المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 403 - بتاريخ: 24 - 03 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 403

- بتاريخ: 24 - 03 - 1941

ص: -1

‌دوائر معارفنا الإسلامية

للأستاذ عباس محمود العقاد

أقتُرح على المجمع اللغوي تأليف معجم للألفاظ القرآن الكريم، فذهبت أنظر في المعاجم والموسوعات التي عندنا وعند غيرنا من هذا القبيل، فلم ألبث أن رأيت بعد مقابلة يسيرة أننا في هذا الباب جد فقراء

عند الأوربيين موسوعات مختلفة الأحجام والأغراض لأسفارهم الدينية ومأثوراتهم المقدسة

فللتوراة والإنجيل موسوعات صغيرة تفسر الأسماء والأعلام والوقائع والألفاظ، فلا تذكر في الكتابين اسم رجل أو بلد أو قبيل إلا استطعت أن ترجع إليه في موضعه، فتعرف شيئا عن تاريخه وموقعة ومناسبة ذكره؛ فإذا بك أمام كتاب يكاد أن يفيدك في كل شئ، ولا تنحصر فائدته في فهم التوراة والإنجيل

ولهذين الكتابين موسوعات صغيرة أيضا تتناول الآيات والأجزاء على الترتيب، فتقرن بين بعضها وبعض، وتقابل بين الفرائض المختلفة من قديم وحديث، وتفسر مدلولاتها على حسب العصور والمصادر اللغوية، فتجمع بين معرفة مدلولاتها على حسب العصور والمصادر اللغوية، فتجمع بين معرفة الشريعتين الموسوية والمسيحية، وكل معرفة لها بهاتين الشريعتين اتصال

وعندهم موسوعة للطيور التي ورد ذكرها في التوراة، أو للأشجار والأزهار التي تكلم عنها الأنبياء، فيستفيد منها الباحث في علمي الحيوان والنبات، كما يستفيد منها الباحث في الدين

أما الموسوعات المطولة الشاملة فهي ذخائر من المعلومات لا تند عنها دانية ولا قاسية من موضوعات المسيحية أو الموسوية، وقد يلتبس على القارئ الأمر بين دوائر المعارف العامة التي تتناول كل شئ وكل مادة، وبين دوائر المعارف الدينية التي يظن من عنوانها إنها مخصصة ولو بعض التخصيص لناحية من نواحي الحياة الإنسانية

بل عندهم معاجم صغيرة للإسلام ليس لها نظير في اللغة العربية ولا في لغة من اللغات التي يتكلم بها المسلمون

من ذلك قاموس الإسلام الذي وضعة توماس باترك قبل نيف وخمسين سنة ثم أعيد

ص: 1

طبعة قبل بضع سنوات

فهذا القس قضى في التبشير بين المسلمين والبرهميين والبوذيين ببلاد الهند اكثر من عشرين سنة، ودرس خلال ذاك ما استطاع أن يدرسه من التواريخ والمباحث الإسلامية، ثم جمعها في هذا القاموس أو هذا المعجم كما قال هداية للموظفين الذين يتولون الحكم بين المسلمين، ومساعدة للمبشرين الذين يجادلون علماء الإسلام، وللسائحين الذين يطوفون بلاد المشرق، وللباحثين الذين ينظرون في المقارنة بين الديان، ولكل من يشغله عمله أو نزعة فكره بشأن من شئون المائة والخمسة والسبعين مليونا (هكذا) من الأناسي الذين يتبعون محمدا عليه السلام.

ولكني أقول معترفاً إنني أرجع إلى هذا القاموس حين يستعصي علي الرجوع إلى المطولات الدينية للوقوف العاجل على مسالة من المسائل الإسلامية، سواء تناولت الفقه أو التاريخ أو تقويم البلدان، ولا أرى مناصاً من مراجعة هذا القاموس وأمثاله على عامي بما فيها من الزيغ المقصود ومن التعصب الذي لا تخلو منه كتب المبشرين

ويتفق كثيرا أن يخوض بعض الجلساء في مسألة من مسائل الفقه الإسلامي لا يحضرنا الفقيه الحجة الذي نستفتيه فيها، أو نستدل منه على مراجعها، فما هي إلا لحظات حتى أوافيهم بالفتوى المجملة، أو بالدلالة على مظانها ومواقع استقصائها. ويعجبون فيزداد عجبهم حين أطلعهم على قاموس من هذه القواميس التي ليس اسهل من البحث فيها: كتاب إنكليزي يدلنا أسرع دلاله على مراجعنا نحن المسلمين أبناء العربية. . . فلم لا نعجب ويعجبون؟!

إننا فقراء.

وقد نعلل الفقر في علوم الدنيا بخروجها في الزمن الحديث من أيدينا، فهل خرجت من أيدينا كذلك علوم ديننا؟ وهل البواعث الدينية التي عندنا أقل من أن تحقق لنا ما يحققه الغربيون ببواعث الشوق إلى المعرفة أو بواعث الشوق إلى السيادة؟

الحق أن الشوق إلى معرفة الدين نفسه تحتاج قبل ذلك إلى شوق المعرفة في أعم معانيها، وأن العجز عن العلم والسيادة يورث العجز عن الإيمان والعقيدة، حتى بين المتدينين المعتقدين

ص: 2

وأني لأجيل الفكر في هذا وأشباهه إذا بالمجلد الرابع من (دائرة المعارف الإسلامية) يصل إلى يدي، وهي الدائرة التي ألفها نخبة من المستشرقين بالغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وثابر على نقلها إلى اللغة العربية الأدباء الأساتذة:(أحمد الشنتناوي، حافظ جلال، عبد الحميد يونس، إبراهيم خورشيد) من متعلمي الأدب والقانون

قلت: وهذا عمل ضخم كنا نحن أبناء العربية أولى بابتدائه وسبق الأمم كافة إليه

وأستضخمت مع ذلك نجاح هؤلاء الأدباء الشبان في الوصول بالترجمة إلى هذه المراحل البعيدة، لأن عملهم في ترجمتها أصعب بين المشارقة من عمل المستشرقين في تأليفها وتحضيرها بين البيئات الأوربية

هناك تمهيد ملايين يعين على هذه الأعباء، وهنا تمهيد أفراد معدودين قلما يعاونهم أحد، وقد يثني عزائمهم ملايين!!

ففي بضع سنوات أتم مترجمو الدائرة الإسلامية ترجمة آلاف ثلاثة من الصفحات المزدوجة: كلها مصطلحات وإشارات مختزلة: وإحالة إلى مراجع مختلفة، وفيها من شعاب المعرفة ما ليس مقتصرا على الدين ولا على التأريخ ولا على السياسة ولا على المواقع الأرضية، بل يشمل هؤلاء جميعا ويزد عليها ما ليس يحصى

ولابد أن يدخل في حساب هذه السنوات حساب التبويب والتقسيم وإعادة الحروف الإفرنجية إلى الأبجدية العربية

فقبل أن يتناول القلم بالترجمة صفحة من ألوف الصفحات التي اكتظت بها المجلدات الإفرنجية ينبغي أن تترجم المواد واحدة واحدة ثم تدون في أجذاذها وتنتظم في ترتيبها الجديد: فلا تأنى الكلمات المبدوءة بحرف العين في المجلد الأول، بل تؤخر إلى موضعها من ترتيب الأبجدية العربية، ولا تبقى (أشبيلية) مثلا في حرف السين كما تكتب في الإفرنجية بل تقدم إلى حرف الهمزة، ولا تتأخر أسماء إسماعيل وإبراهيم وإدفو إلى الحرف التاسع أو الخامس بل يؤتى بها مع الحرف الأول والأجزاء الأولى. وليس هذا العناء بأقل من عناء الابتداء بتحضير المواد والكلمات. ولعل النقل وإعادة الترتيب عرضة لأخطاء لا يتعرض لها البادئون بتدوين الأسماء كما تكتب في لغات الأوربيين

فالوقت الذي يقضي في هذا التبويب الجديد ليس بالوقت القصير، واستدراك الخطأ فيه من

ص: 3

أصعب الأمور، ووراء مشكلة الوقت مشكلة الإقبال على هذه الأعمال، ومشكلة المثابرة وهي أعضل ما نعانيه في كل عمل مديد الأجل متشعب الفروع، ومشكلة الأزمات الدولية والأزمات الداخلية التي تثقل على كاهل التجارة الرائجة والسلع الضرورية للمعيشة اليومية، فكيف بتجارة العلم وسلع القراءة!

قال الأدباء المترجمون في الجزء الأول من أجزاء الترجمة العربية: (. . . اختمرت فكرة ترجمة تلك الدائرة في رءوسنا منذ أعوام ثلاثة فعكفنا على دراسة المشروع من جميع نواحيه وألممنا بكل الصعوبات المادية والمعوية التي كثيرا ما تعترض الأعمال العلمية والأدبية في مصر، وظلت هذه الصعوبات حائلاً بيننا وبين تحقيق أمنيتنا، ولعلها كانت عين الصعوبات التي وقفت في سبيل غيرنا ممن حاولوا تحقيق تلك الأمنية، حتى لاح لنا أننا كنا مخطئين حين حاولنا أن نحل الصعاب كلها دفعة واحدة، فرأينا أخيرا أن نقسم العمل إلى أقسام ثم نشرع في التطبيق خطوة خطوة، وشعارنا أن كل شيء متيسر مستطاع)

وعندنا أن هذا الخاطر هو العلامة الأولى للعزيمة العاملة، لأن القدرة على تقسيم الصعوبات ضرب من القدرة على تذليلها، وليس أدل على النصر من قدرة القائد على تفرقة الخصوم وهزيمتهم فرقة بعد فرقة. فلو لم يكن الأدباء مترجمو الدائرة أهلا لفضيلة المثابرة لما كانوا منذ البداية أهلا لتصغير الصعوبات بتفريقها والتغلب على أجزائها، أو على رهبة الأحجام التي تلازم من يجمع الصعوبات ويستضخمها ويزيد عليها من الوهم ما ليس فيها

لقد شرع بعض الكبراء كما شرع بعض الدواوين الحكومية في طبع موسوعات دون هذه الموسوعة في حجمها وتعقيدها، وكان منها ما ليس يحتاج إلى ترجمة قبل طبعه، ومنها ما يحتاج إلى ترجمة ولا يحتاج إلى إعادة تبويب. ثم وقفوا عند البداية أو بعد خطوة قصيرة من البداية، فانفراد الأدباء مترجمي الدائرة بالمثابرة على هذا العمل الكبير مزية جديرة بالتسجيل في حياتنا الفكرية، ولهم حق في التهنئة بما جاهدوا وثابروا على قدر هذه الفضيلة النادرة، وعلى قدر الحاجة إلى تلك الدائرة، وهي حاجة توجبها الرغبة القومية كما توجبها الرغبة في العلم والثقافة

لكننا لا نكتفي بالتهنئة، بل نضيف إليها اقتراحاً في صدد ما أسلفناه من شكوى الافتقار إلى

ص: 4

الموسوعات الموجزة في أمثال هذه الموضوعات. فمن اليسير على من ينهضون بعبء الدائرة الكبرى أن يتابعوا اختصارها وهم يترجمونها وينشرونها لتخلص لهم من ذلك في سياق العمل موسوعة صغيرة ينتفع بها عدد من القراء أكبر ممن ينتفعون بالموسوعة الكبيرة؛ بل ينتفع بها من لا يقدرون على التوسع في العربية ولا في اللغات الإفرنجية، وهم أحوج إلى النفع وأولى بالعناية، وليس النقص الذي نتمه بتفهيم هؤلاء دون النقص الذي يتم باستيفاء مراجع الإفاضة والاستقصاء.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

هذا عيب، ولكنه جميل - الظلم البغيض - عتاب موجه إلى

الأستاذ الزيات - الدين الإسلامي في المدارس الأجنبية -

تجربة جديدة للتعاون بين المصريين والأجانب - دفع

اعتراض - هل انتهزت وزارة المعارف فرصة الإضرابات

الدولية لتصفي ما بينها وبين المدارس الأجنبية؟ - للحق

والتأريخ.

هذا عيب، ولكنه جميل

أشار أديب غاب عني أسمه في مقال نشره بمجلة (الرسالة) إلى أني أتقاضى أجرا على ما أنشر من المقالات والبحوث في الجرائد والمجلات، وهي إشارة جرت مجرى التعريض، فكان معناها أن قبول الأجر على المقالات والبحوث عيب، وهو حقيقة عيب، ولكنه عيب جميل، إن كان الكسب الشريف من العيوب

ويظهر أن جمهور القراء في مصر لا يعرفون ما صارت إليه الصحافة المصرية، فهي اليوم أعمال اقتصادية يراد منها الربح كما يراد التثقيف. ورجال الاقتصاد لا ينفقون إلا بحساب، ولا يخرج الدرهم من أيديهم إلا بعد أن يطول حوله الجدال، وتلك أكبر مزية من مزايا رجال الأعمال، فهم الصالحون صلاحية حقيقية لتصريف الأمور بعقل وتدبير وسداد، والكرم رذيلة شنيعة حين يصدر عن رجال الأعمال، لأنه يشهد بأنهم حُرِموا مزية الضبط والتدقيق. فان سمعتم أن كاتبا يتقاضى أجراً على مقالاته في إحدى الجرائد فاعرفوا أن ذلك لم يقع إلا في سبيل الحرص على منفعة تلك الجريدة، فهو ليس إعانة تقدم إلى الكاتب وإنما هو ربح حلال يناله الكاتب تعويضاً على ما بذل من إجهاد الفكر في التحرير والإنشاء. وان سمعتم في مصر جريدة لا تنشر آلا ما يقدم إليها بالمجان فاعرفوا إن تلك الجريدة

ص: 6

صائرة إلى البوار ثم الزوال، لان القراء لا ينتظرون الكتاب المجهولين، وإنما ينتظرون الكتاب المعروفين، والكاتب لا يعرف في وطنه إلا بعد أن يشيب فؤاده في مساورة الأبكار من الحقائق والمعاني

وما أريد بهذه الكلمة أن أقول أني جدير بالانتفاع بما أنشر في الجرائد والمجلات، فهذا القول قد يعد من الزهو في موطن لا أريد فيه غير توجيه النصح إلى من يسألونني من وقت إلى وقت عن إمكان الاستفادة المادية من الصحف المصرية وفي توجيه النصح إلى هؤلاء أقول:

لا تصدقوا أن في مصر جريدة تدفع قرشا واحدا لكاتب على سبيل المعونة والتشجيع، ولا تصدقوا إن الصحفيين اليوم يجوز عليهم التلطف، كما كان يجوز على أسلافهم الكرماء من أمثال علي يوسف وعبد العزيز شاويش وأمين الرافعي، فتلك أيام خلت، وأصبحت الصحافة قوة أدبية واقتصادية لا ينتفع بخيرها إلا أقطاب البيان، ومن اجل هذا صح القول بأن الصحافة المصرية تحتل المكان الثالث في العالم بعد الصحافة الإنجليزية والصحافة الأمريكية، وستظل كذلك ما دام فيها رجال يعرفون انه لا عيب في أن تقوم الأفكار بالأموال، إن جاز الوهم بان الأفكار توزن بموازين الأموال

الظلم البغيض

للظلم أشكال وألوان، فهناك ظلمٌ حُلوٌ عَذْب هو ظلم من يستملح منهم الدلائل، وهناك ظلم تافه هو ظلم من لا يقدمون ولا يؤخرون، وهناك ظلم بغيض هو ظلم من تحسن إليهم فيسيئون إليك. فالذين يعيبون علينا أن نتقاضى أجراً على ما ننشر في الجرائد والمجلات فيهم أناس يظنون فينا القدرة على كل شئ، فهم يدعوننا في كل وقت إلى تزكيتهم عند أصحاب الجرائد والمجلات، ليجولوا ويصولوا، كما يجول ويصول من وهبوا القدرة على التصرف بالخواطر والقلوب

ولو عرف هؤلاء أن حرفة الأدب الغانم قد تحكم على صاحبها بأن يموت قبل الأوان بعشرين عاما أو ثلاثين لزهدوا في الظفر المكسوب بثقة القراء، وهل يثق القراء بكاتب إلا بعد أن يطمئنوا إلى أنه يسود القرطاس بالدم لا بالمداد؟ ثقة القارئ عروس غالية يقدم إليها الكاتب خاتماً قد أتخذ حديده من الدم الذي سفحه على سنان القلم في الليالي الطوال

ص: 7

آه، ثم آه!!

