المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 405 - بتاريخ: 07 - 04 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 405

- بتاريخ: 07 - 04 - 1941

ص: -1

‌عود إلى الفكر و (السلطة)

للأستاذ عباس محمود العقاد

راجعني الأديب أليس إبراهيم بدوي فيما كتبت بالرسالة منذ أسابيع عن (الفكر والسلطة)، وكتب إليّ يقول:

(اسمح لي بأن أضيف إلى الأسباب الأربعة التي ذكرتها في إيضاح الدافع إلى طلب السلطة سبباً خامساً، وإن لم يكن بسبب، فهناك أناس يطلبون السلطة كحق من حقوقهم الموروثة أو تقليد من تقاليد الأسرة التي لا يليق بهم التخلي عنها. ولعل هذا السبب أبرز الأسباب نتائج من حيث طلب السلطة، ليس في هذا البلد وحده، بل في جميع البلدان بوجه عام)

وأتبع ما تقدم بقوله: (وكان لابد أن ينشأ عن هذا السبب سبب سادس معاكس له: سبب يدفع بالرجل الموهوب ذي الشخصية العارمة والإرادة المدربة إلى النظر إلى مثل أولئك الأفراد المتهافتين على السلطة نظرة متعالية، نظرة من يعتقد مخلصاً أنه أحق منهم إذ كانت الغاية من الحصول على السلطة استخدامها في بناء مجد للوطن. وإن مثل هذا الرجل ليعتبر في رأيي خائناً لرسالة ممتازة خلق لها إذا لم يعمل على نيل الأداة التي يمكنه بها إبراز مواهبه وممكناته وقدرته على الخلق والإبداع. وما قيمة المتعة الفكرية أو الذوقية إذا لم يستطع الرجل أن يستثمر قدرته البناءة بمطلق طاقته وحيويته)

ثم يقول الأديب: (أما صاحبنا (ديزرائيلي)، فلم أذكر اسمه نموذجاً، بل ذكرته عرضاً كرجل كانت له نفسية الأديب ودقة إحساسه بالحياة، وفق إلى كسف عناصر القوة في نفسه فسخرها في سبيل بلوغ المنصب الأعلى للحكم. . . وربما كان في التاريخ الأمريكي والبريطاني والفرنسي كثير ممن يصح أن يتخذوا أمثالاً. وربما كان عندنا هنا من يصح أن يذكر في معرض التمثيل. غير أن عدم وجود أمثال لا يمنع من خلق أمثال وابتداع خطط جديدة في الحياة والعمل)

ثم يقول في ختام خطابه: (فإذا كنت تعتقد أنه لا يمكن الجمع بين الأدب والإدارة فهذا رأيك وأنت حر فيما ترى. ولئن كنت أشك في صحة هذا الاعتقاد فما يعزز شكي ما قرأته لك في رجعة أبي العلاء في معرض كلامك عما كان يساور أبا العلاء من طموح إلى السلطان

ص: 1

لولا ظروفه الجسمية الخاصة التي حالت بين عقله الكبير وما أراد. وهو القائل:

ولم أعرض عن اللذات إلا

لأن خيارها عني خنسته)

ويلوح من خطاب الأديب أن صاحبه ممن يحبون الاستدراك لمحض الاستدراك، وهو طبع في غير قليل من الناس.

فنحن نقول إن أسباب طلب السلطة هي فطرة الرياسة، أو حب الامتياز، أو اتقاء شرور المسيطرين، أو الرغبة في تسخير الأداء الحكومية للإصلاح، فيأتي صاحب الخطاب بسبب خامس هو ميراث السلطة عن الآباء والحرص على بقائها في الأسرة! كأنما هذا السبب لا ينتهي إلى واحد من الأسباب الأربعة التي قدمناها! أو كأننا حين نقول إن الناس يرثون البيوت ننفي أن البيوت تبنى للسكنى، أو كأننا حين نعلم أن الناس يصنعون الطعام ليبيعوه ننفي أن نهاية الطعام هي الغذاء سواء صنع في الأسواق أو صنع في الدور.

فالناس لا يحبون أن يرثوا السلطة إلا لأنها تكفل لهم غرضاً من الأغراض التي قدمناها. وإلا فما بالهم لا يحرصون على وراثة المسكنة من آبائهم المساكين؟ وما بالهم لا يحتفظون في الأسرة بالديون والمغارم والوصمات؟

إنما يحرصون على بقاء السلطة في ميراثهم لأنها مطلب محبوب، وإنما هي مطلب محبوب للأسباب التي قدمناها لا لأنها تركة موروثة عن الآباء.

أما أن المفكر النابغ مفروض عليه طلب السلطان، فهذا خلاف للواقع، وخلاف للقياس المطرد في (تطور) الملكات.

ففي الواقع لم يوجد قط مفكر موهوب وعبقري مثمر في عالم الفنون تخلى عن الفكر والفن ليطمح إلى الحكم وإدارة الدواوين.

وقبل أن يوجه إلينا الأديب خطابه الأول كنا نكتب (هتلر في الميزان) فقلنا من فصل عن كفاءته الذهنية: (إن الحقيقة الراسخة من وراء كل جدل وكل مراء هي أن الفنان الموهوب لن يترك فنه ليعقد مصيره بالسياسة وغيرها من المطالب كائناً ما كان نصيبه منها، لأن الهبة الفنية كالوظيفة العضوية التي لا تقبل الإهمال، ولا تزال في إلحاحها على صاحبها كالهيام القلبي في إلحاحه على العاشق الممتلئ بالحياة، فلا هو يغفل عنها ولا هي تمهله إلى زمن طويل.

ص: 2

(وهذه الحقيقة وحدها بنجوة عن جميع الأقاويل وجميع الأسانيد. هي الحكم الحاسم في كفاءة هتلر الفنية، أو فيما يدعيه من مواهب التصوير والبناء. فهي لن تعدو الطبقة الوسطى بحال، ولن تتجاوز نصاب التذوق الشائع بين مصطنعي النقد والموازنة في الفنون)

فهذا رأى قديم لنا نبنيه على الواقع كما نبنيه على المعقول، لأن التاريخ لم يذكر لنا قط اسماً واحداً من أسماء العباقرة الفنيين طلق الفن ليحكم الناس ويطلب السلطة. وليس بمعقول أن تمتعه السلطة كما يمتعه الخلق في عالمه الفني الذي يصرفه تكوينه إليه.

وهذا الرأي مطابق لسنة التطور التي تنتقل من الجمع إلى التوزيع، من حصر الملكات إلى انتشارها في عقول كثيرة.

فاتفق في زمن من أزمان الهمجية أن حاكم القبيلة كان حكيمها وساحرها وكاهنها وطبيبها وحافظ تاريخها. فهو فيها جامع لوظيفة السياسة ووظيفة الدين ووظيفة العلم ووظيفة الفن والثقافة، ثم انقضى هذا العهد وتوزعت الملكات وأصبحت كل وظيفة من هذه الوظائف شعباً لا تحصى ومقدرة يستعصي الجمع بينها وبين غيرها، ولا يؤدي هذا الجمع إلى مصلحة للنابغ ولا للمنتفعين بنبوغه.

وبعد هذه الدهور المتطاولة يأتي من يزعم أن إعراض المفكرين وعباقرة الفن عن طلب الحكم خيانة لأمانة النبوغ إذا كانوا يستخدمون السلطة في بناء مجد الوطن. . . ويسأل: ما قيمة المتعة الفكرية أو الذوقية إذا لم يستطع الرجل أن يستثمر قدرته البناءة بمطلق طاقته وحيويته؟

فما قيمة الحياة نفسها بغير متعة فكرية أو ذوقية؟ وما قيمة مجد الوطن إذا خلا من المفكرين والعباقرة الذين يعيشون ويموتون للفكر، ويعيشون ويموتون لمتاع الأذهان والأذواق؟ أكل مجد الوطن إذن في رفع الأيدي بالسلام، ودق الأرض بالأقدام، وخطوة إلى الوراء وخطوة إلى الأمام، وتفرج على السلطة ومواكب السلطة أيام الزحام؟

أهذا هو مجد الوطن الذي يخونه أمناء الفكر والذوق لأنهم لا يتطلعون إلى السلطة ولا يتحولون جميعاً إليها كلما وفر عندهم نصيب الفكر والذوق؟

أن كان الأديب يخال أن المفكر الصادق التفكير لن يشعر بالامتياز إلا وهو متسلط في

ص: 3

الحكومة، ولن يقعد عن طلب التسلط في الحكومة إلا لأنه عاجز عنه، فهو بعيد كل البعد عن دخائل العظمة الفكرية التي هي عظمة لا شك فيها وإن لم يكن لها في الحكم سلطان.

لكن العجب في هذا أن الزهو بالعقول شائع بين جمهرة الناس، فكيف يفوت الأديب صاحب الخطاب أن يفطن إلى زهو العقول العالية التي تشعر بما لها من الرجحان؟

يقولون في أمثالنا الدارجة أن الخلق غضبوا عند قسمة الأرزاق فأرضاهم القدر بقسمة العقول، فما منهم إلا راض عن عقله وإن سخف وإن ضاق.

وتعليل ذلك قريب، فإن الأرزاق تنتقل من مالك إلى مالك، فللطمع فيها معنى مفهوم؛ أما العقول فلا تنتقل من أصحابها إلى غير أصحابها، فليس للطمع فيها معنى غير الإقرار بالقصور، والحرمان من لذة الغرور.

ومغزى المثل كما يقولون أن رضى الإنسان بعقله سهل مألوف في جميع الطبائع البشرية، فكيف بالعقل الذي يعلم ما عنده وما عند غيره علماً ليس بالدعوى ولا بالغرور؟ أليس خليقاً بامتيازه المرضى عنه أن يغنيه عن طلب الامتياز من طريق ولاية الأحكام؟

قلنا في كتابنا رجعة أبى العلاء: (إن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها. فلما الملك وأما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين. فلا يحسبن أحد أن فكرة الملك عارضة في ذهنه كما يعرض في الخاطر في خلد للشاعر، فإن للمجد الدنيوي لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان. فسرعان ما يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور)

وقد ظن الأديب صاحب الخطاب أن ما قررناه هناك شذوذ مما نقرره في كلامنا عن الفكر والسلطة، وما به في الحقيقة من شذوذ؛ فالحنين إلى السيطرة في نفس أبى العلاء إنما هو تعبير عن جانب الحرمان من تلك النفس وليس بالتعبير عن جانب الامتياز والرجحان.

وليس الوجه كما فهم الأديب أن أبا العلاء كان يزداد طلباً للسلطان لو أبصر وملك القوة الجسدية، ولكن الوجه أنه كان يقلع عن هذا الطلب لو زال عنه شعور الحرمان الذي داخله من كبريائه مع فقد بصره ووهن جسده. فيغلب عليه جانب الثقة والامتياز.

وأي عجب في تداخل النزعات واشتباكها في جميع النفوس الآدمية؟ ألا يوجد بين ذوي السلطان من يحب أن يشتهر بالكتابة فينتحل ما يكتبه له الكاتبون وليس هو بأديب؟ أفمن

ص: 4

أجل ذلك نقول إن الملكة الأدبية لاصقة بكل حاكم وكل أمير وكل طامع في الشهرة بالمنثور والمنظوم؟

ومن الخطأ أن نزعم أن أبا العلاء قد عكف على التفكير لأنه لم يظفر بالملك والإمارة؛ فإن التفكير ليس بالمنحة (الاحتياطية) التي تجود بها الطبيعة على من فاتته المنح الأُخرى، ولكنها منحة أصيلة من رزقها فكر ومن لم يرزقها لم يفكر وإن أراد. وغاية ما هنالك أن المفكر المتكبر المحروم يمثل حرمانه في آماله ودخائل وجدانه شوقاً إلى الغلبة والبأس والولاية، وهو شوق لا يعد من الملكات ولا من النزعات التي يقاس عليها في غير هذه الحال.

وجملة الرأي أن حاجة الحاكم إلى الفكر كحاجة كل عامل اليه، فلا يلزم من ذلك أن يشتغل المفكرون بجميع الأعمال لأن جميع الأعمال تحتاج إلى تفكير.

على أن الحكم إلزام والفكر إقناع، وإذا بلغ الإقناع مداه ألزم الحاكمين أن يستمعوا له فكان سلطة فوق السلطة في هذا المقام.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌في المصادر والأصول

نساؤنا بين التقاليد والتجديد

لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك

مدير عام دار الكتب المصرية

مقدمة

من الدقة أن يرمى بحثنا إلى تناول أحوال المرأة المصرية المعاصرة، لأن فينا من مدله ي العمر فتيسر له أن يصف مسلك نسائنا في فترة محصورة من الزمن، لعلها البرزخ الفاصل بين ما كانت تجري عليه أحوال النساء عند السلف القديم، وبين ما أصبحن عليه الآن، وما قد يصرن إليه في مستقبل الأيام.

وإني، مع حرصي الشديد على تضييق مجال البحث وحصره، قد أتعرض للماضي أحياناً في نظرة خاطفة، لأجلي فيه بعض المعالم التي ترسمتها المرأة المصرية في مسيرها لكي تتبين: ألا يزال الدرب الذي تعدو الآن فيه موصولاً بالطريق الذي سلكته عدة قرون؛ أم أصبح مسيرها مقطوع الصلة بماضيها القريب والبعيد؟ ولعل المرأة حين اتخذت أسلوبها الجديد، أخذت تتعرض لمنحدر كثير الزلل والخطر. وإني حين أعني بالبحث في أحوال نسائنا، إنما أعني بحملة الرسالة الكبرى في تشييد أركان الهناء في الحياة، بل بحملة سر الرحمن وكلمته في بذل المحبة والرحمة والسلام.

وإني إذ أثير اليوم موضوع المرأة المصرية بين التقاليد والتجديد، إنما أثير موضوعاً حيوياً للزوجات والبنات والأمهات. وعلى الجملة موضوعاً يتصل بكيان الأسرة وكيان الأمة التي تنتمي إليها، ونرجو أن تحيا بنا عزيزة ونحيا بها كراماً.

لمحة تاريخية

فمن نيف وثلاثين عاماً كان (قاسم أمين) يحلق بخياله في متسع تاريخ مصر الاجتماعي، ويلقى بنظراته الناقدة في صحائف حياتها العمرانية، وكان يصيب نفسه وخز من الألم منشأه المظاهر الاجتماعية السيئة التي اتصلت بحياة الأسرة، دون أن يقرها العقل السليم، أو يرضاها الشرع الحكيم. ولقد حركت وخزات الألم لسانه وقلمه بما كان ينشده لأمته من

ص: 6

ظهور امرأة جديدة تكون على حد قوله: (شقيقة الرجل، شريكة الزوج، مهذبة النوع، مربية الأولاد)

ولعل الصورة المثلى التي كان يتخيلها (قاسم أمين) ويريدها للمرأة المصرية تجعل للنساء كما كان يكتب ويقول:

- رأياً في الأعمال. فكراً في المشارب، ذوقاً في الفنون، قدماً في المنافع، مقاماً في الاعتقادات الدينية، فضيلة وشعوراً في الوطنية.

وكان يعتقد أن المرأة قد تسمو إلى ما ينشده لها من المكانة لو كملت تربية النساء على مقتضى الدين، وقواعد الأدب، ووقف بالحجاب عند الحد المعروف في أغلب المذاهب الإسلامية.

