المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 401 - بتاريخ: 10 - 03 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 401

- بتاريخ: 10 - 03 - 1941

ص: -1

‌الفكر و (السلطة)

للأستاذ عباس محمود العقاد

جاءتني هذه الرسالة من الأديب صاحب الإمضاء أجتزئ منها بما يأتي للتعقيب عليه. قال حضرته:

(. . . ما قصدت بهذه الرسالة إلا إلى استجلاء نقطة دقيقة في حياة الإنسان المفكر. وهي الصلة في شخص الكاتب بين العقل الكبير مصدر الآراء النافعة التي يرسمها القلم البليغ وبين الطموح إلى السلطة التي هي وسيلة تنفيذ تلك الآراء الداعية إلى الهداية والإصلاح. ولا أعرف مدى طموحك وما تريد. غير أني أعلم أنك تحمل عقلاً كبيراً وشخصية قوية، ومن اجتمعت له الشخصية المؤثرة والعقل النفاذ، لابد أن يكون عنصر حب السلطة والقيادة من أقوى عناصر طبعه. . . لقد جاهدت كثيراً في ميدان الصحافة والأدب، ثم بلغت مرتبة نائب، فهل هذا منتهى جهدك؟ يبدو لي أنك تبلورت في مركزك الأخير!

(قد تقول إنك لم تسع إلى منصب القيادة الإدارية مكتفياً بالقيادة الفكرية والأدبية، وقد تقول إن الرجل ذا الفكر الحر لا يمكن أن يطمع في السيطرة والسيادة؛ ولكن هذه بالذات هي النقطة التي أريد أن أبحثها معك. فهل يستطيع الكاتب النابغة أن يعمل كما يكتب، أم إن مهنة الكتابة والأدب تقتل فيه القدرة على العمل والتنفيذ؟ يبدو لي أن الكتابة تقضي تدريجياً على قوة البناء والتنفيذ في نفس الرجل، وتنمي بدلاً منها قوة سلبية - إن جاز التعبير - حتى إذا اختمر في رأسه مشروع أو فكرة عجز عن إبرازه إلا على الورق. وقد يعزي الكاتب نفسه بأنه يعمل عملاً إيجابياً من حيث تنوير عقول الغير، ولكن هذه غير العمل المباشر الذي يسعد المرء به عند تطبيق فكرة أو تنفيذ مشروع

(وقد كان ديزرائيلي كما تعلم أديباً وكاتباً، وكان يقرض الشعر قبل أن يخوض ميدان السياسة؛ ولكنه كان يقول: إن الشعر هو صمام الأمان لنفسي، غير أني أريد أن أفعل ما أقول. وكان ديزرائيلي من أقدر وأبرع رجال الحكم الذين عرفتهم إنجلترا في تاريخها الطويل

(إني أعتقد أن مصر بحاجة إلى رئيس حكومة من هذا النوع الرجال من الأدباء بطبعهم ذوي العقول النابغة. فما رأيك؟ أرجو أن أسمع رأيك، ولو كبدك ذلك كتابة رسالة إليَّ، أو

ص: 1

مقال (للرسالة) فإني من قرائها المدمنين، ولك مني ألف تحية. . .

(الإسكندرية)

المخلص

الياس إبراهيم بدوي

والمسوغ الوحيد عندي للتعقيب على هذه الرسالة هو أن أتخذ منها موضوعاً لدراسة نفسية، وإن تناول هذا الموضوع شخصي فيما يتناوله من أطرافه وشعابه

فمكان الخطأ في رأي الكاتب - على ما أرى هو اعتقاده أن (السلطة) نهاية كل قدرة، وأن السلطة والقدرة شيئان من معدن واحد، أو شيئان لا ينفصلان

ولبيان هذا الخطأ نسأل: لماذا يطلب الإنسان السلطة؟ وجواب هذا السؤال أنه يطلب السلطة لسبب من هذه الأسباب الأربعة: أولها أن تسخير الناس طبيعة فيه كالطبيعة التي تشاهد في رأس القطيع بين الحيوانات الاجتماعية، وفي هذه الحالة تكون السلطة عنده بمثابة الوظيفة الحيوية أو التركيب البدني الذي لا علاقة له بقوى الفكر والروح. إنسان يسود لأنه لابد أن يسود، كالقوة المادية الدافعة التي لابد أن تدفع غيرها، فلا شأن لها بالتفكير ولا بالضمير

وثاني هذه الأسباب أن الإنسان يطلب السلطة ليشعر بالامتياز، وفي هذه الحالة يكون هذا الإنسان ناقصاً بين النقص إن لم يشعر بالامتياز من غير سلطة، ويكون ناقصاً بيّن النقص إن كان سبيله الوحيد إلى الشعور بامتيازه أن يرى إنساناً يقصده في حاجة، ويرى إنساناً آخر يقف مكتوفاً بين يديه، ويرى إنساناً ثالثاً يطيعه وإنساناً رابعاً يخشاه. فإن امتياز الفكر والروح يتحقق لصاحبه ولو ير بعينيه مظهراً من هذه المظاهر، كما أن هذه المظاهر تسقط عن صاحبها متى زالت عنه السلطة وزال عنه الأمل في العودة إليها، فلا يقصده بالحاجة من كان يقصده بها، ولا يقف مكتوفاً بين يديه من كان يقف بين يديه هذه الوقفة، ولا يطيعه أو يخشاه من كان يريه الطاعة والخشية، ولا يحس يومئذ شيئاً من الامتياز الذي أضافته السلطة إليه ثم زال عنه بزواله

أما صاحب الامتياز الحق فهو يشعر به ولو لم يشعر به غيره، كصاحب الجسم القوي يأكل

ص: 2

أكل ذوي المعدات القوية ويعدو عدو أصحاب السيقان القوية، ويقاوم عوارض الجو كما يقاومها أصحاب البنية القوية، ولو لم يعلم أحد أنه بهذه المنزلة من قوة البدن. بل إنه ليأكل ذلك الأكل ويعدو ذلك العدو ويقاوم تلك المقاومة ولو اعتقد أناس أنه ضعيف ممعود

وإن صاحب الامتياز الحق ليشعر بامتيازه ويزداد شعوراً به حين ينظر إلى الممتازين الذين يقوم امتيازهم على مظاهر الخشية والرجاء والركوع والانحناء، فلا يحب أن يبادلهم ما هم فيه، ولا يهون عليه أن يفقد من حريته ورقته ومتعة عقله ما يفقده هؤلاء للوصول إلى (السلطة) التي تناط بها تلك المظاهر

أيظن الأديب كاتب الرسالة أن الدينار الذهب يتضاءل بين يدي الورقة الزائفة ذات العشرة الدنانير؟ أيظن أن رواج هذه الورقة التي لا تساوي نصف درهم يغض من قدر المعدن الأصيل الذي لا زيف فيه؟ إن الطريق السهل لأحرى بالاتباع، وأسهل الطريقين هنا هو احتقار الذين تروج بينهم الورقة الزائفة ويعمون عن الذهب الصحيح. فذلك أسهل من الإعجاب بالورقة الزائفة، ومن مجاراة الغافلين في غفلتهم والجاهلين في جهالتهم، ومن نسيان القيم الصحيحة ذهاباً مع قيم الطلاء الذي يتراءى على وجوه الأشياء، ومن فقدان الوقت والأمانة والمتعة الفكرية والنفسية التي لابد من فقدها في كل سعي إلى لبانة من هذا القبيل

والسبب الثالث الذي يحفز الإنسان إلى طلب السلطة هو اتقاء شرور السلطة والأمان من سيطرة الغالبين، فهو يتقلد سلاحهم ليدفعهم به لا لأنه يحب ذلك السلاح وينزع إلى الضرب به لغير اضطرار

والسبب الرابع الذي تطلب السلطة من أجله هو الانقلاب الاجتماعي الذي لا يتم بغير قوة مشروعة أو غير مشروعة؛ فيطلبها صاحب المذهب الاجتماعي ليستخدم سلطان الحكومة في إصلاح ما يحتاج عنده إلى الإصلاح

تلك هي الأسباب الأربعة التي تغري المرء بطلب السلطة فيما أراه

فإذا شاء بعض القراء أن نمد المشرحة قليلاً لنضع عليها حالة نفسية محققة في مواجهة كل سبب من هذه الأسباب فإليهم خلاصة هذه الحالة النفسية مع الإيجاز

فالرجل الذي يطلب السلطة لأنها وظيفة حيوية أو تركيب بدني هو رجل محسود في رأي

ص: 3

كثير من الناس، ولكني أنا لا أحسده ولا أشعر بإكباره، لأن قوته من قبيل القوى التي تحسب بعدّاد، وتقاس بمقاييس العضل والأوصال، وتخرج من نطاق الفكر والضمير

والرجل الذي يطلب السلطة ليشعر بامتيازه حين يخشاه من يخشى ويطيعه من يطيع، هو كذلك رجل محسود في رأي كثير من الناس، ولكني أنا أرثي له واستصغر همومه، وأرى أنه يشغل عقله ونفسه بالحواشي والظواهر التي تزول بزوال السلطة وتنتقل إلى غيره بانتقالها، فليست هي من أصالة الخلق ولا من حقائق الطباعة والملكات

والرجل الذي يطلب السلطة ليتقي بها السلطة هو رجل معقول مفهوم، ولكني أراه مسرفاً في طلبه إذا ترك ما خلق له وشغل حياته بالبحث عن سلاح قد يحتاج إليه وقد يستغني عنه كل الاستغناء، لأن طلب السلطة شغل شاغل لا يجتمع مع التفرغ للمتعة الفكرية والذوقية، وسبيلي الذي أوثره في هذا الصدد أن أرسم لحياتي الخاصة وحياتي الروحية حقوقاً لا أقبل المساس بها أقل مساس، فإن تركت لي تلك الحقوق فذاك، وإن اعتدى عليها معتد فيومئذ أرجع إلى سلاحي فلا أدعه حتى أدع ذلك المعتدي نادماً على ما جناه

أما طلب السلطة للإصلاح فله موضعان: موضع الهدم في المجتمع الذي لم يبق فيه ما يقيمه على أساس؛ ولا اختيار في هذا الموضع لأحد من الناس، لأنه إنما يفرض نفسه فرضاً على المصلحين، إما برسالة دينية أو بانقلاب يأتي في أوانه، وهو لا يأتي ولم يأت قط إلا في أعقاب الحروب والهزائم الكبار

والموضع الثاني موضع الإصلاح الحكومي وهو عمل نافع لا شك فيه، ولكنه يقتضي التفرغ له من البداية، ولا يعالج في فترة بعد فترة، ولا مناوبةً منتظمة بين الأدب والإدارة. وأكبر ما يأتي به المصلح في هذا الباب ليس بأكبر من فكرة أدبية أو ثمرة فنية يتفرغ لها الأديب جهد ما يتاح له التفرغ في بلادنا الشرقية، فإن إصلاح سنة أو سنتين لن يكون في نهايته غير إصلاح مرحلة قصيرة من مراحل الحياة البشرية في أمة واحدة، ولكن الثمرة الفنية حقيقة خالدة لذاتها ولو لم يكتب لها البقاء

وقد ذكر كاتب الرسالة اسم ديزرائيلي نموذجاً للأدباء والكتاب الذين يريدون أن يعملوا ما يقولون؛ فهل لكاتب الرسالة أن يذكر لنا ما هي الفكرة الأدبية التي عملها ديزرائيلي في أيام حكمه؟ وهل له أن يذكر لنا مثلاً آخر من الأدباء والكتاب الذين يعملون أدبهم في مناصب

ص: 4

الحكومة؟

فما طلب ديزرائيلي الحكم ليعمل فيه ما يفكر فيه الأديب أو الشاعر أو القاص أو الفنان، ولكنه طلبه ليدفع به الهوان الذي كان يلقاه بين البيئات الأوربية، وليكره من يزدرونه على أن يحسبوا حسابه ويرجعوا إليه. ولو ازدراني أحد لرجعت إلى نفسي أسألها: لماذا يزدريني هذا الأحد؟ فإن كان لسبب حق فالحكم لا يدفعه عني، وإن كان لسبب من هذه الأسباب العارضة، فأنا إذن أولى بأن أزدري ذلك الأحد، وهو على خطأ وأنا على صواب

وقال كاتب الرسالة: (لقد جاهدت كثيراً في ميدان الصحافة والأدب ثم بلغت مرتبة نائب. فهل هذا منتهى جهدك؟ يبدو لي أنك تبلورت في مركزك الأخير!)

فالذي يقرأ هذا الكلام يخيل إليه أن كرسي النيابة نهاية طريق لي أو مرحلة على الأقل في تلك الطريق

على أن الحقيقة فيما أرى أن كرسي النيابة تعريجه في منعطف الطريق الذي أسير فيه، وأعني به طريق الأدب والكتابة. وكل ما ألتزم به على هذا الكرسي أن أخدم الدائرة التي أنوب عنها، وقد فعلت؛ ولي أن أقول إن نائباً آخر لم يفعل لدائرته الانتخابية خيراً مما أفعل. وإلى جانب ذلك أؤدي عملي في النيابة على الوجه الذي أراه، ولا أستبيح لنفسي أن أتخلف عن جلسات المجلس إلا لعذر قاهر سواء كان لي كلام في الجلسة أو لم يكن لي فيها كلام

تلك هي الصورة الصحيحة لمكان النيابة من حياتي العامة، وسأعود من تلك التعريجة راضياً مغتبطاً في اليوم الذي تأذن لي فيه حالة الأدب بيننا نحن الشرقيين أن أفرغ للكتابة و (العمل) الأدبي الذي أرتضيه

وصفوة القول أنني أعز الأدب هذا الإعزاز لأنه منحة لا يعطينها إنسان، فلن أعلق حياتي ولا قيمتي بمنحة يعطينها أحد من الناس ولو كانت الشهرة الأدبية التي قد يخيل إلى قوم أنها بغية المتمني وغاية الغايات، فإن جاءت الشهرة غير ممنونة ولا مبخوسة فقد سعت إلي وما سعيت أليها، وإن أبت أن تجئ على ما أختار فلست أخطو إليها خطوة. . . فكيف بالوظيفة والمنصب وما إلى هذه الأشياء؟

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌ليحكم رجال الأدب العربي

السباعي بيومي

يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي

للدكتور زكي مبارك

- 2 -

ما الذي يوجب أن تشعر يا سيد سباعي بمثل لسع العقرب كلما لوّحتُ لك باسم الشيخ المرصفي؟

ما الموجب لهذا الفزع وقد مات المرصفي ومات ثم مات؟

السبب أوضح من أن يحتاج إلى من ينبّه إليه القراء، وهو عرفانك بأني سأقهرك على الاعتراف بأن كتابك (تهذيب الكامل) لن يظهر سليماً من الأغلاط يوم تطبعه للمرة الثانية إلا وأنت مدينٌ أثقل الديَّن لكتاب (رغبة الأمل في شرح الكامل) وهو الكتاب الذي دعوتَ الناس إلى الصدوف عنه ليخفي عليهم فضل مؤلفه عليك

وشبح الشيخ المرصفي سيلاحقك في يقظتك ومنامك، لأن كتابك لن يطبع بعد اليوم قبل أن تشهد كل صفحة من صفحاته بأنك استعنت بتحقيقات الشيخ المرصفي، وقبل أن تعترف علانيةً بأنك خضعت لجبروت الحق، بعد أن طال جدالك فيه

ولو كان الله منحك نعمة الذوق لقدرت قيمة التعصب لرجل ميت لا أنصار له ولا أشياع، ولا ينتظر أن يكون للتعصب له بارقة من بوارق الثواب، وقد عاش ما عاش وهو معدوم السناد من العصبيات، فما استهانتك بالوفاء وهو معنى لا يقيم له الميزان غير أحرار الرجال

ثم ماذا؟ ثم وجدتَ الفرصة للتخلص من تهمة السرقة من كتاب النثر الفني فيما يتصل بنشأة فن المقامات في الأدب العربي، لأن كتاب النثر الفني ظهر في سنة 1934 وأنت فيما تزعم أعلنت هذا الرأي في سنة 1933 فهل تصدق في سريرة نفسك أنك نجوت من صولة الحق؟

