الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 404
- بتاريخ: 31 - 03 - 1941
يوم الفقير
تفضل صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا فدعاني أمس إلى زيارته في داره بالزمالك؛ ومن طبعي أن أتهيب الزيارة الأولى لأولئك الذين رفعتهم مواهبهم أو مناصبهم عن مستوى العرف؛ لأن اعتيادهم إمضاء الرأي وإنفاذ الأمر بالصوت الرفيع والسلطان القوي أرهف في نفوسهم الحس بما يجب لهم على الناس من أدب الجلوس ومصطلح الحديث. والرجل الذي يلف رأسه الحياء، ويعقل لسانه التزايل، لا يسهل عليه وهو يستمع إليهم أن يعرف متى يصح أن يسأل، ومتى يجوز أن يعارض، ومتى ينبغي أن ينصرف
على أنني كثيراً ما جلست إلى بعض هؤلاء، جلسة التحفظ والاستحياء، فكنت أشعر بعد قليل أن المهابة تنجلي عني، وأن الجلالة تنسري عنه، حتى أزعم لنفسي أني أفهم للموضوع وأجدر بالحديث. ولكن علي ماهر باشا ليس كأحد من أولئك الطبول! إنما هو رجل - كما توسمته من وراء لفظه - ألمعي الذهن يكتفي منك باللمحة الدالة، رصين اللب لا يحرك لسانه إلا بالكلمة المرادة، رفيع النفس لا يسر في مطاوي حديثه عصبية ولا ضغينة. وأخص ما يميز ماهر باشا رسوخ الطبع الاجتماعي فيه. ولعل نبوغه في القانون الدولي العام على الأخص سر من أسرار هذا الطبع. وأصحاب الفكرة الاجتماعية ينفرون من السياسة الحزبية لأنها فردية مجتمعة، ولا يميلون إلى الأعمال المالية لأنها أثرة محتالة. وإذا طُلبوا إلى الحكم نهجوا فيه منهاج الدين من تنظيم أمر الجماعة، وإصلاح حال العامة، على قدر ما يسعه طوق الإنسان الضعيف من توخي الإحسان وإيثار العدل. فإذا خرجوا منه لم يسعوا للدخول فيه؛ لأن السعي للحكم لا يخلو من خطوات في سبيل الشهوة الذاتية والمنفعة الخاصة. لذلك كان أظهر العزائم وأصدقها في وزارتي علي ماهر باشا سلسلة من الإصلاح الجماعي تتحقق على وجوهها الصحيحة في وزارة الشؤون الاجتماعية والجيش المرابط. وكانت حياة الفلاح والعامل موضوع هذا الإصلاح وموضوعه فلو أن طوارق الحدثان نامت عن مصر حيناً آخر من الدهر لكان من الممكن أن يشعر الفقير بأن له حقاً في خير الله، وحظاً من نصيب الوطن. ولكن الحرب التي تتنمَّر أخطارها على الرمال والمياه من حدود (الوادي) لا تتيح لأولي الأمر أن يرصدوا الأهبة كلها لمعالجة الفقر؛ فلم يكن بد من قيام المعنيين بإصلاح الجماعة ليحلوا هذه المعضلة الأزلية بما حلها به الله، فيجمعوا المبرات، ويجبوا الصدقات، وينظموا الإحسان، ويسهلوا العمل، ويوفروا القدرة
عليه بمكافحة الجهل والمرض؛ وذلك هو مشروع الزعيم الاجتماعي علي ماهر باشا، سماه (يوم الفقير) وجعله يتجدد في تاريخ بعد تاريخ، ويتحدد في إقليم بعد إقليم، ليكون مظهراً جميلاً لأريحية النفوس المؤمنة المحسنة، تتعاون فيه على الخير، وتتنافس في المعروف، وتقيم ركن الإسلام الخامس
حدثني صاب المقام الرفيع عن سياسته الاجتماعية وما يتذرع لها باليوم الثامن والعشرين من هذا الشهر وما يتلوه من أيام أُخر؛ فسمعت لأول مرة كلاماً له معناه، ومنهاجاً له غايته. وكان الأخلق بمن سمع كثيراً من القول، ورأى قليلاً من الفعل، ألا ببالغ في الثقة ولا يسرف في الأمل، لولا أن صاحب الفكرة وممضيها علي ماهر باشا، وهو رجل لم يجرب عليه الناس لغواً في كلام ولا عبثاً في فعل. والحق أن الفقير يستطيع منذ اليوم أن يأوي إلى ركن شديد من عطف المليك ورعاية الحكومة ومعونة الشعب. ولعل مقاومة الحفاء ويوم الفقير هما المحاولتان الجديتان لمحاربة البؤس ومعاونة البائس؛ لأن المشروع الأول يعتمد على إرادة كريمة، والمشروع الآخر يستند إلى إدارة حكيمة. وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية عسية أن تكفي المصلحين هذا الأمر لو أنها انتفعت بما توخاه لها الكتاب من مناهج الرشد؛ ولكنها حصرت معونتها للفلاح في إقامة الموالد لتفريج الهم عنه، وتحرير (المجلة) لمعالجة الأمية فيه! وعسى أن تكون قد بلغت من ذينك مبلغاً يعوض عليها ما تبذل من مال وما تنفق من جهد!
لقد قطعنا سنة من عمر الرسالة في تذكير المترفين بأن لهم أخوة من خلق الله يأكلون ما تعلف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء ما لا يقاسيه حي في غير مصر؛ فلم يؤثر فيهم ما كتبناه إلا كما تؤثر النسمات اللينة في الصخر الأصم. ذلك لأن حق الله في أموالهم قد وكل أداؤه إلى ضمائرهم؛ والضمائر قد نامت على هدهدة الشهوات، والعواطف قد قست على جفاف المادة؛ وبين غفوة الضمائر وقسوة العواطف ذهب وازع الدين ولم يبق إلا وازع السلطان؛ لذلك لا ينتظر ليوم الفقير ما ينتظر لمقاومة الحفاء من الفوز، لأن الدافع هناك رهبة الحكومة أو رغبة (الرتبة)؛ أما الدافع هنا فعاطفة البر وهي في أكثر النفوس رسم دارس بين الجشع والأثرة!
يا أغنياءنا، لقد جربتم بذل المال في اللهو، وقتل العمر في العبث، وفقد الصحة في
المجون؛ فهل كسبتم من وراء ذلك مجداً، أو وجدتم في عواقبه سعادة؟ جربوا ولو مرة واحدة أن تمسحوا دمعة على خد حزين، أو تنفسوا كربة عن قلب بائس، أو تسهلوا طلب العلم لفقير، أو تمهدوا سبيل العمل لمتعطل، أو تشاركوا أبناء الشعب في منفعة عامة؛ ثم انظروا بعد ذلك كيف يشيع في صدوركم الرخاء، ويرتفع بقلوبكم الإخاء، وتنعم نفوسكم في الحياتين بين عاجل المجد وآجل الخلود!
احمد حسن الزيات
نظرة عامة في شؤون الصحافة
لصاحب العزة أنطون الجميل بك
كل شئ كان يغريني بالإقبال على التحدث إليكم هذه الأمسية في كثير من الارتياح، بل من الاشتياق.
فموضوع الحديث (الصحافة) موضوع شائق طريف، يتصل بعملي اليومي، فلا هو غريب عني ولا أنا غريب عنه.
والمحدثون صفوة من الشباب المثقف المتطلع إلى العلم والعرفان، المتوثب إلى الخوض في ميادين البحث والتفكير: طلبة معهد الصحافة، وغيرهم من الذين شرفوني بالحضور من أساتذة الجامعة ورجال الأدب والسياسة والجيش، وصاحبة الجلالة (الصحافة) حرية بمثل هذه البطانة الكريمة.
ومكان الحديث هذا، هيكل من الهياكل المقدسة التي أقامتها الأمم الراقية للحريات: حرية التفكير، وحرية البحث، وحرية الرأي والقول. في جوه تتقابل الأفكار، وتتصادم الآراء، فتشرق من اصطدامها أنوار الحقيقة واليقين ساطعة زاهية، لا تحجبها سحب الشك والرياء، ولا تشوبها شوائب المصانعة والمداراة. وما أشوق الصحفي الذي يكتب في ظل الرقابة والأحكام العرفية إلى مثل هذا الجو النقي الطليق يتنفس فيه ملء رئتيه! فالظروف إذن كلها مواتية للحديث: موضوعاً، ومكاناً، ومستمعين!
لقد وجدتَ مجال القول ذا سعة
…
فإن وجدتَ لساناً قائلاً فقلِ
ومع كل ذلك ترددت في تلبية الدعوة التي وجهها إلى الزميل الصديق الأستاذ محمود عزمي لإلقاء هذه المحاضرة حتى كنت أحجم. لا لأني لم أجد اللسان القائل أو القلم الكاتب أمام جميع هذه الظروف المواتية والمغرية، بل لأن حصر الحديث عن الصحافة في محاضرة هي بطبيعتها ضيقة النطاق، محدودة المجال، ليس من الأمور السهلة في (معهد الصحافة) أمام طلبة يتلقون دروساً مستفيضة على أيدي أساتذة أعلام في أصول هذه الصناعة وفروعها وتاريخها، حتى حذقوا قواعدها وألموا بأسرارها وبكل ما يمت إليها عن قريب أو بعيد. لذلك كان اختيار موضوع هذا الحديث، على سعة المجال، صعباً. ولم يكن أمامي مفر من جعله يدور حول العموميات فأفرغته في لمحة عامة ونظرة إجمالية ألقيتها
إلى الصحافة وشئونها.
تاريخ الصحافة المصرية من بدء عهد الاحتلال هو تاريخ هذه البلاد في ستين سنة. فمن حاول كتابة تاريخ هذه كتب تاريخ تلك في هذه الحقبة الحافلة بالحوادث التي وصلت بنا تطوراتها إلى ما وصلت إليه البلاد من رقي أدبي ومادي، ومن مركز سياسي واجتماعي.
فما من نهضة قومية سياسية إلا وكانت الصحافة قائدها، وما من حركة اجتماعية أو إصلاحية إلا وكانت الصحف رائدها، عليها اعتمد وبها استعان رجال الفكر والعمل: من الشيخ محمد عبده، إلى جمال الدين الأفغاني، إلى قاسم أمين، إلى مصطفى كامل، إلى سعد زغلول، إلى سائر زعماء السياسة والاجتماع. فكانت الصحافة في أيدي هؤلاء القادة - وفي أيدي أنصارهم ودعاتهم - السلاح الماضي للذود عن آرائهم، والبوق النافخ الذي يذيع صيحاتهم في جميع أرجاء البلاد وفيما وراء حدودها.
أي حادث وقع في مصر، وأي إصلاح تم في مصر، ولم يكن الدور الأول فيه لصحف مصر؟ وأي اعتداء وقع على الدستور أو على الحرية ولم تصب شظيته الأولى صحف مصر؟ وإذا عاد كل منا إلى تذكر أول نبضة وطنية نبض بها قلبه، أو أول اختلاجه قومية اختلج بها فؤاده، أو أول ثورة فكرية تأثر بها عقله، وجد أن مصدرها كان مقالاً في صحيفة قرأها أو سمع والده يقرؤها
وهذا الذي نذكره عن مصر يجوز أن نذكره عن كل بلد آخر؛ ولذلك قالوا إن صحافة كل بلاد هي مرآة صادقة لأخلاقها وميولها ومثلها العليا
ومادام هذا مقام الصحافة، فما أكثر الصفات الواجب توافرها في من يتجندون لخدمتها. . . إذا وجبت الأمانة والصدق والإخلاص في كل عمل، فإنها في الصحافة أوجب منها في غيرها؛ لأن ضرر الرجل الذي يخون هذه الواجبات في عمله محصور في نطاق محدود؛ ولكن ضرر الصحفي الذي يخونها يتعدى إلى الألوف، بل عشرات الألوف، بل مئات الألوف الذين يتناولون غذاءهم الأدبي والفكري في كل صباح وكل مساء من الصحيفة التي يقرءون، فيكون لهم فيها الغذاء النافع أو السم الناقع لذلك نرى الصحافة تتدرج وتترقى من الوجهة المادية، فتزاد صفحاتها، وتكثر أبوابها، وتتنوع أنباؤها، ويتفنن في بحوثها ومقالاتها
ولكنها من الوجهة الأدبية، لا تزال شروطها وواجباتها كما كانت بالأمس وكما ستكون في الغد، واحدة لا تتبدل ولا تتغير (صدق في رواية الحوادث والأنباء، وإخلاص في بسط الأفكار والآراء، ونقد حيث ينبغي النقد، وثناء حيث يجب الثناء. ومن وراء كل هذا، العمل على تنوير الأذهان، وتثقيف العقول، وتقويم الميول، ومقاومة الأهواء لإرشاد الرأي العام، وتوجيهه إلى الغرض الأسمى والمثل الأعلى)
نعم ما أكثر واجبات الصحفي! وما أتبعها وأشقها في التنفيذ! ولكن ما أنبلها وأسعدها في النتائج!