من يصدق أن الكاتب الموثوق بكفايته البيانية لا ينقل عواطفه إلى قرائه إلا بعد أن تنفعل خواطره انفعالاً يحولها إلى نسيم تنتعش به أرواح الوجود؟

من يصدق أن الكاتب الذي يؤثر في عصره وزمانه لا يجود بكلمة من كلماته إلا وهو يجود بأكواب جِرار من دم الكبد والقلب

ومع هذا يقال أنه أجير لأصحاب الجرائد والمجلات!!

ولو قَدَرت مصر الكاتب حق قدرة لعرفتْ أنه عنوانها الصحيح في الشرق والغرب؛ فبفضل الكاتب قيل أن مصر زعيمة الأمم العربية، وبفضل الكاتب قيل أن صحافة مصر تزاحم الصحافة الإنكليزية والصحافة. الأمريكية. وهل من القليل أن نكون في الصحافة أعظم من أمم كثيرة تفوقنا في النفس والأموال؟

عتاب موجه إلى الزيات

إذا صح هذا - وهو صحيح - فكيف يجوز للأستاذ الزيات أن ينشر في مجلته تعريضاً بأجر يتقاضاه كاتبٌ صاحب (الرسالة) بصدق وإخلاص أكثر من أربع سنين؟

ومن الزيات الصديق؟

هو الرجل الذي يؤذيني بين قرائي وأصدقائي، فما ينشر لهم كلمة أقدمها إليه إلا بعد اختبار دقيق

أريد أن أعرف كيف يجوز للزيات أن يسمح بنشر كلمة فيها تعريض بمن ينتفعون بجهاد الأقلام، وهم أعظم من الذين ينتفعون بجهاد السيوف؟

وكيف يكون من العيب أن ننتفع بجهودنا الأدبية وهي جهود نخدم بها المجتمع كما يخدمه المشتغلون بالمحاماة والتدريس؟

وإذا جاز أن ينشر في الرسالة تعريض بمن ينتفعون بثمرات أقلامهم، ففي أي مكان ينتظر أرباب الأقلام كلمة الحق في الثناء على ما يقدِّمون من تضحيات، وهم أقل المجاهدين حظا من الثواب على الجهاد؟

ومتى نجد روح الوفاء إذا عز وجوده عند من قضوا أعمارهم في الأنس بمعاني الأدب الرفيع؟

ص: 8

وما هو الأجر الذي يقدم إلى الكتّاب في مصر حتى تصوب إليهم سهام التجريح؟

مازلنا نشكو الغبن الذي يلاحق الصحافة الأدبية في هذه البلاد، فليس أمام الكاتب الأدبي فرصة واحدة من الفرص التي يتمتع بها الكاتب السياسي، لأن مصر التي برعت في خلق العصبيات السياسية، لم تفكر في خلق العصبيات الأدبية، والكاتب السياسي قد يستطيع التمتع بإجازة يتذوق فيها طعم الراحة شهراً أو شهرين مع حفظ حقه في المرتب؛ أما الكاتب الأدبي، فهو مقهور على معاقرة الكدح الموصول، إلا أن يغنيه الله عن ذلك الأجر الممنون

من المزعج أن تُنسى حقوق الكاتب الأدبي، وهو يعاون معاونة جدية على ترقية الصحافة الأدبية، وهي صحافة لم تكن ولن تكن إلا لونا من ترف العقول، وهي الشاهد على إن الأمة لها في عالم الفكر مطامح وآمال، ولكن أين المنصفون؟

ونحن قد زهدنا في خدمة الصحافة السياسية، وهي الصحافة التي يخطب ودها أقطاب السياسة ورجال الأعمال، والتي تمكن أصحابها من نواصي المناصب العالية، فهل كنا من الموفقين في إيثار ذلك الزهد؟ هيهات. . . فما كان زهدنا في الصحافة السياسية إلا ضرباً من الخذلان!

قد نعزّي أنفسنا فنقول: إن الجهاد في الميدان الأدبي أبقى على الزمان، وتلك والله علالة المهزومين؛ وإلا فكيف يُحسد الكاتب الأدبي على الانتفاع بجهوده الأدبية، وهي لن تصل به إلى منازل المجد إلا يوم يتولى أمور الناس رجل في حصافة ابن العميد، أو عقل سعد زغلول؟

وما هي تلك المنافع التي نعير بها في مجلتك، يا صديقي الزيات؟

وما الذي استفدت أنت من خدمة الأدب، وبيدك مجلة أدبية تضر بها وتنفع؟

كل ما غنمته هو السلامة من مزالق الشبهات، وذلك مغنم عظيم جداً، ولكنه قليل الوزن في العصور الممسوخة، عصور الزهد في معالي الأُمور. ولو اعتدل الميزان - كما رجونا ألف مرة - لكان للصحافة الأدبية مكان مرموق في هذه البلاد، ولكنه لن يعتدل إلا بعد أحيان طوال، ويومئذ ينسى الناس أن مصر عاش فيها أقوام حفروا أساس الصحافة الأدبية بأسنة الأقلام، وهم محرومون من عطف الصديق المواسي، والناصر الرقيق

ص: 9

ومهما تكن العواقب، فذلك حظي وحظك، وحظ إخوان كرام رضوا بالشقاء في خدمة الصحافة الأدبية ليرضوا شهوة العقل، وللعقول شهوات أقوى وأعنف من شهوات العيون والقلوب

وهل أقبلنا على الصحافة الأدبية طائعين؟

لا، والله، فما أقبلنا على هذا المورد إلا مسوقين بسوَّاقٍ حُطَم، هو القلم المفتون بافتراع المعاني

وجملة القول أن ما يعاب عليَّ يعاب عليك، فمتى تكثر العيوب؟ ومتى يكثر القادرون على الانتفاع بثمرات الأقلام؟

العيب الحق هو أن تشهد الوقائع بأن الذين ينتفعون من الصحافة الأدبية لا يزيدون عن آحاد، لأن أدباء مصر لم يستطيعوا إلى اليوم أن يصيّروا الأدب غاية وجودية، يحيا بها الناس كما يحيون بالطعام والشراب

فهل يستطيع من عابوا عليَّ الانتفاع بقلمي أن ينتفعوا بأقلامهم؟

وهل فيهم من جُعِل رزقه في سنان قلمه، كما جُعل رزقي في سنان قلمي؟

ليت الله يكثر من المنتفعين بأقلامهم، لنؤمن ونصدق بان القلم صارت له دولة في هذه البلاد!

ليت، ثم ليت!!

الدين الإسلامي في المدارس الأجنبية

قرأت في الجرائد خلاصة ما انتهى إليه البحث بين وزارة المعارف ونظار المدارس الأجنبية فيما يتصل بتعليم الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين بتلك المدارس، وقد فهمت مما قرأت إن البحث وصل إلى غايتين:

الأولى انه لا يجوز أن يعلم تلميذ ديناً غير دينه ولو رضى أهله بذلك

الثانية أنه يجب تعليم الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين بالمدارس الأجنبية

وقد حدثني بعض من شهدوا تلك المحادثات إن نظار المدارس الأجنبية لم يعترضوا على النص الذي يوجب ألا يتعلم التلميذ ديناً غير دينه، لأنهم لا يريدون فتح باب الفُرقة والخلاف بين أبناء هذه البلاد، ولأنهم يعرفون انهم مؤتمنون على ضمائر من يدخل

ص: 10

مدارسهم من أبناء المسلمين

أما النص الذي يوجب أن يتعلم التلاميذ المسلمون مبادئ الدين الإسلامي فقد وافق عليه نظار المدارس الأجنبية بعد جدال بسيط، وكانت حجة المجادلين إن بعض المدارس قد تتعدد فيها الديانات والمذاهب، فمن الإرهاق لجدول الدروس أن تخصّص فيه ساعات لتدريس ديانات التلاميذ على ما بينها من تباعد واختلاف، وهنا وجدت وزارة المعارف الحل فرضيت بأن تكون دروس الدين الإسلامي في أيام الآحاد

ذلك ما حدثني به الصديق الذي شهد تلك المباحثات فما الذي أملك في التعقيب على هذا الموضوع الدقيق؟

أواجه الموضوع بصراحة تنفعنا وتنفع ضيوفنا الأجانب فأقول: تنقسم المدارس الأجنبية إلى قسمين: مدارس مدنية ومدارس دينية

أما المدارس المدنية فهي على أتم استعداد لتدريس الدين الإسلامي في دورها، لأن نظامها يقوم على احترام جميع الديانات وإن كانت غير ملزمة بتدريس الديانات، وما دام الرأي العام في مصر يرى أن الدين الإسلامي مادة أساسية في تثقيف التلاميذ المسلمين فهي لا تمانع في أن يكون في دورها مكان لتعليم أولئك التلاميذ مبادئ ذلك الدين

بقيت المدارس الدينية، وهي مدارس لا يُطلب منها غير الحياد، فكيف نفرض عليها أن تعلم الدين الإسلامي في دورها؟ إنما يجب أن نسهل عليها هذه المهمة فنتولى تعليم من بها من التلاميذ المسلمين في دور المدارس المصرية وفي أيام الآحاد

ذلك ما رأته وزارة المعارف، وهو رأي أرادت به مجاملة المدارس الدينية، حتى لا يقال إن وزارة المعارف تجرح إحساس الأجانب من رجال الدين

كل هذا جميل، وجميل جدا، وجدا جميل، كما يعبر الدكتور طه حسين

ولكنه إن وقع فسيشهد بأننا جميعا نعيش في عصور الظلمات؛ فنظار المدارس الأجنبية لا ينكرون أن الإسلام دين يتقرب به إلى الله مئات الملايين. فكيف تضيق به مدرسة يديرها أوربيون أو أمريكيون، وقد نشأوا في بلاد لا ترى من العيب أن تدرس الأوهام والأضاليل حتى تشعر بالحرج في السماح بتدريس الدين الإسلامي (وهو إن لم يكن وحيا من السماء كما يزعم من خاصموه فهو بلا جدال أقوى صورة من صور الضمير الإنساني، وأعظم

ص: 11

شاهد على سيطرة الفكر والعقل والوجدان)

لو جاز لي أن أتهم وزارة المعارف لقلت إنها تريد اختبار بعض رجال الدين من الأجانب، فهي تريد أن تجرب مبلغ استعدادهم لتقبل التعاون السليم من شوائب الأغراض، فما الذي سيصنع أولئك الرجال في الرد على وزارة المعارف!

أنا أرجح أنهم سيفكرون في منافع تلاميذهم من المسلمين فينظمون لهم دروس الدين الإسلامي بطريقة تعفيهم من التردد على المدارس المصرية وفي أيام الآحاد

فما هي تلك الطريقة؟

في المدارس الأجنبية نظام مدرسي يسمى نظام آل وهو النظام الذي يسمح بأن يقسم التلاميذ إلى فرق مختلفة في وقت واحد. فمن السهل أن يُتَّبع هذا النظام في تدريس الديانات في المدارس التي تختلف فيها الديانات، وعندئذ يذهب الخطر المتوقع من إرهاق جدول الدروس

دفع اعتراض

قد يقال إن في تدريس الدين الإسلامي بالمدارس الأجنبية فتحا لأبواب الشقاق بين التلاميذ المختلفين في الدين

وأجيب بأن إغفال الدين الإسلامي هو الذي يخلق ذلك الشقاق، لأنه يفرض على التلاميذ المسلمين أن يتصوروا أنهم مضطهدون، ويوحي إليهم فكرة الوهم بأنهم يتعلمون في مدارس تضمر لدينهم معاني العداء المكشوف أو الملفوف

فما مصلحة تلك المدارس في إغفال الدين الإسلامي؟

وما الموجب لأن يتعبونا بتجديد خصومات نحب أن تموت؟

الواقع أن بعض نظار المدارس الأجنبية لم يجدوا من يدلهم على اتجاهات الأفكار والعقول في هذه البلاد. ولو وجدوا من يرشدهم لأعفونا وأعفوا أنفسهم من الدخول في محرجات تؤذينا وتؤذيهم أعنف الإيذاء

للمدارس الأجنبية ماض جميل في نشر اللغات الحية بالديار المصرية، وذلك الماضي الجميل يحتاج إلى حارس أمين من

الحاضر الجميل. . .

ص: 12

فمن يبلغ بعض نظار المدارس الأجنبية أن الصديق الحق هو الذي يرشدهم بصدق وإخلاص إلى جلية الأمر في مواطن قد اشتبكت فيها الأوهام والظنون؟

إن صدقت النيات في تحقيق ما تم عليه الاتفاق بين وزارة المعارف ونظار المدارس الأجنبية فسيكون لتلك المدارس مستقبل أروع وأجمل من ماضيها الرائع الجميل

ثم دفع اعتراض

قيل وقيل إن وزارة المعارف قد انتهزت فرصة الاضطرابات الدولية لتصفي ما بينها وبين المدارس الأجنبية، وذلك القِيل كذب وافتراء، فوزارة المعارف تفكر في هذه الشؤون منذ أعوام طوال، وهي بالفعل قد قررت التفتيش على جميع المدارس الأجنبية منذ سنة 1938 يوم كان الحديث عن وقوع حرب عالمية رجماً بالغيب، فمن التجني على وزارة المعارف أن يقال إنها تنتهز فرصة الاضطرابات الدولية لتحقق أغراضا سليمة لا يطعن في سلامتها إلا أهل الأغراض والأهواء

أما بعد فقد علمت أن قانون التعليم الحر سيعدل بعد تلك المباحثات تعديلاً يضمن السلامة من أخطار الخلاف بين المصريين والأجانب، ويؤكد الثقة والصفاء بين أولئك وهؤلاء

للحق والتاريخ

حدثني صديق شهد تلك المباحثات أن أعضاء اللجان الفرعية من الأجانب عز عليهم أن تنتهي في أسابيع، فقد راعهم أن يعرفوا أن في وزارة المعارف رجالاً موسومين بالرفق واللطف في معالجة الدقائق من المعضلات، وكانوا يتوهمون أنهم لن يلقوا إلا رجالاً يغنيهم الاعتصام بالحق عن مراعاة الرفق واللطف

وكذلك حثني ذلك الصديق أنه لم يكن ينتظر أن تتم تلك المباحثات في أسابيع، فقد كانت الأراجيف شاءت أن تصور بعض رجال التعليم من الأجانب بصورة من يعادون العروبة والإسلام في هذه البلاد. ثم شاء الله أن تشهد الظروف بأنهم أبرياء من تُرًّهات تلك الأراجيف

ذلك ما حدثني به الصديق الذي شهد تلك المباحثات، وهو لم يخبرني بجديد، فقد اتصلت بنظار المدارس الأجنبية عدداً من السنين فلم أجد منهم غير الأدب واللطف والذوق، ولم

ص: 13

أشهد عليهم غير الاهتمام بمراعاة العواطف المصرية، كتب الله لنا ولهم التوفيق في خدمة العلوم والآداب والفنون.