وهل تضن أن الأسانيد المدونة في مقالاتي ومؤلفاتي غير قديرة على إلقاء تهمة السرقة

ص: 7

فوق منكبيك بصورة لا تُبقي لك فرصة من فرص المكابرة والروغان؟

إليك أسوق البراهين التي تقطع بأن الشيخ الإسكندري نقل عني، والتي تجزم بأنك سرقت من كتابي

والحمد لله الذي أتاح هذه الفرصة، ليعرف تلاميذك بدار العلوم أنك تقدم إليهم معارف أدبية لم تشقَ في تحصيلها لحظة أو لحظتين، وإنما نهبتها في الخلفاء، ولم تكن تعلم لسوء حظك أن الحقوق تردّ إلى أصحابها، ولو بعد حين

أنت قلت في كلمتك الثانية إني التفتّ إلى نص زهر الآداب مصادفة حين قمت بتصحيحه في سنة 1925، وهذا حق، فالمصادفة هي التي هدتني إلى النص الذي يجعل بديع الزمان متأثراً بابن دريد في إنشاء المقامات، ولكن كيف رأيتُ لهذا النص قيمة تستحق التسجيل؟ إنما كان ذلك لأن الدكتور (أحمد ضيف) كان حدثنا في محاضراته بالجامعة المصرية أن فن بديع الزمان في المقامات مستوحى من الآداب الفارسية، ولولا ذلك لكان من الجائز أن يمرّ نص زهر الآداب بدون أن التفت إلى قيمته في تاريخ الفنون الأدبية

وقد حدثت الدكتور أحمد ضيف عن هذا النص فأجاب بأنه لا يزال عند رأيه الأول، ثم حدثت الدكتور طه حسين عن هذا النص فجادلني فيه وانتهينا إلى رأي سجلته فيما بعد بالتفصيل

وفي سنة 1927 شرعت في تأليف كتاب النثر الفني باللغة الفرنسية وأثبتّ فيه النص الذي اهتديتُ إلى قيمته في زهر الآداب، ومعنى ذلك أني حررت هذه المسألة قبل أن يلتفت إليها الشيخ الإسكندري في سنة 1930

ولكن كتاب النثر الفني لم يظهر في مكاتب باريس إلا في سنة 1931 فكيف يصح القول بأن الشيخ الإسكندري نقل عني؟

لم ينقل الشيخ الإسكندري في سنة 1930 عن كتاب ظهر بالفرنسية في سنة 1931 فذلك غير معقول، وإنما نقل الشيخ الإسكندري عن كتاب نشره زكي مبارك في سنة 1929 وهو الطبعة الثانية من زهر الآداب، ففي هامش الصفحة 307 قال زكي مبارك في التعليق على عبارة الحصري ما نصه بالحرف: (مؤدَّي هذا الكلام أن بديع الزمان ليس مبتكر فن المقامات، وأنه حاكى ابن دريد في أحاديثه، وقد استغللتُ هذا النص في كتابي الذي وضعته

ص: 8

بالفرنسية عن النثر الفني في القرن الرابع، وقد دهش المسيو (مرسيه) لهذه الفكرة وعجب كيف اتفق الناس على إن البديع هو منشئ فن المقامات، ولكني من جانب آخر أذكر أني لم أر مثل هذا الكلام في غير زهر الآداب، ولا أزال أتلمس له مصدراً آخر، ولم أعثر على شيء إلى اليوم، ويزيد في الدهشة أن صاحب زهر الآداب يروي المسألة على أنها مقبولة معروفة لم تُمسَّ بنقض ولا تكذيب، وقد نقلها عنه ياقوت في معجم الأدباء).

ذلك ما جاء في هامش الجزء الأول من كتاب زهر الآداب وقد ظهرتْ طبعتُه الثانية سنة 1929 وكان الشيخ الإسكندري يقتني جميع الطبعات كما حدثني غير مرة، رحمه الله

ومع ذلك لم تقف المسألة عند كلام أحدِّث به أساتذة الأدب العربي ثم أثبته في هامش كتاب يظهر في سنة 1929 فقد نشرتُ مقالاً رنّاناً في مجلة المقتطف (عدد أبريل سنة 1930) نشرته وأنا مزهوٌّ زهو الطاووس تحت عنوان: (إصلاح خطأ قديم مرَّت عليه قرون في نشأة فن المقامات)

وكان من أثر ذلك المقال الرنّان أن تثور بيني وبين المرحوم مصطفى صادق الرافعي معركة قلميه على صفحات المقتطف

فهل من المعقول أن تثور معركة قلميه بين زكي مبارك ومصطفى الرافعي ولا يصل صداها إلى الشيخ الإسكندري (وكان من المشتركين في المقتطف) وهي في موضوع يتصل بدروسه في دار العلوم؟!

من الكلام الذي نشرته في سنة 1929 بهامش الطبعة الثانية من زهر الآداب، والمقال الذي نشرته في المقتطف سنة 1930 أخذ الشيخ الإسكندري فكرة القول بأن بديع الزمان نقل فن المقامات عن ابن دريد، وإلا فكيف سكت الشيخ الإسكندري عن هذه المسألة في كتابه:(تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي) الذي ظهر سنة 1913 وكتابه الموسوم بالوسيط الذي شاركه في تأليفه الشيخ مصطفى عناني وقد ظهر قبل سنة 1925؟

لماذا أجّل الشيخ الإسكندري هذه المسألة إلى المذكرات التي ظهرت في سنة 1930 وهي المذكرات التي حدثتَنا أنها (طبعة أخيرة)؟!

إنما اهتدى الشيخ الإسكندري في (الطبعة الأخيرة) بما قرأ لزكي مبارك في هامش زهر الآداب سنة 1929 وبما نشر زكي مبارك في لمقتطف سنة 1930

ص: 9

ولك أن تغيَّر هذه الوقائع، إن استطعت، ولن تستطيع

ثم أذكر أن الأستاذ أحمد الزين أرسل إليّ خطاب ثناء بعد قراءة مقالي في المقتطف، وأحمد الزين كان يسمُر كل ليلة مع الشيخ محمد عبد المطلب، فلو كان من الصحيح أن أبناء دار العلوم كانوا يعرفون جلية هذا الأمر منذ بداية القرن العشرين لكان من الواضح أن يفهم الأستاذ الزين أن مقالي في المقتطف لم يأت بجديد حتى يستوجب خطاب ثناء

وأنا أتحداك أن تثبت أن شخصاً واحداً من أبناء دار العلوم تحدث عن هذه المسألة في كتاب مطبوع أو مخطوط قبل أن أتحدث عنها في هامش زهر الآداب سنة 1929

انتهت قصة الشيخ الإسكندري، فما قصتك أنت؟

لا تقل إنك قرأت مذكرات الشيخ الإسكندري في طبعتها الأخيرة سنة 1930، ولكن قل إنك كنت ناضراً لإحدى مدارس المعلمين الأولية، وهي مدرسة يدخلها في كل شهر ثلاث نسخ من أعداد المقتطف، فهل يكون من الممكن أن تثور معركة قلميه بين زكي مبارك ومصطفى الرافعي على صفحات تلك المجلة ولا يلفتك إليها أحد من الأساتذة أو الطلاب؟

اسمع أيها الأستاذ المفضال:

أنت لم تقدم نصاً يشهد بأنك سجلت كلمتك في عبارة زهر الآداب قبل ظهور الطبعة العربية من كتاب النثر الفني سنة 1934 فلم يبق إلا النص المسجّل عليك في مجلة السراج سنة 1937 وهو قاطع بأنك سرقت من كتاب النثر الفني وإليك القرائن:

أولاً - من المفهوم عند جميع الباحثين أن الباحث يشير إلى الطبعة الأخيرة من الكتاب الذي ينقل فقرة من فقراته، فكيف تشير أنت إلى طبعة زهر الآداب القائمة على هامش العقد الفريد وقد انقرضتْ من الأسواق، ولا تشير إلى طبعة زكي مبارك التي ظهرت في سنة 1929؟ أليس ذلك شاهداً على أنك تخشى أن يفطن القراء إلى أنك انتهبت عبارة زكي مبارك؟

ثانياً - أنا لم أعيِّن النظرية التي انتهبتها من كتاب النثر الفني حين هددتك بكشفها أمام قراء الرسالة، فكيف عرفتَ أن هذه النظرية هي المقصودة بالذات؟ ومن أدراك أيها الأستاذ، إنها سِكين؟!

ثالثاً - أشقيت نفسك في التهوين من هذه النظرية، فما الموجب لذلك التهوين لو كانت من

ص: 10

مبتكراتك أو مبتكرات أحد أساتذتك بدار العلوم؟

إنك تهوّن من شأن هذه النظرية لأنها من مبتكرات زكي مبارك، فهي عندك شيء عديم القيمة لا يستوجب أن يُزَهى به الرجل زهو الطاووس!!

هذه القرائن هي حجتي عليك، وهي البرهان القاطع على صحة العبارة التي تقول:

(يكاد المريب يقول خذوني)

ما الموجب لأن تقول إن كشف هذه النظرية لا يساوي كشف مقبرة توت عنخ آمون؟

إنما مَثَلُكَ مَثَل اللص الذي يهوَّن شأن ما سَرَقَ لينجو من العقاب وأنت تدرك الخطر الملفوف في هذا الملحظ الدقيق!!

وهناك نظرية أخرى متصلة بالمقامات، وهي نظرية فاتني النص عليها في النسخة الفرنسية التي ظهرت سنة 1931 ولم تفتني في النسخة العربية التي ظهرت سنة 1934 فهل ترى لها (خبراً) في (الطبعة الأخيرة) من مذكرات الشيخ الإسكندري؟ وهل تراك حدثت بها قراء مجلة السراج في سنة 1937؟

وهناك نظرية ثالثة متصلة بالمقامات وفيها ردٌّ على المرحوم الشيخ محمد عبدة وهي مثبتة في كتاب (ليلى المريضة في العراق) فهل تعرف هذه النظرية؟

وهنالك تحقيق متصل بالمقامات، وهو موضوع مقال حدثت به صاحب (الرسالة) منذ أكثر من عامين ولم أقدمه لمجلة الرسالة إلى اليوم، لأنه يفرض الرجوع إلى عادات بعضها في النجف، وبعضها في بغداد، فهل تعرف موضوع ذلك التحقيق؟ وهل تعرف ما بقي مطويّاً من أسرار المقامات؟

أترك هذا الجدال لأوجه الكلام إلى الدكتور عبد الوهاب عزام وكان ألقى محاضرتين عن بديع الزمان في سنة 1934 فقد حدثني أمام جماعة من أساتذة الجامعة المصرية أنه اعتمد على كتاب النثر الفني في النظرية التي تقول بأن بديع الزمان نقل فن المقامات عن ابن دريد، فكيف غاب عن الدكتور عزام أن أبناء دار العلوم نشروا هذه النظرية قبل عشرات السنين؟

أما بعد فقد ظهر أن الأستاذ السباعي بيومي سَرَق من كتاب النثر الفني ما سرق، وتبيَّن للجمهور أنه يقدم لتلاميذه زاداً نهبه من كتابي بدون استئذان، ولست من الملائكة حتى

ص: 11

أسكت عمن يسرق مني أكثر من أربع سنين

والأستاذ السباعي يبالغ في شتمي عامداً متعمداً ليقهر أصدقائنا على وقف هذه الخصومة الأدبية، عساه ينجو من بطش قلمي

وأقول إني لم أكن أعرف أن اللغة العربية غنيّة بألفاظ الهجاء قبل أن أقرأ كلمته الثانية، وأنا من الذين يدينون بوجوب طلب العلم من المهد إلى اللحد، فمن واجبي أن أرحب بمن يعلمني طرائق السباب، ومن أجل هذا أرفض كل الرفض أن ينتهي ما بيني وبينه بالصلح، ولو صدر عن الرجل الكريم الذي أسرَّ في أذني عبارات ونحن بوزارة المعارف

لقد شتمني هذا الرجل ليصرفني عن تسجيل ما سَرَق مني، فهل نجا من تطويقه بتلك السرقة البلقاء؟

لو كان يعقل لعرف أن السرقة من كتاب النثر الفني لا تغض من أقدار الرجال، لأن كتاب النثر الفني كالشمس يعيش في ضيائها أرباب الوفاء، كما يعيش أصحاب العقوق

السباعي يهدد ويهدد بنقد مؤلفاتي، وهو من فضلها يعيش، فهل رأيتم أقبح وأشنع من هذا الكفران؟

والسباعي يكاثرني بأبناء دار العلوم، فأين كان يوم دفعت عنها طغيان كلية الآداب وأنا مدرِّس بكلية الآداب؟

وكيف يُنكَر جميلي في حماية تلك الدار من البغي والعدوان؟ وفي الأسبوع المقبل يسمع الأستاذ السباعي كلاماً لم يخطر له في بال!

زكي مبارك

ص: 12

‌خصومة أدبية رضيت فيها الأدباء حكماً

زكي مبارك

يكتب كثيراً ولا يقول شيئاً

للأستاذ السباعي بيومي

- 3 -

ما كنت أحب لك يا دكتور أن تكتب شيئاً مما سودت به مقال العدد 398، ومعظم مقال العدد 399 - بل كله كما ستعلم - لأنه ليس من الخصومة ولا الخصومة منه وليس بذي فائدة للقارئين. وما كنت أحب أن أجول معك في هذا الخروج لضيق الصفحات الأربع - المحدودة في الرسالة - عن أن تتسع له ولما أوعدت به من الهجوم عليك في زهر الآداب، لولا ما تعتقده من أنه في صميم الخصومة، وما أخشاه من أن تزين لك نفسك أنك به قد انتصرت

ولقد كان واجباً عليك وخيراً لك أن تنتظر كلمتي السابقتين ثم تكتب في الموضوع، ولكنك تعجلت ولم تستطع معي صبراً. والآن فالق جزاء تسرعك في الرد على ما ذكرت بمقاليك مما لم تتناوله كلمتاي، مشفوعاً بطلبي منك ألا تعود إلى هذا الخروج، حتى نفرغ للخصومة الأدبية بالمعنى الذي تحمل ويريده الجمهور

تدعي أن صديقاً عزيزاً قال لك: (لم يرضني تحديك للأستاذ السباعي فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن يجعل مقالاتك من موضوعات الدروس بدار العلوم وذلك من شواهد الإعجاب).

وأنك حفظت لي هذا الفضل وآثرت الصمت لولا أن أديباً أثارك بما كتب إليك. ويظهر يا دكتور أن هذا الصديق من الخبثاء الظرفاء الذين عرفوا فيك ما قرره ابن المقفع من أن عجب المرء بنفسه أرحب باب يدخل عليه منه الضاحك عليه والمظلل له. فهو قد أضللت وضحك عليك بما تخيل فتحققت، وما كان لشيء من مقالاتك أن يكون من موضوعات الدروس في دار العلوم، ولو حدث لما سميت دار العلوم

وتدعي أنك مع هذا كنت على نية السكوت لصداقتي ولأن هجومي لن يقلقل مركز الشيخ

ص: 13

المرصفي، ثم لأني من زملاء الأستاذين هاشم وصفوت ولهما عليك حقوق؛ فأما الصداقة فما ينبغي أن تحول دون محاورة الصديقين فيما يفيدهما ويفيد الناس، وأما أن هجومي لن يقلقل من مركز الشيخ المرصفي فعما قريب ستعلم أثره

وتذكر أنك في سبيل دفع الشر عن الشيخ المرصفي ستقدم لي خدمة أدبية بجذبي إلى الجدل على صَفحات الرسالة، وأنا مرحب بدفع هذا الشر عن الشيخ، ولكن فيما صوبت أنا إليه؛ ثم إني لشاكر لك جذبي إلى التحرير وغير طامع في رفق أسلوبك، بل راغب ملِّح في أن تريني ما تزعمه لقلمك من أنه تطير عن أسلاته شظايا الشدة والعنف، حتى أعلمك - إن لم تكن علمت - أن مثل قلمك أمامي مثل بنادق الأطفال تسمع لطلقاتها دوياً ولا ترى لها كلماً.