قلت في محاضرة ألقيتها منذ أربع سنوات على أسلاف لكم أيها الطلبة النجباء في معرض الكلام عن واجبات الصحافة:
كم لدينا من المشاكل الاجتماعية والعمرانية والمسائل المالية والاقتصادية والشؤون الاشتراعية والإدارية، ينبغي للصحافة أن تعالجها وتقتلها بحثاً وتمحيصاً، لتحييها نشراً وتنفيذاً
إن أمامنا أمة أضر بها النظام الماضي، يجب أن تتعلم، فتعرف أن لها عقلاً يجب تثقيفه، وصحة يجب تدبيرها، وثروة دفينة يجب استغلالها، وأدباً عالياً يجب إحياؤه، وتراثاً مجيداً يجب إنماؤه، حتى تدرك الأمة في نهاية الأمر أنها هي (الأمة مصدر السلطات) حقا. فمن لهذه الواجبات المقدسة غير الصحافة الوطنية، وهي بعد السلطة الاشتراعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية رابعة السلطات؟
إن لنا وطناً كان قد هيض جناحه وشتت قواه، واستبيحت حياضه واعتدى على حماه، فيجب الذود عن حقوقه، والدفاع عن مصالحه وشئونه، وإعلاء كلمته بين الأوطان، ليظل زعيم جيرانه، ويصبح قرناً محترماً بين أقرانه. فمن لهذا الواجب غير الصحف، والصحف كما تعرفون قلاع منيعة من الورق لا تؤثر فيها قنابل المدافع، والأقلام التي تكتب بها مصنوعة من الفولاذ الذي تصنع منه السيوف؟
إن لنا دستوراً، وقد حلفنا يمين الأمانة له، وعلى أساسه قام الحكم النيابي بيننا، فلابد من الدفاع عنه لتصان حرياتنا الدستورية. وكيف تصان هذه الحريات إذا فقدت صحافتنا حريتها؟ إن كلمة (شاتوبريان) أشد انطباقاً على تاريخنا الدستوري منها على تاريخ سوانا
قال: (إذا فقدت البلاد دستورها فإن الصحافة كفيلة بأن تجده وترده إلى البلاد). فلقد ضاع دستورنا أولاً وثانياً، فكانت صحافتنا في طليعة من جد وراءه ورده إلى مصر سليماً. فواجب الصحافة إلا تتخلى عن هذا الواجب
إن على رأس الأمة حكومة يجب أن تعاون في مشروعاتها الإصلاحية، مادية كانت أم أدبية. أما معاونة الصحف للحكومة فتقوم على مناصرتها وتأييدها، كما تقوم كذلك على نقدها ومؤاخذتها في مواطن النقد والمؤاخذة. فكلتا الصحافتين: المؤيدة والمعارضة تقوم بواجبها الصحفي الحق، مادام الإخلاص رائدها والصدق نبراسها، فلا تميل مع الهوى، ولا تذهب مذهب الأغراض الملتوية. ومن المسلم به أن لكل كاتب أسلوبه ولكل صحيفة خطتها: فهذه تأخذ باللين والهوادة، وهذه تعمد إلى الشد والعنف. وأمراضنا الاجتماعية كأمراضنا الجسمية: هذه تحتاج إلى الكمادات والمراهم، وهذه لابد لها من المبضع بعمل فيها عمله. والحكومة الرشيدة ترحب بالنقد العادل ترحيبها بالثناء الحق. وإذا كانت الحكومات تجزع أحياناً مما تقوله الصحف، فإنها أحياناً قد تستهدف للتهلكة من جراء ما لا تقوله الصحف
أعني بذلك أن حرية الكتابة يجب أن تكون مكفولة، وذلك لمصلحة الحكومة نفسها؛ فإن حرية القول هي الوسيلة الوحيدة لوضع حد لاستباحة التمادي في حرية الفعل. ولا أعني بذلك حرية الافتراء والتضليل، كما لا أعني أن تنشر الصحف كل ما تعلم، فللقول ساعات يضر فيها الخطأ ولا ينفع الصواب
هذه واجبات الصحافة. وأكرر القول أنها واجبات كثيرة متشعبة وشاقة. وهيهات أن تستطيع الصحافة النهوض بها وحدها على الوجه المروم، إذا لم تقم الحكومة والأمة بواجبهما نحو الصحف
ولقد سبق لي في موقف آخر أن أفضت في تبيان هذا الواجب، واكتفى اليوم بالقول أن الأمل بحصول الصحافة على ما لها من حقوق بات معلقاً على تأليف (نقابة الصحفيين) ويخجلني أن أذكر أن ليس للصحف نقابة حتى الآن، في حين كاد يصبح عندنا لكل صناعة ولكل مهنة نقابة. وتاريخ المحاولات لتأليف نقابة الصحافة طويل مؤلم. ورد ذكرها لأول مرة منذ نصف قرن. فقد كتب منشئ (الأهرام) - طيب الله ثراء - فصلاً في مثل هذه
الأيام منذ 50 سنة جاء فيه:
(لم نقصد فيما كتبناه مراراً عن الجرائد واتفاقها على (سنديك) ينظر في مصلحتها، إلا لأننا رأينا هذه المبادئ قاعدة جرائد أوربا المتمدنة وأمريكا الحرة
(وشتان بين أهمية جرائدنا وأهمية تلك، وبين الرأي العام هنا وهناك، وبين حكامنا وحكامهم. فأصحاب الجرائد الأوربية أقل احتياجاً منا إلى الاتفاق تحت شروط تضمن نجاح المصلحة، ولنا من أعمال سانيدك الجرائد في باريز ولندره وغيرهما شاهد عدل
(ومهما تتباين مبادئ جرائدنا سياسة. فهي أقل تبايناً من أخواتها في باريز. . . وعند الاتفاق يمكن أن يكون لجرائدنا شأن معهم في خدمة المصلحة العامة بتهذيبها الظالم والمرتشي والمستبد، فضلاً عن الخدمات الجليلة التي تترتب على اتفاقها من نشر المبادئ الصحيحة، والاهتمام بالأعمال العامة. . . فنرجو من زملائنا الذين يعرفون واجبات الجرائد ويعترفون معنا بفضل المشروع أن يهتموا بتحقيقه، ويسعوا إلى الوصول اليه، وكلما أسرعوا في الأمر حققوا للجرائد أغراضها. والله ولي التوفيق)
ومنذ ذلك العهد قام الصحفيين بمحاولات كثيرة لتأليف جمعية أو نقابة لهم، فكانت هذه الهيئات تعمر سنة أو بعض سنة، ثم يجر عليها العفاء ذيوله، إلى أن استصدرت وزارة علي ماهر باشا الأولى مرسوماً في 20 أبريل سنة 1936 باعتماد (نظام جمعية للصحافة)، ولكنه لم يوضع موضع التنفيذ. فوجهت بعد مرور سنة - 18 أبريل سنة 1937 - سؤالاً برلمانياً إلى وزير الداخلية في هذا الموضوع، فردت الحكومة واعدة بالعمل على تأليف هذه الجمعية. ثم مرت الأيام إلى أن انتهى الأمر بتقديم مشروع بقانون إلى البرلمان بإنشاء نقابة للصحفيين
عرض هذا المشروع على مجلس النواب فأقره في العام الماضي. وجاء إلى مجلس الشيوخ فعد له وأعاده إلى النواب، ولكن النواب لم يقروا تعديل الشيوخ. فتألفت لجنة مشتركة من بعض أعضاء المجلسين، وانتهى بها البحث في أوائل هذا الشهر إلى صيغة ارتضتها، وعرضت على النواب فأقروها يوم الأربعاء الماضي (12مارس) وسيؤخذ الرأي عليها مناداة بالاسم في جلسة غد. ثم ترسل إلى مجلس الشيوخ حيث شرفني زملائي بأن أكون مقرراً لهذا القانون. والأمل وطيد بأن يقره المجلس في الأسبوع القادم فيصبح قانوناً نافذاً
ويضمن للصحافة شيئاً من حقوقها الأدبية والمادية لقاء ما عددته مما عليها من الواجبات.
وهذا القانون ينص في مادته الثانية على أغراض النقابة وهي:
1 -
العمل على صيانة حقوق الصحفيين وتحديد واجباتهم
2 -
تنظيم علاقات الصحافة مع الحكومة والجمهور
3 -
سن القواعد المنظمة لمزاولة المهنة الصحفية وبيان العادات المرعية فيها
4 -
تسوية المنازعات ذات الصلة بالمهنة التي قد تنشأ بين أعضاء النقابة أو بينهم وبين غيرهم
5 -
العمل على تحقيق كل مشروع أو عمل من شأنه رفع مستوى الصحافة وإعلاء كرامتها. يحظر على النقابة الاشتغال بأي عمل خارج عن هذه الأغراض)
كما أن المشروع ينص في مادته الرابعة على الشروط التي يجب أن تتوافر في من يرغب في الالتحاق بهيئة الصحافة. وهذا النص ذو أهمية كبرى للعمل على رفع مستوى المهنة فلا يلتحق بها كل من هب ودب، ولا يدعى كل من لا عمل له أنه صحفي. أما هذه للشروط المفروضة على طلب القيد في جدول الصحفيين فهي:
1 -
أن يكون مصرياً
2 -
ألا يقل سنه عن 21 سنة
3 -
أن يكون متمتعاً بالأهلية المدنية
4 -
أن يكون حائزاً لما يؤهله للاحترام الواجب للمهنة
5 -
أن يكون حاصلاً على شهادة دراسية عالية من مصر أو من الخارج، أو أن يكون على درجة الثقافة التي تقتضيها مهنة الصحفي
6 -
أن يكون مالكاً لصحيفة أو ممثلاً له أو مديراً لصحيفة أو لوكالة استعلامات أو رئيس تحرير صحيفة أو محرراً فيها مدة سنتين على الأقل. وفي تطبيق هذه المادة لا تشمل كلمة صحيفة الصحف ذات الموضوعات الخاصة كالجرائد المالية والرياضية والفنية وغيرها، ولا المجلات التي لا تظهر مرة واحدة في الشهر على الأقل
7 -
أن تكون الصحافة مهنته الرئيسية، وألا يحترف التجارة فيما ليست له صلة بمهنته.
وقد فرض المشروع عقوبات على أدعياء الصحافة. فقد نصت المادة 22 على ما يأتي:
(لأعضاء النقابة وحدهم الحق في حمل لقب صحفي. ويعاقب بغرامة لا تتجاوز عشرين جنيهاً مصرياً كل من وصف نفسه علناً بهذا الوصف أو أستعمله مخالفة لأحكام هذا القانون. فإن عاد تكون العقوبة الغرامة التي لا تتجاوز عشرين جنيهاً والحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو إحدى هاتين العقوبتين)
رأيتم أن مشروع القانون الذي تلوت على حضراتكم بعض أحكامه قد عرفنا من هو الصحفي أو الذي يجوز بعد الآن أن يحمل هذا اللقب. فقد اشترط فيما اشترط عليه أن يكون حاصلاً على شهادة عالية أو أن يكون على درجة الثقافة التي تقتضيها مهنة الصحفي.
ذلك أن الصحفي مدعو بطبيعة عمله إلى الكتابة في شتى الموضوعات، وهذا الشرط غير مقصور على الذين يدبجون المقالات ويكتبون ما يسمونه (الافتتاحية) أو بل يمتد إلى الذين يكتبون الأخبار ويترجمون التلغرافات الخارجية. إذ كيف يكتب الصحفي عن الأنباء البرلمانية والوزارية، وعن أخبار القطن والأوراق المالية، وعن أعمال اللجان وسائر الهيئات؟ أم كيف يترجم التلغرافات عن الحوادث العالمية وتطورات السياسة الدولية، إذا لم يكن ذلك المخبر وهذا المترجم كلاهما ملماً بنظام البلد ودستوره ونظمه، ويعلم الاقتصاد والقانون والجغرافيا والتاريخ العام؟ لذلك كان البرنامج الذي يسير عليه أساتذة هذا المعهد (معهد الصحافة) حافلاً بأنواع الدراسات القانونية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية ليخرجوا لنا صحفيين مثقفين يشرفون لقب (الصحفي) عندما يلقبون به ويتشرفون هم بالخدمة في بلاط صاحبة الجلالة
ولعل أحوج ما يحتاج إليه الصحفي إلى جانب ثقافته العامة شيئان: قوة الملاحظة، فترى عينه في مشاهداته ما لا تراه عيون الآخرين، ويلمح خاطره في الحوادث والأنباء ما لا تلمحه خواطر الناس. فإذا قرءوا ما دونه من ملاحظات قالوا:(حقاً. . . إن الأمر لكذلك)
ويحتاج بعد هذا إلى قلم رشيق يترجم عن آرائه وأفكاره، ويدون الملاحظات والمشاهدات في أسلوب لبق بعيد عن الركاكة بعده عن التقعر، وأنتم تقرءون كل يوم الخبر الواحد مصوغاً في أساليب مختلفة: هذا يروقكم ويستوقفكم، وهذا لا تأبهون له فتمرون به مر الكرام. والصحفي أكثر من كل كاتب مفروض عليه الإسراع في الكتابة، فليس أمامه من
الوقت ما أمام الباحث والأديب والمحاضر ليبحث وينقب ويراجع، بل هو مضطر إلى تدوين الأنباء تدويناً خاطفاً، أو إلى التعليق على الحوادث تعليقاً يكون ابن ساعته. فسر الصحافة الحديثة السرعة: السرعة في تلقي الأخبار، والسرعة في إيصالها إلى القراء. وقد جاء انتشار التليفون والتلغراف السلكي واللاسلكي خير معوان لخدمة الصحافة من هذا القبيل؛ وإذا كان (الراديو) قد نهض ينافس الصحافة في سرعة نشر الأخبار، فإن منافسته ستظل محصورة، لأن العبارة المكتوبة لا تزال أحب إلى العقل من العبارة المقولة.
ومادمنا في معرض الكلام عن الأساليب الصحفية وتنوعها فلابد من القول أن صحافتنا في مجموعها قد أصبحت شاملة لكل هذه الأنواع فتوافق جميع الأذواق. فصحافتنا منوعة في مواعيدها: فمنها الصباحية والمسائية، ومنها الأسبوعية والشهرية منوعة في موضوعاتها: فمنها السياسية الأخبارية، ومنها الأدبية العلمية، منها المصورة الفكاهية
منوعة في أسلوبها: فمنها الرزينة المعتدلة، ومنها المتحمسة المندفعة، ومنها المنتقدة اللاذعة
ولا سبيل إلى المفاضلة بين هذه الأساليب، فالأمر راجع إلى ذوق الكاتب ومزاج القارئ. والمهم، أياً كان الأسلوب، أن يكون قائماً على الصدق والإخلاص كما ذكرناه
هذه صفات عامة تتناول جميع كتاب الصحف. وهناك صفات خاصة تتناول كل طائفة من كتاب الصحيفة الواحدة: فللكتاب والمحررين صفات، وللمخبرين والمندوبين صفات، وللمكاتبين والمصححين صفات، وللمترجمين صفات، وللموضبين والذين يتولون عمل (تواليت) الصحيفة صفات، يطول بنا المقام لو شرحناها وفصلنا كل واحدة منها. ولا يقل عمل طائفة من هذه الطوائف التي تحضر الجريدة أهمية عن عمل الأخرى، وإن كان الغرباء عن الصحافة يتصورون خطأ أن الذي يكتب مقالة هو كل شئ في الجريدة
وقبل أن نختم هذا الحديث، فلنفتح صحيفة من صحفنا اليومية لنرى تطبيق ما قدمت. ماذا نجد فيها عادة؟
نجد المقالة أو التعليق على أهم حوادث اليوم
ونجد الأخبار والأنباء التي تتصل بحياة البلد
ونجد الأنباء التلغرافية، وقد طغت في هذه الأيام على سائر أبواب الجرائد نظراً إلى خطورة حوادث الحرب واشتباك جميع المصالح بها
ونجد أيضاً الإعلانات، وقد أصبح الإعلان فناً قائماً بنفسه من حيث الشكل والأسلوب، وهو ركن أساسي في إيراد الجريدة لا غنى لها عنه لتكفل حياتها، أو على الأقل لتكفل استقلالها
قال لي مدير إحدى كبريات الصحف الأمريكية: (كل مشترك جديد في جريدتنا يخسرنا سبعة دولارات، ولكننا نرحب به، لأن (تعريفه) الإعلانات عندنا ترتفع بنسبة زيادة عدد النسخ المطبوعة فتعوض أجرة الإعلانات هذه الخسارة وتعود علينا بربح)
ولا أريد أن أطوي حديثي معكم على هذه البيانات المادية، بل أستميحكم بضع دقائق أخيرة نتحدث فيها عن أسلافنا البعيدين، وهم الصحفيون عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وقد عنيت بهم (الشعراء) فانهم كانوا يدونون حوادث القبيلة أو الربع في قصائدهم، فيتناقلها الرواة. وكم من قصيدة سجلت حوادث القوم ووقائعهم الحربية أو في تسجيل، حتى لكأنها الصحيفة العصرية تسرد الأنباء والأخبار سرداً. . . ودواوين الشعراء زاخرة بهذا النوع من الشعر الإخباري، فنجد فيها الشيء الكثير منه
اسمعوا على سبيل المثال هذين البيتين لبشار بن برد، وقد تكلم في البيت الأول عن الحرب الخاطفة - وضمن البيت الثاني وصفاً لواقعة حربية جاء أشبه شئ ببلاغ من البلاغات الحربية التي نقرأها كل يوم، قال:
بعثنا لهم موت الفجاَءة، إنما
…
بنو الموت خفاق علينا سبائبه
فراحوا: فريق في الإسار، ومثلهُ
…
قتيلٌ، ومثلُ لاذَ بالبحر هاربه
وهكذا كان الشعراء يدونون الحوادث في أشعارهم كما يفعل الصحفيين اليوم في جرائدهم. وكانوا كذلك يقومون بمهمة الإعلان، ولا نعرف (التعريفة) التي كانوا يتقاضونها عن الإعلان في شعرهم
ولعل ألطف إعلان بالشعر ما ذكره كتاب الأغاني، وخلاصته: أن تاجراً من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر - والخمار ما تغطى به المرأة رأسها، وقد عادت (مودته) الآن - فباعها كلها، وبقيت السود منها فلم تتفق، وكان صديقاً للدارمي فشكا ذلك إليه. وكان الدارمي قد نسك وترك الغناء وقول الشعر؛ فقال له:(لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع)، ثم وضع شعراً للغناء:
قل للمليحة في الخمار الأسود
…
ماذا صنعت براهبٍ متعبدِ
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
…
حتى وقفت له بباب المسجد
فشاع غناؤه في الناس، ولم نبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود، حتى نفذ ما كان مع العراق منها
أقف عند هذا الجد، معتذراً عن تقصيري، بأني ما ادعيت قط حصر جميع شؤون الصحافة في محاضرة، بل هي نظرة إجمالية تناولت بعض شؤون الصحافة، ولكم أيها الإخوان، في محاضرات أساتذتكم في هذا المعهد ما يسد الفراغ ويكمل النقص
ولم يبق لي إلا أن أتمنى لكم التوفيق في الصناعة التي اخترتموها لأنفسكم، وهي صناعة شريفة إذا عرفنا أن نحتفظ لها بمكانتها. وكل ما أرجو ألا تخرجوا إلى ميدان العمل إلا وتكون جميع القيود التي قضت الأحوال الحاضرة بفرضها على الصحافة قد سقطت: القيود المادية التي تحدد عدد الصفحات، والقيود الأدبية التي تقيد جولات الأقلام، فتجدوا المجال أمامكم حراً واسعاً، فالصحافة لا تزدهر إلا في جو الحرية والاستقلال
أنطون الجميل
الأدب العربي الحديث في العراق
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - الصلات الأدبية بين مصر والعراق - كيف صارت
العروبة في ديار الرافدين بعد سقوط بغداد؟ - الجدال بين
السنة والشيعة هو الذي حفظ اللغة العربية في عهود الاحتلال
الفارسي والاحتلال التركي - بواكير النهضة الأدبية في
العراق - إحياء الأمجاد العربية - الأدب المجهول - روافد
الأدب العراقي - لمحات من الفروق بين الاتجاهات الأدبية في
مصر والعراق.