زكي مبارك

ص: 14

‌4 - في العقد

لأستاذ جليل

25 -

(145) كان بعض أهل التمرس (يعني التمرس) بالحرب يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم، والجبناء من أولي الحزم، فأن الجبان لا يألو برأيه ما يبقى مهجكم، والشجاع لا يعدو ما يشد لنصرتكم، ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معدة الجبان وتهور الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج والحسام الوالج

وجاء في تعليقه (ما يشد نصرتكم): كذا في ا. والذي في بقية الأصول: (بصائركم) وهو تحريف

قلت: النصرة تصحيف البصيرة أو تحريف البصائر، والشد يناسب البصيرة أو البصائر، فالبصيرة الحجة والاستبصار في الشيء، والبصيرة ما اعتقد في القلب من الدين وتحقيق الأمر. وليس أصل القول - كما أرى - (يشد نصرتكم أو يشد بصائركم) وإنما هو (يشيد ذكركم أو يشيد بذكركم)(كما جاء في هذه الوصية في زهر الآداب وثمر الألباب) وفي (غرر الخصائص الواضحة) و (الغرر) يروى عن (الزهر)

أصل الجملة كما ذكرنا ثم نسى ناسخ نقط الياء فصارت (يشد ذكركم) فاستركت واستبدلت بالذكر البصيرة أو البصائر أو النصرة حتى يجئ معنى مقبول

وقد يكون أصل (السهم الزالج والحسام الوالج) ما سطر في الزهر والغرر: (السهم الصائب والحسام الغاضب) والسهم الصائب أقعد في هذا المقام من السهم الزالج

في التاج: زلج السهم يزلج زلوجاً وزليجاً وقع على وجه الأرض ولم يقصد الرمية. وفي المخصص، وفي المثل:(لا خير في سهم زلج) وإذا وقع السهم بالأرض ولم يقصد الرمية قلت: أزلجت السهم

وقد يصوب (السهم الزالج) في قول القائل بعض التصويب ما ورد في اللسان: قال أبو الهيثم: الزالج من السهام إذا رماه الرامي فقصر عن الهدف، وأصاب صخرة إصابة صلبة، فاستقل من إصابة الصخرة إياه، فقوى وأرتفع إلى القرطاس فهو لا يعد مقرطساً

26 -

(ص145). . . وانفسدت نياتهم

قلت: من يجد هذا الفعل في مثل هذا الكتاب دون تنبيه عليه يثق بصحته وما هو بالصحيح

ص: 15

في الصحاح: لا يقال انفسد. ومثل ذلك في اللسان. وفي القاموس: لم يسمع عنهم انفسد. قال شارحه: في مطاوع فسد وإلا فالقياس لا يأباه

قلت: لم يحرك الفعل (فسد) في التاج، فأن قصد الثلاثي غير المضاعف فهي هفوة عالم

في ضياء اليازجي: رجل مفسود السيرة وقد انفسد، وكلاهما خطأ، لأن فسد لازم فلا يصاغ للمجهول ولا يبنى منه مطاوع

27 -

(ص169). . . فدخلت في غمار الناس. . .

قلت: في غمار الناس أو غمار الناس بالضم أو الفتح كما قيد ذلك بصريح الكلام لا بتوشيح القلام - كما يقول المجد - في تهذيب الألفاظ، والصحاح واللسان، والمصباح، وحرك بالضم والفتح في الجمهرة والمخصص وغيرهما

والأصمعي يقول: دخل في خمار الناس. وغمار الناس خطأ ليس من كلام العرب. وقد نسب صاحب المخصص هذه التخطئة إلى ابن السكيت، وهذا وهم من ابن سيدة. وإنما ابن السكيت ناقل وقد قال بعد كلام الأصمعي: الكسائي: دخلت في غُمار الناس وغَمار الناس وخُمار الناس وخَمار الناس.

وأثبت الجوهري في الصحاح هذا القول إثبات الموافق عليه

والغِمار - بالكسر - جمع الغمر وجمع الغمرة ليس بحجة لمن كسر الغمار في (دخلت في غمار الناس أو خمارهم) في كلام القدماء. . .

28 -

(ص35)

جانيك من يجني عليك وقد

تعدى الصحاحَ مبارك الجرب

ولرب مأخوذ بذنب عشيرةٍ

ونجا المقارف صاحب الذنب

قلت: عشيرة. وقد روى الشريشي في الشرح الكبير هذين البيتين و (قرينة) فيهما مكان (عشيرة)

29 -

(ص71). . . قال (الوليد بن عبد الملك للزهري): يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له حسنات ولم يكتب له السيآت، قال: باطل يا أمير المؤمنين. . . قال: إن الناس ليغووننا عن ديننا

وجاء في الشرح: في الأصول (ليغروننا) بالراء، وهو تحريف

ص: 16

قلت: إغواء: أظله، أو دعاه إلى شيء غوى به أي ضل؛ وغره يغره: خدعه وأطعمه بالباطل؛ والقوم قصدوا خدع الخليفة وإطماعه بالباطل؛ والغر أو الغرور مثل الإغواء، وربما فضل الأول الثاني في هذا المقام

30 -

(ص234). . . وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحقاً والخير محضاً لمن يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينة ولا بشر يحيشهم إلى خيره، فقد ملكهم الخلع لعذرهم

وجاء في الشرح: كذا في 1؛ ويحيشهم أي يجعلهم يفزعون يقال: حاشه يحيشه إذا أفزعه؛ والذي في سائر الأصول: (يحبسهم)

قلت: الحيش: الفزع، والفزع هنا الخوف والذعر، لا الفزع إلى الشيء، أي اللجوء إليه؛ وفي حديث عمر إنه قال لأخيه زيد حين ندب لقتال أهل الردة فتثاقل: ما هذا الحيش والقل؟! أي ما هذا الفزع والرعدة؟ فاللفظة في (العقد) هي يحوشهم أو يحيشهم أي يسوقهم؛ ففي حديث عمر أن الرجلين أصابا صيدا قتلة أحدهما وأحاشه الأخر عليه؛ يقال: حشت عليه الصيد وأحشته إذا نفرته نحوه، وسقته إليه، وجمعته عليه كما في النهاية؛ وفي الصحاح: حشت الإبل: جمعتهما وسقتها، وحشت الصيد أحوشه إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة

31 -

(ص178) قال كعب بن زهير:

بخلاً علينا وجبنا من عدوكم

لبئست الخلتان البخل والجبن

قلت:. . . وجبنا عن عدوكم. وقد نسبه أبو تمام إلى قعنب بن ضمرة. وفي المبهج: قعنب بن أم صاحب وهي أمه، وهو أحد بني عبد الله بن عطفان، وكان في أيام الوليد ابن عبد الملك، والبيت ثالث ثلاثة في (الحماسة) شقيقاه هما:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً

مني وما سمعوا من صالح دفنوا

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا

وقد تمثل أبو جعفر المنصور بذلك البيت في مقامين في خطبتين ذكرهما الطبري في تاريخه في (الخبر فن بعض سيرة المنصور) والبيت فيهما كما روى ديوان الحماسة

احتلت هذه الضئيلة البئيلة (من) ذلك المكان من البيت - غير متحللة عنه - الدهر الأطول

ص: 17

في طبعات (العقد) وقد لمحتها في ثلاث منها، ثم لم نتئب (لم تستح) الملعونة من ظهورها في طبعة اللجنة المبجلة. واليقين أنها من ميراث الناسخين، لكن لكل كتاب أجل ولكل كاتب ولكل كتابة ولكل شئ، فلن تكون (من) في البيت في العقد - إن شاء الله - بعد اليوم. . .

32 -

(ص334) ورؤى حاتم يوماً يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول:

أقول لابني وقد سُطْتُ يديه

بكلبة لا يزال يجلدها

أوصيك خيراً بها فان لها

عندي يداً لا أزال أحمدها

تدل ضيفي علي في غلس ال

ليل إذا النار نام موقدها

قلت: أقول لابني وقد سطَتْ يدُهُ. . .

33 -

(ص170) وقال بعض العراقيين فيه (أي في أكول جبان):

ضعيف القلب رعديدُ

عظيم الخُلق والمنظرْ!

رأى في النوم عصفوراً

فوارى نفسه أشهر!

قلت: رعديدٌ، إذ لا تصريع في البيت، ولا احتياج إلى كف، واللفظة مصروفه وهذا ظاهر

34 -

(ص123) كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول:

أي يوميَّ من الموت أفرّ

يوم لا يُقدر أو يوم قدرْ

يوم لا أقدره لا أرهبه

ومن المقدور لا ينجي الحذر

قلت: أفرْ بالسكون بلا شدة حتى لا يختل الوزن

ذكرتني (صفين) في خبر (العقد) بيتين كانا يقالان في لياليها وهما هذان:

الليل داج والكباش تنتطح

نطاح أسد ما أراها تصطلح!

فمن يقاتل في وغاها ما نجا

ومن نجا برأسه فقد ربح!

وإن الدنيا لتتمثل في هذا الوقت بهذا القول. والمأمول - وقد استجبت الدعوة في الرسالة (259) ص (932) فعادت جذعة - أن يكون نفع الناس منها جسيماً عظيماً مثلها

فيحيى فياح. . .!

ص: 18

* * *

ص: 19

‌الغناء والموسيقى

وحالهما في مصر والغرب

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

- 2 -

نسمع اليوم ضجة في مصر بين أنصار القديم وأنصار الحديث؛ فما هو ذلك الذي توهموه القديم وثبتوا عليه؟ وما هو ذلك الذي أحدثوه واعتزوا به!

لمجلس الموسيقى والغناء الجدي عندهم نظام لا يمس ولا يتغير: مقدمة موسيقية، تقطعها تقاسيم بكل معزف لابد منها في نظرهم وإن تشابهت وتكررت منذ دهور؛ ثم ليال ناداها المغنون حتى سوأها فرط التكرار، فموال عامي، فدور أو طقطوقة، أو قصيدة مسيخة في ترتيب ما يختارون من أبياتها، معذبة على ألسنتهم اللحانة، وما أشنع لحانة المغني منتحل الفن والفن الجميل برئ من تشويه الجمال وإن تعمد تصوير الدمامة أحيانا! وجملة ذلك (وصلة) تجمع بين العامي والفصيح حين تضم الموال إلى القصيدة وتجمع بن المتنافرات والأضداد. أما التواشيح العربية القديمة التي أقحموا فيها (أمان) و (يا لا لِّلي) لموازنة ألحانها الحاضرة، فهي في حكم المهمل، إذ قلما يغنون بعضها أو جزءا منها، وقلما يغنيها أجود الأصوات. وأما الغناء في السنما وفي التمثيل، أو فيما يسمونه أوبرا، فهو أغاني مفردة، مبعثرة يصدق في أكثرها ما يقال في غيرها

والأغاني، على الإجمال، موضوعها ثابت ثبات الرواسي، يصور رزيئة عاشق ذليل يومه ناحس، ومهانة داله عليل ناكس، وأنين خائر، وحنين طريد شريد حائر، وسائل حزين بكى، مستغيث ولا مغيث؛ فهو موضوع يصف تحيته مخلوق مجرد من كل حمية، شاذ عن سجية الرجل السليم، كأن العشق مرض مهلك لا تكون فيه هنيهة هناء، أو لحظة بشاشة، أو فينة صفاء؛ وكأن العشق الكئيب لا يغني سواه، وكأن الإنسان لا يطرب إلا من العويل والنحيب مذ عمى هذا الفن الأنكد عما يفعم فؤاده من شتى العواطف والأحاسيس البشرية، وهو موضوع مستهجن مملول زاد سماجته الإمعان في تكراره

وعبارة هذه الأغاني عامية على الأغلب، ونحن نزعم أننا نحارب الأمية والعامية؛ فكأن

ص: 20

المصريين قاطبة عوام، وكأن الفصحى ليست في شئ مما يصلح للغناء ولم تغن بها مدنيات قبلنا، وكأن الأمم الحية لا تغني الآن في لغاتها إلا بعبارات الأوباش من أبنائها. والأغنية محدودة في قليل من الجمل، ولولا تكرار المغني لكلماتها - وأي تكرار - لما أستغرق غناءه دقائق معدودات

تبدأ الموسيقى بمقدمة هي جزئ من بشرف، أو بشرف في الأندر، أو تقليد أين هو من البشارف؟ وهي حين تعزف واحدة منها تقطعه بما تقحم فيه من تقاسيم بالمعازف تنبو لهجتها الطافحة شجوا عن لهجة البشرف الناطقة عن أحاسيس الرجولية، ولو اتفقتا في النغمة، فتكدر صفاء لحنه وتعرقل تسلسله وتسربه في الآذان، وتضعف قوة أخذه في الأنفس الواعية وشدة أسره فلا تجد منه كل الطرب وهو عند تتابع روائعه واتصالها مطرب جد مطرب

وهذه المقدمة الموسيقية تباين ما بليها من غناء وإن كان لحنها ولحنه من نغمة واحدة، كنغمة الصبا أو البياتي، إذ أننا لم نفطن بعد للدلالة الصوتية ولم نزكن معنى الإنشاء الموسيقي، أو لم نسمع عنه شيئا

ثم أن الموسيقى تصاحب الغناء أو تتخلله، أي تعزف وتسكت، وتارة تخافت بلحنها مع بعض جمل الأغنية أو بعض كلماتها، وطورا يأتلف لحنها مع الغناء والأغنية، ويختلف أطوارا بمتباينة دلالاته الصوتية المتضاربة لدلالاتهما: إذ يثب اللحن الموسيقي بمدلولاته من البكاء إلى المرح مثلا، أو من الضعضعة إلى الثورة أو الرقص بينما يقيم المغني بغنائه مناحة حاميه، يشغف بها أذان المستمعين. ذلك بأن ملحن الموسيقى ليس يعرف اللحن إنشاء يتوخى فيه صاحبه أن يجعله معبراً للمستمع عن ذات ما يصل إلى سمعه من الموسيقى من معاني الأغنية والغناء بها؛ ولا يدرك أنه لا ينجح في صنيعه إلا بإحكام الدلالات، وإتقان المطابقة بينها، وتحسين الأسلوب بمحسنات صوتية توائم سياق اللحن الأساسي. وإنما هم الملحن أن يتلقط عبارات صوتية يظنها مؤتلفة لمجرد نظمه إياها في نغمة الأغنية، وقد تكون الواحدة من هذه العبارات مطربة في ذاتها، لو سمعت على حدة، وإن باينت أخواتها في لحنه وهو لا يدري؛ لأنه لا يقصد سوى التجعيد في اللحن والتوشيع بما يأخذ أو يسرق من هنا وهناك، ولا يلاحظ إلا ضبط الأقيسة وإحكام الوقف أو (المحط)

ص: 21

لتمكين المغني من استئناف الغناء ولإظهار أنة لم يخرج عن النغمة

الأقيسة والمحطات! ذلك وحدة ما يعني به الملحنون والعازفون وما فيه يتبارون! ولذلك يبرزون القياس أي (الوحدة) بالدف أو الطبلة في عزفهم الألحان؛ وليس هذا موضع فخر لمنتحل الفن، إذ هو شئ أولي، دون مستوى الفن الرفيع؛ بل إن في إظهار القياس والوحدة إظهارا لتكرار يمل النفس اطراده وملازمته للحن والغناء، إلا أن يقع في مواطنه من الموسيقى المحركة كالتي تصاحب الرقص. والفن الحق يتفادى هذا العيب بإخفاء مساند البناء الموسيقي من قياس وغيره، كما يخفي المهندس دعائم البناء الجميل، وبعض نواتئه وزواياه، بحيله الفنية وبالطلاء والزخرفة

وما اكثر الجاهلين من ملحني الأغاني إن اللحن إنشاء صوتي يوجب عليهم المطابقة التامة بين مدلولاته والمدلولات الكلامية. وليس ينفي هذه الحقيقة ائتلاف الحزن الذليل الفائض من الأغاني والحزن الأذل المتدفق من ألحانها: لأنه ائتلاف لم يأت عن دقة في حساسية المؤلف ويقظة في مشاعره وملكاته ولا عن فطنة فنية، بل هو الشاهد باستقرار عادة التذلل والبكاء واستحالتهما شِنشِنةً بالإدمان. يثبت ذلك أن مدلولات لحن الأغنية الحزينة تأتلف مع مدلولات كلامها، لكن كثيرا ما تختلف معها في مصاحبتها لألفاظ العاشق المتضعضع الباكي، بمعان صوتية مرقصة مرة، أو ساخرة ومتغنجة أخرى، أو متميعة؛ ولو كانت نفس الملحن حساسة لما جاءت بأمثال هذا الاختلاف في لحنه. ولو كان مدركاً معنى الإنشاء الصوتي والغناء، لأصلح أخطاء لحنه بالتهذيب بعد تأليفه؛ أو لو كان فنانا حقا لما تعمد مثل هذا السخف لإرضاء أحد

أما المغني، فقد اصبح مثله الأعلى هو التفوق في حكاية الذل والحزن، الحزن والذل وحدهما! كل الحزن والذل! وفي وصف بنات الصدر، حتى تشبع قلبه من الكآبة تشبعاً ينفضها على صوته، شاء أو لم يشأ، وحتى قد يكون جيد الصوت، لكن غناءه على رغم هذه الجودة بكاء حقيقي وعويل، لا صوت مغن. والفرق عظيم بين الحقيقة والفن الذي يمثلها، فإن صار تمثيله حقيقة، فلا يكون فناً

وأكثر المغنين إنما صنعتهم مسخ لألحان مسيخة، مسخ يزيدها بشاعة بعيوب ليست من الفن ولا الغناء في شئ كما يتوهمون. وهؤلاء عيوب غنائهم عديدة وبيان بعضها فيما يلي:

ص: 22

فمنها أن المغني قد يغني للجماهير بصوت أدركته أعراض الشيخوخة، ويغني ولو كان من ذوي الخنخنة أو كان مزكوماً، ولا يفكر في سلامة صوته، ولا يعني بنقاء حنجرته وصحة صدره، وهو يزعم أنه مطرب.