ومن حق المتأمل أن يجد فيما كان ينشده ذلك المصلح الكبير صورة للمرأة العاملة الجادة الشريفة الكريمة، وليست صورة المستهترة العابثة في مهازل العيش وترهات المجتمع، وأن الاختلاط الذي كان يدعو إليه بين المرأة والرجل إنما هو ذلك الاختلاط البريء من مثيرات المفاسد، وتدعو إليه مقتضيات الحياة النزيهة المثمرة، وأن ما كان ينادي به قاسم من الحرية إنما هي الحرية التي تعين على الخير، وليست تلك التي تركب للشرور ولآثام. على أن قاسماً كان شأنه في دعوته لمثله الأعلى شأن كل مصلح تلك فؤاده ولبه المثل الذي كان يدعو إليه، فكان اهتمامه لتحقيق دعوته أشغل لفكره، وأصرف لنفسه عن الاشتغال بالبحث في مختلف الوسائل التي تقي أغراضه الصالحة من الانحراف.

لقاء الدعوة

وجد قاسم أمين حين دعا دعوته للمرأة المصرية من أيدوه ومن عارضوه، ومن حذروه سوء العقبى إذا لم تتخذ الحكمة وأسباب الاحتياط.

فأما الذين أيدوه فكانوا ممن يعتقدون أن نهضات الأمم وعظمتها تفتقر إلى مسعى الرجال ومسعى النساء، ورقي الرجال ورقي النساء، ويكون ذلك بإشاعة التربية والتعليم ونشر الحرية بين أفراد الأمة جميعاً.

وأما من عارضوه فكانوا ممن يعز عليهم أن يتغير ما ألفوه في حياتهم من عادات راسخة ضيعت على المرأة الكثير من حقوقها في الحرية والتعليم، وكانوا من المستضعفين لضغط

ص: 7

التقاليد التي أثقلت كواهلهم وكواهل عدة أجيال من آبائهم وأسلافهم.

وأما من حذروه، فكانوا يعتقدون أن للمرأة صفات نوعية تتميز بها عن الرجل، وأن مسلكها وتقدمها ينبغي أن يساير ما انتزع عن فطرتها من الصفات، وألا يتعدى دائرة ما اختصتها. به الأقدار، وألا يخرج عن الميدان الذي يتحقق فيه فوزها في كفاحها الحيوي، ويتجلى فيه إنتاجها في الوجود؛ وهؤلاء يقررون على نحو ما يقول الأستاذ فريد وجدي:

(أنهم ليسوا بدعاة إلى ظلمة القرون الأولى، ولا بمروجي خطة أسر المرأة، بل طلاب كمال يناسب كرامة الإنسانية، ورواد مدنية حقة يقوم عليها الإنسان غير خائن لأمانته، ولا غاش لنفسه)

على أن دعوة قاسم كان لها الفوز على دعوة معارضيه، ولم يكن تحذير المحذرين من بعض ما لا يرضون من نتائج هذه الدعوة بمعوق لها عن الانتشار المتواصل السريع، وذلك لأنه حركة النهوض المصري كانت تشتعل في شتى ظواهر الحياة الاجتماعية من نيف وخمسين سنة. وكان لابد لها أن تمتد إلى الأسرة وتتصل إلى المرأة التي هي دعامة البيت وركنه الركين.

وعلى ذلك سايرت دعوة قاسم مجرى الحياة الاجتماعية المندفعة للرقي، وفسح للمرأة طريق معبد في النهضة العامة، وفتحت لها أبواب التعليم، ونظمت القوانين لمصلحة النساء؛ وعلى الجملة سارت النهضة النسائية في بداية أمرها مؤيدة بالحق يشجعها كل ميال لرؤية المجتمع المصري يسير من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.

الانحراف

لكن بينما كانت تسير نهضتنا النسائية في مجراها الصافي إذ شابها ما يعكر شيئاً من صفائها برغم أنها صدرت عن نبعها الأول، ومن دعوة قاسم، نقية طاهرة، فتحول خروج النساء من عزلتهن عن أن يكون وسيلة يسوغها شرف الغاية ليكون غاية لذاته، أو وسيلة لغاية وضيعة. ولعل من أشد العوامل التي أضعفت قيمة الاختلاط بين المرأة والرجل وسوأت خروجها عن معزلها الذي ظلت فيه طويلاً هو انتشار بعض الآراء دون أن تفهم على وجهها الصحيح، ودون أن تنضج في فهم من تخطفوها وتلقفوها؛ ومن هذه الآراء ذهابهم إلى أن الاختلاط بين النساء والرجال وتوالي المجامع التي يتلاقون فيها من شأنه أن

ص: 8

يهذب من المظاهر، ويعمل على ترفيع النظرات، وترقيق الآداب. وحقاً أن تلاقي النساء بالرجال في الحدود التي تقتضيها حياة التعاون والعمران من شأنه أن يجر إلى عالم النسيان كل الاعتبارات الجنسية.

فالفلاحون الذين يتلافون في الحقول مع الفلاحات لاستغلال خيرات الأرض، إنما يجتمعون اجتماعاً طبيعياً لمقتضيات نافعة قاهرة فيتلاقون بدافع هذه المقتضيات ويفترقون عند انعدامها. والمتبادلون من الناس في المتاجر، إنما يتلاقون لحاجة وينصرفون عند انقضائها، والمتلاقون في المعابد قد يجتمعون رجالاً ونساء لأداء حق من حقوق دياناتهم.

وعلى الجملة، فإن في دواعي الاختلاط الطبيعي الذي يتحقق لدوافعه الداعية ما يعين على ترويض النزعات الجنسية للاستقرار في مكامنها، والوقوف عند حدودها التي تحول دون كل مكروه.

التوسع في الاختلاط وأضرار ذلك

لكن الناس قد توسعوا في هذا الترخص واستباحوا لأنفسهم أن يحوزوا مجتمعات الجد الطبيعية إلى مجتمعات هازلة مصنوعة من شأنها أن تؤدي إلى تحريك الانفعالات التافهة والشهوات الوضيعة والمواقف المرذولة أكثر مما تؤدي إلى ما تزكو به العقول، أو تترفع به النفوس، أو تتحقق به فائدة من فوائد الحياة.

فقد يزدحم النساء والرجال في مجتمع من مجتمعات الشاي أو الخمر (الكوكتيل) فلا يلبث هذا المجتمع أن يتحول إلى معارض التزيين والأناقة، والى مضمار للتأنق بالأقوال الرخيصة، وبذل التظرف المصنوع، واتخاذ الابتسامات المنافقة. وإذا كان لبعض النساء من وسائل الزينة ما ينحدر في المرتبة عن زينة الأخريات، فسرعان ما تنبض القلوب بالغيرة والحسد، أو تدق دقات الزهو الأجوف. وإذا كان في هذه المجتمعات من يعوزه يقظة الفضيلة، وصلابة الخلق، فثم النظرات المسمومة، وثم الأحاديث المهيئة لنزعات السوء ونزعات الشيطان، ومن ثم فضائح لغواية، ومآسي الغيرة، وما قد يجره ذلك من الكوارث في هدم سعادة الأسر.

وإذا ذكرنا مجامع الشاي وحفلات الخمور، فلنضف إليها ما هو أسوأ منها أثراً من منتديات الميسر، والمراقص، والرحلات المشتركة، ومسارح التمثيل الخليع، وحمامات السباحة

ص: 9

الجامعة. وعلى الجملة ضروب المجتمعات التي تخلط بين النساء والرجال، وإثمها أكبر من نفعها لو أن لها نفعاً مذكوراً عند من يحسنونها وينزلقون إليها.

وإذا صح أن بعض ما ذكرت من هذه المجتمعات يخلو مما أشرت إليه من المساوئ ويؤدي إلى فوائده المزعومة من جر الاعتبارات الجنسية إلى عالم النسيان، فإنها تضعف من المرأة عاطفة الحياء، وتوهن في الرجل عاطفة الغيرة، وفي إضعاف عاطفة الحياء خسارة كبرى في المرأة، فإن الحياء زينة لها؛ وفي إيهان غيرة الرجل خسارة كبرى على الرجولة وحماية الأسرة.

ولعل قاسم أمين يخشى أن يتجاوز الناس حدود المعقول فيما دعا إليه من الاختلاط حين دعا إليه بعد أن تجاوزوا حدود المعقول في العزلة فقال:

(والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء)

وهكذا ظلت حركة اختلاط المرأة بالرجل تنمو سريعاً وتشيع إلى أن أصبحت الفتاة التي كانت أمها من نيف وثلاثين عاماً لا تستبيح نفسها الاتصال ببعض المحارم أصبحت هذه الفتاة ترى الاتصال بالرجل للسمر والتسلي حقاً من حقوقها، وليس في الحرص على ذلك من عار ولا تأثيم.

ومن المقرر أن الاختلاط بين النساء والرجال إذا قام على غير مقتضياته الضرورية الجادة، وكان مبعثه اللهو والترف، فإنه لا يلبث أن يقوض دعائم الأمم. وفي تاريخ الرومان شاهد على ذلك:

(فلما دعاهم داعي اللهو والترف إلى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن مجالس الأنس والطرب، فخرجن خروج الفؤاد بين الأضالع، فتمكن ذلك العنصر المهاجم وهو الرجل لمحض حظ نفسه، من إتلاف أخلاقهن، وخدش طهارتهن، ورفع حيائهن حتى صرن يحضرن التياترات، ويغنين في المنتديات، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تنصيب رجال السياسة وخلعهم. فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحالة حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري).

الحرية وسوء فهمها

ص: 10

ولقد أساء الناس فهم معاني الحرية كما أساءوا فهم الاختلاط والدعوة إليه، وجر ذلك إلى عدة شرور. وليس من شك أن الحرية من مطالب النفوس عندما يشكو الناس من نظم اجتماعية تحول بينهم وبين الحقوق الفطرية التي وهبت لهم لتأدية رسالتهم في العمران. وقد ينزع الطير المحبوس لحريته، ويحن للهواء الطلق والأجواء الواسعة، لأن في الحبس تعطيلاً لأجنحته التي سواها الله للطيران، وتتدرج بممارسته لكمال وظيفتها. وقد ينزع الشعب المقهور للحرية التي ضيقها عليه القاهرون لينعم بعزته القومية المسيطرة عليه، ويطمئن إلى عاداته وآماله المحببة إليه، ويستغل ثروة بلاده ونتائج كسبه ومسعاه. وقد يطلب المتبادلون المنافع في أسواق التجارة حرية البيع والشراء ليجد كل من الطالب والعارض ما تتحقق به حاجته ومصلحته وأجره. وقد يهيم المؤلف والكاتب والخطيب حين يصدقون بطلب الحرية لاعتقادهم أن في دعوتهم عوناً للخير والحق. وعلى الجملة قد تطلب الحرية كأداة صالحة يستعين بها المرء لأغراضه العليا من الخير والكمال. فما هي إذن تلك الأغراض العليا التي يقصد النساء إليها ويتخذن من الحرية لها أداة صالحة؟

أما إذا كان طلب الحرية ليصبن من العلم ما يصقل نفوسهن ويقوم أخلاقهن، فلا يمانع في ذلك أحد؛ فطلب العلم الذي تتكمل به النفس فريضة على الناس جميعاً. وإذا كان الباعث على طلب الحرية هو القيام بما ينتفع به المجتمع حين يحتاج لنشاط نسائه، فليس من ينكر عليهن تلك الحرية حين يقتضيها الحال وتدعو إليها الظروف. لكن إذا طلبت المرأة حريتها لغير ما ينفع، كما لو أرادت أن تلبى داعي النزق لتلهو بمخالطة اللاهين، وكما لو اتخذت من الحرية ما يستخدم لهجران بيتها لتأنس بالملاهي والمزارات والتسكع في الأسواق، وكما لو أرادت أن تتخذ من الحرية مطية للتبرج رغبة في الزهو بنفسها والغرور بزينتها، فليس من أحد رشيد يرضي عن حرية تركب للعبث والشطط.

لقد أبيح للكثرة من نساء الغرب تمشياً مع سوء فهم الحرية أن يتعرفن بمن شئن من الناس ويختلطن بالرجال بمحض اختيارهن حينما يشأن طوعاً لحقهن في الحرية، أو اعتماداً على ثقتهن الموهومة بأنفسهن؛ وقد يحاكيهن في ذلك بعض نسائنا في هذا العصر، وفي بعض الطبقات مطوحات بأنفسهن بعيداً عن مألوف العرف المصري والإسلامي، غير مكترثات بما قد يجر إليه هذا الإمعان في الاختلاط من مفاسد خلقية ومن أثر سيئ في بنية الأسر

ص: 11

وفي تقدم المجتمع وكيان الدولة. وفي الحق أن هذا التجديد المروع في عادات نسائنا، هو أشد ما يخشى أثره في أمة كأمتنا ما زالت في طورها الحاضر تحبو في السبيل الموصلة لعظمة الأمم.

فإذا كان قد أصاب دولة الرومان ما أصابها من الضعف عند التوسع في الاختلاط المفسد بين الرجال والنساء، وعند التوسع في إطلاق حريتهن، فإن مثل هذا الاختلاط المنحرف كان له أكبر الأثر في إضعاف بعض الأمم الغربية المعروفة في العصر الحديث حين خبت ثقافتها، وهزل إنتاجها الأدبي المعاصر، وانحلت قوة المقاومة منها عند الجهاد والكفاح الحيوي.

(البقية في العدد القادم)

منصور فهمي

ص: 12

‌الأندية العربية في العراق

للدكتور زكي مبارك

تمهيد - حفلات القبول - السهرات الصحفية بين القاهرة

وبغداد - نادي المعارف - نادي المثنى - نادي الشبان

المسلمين - نادي الهداية الإسلامية - النادي العسكري - نادي

البصرة - نادي الجزيرة - الرابطة العلمية والأدبية بالنجف -

نادي القلم العراقي.

تمهيد

حين زرت بغداد للمرة الثانية سألت معالي الدكتور سامي شوكت عن منزل أخيه الدكتور صائب شوكت فقال: (إنه يقيم في شارع المرحوم أبي نؤاس) وقد فخم كلمة (المرحوم) ليبرز معنى الدعابة في تعبيره الطريف.

والمرحوم أبو نؤاس يحدثنا في خمرياته أنه كان يجد الحانات مغلقة الأبواب، وأنه كان ينادي أهلها من وراء الحجرات ليسعفوه بالشراب وأدوات الشراب، وللشراب أدوات مختلفات الألوان.

وقد سمعت أن حانات بغداد لا تزال على عهدها القديم: فهي تغلق بعد مضي ساعات قلائل من صدر الليل، وتحوج قاصديها إلى قرع الأبواب، برفق أو بعنف، وفقاً لظرف الزمان وظرف المكان، فلكل محلة في بغداد ظروف.

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أريد القول بأن تقاليد العراقيين في القديم والحديث توجب أن تكون سهراتهم في البيوت، على نحو ما كانت الحال في مصر إلى عهد قريب، ويشهد بقوة تلك التقاليد إغلاق الحانات في صدر الليل، وسهرات البيوت في العراق القديم وجدت خلفاً سعيداً هو سهرات الأندية في العراق الحديث.

فكيف الحال هنالك؟ وهل بقى للمنازل حظ بجانب الأندية الأدبية؟

ص: 13

حفلات القبول

في العراق ما يسعى (يوم القبول) وهو ما نسميه في مصر (يوم الاستقبال) وهو يوم من أيام الأسبوع ينتظر فيه الرجل زائريه في الصباح أو في المساء: فمعالي السيد محمود صبحي الدفتري يستقبل زائريه في صباح الجمعة، وهو صباحية جميلة يتلاقى فيها أعيان أهل الأدب في بغداد، ولها تأثير شديد في توجيه الحياة الأدبية والاجتماعية. ومعالي الشيخ محمد رضا الشبيبي يستقبل زائريه في مساء الخميس، وقد يتلطف باستقبال زائريه في كل مساء، لأنه يقيم بضاحية نائية تسمى (الزوية) وله على شط دجلة ناد جميل يشرح الصدور، ويؤنس العيون، وفي ذلك النادي تثار مشكلات متصلة بالعلوم والآداب والفنون، وتسمع فيه أغاريد (أبى كلثوم الوفدي) وهو الشاعر المفتون بأغاني أم كلثوم وأخبار الوفد المصري، هو السيد باقر الشبيبي الذي يحب مصر أكثر مما يحبها المصريون أعزه الله وأدام عليه نعمة الوفاء.