أما القلم الذي ستواجه مني فهو مسدس ذو طلقات تميت في غير جلبة ولا ضوضاء، وهاأنت ذا قدحت زنده فاصّلَ شرره

وتقول إن المرصفي قضى شبابه في خدمة الكامل، وأنني قضيت شبابي في خدمته كذلك، وإني لأكاد أكذبك في الأولى لأنك غير صادق في الثانية قطعاً. فما قضيت في تهذيب الكامل إلا ثلاث سنوات لا تستغرق شباباً ولا بعض شباب، ثم تتظرف وتحكم بأن الفرق بين الرغبة والتهذيب كالفرق بين المرصفي والسباعي. وإنه لحكم أعاد إلى ذاكرتي هذا البيت:

كأننا والماء من حولنا

قومٌ جلوسٌ حولهم ماء

ثم تكذّب ما قاله الطالب أيوب من أن كتاب المرصفي ظهر سنة 1930 وتقول إنه ظهر سنة 1927، فتكون سطحياً أمام طالب، لأنك أخذت تاريخك من غلاف أول جزء في الكتاب والطالب أخذه من غلاف آخر جزء منه، فارجع إلى هذا الجزء رجوع الغافل الذي دل على أنه لم ير الكتاب، تجد عليه سنة1930 وهو التاريخ الحق الذي لا يعتبر في مجال الاحتجاج سواه. على انك شعرت بتفاهة ما لحظت لأن كتابي ظهر سنة 1923 فقلت:(وليس لهذا التاريخ أهمية) ولكنك عدت فوقعت إذ زعمت أن شرح المرصفي يرجع إلى أكثر من أربعين سنة، وأنه كان كاملاً من جميع الجوانب حتى الفهارس قبل سنة 1915 وأنك رأيته بعيني رأسك ورآه معك الشيخ الزنكلوني. وما رأيك يا دكتور أن المرصفي

ص: 14

نفسه يكذبك في ذلك بعبارته المدونة في آخر جزء من أجزاء الرغبة عن إتمامه الشرح فما بالك بالفهارس، وهي بنصها:(وقد انتهى شرح كتاب الكامل والحمد لله ليلة 11 رجب سنة 1340 من الهجرة) وهذه توافق سنة 1923، أي أن الشرح وحده دون الفهارس لم ينته إلا سنة 1923 لا قبل سنة 1915. أليست هذه العبارة تفهم بصريح العبارة أنك كذبت على عيني رأسك، وإذا كان لنا أن نتركك حراً تكذب على نفسك، أفلا نؤاخذك أن تكذب على غيرك. ولكنك يا دكتور كنت لبقاً إذ تخيرت هذا الغير ممن انتقلوا إلى جوار ربهم، وأنا جد واثق أن الشيخ الزنكلوني لو أمتد به الأجل إلى حيث كتبت ما كتبت لأشهدت غيره من الأموات سامحك الله

ثم لك هذه النقطة حشوة لا علاقة لها بالتواريخ، ولا هي من العبارات الشعرية كما تقول: تلك هي قولتك (ولن أنسى ما حييت تلك العبارة الشعرية التي صرخ بها الشيخ المرصفي وهو يقدم إلينا شرحه على كتاب المبرد - لن أنساها أبداً - فقد قال شيخنا العظيم وهو يخاطب المبرد (الله على أيامك يا بطل)) وبعد ذلك تقول: (والكتاب الذي كمل من جميع نواحيه حتى الفهارس قبل سنة 1915 هو الكتاب الذي سرقت بعض فهارسه من كتاب ظهر في أواخر سنة 1923) فلتسمح لي يا دكتور أن أتركك وأخاطب الناس. أيها الناس يعجب الدكتور من أن الطالب أيوب لا يستبعد على المرصفي أن يكون قد استعان في كتابه الذي ظهر سنة 1930 بكتابي الذي ظهر سنة 1923 زاعماً أن كتاب المرصفي كان كاملاً من جميع نواحيه حتى الفهارس قبل سنة 1915 بالرغم من تكذيب المرصفي له كما سبق ومؤيداً هذا الزعم بآخر حاط من قدر المرصفي إن كان حقاً، هو أن المرصفي لم يكن يطلع على شيء من مؤلفات المعاصرين فكيف اختص الأستاذ السباعي بتلك العناية. هذا ما يقوله الدكتور أيها الناس، وليس لي من تعليق عليه إلا الجملة التي ختم بها ما قال وهي (تلك والله إحدى الأعاجيب)

ويقول الدكتور عني بعد جعله المرصفي أوحد عصره بلا جدال (إنني الرابع أو الخامس بين أساتذة دار العلوم مع التسامح الشديد) ونحن أساتذة اللغة العربية بهذا العدد تقريباً في الدار فكأنه جعلني الأخير. والحقيقة يا دكتور أنك في تدخلك هذا غريب؛ فما أنت فينا والفاضل والمفضول والأول والأخير أولئك إخوان فضلهم فضلي ومكانهم مكاني وكلنا

ص: 15

أعرف بحق صاحبه منه بحق نفسه.

وتقول إن الشيخ المرصفي أثر في عصره وتعدد له ذخائر كثيرة، وليس لي رد على الشيء تعرفه أنت ويجهله غيرك. إني لا أعرف للمرصفي إلا ما عرف الناس ولا أدعي لنفسي من آثار إلا ما لمسوه. فسلهم لتعلم منهم أن عمري لم يكن موقوفاً على التهذيب، ثم سل تلاميذي الذين تتحدث عنهم يخبروك بما يفحمك مخلصين صادقين وفخورين بتلمذتهم لي فخري بأستاذيتي لهم في غير زهو ولا إعجاب

ذاك ما جعلته طلائع غزوة وبه تباهى. فهل لازلت على هذه المباهاة بعد تفسيقي لما ذكرت وردي على ما سودت ومع هذا فإليك رأي في تلك المباهاة نفسها

تقول إنك لن تصفح عني أو أشتغل محرراً متطوعاً بالرسالة ثلاث سنين، وما هذا لي بالتهديد فما أنا ممن يضيرهم التحرير ولا ممن تعودوا أخذ أجر على ما يكتبون، لأني أكتب للكتابة لا طمعاً في مال، ولذلك يصدر ما أكتب في غير كلفة ولا إكراه.

وتقول إن خصومتك لي محنة صبت على من شاهق وتطلب مني أن أتحملها صابراً، وإنها لا تنتهي قبل بداية مايو، وليس مثلك معي في هذا التهديد إلا مثل القبرة التي وقعت على رأس فيل؛ فلما أرادت أن تطير قالت له إني مخففة عنك وطائرة فقال والله ما علمت بك نازلة حتى أشعر بتخفيفك طائرة. أما الموعد الذي ضربته فهو أمنية تتمناها وتشفق ألا تكون، ولست أدري أؤوافقك عليها مطمئناً أم أتجاوزها إلى ما بعدها مزعجاً، لن أبين لك حتى أتركك حيناً تتعزى بالأجل إشفاقاً عليك وآخر تجزع لطول الأمد تهديداً لك. وسأعلمك في حاضري ومستقبلي أن ماضي لم يكن قائماً على خدمة الكامل وحده وأن تهذيبي له لم يكن عملاً يقوم به أحد النساخين بدراهم معدودات وذلك بما أقفك عليه من أنه كان خدمة يعرفها العارفون

وتزعم أنك قضيت دهرك ممتحناً بعداوات الرجال. ورجائي أن تكون رجلاً فيما أصبت به من عدائي وأن تغالي في عدم العطف على، ذلك الذي أزمعت تركه لأني ترديت لك ثوب العقوق، والحقيقة يا دكتور أنه لا عطف منك على ولا عقوق مني إليك وإنما هو نقاش وحساب يتطلب منك أن تكون الجلد الصبور.

ثم تقول إنك حكمت على بترك دروسي في دار العلوم لأشغل نفسي بمخاطرتك. ويلوح لي

ص: 16

يا دكتور أنك ما قلت ذلك إلا لعقيدتك أن مخاطرتي لك تشغلني كما تشغلك مخاطرتك لي، ولكن عقيدتك هذه وهم باطل وظن خاطئ، فإن هجومي عليك وصدى لك لا يشغل مني كل أسبوع إلا الوقت يجري فيه القلم غير متوقف إلى حيث ينتهي المقال وهو وقت يسير في زمن اليوم لا الأسبوع، ثم هو لذيذ الوقع ترتاح لصريره النفوس.

وبعد فهاأنذا مرقل نحو مقالك الأخير فماذا أرى؟ رأيتك قد سودت أكثر من نصفه بأشياء خرجت فيها عن الجادة وجمعت بينها على الإكراه والقسوة، فبينا تبدؤه بالرد على كلمتي الثانية قبل ظهورها بهذه الجملة التي لا تقدم ولا تؤخر في الموضوع فتقول عني في تبرئة نفسك من السرقة التي ألبستك طوقها:(فكان حاله حال اللص الذي رأى صاحب الدار يمشي من بعد فصاح: مين اللي ماشي هناك)، ثم تعقب هذه بقولك:(إني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يتطلع إليها الناهبون من الفضلاء) سبحان المنان الوهاب! وعلى هذا الغرار من قرع طبلك تقول عني (فليواجهني إن استطاع وأنا ماض إليه بقلم أمضى من السيف وأعنف من القضاء)، وستعرف أينا الذي يستطيع، وأينا الذي سيكون قلمه أمضى من السيف. أما أن قلمك أعنف من القضاء فمعاذ الله أن أشاركك هذا الكفران وقد علمت عن ابن دريد الذي تحدثت عنه في نظريتك المزعومة، أن تلميذه أبا علي القالي قال: (لما أصيب بالفالج كنت أدخل عليه فيتألم من دخولي فأقول: إن الله تعالى لم يبتله بذلك إلا عقاباً على قوله يخاطب الدهر وليس الدهر إلا الله:

مارست من لو هَوت الأفلاك من

جوانب الجو عليه ما شكا

إذا بك تنتقل إلى أن كامل المبرد على ما به من فضل قد حرف وصحف وصار في حاجة إلى إصلاح، وإني لن أكون المصلح المنشود لأني لم أوهب نعمة الذوق الأدبي التي لا يظفر بها من كل جيل إلا آحاد، وأنت طبعاً من هؤلاء الآحاد إن لم تكن أوحدهم. ثم تقول كان المصلح المنشود له شيخنا العظيم سيد بن علي المرصفي وهو طبعاً من الآحاد الذين رزقوا نعمة الذوق الأدبي

والآن أقدم للجمهور شيئاً من أشياء أعرفها للشيخ المرصفي برهاناً واضحاً على أن الذوق الأدبي كثيراً ما خانه في أبسط مظاهره، ذلك الشيء هو أبيات جاء بها المبرد في الهجاء الموجع فجعلها المرصفي في شرحه من المدح البالغ. ولو كان المبرد يعلم أن ذوقه إلى هذا

ص: 17

الحد لأنقذه وصرح بأنها هجاء. وهاهي الأبيات وتحتها شرح الشيخ من غير تعليق (صفحة 132 ج 4)

قال أبو العباس المبرد: ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا - يريد ابن خلف - قوله في الحسن بن سهل:

باب الأمير عراء ما به أحد

إلا امرؤُ واضع كفاً على ذقن

قالت وقد أملت ما كنت آمله

هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن

كفيتك الناس لا تلقي أخا طلب

بفيء دارك يستعدي على الزمن

إن الرجاء الذي قد كنت آمله

وضعته ورجاء الناس في كفن

في الله منه وجدوى كفه خلف

ليس السدى والندى في راحة الحسن

وإلى القارئين كل ما قال الشيخ المرصفي في شرحها بنصه وصورته، قال - وقاه الله شر تلميذه الدكتور زكي مبارك -:(في الحسن بن سهل) بن عبد الله السرخسي وزير المأمون بعد أخيه الفضل بن سهل (باب الأمير) كأنه يريد أميراً غير الحسن (لا تلقي أخا طلب الخ. . .). تريد إن استجديته أغناك، فلا تجد غريماً يطلبك (ليس السدى) يريد إلا رجاء السدى، وهو ندى الليل، (والندى): ندى النهار ضربهما مثلاً لجوده، وقد أخر هذا الاستثناء عن موضعه فثقل. . . انتهى شرح الشيخ، فما رأيك فيه يا دكتور، إن كنت ممن وهبوا نعمة الذوق الأدبي؟ وهل لا تزال مصرَّا على أن المرصفي قضى حياته يراوح المبرد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق؟ أما أني أتقوّل على المرصفي لأنه مات وشبع من الموت وهذا لا ينبغي، فهي دعوى لو عمل بها في الأدب، لمات الأدب وشبع من الموت كما تقول؟

وإذا بك تقحم الدكتور طه حسين في الموضوع بأنه أتعب نفسه في النيل من دار العلوم، ولم أغضب، مع أني أستاذ بها، وهذا غير ما كان يا دكتور، فقد كتبت في الصحف والمجلات،

ولكنك لم تقرأ، كما لم تعرف ما ضحيته ومازلت مستعداً لتضحيته في سبيل الدفاع عن دار العلوم؛ ثم توغل في الإقحام فتدعى أن علة سكوتي هي أن الدكتور طه يضر وينفع، ويملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان، وردي على هذه الأكذوبة عني وعن الدكتور أني

ص: 18

لم أسكت، ومع هذا كنت عضواً في اللجان، وما ذنبي إذا كنت أُدعى وتترك، وأعرف وتنكر؟

فإذا بك تغادر الدكتور طه إلى الأزهريين، تحبط من قدرهم إذا لم ينصروك، وتسلبهم - كاذباً في الاثنتين - أبسط ما يعرف العلماء من أقدار الرجال فتقول:(لم يوجد في الأزهريين من يدرك قيمة الشيخ المرصفي غير الشيخ محمد عبده، وبموت الأستاذ الإمام أصبح المرصفي من الغرباء)؛ ثم تعود إلىَّ تتهمني بأني أريد الإعلان عن نفسي بالقدح في المرصفي، وتطالبني بدفع ثمن هذا الإعلان بلا إمهال، وما كان هذا القدح ولا ذاك الإعلان لي بمراد؛ أما الثمن، فأنا على نقده لك عاجلاً - كما تقول - ولكن فيما يبصر الناس بقدرك

ثم تشرد يا دكتور فتقول: (أنا أعرف أن دار العلوم مدرسة عالية، لا يزورها أحد من المفتشين إلا إن ظمئ إلى فنجان من القهوة يحتسيه في مكتب العميد أو مكتب الوكيل)؛ وتخرج منه إلى أن محاسبتي لذلك من العسير، والحق أني لست فاهماً ما تعني بهذا الشرود. أتريد أن يغير نظام التعليم، فيدخل التفتيش إلى التعليم العالي قلباً لأبسط مبادئ التعليم؟ أم تأمل إذا انقلبت الأوضاع أن تكون المفتش لدار العلوم؟ وإذا كورت الشمس وكان ما تريد، فهل تحملك رجلاك لتقوم بهذا الحساب؟ أضنك على علم في كل هذه الأسئلة بالجواب، كما أنك على جهل بأن الدرس الذي أعطيه في الجامعة الأمريكية، إنما هو في قسم من أقسامها العالية - ولولا ذلك لم أعطه - هو قسم الصحافة والأدب، وشأنه في ذلك شأن دار العلوم وسائر المعاهد العالية التي يشرف على الدراسة فيها: ضمير الأساتذة ورقابة الطلاب، وهما أدق تفتيش

وأخيراً تكثر من هذه الجملة (لا تشتمني يا سيد سباعي) معقباً إياها بتعاليل هي الأباطيل. فالشتائم أنت وأنا عن الشتم بعيد، وإذا كنت تلحن لي في ذلك بأنك (شتيم)، فأنا ألحن لك (بأني بشر ابن عوانة). وهاك تعليلاً منها ليس من الشتم، ولكن الشتم منه هو قولك لي:(فما أملك محاسبتك لو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولست بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب)؛ وأنا أقول إن لك في هذا أن تجاب:

فأما الشعر، فلو رضيت لنفسي ما قلته كما رضيت أنت ما قلت، لسويته ديواناً كما سويت، ولوقعت في الشرك كما وقعت، فقد اغتررت في طبع ديوانك بضحك من غرّروا بك،

ص: 19

وخالفت قول من نصحوا لك، وما ديوانك بشعر شاعر، ولكنّه تجميع ناظم

وأما الكتابة، فها نحن في ميدانها على صفحات (الرسالة) نجول، وسيصدر الجمهور - إن لم يكن أصدر - حكمه فيها عما قريب

وأما التأليف، فقد عرفت من عملي فيه تهذيب الكامل، وستعرف غيره من مؤلفاتي متى انتهيت منه، وناقشنا فيه الآن، فاثبت ولا تفر من الميدان

أما الخطابة، فرأيي لك فيها يا دكتور أن نتلاقى في حلبتها أمام جمع من الأدباء وجمهرة من السامعين ويقترح على كلينا التكلم بداهة وارتجالاً في موضوع عام من أدب أو اجتماع، فهنالك وهنالك فقط - ولست مزكياً نفسي ولكني مدافع عنها - تجد بحراً يغمرك، وأمواجاً تقطعك وتبهرك، فتندم طالباً النجاة ولات حين مناص

إلى هنا أقف، وقد طال الكلام، مرجئاً الرد على ما وازنت فيه بين (الرغبة والتهذيب) وكل ما يتعلق بهما في المقال، وذلك لأن دفعه - كما ستعرف - لابد أن يسبق بكلمة مني عن الكتابين، تريك سوء ما زينت، وهنيئاً لك الآن نفاد الصفحات دون بقية الرد والهجوم.