ومنها إن يقدم على رفع صوته إلى أعلى الطبقات وهو غير قادر، فيظهر ما يعاني من مشقة. وليس هذا الجهد الجاهد بغناء الصوت الكرواني المخلخل الذي يحلق بسهولة عظيمة، ورفاعته أنه غناء لا عناء.

ومنها أنه يقطع الأغنية كلمة كلمة، ويكرر الواحدة عشرين مرة زاعماً أن كل مرة تأتي بلون من الإيقاع غير ألوان الأخريات؛ وهذه وتيرة مملة وان صدق في زعمه، لان معنى الكلمة لا يتغير جوهره في هذا التلوين الصوتي الذي يؤكده؛ وهو زعم لا يصدق في كل المرات، وان صدق أحيانا في بعضها. على أن التكرار مرة أو مرتين، بشرط ظهور مزيته، معقول مقبول مواضعه؛ وحسب المستمعين والمغني، بعد ذلك أن يعرض ألوان صوته في سياق اللحن ويترك ما يسئم.

ومنها أنه يطيل الوقف بعد الكلمة بلا داع ولا معنى، وقد يطول الوقف بين كلمتين، أو كلمة وجملة، أو جملتين، لما يقحم بينها من عبارات موسيقية معانيها لا تلائم معاني الغناء: كأن تدل تلك على غضب ففرح، فثورة فمداعبة، بينا تدل هذه على شجن صاعق كالعادة، فتنفصم سلسلة الغناء وتختلط الدلالات الصوتية المتضاربة، ويذهب التقطيع والاختلاط بلذة اللحن والصوت المغنى أن كان فيهما لذة

ومنها أنه قد يقف على نصف كلمة، أو ثلث أو حرف منها، ولو كان همزة؛ وقد يستأنف من هذه الهمزة ويجأر بها مراراً فيحدث بذلك نواتئ ومنكسرات صوتية، مع أن المنحنيات آنق والطف وأحب إلى الأذن وتلك النواتئ مؤلمة

ومنها انه قد يترك السكوت بإطلاق صوته بغتة كالمدفع لقصور ذوقه عن حفظ التناسب، وقد يتنبه لهذه الفجاءة ويحاول تخفيفها متعجلا في الغض من صوته فيزيد وضوحاً.

ومنها أنه يمد كل حرف من كلمة مدا يطول حتى لا يستطيع المستمع أن يجمع حروفها، فيضيع معناها؛ وأنه قد يمسخ اللفظة بتأنق على ذوقه السقيم، كأن ينطق بكلمة الحرية مثلا: لو حوورييية، فلا يفهم أحد هذه الأناقة الشنيعة

ص: 23

ومنها أنه يتأوه ويتوجع كأنه بين يدي سفاح يعذبه أو جراح يجرحه قبل اكتشاف وسائل التخدير الطبي، وتارة يتميع ويتغنج إثارة للشبق بين بكائه في غنائه بكاء الثكلى

كل أولئك عيوب تشوه حتى احسن الأصوات وهي غريبة عن الصوت الغنائي، وكثيرا ما يجتمع منها وحدها ما يمض المستمع البصير، ويوهم أن مجلس الغناء مأتم مجانين، ويكفي لإخراج هذا الغناء عن الفن

تلك العيوب البينة في غنائنا وموسيقانا قد يلاحظها العامة وأشباه العامة، لكن لا على إنها عيوب بل على أنها محاسن من صميم الفن، ومن شواهد النبوغ والعبقرية؛ ويتبعهم في الإعجاب بها كل إمعَّة، خصوصاً في الحفلات حيث تسود روح الجمهرة، ثم يتأثر من إعجابها السواد الأكبر الذي لا يجرؤ على مخالفة رأيه الأكثرون من الأفراد، وهذا هو السر في كل صيت كاذب مفسد للأذواق.

محمد توحيد السلحدار

ص: 24

‌من الأدب الرمزي

الزمن الساحر. . .!

للأستاذ سيد قطب

أيها الزمن!

ما أعجبك! ما أقدرك!

إنني أراك اللحظة - أو يخيل إلي إنني أراك، أو تخيل إلي أنه يخيل إلي إنني أراك! - هنالك قابعاً منزوياً وراء منسجك الأبدي، تطل بعينيك العميقتين النافذتين من خلف المنسج القائم منذ الأزل، تنسل خيوط الكون وتنسجها، في دأب لا يمل ولا يفتر، ونظام لا يتقدم ولا يتأخر

أنك هناك في كل ذرة سابحة في الفضاء، أو غائصة في الأعماق؛ وفي كل خطرة نابضة في الفكر أو كامنة في الضمير؛ وفي كل ومضة مشعة في الأفق أو مستكنة في الذريرات. . .

وأنت هناك في البرعم النامي، والجرح المندمل؛ وفي الأمنية السائحة والذكرى المتوارية؛ وفي الأمس والغد؛ وفي الليل والنهار؛ وفي الغدو والأسحار؛ وفي الأرض والسماء؛ وفي كل مكان. . . ولكن أحداً - أيها الساحر القادر - لا يحس أنك هناك!

إنك لتلأم الجرح في اللحظة التي تثغره؛ وأنت هناك في أعماقه تنسج الأنسجة وتنشئ الذرات، وترتفع بغوره شيئاً فشيئاً، وإذا الطعنة الغائرة قشرة عالقة، وربما خيل إلى الرائي أن وراءها ثغرة؛ وإذا القشرة نفسها تسقط بعد لحظات، وكأن لم يكن جرح ولا ثغرة ولا قشرة!

وكذلك تصنع بالجروح الغائرة في حنايا القلب وشعاب الضمير. . .!

وأنك لكامن هناك وراء البرعم المستكن في البذرة الساكنة تدفعه في رفق، وتمده في هدوء؛ ثم تنبثق به إلى الضياء نبتة ناحلة كابتسامة الوليد؛ ثم إذا هو فنن صغير، ففرع كبير، فدوحة باسقة، ذات أوراق وأزهار وثمار. . . ثم ماذا - أيها الساحر القادر - ثم إذا هي خشبه خشنة اللحاء يابسة اللباب؛ ثم إذا هي وقود النار؛ ثم إذا هي شعاع ذاهب، وهباب راسب. وأنت هناك من خلفها دائب في الإبلاء والإنشاء!. . .

ص: 25

وكذلك تصنع بالأمل البازغ، والحب الوليد. . .!

إنك لا تضيع لحظة واحدة! ويحي! وما اللحظات لديك؟

ليخيل إلي أنك تسخر منا ونحن نقسم الوقت لحظات! وكيف تعرف حدودها فنقول: من هنا تنتهي اللحظة الغابرة وتبدأ اللحظة الحاضرة! والوقت خيط طويل يلفه لولب الزمن فيمر بنا أو نمر به بلا توقف ولا فواصل ولا حدود؟. . . ما اللحظات والثواني والدقائق والساعات؟ ما أولها وما آخرها؟. . . ما من أول لها ولا آخر إلا في أوهامنا نحن أبناء الفناء!

إنك هناك وراء منسجك الأبدي تبلى وتجدد في آن، بعيداً عن الحس والوعي، بعيداً عن التأمل والملاحظة، بعيدا عن الشك والريبة. وربما خيل لبعض السذج أن يرقبوك في عملك الدائب، فإذا أنت تبدو لهم ساكنا صامتا كلما أمعنوا في الوعي والرقابة، بينما أنت تعمل عملك، تنسل وتنسج في كل شئ، حتى في وعيهم ورقابتهم وهم لا يشعرون!

أيها الساحر القادر. . . إنك لتحتفظ دائماً بسر اللحظة الحاضرة، فلا تدع عيناً تقربها ولاحساً يدركها، ولا فكراً يؤولها، ولا نفساً تلهمها. . . إنها لك وحدك. تنسل خيوطها وتنسج سواها، ويدك التي تنسل الخيط القديم هي التي تنسج الخيط الجديد، موصولا هذا بذاك، فلا مبدأ ولا نهاية ولا فاصل بين الخيطين تدركه العين أو الضمير. . . فإذا خرجت من منسجك أبحتها لحظة عابرة للأبصار والأفكار، ريثما تنسل وتنسج نفس هذه الأبصار والأفكار

وقد يحاول بعض السذج أن يقفوا دورتك، استبقاء للحظة يحبونها أو تفاديا من لحظة يرهبونها؛ وقد يتشبثون بالأوهام، ويثبتون أقدامهم بالوقت والمكان؛ وإذا أنت في غفلة عنهم تمر بهم، وتنقل أقدامهم وأوهامهم؛ وأنت تنسل وتنسج خيوط الإقدام والأوهام!

وكم مرة خيل إليهم أن هناك مفاجأة وطفرة. وما كان من ذلك شئ، إنما كنت أنت هناك، وراء المنسج، في صومعتك الأزلية، تبلى وتجدد، وتفني وتخلق، وتنسل وتنسج؛ وهم عنك في غفلة. ثم استيقظوا أو خيل إليهم انهم استيقظوا! فهالهم ما أبليت وما جددت؛ وصاحوا مشدوهين كالأطفال، وقذفوا في وجهك بعلامات التعجب والاستفهام بينما أنت دائب على منسجك تبلي وتجدد، حتى في ذلك التعجب وهذا الاستفهام!

ص: 26

أيها الزمن!

ما أرحمك! ما أقساك!

إنك لتلأم الجرح وتفتح البرعم؛ ولكنك تبلي الكيان وتذوي الحياة. وإنك لتمسح على الألم وتزوي الوجه الرعيب، ولكنك تطوي اللذة وتحجب الوجه الحبيب

إنك لتمنحنا الجديد وتهبنا الطريف؛ ولكنك تسلبنا القديم وتحرمنا التليد؛ لا بل أنت تسرق منا هياكلنا ونفوسنا، وتخطف ذراتنا وخواطرنا، وأيا كان ما تعوضنا فان تعويضك محدود بالعمر صائر إلى نفاذ، وفقداننا إلى غير رجعة ولا يستعاد من ذا الذي يستطيع أن يقول في لحظة ما: أنا. . . أنا. . . أنا الذي كنت منذ لحظة. . . إن كل شئ قد تغير منذ اللحظة الفائتة، فليس هو من كان هناك. . . إنك في هذه اللحظة الخاطفة نسلت منه خيوطاً، ونسجت فيه خيوطاً!

أين الشموس الغابرة وراء الآباد؟ أين الليالي الساربة في مجاهل الأبد؟ أين النجوم مندمجة من السديم؟ أين مولد الأرض بجانب منابع الزمن؟ أين أول فجر وأين أول حي على هذه الكرة السابحة في الفضاء؟ أين إنسان الغاب في الكهوف والآجام؟ أين الزلازل والأعاصير؟ أين النسائم والنفحات؟ أين الوسوسة والخرير؟ أين الرفرفة والصدحات؟ أين البسمات التي رفت على الشفاه؟ أين العبسات التي غضنت الجباه؟ أين الهواجس والأفكار؟ أين الرغائب والاوطار؟ أين الحب والبغض؟ أين الهيام والسلوان؟؟. . .

أين. . . أين. . .؟ بل أين كلمة (أين) هذه التي لفظتها منذ لحظة؟ بل أين المقطع الأخير من (أين) الأخيرة؟. . .

لقد نسلت خيوطها ونسجت سواها. . . وهأنت ذا دائب على المنسج الأبدي الجبار!

هأنذا أعيد تلاوة هذه السطور التي خطتها يدي؛ ولكنها ليست هي كما خطتها، ولست أنا كما كنت لحظة تسطيرها. . . إنك نسلت ونسجت في خيوط يدي ونفسي، وفي حركاتي وخواطري؛ وفي خيوط الصحيفة التي حوتها، وفي خيوط المداد الذي أثبتها. . . وهأنت ذا لا تزال تنسل وتنسج في هؤلاء جميعا ولن يكون شئ منها كما كان مرة أخرى!

أيها الزمان!

ما أعجبك! ما أقدرك! ما أرحمك! ما أقساك!. . .

ص: 27

(حلوان)

سيد قطب

ص: 28

‌على هامش الحرب

الديمقراطية البريطانية

وأثرها في الحرب الحاضرة

تسربت الديمقراطية - كنظام سياسي - إلى العالم، من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تضمن هذا النظام الاعتراف بما نسميه الآن (حقوق الإنسان) وهي حقه في أن يعيش حراً ويتكلم حراً، ويعمل حراً، دون أن يتعرض للتعذيب أو السجن. وكان (أبراهام لنكولن) أول من أعطى الولايات المتحدة حكومة تقوم على المبادئ الأساسية لهذا النظام وقد أثر عنه أنه عرف الديمقراطية بقوله:(هي حكم الشعب، للشعب، بواسطة الشعب)، أو بعبارة أخرى:(هي حكومة ممثلين للشعب من الشعب ينتخبهم الشعب انتخاباً حراً)

أما في إنجلترا فقد كانت أولى الحركات الديمقراطية الكبيرة تلك التي قام بها (الشارتستس) وقد استمدت فلسفتها من أمريكا، ولكنها منيت بالفشل لأسباب عديدة، وما لبثت أن أعقبتها - بعد فترة من الزمن - حركة أخرى رمت إلى تحقيق (التمثيل العام)، وكان أول وأهم الداعين إليها (برايت) صديق (جوبدن) ومن بعده جاء (جلادستون) الذي تسنى له أن يدرس - خلال برلمان 1841 - 46 - كثيراً من مبادئ (جوبدن)

استمدت هذه الحركة وحيها من أقوال الفلاسفة الراديكاليين الذين يرجع إليهم - أكثر من غيرهم - تحديد (النظرية الديمقراطية) وتوضيحها. إلا أن نظام الحكومة في إنجلترا كان قد تضمن - من قبل - بعض المبادئ الديمقراطية. ومن أشهر الوثائق التي أصارت تلك المبادئ قانونا: الوثيقة الشهيرة المعروفة باسم (هاجنا كارتا)، وثيقة الحرية الكبرى لدى الإنكليز: استخلص البارونات هذه الوثيقة من الملك (جون)، وختمت في (رنيهبير) في الخامس عشر من شهر يونيو سنة 1215؛ ومن المبادئ التي تضمنتها:

1 -

لا يبقى أحد في السجن دون محاكمة

2 -

العدالة يجب ألا تباع، أو تؤخر، أو يرفض تحقيقها

3 -

لا يدفع أحد غرامة، ولا يسجن، ولا ينفى إلا بعد محاكمة عادلة، وبموافقة محكمة اللوردات

4 -

اكتسبت الحرية لمدينة (لندن) وعدة مدن أخرى

ص: 29

ثم تأيدت هذه الوثيقة بضع مرات، بواسطة الحكومات التي تولت حكم إنكلترا. وفي سنة 1215 كان السبب الأكبر الذي دعا إلى عقدها، هو الحيلولة بين الملك وبين أن يصبح دكتاتوراً، ويغتصب الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها البارونات، أي أنها كانت في الأكثر لفائدة (الأرستقراطية) ولكن الحقوق التي تضمنتها هذه الوثيقة ما لبثت أن أخذت على التدريج تشمل أفراد الشعب، ثم ما لبثت حكومة البلاد بعد ذلك أن أصبحت في متناول يد كل فرد. وفي النظام الحاضر ما يؤيد ذلك. فمجلس اللوردات يمثل (الأرستقراطية) ومجلس العموم يمثل (الشعب)؛ والمجلس الأخير هو الأشد قوة، والأشمل سلطاناً، ومن حقه على الدوام أن يتأكد من أن مصالح (الشعب) لم تطغ عليها مصالح (الأرستقراطية)

والفرق المهم بين الديمقراطية في إنجلترا، وبينها في غيرها من البلاد، هو أن الديمقراطية في إنجلترا تقوم - أكثر ما تقوم - على التأريخ والتقاليد. وحسبنا أن نعلم أن المجالس النيابية التي هي أهم مظاهر الديمقراطية الحديثة قامت في إنجلترا منذ القرن الثالث عشر!