وخلاصة القول أن لأكثر أهل العراق أندية تقام في البيوت أيام القبول وهي أندية توجه الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية وتسير بالمجتمع العراقي إلى غايات فيها القريب والبعيد، وقد تكون لها صلة بما يظهر في الجو العراقي من شؤون وشجون، فالرجال هنالك لا يكفون عن مراقبة الاتجاهات المحلية إلا في أندر الأحايين.

السهرات الصحفية

وبجانب حفلات القبول تقام سهرات الصحفيين في دور الجرائد والمجلات، وهي سهرات فاتنة إلى أبعد الحدود. وهل أنسى سهراتي في إدارة جريدة (العراق) وجريدة (البلاد)؟ وهل أنسى أن إخواني في جريدة (الهدف) كانوا يمدون روحي بأكواب الصفاء؟ وهل أنسى أن كؤوس الشاي في جريدة (بغداد) كانت أطيب من كؤوس الصهباء؟

الصحفيون في العراق يذكرون بإخوانهم في مصر من حيث الجاذبية وخفة الروح، وأنديتهم في جرائدهم تذكر بأنديتنا في جرائدنا، فما ينسى أحد كيف كان النادي الأدبي في جريدة (الجهاد) وكيف يكون النادي الأدبي في جريدة (الأهرام) وجريدة (المصري) وجريدة (السياسة) وإن امتزج نادي (السياسة) بنادي الأحرار الدستوريين. وهل كانت (ندوة

ص: 14

الدستور) إلا ندوة أدبية قليلة الأمثال؟

إن الأنس الذي يجده من يسمر بدار (الرسالة) أو دار (الأهرام) له نظائر فتانة في دار (العراق) أو دار (البلاد)

وكما نجد في سهرات الصحافة المصرية أقطاب الرجال في أكثر الميادين، نجد في سهرات الصحافة العراقية أقطاب الرجال في الأدب والسياسة والاجتماع.

وإذا صح للمنفلوطي أن يسجل أن النادي الأدبي في جريدة (المؤيد) خلق أكابر الباحثين فإنه يصح لنا أن نسجل أن الأندية الصحفية في مصر والشام والعراق سيكون لها فضل عظيم في تكوين الجيل الجديد.

نادي المعارف

وأنتقل إلى الحديث عن الأندية الأدبية فأقول:

أول ناد أدبي عرفته في بغداد هو نادي المعارف، والمعتمد لهذا النادي هو السيد رشيد العبيدي، وهو أديب عراقي تخرج في مصر بمدرسة دار العلوم، وهو زميل السيد حسين بستانة، إليه والى من تخرجوا في دار العلوم أقدم أطيب التحيات، فهم سفراء مصر في العراق.

ونادي المعارف هو نادي المعلمين، وفيه شربت أول كأس من ماء دجلة، وفيه كنت ألقى من يسألون عني في مساء كل خميس.

في نادي المعارف يلتقي المعلمون كل يوم، فيقرءون الجرائد والمجلات، ويتجاذبون أطراف الأحاديث، ويستعدون لاستقبال من يفد على بغداد من رجال العلوم والآداب والفنون.

فإن قلت إن (نادي المعارف) في بغداد له تأثير في توجيه الحياة الأدبية فأنت صادق كل الصدق، لأنه موصول الأواصر بأكثر البلاد العربية، ولأن رجاله من أكابر المدرسين، والمدرسون هم المصلحون الأوائل في جميع الشعوب.

نادي المثنى

ونادي المثنى هو نادي العروبة، ومعتمده هو الدكتور صائب شوكت، ولهذا النادي حفلات

ص: 15

أسبوعية لاستماع المحاضرات ومجاذبة الأحاديث، ومن أعضائه السيد محمد مهدي كبة والدكتور عبد المجيد القصاب والسيد عبد المجيد محمود، وقد تفضل أعضاء هذا النادي فمنحوني (عضوية الشرف)، والذي وصلني بهم هو تلميذي القديم السيد جلال الأورفه لي، ذكره الله بكل صالحة، وأكرمني بدوام نعمته عليه، فهذا المحامي النابغ كان السبب في أن أقضي سهرات جميلة بقصر صاحب السمو الأمير عبد الإله قبل أن يصير وصياً على عرش العراق.

نادي الشبان المسلمين

هو ناد يقوم بالكرخ في دار جمعية الشبان المسلمين، وهو ناد خفيف الروح، وتقام به سهرات مصقولة الحواشي، وفيه سمعت محاضرة جيدة للأستاذ محمد بهجة الأثري، وهو شاعر مجيد يعرفه قراء الرسالة، وله صداقات متينة مع كثير من الأدباء الكبار في مختلف البلاد العربية. وكانت له مطارحة أدبية مع الأستاذ الزيات سجلها في كتيب لطيف. وقد عرفته أول مرة حين دعاني سعادة الأستاذ عبد القادر الكيلاني للتسليم عليه في دار المفوضية العراقية بالقاهرة، والسيد عبد القادر هو اليوم عراقي له دار مصرية في بغداد، وهو النموذج الحق للذاتية العربية والإسلامية، أدام الله نعمة التوفيق.

نادي الهداية الإسلامية

لم أزر هذا النادي، وإنما رأيت آثاره الجميلة في إحياء المواسم الإسلامية، وله مجلة باسمه يديرها الأستاذ الطائي، ومن أعاظم رجاله الأستاذ طه الراوي، وهو رجل عظيم لا أمل ولن أمل من الثناء عليه، بعد أن رأيت دموعه تنحدر يوم أطلق الرصاص على بعض الأساتذة المصريين في بغداد.

وطه الراوي أستاذ مخضرم تزود من الثقافة الدينية والثقافة المدنية، وهو من أقدر الناس على ضبط النفس، فما تسمع منه كلمة تشوك خصومه في محضر أو مغيب. ويوم تفكر مصر في مبادلة الأساتذة سيكون من واجبي أن أقترح استقدامه للتدريس في كلية اللغة العربية أو دار العلوم أو كلية الآداب.

فمتى تفكر مصر في هذا النظام ليتعارف المصريون والعراقيون بدون التعرض للتكاليف

ص: 16

المالية؟

والمهم أن أسجل أن هذه الجمعية لها مجلة تنشر الثقافة الدينية والأدبية كالجمعية الشبان المسلمين مجلة تسمى (العالم الإسلامي) ولهاتين المجلتين تأثير في تكوين الأذواق وتهذيب النفوس، وإن كنت لا أدري ما صارتا إليه بعد أن حرمت الاستصباح بظلام الليل في بغداد.

النادي العسكري

هو نادي الضباط، وهو ناد له في ذهن الأستاذ الزيات تاريخ. فقد قال فيه كلمة لن ينساها البغداديون، فما هي تلك الكلمة؟ أظنه قال أنه كان يسمع فيه صوت السكون، فما استطعت الاتصال به عند كتابة هذا الحديث فأعرف بالضبط ماذا قال، لأني شرعت في كتابة هذا الحديث وأنا بغبار السفر بعد الرجوع من بغداد، بل أسوان.

وفي النادي العسكري سمعت نكتة عراقية: صحبني إليه رفيقان: هما السيد صادق الوكيل، والسيد جواد الشهر ستاني، وأراد السيد جواد أن يدلني على الطريق، فقال السيد صادق: لن يحتاج الدكتور مبارك إلى دليل عند الدخول، ولكن سيحتاج إلى دليل عند الخروج!

فهل كان يعرف هذا الشقي أن نشوة الأسمار والأحاديث ستحوجني بعد السهرة إلى السؤال عن الطريق؟

في النادي العسكري يسهر جماعات من ضباط الجيش العراقي وهم رجال على جانب من العلم والأدب والوطنية، وفيهم السيد مجيد الهاشمي، وهو رجل منوع المواهب، وله دراية بكثير من فنون المعارف والآداب، وهو من صلات الوصل بين مصر والعراق، لأنه موصول القلب والعقل بأكثر ما يصدر عن وادي النيل.

نادي البصرة

هو مجتمع أهل الفضل بوطن (الجاحظ) و (إخوان الصفاء)، ولو طالت إقامتي بالبصرة لاستطعت تسجيل ما به من خصائص تمثل ما عند أهل الجنوب من شمائل بيض، فأهل البصرة بشهادة جميع أهل العراق يمتازون باللطف والوداعة والكرم والجود، وقد سمعت عن السيد الشمخاني أحاديث تذكر بأخبار معن بن زائدة الشيباني، وآخر ما سمعت هو ما

ص: 17

قرأت في جريدة الأستاذ عبود الكرخي عن أخبار السيد الشمخاني في مواسم الصيد.

نادي الجزيرة

هو منتدى أهل الفضل بالموصل، ومعتمد هذا النادي هو تلميذي القديم الأستاذ جيلمران، وهذا النادي يقع على شط دجلة وفي رحاب حديقة جميلة هي معترك العواطف بالموصل، وله تأثير شديد في وصل الأواصر الأدبية بين الأمم العربية.

الرابطة العلمية

هي أعظم جمعية أدبية بالنجف (الأشرف)، وإنما وصف النجف بالأشرف منافسة للأزهر (الشريف). ففي النجف معهد ديني يسير على أسلوب الأزهر في أكثر الشؤون، وإن لم يستطع مسايرة الأزهر في الانطباع بطابع الزمان.

والرابطة العلمية والأدبية بالنجف لها لون خاص، فأدباؤها في حكم المنعزلين عن أدباء الموصل والبصرة وبغداد، ولهم في إنشاء الشعر طريقة لا يعرفها من سكان العراق غير النجفيين، وهي طريقة تقوم على قواعد الترنيم، وعلى مثلها كان الشيخ سيد المرصفي ينشد الشعر في دروسه بالأزهر الشريف.

نادي القلم العراقي

هو تاج الأندية العراقية، أسس منذ سبع سنين أسوة بأندية القلم في كثير من أقطار العالم القديم والعالم الجديد، واختير الشاعر جميل صدقي الزهاوي رئيساً، والدكتور محمد فاضل الجمالي نائب رئيس، والدكتور متي عقراوي أميناً للصندوق، والأستاذ إبراهيم حلمي العمر كاتم أسرار.

والرئيس اليوم هو معالي الشيخ محمد رضا الشبيبي، ونائب الرئيس هو الدكتور محمد فاضل الجمالي، وأعضاؤه يزيدون على الثلاثين، وهم يختارون من بين الرجال الموسومين بالمواهب العلمية والأدبية.

ليس لهذا النادي دار، وإنما يجتمع الأعضاء من وقت إلى وقت في منازل يتوافون إليها على ميعاد، فهم اليوم في منزل الأستاذ عباس العزاوي، وهم غداً في منزل الأستاذ جعفر خياط، وهم بعد غد في منزل الأستاذ باقر الشبيبي. . . الخ. وعلى من يجتمعون في داره

ص: 18

أن يقدم إليهم الشاي أو المرطبات، إن اجتمعوا في العصرية، فإن اجتمعوا في المساء كان من واجبه أن يتلطف بتقديم العشاء الخفيف. ولا يجتمعون في المساء إلا إن كانت دار الداعي في مكان بعيد.

وفي كل اجتماع يلقي أحد الأعضاء مسامرة علمية أو أدبية أو اجتماعية. ثم يدور النقاش بعد استئذان الرئيس، وقد يصل النقاش إلى درجات من العنف لا يخففها إلا ضحكات الدكتور الجمالي وفكاهات الأستاذ أبى إيناس.

وأعضاء هذا النادي في غاية من الحيوية، وهم يرسلون من يمثلهم في المؤتمرات التي يقيمها نادي القلم العالمي. وقد أصدر أخيرا مجموعة نفيسة ضمنوها طوائف من المحاضرات التي ألقيت في اجتماعاتهم الدورية، وتقع هذه المجموعة في أكثر من ثلاثمائة صفحة بالقطع المتوسط، وبها رسوم لجميع من حوى هذا السفر أبحاثهم الجياد.

نجد في صدر المجموعة مقالاً علمياً عن المجريطي إمام فلاسفة الأندلس في الرياضيات والطبيعيات، وهو مقال مفصل دبجه الأستاذ محمد رضا الشبيبي. ولهذا الأستاذ الجليل بحث آخر في هذه المجموعة سماه (قصة فتح بغداد)، وهو يصور ما كان عليه المغول من القوة الحربية والسياسية يوم استطاعوا اجتياح العراق؛ ويمكن بسهولة أن نعد هذا البحث من فلسفة التاريخ.

وهنالك بحث شائق للأستاذ أحمد حامد الصراف عن (الغلاة) وهي الفرقة التي تعبد عليا وتراه خالق الكون وسر الوجود

ولنا ملاحظات على هذا البحث يضيق عنها هذا الحديث، وقد نرجع إليها بعد حين.

وفي هذه المجموعة خلاصة وافية لأعمال المؤتمر الرابع عشر لأندية القلم وقد عقد في بونيس إيرس بالأرجنتين (5 - 15 أيلول سنة 1936)، وهذه الخلاصة هي تقرير قدمه الأستاذ مجيد خدوري مندوب نادي القلم العراقي، وفي هذا التقرير إشارات إلى شؤون أدبية وفلسفية تستحق الالتفات.

ويهمني أن أوصي قراء الرسالة باقتناء هذا السفر النفيس، فهو عصارة جهود محمودة في خدمة العلوم والآداب، وهو يصور جوانب من النشاط العلمي والأدبي في بغداد.

ثم ماذا؟ ثم أجمل الغرض من هذا الحديث فأقول:

ص: 19

إن الآثار المدونة في الجرائد والمجلات والمطبوعات لا تمثل أعمال الأندية العراقية كل التمثيل، ففي تلك الأندية تدور مطارحات ومساجلات تفوق العد والإحصاء، وفيها تدرس أعمال الأدباء الذين يصل صرير أقلامهم إلى العراق. ولأدباء الرافدين موازين في النقد الأدبي لا تخلو من تحري الدقة والعدل، وهم يعرفون من أخبارنا الأدبية كل شيء، ولا تغيب عنهم مرامينا إلا في النادر من الأحيان، كأن يصدقوا أقوال المصريين بعضهم في بعض، وما دروا أن تهاجي الصحف المصرية باب من الرياضة على إجادة التعبير في مختلف الأغراض.

والظاهر أني مضطر إلى تذكير أدباء مصر بأنهم لا يكتبون لأنفسهم، وإنما يكتبون لأقطار كثيرة، وتلك الأقطار قد يغيب عنها غرام المصريين بالنكتة والمزاح، فما ترسله على سبيل الفكاهة قد يظن من الحقائق، ثم يؤول أسوأ التأويل.

أما بعد فهل يرى القراء أني دللتهم على مظاهر الحيوية الأدبية في أرجاء العراق؟

إنني أوجزت القول عن الأندية الأدبية لأدخر الفرص للحديث عن رجال الصحافة وقادة الفكر في تلك البلاد، فما أحوال الصحافة العراقية؟

سأرى ويرى معي القراء كيف تجول الأقلام وتصول في وطن دجلة والفرات، على شرط أن يرفع الحجاب بيني وبين زملائي هناك، فلا يقال إنني أخرج على آداب الصداقة والأخوة حين انتقل من الحمد إلى الملام. وهل أذكر أهل العراق بالسوء إلا مصانعة للكاشحين والحاقدين؟

كلانا مُظهِرٌ للناس بُغضاً

وكلٌّ عند صاحبه مكينُ

تخبَرنا العيون بما أردنا

وفي القلبين ثَم هوَى دفين

زكي مبارك

عضو نادي القلم العراقي

ص: 20

‌6 - في العقد

لأستاذ جليل

45 -

(ص 372) هند بنة أسماء

(ص 99) بإبراهيم

(ص 35) لا ستر الله عليّ إذاً ذنبي

(ص 117): كان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول: يأهل الإسلام، إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وأن مع الصبر النصر.