تمهيد:
صار من المقرر في وزارة المعارف المصرية أن تكون الترقية من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي مقصورة على من يفوزون في امتحان المسابقة لذلك الترفيع، وهذا نظام يسوق المدرسين سوقاً إلى تزويد عقولهم بما يجد في ميادين الدراسات العلمية والأدبية والاجتماعية
وفي هذا العام يجب على المتسابقين في اللغة العربية أن يؤدوا امتحاناً في الأدب الحديث بمصر وسائر البلاد العربية، وهي مفاجأة لم يستعد لها مدرسو اللغة العربية، لأن الأدب الحديث في غير مصر، لا يعرفه من بين المصريين إلا أفراد سمحت لهم الظروف بأن ينتقلوا في بعض أقطار الشرق من أمثال: المازني والزيات وعزام. فكيف السبيل إلى تعرف اتجاهات الأدب الحديث في بلاد مثل: المغرب واليمن والحجاز وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق؟
وقد دعاني جماعة من المدرسين إلى إنشاء طائفة من البحوث في التعريف بالأدب الحديث في غير مصر من البلاد العربية، فأجبت بعد تردد، لأني أعرف أن ذلك عبء لا ينهض
به رجل واحد، فقد تعددت المذاهب الأدبية في تلك البلاد، وصار من الواجب أن يلتفت إليها عدد كبير من الباحثين ليسجلوا ما فيها من خصائص ذوقية وأدبية واجتماعية
ولو لم تفاجأ (الرسالة) بغلاء الورق، لكان في تنفيذ الاقتراح الذي قدمته إليها في صيف سنة 1939 ما يغني المدرسين المصريين من التعب في تعرف الاتجاهات الأدبية بالأقطار العربية؛ فقد كنت اقترحت أن تصدر (الرسالة) أعداداً خاصة تصور ما بتلك الأقطار من المذاهب الفكرية والأدبية، وتعرف المصريين بأحوال إخوانهم في بلاد لا يعرفون من أخبارها العقلية غير بوارق تنقلها الجرائد والمجلات من حين إلى حين بأسلوب قد يصل في الإيجاز إلى الإخلال
وأنا لم أبتكر الاقتراح الذي قدمته إلى (الرسالة) في صيف سنة 1939، فقد استوحيته من العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة (العرفان) عن مصر، والعدد الممتاز الذي أصدرته مجلة (المكشوف)؛ وهما عددان يفصلان الأحوال الأدبية والاجتماعية في مصر أجمل تفصيل، فإلى هاتين المجلتين أقدم أطيب الشكر وأصدق الثناء
ثم رأيت أن أبدأ بالكلام عن الأدب الحديث في العراق، إلى أن أستعد للكلام عن الأدب الحديث في سائر البلاد العربية، فماذا وجدت؟ وجدت المهمة أصعب مما تصورت، لأن العراق الذي عشت فيه وتعرفت إلى ما عند أهله من آراء وأهواء ونوازع وميول، يحتاج إلى دراسة دقيقة تستنفذ أوقاتاً لا أملك منها غير سويعات قصار أسترقها استراقاً من العمر الموزع بين أعباء ثقال أخفها الجهد إلى أواجه به قرائي من يوم إلى يوم أو من أسبوع إلى أسبوع
فهل أحجم عن مواجهة هذا الموضوع الجليل إلى أن أجد الوقت المنشود؟
سأتوكل على الله وأتحدث عن الأدب العراقي في الحدود التي يسمح بها جهد المقل، وجهد المقل غير قليل. وسيكون الغرض تصوير أدب العراق في أشخاص شعرائه وكتابه بأسلوب يجمع ما تفرق من مذاهب الأدباء بتلك البلاد، إلى أن تسمح الظروف بإعداد كتاب شامل عن العقلية العراقية في العصر الحديث، والله سبحانه هو الموفق
الأدب العراقي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبالبسملة أبتدئ حين أقدم على موضوع تعترضه عقاب وصعاب
وموضوع اليوم هو تحديد المرحلة التي يبتدئ بها الأدب الحديث في العراق، فما هي بداية النهضة الأدبية الحديثة في تلك البلاد؟
كان العراق يحمل مشاعل الثقافة العربية إلى أن أجتاحه المغول في منتصف القرن السابع، فبعدئذ نهضت مصر بما كان ينهض به العراق، وقامت القاهرة بما كانت تقوم به بغداد، ورحبت المدائن المصرية بمئات من العائلات الراقية، ولعل هذا هو السر في التشابه الشديد بين المصريين والعراقيين في النطق ومخارج الحروف، وفي كثير من العادات والتقاليد، بحيث يمكن الحكم بأن المصريين والعراقيين لم يكونوا على بعد الدار إلا أخوة أشقاء نقلتهم الحوادث من بلد إلى بلاد
فكيف صارت العروبة في العراق بعد سقوط بغداد وبعد انتهاء ما تلا عهد المغول من خطوب؟
ظل العراق العربي محتلاً بالقوى الفارسية نحو ثلاثة قرون، وهو أمد يقدر بثلاثة أرقام، ولكنه أمد طويل جداً، وكان يكفي لمحو اللغة العربية لو صادف أمة لا تمت إلى العروبة بعرقٍ أصيل. ثم جاء عهد الترك فأيد عهد الفرس من حيث الاستهانة بمقام اللغة العربية، فماذا صنعت تلك اللغة لتحفظ حيويتها إلى أن يجيء يوم البعث، وهو يوم استقلال العراق؟
ظفرت اللغة العربية في العراق بأسلحة تضر من جانب وتنفع من جوانب، وتلك الأسلحة هي مصادر النزاع والشقاق بين المذاهب السنية والمذاهب الشيعية. فقد تناسى العراقيون بلواهم بالاحتلال الفارسي والاحتلال التركي، وظلوا يتجادلون ويتناقشون بلغة القرآن، وهي اللغة التي حملت إليهم بذور ذلك الخلاف (السعيد)
ومن المؤكد أن المناقشات بين السنة والشيعية فتقت الأذهان وألانت الألسنة في العراق. ومن المؤكد أيضاً أن المساجد هي صاحبة الفضل الأول في تأريث الخصومات العقلية، وهي خصومات عادت بالنفع الجزيل على الأدب والبيان، فمن كان يهمه أن يعرف كيف عاشت اللغة العربية في العراق برغم الاحتلال الفارسي والاحتلال التركي فليسأل أساطين المساجد في البصرة والحلة والموصل وبغداد والنجف وكربلاء
تناسى العراقيون بلواهم بالاحتلال الفارسي والاحتلال التركي وأقبلوا على الجدال في
المفاضلة بين الأمويين والهاشميين، فعاشوا في دنيا من الفكر والعقل والوجدان كانت أجدى عليهم من دنيا السيطرة المالية والسياسية، وبذلك حفظوا لغتهم من التضعضع والفناء. ولله حكمة عالية في خلق أسباب الشقاق بين الرجال.
اللغة العربية في العراق مدينة أثقل الدين للخلافات المذهبية، فتلك الخلافات هي التي أوجبت أن يحرص أقوام على رواية أخبار بني أمية وبني العباس، وإن يحرص قوم على رواة أخبار الحسن والحسين، وكانت جميع تلك الأخبار مصبوبة في قوالب هي الغاية في الفصاحة والبلاغة والبيان
ولو جاز لي أن أستعين هذا الأسلوب من المنطق لقلت أن اللغة العربية لم تنهزم في البلاد الفارسية والتركية إلا بسبب انعدام الخلافات المذهبية في تلك البلاد، فالفرس انحازوا إلى جانب، والترك انحازوا إلى جانب، وبهذا السلام خلوا إلى أنفسهم هنا وهناك فحلت النزاعات القومية محل النزاعات المذهبية، واستغنى أولئك وهؤلاء عن الاستنصار بلغة القرآن
فمن كان غلب عنه أن الخلاف نعمة من نعم الله فليذكر هذه الحقيقة ليعرف أن الله قد يبتلي بالخلاف عباده الأصفياء
عاشت لغة العرب في العراق أجيالاً طوالاً بإسناد مذهبية، فمتى فكر العراق في أن يجعل لغة العرب لغة رسمية بعد انقضاء عهود الخلفاء؟
العراق الحديث
هنا يتسع المجال لبيان الأسباب التي أنهضت العراق العربي في عهده الحديث، فمتى انبثقت شرارة العروبة في العراق؟
ثبت عندي بعد مطالعات كثيرة أن الأدب العراقي كان انطوى على نفسه في عهود الظلمات فلم يكن إلا مطارحات شعرية أو مراسلات نثرية لا تصور صراع العواطف ولا صيال العقول، بغض النظر عن الشجار الذي لم ينقطع بين المذاهب والآراء
فمتى خرج الأدباء العراقيون من صوامعهم ليحدثوا الجمهور عن المطامح السياسية والقومية؟
كان ذلك يوم صار العراق مبعوثون في استنبول، فهنالك وجدوا أخواناً ثائرين على (الدولة
العلية) من رجال مصر واليمن والحجاز والشام ولبنان، ومن أولئك وهؤلاء تكونت جماعات أدبية وسياسية تنتصف للعرب من الأتراك، وتطالب بأن يكون للعرب وجود أدبي وسياسي يسترد الحقوق التي أضاعها الزمان
ولهذه النزعة جذور دخيلة سجلتها بصراحة في كتاب (ليلى المريضة في العراق) ونشرت من أخبارها أشياء فيما تحدثت به إلى قرائي في مجلة الرسالة، ولكن المصير الواحد وإن اختلفت الأسباب، وذلك المصير هو الإيمان الراسخ بأن العروبة فكرة سليمة قد تؤتى أطيب الثمرات إذا تعهدها الوطنيون المخلصون بالرعاية والتشجيع
إذا عرفنا هذا صح لنا القول بأن النهضة الأدبية الحديثة في العراق نشأت مع ثورة الأمم العربية على الدولة التركية، وهي ثورة كانت لها بواعث كثيرة أهمها تطلع تلك الأمم إلى التمتع بنعمة الاستقلال
ومن الواضح أن اللغة العربية كانت أداة التعبير عن تلك الثورة بالتصريح أو التلميح فظهرت مقالات وقصائد ومطبوعات أثارت ما أثارت من نوازع الحمية العربية، وانطلقت الألسنة والأقلام بأدب جديد هو الأدب السياسي، وأريد به الأدب الذي لا يقف عند شرح العواطف الذاتية، ونما يتسامى إلى شرح ما يعاني المجتمع من أزمات قومية كما يصنع الأدب الاجتماعي
تلك الفترة من حياة العراق الثائر على حكم الأتراك هي التي فتحت عيون أدبائه على فنون الأدب الحديث في الديار المصرية والسورية، وهي التي أوحت إليه أن يجعل العروبة عماد سياسته القومية في أكثر الشئون.
ثم ماذا؟ ثم نجا العراق من الاحتلال التركي ليواجه مصاعب خلقها مصاعب الاحتلال الإنجليزي، فماذا صنع وقد استبدل احتلالاً باحتلال؟
كانت شخصيته قد استَحْصَدتْ وقويت، ومازالت تستحصد وتقوى حتى صارت أعز من أن يطمع فيها طامع يعتمد على القوة أو يتوسل باللين، وما هي إلا أعوام قصار حتى شرع العراق ينشر العلوم والمعارف باللغة العربية بعد أن ظلت الفارسية ثم التركية لغة التعليم بتلك البلاد في آماد لا تعد بالأعوام وإنما تعد بالقرون، وبفضل هذه الفتوة رجعت السيادة للغة العرب في بلاد كان لها في خدمة هذه اللغة تاريخ مجيد
وبجانب هذا الفضل في جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع العلوم كان فضل آخر هو الحرص على إحياء الأمجاد العربية والإسلامية، فأكثر الشوارع وأكثر المنشآت لها أسماء عربية وإسلامية، وأغرم الناس هنالك بمقاومة الألفاظ الأجنبية، لتصبح لغتهم جديرة بالمطمح الذي يتسامون إليه وهو إحياء عهد الرشيد
يضاف إلى هذا وذاك حرص العراق على الاتصال بجميع الأمم العربية، أو الأمة لعربية - كما يعبر الأستاذ أبو خلدون - ولذلك الاتصال ألوان مختلفات، فهو يتابع جميع الحركات السياسية في البلاد العربية، ويتابع ما يجد فيها من تطور الآداب والفنون، ويسره أن يقال إن له فاعلية في إحياء التمدن العربي الحديث
وخلاصة القول أن بداية النهضة الأدبية في العراق تؤرخ بثورة العراقيين على الحكم التركي، ثم تؤرخ بجعل اللغة العربية لغة التدريس في عهد الاستقلال
الأدب المجهول
وهنا نقف وقفة قصيرة نشير بها إلى لون من الأدب العراقي تصح تسميته بالأدب المجهول، وهو الأدب الشعبي، الأدب الذي لم يدون، ولن يدون بعد أن صارت اللغة الفصيحة هي الغاية التي يسعى لتأييدها جميع أدباء العراق
فذلك الأدب الذي يتناقله الناس هناك من بلد إلى بلد قد صور طوائف كثيرة من أحلام القلوب، وأوهام العقول، وهو الشاهد على أن العقل العراقي لم يذق طعم الغفوة برغم ما مر بالعراق من أحداث وخطوب تعصف بمنابت الأهواء والآراء
روافد الأدب العراقي
يقال أن الأدب المصري الحديث قد انتفع من اتصال أدباء مصر بالآداب الأوربية، وهو قول حق، فمصر قد نقلت عن أوربا أكثر ما صدر عن أدبائها ومفكريها من المذاهب العقلية والاجتماعية، وقد تكون مصر أول أمة عربية عنيت عناية جدية بنقل آراء أهل الغرب إلى أهل الشرق، ولعلها أول أمة زودت الغرب بعلوم الشرق في أزمان الحروب الصليبية
فما هي الروافد التي أمدت الأدب العراقي الحديث؟
أنا أرجح أن الأدب الحديث في العراق قد انتفع بثلاثة ينابيع: أولها الأدب الفارسي وثانيها الأدب التركي وثالثها الأدب المصري (مع الاحتفاظ بفضل الأدب العربي القديم)
ولكن كيف وصلت إليه بتلك الينابيع؟
الجواب حاضر، فاتصال العراقيين بالأدب الفارسي معروف، ولا يزال بين أدبائهم رجال يسايرون الآداب الفارسية ويتأثرون ما بها من أخيلة وتعابير، وقد يكون فيهم من ينظم الشعر باللغة الفارسية كما صنع الزهاوي يوم ذهب إلى إيران للاشتراك في إحياء ذكرى الفردوسي، وقد يكون فيهم من يؤلف بالفارسية كما يصنع السيد هبة الدين الشهرستاني
واتصال العراقيين بالأدب التركي لا يحتاج إلى بيان، فقد كان جمهور أدبائهم على صلة وثيقة بالتيارات الأدبية في البلاد التركية، وأكثر رجالهم الكبار تلقوا دروسهم العالية في استامبول
أما اتصال العراقيين بالأدب المصري فهو أقوى من اتصال المصريين بالأدب المصري، وهذا كلام يستغربه من تغيب عنه الموازنة بين القراء في مصر والقراء في العراق، فالقراء في مصر لا يعنون بالصحافة الأدبية كما يعنون بالصحافة السياسية، ومن أجل ذلك تفوتهم أشياء وأشياء من النتاج الأدبي. ولا كذلك القراء في العراق فهم يسايرون الصحافة الأدبية في مصر مسايرة جدية، ويعرفون من أخبار الأدب في مصر أضعاف ما يعرف القراء المصريون
فما السبب؟ أيكون شبان مصر أقل ذكاء من شبان العراق؟
لا، وإنما يرجع السبب إلى قوة الصحافة السياسية في بلادنا وضعف الصحافة السياسية في بلادهم، فشبابنا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف ويحولهم إلى جنود سياسيين، وشبان العراق لا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف، ولهذا يقبلون على الصحافة الأدبية إقبالاً يستوجب الثناء
ونصل بهذه المحاولة إلى النص على أن أدباء العراق لهذا العهد ينقسمون إلى جيلين مختلفين بعض الاختلاف: الجيل الوثيق الاتصال بالآداب الفارسية والتركية، والجيل الذي يأخذ أكبر مادة لغذائه العقلي والروحي من الآداب العربية المصرية، والتفريق أو التمييز بين آثار هذين الجيلين لا يحوج الباحث إلى عناء
ولن يمضي زمن قليل حتى يكون من الصعب أن نجد اختلافاً جوهرياً بين أساليب الكتاب والشعراء في مصر والعراق، ويومئذ نضمن اتحاد المشاعر والعواطف والقلوب بصورة لا يبقى معها مجال لدسائس الطامعين في تمزيق الوحدة العربية، وهم أقوام يدخلون من أبواب لا تهتدي إليها الشياطين!