وثمة فارق آخر بين (الديمقراطية الإنكليزية) وبين زميلتها الأمريكية، هو أن العاطفة الديمقراطية كانت حتى أوائل القرن الحاضر، زراعية في أمريكا، بينما كانت وما تزال في إنجلترا، مدنية صناعية؛ ولا يخفى أن الحال تغيرت في أمريكا في هذا الزمن، فقد أصبحت العاطفة المدنية الصناعية لا تقل، وربما كانت أزيد، من العاطفة الزراعية

ومن الفوارق الأخرى أن الديمقراطية كانت في أمريكا وفي القارة الأوربية قرينة للحركة الوطنية وللحركات العسكرية، بينما كانت الحال عكس ذلك في إنجلترا. أنظر إلى الثورة الفرنسية وإلى حرب الاستقلال الأمريكية، تجد انهما قرنتا الديمقراطية بالقوة العسكرية للدولة، بينما كانت القوة العسكرية في بريطانيا قرينة (نقص في الحرية) ورد الفعل الناجم عن ذلك النقص. واستخدمت إنجلترا قواتها العسكرية في تنظيم الأمم الخاضعة لها أكثر مما استخدمتها في الدفاع عن نفسها، من أجل هذا السبب كانت الديمقراطية الإنكليزية أقل حكومات العالم ميلا إلى الحرب

وقد اصبح (عدم الميل إلى الحرب) هذا فيما بعد خاصية من أهم خواص الأمة البريطانية. ومع أن المعروف هو أن الشعب الذي كان لا يحب شيئا ما، فأنه عادة لا يتقنه، فأن هذه القاعدة تشذ، عندما يكون ذلك الشعب هو الشعب البريطاني، ويكون ذلك الشيء هو

ص: 30

الحرب. عرف ذلك نابليون سنة 1815 وقد بدأ (هتلر) يعرفه الآن

عندما يكون (ذلك الشيء) هو (الحرب)، تبدأ إنجلترا بطيئة؛ ولكن متى بدأت، كان من الصعب إيقاف تلك الآلة الحربية البريطانية الهائلة، بل قل إنها لا تقف حتى ينتهي عملها النهاية الناجحة المرجوة منه. والبدء البطيء والتقدم المتئد يرجعان إلى (الديمقراطية البريطانية)

في بعض الممالك يستطيع الديكتاتور أن يشن حربا متى أراد ذلك، ولكن - في إنجلترا - لا يستطيع أحد أن يقرر شيئا ذا أهمية قومية - بل الحرب - دون موافقة الشعب وتأييده الاختياري له. والإنكليز يكرهون الحرب لأنهم يعلمون أنها مضيعة ومناقضة للصالح العام. وهم يعلمون ذلك لأن حكومتهم تبيح لهم أن يطالعوا الحقائق في جرائدهم، وتشجعهم على أن يفكروا، ويتحدثوا، ويعملوا، بحرية، ومن أجل أنفسهم وهي هذه المعرفة التي تجعلهم يبطئون في إبداء موافقتهم وتأييدهم لحرب يعلمون عنها أنها تقتضيهم التضحية وتحمل الآلام. وهي الحرية التي يتمتعون بها عندما يفكرون لأنفسهم، التي تقنعهم بوجاهة السبب الذي من أجله يحاربون، وهذا كله هو الذي يصح من أجله القول بأنهم متى وافقوا على أن يحاربوا من أجل الحرية، فأنهم يوالون الحرب بشجاعة وقوة، حتى يفوزوا

إنها الديمقراطية التي علمت الإنكليز أن يكرهوا الحرب. وهي هي نفسها التي تعلمهم كيف يقاتلون، وذاك لأنهم يعلمون السبب الذي من أجله يحاربون. أما الدول الدكتاتورية، فالناس لا يدرون: لم يقاتلون؟ وهم هناك يغذون بالأكاذيب والتأريخ الزائف، فلا يجدون مناصاً من الاعتقاد به. وليس ثمة في وقت السلم ما يؤدي إلى ثلم هذه العقائد؛ أما في أوقات الحروب فإنهم يرون أن زعماءهم غذوهم بالأكاذيب والوعود الزائفة؛ وهذا يؤدي بهم إلى فقدان الثقة بالحكومة التي أخطأت قيادتهم، وينتهي بهم الأمر بأن يصيروا عاجزين عن معرفة ما يجب أن يعتقدوه، وهذا يؤثر في روحهم المعنوية كمحاربين، لأنهم متى فقدوا الثقة والعقيدة فقدوا معها الشجاعة والقدرة على تحمل الآلام.

ألا أن من واجب بريطانيا أن تشكر (الديمقراطية) شكرا جزيلا، فهي التي أكسبتها حروبها السابقة، وهي التي سوف تكسبها حربها الحاضرة، التي هي أكبر من كل حرب مضت

م. ح

ص: 31

‌على هامش حادث أليم

للأستاذ عبد الله حسين

روعت البلاد بالحادث الأليم الذي ذهب ضحيته القائمقام محمد شكيب بك؛ إذ أن الناس لا يزالون حين يعرضون لتفصيلات الحادث، تتجاذبهم النواحي المختلفة، وتجيش في صدورهم المعاني والعبر التي انطوت عليه. ولا شك أن كل قارئ قد نظر إلى الحادث النظرة التي تتفق وما شهده من أمثاله وما انتهى إليه من الدراسات والعلوم، وقابل بينه وبين ما وصل إلى مسامعه من أشباهه

ولا مراء في أن من الصور التي يعرض لها الخاطر معاني الانتقام والريبة والوسوسة وضعف السيطرة على الأعصاب، والصلات القائمة بين الرجل والمرأة، وبين القريب وقريبه، وبين الصديق وصديقه، وبين الرجل وعدوه، والوسائل التي تعالج بها المشكلات الإجماعية، حتى يسع المجتمع القضاء على ما يخالف القانون والآداب، وذلك بإزالة البواعث التي تؤدي إلى ارتكاب الجرائم واقتراف الآثام

ومن واجب المصلحين أن يتناولوا بالتفكير والدراسة علل المجتمع، وخاصة إذا ما نزلت كارثة، أو راع الناس خطب عظيم

ولما كان المقام لا يتسع للإفاضة في كل ما انطوى عليه ذلك الحادث الذي ذهب ضحيته ضابط كبير وشاب في مطلع الشباب، بل ذهبت ضحيته فتاة كانت لها آمال في حياة زوجية، وفزع من أجله صديق برئ لا ناقة له في الحادث ولا جمل، اللهم إلا رفقة تبرع بها كرهاً؛ فإننا نحاول في هذه الكلمة أن نعالج معنى من هذه المعاني التي قدمنا الإشارة إليها. ذلك أنني عرفت منذ بضع سنوات أحد الموظفين الذين لم يوفقوا في حياتهم الزوجية لأسباب تتعلق بما كان يملأ رأسه من بواعث الوسوسة والإسراف في سوء الظن، وأن بعض الظن إثم

كان صاحبي هذا يستريب من كل شيء، ويشك في كل حركة، لأنه مصاب بآفة سوء الظن في خلق الله جميعا وفي مقدمتهم المرأة. فكان يعود فجأة إلى داره لكي يقف على ما تفعله زوجه: أظلت قابعة في الدار، أم خرجت على غير انتظار؟ وهل بقيت في ثيابها المنزلية، أم ارتدت ثوبا نظيفا؟ فإذا رآها فعلت ذلك، أطلق لسانه فيها متسائلا عن سر النظافة

ص: 33

ودواعيها، ذاكرا أن هذا لابد قد دعا إليه رغبة في نفسها لكي تلفت أنظار الرجال إليها

فإذا أجابته أنها داخل الدار حيث لن ترى من الرجال غيره، مضى إلى النافذة المحكمة الإغلاق ونظر إلى الشارع، حتى إذا لمح الشرطي يقف هنيهة أمام الدار ويلتفت صعداً قال الزوج لزوجته: هاهو الشرطي يقف أمام دارنا ويحدق نظره في النافذة! إنه عشيقك، ولا شك، وهو ينتظرك ويريد منك أن تتحدثي إليه. . . هاهو يبتسم. إنه يبتسم لك. يا فاجرة. . .

فإذا حدث أن كانت أن تصحب هذه الزوجة زوجها إلى زيارة أقاربها، أطلق لسانه، كلما مر برجل ينظر أليهما نظرة عارضة، مشيراً إلى أن الناظر رجل يعرفها وتعرفه، وأنه يومئ إليها لحاجه في نفس الشيطان!

وهكذا كان أسلوب حياة الزوجين يجري يومياً على هذا المثال، حتى وقع ما ليس منه بد، وهو الطلاق والفراق إلى حيث لا تلاق، حتى آثرت الزوجة المطلقة أن تفر من مطلقها إلى واق الواق. . .!

تلك صورة من صور بعض الأزواج، وتلك حال زوجاتهم معهم، ومن العسير أن يقف الناس على حقيقة، فأن الناس مطبوعون على إساءة الظن بالمرأة ظالمة كانت أو مظلومة

ومن أجل ذلك وجب على الذين يتتبعون عورات المجتمع، ألا تفوتهم دراسة النواحي المختلفة، ألا يتعجلوا بتصديق كل ما يروى، فأن الحياة مليئة بالغرائب والمدهشات والشذوذ. ومن الإساءة إلى الحق وإلى الإصلاح المنشود، أن يستقر الرأي على عقيدة لم تهد إليها دراسة صادقة، ولم ينته إليها تفكير صحيح وإنما بعث عليها وهم قديم أو ظلم مقيم.

عبد الله حسين

ص: 34

‌مرثية محمد محمود باشا

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

دَفَنَتْ وَرَاءكَ فَجْرَهَا الأَيَّامُ

سِيَّانِ بَعْدَكَ ضَحْوَةُ وَظَلَامُ!

نَفَضَ الردَى مَعْنَى الحَيَاةِ بِخَاطِرِي

حَزَناً، وَمَاتَتْ في دَمِي الأنْغَامُ

لَا اللَّيْلُ مَسْحُورُ السُكونِ، وَلَا الضُّحىَ

كَجَبِينِ مَجْدِكَ آلِقُ بَسَّامُ

أَنَا ذَلِكَ الطَّيْرُ الّذِي خَلَّفْتَهُ

وَلَظَى الْهَجِيرِ لِنَوْحِهِ إِلْهامُ

تَرِدُ الأَسَى شَبَّابَتِي فَكأَنَّهَا

حطَبُ يُجَاذِبُ صَفْحَتَيْهِ ضِرَامُ

وَكَأَنَّ عُمْرِيَ زَهْرَةُ بَرَّيَّةُ

لَا الظِّلُّ يُنْعِشُهَا وَلَا الأَنْسَامُ

وَكَأَنَّ رُوحِي في الدُّجى صَبَّارَةُ

بَيْنَ الْقُبُورِ حَدِيثُهَا إِعجَامُ

سُقِيَتْ بدَمْعِ الثاكِلينَ فَأَطْرقَتْ

ثَكْلَى تفَزِّعُ صَمْتَهَا الأَحْلَامُ

ماذا دَهَى وَتَرى وكانَ مُجَلْجِلاً

بِعُلَاكَ تَنْقُلُ شَدْوَهُ الأجْرام؟

شَلَّتْ عَلَيْهِ أنَامِليِ وَتَمَلْمَلَتْ

كَبَدِي وَغَشّتْ حَيْرَتِي الآلام

فَوَجِمْتُ كالمَأخُوذِ أيُّ بَقِيَّةٍ

لِلْوَعْيِ تَنْشُدُهَا بهِ الأوْهَام!

أرْثِيكَ، يَا لِخَطِيئَة الدُّنْيَا وَهَلْ

يَرثِي المَعَانِي الشُّمَّ فِيكَ كَلَام

ضَجَّ الأثِيرُ وَقَدْ رَمَى النِّاعي بهِ

خَبَراً لَدَيْهِ انْشَقَّتِ الأفْهَامُ

وَالنيَّلُ كادَ جَوَى تَمِيدُ ضِفَافُهُ

وَتُصَوَّحُ الرَّبَوَاتُ وَالآجَامُ

وَالشْرقُ جَلَّلَهُ السَّوَادُ، فَقُدْسُهُ

دَامِي الحَشَا، وَعِرَاقُهُ، والشامُ

وَالأرْزُ مُرْتَعِشُ الضَّفَائرِ ذَاهِلُ

بَثَّتْهُ نَارَ جِرَاحِهَا الأهرامُ!

أمُحَمَّدٌ كَذَبَ النُّعاةُ فَلَمْ يَمُتْ

مَنْ رِيعَ يَوْمَ فِرَاقِهِ الإسْلامُ

وَمَن التَقَتْ مِصْرٌ وَرَاَء رِكابهِ

شِيَعاً يُؤَلَّفُهَا أسىً وَوئَامُ

وَمَن اصْطَفاهُ المجْدُ حَتِّى لَم يْكُنْ

إلاّ لهُ صَرْحُ النُّجومِ مَقَامُ

وَمَن انتَضَى الأخْلَاقَ سَيْفاً شَرْعُهُ

أنَّ الغُمُودَ عَلَى السُّيُوفِ حَرَامُ

وَمَن اسْتَعارَ النُّورُ حُجَّتَهُ فَلَا

زَيْفُ وَلا رَهَبْ وَلَا إبْهَامُ

وَمَن اسْتَجارَ القَيْدُ حِينَ أذَاقَهُ

لَهَباَ يَؤُزُّ جَحِيمَه الإقْدَامُ

وَمَن النّزَاهَةُ كالضُّحَى لَا رَأيُهُ

يَزْوَرُّ عَنْ فَمِها ولا الأحكامُ

ص: 35

وَمَن الحَدِيدُ يُفَلُّ دُونَ عِنَادِهِ

إنْ رِامَ كَيْدَ بِلادِهِ ظَلاّمُ

فَلَكٌ يَهابُ الدَّهْرُ بَأسَ مَدَارِهِ

دَارَتْ عَلَيْه بِضَعْفِها الأسْقَامُ

وَطَواهُ مَنْ حَصَد السِّنِينَ بِمِنْجَل

ضَافِي الجَلالِ يُقالُ عَنْهُ: حِمَامُ!

قَدَرٌ رَمَي قدَراً عَلَى رَاحَاتِهِ

يَبْيَضُّ مِنْ لَيلِ الخُطوبِ قَتَامُ

وَأتَاهُ وَالأيامُ حَوْلَ سَرِيرِهِ

أيْدٍ يُرَقرِقُ طُهْرَهَا الإحْرَامُ

تَدْعُو السَّماَء لعَلَّ كَفَّ طبِيِبهِ

رَغْمَ القَضَاءِ يَعُودُهَا الإلْهامُ!