قلت: أراد محققو (العقد) أن تظهر (ابنة، وإذن، ويا إبراهيم، ويا أهل) كما رأيت استناداً إلى بعض مؤلفات في (الإملاء) على انهم لم يعملوا في كثير من الألفاظ بما جاء فيها.

وللفظة (ابنة) بين علمين في (أدب الكتاب) لابن قتيبة قول يخالف غيره، وهو هذا:(وتكتب هذه هند ابنة فلان بالألف وبالهاء، فإذا أسقطت الألف كتبت هذه هند بنت فلان بالتاء)

وفي (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) لابن السيد البطليوسي بحث في إذن وغيرها جدير بالنشر وهو هذا: (قد اختلف الناس في إذن كيف ينبغي أن تكتب، فرأى بعضهم أن تكتب بالنون على كل حال، وهو رأى أبي العباس المبرد. ورأى قوم أن تكتب بالألف على كل حال، وهو رأى المازني ورأى القراء أن تكتب بالنون إذا كانت عاملة وبالألف إذا كانت ملغاة. وأحسن الأقوال فيها قول المبرد. لأن نون إذن ليست بمنزلة التنوين ولا بمنزلة الخفيفة فتجري مجراها في قلبها ألفا، إنما هي أصل من نفس الكلمة، ولأنها إذا كتبت بالألف أشبهت إذا التي هي ظرف، فوقع اللبس بينهما. ونحن نجد الكتاب قد زادوا في كلمات ما ليس فيها، وحذفوا من بعضها ما هو فيها للفرق بينها وبين ما يلتبس بها في الخط. فكيف يجوز أن تكتب إذن بالألف، وذلك مؤد إلى الالتباس بإذاً؟

وقد اضطربت آراء الكتاب والنحويين في الهجاء، ولم يلتزموا فيه القياس، فزادوا في مواضع حروفاً خشية اللبس نحو واو عمرو، وألف مائة، وحذفوا في مواضع ما هو في نفس الكلمة نحو خالد ومالك، فأوقعوا اللبس بما فعلوه، لأن الألف إذا حذفت من خالد صار خلداً، وإذا حذفت من مالك صار ملكا. وجعلوا كثيراً من الحروف على صورة واحدة كالدال

ص: 21

والذال والجيم والحاء والخاء، وعولوا على التقط في الفرق بينها، فكان ذلك سبباً للتصحيف الواقع في الكلام. ولو جعلوا لكل حرف صورة لا تشبه صورة صاحبه كما فعل سائر الأمم، لكان أوضح للمعاني وأقل للالتباس والتصحيف. ولذلك صار التصحيف في اللسان العربي أكثر منه في سائر الألسنة. . .)

قلت: أصاب ابن السيد في بعض ما قال، وأشط في بعض و (ألقى الشيطان في أمنيته. . .). وإن الإعجام ولا سيما في التنقيط، والعمل بأقوال أئمة في الإملاء مسهلة، وعلامات الترقيم، وشيئاً من التيسير لا يضير. . . في كل ذلك مرغب البطليوسي وأمثاله في هذا العصر من مستصعبي الحروف العربية واكثر من مطلوبهم. والحروف العربية والحروف الفرنجية كلها من جنس واحد، كما ذكر ذلك في (الرسالة) رقم 226 ص 1781. وليست المشكلة ولا البلية في الحرف، ولكن في الانحراف. . .

46 -

(ص 360):

الوحي بين بني البنات وبينكم

قَطع الخصامَ فلات حين خصام

قلت: قطع الخصام، والجملة خبر الوحي، وهذا ما يعنيه الشاعر المستجدي، وإن كان لذاك الشكل وجه. والبيت في قصيدة من أشهر قصائد (التملق) وفحواها أن الله أعطى العباسيين لا العلويين الفاطميين (إمامة) المسلمين وسياسة دنياهم كيف؟ ولماذا؟

مروان بن أبي حفصة لا يسأل عن هذا (الإنطاء)، ولا يدري لماذا؟

لا يبحث عن كيفية ولا سببية، ولا يهمه عباسية ولا علوية، و (بيت القصيدة) عنده هو تلك المنقوشة المسجدية واللينية

(وعلى المنقوش داروا)

وفي (الإسلام الصحيح) القول الحق الصريح في الإمامة وفي أمور ذات بال.

47 -

(ص 158): قال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة بني عبد الله بن الحسن. . .

قلت في طبعات العقد السابقة: لمحاربة عبد الله بن الحسن، وفي هذا القول خطأ، فزاد محققو الكتاب محسنين الكلمة (بني) وزيادة (ابني) أوفق؛ فالثائرون هما: محمد (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن.

ص: 22

48 -

ص 66. . . قال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال: أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد - وكان عامله على المدينة - قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ (بالإحنة) ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشر. قال: ما تقول في؟ قال: أعفني. قال: لابد أن تقول؛ قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية. قال: فتغير وجه أبي جعفر؛ فقال إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهرني بدمه يا أمير المؤمنين، قال: اقعد يا بني، فليس في دم رجل يشهد أن لا اله إلا الله طهور.

وجاء في الشرح في تعليقة (بالإحنة): كذا في 1. والذي في سائر الأصول: (بما لا يحققه)، والمعنى يستقيم على كلتا الروايتين.

قلت: الإحنة الحقد، والغضب الطارئ من الحقد. والظن أن (بالإحنة) هي (الرشا)، ولا يستبعد هذا في باب التبديل والتحريف والتصحيف، وما بذ (العقد) بسائر الكتب بكل ذلك من شيء قليل. . . والرجل يسجع، والرشا والهوى يتفقان. . . ووصفه العامل بأخذ الرشا أهون خطباً من ذلك (التقريظ) الذي لطم به وجه الخليفة. . . وهو الخليفة.

48 -

(ص 250) قال سابق البلوى:

وداهن إذا ما خفت يوماً مسلطاً

عليك، ولن يحتال من لا يداهن

قلت: أظن أنه سابق البربري كما في حماسة البحتري وشرح المقامات للشريشي. وفي التاج: (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري، روى عن أبى حنيفة رحمه الله وعن طبقته، مشهور عندهم) وروى البحتري له في حماسته هذا البيت الفذ:

وفي البحث قدماً والسؤال لذي العمى

شفاء، وأشقى منهما ما تعاين

وقد يكون هو وبيت العقد من قصيدة واحدة، وروى الشريشي هذين البيتين لسابق البربري:

فحتى متى تلهو بمنزل باطل

كأنك فيه ثابت الأصل قاطن

وتجمع ما لا تأكل الدهر دائباً

كأنك في الدنيا لغيرك خازن

49 -

(ص 252) قال ابن أخت تأبط شرا:

ص: 23

مطرق يرشح موتاكما

أطرق أفعى ينفث السم صلُّ

قلت:

مطرق يرشح موتاكما أطرق أفعى ينفث السم صلُّ

وقافية البيت مطلقة، والتشديد غير جائز ولو كانت مقيدة، والبيت من قصيدة تنسب إلى تأبط شراً والى ابن أخته وكلاهما من الأسرة الخلفية. . . وقد نقل (جوته) معانيها نظماً إلى الجرمانية وسماها نشيد الانتقام، وسأنشرها وكلمة موجزة في شاعر الجرمان الأعظم

50 -

(ص 218). . . كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل السلطان أنه يعرض ضيعة له بواسط في مغرم لزمه للخليفة، فحمل وكيلاً له على بغل وأترع له خرجاً بدنانير وقال له: اذهب إلى واسط

قلت: بواسط. . . إلى واسط

قال (الكتاب): وأما واسط فالتذكير والصرف أكثر، وإنما سمى واسطاً لأنه مكان وسط بين البصرة والكوفة؛ فلوا أرادوا التأنيث قالوا واسطة، ومن العرب من يجعلها اسم أرض فلا يصرف.

في معجم البلدان: قال أبو حاتم: واسط التي بنجد والجزيرة تصرف ولا تصرف، وأما واسط البلد المعروف فمذكر لأنهم أرادوا بلداً واسطاً أو مكاناً واسطاً فهو منصرف على كل حال.

قالوا: وقد يذهب به مذهب البقعة والمدينة فيترك صرفه. وأنشد سيبويه في ترك الصرف:

منهن أيام صدق قد عرفت بها

أيام واسط والأيام من هجرا

ولقائل أن يقول: أنه لم يرد واسط هذه فيرجع إلى ما قاله أبو حاتم:

51 -

(ص 370)

إذا ما أبى شيئاً مضى كالذي أبى

وإن قال إني فاعل فهو فاعل

وجاء في الشرح: في الأصول والأمالي في الموضعين (أني) وهو تصحيف

قلت: في طبعة الكامل في التاريخ لابن الأثير مثل رواية الأمالي والأصول، ورواية (العقد) هنا أفضل. وفي تاريخ الطبري (ج 9ص 209)

إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أبى

وإن قال إني فاعل فهو فاعل

ص: 24

وإن ثبتت هذه الرواية فالمعنى أنه إن قال فعل، وتصميمه على ما يأتيه ومضيه فيه كإبائه ما يأباه كما قال:

أبى لما آبى سريع مبانء

في كل نفس تنتحي في مسرتي

52 -

(ص 142)

أريد حياته ويريد قتى

عذيرك من خليك من مراد

قلت: البيت في قصيدة لعمرو بن معد يكرب. وروايته في كتاب سيبويه والكاسر والطبري والخزانة وغيرها: (أريد حباءه)، وكان أحد الفضلاء خطأ في (الرسالة) أريد حياته. وهي رواية في البيت، ففي شرح شواهد الكتاب للشنتمري:(ويروى أريد حياته) وفي الخزانة للبغدادي: (ويروى أريد حياته بلفظ ضد الممات) فلا خطأ هناك.

في القول ذي الرقم 5 لسنة 401 ص 292) قلت:

وعذر جمع عذير وقد جاء في الشعر مخففاً. وقد استندت في أمر التخفيف إلى الصحاح وغيره ثم رجعت في المخصص (ج 13 ص 82): والعذير ما يخلو به لإنسان ويلزمه، والعذير أيضاً الحال منه، وكل ما يعذر عليه عذير والجمع عذر، وأنشد:

(وقد أعذرتني في صلالكم العذر)

احتاج إلى تخفيفه، هذا قول أبي عبده وهو خطأ، بل التخفيف جاء على اللغة التميمية

وقلت في (حل في مالي النزر: حل في مالنا النذر. وهي رواية الديوان وغيره، ثم وجدت في الخزانة (ج 2 ص 164) حل في مالنا النزر أي القلة

وفي القول ذي الرقم (25) الرسالة (402 ص 317) طارت قيس في (التاج) والجملة هي هذه: في التاج: القطامي ويضم، الفتح لقيس وسائر العرب يضمون.

ويضاف إلى ما ذكره العلامة الأستاذ الأثري وما ذكرته في شأن الفتح والضم في القطامي هذا القول في (تهذيب إصلاح المنطق) ج 1ص 186 في باب الفعل والفعال: (وقطامي وقطامي للصقر)، وهذا القول في خزانة البغدادي (ج 1 ص 392):. . . وله (أي عمير بن شييم) لقبان، أحدهما القطامي منقول من الصقر، يقال له قطامي بفتح القاف وضمها واللقب الآخر صريع الغواني، قال النطاح: أول من سمى صريع الغواني القطامي بقوله:

صريع غوان راقهن ورقنه

لدن شبَّ حتى شاب سود الذوائب

ص: 25

وصريع الغواني لقب مسلم بن الوليد أيضاً لقبه هارون الرشيد بقوله:

هل العيش إلا أن تروح مع الصبا

وتغدو صريع الكأس والأعين النجل

قلت: أنا أنشد:

هل العيش إلا أن تروح أخاعُلا

وتغدو خدينَ النُّبلِ والعلمِ والفضلِ

(* * *)

ص: 26

‌يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند

‌الشرقيين

للأستاذ عباس محمود العقاد

جرت في هذا المعنى وضده مناظرة في كلية الآداب بين

الأستاذ العقاد وفريق آخر من جهة، وبين الأستاذ الرافعي

وفريق آخر من جهة أُخرى. وقد نشرنا في العدد الماضي

رأى الأستاذ الرافعي، وفي هذا العدد ننشر رأى الأستاذ العقاد.

حضرات الإخوان والأبناء

كان من نصيبي في مناظرة هذه الليلة أن أؤيد الرأي القائل بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية عند الشرقيين.

وقيل أن أدخل في تفصيلات هذا الرأي أسال سؤالاً لا أنتظر عليه جواباً لأن جوابه معروف. وهذا السؤال هو: هل يستطيع أحد أن يقول بأن الشرق خلا من العقول الناضجة في العصور القديمة؟ هل خلا الشرق من الحياة العقلية الناضجة يوم أن كان التراث الشرقي هو التراث الذي لا تراث غيره؟

فإذا كنا لا نرى أحداً يستطيع أن يزعم ذلك فقد حكمنا بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، لأننا إذا أنكرنا هذه الحقيقة وجب أن نقول إن الشرق خلا من العقول الناضجة قديماً وحديثاً؛ وهذا ما لم يقل به أحد من الشرقيين ولا من الغربيين. وأحسب أن مناظري الفاضلين أول من يشتد في نفي هذا الزعم لو جرى به لسان في هذا المكان أو في غير هذا المكان.

وبعد فمن الواجب أولاً أن نعرف ما هو التراث الشرقي؟ ثم نعرف ما هو النضج العقلي؟ ثم نصل إلى النتيجة التي تؤدي إليها معرفتنا بهذا وذاك على وجه الدقة كما يقول الأدباء مقترحو المناظرة. . .

فإذا تكلمنا عن التراث الشرقي أو التراث الغربي خرجت من حسابنا العلوم الطبيعية

ص: 27

التجريبية أو العلوم التي اصطلحنا على تسميتها بالعلوم الحديثة؛ لأن الحقيقة من حقائق الحرارة أو الضوء أو قوانين الحركة أو خصائص الأجسام - هي حقيقة ثابتة في جميع الجهات الأصلية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بلا اختلاف. أو هي حقيقة إنسانية عالمية تتقرر في لندن كما تتقرر في القاهرة وبغداد، ولا يكشفها الإنسان حين يكشفها باعتباره شرقياً أو غربياً، أو باعتباره مولوداً في الشمال أو الجنوب، ولكنه يخترعها باعتباره إنساناً مدركاً لما حوله حيث كان. وإذا اتفق أن كثيراً من هذه الحقائق العالمية قد كشفها أناس من الغرب فليس معنى ذلك أنها خاصة بالغرب وأهله؛ إذ هي تتمة للحقائق الطبيعية التي سبقتها منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة، فهي جزء من التراث الإنساني لا مراء.