خصائص الأدب العراقي
لكل بلد خصائص ذاتية ترجع إلى طبائع الحياة المحلية. واختلاف الخصائص هو المميز الأعظم لثروة الأدب العربي، وقد تختلف الخصائص في القطر الواحد، كالذي نجد من الفرق بين اتجاهات الأدباء في القاهرة والإسكندرية، أو الفرق بين اتجاهات الأدباء في دمشق وبيروت، أو الفرق بين اتجاهات الأدباء في النجف وبغداد، فمن السهل إذاً أن نعرف أن للأدب العراقي خصائص لا توجد في الأدب المصري، أو توجد فيهما ولكن لا على السواء، وهل انفق الجوهر الذوقي في الرائيات الثلاث: رائية أبي نؤاس ورائية ابن دراج ورائية البارودي؛ وهي قصائد موزعة الذوق الفني بين مصر والأندلس والعراق؟
لا جدال في أن لكل بلد خصائص، فما خصائص الأدب العراقي؟
نقيد (أولاً) أن العراق يميل إلى التحرر من التزام القافية والتزام الوزن في القصيد الواحد، وتلك رجعة إلى نظام الموشحات، ولكنها من حيث الصورة تخالف نظام الموشحات، وأشهر شعراء العراق في الميل إلى هذا التحرر هو الزهاوي. وقد يكون فيهم من انساق مع تيار الموشحات في أغلب ما نظم من القصائد، وأشهر هؤلاء هو الحبوبي
وهذه النزعة وجدت في مصر، ولكن بأخف مما وجدت في العراق، وقد ظهرت ظهوراً قوياً بين الشعراء السوريين واللبنانيين الذين أقاموا دولة للأدب العربي في أمريكا الجنوبية
ونقيد (ثانياً) أن الأدب العراقي يمتاز بالإكثار من الحديث عن الأمم العربية، فلمصر وفلسطين والشام ولبنان صور كثيرة جداً في أشعار العراقيين، ويرجع ذلك إلى هيامهم بزيارة البلاد العربية والى تعرف أكثرهم بمصر عن طريق القراءة أو طريق الدرس، فكثير من أدباء العراق عاشوا في مصر وتزودوا من معاهدها العلمية. وكثير منهم زاروا مصر وعرفوا من أخبارها الصحيحة ما زادهم بها فتوناً إلى فتون، وقد يصفها أحدهم من قبل أن يراها كما صنع الأستاذ شاكر الجودي
وقد اهتم الأدب المصري بوصف البلاد العربية ولكن بأقل مما اهتم الأدب العراقي، وإن كانت قصائد شوقي في وصف مرابع سورية ولبنان سارت مسير الأمثال
ونقيد (ثالثاً) أن الإخوانيات لا تزال مرموقة المكان عند أدباء العراق؛ فهم يتراسلون بالرسائل والقصائد على نحو ما كان يتراسل أسلافهم القدماء
وقد انقرض هذا النوع من الأدب المصري أو كاد، فما عدنا نسمع برسالة كرسالة حفني ناصف إلى توفيق البكري، أو قصيدة كقصيدة المازني في مداعبة العقاد
ونقيد (رابعاً) أن الهجاء لا يزال من الفنون الأدبية في العراق، وإن كان لا ينشر في الجرائد ولا يسجل في المطبوعات؛ وهذا الفن لم يبق له في مصر مجال، وإن كان تهاجى الصحف الحزبية في مصر قد وصل إلى أبعد الآفاق في الغمز والتجريح!
ونقيد (خامساً) أن أشعار المجون لها بقايا في العراق، وهي أشعار تغلب عليها لطافة الدعابة وخفة الروح، وهذا الفن قد انعدم في مصر بموت (الحاج) محمود الهراوي؛ وإنما قلت (الحاج) لأمطر قبره بفكاهة ينتعش بها ثراه، فقد نظم الهراوي قصائد مجونية تفوق مجونيات أبي نؤاس، إن جاز القول بأن الدنيا عرفت ماجناً يفوق أبا نؤاس، إلا أن يكون الماجن هو الهراوي، وكان رحمة الله غاية في التقى والعفاف، ولم ينظم أشعار المجون إلا حباً في تزويد الأدب بمختلف الألوان
ثم نقيد أن للأدب العراقي خصيصة تفوق تلك الخصائص وهي إمعانه في الصدق، فهو صورة لما يعاني العراق من خطوب وما يطمح إليه من آمال، ولو عصر الروح العراقي كما يعصر الورد لكان عصيره دموعاً تشتهيها الحمامة الموصلية يوم فراق الأليف
أما بعد، فهذا تمهيد للكلام عن الأدب العراقي، وهو تمهيد أردنا به تحديد المرحلة التي قطعها العراق ليصل إلى ما وصل إليه من إعزاز اللغة العربية، وأردنا به النص على روافد الأدب وخصائص الأدب في ذلك القطر الشقيق
ومن المحتمل أن يكون في الأحكام التي سقناها في هذا التمهيد ظل من الخطأ الطفيف، ولكنها في الجملة تستند إلى قواعد سليمة من آفات الميل والانحراف. فما الذي سنصنع بعد هذا التمهيد؟
سنتحدث عن الأدب الحديث في العراق بالتفصيل، وبأسلوب يقربه إلى أذهان القراء كل
التقريب، وسنرى ويرى معنا قراء الرسالة في مختلف البلاد العربية أن البلاد التي أنجبت المتنبي والرضي خليقة بأن تؤيد ماضيها الجميل بحاضر جميل
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، واليه أنيب
زكي مبارك
5 - في العقد
لأستاذ جليل
35 -
(ص 221). . . وأنا أنظر متى يرميني بسهم يَقصِد به قلبي. . .
قلت: ضبطت يقصد بفتح الياء وكسر الصاد وإنما هي يُقصد
في الأساس: رماه فأقصد وتقصده: قتله مكانه. قال أبو حية النميري:
رمين فأقصدنَ القلوب ولم تجد
…
دماً مائراً إلا جوى في الحيازم!
وروت النهاية لحميد بن ثور:
أصبح قلبي من سليمى مُقصدا
…
إن خطأ منها وإن تعمُّدا!
36 -
(ص 309) إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر ابن يحيى يوماً إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلو وأفر من أشغال الناس وأتروح، فهل أنت مساعدي؟ قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد الناس بمساعدتك، وآنس بمخالاتك. . .
قلت: إن قصد بـ (أتروح) التروح بنفسه بالمروحة - وما أظن ذلك - فاللفظة في مكانها وإلا فهي (أتوحد) كما جاء في الشرح في (العقد) أو أستوحد، أي أنفرد، أو أستريح
وقوله (بمخالاتك) فيه تحريف، قد يكون أصله بمخالتك أو مخادنتك (أي صحبتك) أو خلوتك أو إخلائك، يعني خلوته وإخلاءه به أو إليه أو معه. و (آنس) هي آنسهم
ومن معاني (المخالاة) في اللغة: الترك. المتاركة. المخالفة. المبارزة. المصارعة. قال: (ولا يدري الشقي بمن يخالي). قال الأزهري: كأنه إذا صارعه خلا به فلم يستعن واحد منهما بأحد. وكل منهما يخلو بصاحبه. وهذا التفسير المتوهم لا ينعش اللفظة المحرفة
37 -
(ص 123) ونظير هذا قول قطري بن الفجاءة:
وقولي كلما جشأت لنفسي
…
من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
…
على الأجل الذي لك لم تطاعي
قلت: رواية البيت الأول هي هذه:
أقول لها وقد طارت شعاعاً
…
من الأبطال ويحك لن تراعي
وهو مطلع مقطوعة رواها أبو تمام في حماسته وابن خلكان في الوفيات. وجاء فيهما بعد ذينك البيتين:
فصبراً في مجال الموت صبراً
…
فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز
…
فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي
…
فداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم
…
وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة
…
إذا ما عد من سقط المتاع
قال ابن خلكان: هذه الأبيات تشجع أجبن خلق الله، وما أعرف في هذا الباب مثلها، وما صدرت إلا عن نفس أبية، وشهامة عربية!
ومن قول قطري:
ألا أيها الباغي البراز تقرين
…
أساقك بالموت الذعاف المقشَّبا
فما في تساقي الموت في الحرب سبة
…
على شاربيه فاسقني منه واشربا
38 -
(ص 190)
أو أبلق ملأ العيون إذا بدا
…
من كل لون معجب - بنَموذج
قلت: البيت للبحتري في قصيدة في الخيل: والرواية في الديوان وشفاء الغليل والتاج هي: أو أبلق (يلقي) العيون. . . ويلقى في هذا المقام أدق من (ملأ) وأكثر بحترية. . .
39 -
(ص 187)
إمليسة إمليدة لو علقت
…
في صهوتيه العين لم تتعلق
وجاء في الشرح: إمليسة إمليدة: أملس أملد، أي لين ناعم. والذي وجدناه في كتب اللغة أن الأمليسة: الصحراء التي لا شئ فيها من نبات ونحوه، فاستعاره الشاعر هنا للفرس
قلت: روى البيت في العقد في قصيدة لحبيب يصف فرساً. وأغلب الظن أن القول هو أمليسه أمليده. والهاء في اللفظتين ضمير يعود إلى (الأديم) في بيت جاء في الديوان المطبوع بعد هذا البيت:
صافى الأديم كأنما ألبسته
…
من سندس برداً ومن إستبرق
والأمليد والأملود الناعم، وإمليس أفعيل من الملامسة، النعومة
40 -
(ص 177) وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدم قلت لست بفاعل
…
أخاف على فخارتي أن تَحطَّما
فلو كان ليَ رأسان أتلفت واحداً
…
ولكنه رأس إذا راح أعقما
قلت: زاد الناسخون الواو في أول البيت وصاحبه لم يجلبه وفي البيت خرم، وهو في شعرهم كثير، والحركة في (لي) تطبيع
41 -
(ص 42) وقال ابن قتيبة: لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قول الشاعر في بعض خلفاء بني أمية:
يغِضي حياء ويغَضي من مهابته
…
فما يُكلم إلا حين يبتسم
وجاء في الشرح: الشاعر هو الفرزدق
قلت: الذي قاله ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) هو هذا: (تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب: ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه كقول القائل:
في كفه خيزران ريحها عبق
…
من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي. . . البيت. لم يقل أحد في االهيبة أحسن منه)
والبيت للحزين الليثي (عمرو بن عبد وهيب) في أبيات قالها في عبد الله بن عبد الملك (ووفد إلى مصر وهو واليها) كما جاء في معجم الشعراء للمرزباني، وقد نسب البيت في كتب كثيرة إلى الفرزدق خطأ، وربه أولى به، وفي الرسالة 316 ص1450 بحث في هذه النسبة وأبيات الحزين
42 -
(ص 144). . . أي المكائد فيها أحزم. قلت: هي المكائد مثل المخايل؛ وهمز قراء معايش على التشبيه بصحائف مخطأ. وقد وردت اللفظة في الشرح وفي الصفحة 243 مضبوطة
43 -
(ص 80)
لو عُدّ وقوم كنت أقربهم
…
قربى وأبعدهم من منزل الذام
قلت: البيت في مقطوعة منسوبة إلى هشام الرقاشي، وقد ذكرت في الشرح روايات مختلفة لها، ورواية الحماسة والخزانة التي لم يشر إليها قد تكون أصحها، وهي هذه
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة
…
وفي العتاب حياة بين أقوام
أدخلت قبليَ قوماً لم يكن لهم
…
في الحق أن يدخلوا الأبواب قدامى
لو عُد قبر وقبر كنت أكرمهم
…
ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام
فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت
…
بباب دارك أدلوها بأقوام
44 -
(ص 354) ومنهم (أي من الأجواد) يزيد بن حاتم. كتب إليه رجل من العلماء يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم. وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناَ، ولا أقللها تجبراً، ولا أستثيبك عليها ثناء، ولا أقطع لم بها رجاء. والسلام
قلت: فبعث إليه بثلاثين ألف درهم، كما جاء بعد ذلك، والتعدية بالباء هنا أسلم، ولقولهم بعثة وبعث به قصة طويلة أنقل بعض ما قيل فيها:
في اللسان: بعثه أرسله وحده، وبعث به أرسله مع غيره. . .
في دره الغواص في أوهام الخواص: ويقولون بعثت إليه بغلام وأرسلت إليه هدية، فيخطئون فيهما لأن العرب تقول فيما يتصرف بنفسه بعثته وأرسلته، كما قال تعالى:(لقد أرسلنا رسلنا)، وتقول فيما يحمل بعثت به وأرسلت به، كما قال سبحانه إخباراً عن بلقيس:(وإني مرسلة إليهم بهدية)
في شرح الدرة للخفاجي: قال ابن بري: بعثت يقتضي مبعوثاً متصرفاً كان أو لا، تقول: بعثت زيداً بغلام وبكتاب، فلهذا لزمته الباء، وكذا أرسلت يقتضي مرسلاً ومرسلاً به منصرفاً كان أو غير متصرف. . .