السباعي بيومي

ص: 20

‌2 - في العقد

لأستاذ جليل

5 -

(ص 335، 336) ولحاتم بن عبد الله:

أماويَّ قد طال التجنب والهجر

وقد عذرتنا عنِ طلابكم العُذرُ

أماويَّ إني لا أقول لسائل

إذا جاء يوماً حل في ماليَ النزْرُ

وجاء في الشرح: العذر (بضمتين وسكن للشعر): جمع عذار وهو ما سال على خد الفرس من اللجام. و (عذرتنا. الخ) أي منعتنا الموانع. وأصله من عذرت الفرس بالعذار، أي شددته به. فالكلام هنا على سبيل الاستعارة

قلت: الشطر الثاني في البيت الأول هو هذا: (وقد عذرتني في طلابكم العذر) وفي الصحاح (عذر). والشطر الثاني في البيت الثاني هو هذا: (إذا جاء يوماً حل في مالنا نذر)

وعذُر جمع عذير - وقد جاء في الشعر مخففاً - والعذير الحال التي يحاولها المرء يعذر عليها، والبيت من شواهد الصحاح واللسان والتاج. والنذر معروف، نذرت أنذِر وأنذُر نذراً إذا أوجبت على نفسك شيئاً تبرعاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك، كما في النهاية

6 -

(ص 22) لما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان. قال له: بثلاثة: حاجبك. . . وصاحب شرطتك. . . وعمال القَدْر. قال: وما عمال القدر؟ قال: أن تختار من كل كوره رجالاً لعملك، فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطئوا فهم المخطئون وأنت المصيب

وجاء في الشرح: يريد (بعمال القدر) ذوي الشرف والحسب. والذي في 1: (الغدر)، والذي في سائر الأصول:(القرى)، ولا يخفي ما في كلتا الروايتين من التحريف، وما أثبتناه عن محاضرات الأدباء (ج 1 ص 102) في خبر روى عن عمر عبد العزيز. . .

قلت: ذوو الشرف والحسب لا يُعذَر الإمام أو الوالي إذا وسد إليهم الأعمال فاخطئوا أو أساؤا، ورب وَحد خير من ألف حسيب نسيب، وقد نقلت في أحد دفاتري من كتاب لا أتذكره اليوم هذا الخبر:(استشار عمر بن عبد العزيز في قوم يستعملهم، فقال بعض أصحابه: عليك بأهل العذر، قال: ومن هم؟ قال: الذين إن عدلوا فهو ما رجوت منهم، وإن قصروا قال الناس: قد أجتهد عمر). وهو يشبه ما رواه محققو (العقد) عن (محاضرات

ص: 21

الأدباء) في الشرح. فأهل العذر هم فضلاء كبار كرام بأنفسهم قد اطمأن إليهم الجمهور، وقد يكونون من المحسوبين من الحسباء والمنسوبين وقد لا يكونون، فإذا وليت طائفة منهم فأخطأت عذر الناس من عمّلها أو ولاها

وينصر ما ذهبت إليه قولٌ في (مشاورة المهدي لأهل بيته) ص 248: (. . . واجعلْ عمال العذر وولاة الحجج مقدمّة بين يدي عملك، ونصفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلاً توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكماً بينه وبينهم، فإن أحسن حُمدت، وإن أساء عُذرت، هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج)

والحجج تثبت العذر. . .

7 -

(ص 176) فرَّ أبو خِراش الهذلي من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات فقال:

وفوني وقالوا يا خويلد لا تُرَع

فقلت وأنكرت الوجوه هُم هُم

قلت: رفوني. والبيت من شواهد الصحاح والأساس واللسان والتاج. قالوا: فزع فلان فرفوته إذا أزلت فزعه وسكنته، اعتبر بمشاهدة الوجوه، وجعلها دليلاً على ما في النفوس

8 -

(ص 252) قال عبد الله بن الزبير لمعاوية - ويقال بل معاوية قالها لعبد الله -: مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول الشجر

قلت: في الحديث: إنما هو (في أصول السخبر) وهو شجر تألفه الحيات فتسكن في أصوله، الواحدة سخبرة

9 -

(ص 2). . . فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيبة المنبت، ذكية التربة، يانعة الثمرة. . .

قلت: زكيه التربة

في الأساس: زرعٌ زاك ومال زاك: نام بيّن الزكاء، وقد زكا الزرع وزكت الأرض وأزكت، ومن المجاز: رجل زكي: زائد الخير والفضل

وفي اللسان: أرض زكيه: طيبة سمينة

10 -

(ص 149). . . فسلك به سبيل مَهلكةُ معطشة

قلت: مَعطشة

في التاج: المعاطش: الأراضي التي لا ماء فيها، الواحدة معَطَشة. المهلكة (ويثلث): المفازة

ص: 22

لأنها تهلك الأرواح فيها

11 -

. . . وفرسي هذا حُبِس في سبيل الله

قلت: حبيس

في الجمهرة: حبست الشيء أحبسه حبساً إذا منعته عن الحركة، وأحبست الدابة إحباساً، إذا جعلته حبيساً فهو محبس وحبيس، وهذا أحد ما جاء على فعيل من أفعل

في التلويح في شرح الفصيح لمحمد الهروي: (وحبست الرجل عن حاجته وفي الحبس فهو محبوس) إذا منعته من التصرف في أموره أو أحبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس) إذا جعلته وقفاً على الغزاة يجاهدون عليه، ومنعت من بيعه وهبته

في التاج: وفي شرح الفصيح لأبن درستويه: أما قوله: أحبست فرساً في سبيل الله بمعنى جعلته محبوساً فدخلت الألف لهذا المعنى لأنه من مواضعها، ولا يمتنع أن يقال حبست فرسي في سبيل الله كما تقول العامة لأنه إذا أحبس فقد حبس ولكن قد استعمل هذا في الوقف من الخيل وسائر الأموال التي منعت من البيع والهبة

12 -

(ص 19). . . قال (زياد) لا ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين، فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم وبين يدي أمرائهم، فقال له معاوية: كف عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غَلَبْت

قلت: غُلِبت، فمعاوية لم يخاطب ابن عباس - وقد سره أدب أخيه - مصوباً بل مخطئاً

13 -

(ص 15). . . ثم دخل (معاوية) على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا فرفعهم سبقهم، وقصر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعاً وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم؛ فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه

وجاء في الشرح: لتنفست فيه كناية عن الاستراحة بعد بلوغ الغاية

قلت: لنوفست فيه أي غولبت وقوهرت، غالبك أقرانك وقاهروك أو نافسوك فيه كنفِسوه عليك، ونفس عليه بالشيء ضن به ولم يره يستأهله

14 -

(ص 12). . . في جنب صلاح العامة وتلافي الخاصة

قلت: وتألف الخاصة

ص: 23

في حديث حنين: إني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر، أتألفهم ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما يصل إليهم من المال

وقد جاء في حاشية (تلافي الخاصة): في عيون الأخبار: وتلافي الحادث قبل تفاقمه

قلت: هنا يجئ التلافي في محله

15 -

(ص 359). . . فأرْونِي تتألف لي نوافرها، ويسكن رُوعي. قال: قد فعلت. . .

قلت: فأردوني، والإرواد الإمهال؛ وفي غير العقد هذه الرواية في هذا الخبر:(فليمهلني أمير المؤمنين ريثما يتألف نافر القول والروع بالضم القلب، وبالفتح الفزع)

16 -

(ص 368). . . قال: فمن كان أبا النجم مثواك؟

قال: رجلين أتغذى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر

قلت: أبا مثواك. أتغدى

في الأساس: وهو أبو مثواي، وهي أم مثواي: لمن أنت نازل به. قال:

أفي كل يوم أم مثوى تسوسني

تُنّفَض أثوابي وتسألني ما اسمي؟

في التاج: الغداء طعام الغدوة، أغدية وتغدي أكل أول النهار، وغديته تغدية في ذلك الوقت

وفي الغداء والعشاء غذاء. . .

17 -

(ص 334، 335). . . وجعل ينادي: أبا عدي أَقرِ أضيافك. . .

. . . فقال: إن حاتماً جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك

قلت: أبا عدي، أقر أضيافك، وإنه قراك

قرى يقري (كرمى يرمي) قِرى وقَراء. وأقراه طلب منه القرى

ص: 24

‌من وحي الهجرة

شكاة ونجوى. . .

(مهداة إلى الرجل الكبير الذي أخذ بيدي في الحياة. . . إلى

خالي)

للأستاذ شكري فيصل

- 1 -

. . . متى يا رسول الله متى. . . تكتحل عيناي بالتطلع إلى مقامك الكريم في أرض النبوة الطاهرة. . . ويقدر لي أن أقف بين يديك: أقرؤك السلام، وأبثك الحنين، وأَفني في لثمات أعتابك؟. . .

لقد طال بي الشوق، يا رسول الله، إلى التراب الذي لامس قدميك، والأرض التي وطأت ركائبك، والجو الذي نثرت فيه النعيم والسلام. . . فمتى يا رسول الله. . . متى؟. . .

إن الحنين ليحدوني، وإن الحب ليهزني، وأني لأجد في قلبي النور، وفي عيني الضياء، وعلى شفتي النغمات الحلوة. . . حين أراني في مقامك يا رسول الله: هادئ النفس، مطمئن الخاطر، كما يطمئن الإنسان إلى خيالات الأمل، ويهدأ إلى صور الخير، ويهيم في أودية من الجمال. . .

. . . متى يا رسول الله: ينسم عبق مكة، فأنتشي بهذا النسيم. . . وأعب منه ملء رئتي، وأذكر معه هذه البلاد التي كانت مثوى الضلالات، ففاضت بالنور. . . وكانت مثابة العصبيات، فتدفقت بالتسامح. . . وعاشت أبداً في ظلام الجهل وحماقة الهوى وسلطان الغرض. . . ولكنها بدلتها أنوار المعرفة ونعمة العقل وزينة العلم. . .

. . . إني لتستثيرني الذكرى يا رسول الله. . . يا أسمى من كل إنسان، وأرفع من كل بشر، وأكرم من كل مخلوق. . . فأصمت لنجواها العذب، وأنصت لحديثها الرطب، وأهيم في دنياها الرفافة التي تموج بالأمان، وتزدهر بالسلام، وتتسم بالحب. . . فمتى يا رسول الله. . . متى أمرّغ خدي بأعتابك الطهور وأقبل بشفتي أرضك الحلوة، وأغيّب وجهي في أطراف الستائر التي ترف حواليك رفيف الأمل في القلوب الآيسة. . . كأنما تنعش فيها

ص: 25

الموات، وتبعث فيها الحياة، وترد عليها التحية. . .

- 2 -

. . . متى يا رسول الله. . . يظلني المسجد النضر، لأحدثك حديث هؤلاء الذين تركتهم على بيضاء نقية لا يضل فيها السالك ولا يحار فيها الساري؛ فإذا هم قد ضلوا الطريق، وتنكبوا السبيل وتاهوا في بيد مظلمة. . . لا يجدون المخرج، ولا يلقون المنفذ، ولا تتراءى لهم إمارات الهداية. . .

هؤلاء، يا رسول الله، الذين خلفت فيهم القرآن، وأوضحت لهم الغاية؛ وحلقت بهم في أجواء السمّو، وآفاق المجد، ودنيا السيادة؛ قد ذّلوا. . . فضعفوا عن الحق، وسكتوا عن الواجب، واستخذوا لإرادة الناس الحقيرة. واطمأنوا إلى هذه الاستخذاء وهذا الضعف. . . فإذا قلوبهم غلف، وإذا آذانهم صم، وإذا الدعوات التي تستمد منك قوتها، وتستلهم من وحيك نورها. . . لا تفعل فيهم إلا ما تفعل النسمات المطلقة في الصخور القاسية!

. . . إن الألم ليغمر النفوس العامرة يا رسول الله فتقعد عن العمل، وإن اليأس ليملأ القلوب النقية ليفسد عليها الأمل؛ وأن الهجمات لتتري. . . فمن يذكرنا مواطن العظمة في حياتك وسر الخلود في دعوتك، وجمال الصبر في جهادك؟ من يبث ذلك في قلوبنا يا رسول الله؟. . . من ينثره في أذهاننا كما تنثر السماء سحب الرحمة؟. . . من يقول لنا هذا هو الطريق. . . بعد أن باعدت بيننا وبينك ضلالات فيها السحر، وصرفتا عنك فتن فيها الإغراء

. . . أين أنت يا رسول الله، لتشهد المسلمين اليوم وقد نكبوا بالفرقة، وابتلوا بالنزاع فإذا هم لا يد في حكم، ولا شأن في سيطرة، ولا رأي في مشورة، يعيشون في هامش الحياة كما تعيش النبتة الصغيرة في ظل الشجرة الضخمة في جو معتم من الولاء، لا يمتد لها غصن يقبّل النور، ولا يشتد لها ساعد يحي السماء!

أين من يقول لهؤلاء المسلمين يا رسول الله إنك كنت تجاهد للحياة التي تحل الضعف، وتستهجن الصمت، وتكره الهدوء؟

أين من يقول لهم إن هذا الهدوء الذي يطمئنون إليه أول نذر الموت، وأدلة الفناء

لشد ما نحتاج إلى هديك يا رسول الله. . . لندرك أن الدنيا ليست دنيا الشهوات التي نقبل

ص: 26

عليها، والغايات التي نسعى إليها، والمنافع التي نتكالب في سبيلها. . . ولكنها دنيا الحياة الحرة التي لا تستعبد فيها نفوس، ولا تحني رؤوس، ولا تبذل كرامات.

. . . لقد ضل القوم يا رسول الله. . . وزين ذلك في قلوبهم. . . فمن يكشف لهم عن وضح الحق؟. . . من يرفع علمهم حجب الضلالات؟ ومن يصرف هذه السحب القاتمة من فوق رءوسهم، ومن بين أيديهم تشوه فيهم العقيدة، وتفسد عليهم الإيمان

- 4 -

يا رسول الله إلى الناس. . . لقد عمى الناس عن الخير، لا يفقهون معناه ولا يحسون جماله، وإنما يتخبطون في ظلمات الشر وفي دياجير الخصومات. في أيديهم حراب، وفي أيمانهم قذائف، وعلى وجوههم أقنعة. . . يتراشقون السهام ويتبادلون القذائف، ويصطرعون في هذه الكهوف المعتمة من المادة، وهذه الأجواء الضيقة من الطيش. . . فهلا انتبه أنصارك يا رسول الله في هذه الفترة من الزمن، فانتهزوا الفرصة البارقة، ينشرون أردية السلام، ويبعثون دعوة الحق، ويهتفون بالصيحة الكبرى!. . .