وَالّليلُ تَجْأرُ بِالدُّعاءِ نُجُومُهُ

وَيَئِنُّ تَحتَ قِبابهِ الإظْلامُ

واَلعائدُونَ الجَازِعونَ حَدِيثُهُم

كَدُمُوعِهِم بَاكِي الصَّدَى هَمْهامُ

وَالقَصْرُ مَخْنُوقُ السَّكِينَة شَارِدٌ

سَجَّاهُ فِي لَهَبِ الذُّهولِ مَنَامُ

هَتَكَ الرَّدَى أستارَهُ، فإذا به

قَلْبٌ يُمَزَّقُ صَفْحَتَيِهِ حُسَامُ

وِإذا (مُحَمَّدُ) أُمَّةٌ مَحْمُولَةٌ

فَوقَ الرِّقَابِ تَلُفْها الأعْلَامُ

وَقَصِيدَةٌ دَهْرِيَّةٌ يَبْلَى البِلَى

وَنَشِيدُهَا تَجثُو لهُ الأيَّامُ

مَنْ كانَتِ الدُّنيَا تَهَابُ جِوَارَهُ

أمْسَى يُجَاورُهُ حَصىً وَرِجَامُ

يَا زَيفَ هاتِيكَ الحَيَاةُ! وَيَالَها

دُنيا حَقَائِقَ سِرَّها أوْهَامُ!

لَمَحَتهُ صَحْرَاءُ الإمامِ فَأوْشَكَتْ

يَخْضَرُّ في يَدِها بِلَى وَرِمَامُ

وَتَنَفَّسَتْ نَفَسَ الرَّبِيعِ كأنما

فَضَّتْ فَوَاغِمَ عِطرِهَا الأكمامُ

وَكأنها ظَمأى إلى نَبْعِ الْهُدَى

وَالطُّهْرِ يُقْلِقُهَا صَدىً وأوَامُ

لَمَحَتْهُ فارْتَجَزَتْ مَسَابحُ رَمْلِهَا

لَحْنَ الجَلَالِ وَكَبَّرَ النُّوَّام!

وَتَوَاكَبَ الشُّهَدَاءُ أيَّ مُوَدَّعٍ

هَذا الّذِي خَفُّوا إلَيْهِ وَقَامُوا؟

وَقَفُوا مَع التَّأرِيخِ صَوبَ رِكابِهِ

يَحْدُوُهمُ التَّقْدِيسِ وَالإعْظام

والشَّمسُ شَلاءُ الشُّعَاعِ بَكى لها

لَمَّا بَكَتْكَ إلي المَغيب غَمام

غَرْبِيَّةٌ وَدَّتْ لَوْ انْشَقَّ الدُّجى

وَأضَاَء لَيْلَكَ طَرْفُهَا السَّجَّام

لِمَ لَا وَمَجْدَُكَ سَارَ في أبْرَاجِهَا

وَعُلَاكَ مِنْهَا يُرْتُجَي وَيُرَام!

يَا مُرسِل النَّظَرِ البَعِيدِ بِخاطِرٍ

في غَيبِهِ تَتَعَثّرُ الأحْلام

قالوا السِّياسَةُ قُلْتُ كانَ بهَوْلِها

الفَارِسُ المُتَجَبِّرُ الِمقدَام!

ص: 36

قالوا الأمَانَة قلتُ تِلكَ صَحِيفةٌ

سَيَظَلُّ يَقْرَأهُ بها الأقْوام!

قالوا الصَّراحَةُ قلتُ رِيحٌ عاصِفٌ

بِيَدَيْهِ لا رَيْثٌ ولا إحْجام!

قالوا النَّزَاهَةُ قلتُ تَلكَ شِهادَةٌ

سِيَّانِ فيها الصَّحْبُ والأخْصَام

قالوا النَّبالةَ قلتُ أرْوَعُ آيةٍ

فِيهِ يُسَاجِل نُبْلها الحُكام!

قالوا البيانُ فَقِلتُ عِفةُ مَنطِقٍ

لَمْ تَقتَرِبْ من طُهرِهَا الآثَام!

قالوا النَّدَى فأجَبْتُ واهِبُ عُمْرِهِ

للنِّيل تَعْرِفُ جُودَهُ الأيَّام!

قالوا عُهودُ الشرق قلت شَأتْ بها

لِلخافَقْينِ عَلَى يَدَيْهِ ذِمَامُ

في الدِّينُ في الأخلاق في الحُرَمُ التي

نَادَى بها لِلعَالَم الإسْلَامُ

قالوا. . فقال المَوْتُ أصْبَحَ سِيرَة

سَتَظَلُّ تَرْوِى سِحْرَهَا الأهْرَام

وَأظَلُّ أقْبَسُ مِنْ ظِلالِ خُلودِهَا

مَجداً تُرَقْرِقُ خَمْرَهُ الأنْغامُ

وَتَذُوبُ رُوحيَ كُلّمَا نَادَتْ بهِ

مَن ذَلِك السَّارِي عَلَيْه سَلامُ

محمود حسن إسماعيل

ص: 37

‌مجد بغداد

للأستاذ محمود رمزي نظيم

في سنة 1936 زار مصر وفد عراقي كان بين رجاله شاعر

العراق الكبير الأستاذ معروف الرصافي وألقى قصيدة حيا بها

مصر، ودعا الأستاذ محمود بسيوني رئيس مجلس الشيوخ

يومئذ ورئيس الرابطة العربية الوفد العراقي إلى داره بحدائق

القبة، ونظم صاحب الإمضاء هذه القصيدة يحي بها العراقيين

وشاعرهم، ولم تسمح الظروف بإلقائها ولا بنشرها. وقد رأى

تسجيلها اليوم في الرسالة لتخلد بخلود هذه الصحائف

أهلا بسادة بغداد وشاعرها

من شاد بالشعر ركناً في مفاخرها

تهز أعطافها تيهاً قصائده

لما يصور فيها من خواطرها

في نهضة بعثت بغداد ثانية

دار السلام لباديها وحاضرها

وآمنت برسول المجد أمتها

والمجد ما زال يجري في مشاعرها

الهاشمي دعاها يوم صافحها

بدعوة هي نور في بصائرها

هيهات تذهب بغداد وما صنعت

والله خلد غراً من مآثرها

تلك الرصافة قد عادت مباهجها

والحسن في الجسر مجد في سرائرها

ونهر دجلة فياض كعادته

في المجد يربط ماضيها بحاضرها

فكم ليالٍ تغنت في شواطئه

أصغى الزمان إلى تطريب زامرها

وكم حديث كأزهار الربيع بها

يفيض في الحي من الهام سامرها

وكم مجالس علم حوله عقدت

تجلو القرائح فيها عن جواهرها

واهاً لأيام إخوان الصفاء بها

وللرسائل تتري في محابرها

قد خلد المجد والتاريخ شاعرها

والعلم والنور من تخليد ناثرها

ص: 38

بالدين والعلم قد سادت أوائلها

وهكذا الحال يجري في أواخرها

واليوم عادت لبغداد مظاهرها

بالجيش أو طائرات في حظائرها

قامت لتحمي من الدنيا كرامتها

كرامةُ الناس أمست في عساكرها

يا من نزلتم ضفاف النيل تشبهها

حول الفرات ضفاف من نظائرها

أرض تآخت بغرس في منابتها

كما تآخت شعوب في حواضرها

وفد العراق بلاد النيل ترفقه

كأنما هو نور في نواظرها

إن القلوب التي سُرَّت بمقدمه

تترجم اليوم من أعلى منابرها

بني العروبة حييتم برابطة

تهدي تحيتها في دار كإبرها

دار إذا حلت الأضياف ساحتها

قامت تهلل ترحيبا بزائرها

أهدي التحية تقديراً لشاعركم

إن العروبة في زهو بشاعرها

بالأمس قد عطرت مصراً بتحيته

واليوم يسمع منا مثل عاطرها

(الجيزة)

أبو الوفاء

محمود رمزي نظيم

ص: 39

‌رسالة النقد

الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي

تأليف الدكتور زكي محمد حسن

للدكتور محمد مصطفى

لهذا النقد قصة أطرف بها قراء الرسالة قبل أن أمضي فيه.

وذلك أن المؤلف قد طلب مني أن أكتب عن هذا الكتاب

تقريظاً بالإنكليزية في مجلة الآثار القبطية. فلما قرأته رأيت

فيه مآخذ لا يسمح لي الضمير العلمي أن أسكت عنها، ورأيت

من اللياقة أن أطلعه عليها، فتظاهر باغتباطه لتمحيص الحق،

ولكنه لم يكد يعلم أن النقد أوشك أن ينشر في المجلة حتى

نسى أخلاق العلماء، فحاول أن يمنع المجلة من نشره، وسعى

إلي بالصداقة مرة وبالعداوة أخرى أن أكف عن نشر النقد أو

أعدل فيه، فنزلت بعد لأي على حكم بعض الأصدقاء وحذفت

من النص الإنجليزي بعض الفقرات ولكني رأيت واجب

الأمانة العلمية يقضي بإيثار الحقيقة على الصداقة فعزمت على

نشره كاملا في الرسالة

بدأ المؤلف كتابه ببيان عن الأسرات التي حكمت إيران، ثم أعقبه بالكتابة عن مقام إيران في تأريخ الفنون، وتلا ذلك بتقسيم الطرز الإيرانية في الفن الإسلامي إلى الطراز العباسي، والطراز السلجوقي، والطراز الإيراني المغولي أو التتري، والطراز الصفوي، متناولا

ص: 40

العمارة والخط والتهذيب والتصوير والتجليد والسجاد والخزف والمنسوجات والتحف المعدنية والزجاج والخشب في كل من الطرز السالفة الذكر؛ وخرج من ذلك إلى الكلام عن العناصر الزخرفية الإيرانية في العصر الإسلامي، وتأثير الفن الإيراني الإسلامي على الفنون الأخرى، واختتم ذلك بذكر بعض ميزات الفن الإيراني. وألحق بكتابه بابًا ذكر فيه المراجع، وتلاه بكشاف عام، وفهرس للوحات، ثم أورد اللوحات وخريطة لإيران

وقد كانت إيران كما يقول المؤلف في كلامه عن مقام إيران في تأريخ الفنون (ص11): (ملتقى الفنون القديمة في الشرق الأدنى، ونمت فيها أساليب فنية، تأثرت بفنون بابل وأشور ومصر والهند وبلاد اليونان، وانتشرت في العصور القديمة والعصور الوسطى، وأثرت في فنون الأمم الأخرى)

وكان لفتح الإسكندر الأكبر لإيران، ولأمراء الإغريق الذين آلت إليهم إمبراطورية الإسكندر، أثر كبير في نشر الثقافة الإغريقية في الشرق الأدنى. ثم استولت دولة بني ساسان على مقاليد الحكم في إيران منذ سنة 224 ميلادية، وقضى ملوكها السنين الطويلة في حروب ومناوشات مع الدولة البيزنطية في الغرب إلى أن جاء الفتح الإسلامي ووضع حدا لذلك

ويقول المؤلف (ص12): (ولم تكن تلك الحروب الطويلة في العصر الساساني تمنع الشعب من العناية بالفنون الجميلة بل كانت من أهم عوامل الاتصال بين الشعبين العظيمين في ذلك الحين: الإيرانيون (كذا) والإغريق، فزاد التبادل الفني رغم أنف الفريقين، وتسرب إلى فنون بيزنطة كثير من الموضوعات الزخرفية الإيرانية، ولم تلبث هذه الموضوعات أن اندمجت في الفنون البيزنطية اندماجاً تاماً. ثم نقلتها أقاليم البحر الأبيض المتوسط التي كانت تابعة لبيزنطة في ذلك الحين. ويبدو ذلك واضحا في زخارف كثير من المنسوجات التي عثر عليها المنقبون عن الآثار في مصر العليا، كما يظهر أيضا في كثير من الزخارف التي استخدمت في العصر القبطي، ولا سيما الرسوم المحفورة في الحجر والخشب)

ولكن المؤلف لم يذكر في هذا الفصل شيئا عن مدى هذا (التبادل الفني) بين دولة بني ساسان من جهة وبيزنطة ومصر من جهة أخرى، ولا عن نوع هذه (الأساليب الفنية) و

ص: 41

(الموضوعات الزخرفية الإيرانية)، بل لم يذكر شيئا عن ذلك في أبواب كتابه الأخرى إلا ما كتبه في بابي المنسوجات والتحف المعدنية عن بعض أنواع الزخارف وأشكال التحف الفنية. وقد كنا نود أن نعرف مبلغ هذا التبادل في الأساليب الفنية ومقدار تأثيرها في الفن الإسلامي، إذ أن الإسلام أخذ الشيء الكثير من هذه الأساليب مجتمعة أو متفرقة عن حضارات البلاد التي كانت قائمة قبيل الفتوح الإسلامية، ألا وهي إيران وبيزنطة ومصر، وكون لنفسه منها فنا ذا شخصية خاصة به

أما عن تقسيم الطرز الإيرانية في الفن الإسلامي إلى أربعة طرز مبتدئاً بالطراز العباسي فالسلجوقي فالإيراني المغولي أو التتري ثم الطراز الصفوي، فأن المؤلف لم يذكر لنا الأسباب التي جعلته يفضل هذا التقسيم. وإني لا أتفق مع المؤلف فيما يخص بالطراز العباسي، إذ أن هذه التسمية لا تطابق التقاليد الفنية التي ورثتها إيران عن الساسانيين، لأن حالة سائر الفنون الإيرانية فيما قبل العصر السلجوقي ظلت - كما قال المؤلف في ص214 - (مدة طويلة لا تعرف من التجديد ما يخرجها تماما من دائرة الأساليب الفنية الساسانية). ففي العمارة (ص44)(تطورت الأساليب الساسانية تطورا بطيئا)، وفي التصوير (ص84) أولى مدارس التصوير هي مدرسة العراق أو المدرسة السلجوقية، وفي السجاد (ص148):(أن أقدم السجاجيد الإيرانية المعروفة ترجع إلى العصر السلجوقي) وفي الخزف (ص161)(كانت صناعة الخزف من أهم الميادين التي حاز فيها الإيرانيين المكانة الأولى بين الأمم الإسلامية)، وإذا استثنينا الخزف ذا البريق المعدني الذي اختلف مؤرخو الفن في موطن صناعته - إيران أو مصر أو العراق - فإن أنواع الخزف الأخرى حافظت كلها على الأساليب الفنية الإيرانية، وفي المنسوجات (ص214):(إن صناعة النسيج في إيران ظلت في القرون الأولى بعد الإسلام متأثرة بالطراز الساساني)، وفي التحف المعدنية (ص238)(أن ما صنع منها في العصر الإسلامي ظل محتفظا بالأساليب الفنية الساسانية إلى حد كبير)

ومن العبارات السابقة المنقولة من كتاب المؤلف نجد أن الأستاذ زكي محمد حسين نفسه يعترف باستمرار أثر الفن الساساني في إيران في القرون الأولى من العصر الإسلامي

وإذا استعرضنا تاريخ إيران في العصر الإسلامي نجد أنها ظلت تحت الحكم المباشر للدولة

ص: 42

العباسية في بغداد إلى سنة 205هـ (820م) أي سبعين سنة فقط. فقد قامت في إيران بعد ذلك عدة دول كان بعض أمرائها يدعون أنهم من نسل الساسانيين، وكانوا يشجعون الشعراء والفنانين على إحياء التقاليد الفنية الساسانية وقرض الشعر باللغة الفارسية، فظهر بينهم (رودكي) عميد شعراء الفرس، وكتب الفردوسي ملحمته (الشاهنامة) وهذه الدول هي: الطاهرية والصفارية والسامانية ودولة بني بويه

ويقول المؤلف (ص17): أن الطراز العباسي في إيران يمتاز في الفنون التطبيقية أو الفرعية باستخدام الموضوعات الزخرفية الساسانية مع تهذيب بسيط يجردها في بعض الأحيان من العنف والقوة

وهذا يقارب في مجمله - وإن كان يتناقض في الموضوع - مع ما قاله الأستاذ بوب من أن الطرز الإيرانية أيام حكم الخلفاء العباسيين، استمرت تظهر في صفات الحماسة والبطولة الساسانية، فكل شيء كان بسيطاً وجريئاً وقوياً. . . وفي جهات معينة من إيران تحكم خلق البساطة والقوة هذا في الفنون خمسة قرون أخرى بعد الفتح الإسلامي