ويخلص لنا من ذلك أن التراث الشرقي هو التراث الذي عليه صبغة الشرق وينتمي إليه ولا يمكن أن ينتمي إلى غيره، وإن التراث الغربي هو التراث الذي عليه صبغة الغرب وينتمي إليه ولا يمكن كذلك أن ينتمي إلى غيره. أما العلوم الطبيعية فليست عليها صبغة شرقية ولا غربية، ولا مانع من أن يكون الإنسان شرقي التراث وإن يكون ملماً بالعلوم الطبيعية في وقت واحد. وعلى هذا كيف يتطرق إلينا الشك في أن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية عند ذويه؟ بل إذا كان التراث الشرقي وحده قد أخرج عقولاً ناضجة في جميع العصور، فكيف لا يخرج هذه العقول إذا جاز أن يقترب بالعلم الطبيعي وما إليه من تراث الإنسان؟

شيء آخر يجب أن يخرج من حسابنا إذا تكلمنا عن تراث الشرقيين وتراث الغربيين، ونعني هنا المعارف الرياضية من هندسة وحساب وما هو من قبيل هندسة والحساب، فإن الحقيقة الرياضية لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا بتغير الأمم والأفراد. وليس من شأنها أن تصطبغ بالصبغة الشخصية أو بالصبغة القومية حيث كانت، بل هي لا تتوقف على المشاهدات والمحسوسات بمقدار ما تتوقف على قوانين العقل المجرد المعزول عن خصائص الأوطان والأزمان. . . وأين هي الحقيقة الرياضية التي يصح على أي وجه من الوجوه أن تسمى حقيقة يونانية أو مصرية أو صينية؟ وأين هي الرياضة الشرقية أو الرياضة الغربية؟ إذا قيل أن هذا قانون رياضي فقد قيل هذا قانون إنساني يمسكه الشرقيون والغربيون على السواء، وامتنع أن يتعارض هذا وما يسمى تراثاً للشرقيين أو

ص: 28

للغربيين.

ومما تقدم يتبين لنا أن التراث الشرقي يجتمع مع العلم الطبيعي والعلم الرياضي في بيئة واحدة. ونعود فنقول مرة أُخرى: إن أحداً لم ينكر أن العقول نضجت في الشرق على تراثه دون غيره، فكيف ينكر أحد أنها قابلة للنضج إذا جاز أن تضم إليه العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية؟

ونصل بعد هذا إلى النضج العقلي لنقول في التعريف به كلمة وجيزة تؤكد معنى ما قدمناه.

فالعقل الناضج كجميع الملكات الناضجة والحواس الصحيحة إنما يتم له النضج بالمرانة والمزاولة أيا كان الشيء الذي تقع فيه المرانة والمزاولة.

فحاسة البصر مثلاً تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الأشجار كما تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الصخور.

وعضلات الجسم تقوى بحمل النحاس كما تقوى بحمل الحديد أو الفضة أو الذهب أو الجواهر الكريمة.

والعقل يستوفي نضجه بأن يعمل ويفكر ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه.

فالمهم في تصحيح الملكات والقوى العقلية أو الجسدية إنما هو في العمل والمرانة، لا في الموضوعات والمواد التي يتناولها عمل العامل ومرانة المتمرن؛ إذ هي في المنزلة الثانية من الأهمية. وقد يقوى النظر في الصحراء وهي خاوية أشد من قوته في المدن وهي آهلة حافلة، ما دام النظر في الصحراء عاملاً لا يكف عن الرؤية والانتباه.

ومؤدى ذلك أن المهم في إنضاج العقل الشرقي أن يعمل ولا يكف عن العمل، سواء كان موضوعه تراث الشرقيين أو تراث الغربيين.

فإذا عمل فهو ناضج، وإذا وجد مادة التفكير فهو مفكر، وإذا امتلأ بالإدراك فهو مدرك: أيا كان موضوع تفكيره وإدراكه

والمثل المحسوس هنا أحق بالتقرير من الآراء العامة والأحكام المطلقة، فلنضرب الأمثلة بالأسماء المعروفة ولا نقصر القول على رأي مقنع أو حكم مسلم البرهان.

فما القول في هارون الرشيد؟ وما القول في ابن خلدون؟ وما القول في جمال الدين

ص: 29

الأفغاني؛ وما القول فيمن سبقهم أو لحق بهم من (الناضجين) الأفذاذ؟

أكان هارون الرشيد حاكماً ناضج العقل أو لم يكن كذلك؟ وابن خلدون - ألم يكن مفكراً تاريخياً للتفكير يقل نظيره في السابقين واللاحقين؟

وهكذا يقال في جمال الدين الأفغاني وكل دراسته شرقية، وكل ما استفاده من قليل الثقافة الإفرنجية لم يؤثر في تكوين عقله ولا في طبيعة التراث الشرقي الذي نشأ عليه. فهم جميعاً أنضج عقلاً من التلميذ الحديث الذي يعلم من العلوم العصرية ما لم يكونوا يعلمون.

هؤلاء ناضجون لا مراء، وكانت لهم ومن حولهم حياة عقلية ناضجة لا مراء، وكان التراث الشرقي هو التراث الذي عولوا عليه بغير التباس ولا مناقضة، إذا جاز الالتباس أو جازت المناقضة في شؤون الرجال النوابغ الذين يعيشون معنا الآن.

والواقع - أيها الإخوان والأبناء الأعزاء - أن الشرقيين لا يمكن أن تنضج لهم حياة عقلية في غير تراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم.

فغير ممكن كما أسلفنا أن نجعل العلم الطبيعي تراثاً شرقياً أو غربياً بأية صفة من الصفات؛ وغير ممكن كذلك أن نجعل العلم الرياضي تراثاً ينسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين.

فلم يبق إذن إلا التراث الخاص بالشرقيين الذي لا يشاركهم في خصائصه مشارك من العالمين، وهو التراث المشتمل على ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد سلوك، وفي طليعته روح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية، وما يصاحب ذلك من فقه شريعة ودين.

وقد يسأل السائل في هذا المعرض: وما الرأي في الأشعار والأمثال والحكايات التي تنقل من الغربيين، وهي تراث غربي لا نزاع فيه؟

فجوابنا على هذا السؤال أن التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرقيين ينقسم إلى قسمين: القسم الذي يمكن أن يمتزج بحياتهم وهو من نوع تلك الحياة فلا يلبث أن يدخل في الشرق حتى يصطبغ بصبغته ويجري على سنته، ومثله في هذه الخصلة مثل التفاحة الأمريكية التي تجري في دم آكلها من المصريين: هي تفاحة أمريكية ما في ذلك خلاف؛ لكن الدم الذي يتولد منها في عروق آكلها دم مصري وليس بالدم الأمريكي أو الذي ينمى صاحبه إلى الديار الأمريكية.

ص: 30

وفرق بين هذه الحالة وحالة النسب الذي يخلط الدماء بالدماء ويخرج لنا سلالة لا هي إلى هنا ولا إلى هناك.

والقسم الآخر من التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرق هو القسم الذي لا يمتزج بحياة الشرقيين ولا يدخل لهم في عقل ولا روح. وهذا غريب عنهم وهم غريبون عنه. وحكمهم فيه حكم المتفرج العابر الذي يمر به وكلاهما باق حيث كان: هؤلاء شرقيون وذلك تراث غربي لا يدخل في عوامل النضج العقلي أو في عوامل التكوين، سواء رجعنا فيها إلى الأفراد أو إلى الشعوب.

ومعنى هذا أن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين فهي شرقية لاحقة بالتراث الشرقي، أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه، ولا يصح أن تنسب إلى غير الشرق إلا كما يصح أن تنسب دماؤنا إلى استراليا وأمريكا لأننا نأكل القمح الأسترالي والفاكهة الأمريكية في بعض الأوقات.

وعلى أية حال ليس لنا مناص من إحدى اثنتين: إما أن نقرر أن الشرق خلا من الحياة العقلية الناضجة في جميع العصور وهو مخالف للمعقول ومخالف لإجماع الآراء؛ وإما أن نقرر أن الشرق قد عرف الحياة العقلية الناضجة ولو في عصر واحد من عصوره، وهذا في لبابه مرادف لقولنا: إن التراث الشرقي كافٍ لنضج الحياة العقلية بين الشرقيين.

عباس محمود العقاد

ص: 31

‌الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

- 4 -

ثلاث الكليمات التي تقدم إيرادها هي بيان وجيز لملاحظات على الغناء والموسيقى في مصر والغرب، يلاحظها كثيرون منا، ولم يقصد بعرضها جميلة سوى لفت النظر إلى ضرورة الأخذ في إصلاح جدي يقوم من أود هذين الفنين وما يتعلق بهما عندنا. فإن استصوبها فنان محب لفنه، وأحس بقدرة على شيء من هذا الإصلاح وتهيأ له، فتوخاه ومهد سبيله، كان له فضل الابتداء والسبق في خدمة جليلة.

والذي يجمل بذوي الهمة من الفنانين هو قبل كل شيء، أن يحاولوا رفع ذلك الحب المريض من حضيض ذله الذليل، وإن يطبوه بأشعة البشاشة وروح الهشاشة لعلهم يزيلون عن قلبه تسعة وتسعين في المائة - على الأقل - من هذا الحزن الذي ران عليه، وينقذونه من طوفان دمعه السخين؛ والمجال، بعد هذا الإسعاف، واسع شاسع الأطراف: أفليس أمامهم حب الأصحاء، سعيده وشقيه؟ وسائر الأحاسيس والخوالج كنز لا يفنى. لهم أن يختاروا منه ما يسهل وصفه: كألوان العواطف الوطنية والعائلية، وكالحماسة والفرح وغيرهما؛ وفي الطبيعة جمال مشرق باسم يمرح الشباب أمامه في أحضانها ويلاعب ويداعب، ويتهكم ويغاضب، ويجالس ويؤانس، ويتراقص ويتعاشق، ويغني ويطرب في هناء وابتهاج. كل ذلك قد لا يتعذر على الفنان الحي تصويره بمنظوم شعره ومنثوره، أو بألحانه، أو غنائه، أو موسيقاه، إن هو أن اعتمد على بصيرته وبصره، واستهدى شعوره، وراد آفاق نفسه، وطلوع وحي قلبه محترساً من تقليد سواه.

وإذا حل أن يعبر للعامة عن أمثال هذه الموضوعات بالعامية فهل يحرم أن يعبر عنها بالفصحى للصفوة المثقفة، وبالفصيحة السهلة الواضحة للخاصة المتعلمة على أن يكون إلا تجاه بها إلى التعميم؟

والمأمول أن ترجح في الغناء كفة ما كان من النثر والنظم شعراً ما دام مجرد استعمال الكلمات التي ألفها الشعراء: كالقمر والزهر والفؤاد والوداد والنيل والنخيل، لا يرد غث الكلام وسفسافه شعراً. وإن بين الناثرين والناظمين شعراء بصراء، تشعر أغانيهم بقدرة

ص: 32

تمكنهم من الإتيان بأغان تشرفها، لولا استقرار العادة على مراعاة التقاليد التي سلطها الجهل وضعف الطبع، ولولا طلبات الملحنين والمغنين الخاضعين لأذواق الجمهور الفسيدة.

أما الملحن، فالنصيحة الخالصة له أن يوطد العزم على نبذ العادة القديمة ومقاومة التقاليد السقيمة؛ وإن يتحاشى عن نية تقليد الشرقي والغربي على حد سوى، ولا سيما التقاليد الأعمى من اقتباس عبارة صوتية معينة - مثلاً - يعجبه أسلوبها فيقحمها في لحنه غافلاً عن مدلولها، أو من مد مخصوص، أو من تعمد التحزين الخارج عن الفن، ومما إلى هذه الأمثلة.

فإن كان صادق العزم، فسبيله أن يطب نفسه أولاً من الذلة والخور والخنوع، ويشفيها من داء الحزن العضال، ومن التفجيع المقيت والعويل الثقيل؛ وإن يحررها من بدعة التخنث والتكسر والتميع، ليخلص أولاً من كل هذه العلل الوبيلة التي مكنها منه استحسان العامة وأشباه العامة. ومما يعينه على النجاة النزهة الخلوبة، والرياضة البدنية، والمطالعات المنعشة، والصاحب المؤنس المفرح، وإجالة الخاطر في الموضوعات الملائمة للغرض، والإيحاء التلقائي.

والأجدى له في عمله هو أن يمعن في التفكير بادئ بدء في فحوى ما هو مقبل على تلحينه من الكلام، وإن ينظر ملياً في جمله وكلماته وحروفه، ليتبين الروح الذي أملاه، والموقف الذي يصف؛ ثم يتصور أنه هو في هذا الموقف، وأن ذلك الكلام كلامه؛ فإذا أرهف حسه، وأيقظ ملكاته، وهيأ نفسه وشعر بإيحائها وارتياحها إلى التلحين، أخذ في الترنم بالأغنية؛ ثم يكرر التغني حتى يجيء مدلول اللحن مطابقاً لمدلول الكلام المعبر عن الحال النفسية التي استعارها لنفسه هو من الموقف الموصوف بالأغنية؛ ثم يترك اللحن الذي وضعه أول وضع، ويرجع إليه مرة بعد مرة لتهذيبه وإحكامه على مقياس تلك المطابقة، لا ابتغاء جعله مشابهاً للحن آخر، أو مرضياً لذوق خاص؛ فيدع الصوت يعبر التعبير الطبيعي، ويطابق مقتضى المقام المدلول عليه بالكلام بما أنه قد تعمد اعتقاد وجوده هو في هذا المقام، واعتاد هذا الاعتقاد حتى استقر ما بفكره ونفسه في عقله الباطن.

وأما المغني، فسبيله أن يعمل في التدرب على غناء اللحن ما عمل صاحبه في إنشائه، بعد أن ينفي عن نفسه ما استطاع من ذلك الحزن المميت وتلك الذلة الساحقة، سواء أكانت

ص: 33

تقليدية أم طبيعية؛ ولابد له من أمور منها:

أن يقضي مدة قبل مزاولة الغناء في تقوية صدره وتعميق نفسه ومده، وإلانة حباله الصوتية، والتمرن على التنفس في الغناء، حتى لا يقطع بقصر نفسه عبارة صوتية من لحن يغنيه، وحتى لا يظهر أنه يختمها ونفسه وشيك الانقطاع، لأن هذا يخدش أسلوب العبارة. ومن مقتضيات الإجادة أن يؤديها أحسن اداء، ويختمها قادراً بما في نفسه من بقية وافرة؛ ولذلك كله وأمثاله طرائق وتمرينات معروفة.

وإن يهجر الغناء إذا كان من ذوي الخنخنة، ولا يغني مزكوماً أو متخوماً، أو مخموراً

وأن يحرص في غنائه على نقاء صوته وصفائه، فلا يعرقل جريانه بمثل قلبه الياء من حرف النداء همزة لينطق آبدل يا، أو بما يشبه مأمأة، وتارة عواء، أو ما يشبه عند الوقف شهقة الحمال حين يلقي حمله، أو ما يماثل توجع المريض والجريح في تصويره ألم العاشق.

وألا يقطع صوته بالوقف إلا بالقدر الضروري لإحداث مزية، كتنبيه المستمع إلى معنى الكلمة التي يقع الوقف على آخرها

وألا يطيل غناءه مستعيناً بغناء الجوقة معه ولا يكرر ذلك كثيراً، وإذا غنى معها فلابد له من إظهار صوته على أصواتهم وأصوات معازفهم، لأن الناس إنما يريدون سماع صوته هو، وهذا غير الجوقة الغنائية؛ لكن لا ينبغي له أن يعلو بصوته إلى طبقة لا يبلغها بغير عناء، لأن أقله يعكر صفاء صوته ويزيل رواءه ويعيب غناءه وإن أطرب في الطبقة التي يقدر عليها. من أجل ذلك يجب عليه أن يتخير من الألحان والأغاني ما يلائم طبعه، وقوة صوته، ونوعه.

إن المتقدمين من أهل المدينة العربية ميزوا أصوات المغنين فقالوا مثلاً: أجش ومجلجل وكرواني؛ والغربيون يميزونها فيقولون مثلاً: باس وتينور وكونترالتو وسوبرانو؛ فلا يغني كل صوت إلا ما يلائمه من الألحان؛ وظننا أنه قد آن لنا أن نبدأ هذا التمييز مثل أصحاب الفن الصحيح.