في المصباح: كل شئ ينبعث بنفسه، فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، وكل شئ لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية، فإن الفعل يتعدى إليه بالباء فيقال بعثت به. وأوجز الفارابي فقال: بعثه أي أهبه، وبعث به: وجهه. . .
وروى خبر (العقد) في (الأمالي) وفيه (روح بن حاتم) مكان (يزيد بن حاتم) و (لا أقللها تكبراً) مكان (لا أقللها تجبراً) و (تمنناً) مكان (امتنانا)
ونقل البغدادي في (الخزانة) هذا الخبر من بن عبد ربه، أي من (العقد)، وفيها (لا أقللها تحقيراً)
وقد حوت خزانة كتب البغدادي نسخة من (العقد)؛ وقد تكون هي الصحيحة المضبوطة. فأين هذه النسخة وأين سائر كتب الرجل التي سماها في مقدمة مصنفه وهي - كما قال -:
(المواد التي اعتمدنا عليها، وانتقينا منها، وهي ضروب وأجناس)؛ وقد (اجتمع عنده بفضل الله من الأسفار، ما لم يجتمع عند أحد في هذه الإعصار)
وقد كان البغدادي في القاهرة، وفيها خزانة كتبه العجيبة المدهشة، والعهد قريب. قال آخر مؤلفه:(وكان ابتداء التأليف بمصر المحروسة في غرة شعبان من سنة ثلاث وسبعين وألف. وانتهاؤه في ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادي الآخرة من سنة تسع وسبعين. فتكون مدة التأليف ست سنين مع ما تخلل في أثنائها من العطلة بالرحلة. فإني لما وصلت إلى شرح الشاهد (69) بعد (600) سافرت إلى قسطنطينية في الثامن عشر من ذي القعدة من سنة سبع وسبعين، ولم يتفق لي أشرح شيئاً إلى أن دخلت مصر المحروسة في اليوم السابع من ربيع الأول ثم شرعت في ربيع الآخر وقد يسر الله التمام وحسن الختام. . .)
ومن الكنوز التي ذكرها في المقدمة: (الكامل للمبرد وشرحه لابن السيد البطليوسي، ولأبي الوليد الوقشي، ولغيرهما. . .)
فأين هذه الشروح؟! أين هذه الشروح؟! هل عثر عليها أحد؟! هل اطلع على أحدها أحد. . .؟!
هل يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند
الشرقيين؟
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك
التراث الشرقي في العلوم والآداب والفنون هو ولا شك تراث مجيد، ولكنه مع ذلك لا يكفي لنضج الحياة العقلية الحديثة عند الشرقيين؛ بل يجب لكي يصل هذا النضج إلى مداه من التقدم أن يجمع إلى التراث الشرقي خير ما أنتجته وتنتجه القرائح والعقل البشري في الغرب. ولا غضاضة علينا في ذلك، فإن الأمم الأوربية نفسها وهي التي تم نضج الحياة العقلية فيها، لا تفتأ كل منها تقتبس عن آية أمة أخرى في الغرب أو الشرق ما يظهر فيها من مستحدثات التجارب والاكتشافات والمذاهب العلمية. ولذلك قالوا: إن العلم لا وطن له، وإن كان العالم له وطنه كما قال (باستور)
إن التراث الشرقي في ذاته لم يقف عند مستوى واحد، ولم يقتصر على طابع واحد، بل كان ينمو ويتطور على مدى العصور. وفي خلال هذا التطور قد اقتبس عن التراث الغربي القديم، وكان ذلك من عناصر نموه وارتقائه
فالآداب والعلوم والحياة العقلية في عصر الجاهلية تختلف طبعاً عما صارت إليه في الإسلام على عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عصر الأمويين والعباسيين؛ وإنتاج القرائح العقول في هاتيك العصور قد نما وتطور تبعاً لسنة التقدم الإنساني، بحيث أن التراث الشرقي يحتوي على أدوار متعاقبة، لكل دور طابعه وخصائصه. ولست أريد التوسع في بيان ذلك لكي لا تخرج عن جوهر الموضوع، واكتفى بالإشارة إلى أن الحياة العقلية والأدبية في عصر العباسيين قد نمت وازدهرت واتسعت آفاقها عما كانت عليه في عهد الأمويين، وكان من مظاهر هذا الازدهار ظهور العلوم الدخيلة أي المقتبسة عما وضعه رجال العلم والفلسفة والأدب في الحضارات القديمة: كالمصريين والفرس واليونانيين والرومان. فإذا قلنا: إن علوم المصريين القدماء والفرس تعد من التراث الشرقي، فإن علوم الإغريق والرومان وآدابهم هي من التراث الغربي القديم
نقل إذن علماء العصر العباسي علوم اليونانيين إلى اللغة العربية، فترجموا الفلسفة والأدب والمنطق عن أفلاطون وأرسطو، والطب عن أبقراط وجالنيوس، والرياضيات والفلك عن
أقليدس وأرخميدس، وغير ذلك كثير، فكان لهذا الاقتباس أثره في نضج العلوم والأفكار واتساع محيط الحياة العقلية عند الشرقيين. ولاشك أن العصر العباسي في التراث الشرقي يعد العصر الذهبي من الناحية العلمية والأدبية والفلسفية. وقد ظهر طابع هذا العصر في الشعر والأدب والعلم والفلسفة، وفي تعدد العلوم وظهور علوم جديدة، كالطب والكيمياء والصيدلة والجغرافيا والموسيقى والفنون الجميلة. فهذا الطابع يدلنا على أن ازدهار الحياة العقلية في التراث الشرقي في ذاته كان مقترناً بالاقتباس عن الحضارات الأخرى
انتهى هذا العصر الذهبي بسقوط الدولة العباسية، أو بعبارة أخرى بسقوط بغداد في يد التتار سنة 656 للهجرة (1258م) وجاء العصر المغولي، ثم العصر العثماني، وفيهما أصاب التراث الشرقي الركود ثم الجمود، وتبع ذلك وقوف حركة التقدم. نعم إن قرائح العلماء والأدباء في الشرق قد استمرت في الإنتاج إلى ابتداء العهد العثماني، ولكن مما لا شك فيه أنه منذ الفتح العثماني لمصر سنة 1517 قد وقفت حركة التقدم تماماً، فكسدت العلوم، وانحط الأدب، وجمدت القرائح، وتراجعت العقول، وانقضت نحو ثلاثة قرون والشرق في تأخر من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بينما الغرب قد أخذ بأسباب الحياة والنهوض فسبق الشرق عدة قرون في النضج العقلي. فبديهي أنه عندما ابتدأ الشرق يستفيق من سباته العميق في نهاية القرن الثامن عشر كان لابد أن يقتبس من الغرب ما سبقه إليه في خلال القرون المتعاقبة؛ لأن العلوم والآداب والاكتشافات والاختراعات قد ضاعفت تراث الغرب بحيث لا يستطيع الشرق أن يأخذ قسطه من الحياة العقلية إلا إذا اقتبس عنه خير ما أنتجته قرائح علمائه وفلاسفته وأدبائه في خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن. فمثل الشرق في ذلك كمثل التلميذ الذي يقعده المرض أو الكسل عن متابعة الدرس والتحصيل زمناً ما، فإذا عاد إلى الدرس كان مضطراً إلى أن يأخذ عن أساتذته أو عن مؤلفاتهم ومذكراتهم ما فاته في مدة المرض أو الكسل لكي يصل إلى مستوى أقرانه في المدرسة
ولم يتردد الغرب حين بدأ عهده بالبعث والنهوض في أن يقتبس عن التراث الشرقي حضارته وعلومه؛ فقد نقل علماؤه فلسفة ابن رشد ودرسوها واقتبسوا منها، وكانت ينبوعاً لليقظة العلمية في الغرب
واقتبسوا أيضاً في عهد الحروب الصليبية العلوم والحضارة الشرقية وحملوها إلى بلادهم وأفادوا منها، وكانت من العوامل الجوهرية في نهضة أوربا
فمن الواجب إذن على الأمم الشرقية إلى جانب إحياء التراث الشرقي القديم أن تقتبس عن الغرب تراثه الجديد، وتأخذ عنه محاسنه ومزاياه. ولو أن حركة التقدم قد تابعت سيرها في الشرق ولم يقفها ذلك التأخر الذي أصابه خلال قرون عديدة لزاد من غير شك تراثه في العلوم والآداب، ولما سبقه الغرب في هذا المضمار. أما وقد بعد عهده بازدهار الحياة العقلية فعليه إذا أراد بعث هذه الحياة أن يقتبس عن الغرب علومه الحديثة. وهذا على وجه التحقيق ما اتجهت إليه حركة النهضة العلمية والعقلية في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، عندما ولى أمرها محمد علي الكبير. فهو إذ أراد أن يبعث الحياة العلمية والعقلية في مصر لم يقتصر على إحياء التراث الشرقي القديم بل نقلها إليها إلى جانب ذلك علوم الغرب وآدابه. وأوفد لذلك البعثات العلمية إلى أوربا فتلقى أعضاؤها العلوم والفنون والآداب في جامعات فرنسا وغيرها وعادوا إلى مصر وقد اكتملت ثقافتهم فنقلوا إلى اللغة العربية كتب الطب والطبيعيات والرياضيات والفنون الحربية والآداب والحقوق والعلوم الاقتصادية والاجتماعية. فهؤلاء العلماء الذين استوفوا قسطهم من التراث الغربي هم الذين على يدهم بعث التراث الشرقي القديم في ثوب قشيب، فعادت إليه الحياة. ولو انهم اقتصروا على هذا التراث وحده لما كان في استطاعتهم بعثه واستظهار مفاخره ومزاياه. فعلى ضوء العلوم الأوربية والثقافة الأوربية قد تكشفت لهم حقائق التراث الشرقي وفهموها حق الفهم، وربطوا بينها وبين عوامل التقدم الحديث بحيث تابعوا هذه العوامل فنهضوا بهذا التراث وجعلوه ملائماً لمقتضيات العصر الحاضر
هناك وجهات نظر ثلاث لا تزال النهضة العلمية والعقلية في الشق مترددة حائرة بينها: إحداها ترمي إلى الاقتصار على التراث الشرقي القديم وإحيائه، وقصر الحياة العقلية على حدوده، ومقتضياته؛ وهذه الوجهة لا تكفي فيما أعتقد لاستكمال أسباب النهضة والحياة في العصر الحديث. والثانية إطراح التراث الشرقي جانباً وقطع صلاتنا بالماضي واقتباس الحضارة الأوربية والعقلية الأوربية كما هي بما لها وما عليها، بمزاياها وعيوبها. وهذه أيضاً وجهة نظر خاطئة تنتهي بنا إلى اقتباس العيوب دون المزايا، وتؤدي إلى نوع من
التبعية العقلية والثقافية لأوربا تتطور مع الزمن إلى تبعية سياسية وقومية. والوجهة الثالثة هي إحياء التراث الشرقي مع اقتباس خير ما أنتجه وينتجه التراث الغربي من الناحية العلمية والأدبية؛ وهي في اعتقادي الطريقة الوسط التي تكفل لنا نهضة صحيحة في الحياة العقلية والفكرية
إني أجد في تاريخ الأستاذ الإمام لشيخ محمد عبده ما يؤيد وجهة نظري؛ فهو الإمام الديني العظيم، ومع ذلك قد اقتبس في علمه وتفكيره عن العلوم والفلسفة الأوربية، وطالع الكثير من كتب العلماء والمستشرقين والفلاسفة الأوربيين. وكان يتابع دائماً حركة التقدم العلمي في أوربا ويخالط العلماء الغربيين ويحادثهم ويأخذ عنهم خير ما أنتجوا. ولقد كان لذلك أثر كبير في اتساع مداركه وتفكيره، بل في قدرته على الدفاع عن الإسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت به في عصور الركود والجمود، وتفهم المسلمين وغير المسلمين حقائقه السليمة. ولا اعتقد أنه كان يصل إلى هذه المنزلة لو اقتصر في علمه وإدراكه على مدارك التراث الشرقي. ولا اعتقد أن معاصريه من العلماء الذين اقصروا على التراث الشرقي قد وصلوا إلى مثل هذه المنزلة أو خدموا الإسلام مثلما خدمه الأستاذ الإمام
فحينما حمل (هانوتو) حملاته المشهورة على الإسلام لم تجد من يرد هذه الحملات ويفندها تفنيداً علمياً سديداً مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكذلك لا تجدون كتاباً دحض حجيج الطاعنين في الإسلام مثل كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ومن يطالع هذا الكتاب أو يطالع رده على هانوتو يجد مبلغ ما اقتبسه عن الفلسفة الأوربية والعلم الأوربي والشواهد الأوربية
قد يكون لنبوغ الشيخ محمد عبده دخل فيما بلغه من ألمكانه ألعلميه، ولكن هذا النبوغ ذاته قد وجهه إلى الاقتباس من التراث الأوربي إذ وجده ضرورياً لاكتمال نضجه وثقافته وعلمه وفي الحديث الشريف:(اطلبوا العلم ولو في الصين)
وصفوة القول أن التراث الشرقي يحتوي ولا شك على كنوز من العلم والحكمة والأدب، ولكننا في حاجة أيضاً إلى كنوز التراث الغربي الحديث لكي يتم لنا النضج والكمال في حياتنا العقلية
عبد الرحمن الرافعي
الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 3 -
أشتد الاتصال بين مصر والغرب منذ أوائل القرن الماضي بتعدد ضروبه، مع الزمن، وتشعِّب دروبه؛ فنمت نزعة المصريين إلى تقليد الغربيين، شأن الَّمتخلف المُستضعَف مع التقدم صاحب الشوكة والغلبة السياسية
وخرج العالم من الحرب الكبيرة الماضية ظمآن إلى التشييد والتجديد والتفوق، مبتلى بأنواع من الفساد وصنوف من الادعاء، وأدرك عندنا جيل نبت في أثنائها أو بُعيدها، واتسع أمامه ميدان التقليد في الضلالة والهدى؛ وكثر بيننا سالكو مناهجه ومدعو العلم والفن، والابتكار والعبقرية؛ فُوجد بطبيعة الحال مَن دعا إلى التجديد في الغناء والموسيقى، والى تقليد الغربيين فيهما، وأقبل عليه فريق من المشتغلين بهما
قام بعضهم بتقليد طائش وهم يحسبون انهم يحتذون مثال الغرب في فنه؛ وكان الأصوب والأجدى ألا يقلدهم إلاَّ من كان على قدر من المعرفة بفنهم، بماهيته الأصلية وأصوله وأنواعه، مع صحة الفهم لتعابيره، كي يكون في مأمن من تشويه ما في يده بأخلاط لا هي من هذا ولا هي من ذاك، كما صنع أناس لا يعرفون من الغناء والموسيقى جملة، إن عرفوا، سوى المقام وربع المقام وبعض النغمات ومواقعها على المعازف، وسوى أقيسة ما يغنون أو يعزفون من الألحان الشرقية والغربية
تورط هؤلاء في تخليط قديمهم المسيخ بما يسرقون ويحرفون من الألحان والموسيقى الغربية القديمة والحديثة، ومن أصوات (الجاز) وهم يسمون هذا الخليط الغريب من ألحانهم وغنائهم وموسيقاهم فناً وتجديداً، مع أن هذا الجديد موصوم بالعيوب المبينة في هذه الكليمات، ومع ركوده في قرار سحيق يبعد به كل البعد عن مستوى الفن الحقيقي الذي أوضحنا ماهيته الأصلية
فكل لحن من أكثر جديدهم ألف صنف (أو سلطة روسية - على استعارة في العامية الفرنسية للمجموع المشوَّش من الأشياء المختلفة) فقد تجد في هذه السلطة العجيبة عبارة صوتية ممسوخة من أوبرا، تتصل بأخرى من شارلستون، تعانق ثالثة من لحن دور عربي
تنتهي إلى نغم من تنجو أو رُمْبا، يتعليق بذنبه شئ من موسيقى (عشرة بلدي) وما ذلك إلا تنافر صارخ بين دلالات موسيقية على مدلولات تجمع غضبة مستفحلة - مثلاً - إلى خلاعة إلى بكاء إلى إيحاء شهوي، إلى ما لسنا نفهم في الغناء الجديد أو المبتكر، من أصوات يمطُّ ويمدُ فيها حرف أو أحرف مداً قلقاً في مواقعه، شاطاً خالياً من التناسب مضحكا في شذوذه؛ وتسمع منها جلجلات مستنكرة ينبو عنها الطبع، وخلخلات مستغربة غالباً، لوقوعها في مواضع ليست لها بين عويل ونواح طويل
واللحن البدِع في الغناء على ذوق الآن (الموضة: مركب أيضاً، بعضه شرقي وبعضه غربي، يولد مسخاً على سنة هذا المذهب الحديث حتى الأغنية العربية التي يلفقونها على أوزان لحن بأكمله من رمبا مشهورة أو تنجو معروف؛ إذ يدخلون فيه عبارات صوتية من ألحان غربية مباينة له وإذ تتنافر مدلولاته الصوتية ومعاني كلام الأغنية في أذن من يدرك اختلاف المقام المعَّين بالنص العربي، والمقام المعين باللحن خصوصاً إذا كان يعرف كلام الأغنية الغربية التي سُرق منها اللحن، فأبشع بهذا الفن الزائف!