وإذا بحثنا في إيران عن تأثير الطراز الإسلامي - أو بعبارة أخرى طراز سامرا (838 - 883م)، وهو أول الطرز الإسلامية الحقة - نجد أن هذا الطراز الجديد في الإسلام يظهر في إيران بعد هجر سامرا بمدة طويلة، أي في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وذلك في جامع نايين، وقد قال الأستاذ بوب في ذلك:

(حوالي سنة 1000 للميلاد نجد الطراز الجديد مجسماً تجسيماً بديعاً في الزخارف الجصية في نايين، وأخذت هوامش نسخ القرآن الشريف تغنى بالرسوم الدقيقة؛ وفي هذا الوقت بدأت تختفي التقاليد الساسانية في الحيوانات الخرافية، ولكن قوة الفن الساساني لم تنهك بعد، بل استمرت في التعبير عن نفسها في الأشكال القوية النبيلة من الأواني النحاسية التي كانت تنادي بما ورثته من شعب الأبطال الساساني بالرغم من التكفيت (التطعيم في النحاس) الذي كانت غنية به، ولا تزال الموضوعات والزخارف الساسانية ترسم إلى يومنا هذا)

ومما تقدم يتبين أن اصطلاح (الطراز العباسي) لا يمكن إطلاقه على الفن الإيراني فيما بين الفتح الإسلامي لإيران والعصر السلجوقي، وكذلك لا يمكن إطلاق اصطلاح (عصر

ص: 43

الانتقال) على هذه الفترة لأن التأثيرات الساسانية الفنية - كما رأينا - استمرت حتى بعد ذلك العصر. وإني اقترح لهذه الفترة استعمال (العصر الإسلامي الأول) وهو نفس التعبير الذي يستعمله مؤرخو الفنون الإسلامية الذين اشتركوا في كتابة كتاب عند تقسيم كلامهم في الموضوعات المختلفة عن الفن الإيراني في العصر الإسلامي

وإذا رجعنا إلى كلام المؤلف نجد أنه لم يستعمل اصطلاح (الطراز العباسي) في كتابه إلا في موضعين اثنين: أحدهما (ص17) عند تقسيم الطرز الإيرانية، والثاني (ص290) حين تكلم عن (أثر إيران في الطراز الإسلامي العباسي). أما في باقي أبواب كتابه فلم يحافظ على هذه التسمية، بل استعمل اصطلاح (فجر الإسلام) متأثرا في ذلك - كما يبدو لي - بطريقة

وفي كلام المؤلف عن الطراز السلجوقي قال في (ص24)(أجل، وفق الخزفيون بمدينة الري في القرن السادس (منتصف القرن الثاني عشر الميلادي) إلى صناعة الخزف ذي البريق المعدني ويسمونه مينائي)

وأظن أن هذا غير ما يقصده المؤلف، لأن الخزف ذا البريق المعدني نوع أخر يختلف عن الخزف المسمى مينائي كما ذكر ذلك فيما بعد (ص168، 189). وأظن كذلك أن المؤلف يقصد هنا النوع الثاني فقط، لأن الخزف ذا البريق المعدني معروف منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)(ص172)، ولأن نسبته إلى إيران لا تزال موضع خلاف بين مؤرخي الفنون (ص169)، وفضلا عن ذلك يقول الأستاذ بوب إن نوع الخزف في البريق المعدني في مدينة الري (أخذ في الانحطاط المستمر منذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وبما يرجع ذلك لسببين: ازدياد ضغط مزاحمة الخزف ذي البريق المعدني المصنوع في مدينة قاشان، وارتقاء صناعة جديدة في نوع معين من الزخارف على الخزف، قدر لها أن ترفع الفن إلى منتهى درجات الكمال) إلا وهي صناعة الخزف المسمى (مينائي)

والآن إذا حذفنا كلمات (الخزف ذي البريق المعدني) من جملة الدكتور زكي السالفة الذكر، فأن العبارة التي تتلوها في كتابه لا تتناسب تماما في معناها مع وصف الخزف من نوع (مينائي)

ص: 44

وفي كلام المؤلف عن العمارة يقول (ص50) تحت عنوان (العقد المدبب الإيراني)، (وفي القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ذاع استخدام العقد المدبب، والذي أصبح من ميزات العمارة الإسلامية. وسرعان ما عم استخدام العقد المدبب في كل العمائر الإيرانية وصار ينسب إلى إيران)، وكذلك في (ص290) يقول المؤلف:(ويمكننا أن نتبين الأساليب الفنية التي انتقلت منها (بغداد) إلى سائر الأقطار الإسلامية، والتي لاشك في أنها إيرانية الأصل، ومن ذلك العقد المدبب)

ولم يذكر لنا المؤلف هنا المراجع التي اقتبس منها والتي جعلته يقطع بأن العقد المدبب إيراني الأصل، مع أنه ذكر بين المراجع التي جمعها في آخر الكتاب عدة كتب عن العمارة. يقول الأستاذ كريسويل في أحدهما ما يأتي:(وهكذا يتبين أن السبعة نماذج الأولى من هذا الشكل (العقد المدبب) توجد كلها في سوريا، وبناء على هذه الحقيقة يجب أن لا نأخذ بآراء الأساتذة رودوكانا كيس وديسو وديل وهرتزفلد الذين يقولون أن العقد المدبب إيراني الأصل)

وهذا رأي جدير بالاعتبار في أن العقد المدبب ليس إيراني الأصل. وقد كنا نود لو أن المؤلف ناقش هذا الرأي لنعلم الأسباب التي جعلته يقطع بأن العقد المدبب إيراني الأصل. وكذلك في كلامه عن الأقباء والقباب والمآذن والمقرنصات لم يذكر من المراجع سوى (دائرة المعارف الإسلامية)

وعلى ذكر المراجع أقول: إنني عندما لاحظت قلة عدد المراجع التي ذكرها المؤلف في حواشي كتابه بالنسبة للعدد الكبير من المراجع التي جمعها في آخر الكتاب، رأيت أن أعدها بنفسي على سبيل العلم بالشيء، فوجدت أنه ذكر في حواشي الكتاب واحدا وستين مرجعاً فقط من المئتين والثلاثة والعشرين مرجعاً المذكورة في آخر الكتاب. وقد كان بودي لو أن المؤلف أكثر من كتابة الحواشي وذكر المراجع التي أخذ منها لتعم الفائدة العلمية. وبهذه المناسبة أقول أن عدد المراجع 221 لا 223 لأن المرجع رقم 4 تكرر في رقم 19، والمرجع رقم 126 تكرر في رقم 130. وإذا أضفنا إلى هذه المراجع 64 مرجعا أخر ذكرها المؤلف في حواشي الكتاب ولم يذكرها مع المراجع في آخره، وكان عدد المراجع التي جاء ذكرها في هذا الكتاب 285 مرجعاً.

ص: 45

(له بقية)

محمد مصطفى

ص: 46

‌البريد الأدبي

حول العصبية في الجماعات الدينية

يا أخي الأستاذ الزيات

السلام عليكم

قرأت الآن مقالك (العصبية داؤنا الموروث) فرأيته نفثة من عربي مصري مسلم يأسى لما جره الخلاف على قومه في ماضيهم وحاضرهم، وبطب لهذا الداء بالحكمة والموعظة الحسنة، فدعوت لك ولكل داع إلى الخير فينا، وسألت الله أن يجمع عقولنا وقلوبنا وأيدينا على الحق والخير. ولكني أخذت على الأخ أنه عدد الجماعات الإسلامية في مصر، بعد أن عدد الأحزاب السياسية، يرى أن هؤلاء وهؤلاء أنشأتهم العصبيات وفرقت بينهم. ولست أرى رأيك في الجماعات الإسلامية التي ذكرت؛ فما أحسب أن تعددها لعصبية أو تنافس، ولكن أراه تعاوناً على مقصد عظيم، تتوسل كل جماعة بإحدى وسائله. وحسبك حجة على ما أقول أن هذه الجماعات لا تختلف فيما بينها ولا تتحاسد ولا يفتري بعضها على بعض؛ وكثيرا ما تتعاون في أعمالها، وأن هذه الجماعات لا ينال القائمين بها إلا إنفاق أوقاتهم وأموالهم ابتغاء الخير ولا يطمع أحدهم في جر مغنم نفسه أو نيل سلطان من وراء عمله.

وقد دعا داع إلى توحيد هذه الجماعات فلم ينفر أحد من هذه الدعوة بل تلقتها الجماعات بالتفكير فيها والنظر إلى ما يرجى منها. وإذا رأوا أن توحيد الجماعات أجدى عليهم، وأقرب إلى غايتهم، فعلوا غير مفكرين في عصبية أو هوى أو رياسة أو جاه.

فإن استثنى الأستاذ الفاضل هذه الجماعات من داء العصبيات كان أقرب إلى الصواب، وحسن الظن، والسلام.

عبد الوهاب عزام

يا أخي الدكتور عزام

إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء، لأني أعلم أن إخوان (قبة الغوري) لم يتآخوا إلا لجمع شتات المسلمين وأجناسهم على كلمة التوحيد، وهم بطبيعة مبدئهم لا ينفرون من دعوة الاتحاد. أما الجماعات الأخر فأن عندي من أخبارهم ما يدل على أن ما

ص: 47

بينهم من التنافس والتحاسد مثل ما بين الأحزاب السياسية من ذلك. ولنا عودة إلى هذا الموضوع

الزيات

شعر ذو وجهين

في أواخر سنة 1940 تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك برتبة (باشا) على الوزير العالم الفيلسوف الشيخ مصطفى عبد الرزاق باشا، وغداة ذلك اليوم أسمعني صديقي الشاعر الشيخ أحمد الزين أبياتاً في تهنئة الوزير على مسمع من زملائنا بدار الكتب وحملني أمانة روايتها إلى معالي الوزير - ولعلي فعلت

وفي فبراير سنة 1941 تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك برتبة (البكوية) على الأديب الكبير الأستاذ أحمد بك أمين، وإذا بمجلة الثقافة تنشر الأبيات نفسها موجهة إلى الأستاذ أحمد أمين بك في عددها الأخير

أما الأبيات فهي:

حبوه بها أم حبوها به

لقد حرت: أيهما يزدهي؟

وما فخر من ليس بالمنتهى

على أن تَقلَّد ما ينتهي!!

لقد نلت ما تشتهي من فخار

ونال بك الفخر ما يشتهي

وليس الشاعر هو الذي (حار) وإنما الحائر

(أنا)

إلى ناقدي لغة في مقالي الثالث

قلت أيها الناقد المشكور: (من النفع والخير أن يخطئ الكبار في حين من الأحايين حتى ينقدوا فتغنى اللغة ويستفيد الناس). وأنا معك فيما تقول، ولكني أزيد:(ومن السهل أن يقال لكاتب عربي قد أصبت، ولكن من الصعب أن يقال له إنك أخطأت). وإنما زدت ذلك لأن لغتنا كثيرة مناحي الصواب، ومن هذه الناحية خذ فيما سألت الجواب:

1 -

أخذت على جمع فخور على فخورين بالتصحيح حاتماً أن يكون جمعه على فخر بالتكسير، تريد أن فخوراً وصف مشترك بين الذكور والإناث وما كان كذلك لا يجمع جمع

ص: 48

تصحيح، ولكنك نسيت أن هذا الشرط محل خلاف بين النحويين، ولم يكن النابذون له آحادا، إنما كانوا الكوفيين جميعا، وبرأيهم أخذت مؤثراً على رأي البصريين لما في تصحيحه من إزالة اللبس، ولأن في سياق عبارتي من التناظر ما يقتضيه، فهو مسبوق فيها بجمعين صحيحين كما نقلت وهي:(ثم سل تلاميذي الذين تتحدث عنهم يخبرونك بما يفحمك مخلصين صادقين وفخورين بتلمذتهم لي). ألست ترى أني لو قلت: (مخلصين وصادقين وفخراً) لضاع جرس الكلام؟

2 -

وأخذت علي إدخال هل في قولي: (فهل لازلت على هذه المباهاة) على ناف وهي لا تدخل على ناف أصلاً محتجاً بقول الرضي، كما أخذت علي في تلك العبارة نفسها إدخال لا على ماض غير مستقبل في المعنى ولم يكرر هو (زال) محتجاً بما بينه المغني. وأنا أسلم بقول الرضي، ولكني لا أسلم بأنها دخلت هنا على ناف، فإن الفعل زال ليس فعلا تاما وإنما هو فعل ناقص يستلزم كسائر أخوته نافياً قبله، ولو حذف لقدرناه، وذلك ليفيد مع هذا النافي الاستمرار ثم هو يكون للمستقبل لا للماضي. ألا ترى أن معنى قولي:(فهل لا زلت على هذه المباهاة) هو: (فهل تستمر على هذه المباهاة). أما إدخال (لا) على ماض غير مستقبل في المعنى إلا مع التكرار ففضلا عن أن المعنى هنا للمستقبل كما تقدم هو محل خلاف، وقد دخلت (لا) في الفصيح على الماضي الصرف من غير تكرار، وقد قال الله تعالى:(فلا أقتحم العقبة)

3 -

ثم أخذت على قولي: (ومع هذا فإليك رأيي في تلك المباهاة) فأهما أن (إليك) معناه تباعد وتنح، ولكن له معنى آخر هو خذ وإياه أردت. قال صاحب القاموس وهو يذكر معاني (إلي) ما نصه:(وإليك عني أي أمسك وكف؛ وإليك كذا أي خذه). على أن عبارتي لا تحتم أن يكون (إليك) فيها أسم فعل بل تسعه على أنه جار ومجرور محذوف المتعلق المفهوم هو (أسوق) مثلا والمعنى صالح على التخريجين

هذا ما به أجيب في إيجاز وهو محقق لما تريد من غنى اللغة واستفادة الناس، وإليك سلامي.

السباعي بيومي

المجمع اللغوي وتشجيع الإنتاج الأدبي

ص: 49

قررت لجنة الأدب - في المجمع اللغوي - وضع القواعد الآتية لتشجيع الإنتاج الأدبي

أولاً: تؤلف اللجنة العامة للأدب ثلاث لجان فرعية: لجنة للشعر، ولجنة للقصة والرواية، ولجنة للمقالات والبحوث الأدبية من نقد وتأريخ ونحوهما

ثانياً: على كل لجنة من هذه اللجان أن تتقصى الإنتاج الأدبي في الفرع الذي أسند إليها؛ وأن تقدم تقريرا في شهر ديسمبر من كل سنة بملاحظاتها للجنة العامة، يشتمل على سير الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي طول العام، وعلى ما يمكن أن يمتاز من الإنتاج في هذا الموضوع امتيازا يقتضي تشجيع صاحبه تشجيعا معنوياً أو مادياً

وعلى اللجنة العامة أن تدرس هذه التقارير في شهري ديسمبر ويناير وتعرض تقريرها على مجلس المجمع في شهر فبراير

ثالثاً: يعقد المجمع جلسة علنية في شهر مارس، تعلن فيها قراراته في ذلك وأسبابها، وينوه فيها بما استحق التنويه به من الآثار الأدبية

رابعاً: ينشئ المجمع بنصف المبلغ المحدد ميزانيته لتشجيع الإنتاج الأدبي جائزتين يمنحان كل عام بعد مسابقة في فرع من الفروع الأدبية يتغير من عام إلى عام

وينشئ المجمع بالنصف الآخر جوائز تمنح لخير ما يكشف من الآثار الأدبية

خامساً: الآثار الأدبية التي تجتاز هي التي تتحقق فيها الشروط الآتية:

(أ) أن يكون الأثر مظهراً للإنتاج المستقل

(ب) أن يأتي في بابه بفائدة محققة

(ج) ألا يكون قد سبق نشره قبل السنة التي تتناولها تقارير اللجان التي سبقت الإشارة إليها

سادساً: لا يجوز لأعضاء المجمع أن يشتركوا في المسابقات ولا يجيزهم المجمع، ولا ينوه بأثر من آثارهم الأدبية

حول مبدع فن المقامات

كثر الكلام في هذه الأيام على نص الآداب الذي يجعل ابن دُرَيد أبا عُذْر المقامات ومبدعها، وقد وقف على هذا النص في هذا العصر الدكتور زكي مبارك أو غيره، وإني وقفت على كلام للشريشي شارح المقامات الحريرية يذكر فيه هذا النص وأرى أن أسوقه هنا وهو

ص: 50

هذا: (وذكر الحصري رحمه الله في كتاب الزهر أن الذي سبب للبديع رحمه الله تأليف مقاماته هو أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن دريد قد أغرب بأربعين حديثا ذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره وأنتخبها من معادن فكره، على طبع العرب الجاهلية، بألفاظ بديعة حوِشَّية. فعارضة البديع بأربعمائة مقامة لطيفة الأغراض والمقاصد، بديعة المصادر والموارد). أنظر ج1 ص12 من هذا الكتاب

محمد علي النجار

من أدب آل عبد الرازق

منذ أيام توفى خادم من خدم بيت آل عبد الرازق، فخرج أهل الفقيد ومعارفه يشيعونه، وخرج فيهم، وسار في مقدمتهم، صاحب المعالي مصطفى عبد الرازق باشا يشيع الفقيد إلى مقره الأخير.