يحسن بمن يزاول فن الإطراب أن يعتبر بهذه الملاحظات ويتحرز من الخطأ الفني ويتحاشى العيوب المشار إليها في هذه الكليمات وعن أمثالها، كعدم إخراج الحروف من

ص: 34

مخارجها بالدقة، وعدم لفظ الكلمة واضحة. ومن الأصوات المسموعة في مصر ما يطرب ويمكن الافتنان فيه، وبين الملحنين والعازفين مهرة ليس يستحيل عليهم التفوق على أنفسهم، وإنما المعول كل المعول على فهم حقيقة الفن ومقاصده، بدل القناعة بوسائله.

ولسنا نقول إن المسلك الذي ننصح بسلوكه يغلب الوراثة وأثر البيئة واستقرار العادة، فيغير الحال في الساعة، لكنه مهما كان شأنه فهو مؤثر، وعامل من عوامل التطور؛ أو هو كالدواء الذي يوصف لذي علة لا برء منها، فقد لا يخلو من نفع للمعلول إذ الطبائع متفاوتة والشذوذ قد يوجد في بعضها، ولأسرار الطبيعة مفاجآت، ومحاولة الاهتداء خير من الاسترسال في الضلال، وكل ما يبلغ غاية، له بداية.

هذا وإن المقدمة الموسيقية تليها التقاسيم بالمعازف، فالليالي فالموال فالأدوار، نظام لا بأس به؛ على أن تقديسه والتزامه في كل حفلة لا يوجبها الفن كما يتوهمون، بل أن تحسينه واجب. ولم لا تقام حفلات كبيرة مخصوصة بالموسيقى وحدها وهي مطربة إذا جادت، وفي البلاد ألوف العازفين والمحبين لها؟ وفي الغرب قاعات مخصوصات بها مشهورات تكتظ من المستمعين. ولم يصغرون شأن البشرف والتوشيح في حفلاتهم فلا يغنون هذا كله ولا يعزفون ذاك بأجمعه؟ ولم لا يحاول أحد منهم أن ينشئ شيئاً يماثلهما، أو يبتكر أنواعاً أخر إن استطاع؟

إن موسيقانا لم تدرك شأو غيرها إذ عجزت حتى الآن عن التصوير وليس يعقل أن التصوير مستحيل في الموسيقى الشرقية؛ لأن الموسيقى الغربية مثلها، لها سلم ومقامات ونغمات، ولها الأقيسة الزمنية والإيقاع، ولها الأساليب الصوتية تعبر بها عن الأحاسيس تعبير الأساليب البيانية؛ والأحاسيس جميعاً موطنها النفس، وشأن النفس واحد في الإنسان أينما كان؛ والموسيقيان كاللغتين العربية والفرنسية، مثلاً، اللتين فيهما المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والمحسنات البديعية، وأوجه البلاغة، لوحدة المصادر البشرية من الفكر والمخيلة والمشاعر، بل بينهما أوجه شبه في النحو والصرف؛ وقد كانت موسيقى الغربيين ومعازفهم بسيطة، كموسيقانا ومعازفنا، فتناولوهما بالتحسين حتى ارتقيا إلى مرتبة التصوير الذي تفوقا به منذ عرفوا تركيب الأنغام في زمن معاً، أي في إيقاع واحد، وإخراج الصوت الآلي من طبقته الضيقة، أو من الجزء الضعيف في زمنه، وإنشاء الجملة الغنائية تسمع

ص: 35

بعيد الجملة الأساسية في انسجام وئتلاف معها فأي شيء في الموسيقى الشرقية يمنع من تقليد هذا الفن؟ إذن لا يقول بأن التصوير مستحيل فيها إلا جهول كسول. والرأي للمشتغلين بالغناء والموسيقى عندنا أن يجدوا في ترقيتهما معتقدين أن الموسيقى ستبلغ، أو سوف تبلغ، مرتبة التصوير العالية؛ وإذا أتجه نظرهم إلى مظنة وسيلة للترقية فتعرفوها واستخدموها ارتقوا بفنهم درجة، وطمحت أبصارهم إلى ما فوقها.

ونحن، بحمد الله، عندنا الناي كالفلوت، والفانون كالبيانو (وقد استصنع بعضهم بيانو فيه ربع المقام (إياه) فصنع)، وطبلة كطبلة، والكمان، في وسع الموسيقيين أن يستعينوا الصناع على تحقيق أغراضهم بتحسين المعازف على الوجه الملائم لما يتفرسون من وسائل الإصلاح، أو باستحداث ما يعوزهم من الآلات بدل ادعاء الابتكار والتجديد والتفوق بلا حق.

فإذا نحن أردنا أن نخرج موسيقانا من حالها البدائية، أو طورها الأول الذي ما برحت عاربة فيه، فلابد من أن نأخذ في نسج ثوب موشى لها - ثوب التصوير، وهو غير التوافق بين الألحان وأصوات المغنين.

ومتى تيسر التصوير، وتميزت أصوات المغنين بحدود طبقاتها وألوانها، وتبينت نسبتها إلى المعازف، وبدأ التلحين بوحي النفس الحرة من التقليد، الطليقة من قيد القوالب، البريئة من السرقة، أمكن أن يرتقي الغناء المسرحي بمصاحبة الموسيقى، وأن يقدم أصحاب الفن وشعراء المسرحيات إلى الجمهور أوبريت قم أوبرا - كوميك، ثم أوبرا جيدة ليس شك في أنها تطربه وتعجبه وإن لم يستسغ ما قدم إليه حتى الآن بهذا العنوان من خليط مستغرب، ومسمى يتبرأ منه اسمه.

وليتهم على الأقل يزيدون المعازف إلى ثلاثة أضعاف العدد المعتاد لكل نوع منها في الجوقة، ريثما يهتدون إلى التصوير، فإن ذلك يقوى العزيف فيحسنه فيما نرى تحسيناً متواضعاً أفضل من لا شيء، لكنه لا يكون من الإصلاح المنشود.

ألا أن الجهل والاقتصار في الاشتغال بهذه الفنون على استرزاقها لا يوصلان إلى شيء مما ينبض بها؛ ونهضتها، يوم يتحقق، إنما يكون ثمرة التطور في ضوء العلم والثقافة؛ على أن الأمة تتقدم إذا قام كل جيل من أبنائها بما عليه من حمل أعبائها مسافة على طريق

ص: 36

الفلاح؛ وكلما صح ذوقها، ورق ودق، يسمو مثلها الأعلى في الفن. فعلى محبي الغناء والموسيقى والتلحين، المشتغلين بالفن من شبابنا المعلم، أن يتعلموا ولو مبادئ ما في الغرب منه، وأن يكثروا من الإصغاء إلى تحف الموسيقى والغناء لأعاظم المغنين والموسيقيين الغربيين أينما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ هذا إلى قراء شيء من تاريخ الموسيقى وكلام نقادها في إحدى اللغات الأجنبية، وقراءة بعض المؤلفات العربية.

لكن ذلك وحده لا يسعف وليس يكفي الآن، بل العمل المنظم في هذا الزمن المستنير هو السبيل القصد إلى الغاية، وفي مصر معاهد أهلية وحكومية للموسيقى يجب عليها أن تلتفت إلى حقيقة حال هذه الفنون عندنا، والى ما يصلح من شأنها، فذلك خير لها من أن تظل على الأيام صوراً جوفاء خاوية لا تصلح إلا لتمكين الفن السقيم الضعيف والمحافظة عليه، ويجعل بالوزارة المختصة أن تعنى بهذا الأمر.

يجب أن يحمل أرقى هذه المعاهد وأقدرها أعباء النهوض بفنونها، وإن ينشئ لذلك قسماً مخصوصاً يهتم بها من الجهة الفنية النظرية، والعلمية الثقافية؛ وأن يقوم بشؤون القسم نخبة من أصحاب الفن المولعين به لا يعينهم لوظائفهم فيه سوى مؤهلاتهم الطبيعية والفنية والثقافية وقدرتهم على ما يندبون له نخبة ممن يطمحون إلى المنزلة الرفيعة والفضل في إحياء فنونهم وإنهاضها في الشرق يرأسهم أحقهم بهذه الرئاسة، ويجب أن يقتنى القسم مكتبة ينظمها التنظيم العلمي الحديث، ويجمع فيها المطبوعات الغربية والمؤلفات الشرقية المطبوعة والخطية؛ ويبحث في كل مكان عن النصوص الشرقية الدفينة والضائعة ولو مترجمة إلى بعض اللغات الأجنبية كاللاتينية واليونانية والفارسية، إذ قد يجد فيها ما يلقى ضوءاً على فنون المتقدمين فينير المنهج للمتأخرين؛ ويشترك في المجلات الفنية، ويسترشد عند الحاجة بعض المعاهد الغربية المختصة بهداية السائل إلى جميع الكتب أو الطبعات أو النصوص في أي موضوع يعينه. ويجعل القسم بعض رجاله صلة بين جهده النظري وجهد معهده في إنتاجه العملي. ويجب أن يقوم المعهد بنوع من الإرشاد والرقابة على سائر المعاهد، وبإرسال البعثات المختارة من الناجحين في الفنون الشرقية إلى المعاهد الغربية.

ولابد، أخيرا، من التنبيه إلى آفة الغلو في بذل الثناء لكل من هب ودب من المغنين

ص: 37

والموسيقيين، وعلى ضرر نعته بأعظم النعوت، كأن الناعت يريد إظهار شاعريته هو وبراعته البيانية فلا ينجح ببعده عن الحقيقة. ذلك يضر حقاً ولو كان بحجة التشجيع أو تمجيد الأمة والوطن حتى لكأن البلاد تنبت النبغاء في كل فتر من أرضها والعباقرة في كل شبر؛ فإن مثل هذا الغلو في الثناء الكاذب يهزأ منه وليس من الحكمة ولا الوطنية في شيء، لأنه يغر فيعمى ويصم فيسبب الوقوف، بل التأخر بدل التقدم، وهو لا يصدر عن أهلية للتقدير، وإنما يكون في الغالب لأغراض بعيدة عن مصلحة الفن والأمة.

محمد توحيد السلحدار

ص: 38

‌من وراء المنظار

قطط وكلاب وناس!

منظر كم تمنيت بعده أن لم تقع عليه عيناي! ومع ذلك فقد لبثت دقائق كثيرة أحملق فيه وأطيل النظر، كأنما وقعت منه على فرجة تبتهج لها النفس!

في شاعر كبير من شوارع هذه المدينة العظيمة: - القاهرة عين أفريقية وملتقى الحضارتين الشرقية والغربية - وقعت على مقربة من صندوق القمامة، فإذا بي أرى في ناحية قططاً ثلاثة، وفي ناحية أُخرى كلبين، وعلى قيد خطوة من هذه المخلوقات بنتين وصبيين وعجوز

وقفت أنظر. . . فيا لشناعة ما رأيت من منظر، ويا لهول ما جاشت به نفسي عن المعاني تلقاءه! وأني أعيذك أيها القارئ أن تستكثر على استشعار الهول فيما رأيت، وأن ترده إلى استغراق في العاطفة يلحق بالضعف؛ وإلا رميتك أنا بالقسوة، وعندي أن القسوة هنا - على أي حال - إنما هي شر مما تزعم من ضعف.

راحت هذه المخلوقات الآدمي منها وغير الآدمي تنبش القمامة فتمد الكلاب والقطط أرجلها الأمامية ويمد الآدميون أكفهم حتى لتكاد تلتقي تلك الأرجل وهاتيك الأيدي كأن لا فرق بينها في شيء.

وجعلت أنقل البصر من القطط إلى الكلاب ومن هذه إلى البنتين والغلامين والعجوز وأول ما برز لي من المعاني هو صورة من تنازع البقاء في هذه الدنيا لاحت بين أفراد كل فريق من جهة، ثم بين كل فريق وفريق من جهة أُخرى.

كانت القطط تقوس ظهورها وتنفش شعورها وتخطف العظام إحداها من الأُخرى، فإذا أرادت أن تخطف شيئاً من الكلبين دارت معركة قصيرة بين الفريقين، فإذا زجر الصبيان الكلبين والقطط في حذر وخوف، جرت القطط فتربصت على خطوتين لتعود بعد لحظة، واستعلن الشر في وجهي الكلبين، فتركهما الزاجرون من الآدميين ومضى كل إلى ما كان فيه من عمل. وكان يفرح هؤلاء التعساء من الآدميين إذا دارت المعركة بين الكلبين والقطط واستمرت لحظة طويلة، فيكبون إذ ذاك في عجلة ونشاط في التقاط ما تنكشف عنه القمامة من بقايا العظام ولقيمات الخبز وقشور الفاكهة وما إليها قبل أن يعود فيشاركهم في

ص: 39

التقاطها أفراد الفريقين الآخرين.

وكان كل من الصبيين والبنتين والعجوز يزحم الآخر ويسابقه في نبش كومة جديدة من الكناسة فإذا عثر أحدهم على لقمة كبيرة نوعاً لاح في وجهه مثل ما يلوح في وجه الباحث عن الذهب في أرض الذهب إذا التمع في عينيه عرق من المعدن النفيس؛ ويقذف الصبي باللقمة في حجره وقد زادها قيمة عنده أنها خلصت له من قرنائه ومن القطط الثلاثة ومن الكلبين.

ومرت بي أثناء ذلك بعض السيارات الفخمة تحمل أنماطاً من سراة القوم، ومن هؤلاء من لاحظت أن عيونهم رأت ما رأت عيناي إلى جوار صندوق القمامة، ولكني لم أتبين في وجه من هاتيك الوجوه الناعمة الراضية أية اختلاجة من أسف أو من رثاء. أجل لم أتبين في هؤلاء السادة (عبيطاً) مثلي يرى في ذلك المنظر ما يستوقف بصره. وإذ ذاك ازداد رثائي ضعفين على أولئك التعساء الذين يشاركون الكلاب والقطط في نبش الكناسة وليس يملك مثلي لهؤلاء إلا العطف والرثاء.

ألا ليت أولئك السادة انتبهوا ففطنوا إلى أن هؤلاء الذين نزلوا إلى مستوى الكلاب ينتمون إليهم في (آدميتهم) وانهم في هذا الوضع يشينون الجنس كله. قم ألا ليت أولئك السادة تذكروا أن القليل مما ينعقون في شهواتهم كفيل بأن يقضي على أمثال هذه المناظر إن كان يهمهم القضاء على تلك المناظر. . .

آه. . . ليت أولئك السادة حين تقع أعينهم على بنيهم وبناتهم إذ يلقونهم فرحين بما يتقلبون فيه من نعمة، يذكرون انهم رأوا بنين وبنات من تعساء الإنسانية تلتقي أيديهم الهزيلة بأرجل الكلاب والقطط في نبش صندوق القمامة.

الخفيف

ص: 40

‌لذكرى المولد النبوي

ميلاد نبي. . .

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

مَنْ ذلكَ المبعوثُ في الصَّحْراء

كالصُّبح بْينَ جوانبِ الظَّلْمَاءِ؟

نُورٌ مِن الحقَّ المُبين ومطْلعٌ

جَاَءتْ به البُشْرَى معَ الأنباءِ

قَبسٌ من اللهِ الكريم وشُعْلةٌ

من رجمةٍ ومنارةٌ لضياءِ

يَجدُ السُّراةُ به دَليلَ سَبيِلهمْ

وَمَنارَهُم في الظُّلمَةِ العَشْواء

كانوا حَيَارَى ما تألَّفَ جَمْعُهُمْ

في عُصْبَةٍ أو ألفُوا بإخاءِ

يَتَخَبَّطُونَ على ظلامٍ حالكٍ

جهمِ العواصِف مُظلمِ الأنواء

ما فيه من وَضَحِ الطَّريقِ معالمٌ

أو فيه من هَدْىِ السَّبيل مَرائي

هذا طريقُ الجاهليةِ لم يكنْ

إلا طريقَ الخُلفِ والشَّحناء

تَجدوهُمُ فيه نوازعُ فتنةٍ

وتحثهُمْ فيه دَوَافعُ دَاء. . .