الحق أننا لم نفهم غرض القائلين بأن الموسيقى الغربية أقدر من الشرقية الحاضرة، وبأنه يجب من أجل ذلك أن نحتذي على مثل منشئيها في موسيقانا؛ فلم نفطن لما يجمل بنا أن نقّلد فيه الغربيين، بل اعتززنا بفننا الضالّ، محدود الإحساس والمدى توهما منا أن موسيقانا أوسع مجالاً وأقدر بربع المقام الذي به نفاخر ونكابر، ومن قلت عرفته زاد اعتقاده المعرفة
كان الأحرى أن نقلد غناء الغرب وموسيقاه من حيث هما إجهار بالدلالات الصوتية في الكلام، أي لغة نغمية تعبر تعبيره عن خواطر القلب وأحاسيس النفس وجلاجلها، لأن تلك الدلالات مصداق القائل:
(إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا)
نعم، كان الأحرى أن نقلد غناء الغرب وموسيقاه من حيث هما يصفان ما يصف الكلام، ويتناولان مثله شتى الموضوعات من نواحي الحياة الإنسانية وظواهر الطبيعة ومظاهرها التي يتأثر منها الإنسان الحي في أحضانها، لأنهما يسايران دلالة اللفظ الصوتية، مفخمين لها بالإنشاء الغنائي وبالإنشاء الموسيقي، ويصفان مواقف المسرحيات التي تمثل الحياة من
الأوجه المختلفة وكان يحسن أن نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف
ولقد رأى زوار معرض الموسيقى بمدينة فرانك فور الألمانية سنة 1928 أن معازف الغربيين كانت تشبه معازف الشرقيين، وانهم ظلوا يحسنونها ويستحدثون غيرها حتى أصبحت آلاتهم الموسيقية متقنة، ميسرة للمنشئ الموسيقى أن يزوق سياق اللحن الأصلي بألوان من أصواتها تصاحبه وتنمقه وتؤنقه في تواؤم بينها وموافقة له، فتحجب بهذا التصوير كل وحدة مملة وكل اطراد مسئم. وقد يبلغ عدد العازفين في النوبة الكبرى زهاء مائة
ذلك كله هو الشيء الجوهري الذي يجب أن نعالج تقليد الغربيين فيه عسى أن يشبه فننا فن الأحياء في العبارة عن الشعور السليم والمدارك السامية، وإلا فما فضل ربع المقام الزائد؟ وماذا يفيدنا ونحن نقف جامدين به وبالمقامات والنغمات جميعاً عند موضوع واحد محدود ليس فيه غير المذلة البشعة، والحزن القتال، والشهوة الوضيعة؟ ولماذا نرضى بالجمود وليس في فطرتنا الشرقية شئ يمنعنا من التعبير الفني عن حركات ما أودعنا الخالق وأودع الغربيين على السواء من نفس بشرية واحدة وغرائز وملكات متماثلة؟
يعتذر بعض المغنين والموسيقيين عن عيوب فنهم بذوق الجمهور الذي يرتاح إليه ولا يقبل منه بديلاً. وهم على حق من حيث أنهم من هذا الجمهور وأنه يحتملهم، ومن حيث أن الذوق كالمثل الأعلى: ثمرة تنتجها عناصر عديدة منها الوراثة، والبيئة والتطور.
لكن حق كذلك أن من عوامل التطور تأثير البيئة في الأفراد وتأثيرها منهم، خصوصاً من الشخصيات القوية بينهم؛ فالفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وأعلاه مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه، ومن هنا تبعة الفنون الضالة ومسؤولية أصحابها الخلقية في إفساد الأذواق
وحق أيضاً أن أولئك طلاب منفعة وليسوا بفنانين إلا مجازاً، لأن محب فنه لا يضحيه تملقاً للعامة وللجماهير، بل يقدسه قانعاً من الكسب بما يمسك الرمق. وإن شئت مثلاً لتقديس الفن فانظر كيف أن الموسيقار الفرنسي (بيزيه - منشئ موسيقي كرمن، الرواية المشهورة عند فنانينا منذ ألف الخلعي ألحان أغانيها العربية - لم يستسلم لذوق مواطنيه الفرنسيين، حين
استهجنوا هذه الموسيقى الوصفية التي أبدع فيما صور بها من حياة الإسبانيين، ولم يهمل أسلوبه الفني؛ فلما علا قدره بكرمن في عاصمة النمسويين وطار صيته رجعوا عن خطئهم، وعرفوا فضل نابغتهم.
نحن إن كففنا عن العيش في الظلام، وفتحنا بصائرنا لنور الحق، وسلك الموهوبون منا سبيل الإصلاح، ظهر فينا المغنى الأحوزي والموسيقار العبقري
فإذا أتيح للموسيقى والغناء المصريين أن يظهر من محبيهما فنانون لا تعبأ شخصياتهم القوية بغير فنهم، ويعرفون ما عندنا وعند غيرنا، فانهم يئنون بالجديد السليم الذي يسري في النفوس، ويسوق طوائف المحترفين والهواة والمستمعين إلى الطريق القويم فينصلح الذوق العام شيئا فشيئاً؛ ثم يتصعد مستوى الفن مع انتشار التعليم والثقافة، وارتقاء البيئة والحياة الاجتماعية، فنبلغ الشأو بعد حين. ووجود نقاد يدعون إلى سلوك سبل الإصلاح هو علامة أوانه بل آية أبانه.
ومن لم يصدق ما قرأ في هذه الكليمات فإني أوصيه بأن يطلع على بعض كتب الموسيقى الشرقية، وعلى شئ من تاريخ الموسيقى الغربية ومذاهب أصحابها ونقادها؛ وبان يصغي بانتباه إلى مختارات منها بإرشاد من يفهمها؛ ولعله يستيقن بعد ذلك أن سبيل الإصلاح والترقي في الغناء والموسيقى عندنا هو دراستهما دراسة فنية ثقافية جدية، وتقليد الغرب فيما تقدمت الإشارة إليه؛ وليس شك في أن المعارضين يسلمون بهذا في مستقبل قريب أو بعيد، تسليم أناس كانوا قبل سنين أدبرت ينعون على المستنيرين معالجتهم إنقاذ اللغة والأدب من جمود طالما أرادوهما عليه، ويرمون بما ليس دون الكفر كل من قال بوجوب الإصلاح من شئون الأزهر
محمد توحيد السلحدار
من ليالي كليوبترا
للأستاذ علي محمود طه
(كتبت إلى الشاعر تقول: (قرأت لك عن ليلة النيل والموج،
وهو يروي حلم ليل من ليالي كليوبترة، فهلا وصفت لنا ليلة
من هذه الليالي؟ وهل لنا بصورة حلم أحلامها؟)
فإلى صاحبة تلك الإثارة الرائعة إهداء هذه القصيدة)
كِلْيُوُبُتْرَا! أيُّ حُلمٍ مِن لَيالِيكِ الحِسانِ
طَافَ بالموْجِ فَغَنَّى وَتَغَنَّى الشاطِئانِ
وَهَفا كلُّ فُؤَادٍ وَشَدَا كلُّ لِسانِ
هَذِهِ فَاتِنَةٌ الدُّنْيَا وَحَسْنَاء الزَّمانِ
بُعِثَتْ في زَوْرَقٍ مُسْتَلْهَمٍ مِنْ كلِّ فَنِّ
مَرِحِ المِجْدَافِ يَخْتَالُ بِحَوْرَاءَ تُغَنِّى
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي
…
آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
نْبأةٌ كالكأْسِ دَارَتْ بَيْنَ عُشَّاقٍ سُكاَرَى
سَبَقَتْ كلَّ جَنَاحٍ في سماءِ النِّيلِ طَارَا
تَحْمِلُ الْفِتْنَةَ وَالْفَرْحَةَ وَالوَجْدَ المُثَارَا
حُلوَة صَافِيَةَ اللَّحْنِ كأَحْلَامِ الْعَذَارَى
حُلْمُ عَذْرَاءَ دَعَاهَا حُبُّهَا ذَاتَ مَسَاءِ
فَتَغَنَّتْ بِشِرِاعٍ مِنْ خَيَالِ الشُّعَرَاءِ
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي
…
آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
وَتَجَلَّى الزَّوْرَقُ الصَّاعِدُ نَشْوَانَ يَمِيدُ
يَتَهَدَّاهُ عَلَى الَموْجِ نَوَاتِيُّ عَبِيدُ
المَجَادِيفُ بِأَيدِيهِمْ هُتَافٌ وَنَشيدُ
وَمُصَلُّونَ لَهُمْ في النَّهْرِ مِحْرَابٌ عَتِيدُ
سَحَرَتْهُمْ رَوْعَةُ الَّليْلُ فَهُمْ خَلْقٌ جَدِيدُ
كلُّهُمْ رَبٌّ يُغنِىِّ وَإلهٌ يَسْتَعِيدُ
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي
…
آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
إِصْدَحِي أَيَّتُهَا الأرْوَاحُ باللَّحْنِ الْبَدِيعِ
وَامْرَحِي يَا رَاقِصَاتِ الضَّوْءِ بالَموْجِ الْخَلِيعِ
قَبِّلِي تَحْتَ شِرَاعِي حُلُمَ الْفَنِّ الرَّفيعِ
زَوْرَقاً بَيْنَ ضِفَافِ النِّيلِ في لَيْلِ الرَّبيعِ
رَنَّحَتْهُ مَوْجَةٌ تَلْعَبُ في ضَوْءِ النُّجُومِ
وَتُنَادِى بِشُعَاعٍ رَاقِصٍ فَوْقَ الْغُيُومِ
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي
…
آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
لَيْلُنَا خَمْرٌ وَأشْوَاقٌ تُغَنِّى حَوْلَنَا
وَشِرَاعٌ سَابحٌ في النُّورِ يَرْعَى ظِلَّنَا
كانَ في الَّليْلِ سُكاَرَى وَأَفَاقُوا قَبْلَنَا
لَيْتَهُمْ قَدْ عَرَفُوا الْحُبَّ فَبَاتُوا مِثْلَنَا
كلّمَا غَرَّدَ كأُسٌ شَرِبُوا الْخَمْرَةَ لَحْنَا
يَا حَبيبي كلُّ ما في اللَّيْلِ رُوحٌ يَتَغَنَّى
هَاتَ كأسِي إنَّهَا لَيْلَةُ حُبيِّ
…
آه لوْ شاركتَني أفْراَحَ قلبي!
يَا ضِفَافَ النيِّلِ باللهِ وَيَا خُضْرَ الرَّوَابي
هَلْ رَأَيْتنَّ عَلَى النهرِ فَتىً غَضَّ الإهَابِ
أسمَرَ الْجَبهَةِ كالْخَمْرَةِ في النُّورِ المُذابِ
سَابحاً في زَوْرَقٍ مِنْ صُنْع أحْلامِ الشَّبَابْ؟
إنْ يَكنْ مَرَّ وَحَياً مِنْ بَعيدٍ أو قرِيبِ
فَصِفِيِهِ، وَأَعيدِي وَصْفَهُ فَهْوَ حبيبي!
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي
…
آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
أَنْتِ يَا مَنْ عُدْتِ بالذِّكْرَى وَأَحْلَامِ اللَّيَالِي
يَا ابنَةَ النهرِ الذي غَنَّاهُ أرْبَابُ الْخَيَالْ
وَتَمَنَّتْ فِيهِ لْو تَسْبَحُ رَبَّاتُ الْجَمَالِ
مَوْجُهُ الشَّادِي عَشِيقُ النُّورِ مَعْبوُدُ الظِّلالِ
لم يَزَلْ يَزْوِي وَتُصْغِي للرِّوَايَاتِ الدُّهُورُ
والضِّفَافُ الْخُضْرُ سَكْرَى والسَّنَى كأسٌ تَدُورُ
حُلمٌ لمْ تَرْوهِ لَيْلةُ حُبِّ
…
فَاذكُرِيه واسَمعِي أَفراحَ قلبي!
علي محمود طه
رسالة النقد
الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي
تأليف الدكتور زكي محمد حسن
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
وفي كلام المؤلف في الفصل الذي كتبه عن (التذهيب) يقول في (ص 70) - بدون أن يذكر المرجع - ما يأتي:
(أما زخارف الصفحات المذهبة، فكانت في البداية خليطاً من العناصر الزخرفية الساسانية والبيزنطية والقبطية، فضلاً عن الرسوم المنقولة من كتب اليهود وكتب المسيحيين من أتباع الكنيسة الشرقية)
وأجمل المؤلف في العبارة التالية لهذه كلامه عن بعض هذه الزخارف.