رأى الشاعر ذلك المنظر ففاض إعجابه بهذا المظهر النبيل بهذه الأبيات:

يا مصطفى، إن المكارم لم تزل

فيكم، ومنكم تستمد جمالها

نشأت ببيتكم، فكانت منكمو

نسبا، وكنتم في الحقيقة آلها

إن المعالي عند قوم رتبةٌ

وأراك تشرح للورى أعمالها

أنشر مناهجها على طلابها

واضرب لنا يا مصطفى أمثالها

علم، فإنك كنت خير معلم

إن المكارم أصبحت يرثى لها!

تمشى تشيع خادماً مستعبراً

مستشعرا عند المنون جلالها

وتسير حولك زمرة من جنسه

ألفوا المذلة واكتسوا أسمالها

أنا ما عجبت فإنني أدرى بكم

لكن رأيت الناس قالوا: يا لها!

إن قلت: ما أديت إلا واجباً

قلنا: فمن في مثل فضلك قالها!

عش للمروءة راعيا من بعدما

يَتِمَتْ وأفنى ذا الزمان رجالها

محمد جاد الرب

ولم يسعه إلا أن يرسل إلى معاليه هذه الأبيات، فتلقى من معاليه الرد البليغ الآتي:

حضرة الفاضل الأديب الأستاذ محمد جاد الرب

ص: 51

السلام عليك ورحمة الله وبركاته - أما بعد، فقد تلقيت كتابك البليغ في شعره ونثره، والبليغ في إعرابه عن عواطف نفس فاضلة تسارع إلى التشجيع على مكارم الأخلاق، وتلمح أدنى مظاهر الوفاء فتجعل منها فضلاً كبيراً

ولقد وقع في نفسي أبلغ وقع ما وجهه إلي الأستاذ من كلمات عطف وود، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه، وأن ينفعني ببركة دعائه، ولا يفتنني بعظيم ثنائه. وحيا الله الأستاذ وبياه

مصطفى عبد الرازق

رحلة الشتاء والصيف

كتب الأستاذ أحمد أمين في العدد الهجري الممتاز من مجلة الثقافة (سيرة الرسول في كلمة) وقد جاء في مقالته ما يلي: (وجده هاشم - والضمير يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب إيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. سن لهم رحلة اليمن والحبشة في الصيف، ورحلة الشام في الشتاء الخ. . .) وكان مستنداً في هذا إلى قوله تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)

وقد لحظت الخطأ الظاهر في ذلك القول منذ أول قراءتي المقال، ولكنني كنت أظن أن الأستاذ الفاضل سينتبه إليه، ويعود إلى تصحيحه، وقد مرت بضعة أسابيع دون أن يفعل، فرأيت من الخير أن أعود إلى الموضوع منوهاً عنه بكلمتين. بإذن الأستاذ الزيات عجل الله في شفائه

فمن المعروف أن رحلة الشتاء لم تكن إلى الشام، ولا رحلة الصيف إلى اليمن والحبشة، وإنما الأمر بعكس ذلك تماما؛ وليس من المعقول أن يرحلوا إلى الحبشة واليمن في وقد الصيف وحره، أو يقصدوا الشام في برد الشتاء وزمهريره. وقد جاء في الجزء الثاني من (الكشاف) للزمخشري (الطبعة الأولى المطبعة البهية المصرية سنة 1925) صحيفة 561 سطر 30 - 32 في تفسير الآيتين الكريمتين المذكورتين آنفاً ما يلي:(وكانت لقريش رحلتان، يرحلون (في الشتاء إلى اليمن)، (وفي الصيف إلى الشام)، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يُتَعرضْ لهم، والناس غيرهم

ص: 52

يُتخَطفون ويغار عليهم) وكذلك في البيضاوي وسائر التفاسير

والمسألة قد تكون من باب السهو أو الهفو، وأغلب الظن أنها كذلك؛ إلا أن الخطأ في مثل هذه الأحوال لا يجوز، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على عدم التدقيق. لذا رأيت المبادرة بتصحيح ذلك واجبا لأنه يتعلق بما جاء في القرآن الحكيم، ويمت إلى تأريخ قريش بأسباب، وسبحان من تفرد بالعصمة

نجدة فتحي صفوة

شرح شافية ابن الحاجب للاسترابادي

جمعت شافية ابن الحاجب زبدة فن التصريف في أوراق قليلة، وشرح الاسترابادي عليها شرح جليل المباحث، جزيل الفوائد؛ جمع بين تدقيق ابن جنى، وتعليل الأنباري، وترتيب المنازني، وتمثيل سيبويه. وقد وفق الله السيد محمود توفيق الكتبي فطبع هذا الشرح الجليل مع شرح فوائده للعلامة البغدادي صاحب خزانة الأدب، بعد أن وكل مراجعة أصوله، وضبط مبهماته، وشرح مفرداته، والتعليق على مسائله، لثلاثة أساتذة من خيرة المدرسين في كلية اللغة العربية فجاء الكتاب على خير ما يحب طلاب العربية من دقة التصحيح، وشدة التمحيص، وجودة الطبع

تصويب

جاء في كلمتي في العدد 401 من (الرسالة) - ص304 ما يأتي: والواقع أنه (أي مفتاح) والصواب: (أي مفاتح)

(أ. ع)

تصويب

وقع نظري في عدد الرسالة الممتاز 400 على تحريف لبعض آي الذكر الحكيم، فرأيت أن أنبه عليه، خصوصاً وقد صدرت الأعداد التي تلته خالية من تصحيح ذلك التحريف

ورد في مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف (ص253) استشهاد بقول الله تعالى: (والأرض جميعا قبضته والسموات مطويات بيمينه) والصواب (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة

ص: 53

والسموات مطويات بيمينه)

وفي مقال الأستاذ الدكتور عبد الواحد وافي (ص267) استشهاد بقول الله تعالى: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً محصوراً) والصواب (مدحوراً)

أحمد محمد شكم

ص: 54

‌القصص

سكون العاصفة

للأستاذ محمود البدوي

كان خالد أفندي يتردد على مقهى (الحرية) في مدينة المنصورة أصيل كل يوم. ومع أن المقهى يشرف على النيل، ويقع في أجمل بقعة في هذا البلد؛ فإنه لم يحاول مطلقاً أن يملأ عينيه مما حوله من جمال وسحر. . . فهو لم يشاهد منظر غروب الشمس في النيل، ولا طلوع القمر من وراء السحاب، ولا الزوارق الشراعية وهي تسبح في ظل الغسق. . . كما أنه لم يعبر جسر طلخا قط، ويرى من وراء الجسر من مناظر خلابة في مدى السنين التسع التي قضاها في المنصورة منذ أن نقل إليها كاتباً في تفتيش الري!

وكان يجلس على ناصية الطريق زمن الصيف، فإذا جاء الشتاء انتقل مع الجالسين إلى الجزء الشتوي من المقهى على الرصيف الآخر من الطريق، وألقى بنفسه في مكان ضيق يعج بالخلق ويزهق الأنفاس. هذه المقاهي الغريبة المنتشرة في طول البلاد وعرضها تضم خلقاً عجيباً من صعاليك الأرض، ومحترفي النرد، وأصحاب العقول الذهبية الذين يدخلون أنوفهم في كل شيء على ظهر البسيطة، وينتقدون أنظمة الاجتماع الإنساني قاطبة! ويشعرون بأنهم ضحية نظم فاسدة لا سبيل إلى إصلاحها! فما يعوزهم هو شيء خارج عن نطاق البشرية وحدودها! على أن خالد أفندي كان يختلف عن هؤلاء جميعا، فهو رجل قد جاوز بسنه عمر الشباب، وحاد بتفكيره عن تفكير المخبولين!. . . بيد أنه كان يتفق معهم في الحيرة والقلق، والشعور المطلق بالنقص أبدا، ولهذا ظلت حياته تسير على منوال واحد ممل معذب. . . وكان قد أدرك الجيل الذي يتزوج فيه الشبان قبل الأوان، فتزوج معهم وأنجب، وكان زواجه من فتاة طيبة من أسرة كريمة، والأسر الكريمة كثيرة الود، فالزوجة عند عماتها وخالاتها، وخالات عماتها وعمات خالاتها! كما أنهم محط الرحل في المدينة لكل من يشرف المدينة من الأهل والصحب. ولهذا فر خالد أفندي من المنزل إلى المقهى، وقعد على حافة الطريق يرقب الرائحات والغاديات بعين عطشى. . .

ولما امتد لهب الحرب، وكثر عدد المهاجرين إلى الشرق، اكتظت المنصورة بالخلق، وازدحم منزل خالد أفندي بأفراد أسرته من المدن المعرضة لشر الغارات. فلما مضت الأيام

ص: 55

على غير حادث، وقفت حركة الهجرة، وسئم المهاجرون تكاليف العيش الجديدة ورجعوا إلى بلادهم بالتدريج، ورحل ضيوف خالد أفندي ورحلت معهم زوجته، فقد رافقت أختها إلى القاهرة. وهكذا أصبح خالد أفندي وحيدا في المنصورة، أو أعزب إلى أجل! وتنفس الصعداء، وشعر بالحرية المطلقة في غدوه ورواحه، وراح يحن إلى أيام شبابه ولهوه

وكانت تمر أمامه، بعد غروب كل شمس، فتاة رائعة الحسن جذابة الملامح، من هؤلاء اللواتي تدفعهن الفاقة إلى العمل. كانت تبيع الحلوى، وتمر على الجالسين في المقهى ضاحكة مازحة. وكانت تخص خالد أفندي ببعض وقتها ومزاحها، لأنه رجل وقور حسن السمعة! وكان يمازحها ويتلطف معها في الحديث. ثم يشيعها بنظراته النهمة. وكان جسمها أكبر من سنها بارز المفاتن رائع التكوين. وفي عينيها بريق وإغراء قل أن يجتمعا في عيني امرأة. وكان خالد أفندي يدرك هذه المحاسن كلها ولكنه كان يرد نفسه عنها تورعا. على أنها لما مرت أمامه في ذلك اليوم تتثنى وتميل بجسمها وعلى شفتيها الرقيقتين ابتسامة، وفي عينيها ذلك البريق الأخاذ استوقفها وابتاع منها بعض الحلوى، وهو يضاحكها ويداعبها. ثم همس في أذنها كلاما فتورد وجه الفتاة، وغضت رأسها. ثم مضت عنه، وهي تهز رأسها ضاحكة وغابت في جوف الظلام

وظل ساكنا في مقعده لحظات. وهو ينفض المكان بعينيه ويرقب! ثم اندفع في الطريق الذي سارت فيه، وقد زاده تمنع الفتاة حماسة وثورة. وأوسع المجال لخطاه لما اجتاز المقاهي المتناثرة على حافة النهر حتى بدأ يلهث ونفض جسمه العرق. يا لله. . . إنه يسير الآن في الطريق الذي كان يتنزه فيه مع زوجه وأولاده مساء كل خميس حتى يبلغوا شجرة الدر! لقد مات الآن في نظره كل شيء وانمحت الذكريات وأسدلت الستر على الماضي كله بخيره وشره. وأصبح لا يرى الآن تحت تأثير العاصفة التي ألهبت جسمه وأشعلت النار في كيانه، غير نساء عاريات سابحات في النهر يتضاحكن ويهتفن به!

وبصر بها وهي تجتاز ميداناً صغيراً على رأس الطريق ينعطف إلى المدينة، فجمع حواسه في باصرته، وانطلق في أثرها

ومضى معها تحت ستار الظلام إلى البيت، ودارت ببصرها في جوانب القاعة في تهيب وخجل. ثم جلسا للعشاء، فأرغمها على الشراب، فزال عنها حياؤها بالتدريج، وتفتحت

ص: 56

نفسها، فانطلقت تغني وتتبختر في أرض الغرفة كالطاووس الجميل

ولعباً بعد ذلك الورق وتكدست أمامها أكداس القروش! فرمقته بعينيها وسألته وهي سكرى: (هل تعطيني كل هذه النقود حقا؟) فضحك وطمأنها

وظهر عليها التعب وبدأت تتثاءب. ورف لون وجهها من فعل الخمر، وانفرجت شفتاها، واحمرت عيناها، وثقلت أهدابها وتفككت أوصال جسمها. فارتمت على أريكة بالقرب من المائدة وظلت تحادثه من حين إلى حين، وتنظر إليه بعينيها الناعستين، حتى أحست بلين الفراش فنامت. . .

وبقى في مكانه يحتسي الجمر ويدخن، وعيناه سابحتان في قرار الكأس. ثم رفع بصره إليها وهي نائمة حالمة، وقد تهدل شعرها، وتوردت وجناتها، وظهرت على وجهها كله آيات الطفولة البريئة، وانمحت تكاليف العيش ومظاهر الصنعة من جسمها ونفسها. . . فأشرق روحها وبدت على فطرتها. . . وبان لون جسمها في بياض العاج ونعومة الحرير، وكانت إحدى ذراعيها تحت رأسها والأخرى عند خصرها. . . فتحرك الجسم قليلا وارتفعت الذراع حتى جاوزت العنق، وغاصت الأنامل الرقيقة في الخد المورد، وانحسر الثوب عن الساق، وانزاح الشعر عن الجبين، واهتزت الشفتان قليلا، وتحرك الجسم حركة من يود الصحو؛ على أن الأهداب بقيت مطبقة، والأجفان مسبلة، والنفس هادئاً حالما

ونظر إلى هذه الصورة الرائعة وهو سادر ساهم، فنهض عن مقعده ووقف أمام النافذة المغلقة، وفتح مصراعها، ومر هواء الصيف المنعش على وجهه وأشرف على الليل، وأطل على الوادي الصامت. ورأى لأول مرة في حياته محاسن الطبيعة، وبدائع ما أبدع الله وصور، واعتمد بجسمه على النافذة وبصره يخترق حجب الليل ويعبر النيل والجسر وما وراء الجسر، حيث تتجلى الطبيعة في أروع صورها، وسبحت عيناه في الظلام، واستغرق في تأملاته ومرت في ذهنه صور كثيرة واضحة وغامضة. . . الحرب. . . والغارات. . . والريف. . . والقرية. . . وزوجه. . . وأولاده. . . وشعر بطراوة الهواء ولينه وهو يصافح وجهه، وبجسمه يعود إلى حالته الطبيعية، ورأسه يصفو من فعل الخمر، فانثنى من النافذة، وانطلق يتمشى في أرض الغرفة، وعينيه على الفتاة النائمة ووقف أمامها لحظة. . . ثم انحنى عليها، وحملها على ذراعيه كطفل صغير، ومشى بها إلى مضجعه،

ص: 57

وأضجعها على السرير بحنان ورفق، وأسدل على جسمها ملاءة خفيفة، وأبقى وجهها الناضر عاريا، وأنسحب من الغرفة سائرا على أطراف أصابعه!!

ونام على أريكة في الردهة نوماً عميقاً هادئاً تشوبه ألذ الأحلام

محمود البدوي

ص: 58