن وهب

فما من سامه كلب حقير

فلم تمنع يداه لنا بربَّ

فما عبد الحجارة غير غاو

ركيك العقل ليس بأهل لبَ

وظل النجل المشوق إلى الحق يتحرى ما تريد الأم المشوقة إلى الحق. . . يتحرى ربا كريما جواداً في الفضائل. . .

وصرم نهماً، ولبث يصلي حيث يستريح جنانه، وحيث توجهه القوة العظيمة التي بيدها مقاليد كل شيء. . .

الكون يريد الله به الخير والرحمة؛ والقلوب التي عذبها القلق وأضنتها الحيرة يريد الله لها السكينة والاستقرار والمعرفة، والدجنة الغالبة يريدها الله على أن تنقشع، والنور الذي أكن الله للمهديين من عباده آن انبثاقه. . . فالإنسان الكريم الذي اصطفاه الله لهذا وبلغ أبا ذر مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فخفقت الأماني في صدره، وود لو صح الأمل، وقال لأخيه:(اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني.)

وتلبث أبو ذر يرقب أخيه بصبر فارغ، وعاد أخوه يقول:(رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر)

لم يبل هذا القول من أبي ذر أُواما، فهم يتزود لرحلة يقوم بها هو نفسه، وحمل شنة له فيها ماء، حتى قدم مكة بلد الرجل الذي يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً تذهب فيه العقول مذاهب. . . وأتى المسجد يلتمس هذا الرجل، ولكنه لم يكن يعرفه، وقد كره أن يسأل عنه. . .

وفي اليوم الثالث لمقدمه أقبل عليه علي بن أبي طالب، وقد أدرك أنه غريب، فقال:(ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟) قال أبو ذر: (إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت) فلما أخذ

ص: 100

موثقه، أخبره بطلبته

إذن لقد هدى الجد الموفق أبا ذر إلى أحد أصفياء الرسول السابقين إلى الانتهال من معينه، الراغبين في نشر دينه

ولكن الظلم يومئذ كان للمؤمنين بالمرصاد، وكانت متابعة محمد يومئذ تكلف فاعلها ما لا صبر معه إلا أن تكون الحسنى قد سبقت له من الله هذا، وقد كان من دون لقاء الرسول أذى كثير

على أن عليا ذلل الصعب، فبلغ القريب غايته، وحظي بلقاء الرسول، وسمع الحكمة منه وفصل الخطاب

ووضحت المحجة لأبى ذر، واستضاء الحق أمامه، كأنه النهار إذا تجلى، وعرف الرب الذي طالما حن إلى معرفته. . . فأسلم مكانه ليكون من السعداء بالكرامة قبل أن تكون كرامة، وبالهداية قبل أن تكون هداية، وليكون من المؤمنين القليل قبل أن يكون مؤمنون كثير!

وقال له الرسول رءوفا به رحيما: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) ولكن أبا ذر كان من إيمانه كالنهر الطافح الفياض لا بد أن يهدر بما فيه وبتدفق على ما يلاقيه، فهو يجيب الرسول في لغة الواثق بربه، المعتز بعقيدته، المتفاني في حبها والدعوة إليها (والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم)

ألا فليصرخ أبو ذر بها، فما أعذب وما أحلى!! وما الظلم، وما البطش، وما الناس، وما الدنيا تلقاء إيمان أقمر في الصدر فأضاء جنباته؟ ما الآلام توجع الضعيف، وما الإهانة تلحق الأبي، وما الموت نفسه يلحق بالحي ما دام يحرز إيماناً بنيله رضوان الله وإعزازه، وبنيله الآخرة التي هي الحيوان؟!

أتحسبها كلمة كان أبو ذر قائلها طواعية لعاطفة ملتهبة تنثني بعد حين هامدة؟ كلا! لقد خرج حتى أتى المسجد - وأهل المسجد يومئذ هم ما هم كراهية مجنونة لمحمد وأتباعه، ورغبة متسعرة في حسم شأفتهم جميعا - خرج حتى أتاهم فصاح بها ما وسعه الصياح، صاح بالشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!

وكان ما كان مرتقبا. كان أن ضربوه حتى أضجعوه، ولم ينقذه منهم إلا العباس الذي أكب

ص: 101

عليه منذراً إياهم انتقام غفار الضاربة في طريق تجارتهم إلى الشام

ولكن أتحسب ثانية أن ذلك كان ليصد أبا ذر عن العودة إلى الجهر بشعار الإسلام الذي تشربه قلبه؟ أتحسب خشية العدو المتجبر دلفت إلى قلبه الكبير فمنعته الهتاف بكلمة الأيمان؟ أتحسب ضعفه وكونه وقتئذ خامس خمسة هم كل مسلمي الأرض. . .

أتحسب ذاك ليوهن منه ويقهره على كتمان قولة الحق؟ هيهات! فلقد عاد من الغد لمثل ما كان أمس، وقد عادوا فضربوه، وثاروا إليه، لولا أن عاد العباس فأكب عليه. . .

وقدم أبو ذر على أخيه فأخبره بإسلامه فأسلم؛ وانطلقا إلى أمهما وقد وجدا مبتغاها. . . وجدا (الرب الكريم الجواد في الفضائل)، فلم يكن إلا أن تؤمن! ودخلت بعدهم (غفار) جلها في دين الله، فكانت من كتائبه المجاهدة، وكانت أهلاً لقول الرسول الكريم فيها:(غفار غفر الله لها!)

(المنصورة)

لبيب السعيد

ص: 102