. . . حبذا يا رسول الله. . . حبذا الساعة التي ينشدون فيها نشيد اليقظة ويرددون صرخة الحق، ويحققون أروع ما جئت به من مبادئ السلام، وتتموج على حاشية الأفق راياتهم التي تذكر الناس أكرم ما دعوت إليه وما جاهدت من أجله. . . وتتلألأ في صفحة السماء آياتك الغر، تهدي السالكين، وتأخذ بيد الحيارى، وتزرع في النفس معاني الحب والطمأنينة والغبطة

- 5 -

ألا هل في قوانا طاقة، وفي وسعنا جهد. . . فنحمل هذا العبء يا رسول الله؛ وننهض بهذه الصرخة، ونوقد المصباح: زيته من دمائنا، وذبالته من نفوسنا؛ ونجعل من أجسامنا مغرز الراية ومغرس العلم؟. . . وهل في أعمارنا آجال فنرى هديك فوق كل هدى، وكلمتك فوق كل كلمة، وتنعم أعيننا بالإنسانية المطمئنة إلى الحياة الآمنة التي تختطها، والسبيل السوي الذي ترسمه؟. . .

. . . إن العالم يا رسول الله ليموج في حالك من الظلمة، وإنه ليسبح في جاهلية من

ص: 27

الهوى. . . كهذه الجاهلية التي بددت ظلماتها، وكشفت غياهبها، ونشرت في جنباتها الهداية. . . فهلا أهبت بأنصارك ليتأسوا بك. . . وليهاجروا إليك. . . وليبدءوا دعوتهم بمثل ما بدأتها من قوة وعزيمة وجلد؟!

. . . ركب الإنسانية يستغيث بك يا رسول الله إلى الناس. . . فاسأل الله له السلامة في مهمة الغرائز، والخلاص من ربقة الأهواء، والنجاة من حرب الغل والضغائن. . . وخذ بزمامه إلى ساحل النجاة، فقد سئم صراع الموج، وزمجرة الغضب. . . وضاق بفوضى المذاهب، وخداع المظاهر، وتناحر الآراء. وأسلم وجهه إلى الله. إلى الله وحده يؤمن به، ويعمل له، ويتكل عليه. . . هذه حالنا يا رسول الله. . . فمتى ينبثق الفجر من خلال الضباب الكثيف، ومتى تبصر العين وجه الحياة: لا تغطيها الدموع، ولا تخدعها المظاهر. . . ومتى يجد المدلجون في سفين الزمن شعاعات الرحمة وأنوار الهداية؟

- 6 -

إن الحديث يا رسول الله ليفجر ينابيع الألم، وإنه لينشر صفحات كابية: في إطار سواد، وفي جنباتها حزن، وفي رحابها تاريخ يشهد بالضعف والخور. فما أحوجنا أن نهاجر إليك فنملأ صدورنا من روحك الندي ونطهر عزائمنا بعبقك العطري، وندفع هذا الصدأ الذي يأتكل نفوسنا بالتمرغ في أعتابك الطاهرات

إني لأرنو يا رسول الله إلى هذه الساعات؛ وإني لأهيل عليها الصور، وأريق عليها الزخارف. . . فلا أبلغ بها معشار ما يكتنفها من روعة، وما يحوطها من جلال. . . فمتى أشهد هذا الجلال، في مسجدك المتألق، وروضتك الطاهرة، وضريحك الحي؟!

آه يا رسول الله. . . ما أشد حنيني إلى نسمات الصحراء، ولفحات الشمس، وجرعات زمزم

والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله

شكري فيصل

ص: 28

‌من سماحة الإسلام

الله الله!

للأستاذ كامل محمود حبيب

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب

يردوكم بعد إيمانكم كافرين؛ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم

آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط

مستقيم؛ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا

وأنتم مسلمون؛ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا

واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم

فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم

منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)

(قرآن كريم)

ما لهذا الشيخ يقضي يومه مقبلاً مدبراً يختلس النظر إلى جماعات الأنصار وهم جلوس يتحدثون في هدوء، وعلى وجوههم نور الهداية يتألق؟ ماله ينفضهم بنظراته وإن عينيه لتقدحان شرراً، وإن قلبه ليضطرم حسداً وإنه ليحدث نفسه - في مغداه ومراحه - يقول يا ويلي! لقد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار؟ لعله يهيئ أمراً أو يصنع حادثة

إنه شيخ من يهود قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، يحزّ في نفسه ما يرى بين الأوس والخزرج من ألفة وإخاء، ويغيظه أن تجمعهم آصرة أو تربطهم وشيجة، إنه هو شاس بن قيس

لا جرم، فلقد كان شاس بعض الفئة الباغية من يهود ممن عتوا عن أمر ربهم ونصبوا

ص: 29

الرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوَة والبغضاء بغياً بغير حق ولا علم، يتعنتونه، ويأتونه باللَّبس ليلبسوا الحق بالباطل، ويحاولون جهدهم أن يفتنوه؛ ممن انحدر في دمائهم حب العنت، وأشربوا في قلوبهم روح المكابرة من لدن مَن قال من أجدادهم:(أرنا الله جهرة) حتى مشرق الإسلام على جزيرة العرب؛ ممن عموا وتاهوا وارتدغوا في حمأة الضلالة على يدي علمهم

أفكان لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يلم شعث هذا الناس ويجمع شتاتهم على كلمة الدين. . . كلمة الأمان والسلام بعد ما كان بينهم من تنافر وتنابذ في يوم بعاث ومن قبله يوم مفلَّس ومضرس، ثم لا يتلمس هذا الفاسق حيلة يريد أن يطفئ بها نور الله وأن يؤرث بها ضغائن مسحت عليها يد الإسلام الرقيقة؟ أفكان الدين الجديد أن ينفث سحره في قلوب الأعداء فيصبحوا بنعمة الله إخواناً. ثم لا يجد هذا الفاجر مَسَّ الغيظ في قرارة نفسه يوشك أن يعصف به؟

لعمري إنه ليعلم أن هذا هو الدين الذي كان ينتظر، يجده مكتوباً عنده في التوراة؛ وهذا هو النبي الذي كانوا يستفتحون به على أهل الشرك من قبل أن يأتيهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وأعرضوا عنه، وحملوا عليه، حسداً من عند أنفسهم

وانطلق شاس يفتش عن دواء لداء الغل الذي يحز في نفسه فيثور به فيمنعه القرار، وينفث في حياته قلقاً ما يطمئن. . . انطلق والشيطان يدفعه ويوسوس له، فاستنام إلى رأي الشيطان

ولا ريب، فللشيطان قدرة على أن يحل كل مشكلة بطريقة شيطانية تبذر - دائماً - غراس الخراب والدمار، وتلد - أبداً - الشقاق والبغضاء

وجلس الشيخ إلى فتى غرّ أهوج من فتيان يهود يتملقه حيناً وينشر على عينيه ضعفه حيناً؛ وراح الشيخ يمكر بالفتى يقول: (. . . واتخذوني يا بني سخرية إن أنا أقبلت أو أدبرتُ؛ وأنا رجل كبّار، قد دقّ عظمي وتقبّض جلدي على مثل ما ترى، لا حول لي ولا طول، وهم ما ينفكون يهزؤون بكتابنا ويحتقرون ديننا ويتندرون على أحبارنا، فنستشعر الهوان والذلة ونحن كنا في العز والمنعة. ومَن لنا وللدين إن لم نجد في شبابنا وهم كُثر، مَن يرد عنا كيد هؤلاء ويدفع أذاهم. يا بني. . . يا بني. . .)

ص: 30

وأطرق الفتى يتسمَّع دويّ صوت الشيخ، وإن الكلمات ليتردد صداها في مسمعيه فيخترق شغاف قلبه فيلقى السَّلم إلى أستاذه رويداً رويداً. ولا ضير فهو يحس مسكنة الرجل وانكساره

ورأى شاس الخديعة تنطلي على الشاب حين أسلس وانقاد فاندفع يحكم العقدة، فأقبل على الفتى يقول:(ياعجباً، لقد عرفتك أيّداً جلداً إذا حزب الأمر أو أعضلت المسألة، فما بالك الآن حيران لا تتماسك؟ لعل خشية القوم قد تسربت إلى قلبك فأنخلع فؤادك رهبة وجزعاً!). فأجاب الفتى في سرعة: (كلا، كلا يا سيدي، ولكني لا أجد الرأي)

فقال الشيخ في هدوء: (الرأي عندي أن تسعى فنفرق كلمتهم ونصدع ألفتهم فتنكسر شوكتهم وتنهد قوتهم، ونظهر نحن عليهم) قال الفتى: (وكيف؟) فأجابه الشيخ: (تعمد أنت إلى القوم وهم في مجلسهم يتسامرون فتذكرهم بأيام الجاهلية وتبعث في نفوسهم ذكرى ضغائن شغلتهم عنها أعباء الدين الجديد، وتنشر على أعينهم حديث يوم بعاث وما كان قبله، وتنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من أشعار. . . هذه، يا بني، هي الشرارة الأولى؛ ولا عجب إن هي سعرّت بينهم نار الحرب التي انطفأت منذ حين

وراح الفتى يندس بين جماعة من الأنصار يصحبه الشيطان، وأخذ يحمل القوم رويداً رويداً على ذكر أيام خلت، ويقص حادثات تبعث ميت الحقد، وتثير دفائن الغيظ، ثم هو يتلوى في حديثه ليذكر غلبة الأوس واستخذاء الخزرج. . .

ونفذ الفتى من ثغرات ضيقة إلى قرار القلوب، فتغلغل الحديث في نفوس القوم، وتشعب الكلام فنوناً، واندفع كل حزب يفاخر صاحبه ويباهيه، ويتطاول عليه ويكاثره. . . ثم شرى الأمر بين أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتواثبا على الرُّكَب يريد واحد أن يبطش بصاحبه، وتناثرت بينهما ألفاظ طمست على صفاء كان بينهما منذ ساعة؛ وانحازت طائفة من الأوس إلى صاحبهم، وأعان الخزرج محاميهم، وانفرط العقد، ودبّ دبيب الشحناء، وبدت البغضاء على وجوه القوم، وطغت عليهم طبائع الجاهلية التي تنشئوا عليها وعاشت في دمائهم سنوات وسنوات؛ فقال واحد لصاحبه:(إن شئتم رددناها الآن جَذَعةً). فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: (قد فعلنا، موعدكم الظاهرة). ونفر القوم وهم ينادون: السلاح السلاح!

ص: 31

وأقبل شاس بن قيس في جماعة من ضلاّل يهود يرقبون ويبسمون، وفي رأيهم أن كيد الكافر يفلح، على حين أخذ الفريقان من الأوس والخزرج ينسلون في السلاح إلى موعدهم، إلى الظاهرة. وكادت الفتنة أن تقع فينهار صرح مشيد على يدي فاسق زنديق، لولا أن منَّ الله على أوليائه، فأنقذهم وهم على شفا جرف

وانطلق رسول السلام إلى رسول الله (ص) يخبره الخبر، (. . . وطارت الهيعة تجمع شتاتهم على باطل، فهم هناك في الظاهرة، تكاد نقمة الله أن تنحط عليهم فيرتدوا كافرين)

فخرج إليهم رسول الله (ص) قبل أن يبلغ الشيطان غايته. . . خرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم وإن سيفاً يوشك أن يقرع سيفاً، فناداهم:(يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بين قلوبكم)

وأفاق الأنصار من ذهول حين هبطت كلمات الرسول (ص) على القلوب برداً وسلاماً، فبدت لهم سيئات ما عملوا وتخاذلت أيدٍ كانت تحمل السلاح، وأقبل بعض على بعض يتعانقون ويبكون؛ وانسل الشيطان من بين الفريقين وقد كبته الله، وارتد عدو الله شاس يستشعر ألذلة والهوان. وتصافت قلوب كانت توشك أن تتهاوى على أسنة الرماح لأنها أصغت إلى حديث الشيطان ساعة من الزمان. . . تصافت، لأن قوة الإيمان سماوية تترفع - أبداً - عن الحزازات الأرضية

(المحلة الكبرى الثانوية)

كامل محمود حبيب

ص: 32

‌من خلال التاريخ

بَّناءون مَنْسيُّون في تاريخ الإمبراطورية البريطانية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تقابل الإمبراطورية البريطانية اليوم محنة قاسية، هي شر ما ابتليت به في تاريخها. ولا نستطيع أن نسبق الحوادث، أو نحكم على المستقبل، فإن في ذلك رجماً بالغيب ورمياً بالمجهول، ولكن الذي لاشك فيه أن هذه الإمبراطورية الواسعة الأطراف تتماسك على المحن وتزداد صلابة على الحوادث؛ وإذا كان في الماضي والحاضر دلالة على الآتي وعنوانٌ على المستقبل، فإن ماضي الإمبراطورية وحاضرها يبشران بمستقبل تعود فيه الأمور إلى قرارها، وترجع الأحوال إلى نصابها

ولم يسبق في تاريخ البشرية الحافل ومعرضها المملوء بالحوادث الجسام والأحداث العظام أن تجمع الملمات والظروف القاسية قرابة خمسمائة ألف ألف (500مليون) من أناس يختلفون في العقيدة، ويختلفون في لغاتهم وألسنتهم، ويختلفون في ألوانهم، فتراهم جميعاً صفاً واحداً وبناء متماسكاً: تؤلف المصالح المشتركة والعواطف المتحدة بينهم

ولقد قامت في التاريخ إمبراطوريات عظيمة: كالإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية المصرية القديمة، والإمبراطورية الإسلامية؛ ولكنها جميعاً انتابها ما ينتاب الكائنات: فطويت أخبارها وضاعت مقومات وجودها، ولم يبق إلا ذكر يتردد في أسفار التاريخ

ولكل إمبراطورية بناءون اشتركوا في بنائها ووضعوا فيها اللبنة فوق اللبنة، والحجر فوق الحجر، حتى ارتفع البناء واستطال في الجو؛ وبعض هؤلاء البناءين مشهورون معروفون تردد الألسنة ذكرهم، وتقترن أعلامهم دائماً باسم الإمبراطورية التي أقاموا بناءها ورفعوا لواءها؛ وبعض هؤلاء البناءين منسيون مغمورون لا يهتف باسمهم لسان ولا يتردد ذكرهم على فم، على حين تبقى أعمالهم خالدة دائمة، لا تنتسب إلى صانع ولا تنتمي إلى مؤسس وهؤلاء المنسيون في كل أمة، وفي كل واد، وفي كل ناحية من نواحي الحياة. ففي بنائي الأمم منسيون، وفي العلماء مغمورون وفي الشعراء والأدباء مطويون مقبورون

وليس من الحق أن يطول الأمد على نسيان هؤلاء الناس، وليس من العدل أن تظل أسماؤهم مكتوبة وحياتهم غامضة؛ وليس مما يشرف الإنسانية أن الجور يجري على

ص: 33

أحكامها، وأن المحاباة تدخل في تقديرها وحسابها، فهي اعدل من تُطلب عنده النصفة ويلتمس منه التقدير

وفي تاريخ الأمة الإسلامية كثير من أمثال هذا النسيان، كما في تاريخ غيرها من الأمم. فليس من العدل أن يذكر اسم (الحجاج بن يوسف الثقفي) في توطيد الملك لبني أمية وينسى عشرات غيره ممن لا يقلون عنه يداً في دعائم التثبيت. وليس من الحق أن يذكر أبو مسلم الخرساني في الدعوة للدولة العباسية وينسى غيره ممن ساعدوا في بناء هذا الملك الذي يقول فيه الشاعر العباسي:

أصبح الملك ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس

نعم إن في بناء الممالك وقيام الإمبراطوريات عوامل أخرى تقوم بجانب العوامل الشخصية؛ وإذا كانت هذه العوامل الأخرى تذكر في معرض البحث ومجال الدرس ويلقى عليها ضوء يكشف عن دجاها، فإن العوامل الشخصية أحق بأن تذكر جميعاً، وألا يطوي النسيان واحداً أو اثنين أو جماعة منها

والذي يتتبع تاريخ الإمبراطورية البريطانية يجد فيها أسماء كثيرة يعرفها كل شخص، ويرددها كل لسان، يلقنها الطفل في مهده، ويقرأ عنها في دراسته الأولى، ويستزيد البحث عنها كلما كبرت سنه، وكثر ميله إلى المعرفة، وزاد شوقه إلى الاطلاع