وقد كتب الدكتور ريشارد أتينجهاوزن بحثاً وافياً عن تذهيب المخطوطات في إيران ووصف هذه (العناصر الزخرفية) في صفحتي 1944 و1945 من هذا البحث
ومن الغريب أن نلاحظ أن الدكتور زكي محمد حسن في هذا الفصل الذي كتبه عن (التذهيب)(ص 68 - 73) لم يشر في أية ناحية منه إلى هذا البحث الذي كتبه الدكتور ريشارد أتنيجهاوزن في نفس هذا الموضوع، مع أن هذا البحث يعد أحدث بحث علمي واف عن تذهيب المخطوطات في إيران، فضلاً عن أن جميع البيانات التي كتبها الدكتور زكي عن التذهيب في إيران في عصوره المختلفة بما في ذلك الحواشي الأربع التي وردت في هذا الفصل من كتابه، قد جاءت كلها ضمن ما كتبه الدكتور أتنيجهاوزن في البحث المذكور وما أروده فيه من حواش
فإننا نرى أن ما كتبه الدكتور أتنيجهاوزن في ص1947 مفصلاً عن ميزات المخطوطات المذهبة في العصر السلجوقي، قد أورده الدكتور زكي مجملاً في الفقرة الأخيرة من ص 70، وفي ص 1951 - 1952 تفصيل ما جاء في الفقرة الأولى من ص 71 عن الطريقة الجديدة في الزخرفة والتذهيب في هذا العصر. وفي ص 1559 - 1956 ما جاء في
الفقرة الثانية من ص 71 عن المصحف المحفوظ بدار الكتب المصرية. وفي ص 1960 بما في ذلك الحاشية رقم 1 ما جاء في الفقرة الأولى من ص 72 والحاشية رقم 1 في الصفحة نفسها عن مخطوط الشاهنامة المؤرخ سنة 831هـ. وأيضا في ص 1960 وفي الحاشية رقم 5 ما جاء في الفقرة الثانية من ص 72 والحاشية رقم 2 في هذه الصفحة عن أعلام المذهبين في العصر التيموري. وفي ص1960 - 1961 ما جاء في الفقرة الثالثة ص 72 عن رسوم النبات والزهور. وفي ص 1968 - 1969 ما جاء في الفقرة الرابعة من ص 72 عن أعلام المذهبين في العصر الصفوي. وفي ص 1969 ما جاء في الجملة الأولى من الفقرة الأولى في ص 73 عن بعض ميزات المخطوطات الصفوية. وفي ص 1970 - 1971 والحاشية رقم 9 ص 1970 ما جاء في العبارة الثالثة من الفقرة الأولى في ص 73 بما في ذلك الحاشية رقم 2 في هذه الصفحة عن مخطوط بستان سعدي المحفوظ في دار الكتب المصرية، وما فيه من (رسم بطة تطير بين سحب صينية). وفي ص 1972 والحاشية رقم 5 في هذه الصفحة ما جاء في الجملة الثانية من الفقرة الأولى في ص 73 والحاشية رقم 1 في هذه الصفحة عن مخطوط منظومات الشاعر نظامي
ومما تقدم يتبين أن الدكتور ريشارد أتنيجهاوزن قد سبق الدكتور زكي محمد حسن في سرد الحقائق العلمية عن التذهيب في إيران، وقد كان من الواجب على الدكتور زكي أن يشير، في الفصل الذي كتبه عن التذهيب، إلى هذا البحث، لاسيما وأن جميع البيانات والحواشي التي أوردها في هذا الفصل قد جاءت - كما رأينا - بنفس التسلسل الذي جاءت به ضمن البيانات والحواشي التي كتبها الدكتور أتنيجهاوزن
وفي كلامه عن مسألة كراهية التصوير في الإسلام (ص74 وما بعدها) لم يأت المؤلف برأي شخصي قاطع في هذا الموضوع، بل اكتفى بأن قال:(على أننا لا نميل إلى أن نصدق أن التصوير كان غير مكروه في عهد النبي عليه السلام وعصر الخلفاء الراشدين، بل أكبر الظن أن. . .) ثم بدأ الفقرة التالية لهذه العبارة بقوله: (ومهما يكن من الأمر فإن. . .) وقد أشار إلى آراء العلماء الأوربيين بدون أن يناقشها وبدون أن يذكر شيئاً مما جاء في أبحاثهم العلمية
ويقول في ص 76: (وقد قيل أن العرب ورثوا عن اليهود كراهية التصوير، وإن أقل
الشعوب الإسلامية اكتراثاً بتحريم التصوير في الإسلام إنما هي الشعوب غير السامية الأصل وبنى على ذلك قوله في ص 79
رابعاً - إن الإيرانيين قوم من الجنس الآري، ولم يكونوا كالساميين يحسون شعوراً نفسانياً ببعدهم عن التصوير
ولكن نسبة العرب إلى الجنس السامي لا تزال موضع دراسة عند علماء الأجناس. والمسألة هنا مسألة أحاديث نسبت إلى النبي (ص) ويهم المسلمين جميعاً - سواء منهم العرب أو الإيرانيون والشيعة أو النسييون - أن يعرفوا مبلغ صحة نسبتها إليه. وهل تربت كراهية التصوير في الإسلام على هذه الأحاديث أو على عوامل أخرى دخيلة على الإسلام. وإذا تكلمنا عن نسبة العرب إلى الجنس السامي، وجب علينا أن نبحث فيما إذا كان مسيحيو الشرق الأدنى من الجنس السامي أو الآري، وهم كما نعلم من العرب أيضاً، وقد أخذت عنهم مدرسة العراق أو المدرسة السلجوقية (الأسلوب الفني) في التصوير، وكما يعترف المؤلف في ص 84 أن هذه المدرسة (كانت عربية أكثر منها إيرانية، فالأشخاص فيها عليهم مسحة سامية ظاهرة، والأسلوب الفني مأخوذ - إلى حد كبير - عن الصور في مخطوطات المسيحيين من أتباع الكنيسة الشرقية)
وفي ص 80 أورد المؤلف حاشية طويلة عن تصوير مخطوطات كتاب كليلة ودمنة، وكذلك بعض العبارات التي قالها ابن المقفع الذي ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، عن فوائد الكتاب تستنتج منها أن التصوير يمكن إرجاعه إلى عصور مبكرة في الإسلام. ولكن المؤلف لم يذكر المرجع الذي أخذ عنه هذه الحاشية. وبالنسبة لما لهذه الحاشية من الأهمية الخاصة في تاريخ التصوير، أقول إنني قد عثرت على حاشية مماثلة لحاشية المؤلف كتبها الأستاذ بوب يعلق بها على ما جاء في كلام الأستاذ كينل عن مخطوط كليلة ودمنة
وقال المؤلف أيضاً في ص 80 (ونحن نذهب إلى أن المسؤول عن طبيعة التصوير الإيراني هي البيئة التي يعيش فيها الفنانون، والأساليب الفنية التي ورثوها عن أسلافهم من سكان الهضبة الإيرانية وبلاد العراق والجزيرة والشرق الأدنى عامة، فإن هؤلاء لم يكن لديهم، من الحفلات والألعاب الرياضية والمناظر الطبيعية والعناية بالتربية البدنية وتقوية الأجسام، ما يمكن أن يدفعهم - كالإغريق مثلاً - إلى دراسة الجسم الإنساني دراسة
متقنة والعمل على تصويره أو صناعة التماثيل له بدقة يراعى فيها صدق تمثيل الطبيعة)
ولكن المؤلف يقول في ص 186: (وقد استعمل الخزفيون في الري عدداً وافراً من الزخارف الهندسية والنباتية، ورسموا معظم الحيوانات التي عرفوها في ذلك الوقت، ولاسيما الأرنب وكلب الصيد، كما اتخذوا بعض الزخارف من مناظر الرقص والطرب والموسيقى والصيد، ولعب الصوالجة (البولو) والحفلات الرسمية، بل لقد رسم أحدهم صورة طبيب يقصد سيدة أنيقة)
وعلاقة خزف مدينة الري بالتصوير يقول عنها المؤلف ص 85: (ولعل أكبر دليل على العلاقة الوثيقة بين هذه الصور السلجوقية وإيران أن رسومها تشبه الرسوم الموجودة على الخزف الإيراني المعروف باسم (مينائي) والذي كانت مدينة الري أعظم مراكز صناعته)
ومن عبارة المؤلف عن الخزف نرى أنه كانت لديهم من الحفلات والألعاب ما يمكن أن يدفعهم إلى مراعاة الدقة في صدق تمثيل الطبيعة. ولكني أظن أن السبب في ذلك هو كما قال الأستاذ لورنس بنيون: (إن الروح التي تسود التصوير الإيراني هي روح الخيال، فالإيرانيون يحبون ما هو عجيب ومدهش. والخيال بالنسبة لنا (للأوربيين) هو الهروب من عالم الحقيقة إلى عالم العجائب. أما بالنسبة لهم (للإيرانيين) فهو نسيم الحياة)
ويستشهد المؤلف في ص 129 بمثال ضربه الأستاذ لورنس بنيون ولكنه لم يذكر المرجع. وإني أظن أنه هذا المثال من مقال الأستاذ بنيون في
وفي ص 130 يقول المؤلف (أجل، إن تصوير المناظر الطبيعية لم يكن عندهم فرعاً مستقلاً من فروع التصوير، ولم تكن له المكانة التي وصل إليها عند الغربيين والصينيين، ولكنهم عرفوه. ولم ينصرفوا عنه لعجز، وإنما لأنه لم يوافق طبيعتهم الفنية. واعتقادهم أن الإنسان هو المحور الذي تدور حوله هذه الحياة. فالفنان الإيراني يأخذ من الطبيعة ما يريد، ولكنه لا يتقيد بها.
وقد جاءت هذه العبارة شديدة الاقتضاب بحيث يمكن أن يفهم منها عكس ما يريد المؤلف قوله، وإني أورد فيما يلي عبارة مماثلة من مقال الأستاذ لورنس بنيون لشرح ذلك: (لا تختلف التقاليد الصينية واليابانية في التصوير اختلافاً جوهرياً عن تقاليد الفنانين الإيرانيين فيما يختص بالصور المخصصة لرسم الأشخاص أو الصور التي يرى عليها أشخاص في
وسط مناظر طبيعية. أما المناظر الطبيعية نفسها فإنها وإن كانت معروفة في الفن الإيراني، إلا أنها لم تصل إلى الدرجة التي تكون فيها كفرع مستقل من فروع التصوير، فلم تصبح أبداً مرآة تنعكس فيها أعمال الإنسان، بل كانت تمثل فقط صورة لأحد المناظر. وكانت للمناظر الطبيعية في الصين هذه الدلالة، بل وأكثر من ذلك، فإنها كانت محاولة للتعبير عن صلة الإنسان بالكون، وبما أن الكل أعظم من الجزء، وحياة الإنسان جزء من الطبيعة، لذلك نرى أن الصينيين ينزلون تصوير المناظر الطبيعية في أعلى منزلة بين فروع التصوير. وهذا الاختلاف في طبيعة الفن يأتي من الاختلاف في تكوين عقلية الشعوب. فعند الإيرانيين، كما هو الحال عند الأوربيين في أغلب الأحيان، نجد أن الإنسان وأعمال الإنسان هي الموضوع الرئيسي الذي تعطى له أهمية خاصة، أما الطبيعة فتبقى فيما بعد ذلك، ولا تدرس لنفسها)
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ بوب والدكتور أكرمان ما يلي: (الحديقة موضوع رئيسي في كثير من الفنون الإيرانية. . . وقد أدى استعمال لوحات القاشاني المباني إلى إمكان تحويل مبنى بأكمله إلى مجموعة ذات ألوان بهجة من الزهور، تكون كتلة واحدة مع الحديقة ذات الزهور الحقيقية التي يقوم المبنى في وسطها. . . وقد تركت الديانة الزردشتية الحياة في الآخرة غامضة ومبهمة؛ أما الإسلام فقد كان صريحاً في ذلك ووعد المتقين بحياة خالدة في جنات النعيم
ويقول الأستاذ بوب وقد كان معروفاً أن الإيرانيين لم يباشروا أبداً تصوير المناظر الطبيعية الخالصة، ولكن لا يكاد المرء يكون نظرية في أي فرع من فروع الفن الإيراني حتى يظهر اكتشاف جديد يقضي على هذه النظرية، وقد وجد الدكتور أجا أوغلو في استانبول اثنتي عشرة غاية في الإبداع والجمال، من المناظر الطبيعية الخالية من أية صورة آدمية
وقد نشر الدكتور محمد أجا أوغلو تسعاً من هذه الصور وهو يقول عن تصوير المناظر الطبيعية ما يأتي:
(وإذا حكمنا بما وصل إلينا من الصور إلى الآن، نجد أن تصوير المناظر الطبيعية لم يعالج كفرع قائم بذاته من فروع التصوير في إيران. . . . وليس هذا معناه أن تمثيل الطبيعة كان غريباً على الفنانين الإيرانيين، فقد كانت المناظر الطبيعية والمباني في أشكالها
المختلفة موضوعاً محبوباً لديهم لتمثيل الفروسية والحماسة والمناظر الأخرى. ومنذ بدء ارتقاء فن التصوير يمكننا أن نلاحظ ابتهاجاً آخذاً في الازدياد في معالجة المناظر الطبيعية كموضوع زخرفي).
(له بقية)
محمد مصطفى
البريد الأدبي
إعجاب وتقدير
أيها الأستاذ الجليل (* * *)
إني ليطربني يا سيدي أن أقرأ لكم هذه المقالات القديرة، الزاخرة بالفائدة، في نقد الطبعة الأخيرة من (العقد الفريد). وليست تلك النقدات وحدها هي التي سبتني من علمك الغزير، واطلاعك المنقطع النظير، وإحاطتك بما تكنه ضمائر أسفار السابقين الأولين من أئمة اللغة وحفاظها، بل قد تتبعت في الرسالة الغراء كل ما دبجته براعتك منذ أول عهدك بها، لم تفتني منه فائتة؛ بل لقد اتخذت منه دروساً أتوفر عليها وأعكف على الإفادة منها، والتضلع من مغنيها الفياض
وإني لأعجب يا سيدي كل العجب - في هذا العصر الذي يباهى فيه بالقشور وسخف القول - كيف تتستر وتحتجب، وتقف في تواريك هذا وعزلتك مرشداً وهادياً، لا تبغي غير خدمة وطنك ولغتك
وإن أسفت على هذا التستر والاحتجاب، فإنما أسفي على أن أمثالي من طالبي المعرفة يودون لو أتيحت لهم فرصة لقائك، ليستزيدوا منك، وليتحلوا بما يشهدون فيك من كمال الخلق، ولكنك زهدت في نباهة الذكر، وعفت الإعلان، وآثرت العمل في جو خلو من الصخب والضوضاء
ضربت يا سيدي المثل في التواضع وإنكار الذات، وضربته في طهر قلمك من لوثة الزهو والعجب والمباهاة، فليتعلم من هذا المثل الصالح من يتصاولون على صفحات الجرائد والمجلات، فيدعون ما يتصاولون من أجله، ويخرجون إلى ميادين العيب والتجريح. ليتعلم هؤلاء منك ومن أمثالك الأعفاء، أن يقصروا أقلامهم على ما يدافعون عنه من عقيدة: الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. ولينسوا أنفسهم وأهواءهم في سبيل الحق، وليدعوه شهوة الانتقام والتشفي، فإن أوقات القراء لأنفس من أن تبعثر في مثل هذا اللغو والزور من القول.
مزيداً أيها الباحث الجليل، فإنا إلى علمك وفضلك وخلقك لعطاشى
(أ. ج)
مقالة الأستاذ السباعي بيومي
أثبتت مقالة الأستاذ الكريم ما قلته في غنى اللغة واستفادة الناس من خطأ الكبار في بعض الأوقات، فأعطى لسان العرب ما أعطاه إياه، وأفاد القوم بما أملاه وإن أحب أن يخالف الأئمة: سيبوبه والزمخشري والتبريزي والرضي وابن هشام. فهل بمن اليوم (أطال الله بقاءه ولا زال في حصن العربية: (دار العلوم) من أكبر حماته وحماتها) بعلاوات، بشواهد لجاهلين أو إسلاميين أو المولدين الأولين متفضلاً بمراجعة ما قال الأئمة في قوله تعالى:(فلا اقتحم العقبة) وحياه الله، وحيا ربعه!