هذا طريقُ الجاهلية موحشٌ

ما فيه من نَبْتٍ ولا خَضْراء

يتعثر السّارونَ فيه بخُطوةٍ

مَحْبوسَةٍ وَمَوَاطئ عَمْيَاء

لا يَستِقرُ على المسيرِ قرارُهُمْ

كيفَ القَرارُ على الطَّريقِ النَّائي

هذا طريقُ الشركِ مُختلط الصُّوى

وَعْرُ المساِلك ضَيقُ الأنْحَاء

ما فيه من مَسْعى بَغيرِ تعثرٍ

أو فيه من قدمٍ بلا إعْيَاء

يمشي الحَيَارَى فيه بين مَسَاربٍ

مَطْمُوسةٍ ومًعالمٍ نَكْراء

متحيرين على السَّبيِل كأنهُمْ

قَدْ مَسَّهم جِنُ مِنَ الصَّحْراءِ

شاءٌ بِلا رَاعٍ يؤلفُ بَينَها

وَرَوَاحلٌ تمِشي بغَيِر حُدَاءِ

أيْنَ الدَّليلُ على السَّبيِل يَسُوقَها

وَيردُّ عنها صَوَلَة الأعداء؟

هَذا ظَلامُ الجِاهليِة لم يكنْ

إلا ظلامَ الفِكر والآراء

أدْجَى من الليل البهيم حُلوكةً

وأشَدّ وَقْعاً منْ يدٍ سَوداء

كانوا خَفَافيشَ الدَّياجي لم تَعِشْ

إلا بجوٍ حَالك الأرْجَاء

يَمْشُون في الجْهِل القَدِيم قبائلاً

يَتَرسَّمُونَ به خُطى الآباءِ

ص: 41

متفرقين هُناك. . . لم يتفَّيأوا

لخميلةٍ. . . أو يُمْسِكوا ببناءِ

عَبَدُوا من الأوْثَانِ كلَّ حجارة

مَنْحوتةٍ أو صَخْرَةٍ َصَّماء

وأدُوا وَلِيدَتَهْم بغيرِ جريرةٍ

أرأيْتَ مَقْتُولاً بغيرِ جَزَاء

ما ذنُبها حتَّى يًعَقَّرَ لَحْدُها

برمالِ تلكَ الُحْفرِة الصَّفْرَاء؟

لو أنها سُئِلتْ لكانَ جَوَابُها

يُدْمِى القُلوبَ بأنفُسِ الرُّحَمَاء

إرثٌ من الجَهْلِ البغيضِ وفكرةٌ

أدْلَى بها الآباءُ للأبْنَاء

الجهلُ رَقْطاءٌ يُسمم نَابُها

كيْفَ الحياةُ على يَدِ الرقْطاء؟

وَبد الصَّباح على بَطائح مكةٍ

ضَاحى المشارقِ سَاِطَع الأضواء

يمشي إلى النُّوامِ في غَفَلاتهم

ويُفِيُقُهْم مِنْ هَجْعَةِ الإغفاء

يا أيها النوامُ. . .! أن مَساءكمُ

قد غَيَّبَتْه جوانبُ البَيْداء

ومحنه كفُّ الله وهي كفيلةٌ

بالصُّبحِ واللمَعَانِ واللألَاء

في نور (أحْمَدَ) منه نُورُ سَاطعٌ

أكِرْم بتلكَ الآيةِ البَيْضَاء

يَمْشي على ظلَم الجزيرِة ماحياً

ظُلماتِ تلك الشبهِة القَتْماء

الليل طُال على الهجودِ فابْشِروا

بالفَجر بيْن سنَي وبين سَنَاء!

هذه عَمُوُد الصُّبح أبْلَج واضحاً

يَمْشي بنور الحُجْةِ الغرَّاء

هذا هو الحقُّ المبينُ فلم يكنْ

خُدَعَ السَّرب ولا مخَاَيلَ ماء

هو نعمة لله من قبائلٍ

ما كان أحْوَجها إلى النَّعماء

فَضْل تمثلَ في ظهور (محمدٍ)

والله جمُّ الفضل والآلاء

هذا الصباح على الجزيرِة مشرقٌ

في كل رُكْنٍ منه لمْحُ رَجَاء

قد آذن الليلُ البهيمُ بجًلْوَةٍ

وانشقَّ عن صُبْحٍ بَغْيِر خَفَاء

نُورٌ أضاَء الحقُّ في جَنباته

مُتألق النَّسَمات والأنْداء

تَنْجابُ عن مَسْراه كل دُجُنَّةٍ

ويغيبُ من مرآهُ كلُّ مَسَاء

تلك الأشعةُ من خِلالِ وميضه

فيها لمرضَى النَّفِس كلُّ شِفَاء

بُشراكمُ مَرْضَى القلوبِ، فإنما

جَاَء الطبيبُ لكُم بخْيِر دَوَاء

هذا نبي الله أشْرَقَ بينكم

وأتى لكُم بالوحْي والإيحاء

ص: 42

الله يُلهمهُ بكل كريمة

ويُمدُّه بالنَّصر والنُّصراء

هذا المبَّرأ من عيوب زمانهِ

والخالصُ الخالِي مِنَ الأقذاء

لم يَمشِ في الجهلِ القديم ولم يكنْ

من يَومه في زُمرِة الجهلاء

الله صفَّاهُ لنُصرةِ دينه

واختارهُ لتحُّمل الأعْباء

حَمَل الأذاةَ فكان أقوى عُدةً

وأشدَّ مُصْطَبَرًا على الإيذاء

هذا الوفىُّ لربهِ ولدينِه

هل يَنْجَحُ المسْعَى بغير وفاء؟

يا مَن تَغُرُّهُمُ الحياةُ رخيصةً

الله في أخذٍ وفي إعْطاء!

هذا الفقيرُ أتى يقودُ جماعةً

استعصتْ منهُ بخيرِ لِواء

قُلْ للمُدِلَّ بجاهِه وبمالهِ

المالُ ليس مُكوَّن العُظماء

هذا رسولُ الله لم يَعْقُدْ به

عن مجِده أن كان في الفُقراء

يا مُلْكَ قَيَصْرَ قد رُزِئتَ بحادثٍ

ما شاهدتهُ الرومُ في الأرزاء

ميلادُ (أحمدَ) كان مولدَ أمةٍ

عربيةٍ وشريعةٍ سمحاء

خرجتْ من الصَّحْراءِ أصْلبَ مكسراً

كصلابةٍ الأحْجار في الصَّحْراء

الرُّمحُ في يدها عَسِيُر المُلْتَوَي

والسيفُ في يدها صَقِيلُ الماء

كانَتْ أشدَّ علي السَّلامِ رعاية

وأشد صبراً في رَحَى الهْيجاء

تَدْعُو إلى الإسلامِ كلَّ جماعةٍ

ونُجيبُ في الإسْلام كلَّ نِدَاء

محمد عبد الغني حسن

ص: 43

‌البريد الأدبي

دراسة اجتماعية لبعض قبائل السودان

في عصر يوم الخميس الماضي ألقى الأستاذ محمد جلال عبد الحميد في سراي الجمعية الزراعية الملكية محاضرة موضوعها (دراسة اجتماعية لبعض قبائل السودان)، وهي ملخص لمشاهداته ودراساته العلمية أثناء رحلة استغرقت نحو السنتين بين هذه القبائل في السودان وأوغندا، استهلها بنبذة قصيرة في تاريخ البعثات الإثنولوجية بالسودان وأواسط إفريقية فقال: إن البعثات في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر كانت جغرافية وعسكرية ودينية، ولم تبدأ البعثات الإثنولوجية في تلك المناطق إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وآخر هذه البعثات هي التي قام بها هو في حوض النيل ابتداء من أكتوبر سنة 1936 إلى ديسمبر سنة 1940؛ فبحث فيها أولاً عن الريف المصري، ومنطقة نيمولي، والمنطقة الجنوبية من مديرية الجزيرة، ومنطقة البحر الأحمر، ومنطقة بلاد النوبة؛ وثانياً عن الثروة العلمية لحوض النيل.

ثم انتقل إلى دراسة البيئة الجغرافية وأثرها في السكان. ثم تكلم عن الأجناس البشرية، ثم عن الحياة الاجتماعية، ثم عن الحياة الدينية، ثم عن الحياة الأدبية والفنية، ثم عن النشاط المادي؛ وختم المحاضرة بخلاصة لدراسة سكان حوض النيل من الوجهة العلمية، وإمكان وجود قانون اجتماعي للتطور البشري، وقد اكتفينا بسرد عناصر هذه المحاضرة القيمة اعتماداً على أن الأستاذ المحاضر سيرسل إلينا خلاصة وافية لها.

وقد قدم المحاضر إلى الجمهور الدكتور محمد محمود غالي بهذه الكلمة:

عندما سمح سعادة فؤاد أباظة باشا لجماعة تبسيط المعارف أن يقوموا بإلقاء محاضرات في السراي الصغرى، كان هذا كسباً لأعضاء هذه الجماعة، وهذه هي المحاضرة الثانية يلقيها صديقنا الأستاذ محمد جلال عبد الحميد، يحدثنا فيها عن شيء من بحوثه الاجتماعية عن قبائل تحيا في الحوض الطبيعي ذاته الذي نحيا فيه وعلى النهر العظيم الذي نعتمد عليه.

كان يربطني بصديقي المحاضر ذكريات تجعلني أثق بشخصه وأنظر بعين الاطمئنان لبحوثه، وإنني سعيد باهتمام حضرة صاحب السعادة أباظة باشا بشأن جلال ومعاونة سعادته له ودعوته إياه، هذه الدعوة التي جاءت تكريماً لصديقنا العالم.

ص: 44

رأيت المحاضر لأول مرة في باريس منذ عشر سنوات، ولم تكن قد صقلته الأيام بعد، أو غيرت فيه ما تلقنه من المجتمع أو المنزل أو المدرسة. دخل (السوربون) يتخبط كغيره ليعلم ما لا يعلم، ويهضم ما يتعلم، ويوازن بين ما كان يعلم وما يجب أن يعلم؛ ولم يكن لجلال معين يكفيه مئونة العيش، فكافح للأمرين: كافح للكسب أولاً وللتعليم ثانياً. وظننت في وقت أنه سيخر صريع هذا الكفاح العنيف، ولكنه كسب عيشه في باريس شريفاً، وصرف ذلك من أجل ما هو أشرف: في الدرس والتحصيل. وعلمته الأيام يتكون، وكيف يكون رجلاً.

جمعتنا مصر بعد فرقة، وسعى إلى يحدثني عما فعل، وأي شرف ناله من هذا السعي، وأي غبطة شعرت بها عندما تتبعت الفروع التي نجح فيها، وأي فرح غمرني عندما علمت أنه أصبح مبعوثاً لمعهد الأجناس الفرنسي لدراسة المناطق الإفريقية التي لا يقبل الكثير منا على ارتيادها، ثم مبعوثاً لجامعة فؤاد الأول. عندئذ علمت أن الرجل قد تكون، وأنه نال تقدير العلماء. بعد ذلك رحل وحيداً إلى قبائل (المابان) وغيرها، وعاد بعد غيبة طويلة، ثم عرج إلى مناطق الحدود المصرية السودانية على ساحل البحر الأحمر. وها نحن أولاء نسترق من الصديق العالم ساعة قبيل رحلته التي سيقوم بها بعد يومين إلى بلاد النوبة.

محمد محمود غالي

تعقيب على مقال

في المقال الذي نشره الدكتور زكي مبارك في العدد 402 من الرسالة، رداً على، مسألتان جديرتان بالتعقيب، وهما:

1 -

أن الدكتور قال: إنه قد عدى (حرم) بالحرف (أي من) في بعض قصائده، وهو يتعدى بنفسه، فاعترض عليه بعض أدباء الشرق، فدافع عن هذه التعدية بأنه قد يرى المعنى في بعض الأحايين لا يؤدي تأدية صحيحة إلا إذا عبر عنه بتلك الصورة - وهو نفس الدفاع الذي اعتضد به الدكتور في تعدية (أمكن) باللام.

وأقول لحضرة الدكتور أن الفعل (حرم) يتعدى بمن أيضاً. وعندي شاهد لذلك عثرت عليه في بعض مطالعاتي للأغاني.

ص: 45

1 -

أن الدكتور ذكر في هذا المقال استطراداً أن العوامري بك كان كتب في مجلة المجمع اللغوي عن (نادي التجديف) بالدال المهملة، فكان من رأيه أن (التجديف) بالذال المعجمة، قال الدكتور: وقد ناقشته يومئذ في جريدة البلاغ، فقلت أن الشعراني في مؤلفاته يرسمها بالقاف، فيقول:(التقذيف) الخ ما قال.

وأقول لحضرة الدكتور: إني رجعت إلى مجلة المجمع اللغوي، فوجدت أن العوامري بك لا يقول شيئاً من ذلك، بل رأيته قد خطأ التجديف والتجذيف والتقذيف. وقال إن الصواب هو: الجدف والجذف والقذف، مصادر جدف وجذف وقذف. وبرهن على ما قال في بحث مسهب.

أقول: وأما أن الشعراني في مؤلفاته يرسمها بالقاف فيقول: (التقذيف)، فالشعراني ليس بحجة. ولعله يحكي اللفظ الذي كان شائعاً في زمنه، كما يقول المصريون الآن:(التجديف). وليس بين معنى (الجدف) و (التجديف) صلة، إذ (التجديف) هو الكفر بالنعمة.

أ. ع

نصيب السودان من جهاد الديمقراطية

جميل من مكتب الصحافة أن يطالعنا بأسماء أبنائنا الألى جادوا بالأنفس العوالي والمهج الغوالي في تدعيم أركان السلام، سلام قوامه المبادئ الصحيحة والقوميات المعتدلة التي يهمها أن تبقى وإن تساعد الغير على البقاء، وإن تعين الإنسانية على الخير والنماء.

وجميل من مكتب الصحافة أن يسجل لنا والحرب دائرة رحاها أننا لم نكن في المؤخرة يوم أن حمى الوطيس بين الخير والشر. وجميل منه أن يبادر فيلبسنا تلك القلادة الفاخرة التي يشهد العالم أجمع أننا لم نرض أن يطغى الطغيان على هذا الكون فيعذب الإنسانية ويكبلها بأقسى القيود ونحن واقفون موقف المتفرج الذي لا يهمه الأمر؛ بل قمنا بنصيبنا في حفظ تراث الإنسانية الخالد الذي قام على الفضيلة والحق والمساواة.

أجل! فليشهد العالم أننا قمنا بنصيبنا في حفظ تراث الإنسانية نصيباً بذلناه في سبيل المال على ما نحن فيه من عسر، فبعثنا به إلى ما وراء البحار لنشعر أنفسنا هنالك أننا لم نكن ناسين ما هم فيه ولا جاحدين ما يعملون. وليشهد العالم أننا قد قمنا بنصيبنا فقدمنا إلى

ص: 46

الموت أنفساً عزيزة علينا في ذاتها عزيزة علينا لأن بلادنا قلة منها، بل وتشكو أرضنا القافلة والبوار حيث لم تجد من يعمرها فيجيها ولا من يثتثمرها فيغنيها.

قدمناها إلى الموت أنفساً كان في حياتها للبلاد نماء وثراء، وقدمنا إلى الموت أنفسا كانت لأهلها أملاً ورجاء. وقدمنا إلى الموت أنفسا كانت للنزلاء عوناً وسخاء ولجاراتها ذخراً لدى البلوى وبهجة في الخير والسراء.

قدمناها لتحمي ذمار الإنسانية وليلقى عدوها من أيدي أصحابها بلاء ونكالاً ما داموا أحياء، ولينوء - إن ماتوا - ملطخاً بدمائهم وهي على وجهه عاراً ولأبنائه شناراً.