فهناك (رودس) وأعماله الخالدة في جنوب أفريقية، وهناك (كوك) الملاح المستكشف الرحالة الذي راح ضحية مغامراته العظيمة فقتل بأيدي جماعة من سكان جزائر ساندويتش الوطنيين، وهناك (وولف) القائد العظيم الذي وطد للإمبراطورية في كندا وظهر في حصار (لويسبرج) واحتلال (كوبيك) في مفتتح القرن الثامن عشر؛ وهناك (نلسون) أمير البحر العظيم الذي جرح جرحاً بليغاً في معركة الطرف الأغر ضد الفرنسيين فلم يمنعه ذلك أن يقوم بواجبه وهو في ساعة النزع الأخير، وقد حشرجة نفسه وضاق بها الصدر

وهناك (دريك)(وكلايف) الذي مكّن لإنجلترا في بلاد الهند الواسعة وجعلها ملكاً للتاج البريطاني. وهناك عشرات غير هؤلاء يعرف الناس من أنبائهم الكثير

ولكن من سمع في تاريخ الإمبراطورية البريطانية عن (كلسي)؟ ومن حفظ اسم السير (جون ريتشاردز)؟ ومن خطر على باله أن يذكر في معرض الحديث عن القارة المجهولة

ص: 34

الأفريقية اسم (موفات)؟

هذه أسماء ثلاثة لا أظن أن قارئاً سمع بها أو عرف نبأ عنها. فهي مطوية في تاريخ الإمبراطورية مسدول عليها ستار كثيف من النسيان؛ إلى أن تناولها الكاتب الإنجليزي الكبير (آدام بوزويل) في إحدى المجلات الإنجليزية من شهور قريبة، وعرف كيف يقدمها إلى قرائه في إنصاف بعيد عن التهويل والتهليل، وتجنب أن يضفي عليها ثوباً فياضاً من المبالغة والخيال. أما (كلسي فقد نشأ وضيع المنشأ، فقير الأهل صرعه الجوع يوماً فسقط مغشياً عليه، فالتقطه أحد الموظفين بشركة (هادسون باي) وحمله معه على إحدى البواخر حتى بلغا (فورت نلسون)، وهو بناء خرب متصدع الأركان يحيط به فضاء موحش، وهناك قام عمل الفراء على يد هذه الشركة

وكان (كلسي) غلاماً شقياً لا يطيع أمراً، ولا يحترم إرادة، فحمل إلى الحاكم فأمر بجلده. وتقلبت عليه سنون سود اختلط فيها بالهنود في كندا وعاش عيشتهم، وأخذ أخذهم، إلى أن حان له وقت البناء لمجد بلاده فألّب الهنود على الفرنسيين في كندا، وكان الهنود يحبونه ولا يعصون له أمراً؛ فانهالوا على الفرنسيين من كل جانب وأخرجوهم، ومكنوا للإنجليز في السلطان

وكانت القبائل تدخل في طاعته، وتنقاد إلى زمرته بدافع من المحبة له، وهو أول إنجليزي كشف شمال كندا الغربي وأضافه برمته إلى أملاك الإمبراطورية

أما (جون ريتشاردز) فكان ابن فلاح من غمار الناس لا من خواصهم. دخل في الجيش جندياً صغيراً جداً لا يؤبه له ولا يعتد به، ثم أصبح في زمن يسير قائداً عاماً

وفي أوائل القرن الثامن عشر كان مؤمراً على كتيبة من الجند في مدينة (أليكانت) ببلاد أسبانيا. وقد كان حظ إنجلترا أن تقاتل ضد فرنسا في ذلك الحين. ولكن شجاعة (ريتشاردز) وروحه المعنوية القوية سرت إلى ضباطه الصغار وجنوده، فقابلوا خطراً محققاً من لغم وضعه الفرنسيين لهم، ولم يحيدوا عن أماكنهم؛ أو يتزحزحوا عن مواقفهم؛ إطاعة لأمر قائدهم. وانفجر اللغم فمات منهم عدد كثير. ومات القائد في طليعة ذلك العدد

ولكن موتهم كانت حياة لمن بقى بعدهم. فقد ثبت الباقون منهم أمام أعدائهم، ولم يلقوا سلاحاً أو يرموا عدة من عدد الحرب حتى جاءهم عدد كبير تحت قيادة أمير البحر الإنجليزي

ص: 35

(بنجز) الذي اضطر الفرنسيين إلى الفرار وتولية الأدبار

وبهذه الشجاعة الأدبية الفائقة، والتضحية الحق التي بذلها (ريتشاردز) استطاع عشرات من الجنود الإنجليز أن يعوّقوا عشرة آلاف جندي من الفرنسيين عن القتال، وأن يؤخروهم حتى يجئ المدد ويتم النصر، ويقضي على محاولة فرنسا لتستولي على أملاك الإمبراطورية البريطانية

أما (موفات) فلم يسمع به أحد إلا القليل ممن يقرءون تاريخ الكشف الأفريقي، وأين منه مثلاً الاسم الواسع العريض الذي يتمتع به ليفنجستون؟ والحق أن هذا الأخير قد قرر فيما قرره أن أعماله في أفريقية كادت تكون عملاً مستحيلاً لولا أن (موفات) ذلل له السبيل، ومهد له الطريق

كان (موفات) من أسرة وضيعة الحال، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يكون أحد البناءين المنسيين في الإمبراطورية البريطانية. والحق أن بناء الأمم لا يحتاج إلى شخصيات من ذوي الحسب وأصحاب النسب؛ بل كثيراً ما تكون الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، والتضحية الفائقة هي العوامل الفعالة في رفع البناء.

وإذا تجردنا من الهوى نجد أن أعظم الدكتاتورين المعاصرين هم من أسر رقيقة الحال، ومن طبقات لم تبلغ مكان السيادة، ولا محل القيادة.

وكذلك كان (موفات). فقد ظل يعمل في أفريقية مدة خمسين عاماً بين زنوج أفريقية. وكان أمة وحده في نشر الدعوة للإمبراطورية في وقت لم تشهد القارة السوداء فيه وجهاً واحداً من ذوي البشرة البيضاء، والعيون الزرق.

ولقد أحبه الرحالة العظيم لفنجستون، ووثق به واطمأن إليه وتزوج ابنته. وكان (موفات) في البعثة التي ذهبت إلى أفريقيا بعد عيشة خمسين عاماً فيها ليبحث عن حميه التائه في مجاهل القارة المظلمة

(مترجمة عن انجلش ديجست)

محمد عبد الغني حسن

ص: 36

‌كلمة أخيرة

التقليد في الفنون أو نسخ (الكربون)

للأستاذ سيد قطب

التعبير الفني في كل صورة من صوره - أدباً كان أم تصويراً أم نحتاً أم غناء أم موسيقى - هو انبعاث ذاتي، وفيض نفسي، وانفعال شخصي، يتميز فيه كل فنان عن كل فنان

والله الذي جعل بصمات الأصابع مختلفة في كل إنسان - وهي خاصة جسمية - جعل الشعور الإنساني والطبائع البشرية أشد اختلافاً وأكثر تفاوتاً، لأن الملامح النفسية أجدر بالتفاوت والاختلاف من الملامح الجسمية في بني الإنسان

وتفاوت الطبائع الفنية هو المبرر لظهور الفنان بعد الفنان، حتى يكون للحياة من هذه الطبائع معرض حافل بصورها المختلفة، ذلك أن الفن صورة الحياة في نفس فنان، وحين تختلف الصور وتتعدد، يحفل المعرض الخالد بالصور العجيبة

وحين ينعدم هذا التفاوت والتميز المطلوبان في الفنان، ينعدم المبرر الأول لظهوره على مسرح الفنون، ويفقد حجته في تمثيل دوره في الحياة التي لا تحفل بالنسخ المكرورة المعادة، ولا تبالي سوى الجديد المتميز تكثّر به نتاجها الممتاز، وتزيد في معرضها العجيب

تلك بديهيات مقررة، ولكننا هنا في مصر تحتاج أن نبدأ فيها ونعيد وأن نشرحها ونضرب الأمثلة لها، ولو نقلت هذه الشروح والأمثلة إلى أية لغة لكانت عجباً هناك بين القارئين، ودليلاً أي دليل على مبلغ تأخرنا في فهم وظيفة الفنون، بينما نحن في مصر لا نزال في حاجة إلى المزيد!

وقد كان معيباً أن يقلد شاعر شاعراً، وموسيقى موسيقياً، ومطرب مطرباً، في طريقة إحساسه أو طريقة أدائه، ولو كان هذا التقليد غير مقصود، لأنه يعارض غرض الحياة الأول من إظهار فنان بعد فنان، ويعطل وظيفة الفن الأولى من إبراز النماذج والأنماط

وظل هذا التقليد المستتر العارض معيباً، حتى فوجئنا أخيراً ببدعة فاقت كل ما يخطر على البال من جراء المسخ الذي أصاب الغناء المصري، تلك هي ظهور مطرب أو أكثر يقول علماً: إنه يغني على طريقة مطرب آخر، ويذيع فعلاً، فإذا هو صورة أخرى من أستاذه أو نسخة من نسخ (الكربون)!

ص: 37

كنا ننتظر كل مسخ أو تشويه للطبيعة البشرية - ودعك من الطبيعة الفنية الممتازة - إلا أن يصل هذا المسخ إلى رضاء إنسان أن يكون نسخة أخرى من إنسان، ونسخة مشوهة بطبيعة الحال كنسخة (الكربون) بالقياس إلى النسخة الأصلية

ولست أدري ما يبرر وجود النسخة الثانية متى كان في الإمكان الاطلاع على النسخة الأولى. ولست ادري لماذا يكلف إنسان نفسه مشقة الاطلاع على نسختين مكرورتين أو أكثر وفي واحدة غناء عن الأخريات؟

وما أدري أسأل المطرب المقلد أو المطربون المقلدون والمطربات المقلدات أنفسهم هذا السؤال؟ وهل علموا أنهم يلغون وجودهم ويفقدون المبرر الأول لهذا الوجود، أم لم يدر في إخلادهم مثل هذه الأسئلة وهم يندفعون إلى التقليد؟

وبعد فلو عزت الدلائل على المسخ والتشويه الذي بلى به عالم الموسيقى والغناء، ففي هذا التقليد الواضح المكشوف دليل لا ينقض على هذا البلاء، دليل على هؤلاء الذين يتصدون لأرفع وظيفة إنسانية وهم مجردون من المؤهلات البشرية الأولية التي ترتفع بالإنسانية عن التماثل أو التشابه الملحوظين بين حجر وحجر أو زاحفة وزاحفة، قبل أن تتميز الأشكال وتتنوع الأنماط في عالم الطبيعة وعالم الحياة. . .

وهو دليل على أننا لم نكن مبالغين حين نفضنا أيدينا من هؤلاء الناس، ويئسنا من استطاعتهم تغيير أنفسهم وتبديل طبائعهم؛ وحين التفتنا إلى هذه الأمة وحدها نفحص عن نبع مطمور في طبيعتها نرجو أن يتفجر فيكتسح هذه المخلفات

وفي ارتقاب هذه المعجزة نقضي الوقت في تأملات وملاحظات علها تمهد الطريق للنبع المرموق!

يتشقشق العصفور حين تمتلئ حويصلته بالحب والماء، ويحس بالدفْ والراحة، ويأمن المخاوف والأخطار، ويستشعر في قواه فضلة دافقة يناجي بها الأليف، ويطلب لها كفئاً من الأنيس

ويغني الإنسان - على مثال ما تشقشق الطير - حين يجد في نفسه فيضاً من شعور، وفضلة من طاقة، ويحس براحة التعبير، ولذة في التنفيس. يستوي أن تكون هذه الطاقة من لذة أو ألم

ص: 38

وأن يكون ذلك الشعور من نعمة أو بلاء، والألم في هذه الحالة دليل قوة كاللذة سواء، ومبعثه امتلاء النفس بعاطفة ملحة، لإفراغها من الطاقة الدافعة

ولن يكون الغناء في أية حالة من الحالات دليل ضعف وانحسار في الوجدان، ولن ينبعث حين ينطوي المرء على نفسه وتفرغ الطاقة الدافعة في شعوره، فهذه الحالة حين توجد تبعث على الصمت لا على التعبير، وتنزع إلى الانزواء لا إلى الظهور

فالذين يغنون فينضح الضعف في أغانيهم، ويسيل التخاذل في نبراتهم، والتهالك في ألحانهم، هم جماعة من الممثلين الزائفين لا يليق بأمة أن تطمئن إلى قيامهم بأرفع وظائفها وهو التعبير الفني والقيادة الروحية والتطلع إلى الكمال

والحب المظلوم مع المؤلفين والملحنين والمطربين، هو الآخر دليل فيض في القوة لا دليل انحسار. فلن يحب المحب وهو مضعوف هزيل، ولن يبحث عن الحب إلا حين تفيض قواه، ويطلب لهذا الفيض إنساناً آخر يعاطفه ويكافئه؛ حتى الحيوان - لا يحب! - إلا حين تصح بنيته وتفيض غريزته فيطلب الأنثى، ويجهر بالحب على طريقة الحيوان!

وقد يبعث الحب الألم في بعض الأحيان، ولكنه لن يبعث الضعف في حالة من حالاته، ولا التميع في صورة من صوره؛ إلا أن يكون هذا الحب (السوقي) المصطنع الذي يفيض به الغناء في هذه الأيام

إن حرقات الحب في حرمانه غريزة قوية كلذائذه في متاعه، وما كل هذه التكسرات و (المياعات) إلا دنس يلطخ وجه هذا الحب العزيز الكريم، ويشوه جبينه الطاهر النبيل، وما هو إلا مسخ للطبائع وتحريف للغرائز، أوقح ما فيه أنه يتزيا بزي الفنون

ومن المؤلم ألا يكون الغناء وحده هو الذي يقارف هذه الجريمة، بل يشاركه الشعر فيها؛ فإذا الحب بكاء ودموع ولا شيء غير البكاء والدموع. ولن يصاب الحب بالمسخ فوق هذا المصاب، ولن يبلي هذا البلاء إلا حين تشيخ الأمم ويصيبها الانحلال. ومن هنا نحن نشتد في مقاومته خيفة أن يصدق نذيرة في شعب يهم بالنهوض!

إن للحب ألواناً وأنماطاً، وإن له صعوداً وهبوطاً، وإقبالاً وأدباراً، ولذة وألماً، وفيه رجاء وقنوط، ويقين وشكوك، وجموح وانحسار، وقلق واطمئنان؛ وهو في كل حالة من حالاته يثير أحاسيس ويلهم تعبيرات؛ فأين هذا الغنى كله من ذلك الفقر المدقع في عواطف الشعر

ص: 39

والغناء، ومن ذلك الثوب الواحد الذي يرتديانه في كل حال؟

ووراء الحب عوالم أخرى من مباهج الحياة، ومجالي الأطياف والظلال، ومعارض الصور والأشكال، في الطبيعة والكون؛ فأين هذا كله في الموسيقى والغناء؟

أيتها الأمة: إن هؤلاء الذين يهتفون لك بأحط غرائزك، ويتملقون فيك أردأ أحاسيسكن ويخاطبون عندك أسوأ وجداناتك، هم جماعة من التجار المهرجين، يختلسون إعجابك، وينهبون نقودك، ويجزونك على هذا بنشر أسباب الانحلال، وبث عوامل التفكك. وغريزة الدفاع عن النفس في أبسط صورها كفيلة أن تنبهك أيتها الأمة إلى الذود عن نفسك، وإلى نبذ كل من يخاطبك بغير ما تخاطب به الأمم الناهضة والشعوب الكريمة

وإلى اللقاء - أيتها الأمة - حين تقع المعجزة فينهض فيك فنان في عالم الموسيقى والغناء

سيد قطب

ص: 40

‌من وراء المنظار

المتعاظم الصغير أيضا

أحب من أعرف من القراء هذا المتعاظم الصغير وما منهم إلا من يراه فيما قرأ عذب الروح خفيف الظل، يرق كثافة ويلطف روحاً، حتى لتكاد ألا تراه إذا وقعت عليه العيون

جلست ذات يوم مع كبير من أصحاب الديوان، جئته زائراً فحسب، فراح - ولعله ظن أني جئته لأمر - يشكو إليَّ من كثرة من يجيئونه من طالبي الوظائف لأٌقاربهم والمحسوبين عليهم من الناس، وقال وهو يبتسم ابتسامة ساخرة: والعجب أنه كثيراً ما يطلب إليَّ ذلك من لا أكاد أعرف أشخاصهم، فمن هؤلاء من يرى أن مجرد رؤيته إياي مرة في أية مناسبة، كفيل بأن يجعل له حق الوساطة لدي!