ناقد
الفقر
الحرب قائمة في هذه الأيام بين الأديب الكبير الدكتور زكي مبارك وبين جماعة من أجل مقالة نعى فيها الدكتور على الفقراء (المساكين) كسلهم وتواكلهم وغير ذلك. وقد ذكرني البحث في الفقر والفقراء - والشيء بالشيء يذكر - بقول موجز للراغب في (الذريعة) فأحببت نشره في (الرسالة) الغراء وإن كان فقراء (الراغب) يخالفون فقراء (الدكتور زكي مبارك). فالراغبون بعثهم الفقر على الكد، والمباركيون دعاهم فقرهم إلى الكسل. . . قال الراغب
(حصول الفقر وخوفه المنتجان للحرص هما الباعثان على الجد واحتمال الكد ومنفعة الناس أما باختيار وأما باضطرار. وقد قيل: قيام العالم بالفقر أكبر من قيامه بالغنى، لأن الصناعات القائمة بالغنى ثلاث: المُلك والتجارة والكتابة، وسائرها قائمة بالفقر؛ فلو لم يكن الفقر وخوفه فمن كان يتولى الحياكة والحجامة والدباغة والكناسة، ومن كان ينقل المير والملابس من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال؟ وعلى منفعة الفقر نبه الله تعالى بقوله: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) ومن تدبر صنع الله تعالى في ذلك وتأمل ما أشار إليه في هذه الآيات التي ذكرها لم تعرض له الشبهة التي تعرض لمن يقول: (إذا كان الله جواداً واسعاً فلِمْ خص بعضهم بالغنى، وجعل أكثرهم فقراء؛ ومن حق الغنى الذي لا يفنى غناه، والجواد الذي لا يعرف لجوده منتهاه، إلا يخص بالعطية بعضاً
دون بعض) وذاك أن الجواد هو الذي يعطي كل أحد بقدر استئهاله على وجه يعود بمصلحته ومصلحة غيره وقد فعل ذلك بالعباد.
ذلكم قول (الذريعة)، وتلكم شرعة الدنيا إلى أن تشاء المقادير، تبديل الدسانير.
(باحث)
في العقد
ورد في مقالة الأستاذ (الجليل) الذي يستدرك ما في طبعة العقد من الخطأ البيتان الآتيان:
جانيك من يجني عليك وقد
…
تُعْدِي الصحاحَ مبارك الجرب
ولرب مأخوذٍ بذنب عشيرهِ
…
ونجا المقارف صاحب الذنب
وقد اختلفت روايات البيت الثاني في الكتب، والرواية التي ذكرها الأستاذ تجعل صدر البيت (متفاعلن متفاعلن متفاعلن) مع أنها في صدر الأبيات الأخرى وفي عجزها أيضاً على وزن (متفاعلن متفاعلن فَعِلن أو فَعْلُن) فتجعل قول الشاعر (ولرب مأخوذٍ بذنب عشيرهِ) شاذاً زائداً عن كل صدر وعجز وإن كان وزنه كاملاً تاماً. وشذوذ هذا الصدر مما لا تسيغه الأذن وإن كان العرب قلما كان يكرثهم أن يشذ الشاعر منهم فيخرج من ضرب إلى ضرب ويرد التفعيلة إلى تمام مبناها في بعض أبيات قصيدته. لكن اختلاف الرواية إذا أضيف إلى الشذوذ والنبو في الأذن يجعلنا نأخذ برواية البيت التي هي على ضرب وزن الأبيات الأخرى والتي يتفق فيها الصدر والعجز وهذه الرواية هي:
ولرب مأخوذ بلا قرفٍ
…
ونجا المقارف صاحب الذنب
وورد أيضاً (بلا تِرَةٍ) أي من غير وتر؛ وأورده صاحب مجموعة المعاني (ولم يقترف) ولكن روايته تغير فعلن إلى فاعلن. أما الزيادة في المعنى التي أوجبت الزيادة في ضرب الوزن في قوله (بذنب عشيره) فغير ضرورية لأن المأخوذ ظلماً قد يؤخذ ظلماً بذنب غير عشيره. ونرجو من أستاذنا الجليل أن يردنا إلى الصواب أن كان في قولنا خطأ.
عبد السميع صبري
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
ذكر الأستاذ علي عبد الواحد وافي في العدد الممتاز أنه لا يصح إرجاع وأد البنات عند
العرب في الجاهلية إلى فقرهم، لأن ذلك كان يفعله أغنياؤهم وفقرائهم، ولا غيرتهم على أعراض البنات، لأن ذلك يرجع عند من يراه إلى قصة قيس بن عاصم. ووأد البنات أقدم منها عند العرب، وقد رأى أن يرجع ذلك إلى سبب استنبطه من الآيات القرآنية التي وردت في وأد البنات؛ وهو أن بعض العرب كانوا يعتقدون في البنات إنهن من خلق إله اليهود، وكانوا ينظرون إليه نظرة كنظرتنا الآن إلى الشيطان؛ أما الذكور فمن خلق آلهتهم، ولهذا كانوا يعتقدون في البنات أنهن رجس يجب التخلص منه بالقتل، ثم ساق الآيات التي استنبط ذلك منها، فساق أولاً قوله تعالى:(ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون. ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به؛ أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساءوا ما يحكمون) الآيات 56 - 59 من سورة النحل، وقد فسر البنات في ذلك بالإناث من البشر، وحمل قوله تعالى (ولهم ما يشتهون) على انهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون من البنين، وكل من التفسيرين غير صحيح، لأن المراد من البنات الملائكة الذين كانوا يقولون عنهم انهم بنات الله، والمراد من قوله تعالى (ولهم ما يشتهون) انهم يجعلون لأنفسهم لا لآلهتهم البنين الذين يشتهون، فينسبون لله من البنات ما يكرهونه لأنفسهم، وهذا هو الذي ينطق به ما ساقه من باقي الآيات، كقوله تعالى:(وجعلوا له من عباده جزءاً أن الإنسان لكفور مبين، أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) الآيات 15 - 19 من سورة الزخرف، فمن جعلوهم جزءاً هنا لله هم البنات في آيات النحل، وهم الملائكة الذين جعلوهم إناثاً هنا، والمراد انهم جعلوهم أولاد الله، فأين هذا من تفسير الأستاذ وافي لهم بالبنات من بني آدم، وإن العرب كانت تعتقد أنهن خلق الله لا خلق آلهتهم، وكذلك قوله تعالى (وأصفاكم بالبنين) وصريح في انهم كانوا يجعلون البنين لأنفسهم، وليس الأمر كما فهمه الأستاذ وافي من انهم كانوا يجعلونهم لآلهتهم، وأصرح من هذه الآيات في ذلك قوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً). فليس في شئ من الآيات التي ساقها الأستاذ وافي ما يفيد أن العرب كانوا يعتقدون أن بناتهم من خلق
الله، وانهم كانوا يئدونهن كرهاً لهن لأنهن غير مخلوقات لآلهتهم. وليت شعري بعد هذا من أين أخذ الأستاذ وافي أن العرب الذين كانوا يئدون البنات كانوا يعتقدون في الله تعالى ذلك الاعتقاد، وينظرون إليه كما ننظر إلى الشيطان، وهم الذين قال الله في حقهم من سورة الزخرف أولاً (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العظيم) الآية - 9 - ثم ذكر بعد ذلك الآيات السابقة في نسبتهم البنات من الملائكة إليه تعالى
والحق عندي أن وأد البنات كان بعضه للفقر من الفقراء، وكان بعضه لخوف الفقر من الأغنياء، وكان بعضه لخوف العار والسبي، ولا مانع من أن يكون بعضه لعقيدة دينية غير التي يذكرها الأستاذ وافي، فقد كان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب بن هاشم
عبد المتعال الصعيدي
حول سقط وكبا
جاء في مقال الأب الفاضل أنستاس ماري الكرملي المنشور بعدد الرسالة 402 تحت (كلمة حق) يستنكر فيه تعبير الأستاذ إسماعيل مظهر لكلمة (سقط وكبا)؛ ويقول في هامش صفحة 320 هذه العبارة: (كذا بتقديم السقوط على الكبو لا يعرفه إلا سكان جزيرة الوقواق)
فهذا التعبير، وقد أجازته لغة القرآن في كثير من آيها، والواو فيه للجمع المطلق، ولا تقتضي الترتيب بدليل قوله تعالى حكاية عن منكري البعث (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)، وإنما يريد نحيا ونموت، وفي آية ثانية (فكيف كان عذابي ونذر)، والنذارة قبل العذاب بدليل قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)؛ وفي آية ثالثة (إني متوفيك ورافعك إلى)، فإن وفاته عليه السلام لا تقع إلا بعد الرفع
حسين سلامة دياب
القصص
ما ليس يفهمه الطفل
قصة روسية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
(نيقولاي أليتش) رجل من أغنياء بطرسبرج يبلغ الثانية والثلاثين من العمر، وهو ممتلئ الجسم، قوي البنية، محمر الوجه. وكان قد اتخذ من زوجة المسيو (أرنين) خليلة له، فقضى معها شطراً من الزمن في غرام حار متبادل، ثم خمدت جذوة حبه، فصار يتردد على منزلها بين حين وحين، وبينهما نوع من الحب الفاتر. . .
وزارها في يوم من الأيام، فلم يجدها، وجلس ينتظرها في غرفة الاستقبال، فدخل ابنها الصغير وحياه وقال: إن أمه ستعود سريعاً، وهي الآن عند الخياطة مع أخته (صونيا). . .
وكان عمر هذا الطفل ثمانية أعوام، واسمه (أليوشا)، وهو حسن البزة، قوي البنية، عليه ثوب نظيف من القطيفة، وفي قدميه جورب أسود طويل؛ وكان يلعب ألعاباً رياضية، مستمتعاً بما وهبه الله من صحة جيدة. . . وبدأ الرجل يحدثه ليمضي الوقت ولكي يداعبه، فقال: هل أمك في صحة جيدة؟
فأقبل الطفل نحوه وقال: (أنها لم تكن قط في صحة جيدة، وهي كل يوم تشكو من مرض)، وأخذ الرجل يتأمل في وجه الطفل ليرى فيه محاسن أمه في صباها يوم كان حبهما لا يزال في سورته وسأله عما يتلقاه في المدرسة؛ فقال أنه وأخته صونيا يحفظان قطعة من الشعر الفرنسي. وقال الرجل للطفل:(هل حلقت شعرك اليوم؟) فقال: (نعم. وأنت حلقت أيضا، لأن لحيتك أصغر من العادة. أتأذن لي أن أمسكها؟)
قال الرجل: (لا لا! لن آذن بذلك) فقال الطفل: (لماذا؟ هل يؤلمك أن أنزع شعرة أو شعرتين؟) ثم أمسك السلسلة الذهبية المعلقة في صدر إبلتش وقال: (إن أمي قد وعدتني أن تشتري لي ساعة إذا انتقلت من فرقتي. إن هذه السلسلة كالتي في صدر أبي)
قال إيلتش: (ومن أخبرك بذلك؟ هل رأيت أباك؟) فتلعثم واضطرب وقال: (أنا. . . كلا!)
ولكن الرجل نظر إليه نظرة حادة وقال: (هل رأيت أباك؟) فقال: (كلا. . . كلا!)
فقال الرجل: كن شريفاً فإني أرى من ملامحك أنك تكذب. قل لي: هل رأيت أباك؟ فقال الطفل همساً: (وهل تعدني ألا تخبر أمي)
فقال: (أعدك)
قال الطفل: (وهل تقسم بشرفك؟)
فقال الرجل: (نعم أقسم)
فنظر الطفل حوله وقال بصوت منخفض: (أستحلفك ألا تخبرها فإنها لو علمت لضربتني أنا وصونيا والخادم. . . أنا وصونيا نقابل أبي كل يوم من أيام الاثنين، وذلك لأنه اتفق مع الخادم على أن يمر بنا على حانوت ينتظرنا فيه، وهناك يشتري لنا فواكه وحلوى وبيضاً ويحدثنا)
قال الرجل: (يحدثكم بماذا)
فقال: (بكل شئ، ويقبلنا ويقص علينا قصصاً جميلة، ويقول أنه سيأخذنا لنعيش معه متى كبرنا. وقد قالت له صونيا لا، ولكنني قلت نعم، وسأبتعد عن أمي ولكني سأرسلها وأزورها في أيام العطلة. ويقول أبي أنه سيشتري لي جواداً، وأنا لست أعرف لماذا لا تدعوه أمي للمعيشة معنا؟ ولماذا لا تقابله مع أنه يحبها ويسألنا عنها دائماً. ولما مرضت وأخبرناه بذلك بكى وأمرنا باحترامها وطاعتها. . . ألسنا بائسين!؟)
قال الرجل: كيف؟
فاستمر الطفل يقول: أبي قال ذلك، وقال أن أمي بائسة، وقال لي كلاماً غريباً لم أفهمه، لأنه أمرني بأن أصلي من أجلها
قال الرجل: إذاً فأنتم تتقابلون بغير أن تعلم أمك؟ فقال: لا نستطيع أن نخبرها، فقد أكد علينا الخادم بذلك. وبالأمس قابلت أبي واشترى لي كمثرى!
قال الرجل: ألم يتكلم أبوك عني؟
فأجابه الطفل: عنك!؟ لماذا؟ ثم هز كتفيه
فسأله الرجل: ألم يقل شيئاً؟
قال الطفل: ألا يغضبك ما يقول؟
فأجاب الرجل: لماذا؟ هل شتمني؟
قال: كلا. . . ولكنه قال إن أمي بائسة بسببك، وأنك أفسدت سعادتها؛ وقد قلت له إنك لا تسبها ولا تهينها، فهز رأسه!
قال الرجل: هل أبوك يقول إنني أفسدت سعادتها؟
فقال الطفل: نعم، ولكن لا تغضب فأنت وعدتني عند ذلك مشى أليتش في الغرفة ذهاباً وجيئة وقال وهو يهز كتفيه ويبتسم ابتسامة المتهكم:(أنا أفسدت سعادتها! أنا؟ هل قال ذلك يا أليوشا؟)
فقال الطفل: (ألست وعدتني ألا تغضب؟) فقال: (أنا لم أغضب ولكن هذا شئ عجيب. . . أنا أقع في الفخ ولا أسلم من اللوم) وهنا دق الجرس، فجرى الطفل نحو الباب، ودخلت أولجا أم أليوشا وخليلة أليتش، وقال الأخير عندما رآها:(نعم نعم أنه مظلوم فهو الزوج المخدوع)
قالت أولجا: (ما الخبر؟)
فقال: (اسمعي ما يقوله زوجك. . . إنه يقول إنني أفسدت سعادتك وسعادة أولادك)
قالت أولجا: (لست أفهم ما تقول يا أليتش؟)
فقال: (سلي ابنك)
فنظرت الأم إلى ابنها في دهشة، ونظر الطفل إلى أليتش في انزعاج، وقال الأخير:(إن خادمك يأخذه ويأخذ صونيا إلى حانوت يقابلهما فيه زوجك الذي يحسب نفسه شهيداً، ويحسبني أفسدت حياته وحياتك)
عند ذلك صاح الطفل: (أنت حلفت لي بشرفك)
فأشار أليتش بيديه وقال: (إن هذا أمر أهم من يمين الشرف)
فقالت أولجا والدموع تملأ عينيها: (أخبرني يا أليوشا متى قابلت أباك؟)
فلم يصغ إليها الطفل لأنه كان ناظراً نظرة غيظ إلى أليتش وقالت الأم: (هذا محال! سأذهب وأسأل الخادم)
ثم خرجت وصاح الطفل وهو يرتعش: (ألم تقسم لي بشرفك؟)
فأشار الرجل بيديه مرة أخرى ثم لم يعد يلحظ وجود الطفل فهو رجل ضخم الجثة لا يعبأ بالأجسام الصغيرة، جلس أليوشا في ركن من الغرفة يخبر أخته كيف خدعه الرجل حتى
عرف سره؛ وكان يرتعش ويبكي، وكانت هذه أول مرة وقف فيها وجهاً لوجه أمام أكذوبة. وكم في الدنيا من أشياء لا أسماء لها في لغة الأطفال!
عبد اللطيف النشار