وما كاد يتم صاحب الديوان عبارته، حتى ناوله حاجبه بطاقة فنظر فيها نظرة المتسائل وقطب، ثم ابتسم مثل ابتسامته السالفة وقال لحاجبه في شيء من الضجر: أدخله. . .

وفتح الباب، ونظرت، فإذا المتعاظم الصغير يقبل متهللاً فيسلم على صاحب الديوان سلام الصديق على صديقه، وبعد أن سأله كيف حاله وكيف حال أنجاله، وأعاد ذلك مرة ومرة، دنا منه وكلمه كلاماً لم أسمعه، وإنما رأيت في معارف وجهه التوسل والاستعطاف الشديدين؛ وأنصت صاحب الديوان وعلى وجهه إمارات من يكظم غيظه ومن يعاني من ذلك ضيقاً شديداً، ثم نفس عن نفسه بقوله:(يا سيدي الأستاذ هذا ضد القانون) ولكن الأستاذ راح يتوسل من جديد في ابتسامات قردية السمت، وحركات من لَيَّ العنق وإدارة الوجه: مرة إلى اليمين ومرة إلى الشمال، أشبه بما يفعل معك أحد الشحاذين إذا ابتليت به فقطع عليك طريقك

وما فرغ الأستاذ من مسكنته هذه إلا بعد أن راح صاحب الديوان يكرر - وكأنه يصرخ - قوله: (آسف يا سيدي. . . يا سيدي قلت لك آسف. . . لا تؤاخذني. . . آسف. . . آسف)

وبلغ المتعاظم الصغير منتهى عذوبة روحه وخفة ظله، فراح يلقي في روع صاحب الديوان أنه يعرف فلاناً وفلاناً، وأنه له عند (سعادة الوكيل) مكانة خاصة، وأن من أصدقائه كيت وكيت من العظماء والكبراء، وأنه ما جاء يرجو (سعادة البك) إلا لما عرف من كرمه وبره، ثم سأله ليغطي خجله أو ليحفظ على نفسه تعاظمها وقد يئس من التوسل، أيجيب

ص: 41

طلبه إذا ظفر بموافقة سعادة الوكيل عليه؟

وإذ ذاك نهض صاحب الديوان فمد إليه يده يسلم عليه أو يصرفه على الأصح وهو يقول مبتسماً: (يا أخي إن من يعرف هؤلاء لا حاجة به إلى أمثالنا). . . ولم يجد التعاظم بداً من الخروج؛ ونظرت إليه وهو يهز اليد التي امتدت متراخية إليه هزاً قويَّاً حماسياً، فلم أر في وجهه شيئاً من خجل أو اضطراب!. . .

ونظر إلى صاحب الديوان وهو يتنفس الصعداء الطويلة قائلاً وقد رأى في وجهي الاستفهام: (تا لله يا أخي ما أذكر أني رأيته من قبل ولم أعرف اسمه ولا وظيفته إلا من بطاقته)!

وانصرفت من لدن صاحب الديوان فمررت بذلك المتعاظم وقد وقف في ردهة من ردهات الديوان يحيط به بعض الريفيين وسمعته يقول لأحدهم: (خلاص يا مصطفى مسألتك انتهت وستعين قريباً. . . أما أنت يا حسن فأنا ذاهب إلى سعادة الوكيل من أجلك الآن. . . وأنت يا عليّ فكرني بكرة. . . فين عبد السميع؟ موضوعك ينتهي قريباً إن شاء الله، اطمئن. . .)

ومضى المتعاظم الصغير مرفوع الرأس شامخ الأنف يسراه في جيب سرواله ويمناه يلوح بها مسلما على من يعرف ومن لا يعرف ممن يمر بهم من صغار أصحاب الديوان وكثيراً ما كان يكتفي بإيماءة من رأسه العالي أو ابتسامة من ابتساماته العذبة وإن لم يفطن إليه بعض من كان يجود عليهم بهذه التحيات أو كان يحسبها بعضهم موجهة إلى غيرهم لأنهم يجهلون صاحبها، وفي نفسه أنه علم يشار إليه أينما سار؛ وكان كما زعم متجهاً للقاء سعادة الوكيل وإن كنت لأعلم حق العلم أنه لا يعرف عن سعادة الوكيل إلا اسمه وموضع حجرته من حجرات الديوان

الخفيف

ص: 42

‌البريد الأدبي

خصومة لا عداوة

رأى جماعة من كبار المفتشين وهم الأساتذة جاد المولى بك ومحمد علي مصطفى ومحمود محمد حمزة ومصطفى أمين وأحمد علي عباس، رأى هؤلاء الأكابر بأخلاقهم وآدابهم أن أقف الجدال الذي أثَرتُه في وجه الأستاذ السباعي بيومي، وحجتهم أنه وصل إلى درجات من العنف تؤذي كرامة المشتغلين بخدمة اللغة العربية

وأنا أجيب هذه الدعوة، لأنها أول دعوة كريمة صدرتْ لكفّ الشر بيني وبين من أخاصمهم بقلمي لا بقلبي، فلم أسمع مثل هذا الصوت يوم خاصمتُ رجالاً أعزّاء لم يكن يسرني أن يفصم القلم ما بيني وبينهم من عهود

وإنصافاً لنفسي أقول: إني كتبت ما كتبت وأنا أبتسم. فأنا قد أُخاصم، ولكني لا أعادي. فما استطاعت الدنيا بأحداثها الفواتك أن تضيفني إلى أرباب الضغائن والحقود، وإلا فما هي البواعث التي تفرض أن أخص الأستاذ السباعي بالعداء وهو صديق قديم؟

أنا أُتهم بالقسوة والعنف بغير حق، فما كان من همي في كل ما أثرت من المجادلات إلا إيقاظ الروح الأدبي واللغوي. أما إيذاء الأدباء والباحثين فهو معنى لا يمر بخاطري، لأني أرجو دائماً أن يكون الهدم على عنفه من صور البناء

كان سبب الخلاف هو تبرئة الشيخ المرصفي من تهمة الغرور فما يكون الرجل مغروراً إلا حين يدعي ما لا يملك، والمرصفي من أقران المبرد، وجهد المرصفي في شرح الكامل قد يكون أعظم من جهد المبرد في تأليف الكامل، وستُعرف هذه الحقيقة يوم يقام في هذه البلاد موازين صحيحة لأقدار المفكرين في القديم والحديث. . .

أنا أديت واجبي في صيانة سمعة الشيخ المرصفي، فماذا صنع تلاميذ هذا الإمام الجليل، وفيهم أحمد حسن الزيات، ومحمود حسن زناتي، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين؟

ولكن كيف يصنع أولئك الأساتذة في البر بذلك الإمام الجليل. . .؟

أنا أدعوهم إلى تأليف لجنة أدبية يكون عملها إنقاذ مؤلفات الشيخ المرصفي من الضياع. وأخص بالعناية شرح المرصفي على (أمالي القالي) فقد أخذ من وقت شيخنا العظيم سبع سنين، وهو لا يقل عظمة عن شرح الكامل، وقد يفوقه في أشياء

ص: 43

منذ نحو ثلاث وعشرين سنة وقف الخطباء والشعراء في المدرَّج الذي أنشأه الوزير علي مبارك باشا في ديوان المعارف بدرب الجماميز، وقفوا يرثون الشيخ حمزة فتح الله، وكان فيهم محمد الهراوي وعلي الجارم ومحمد الخضري، ثم وقف خطيب خُتمت خطبته بالدمع، فمن هو ذلك الخطيب؟

هو الأستاذ الشيخ محمد المهدي بك، أول أستاذ تلقيت عليه دروس الأدب بالجامعة المصرية؛ فقد كان في خطبته أن جماعة من المستشرقين أرادوا أن يشتروا مخطوطات الشيخ حمزة فتح الله وأنه أجاب: هذه المخطوطات ملكٌ لوطني!

وقد بكى الشيخ المهدي فأبكاني حين فاه بهذا التصريح النبيل

وأنا من جانبي أذكر أن الشيخ المرصفي كان يصلي العصر بالأزهر منذ نحو عشرين سنة وبجانبه رجل يترصدّه من جماعة الناشرين؛ فلما انتهى الشيخ من صلاته أقبل الناشر يقول: أرجو فضيلة الشيخ أن يبيعنا حق النشر لشرحه على الأمالي. فصرخ الشيخ: هذا شرح لا يشتريه إلا ملك!

وكان ذلك آخر العهد بشرح المرصفي على الأمالي، ومصرُ لا تخلو من عقوق إلا أن يتفضل أستاذنا الشيخ محمد مصطفى المراغي فيشتري هذا الشرح من الورثة قبل أن يضيع كما ضاعتْ مئات وألوف من آثار أصحاب الفضل بهذه البلاد

إن نفعتْ هذه الفرصة بعض النفع في إنقاذ بعض مؤلفات الشيخ المرصفي فسيكون من حقي نحو ضميري أن أتناسى الإيذاء الذي صوَّبته إلى الأستاذ السباعي بيومي، وإلا فسأذكر أني أهنت رجلاً وادعاً بلا نفع ولا غناء، فما آثرت ميدان النقد الأدبي إلا لغرض نبيل هو إيقاظ الغوافي من العواطف والقلوب

المهم هو الظفرٍ محقق لخدمة اللغة العربية، فأين من يستمعون هذا الصوت فينقذون مؤلفات الشيخ المرصفي من الضياع؟ وأين من يذكرون أن الشيخ المرصفي كان أول رجل أقام دولة للأدب واللغة في مطلع العصر الحديث؟

أما العبارات التي آذيتُ بها الأستاذ السباعي بيومي والتي استوجبتْ أن يتوسط بيني وبينه أولئك الأكابر من المفتشين، وهم لي وله إخوان، فأنا أراها عبارات هينة رقيقة، على شرط أن تنبه الغافلين من تلاميذ المرصفي العظيم، وإلا فهي إثمٌ اجترحتُه في بلاد لا تعرف

ص: 44

حقوق الرجال.

زكي مبارك

تصويبات

حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)

1 -

قرأت في العدد 397 من الرسالة الغراء كلمة للدكتور زكي مبارك، توجيهاً لغلطة في ضم الظاء من كلمة (الظرف). فقد قال:(أنا أقول إن الظرف قد أخذ حكم اللطف من طريق الإتباع، ثم بقى له الحكم مع الانفراد. . . والمصريون عرب، وهم لا يخطئون في لغتهم عن جهل، وإنما (يخطئون) لأسرار قد تخفي على بعض القراء، فنتوهمهم مخطئين وهم على صواب) الخ ما قال

ومعنى هذا كله أن الدكتور قد أخطأ، فشقّ عليه أن يعترف بالخطأ، فراح يتلمس أمثال هذه العلل. نحن لا ننكر أن جمهرة المصريين من أصل عربي، وأن لغتهم تتكون من لهجات القبائل العربية التي نزحت إلى مصر، وأنها تشتمل على كثير جداً من الفصيح، وعلى كثير جداً مما يحتاج إلى يسير من التهذيب والصقل حتى يعود صحيحاً. ولكنا ننكر أشد الإنكار أنهم لا يخطئون في لغتهم، بل الخطأ والتشويه فاشيان في صميمها. وما ظنك بأمة خالطت الأعجام من كل جنس قروناً وأحقاباً طوالاً. ولخطر المخالطة والامتزاج جَدّ السلف من اللغويين في ضبط اللغة ووضع قواعدها وجمع مفرداتها من أفواه العرب الخلّص، حفاظاً عليها من أن تتسرب إليها العجمة والتشويه. أفبعد كل هذه المخالطة والامتزاج نجرُؤ أن نحتج بكلام المصريين وضبط للألفاظ؟

ألا إن هذا المذهب إغراء صريح للشباب بالاستهانة بالبحث وأخذ اللغة من مصادرها الصحيحة

وقد اذكرني هذا أني رأيت في الرسالة منذ قريب كلمة لفاضل نبّه فيها الدكتور على أنه من غير الصواب أن يقول: (أمكن له) لأن الفعل متعد بذاته، ولكن الدكتور لم يجبه. وبينما كنت أتصفح للدكتور من بعد ذلك مقالاً في (الرسالة)، وجدته يُؤْثر الخطأ نفسه، حتى لا يقال - فيما أظن - إنه اعترف بأنه أخطأ. وقد يجيب الدكتور عن هذا بأن المصريين

ص: 45

يقولون: (أمكن له) فهو صحيح!

2 -

نشب حوار في (الرسالة) بين الدكتور زكي مبارك والأستاذ إسماعيل مظهر حول معنى (الجيل). فأنكر إسماعيل مظهر المعنى المُتعالَم للجيل، وهو أهل الزمن الواحد. وقال إن الكلمة التي تؤدي هذا المعنى هي (الأهل)، وساق نصاً من الأغاني يؤيد رأيه وقال - مستنداً إلى ما اطلع عليه من المعجمات - إن الجيل هو الصنف من الناس، فالمصريون جيل، والترك جيل. . . الخ، وأصر الدكتور زكي مبارك على أن المعنى المتعالم يُقصد أيضاً من (الجيل)، ووعد بمواصلة البحث حتى يأتي بالدليل. ولكنه لم يأت به بعد

وإني أدله على دليل: ففي (المصباح المنير) في مادة (ق ر ن) ما يأتي: (والقرن الجيل من الناس. قيل ثمانون سنة. وقيل سبعون) فأنت ترى أن للجيل معنيين قد نُص عليهما

أما (الأهل) التي بها الأستاذ مظهر من الأغاني فيظهر أنها قد تنوسيت لذلك المعنى. فأهمل استعمالها

3 -

قرأت في مجلة (الثقافة) كلمة تحت عنوان: (مفاتح جمع مفتح لا مفتاح) قال فيها الكاتب بعد كلام: (والواقع أنه (أي مفتاح) جمع مفتح بالكسر. وهو الآلة التي يفتح بها. أو جمع مفتح بفتح الميم. وهو المكان لا جمع مفتاح. . . الخ. ولو كلف الكاتب نفسه المراجعة لما قال هذا القول. ففي المختار: (والمفتاح مفتاح الباب. وكل مستغلق. والجمع مفاتيح ومفاتح أيضاً). وفي هذا كفاية. ولا ضرورة لهذه الفلسفة الصرفية التي لجأ إليها الأستاذ الكاتب

ا. ع

صواب بيت

في عدد مضى من الرسالة، كتب الأستاذ الباحث (عبد المتعال الصعيدي) كلمة قصيرة، بعنوان خطأ بيت في النحو، اتهم فيها علماء النحو - جميعاً - من يوم أن كان هذا الفن بالبصرة والكوفة إلى أن باض وأفرخ في صحن الأزهر الشريف، ونسب إليهم من السهو والغفلة الكثير الجم، إذ أجمعت مؤلفاتهم وأفكارهم على أن (أو) في البيت:

لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى

فما انقادت الآمال إلا لصابر

ص: 46

بمعنى (حتى) التي هي للتعليل أو الغاية وقد هداه بحثه إلى أن هذا المعنى الذي جاءت له (أو) لم يكن واحداً مما استقصاه ابن مالك في قوله:

خيْر أبح (يأو) وأبْهِم

واشك وإضراب بها - أيضاً - نمى

وربما عاقبت الواو إذا

لم يلف ذو النطق للبس منفذا

والذي يقرأ الكلمة لأول وهلة، يخيل إليه أن الأستاذ هدم ما بنى البانون، وقوض ما شيد المشيدون في حين أن المسألة - كما يقولون - ليست مما يقال في أمثالها (قضية ولا أبا حسن لها) فإن هذا الذي يقوله ابن مالك، خاص (بأو) التي تتمخض للعطف. . . أما هذه فإنها تكون بمعنى (إلى) إذا كان ما قبلها مما ينقضي شيئاً فشيئاً كالبيت المذكور. . . وتكون بمعنى (إلا) إذا كان مما ينقضي دفعة واحدة. . . كقول زياد الأعجم:

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

وتكون بمعنى (لام التعليل) كما يقول القائل: لأعطين الفقير أو يرق لي قلبه. . . على أننا لو رحنا نتلمس (لأو) في كل هذه الأمثلة معنى حرف من الحروف التي جمعها صاحب (الألفية) في بيته - خير أبح إلخ - لما ضاقت علينا السبيل

وهل المعنى في البيت (لأستسهلن الصعب) سوى (ليكونن مني استسهال الصعب وإدراك المنى). . . وهكذا دواليك. . . وقد كان مما يؤثر عن علمائنا، أن نكت النحو - كالورد - تشم ولا تدعك.

إبراهيم علي أبو الخشب

ص: 47

‌القصص

مازبا. . .

للأستاذ محمد محمد مصطفى

(ليست قصة الصبي البولوني (مازبا) من نسج الخيال. فلا

تزال حوادثها مصورة على جدران كنيسة (سانت ماري) في

مدينة (جالاتز) برومانيا).

قالت الأميرة (أوجستا) لخادمها وهي تحاوره:

- إني لأعجب من أمر الصبي القائم بباب قصري لا يبرح مكانه منه إلا ليطوف طرفه بنوافذ غرفتي، فإن عرضت لي حاجة خارج القصر علق بي نظره ما يرتد إلا إذا غبت في حشد الطريق.

فقال الخادم: إنه مازبا يا مولاتي

- ومن يكون مازبا؟

- هو شريد غريب الأطوار طالما رقت له قلوب الناس ولكنه يمتنع عن أن يناله أحد بعطف أو إحسان إلا أجراً لخدمة يؤديها

- وما مقامه ببابي؟

وأرتج على الخادم ولوى شدقيه بكلمات لم تدرك منها الأميرة شيئاً. وكانت لحظة هائلة على الخادم المسكين، أيكذب على سيدته وما كذب في حياته قط. . . أم يقول الحق. . . وياله من حق. . .

أيقول لها إن هذا الشريد هائم بك قد تناهى كل جمال في دنياه إلى صورتك لا يقوم إلا بها، ولا يغمض عينيه إلا عليها؟ أيقول لها: إن قلبه لا يفتر عن الوجيب كلما خطرت أمامه خارجة من القصر أو عائده إليه؟ أيقول لها إنها سافرت إلى الريف أياماً قضاها البائس بين سعير وجده ولهيب حبه؟ أيقول لها إن المدينة كلها تتندر بغرامه وشغفه؟

وقال الخادم أخيراً:

- سليه يا مولاتي فهو أقدر مني على الجواب الصحيح

ص: 48

وخيل لمازبا أن الدهر قد مالأه وأن كل شيء في الوجود يبسم له حين دعاه الخادم للمثول بين يدي الأميرة، وكان يذرع الأبهاء لا تأخذ عينه تحفة، ولا يستوقف نظره أثاث. . . كان كل شيء يبدو في عينيه طبيعياً كأن له به عهداً. ولما أشار الخادم إلى غرفة الأميرة شحب لون الصبي قليلاً ولكنه واصل السير، وقالت له الأميرة: أخلت رقعة الأرض من مكان يأويك فجئت تصوِّب إليَّ في كل حين نظرة المتحين للشر؟

- شر. . . إني لا أحب الشر ومع ذاك فأنا. . . ومن أنا حتى أملك للأميرة شراً؟

وسمعت الأميرة ضجة خارج غرفتها فسألت الخادم عنها فقال:

- إنهن أتراب مولاتي أتين للسمر. فقالت: دعهن يدخلن

وحينما دخلن على الأميرة شدهن وفغرن أفواهن وصاحت إحداهن: يا لمعجزة الحب. . . لقد وصل العاشق الشريد إلى مخدع الأميرة. وقالت أخرى:

- بالله لنتركهما يتناجيان فنسمع نجواهما. . . يا للمنظر الفريد والحدث الفذ

وعلت قهقهتن والأميرة تنظر ولا تدرك شيئاً من حديثهن ثم قالت: إنه مازبا يا رفيقات. يبدو أنكن تعرفنه فصحن جميعاً:

- وهل في المدينة من لا يعرفه؟

فقالت الأميرة: لقد كان يرسل إليَّ كلما مررت به نظرة أفاق فأوجست منه شراً. فقلن:

- كيف! ألا تفرقين بين النظرات؟

وأمرت الأميرة خادمها أن يطعمه ويكسوه وأضافت:

- ولكنك يا مازبا ستقيم بعيداً عن القصر فلا تعد إلى مكانك منه مرة أخرى

فقال الصبي بالله يا مولاتي. . . دعيني. . . لا أريد طعاماً ولا رداء، ولا تحولي بيني وبين مكاني فما في الأرض مكان إليّ منه، وما وجودي به بضارك شيئاً

فرقت له نفس الأميرة وقالت: لك ذلك يا مازبا

وحينما هم بالسير قالت إحدى رفيقاتها:

- مسكين! لقد شفه الهوى وأضناه الحب.

- ودهشت الأميرة ونادته ثانية وقالت:

- أسمعت يا مازبا. . . إنهن يقلن إنك عاشق مدنف. . . فمن ترى تلك السعيدة التي سلبتك

ص: 49

قلبك؟

وأخذت أذنا لا مسكين تتجاوب صدى ضحك الفتيات وقد سمر في مكانه لا ينبس ولا يطرف، وطال صمته والفتيات ينظرن إليه ويضحكن. فقالت الأميرة:

- تكلم يا مازبا. . . من هي تلك السعيدة. . . أتكون بائعة الزهور أم بنت بوابة المنزل المواجه لقصرنا؟

فقال الصبي: لا هذه ولا تلك

- فمن تكون إذاً؟

- إنها فتاة كبدر السماء أنظر إليها ولا أطمع في قربها. يغمرها الترف الذي نأت فيه، وتغمرني الأحزان التي ولدت في أحضانها. على أنه إذا كان ذلك بلاء بليت به فما أسعدني بهذا البلاء، وما أكثر جذلي حين أرقب وجهها في الليالي القمراء كأنها ملك هابط، أو كأنما قد فرت من الجنان حوراء

وأدركت الأميرة من كلام الصبي وضحك أترابها وتدله عيناه وخفق قلبه المتدارك أنها معشوقة ذلك الهزأة الشريد فانتفضت كمن مسها الخبل وصفعته صفعة طار لها صوابه، وأمرت الخادم أن يربطه عارياً على ظهر فرس يطلقها إلى غير وجهه في براري الدانوب

وكان وجه مازبا إلى السماء، والفرس تنهب به أرضاً عذراء لم تطأها قدما إنسان، وطوت في الفلاة أياماً، ثم ظهر لعينيها العمران فاتجهت إليه مسرعة كأنما كانت تحس أن حملها لاغب وهنان. ولما اقتربت الفرس من مضرب قبيلة (ساشا) القوقازية اشتد عليها نباح الكلاب. وسرعان ما رفع الخبر إلى زعيم القبيلة (دروفسكي) الذي انطلق يسائل مازبا عن قصته، ولكن الصبي كان لاه عن لغطهم وأسئلتهم بما قدم إليه من حساء وشواء، وكان لا يفتأ يسأل بين الحين عن فرسه وما قدم إليها من علف وماء.

وقال مازبا بعد ما طعم وروى: أشكر لكم أيها السادة هذا الطعام وهذا الكساء وأستودعكم الله. . . إلى اللقاء

فقال زعيم القبيلة: إلى أين يا مازبا؟

- إلى أين؟ حقاً إلى أين؟ عفواً أيها الزعيم فإني لا أعرف إلى أين أذهب. فقال دروفسكي:

- يا بني. إن امرأتي عاقر ولم أعقب ولداً وقد أرسلك الله لي فلا تخفر ظني فيك

ص: 50

- لك ذلك أيها الزعيم على ألا تسألني عن ماضي لأنه قد تصرم وطواه الظلام

وبدت طلائع الفجر ولما يرقأ لعين الأميرة دمع، وطفقت تحدث نفسها: أي ذنب جناه الصبي لأميته على الصورة التي أوحاها لي غضبي ونزقي. الحديث حبه السامي وتدلهه بي. لقد أتيت أمراً إدَّاً. وعاشت الأميرة ساهمة واجمة يروعها طيف الصبي يلاحقها في الغدو والرواح

ولا تقول أن مازبا قد سلاها، ولكنه طرحها في زاوية معتمة من زوايا قلبه، وراح ينسج عليها الزمن خيوط النسيان

وتحجرت عاطفته، فوجه كل حبه إلى وطنه الجديد، وتعلم الفروسية على فرسه وعلمها لشباب قبيلته، وأكسبته فطنته ودرايته ومكانته من زعيم القبيلة مهابة كان يزيدها عزوفه عن النساء وبغضه لهن، وكان الزعيم الكهل يفرك يديه سروراً كلما رأى مازبا جالساً على محفته يحكم بين الناس بالعدل ويصرف الأمور بعزم الشباب وحكمة الشيوخ. وحل موعد جباية الضرائب في عام كان الناس فيه يمترون، فجأرت القبائل بالشكوى قائلين: يا مازبا، كن شفيعاً لدى بطرس الأكبر ليرفعها عنا. إنك بمواردنا عليم

ويأسى مازبا لبني وطنه الجديد ولا يدرك فيم تنفق الأموال التي تأخذ منهم قسراً لتحشر في خزائن بطرسبرج فيتصل بزعماء القبائل يحضهم على العصيان والإبقاء على أموالهم قائلاً في حماسة:

- فليأت هذا البطرس هنا ليأخذ منا ضرائبه عنوة إن شاء. يا شباب القوقاز: أفيقوا من سورة الخمر وسحر النساء، وهبوا لنشعل أوار المعركة لتظفروا بالحرية والمجد

وهكذا نفث مازبا في روح القبائل جمراً من الوطنية يستعر ورغبة جامحة إلى خوض ميدان القتال. وكان بطرس الأكبر داهية أريب، فأقام ليلة عيد الميلاد حفلاً هائلاً دعا إليها الملوك والأمراء من كل قطر ومصر، واستدعى إليه مازبا وأمنه على نفسه ووطنه ووعده بالنظر في رفع ضريبة الدولة على أن يظلل القوقاز تحت حكم الروس

وكان القصر الإمبراطوري شعلة تتوهج بين الدوح السامق والرياض المزهرة؛ وقد نشرت الصحاف مثقلة باللدّ الشهي من ألوان الطعام، وقام وزير الخارجية بتقديم المدعوين إلى بعضهم، فهؤلاء مندوبو فنلندا واستونيا والقابعون على الشراب في البهو الخشبي حكام

ص: 51

سيبيريا والقادمون علينا يا مازبا أمراء وأميرات بولونيا

بولونيا. . . وقبض مازبا على صدره كأن طعنة أصابته: فذعر وزير الخارجية وقال: أبك يا مازبا؟

- لا. . . لا. . . إنه جرح قديم. . . قديم جداً ولا أدري كيف آلمني الساعة

واقتربت أميرات بولونيا، وكأن أبرز ما فيهن جمالاً أوجستا وشخص مازبا إلى وجهها المتلألئ، فانبعث غرام عشرون عاماً من قلبه كبركان ثار بعد طول رقاد. . .

وعرفته أوجستا، فجاءته على استحياء، ومدت إليه يدها، وقد تضرج وجهها وخشع طرفها ونتحت به ناحية، وأخذت تخالسه النظر، وازدحمت الكلمات على شفتيها ثم قالت: كأني بك طفل الأمس يا مازبا، لم تغير معارفك الحدثان

- طفل الأمس. . . إنه مات في براري الدانوب

- وقلبه وحبه؟

- كلاهما معاً. . .

- ولكني أرى بريق عيناك والتمعاهما بتلك المعاني الغامضة

- تلك أوهام. . .

- إنك تجاهد غرامك يا مازبا، ولقد لقيت قصاصي بما سهرته من ليال أذرف الدمع على ما قدمت يداي. فهل أنت مقيل لعثرتي؟

- ما كان لي أن أصفح عنك ولا أرى لك ذنباً

- ألا زلت تحمل لي موجدة؟

- لا. . . ولكني أوصدت قلبي دون النساء، ثم إني على موعد مع القيصر، فأستودعك الله. . .

- مهلاً يا مازبا. . .

ولكنه انسل بين الأضياف، وحينما بعد عنها حدث نفسه:

كادت المرأة تصرعك يا مازبا. . . أيها القلب الخائن، لن أصغي لحديثك المعسول مرة أخرى. . .

لقد عاهدت نفسي على خدمة وطني الذي أطعمني حين حرمتني هذه المرأة، وكساني حين

ص: 52

جردتني، وآواني حين أطلقت بي فرساً تنهب بي البراري. فليكن جل تفكيري فيك ولك أيها الوطن أما أنت يا أوجستا، فسأحاربك في قلبي حتى تموتي فيه

وانطلق في طريقه حتى مثل بين القيصر

وقال القيصر لمازبا: لقد رفع إلينا قرار المالية فلم نجد بداً من استمرار الضرائب، فهل تعدني بشرفك أن تقوم على جبايتها؟

- لقد أقسمت لمواطني أنكم سترفعونها

فقال القيصر لمن حوله: اقبضوا على هذا السيد

وألقى مازبا في حجرة ببرج القصر تحوطه الأحراس، واندلعت الثورة في القوقاز من أقصاها إلى أقصاها، وأرسل بطرس الأكبر حملة لإخمادها فزادت النار اشتعالاً

وكان الليل قد لف الكون بغلالة سوداء، والقصر ساكن حينما اعترض الأميرة أوجستا حارس البرج، فأبرزت له أمر القيصر فتخلى الحارس عن لباب. وكان مازبا يقف هادئاً إلى نافذة البرج كأنما ينتظر أحداً أو كأنه واثق من نجدة القوقاز، وقالت أوجستا:

- تبعث القيصر في كل مكان ولم أبرح مقصورته في الأوبرا حتى وقع على صك العفو عنك، وقد وعدته أن تقسم لي على طاعته فيما آمرك به. فقال:

- لقد سمع القيصر أني لا أقسم على ذلك

- إن وطنك الجديد في حاجة إليك يا مازبا، فقم الساعة وأخمد فتنته، وانج بنفسك فإنك لا تدرك أي حتف ستلقاه إن بقيت هنا ليلة أخرى

- واستقبل مازبا استقبال الفاتحين، وكانت الفتيات ينثرن في طريقه الورود والرياحين، وكان ألمه بادياً لما حل بقومه على يد جنود القيصر. وقابل قائد الحملة وطلب منه أن يرحل فوراً عن أراضي القوقاز، وقال قائد الحملة إنه موفد من قبل القيصر وليس لأحد أن يأمره سواه. فقال مازبا: إذا هي الحرب

وطلب القائد من بطرس الأكبر مدداً سريعاً فأرسل إليه جيوشاً جرارة لم تصمد لها جموع مازبا التي دافعت عن وطنها دفاع الأبطال وأحرقت عاصمة القوزاق وانتقم منهم جنود القيصر أبشع انتقام. وفر مازبا إلى سلطان تركيا عدو القيصر ليجيره ويمده بعتاد يستطيع بها مواصلة القتال ولكن السلطان اعتذر له ونصحه بإلقاء السلاح. وهكذا تخلى الحظ

ص: 53

الباسم عن الزعيم الشريد فصوحت به الأيام من بلد إلى بلد يفلح في الأرض لهذا ويحتطب لذاك

وكنت تراه بوجهه الكابد قابعاً في أسماله ومزقه يصطلي النار التي يضرمها في إحدى الخرائب فلا تصدق إنه ذاك الذي كان يغشي الولائم في أبهة الأمراء

وفي قرية (كييف) عثر حطاب في الغابة على جثته فأمر قسيس القرية بإلقائها في مقبرة المجهولين الغرباء

محمد محمد مصطفى

بإدارة مدرسة البوليس

ص: 54