أما هم ففي موتهم خلود، وفي موتهم فخار، وفي موتهم حياة. خلود لأسمائهم وبلادهم وحياة للإنسانية الطاهرة التي لا ترضى أن تسود الفوضى ويتحكم الطغيان.

ففي ذمة الله من مات ولينم في خلده منعما بما حفظت له البلاد من يد هي سندها يوم أن تجلس الأمم لمطالعة الحساب وهي باقة عبقة نقدمها لأبناء الإمبراطورية يوم يزف لهم النصر الأخير.

وأنتم أيها الجرحى فلتهنئوا بما متعكم الله به من أوسمة لا تخلع وبما حمدته لكم البلاد من بلاء لا يجحد. إذ أنكم أقمتم الدليل على أنكم لم تهابوا الموت ولم ترحموا العدو حتى تقاكم بما عطلكم عنه أياماً نرجو ألا تطول لتتمكنوا من العودة إلى حيث تسهرون عينه وتطيرون لبه؛ فلا يقوى على حمل السلاح ليتقيكم به، بل يتقيكم بما يكف أيديكم عنه (وهو الاستسلام) لأنكم لم تقصدوا تعذيب بني البشر وإنما قصدتم أن تهزموا الشر الذي كان قد استحوذ على النفوس فأغواها وأضلها عن السبيل السوي والخير المشترك.

(الخرطوم)

عبد الله عبد الرحمن

جريدة (الإصلاح) في عامها الخامس

دخلت جريدة (الإصلاح) التي يصدرها بالسنبلاوين الأستاذ عبد الفتاح قنصوه في عامها الخامس، وهي أتم ما كانت استعداداً، وأصدق ما تكون اجتهاداً، وأبصر بالغاية التي تتوخاها منذ أنشئت، وهي علاج الأدواء الاجتماعية بالحكمة الهادية والموعظة الحسنة،

ص: 47

حتى غدت في إقليمي الدقهلية والشرقية وحدة اجتماعية وأدبية لها أثرها الظاهر ومكانها المعروف. و (الرسالة) تقدم إلى زميلتها العاملة اخلص التهنئات بعامها الجديد، وتدعو الله أن يديم عليها التوفيق في خدمة الله والوطن.

(مكتوب على الجبين) للأستاذ محمود تيمور

بعث إلى الأستاذ محمود تيمور بسفره القيم (مكتوب على الجبين) فأنست إليه وقتاً غمرني فيه بألوان اللذة والمتاع فكان من أسعد الأوقات لنفسي، سعادة العقل بإحساس الجمال، وإرهاف الحس بتذوق الفن، وإمتاع النفس برائع التصوير، وهو إذ يطالع العربية بمكتوب على الجبين يضيف إلى القصة تحفة فنية من الأدب العالي، وصفحات خصبة من القصص السامي، وعالم جديد يطفر بالفكر إلى لحياة الرقيقة، ويشير إلى المثل العليا من العاطفة.

مكتوب على الجبين مجهر ينفذ إلى الأعماق فيظهر وراءه ما دق من خلجات النفوس، ودنيا زاخرة بألوان العواطف. ولم ينهج الفنان فيه نهجه في مؤلفاته الأولى وإنما تجلت في مؤلفه الأخير دقة تعبير، وسلامة نظر، وهدوء طبع، ساعد المؤلف على كشف نواحي مغمورة في أدب القصة. ومكتوب على الجبين مجموعة تنتظم من قصص صغيرة تتناول نواحي حيوية مختلفة بالبحث الدقيق والتحليل العميق، فهو يستلهم فنه من الأعماق كما يتصيد الغواص أثمن اللآلئ من أعماق البحر، وهو الآن لا يكتب عن حوادث واقعية وكلها من ابتكار الخيال المحض، فهو إذ يبتكر صورة تكون شخصاً أقرب إليك من أشخاص الحياة، يمتعك الفنان إذ تشهد حوادث القصة وهي تسير سيراً مألوفاً ينفذ إلى النفس حقيقة تتسم بمبسم الواقع ولا يخطر ببال أنها من عمل الخيال الفني البارع في تشبيهاته ومعانيه بالغاً غاية الطرافة والإبداع ما يستهوي النفس ويأخذ بمجامع القلوب قد تأمل أن أذكر لك ما هذه القصص، وفي ذلك عبث بجمالها وسحرها.

صدر الأستاذ كتابه بموضوع فريد عن كتابة القصة الفنية تتلوه أربع عشرة قصة منها: (كان في غابر الزمان - العيون الخضر - ذات مساء - ابتسامة - قلب كبير - و. . . كلها من روائع القصص، وشعاع الحس المرهف، والخيال البديع الذي يخلع على الفن آيات الجمال؛ وللأستاذ أسلوب سهل لين يحاكي النسيم رقة، وأنت إذ تطالع قصصه، سرعان ما تحلق بك إلى سماء الفن، إلى أعالي لبنان وجبالها الشامخة، وبين ربوعها

ص: 48

الجميلة وأنسامها العاطرة، إلى الصحراء الواسعة وبين صخورها، إلى المجتمع الصاخب، إلى الموسيقى البديعة، إلى. . . إلى. . .

ومكتوب على الجبين هو عاشر مجلد أخرجه الأستاذ محمود تيمور في العربية، وله في الفرنسية، وله في الألمانية مجموعة ترجمها واختارها المستشرق السويسري الدكتور (ديودمار)؛ ولا غنى لمثقف عن مطالعة مؤلفات الأستاذ تيمور عامة، ومكتوب على الجبين خاصة: ففيها غذاء العقل والروح وتعتبر بحق أثمن وأجل ما ظهر في أدب القصة وذلك ما يشهد للأستاذ بالإبداع، ويكتب لآثاره الفنية الخلود.

فإلى الفنان أبعث آيات الإعجاب والتقدير. . . والى القصة تهنئتي بأميرها الأستاذ تيمور.

طه عبد الحميد الشميمي

ص: 49

‌القصص

الهذيان

للأستاذ نجيب محفوظ

أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذاناً بطلائع النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها أنين المرض الموجع وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر يثقل جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة في حزن ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد فيجري الحنان في عينيه الذابلتين ويتمتم في رجاء صادق:(اللهم صن حياة الأم المسكينة. . . وطفلتنا البريئة). وكان الشاب من ذوي القلوب الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف. وكان على عهد صباه يلذ لرفاقه أن يدعوه رجل البيت، لما طبع عليه من النفور من المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي أفئدة أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب؛ فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون، أو في السطح بين الدجاج والحمام؛ فإذا كان الخميس أعطى ذراعه لشقيقته ومضيا معاً إلى السينما. ولذلك أخذ يفكر في الزواج تفكيراً جدياً منذ اليوم الذي عين فيه مهندساً بمصلحة الأشغال العسكرية. وراح يقصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج من هر وشبكة وهدايا وفرح، كما كان يفعل شباب الجيل الماضي. فلم يكن يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج، ولم يدهش أحداً أن تنعطف هكذا سريعاً إلى الزواج هذه النفس المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا، ولكنه كان سيئ الحظ، فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه بحمى النفاس فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة. وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق وما الجزع، واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء حملة الباشوية والبيكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى اضطر إلى بيع المذياع وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل دمه إليها لأداء إلى آخر قطرة. . . وبالغ في ذلك، فطلب من مصلحته إجازة كي لا يفارق المريضة، وكان يرقب أعين الفاحصين من الأطباء

ص: 50

ويسألهم، ويطالع وجه زوجه ساعة بعد ساعة، ويسأل العرافين، ويزور أضرحة الأولياء ويفسر الأحلام، ملتمساً الطمأنينة في مظانها جميعاً. . .

وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهداً قلقاً لا يغمض له جفن ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر الخافت؟. . . وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين النوم القلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا الهذيان!. . . إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون نفسه كما يخون الآخرين. كان يصغي إليها وهي تذكر بلسان متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح قائلة:(صابر) فهرع إليها متسائلاً: (نعيمة. . . هل تحتاجين إلى شيء؟) ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين يابسة الفم كما يبدو ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في هذيانها الذي لا ينتهي فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أُخرى حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه:(صابر. . . أنا متألمة خجلة) فهز رأسه المثقل المتعب وقال لنفسه: (أنت متألمة بغير شك. أعانك الله على ما أنت فيه، ولكن مم تخجلين! أن هذا الابتلاء لا يخجل أحداً وإن كان يحزننا جميعاً) وظن أنها تألم لما يتكلفه من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان ورجا أن يكون هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء؛ واستدركت المرأة تقول:(زوجي أحسن الأزواج؛ أما أنا فشقية. . . لست أهلا لوفائه) فتنهد الشاب حزناً وتمتم قائلاً بصوت غير مسموع: (أنت أهل لكل خير). وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق:(راشد. . . كفى وابتعد عني. . . أبتعد ودعني. . .) وكان يهم بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه، وحملقت عيناه المسهدتان، وبدا على وجهه الذهول والإنكار وجلس في فراشه وهو يتساءل:

(راشد! من راشد هذا؟). وكان يشعر شعوراً باطنياً بأنه لا يسمع هذا الاسم لأول مرة، وكأنما سبق أن آذى مشاعره. واسند جبينه إلى كفه وأغمض عينيه، وكأن صاحب هذا الاسم يعيش في الظلام، فقد رآه وعرفه، وأحس لذلك رجفة تسري في مفاصله. . . راشد أمين أو أمين راشد - لا يذكر - شاب نافسه في طلب يدها على عهد خطبته لها، ولولا أن

ص: 51

والدها فضله هو واختاره لكان قد تزوج منها. وقد تذكر أنه رآه مرة وإن كان لا يحفظ من صورته أي أثر؛ ورفع رأسه مرة أُخرى ونظر إليها بعينين مرتابتين لا تصدقان؛ ورغب رغبة حارة في أن يستزيدها ويستوضحها، ولكنه لم يدر كيف يحثها على الكلام، ورأى شفتيها تتحركان في ضعف؛ فدنا من حافة سريرها وأرهف السمع وكتم أنفاسه وهو يعاني جزعاً مجنوناً فسمع صوتها يقول فيما يشبه الأنين:(من يقول هذا. . . أف. . . والخيانة. . . راشد. . . صابر. . . الخيانة شيء قذر. . .) فشبك كفيه وشدهما على صدره بحالة عصبية كأنما يضرع إلى شيء مجهول أن يمنع كارثة على وشك الوقوع، وذهل بصره من طول الجمود على وجهها، فغاب عنه ما حوله، وكبر الوجه في وهمه حتى ملأ الفراغ الذي أمامه فثقل عليه وسمج، ودوى صوتها في أذنيه، فصار كطنين لا ينقطع، وثقل تنفسه ويبس حلقه. . . ما هذا الذي تتكلم عنه؟! ما هذه الخيانة التي أطلق الهذيان عقدة كتمانها فانطلقت خبيئة منكرة أنكى من الحمى؟! هل يكذب الهذيان؟ كيف يكذب الهذيان؟! ولكن كيف يصدق أذنيه وما بذل زوج لزوجة عشر ما بذل من الرقة والمودة، وما بذلت زوجة لزوجها عشر ما كانت تبذله له من الصفاء والإخلاص؟ فكيف انطوى هذا على أقذر ما تبتلي به الضمائر والنفوس؟ رباه. . . أنها تقول أن الخيانة شيء قذر، وإنها لكذلك، ولكن لا يفزع في هذيانه من قذارتها إلا من انغمس في بؤرتها. رباه. . . لقد ظن أن ما ابتلى به من مرض زوجة أقسى ما ابتلى به إنسان، فإذا به بلاء هين عابر، لا يقاس بما هتك الهذيان أستاره، وأحس اليأس يحبس أنفاسه، وكان صابر دمث الأخلاق، لين الجانب رقيق الحاشية، لا يدفعه الغضب إلى الانفعال الشديد والعدوان ولكنه يشل حركته، ويعطف اندفاع أعصابه إلى صميم نفسه، فيجعله كسيارة يدفعها محركها، وتقيد الفرملة عجلاتها، ولكنه بالرغم من هذا، تحولت رأسه بحركة عصبية إلى سرير الطفلة، وبرح فراشه في سكون، ودنا منه وأزاح ستاره، وألقى نظرة غريبة على الوجه الصغير المدمج القسمات وأدام إليه النظر والشك والألم يأكلان قلبه بقسوة، ثم تحول عنه إلى وجه زوجه كأنه يسألها ويستوضحها، ودنا من فراشها كالسائر في نومه حتى التصق به وكانت مغمضة العينين بادية الاصفرار والخور، تقلب رأسها ذات اليمين وذات الشمال، فألقى عليها نظرة جامدة، جرى فيها بريق القسوة جريان البرق في السحاب الداكن، وكان قبل لحظات إذا وقف

ص: 52

موقفه هذا اضطرب جسمه من الحنان والرحمة، ودمعت عيناه، ولكن قلبه تحجر هذه المرة فمال عليها حتى نسمت عليها أنفاسه وسألها:(نعيمة. . . نعيمة. . . ماذا فعل راشد؟) فلم تنتبه إليه ولم تصح، فرفع صوته وناداها وهو لا يدري:(نعيمة) فبلغ صوته مسمعي أمها في الحجرة القريبة. وقامت المرأة من فراشها مضطربة وهي تظن الظنون وهرعت إليه متسائلة: مالها. . . هل أعطيتها الدواء؟ ولم يكن أعطاها شيئاً، وكان يريد استبقاء حالة الهذيان التي تعانيها ليستنطقها ما يريد فكذب عليها قائلاً في استهانة وقسوة:(نعم وهي بخير والحمد لله) وعاد إلى فراشه وأسند رأسه المثخن بالجراح إلى الوسادة ليتخلص منها، ولبثت حماته قليلاً. وفي أثناء ذلك أخلدت المريضة إلى الهدوء والسكينة كأنما راحت في نوم عميق فبرحت المرأة الغرفة وكان يتشوق إلى إيقاظها ولكنه خشى التي في الخارج، فمضى بقية الليل مفتوح العينين محموم الرأس بالأخيلة الشيطانية وعيناه زائغتان ما بين فراش المريضة ومهد الطفلة.

وحين سفور الصباح عاودت اليقظة المريضة وبدا عليها أنها لا تحس شيئاً حتى اهتدت عيناها إليه فبدت فيها حياة ضعيفة وقالت بصوت غدا من وهنه كالصفير (ما الذي أيقظك؟ لماذا ترهق نفسك هكذا؟) فرد عليها بنظرة جامدة وكانت تبدو ذاك الصباح أشد هزالاً وشحوباً، ولاحت في عينيها نظرة الوداع المخيفة، وكان يشغل باله شيء واحد أسهده الليل ولم يجهل أن إثارته خطر يهدد بالقضاء عليها، ولكنه لم يحس سواه ولم يبال غيره، وكان يشعر نحوها ساعته بحنق وكراهية ورغبة في الانتقام فقال بلهجة جافة:(تكلمت الليلة الماضية كثيراً، فشرقت وغربت، وأجرى الهذيان على لسانك كلاماً يحتاج إلى إيضاح) فلم تفهم شيئاً ونظرت إليه بعينين لا تعبران عن شيء سوى الذهول المطلق، وأراد أن يسترسل ولكن منعه عن الاسترسال صراخ الطفلة فجأة، فما لبثت أن هرعت إلى الحجرة حماته والمرضعة فنكص على عقبيه مغضباً وهو يقول لنفسه:(الطفلة الملعونة تداري فضيحة أمها وأبيها!). وغادر البيت يهيم على وجهه ومضى يحدث نفسه: (كان ينبغي أن أعلم كل شيء وقد أتيحت لي فرص، لماذا أفر من صراخ الطفلة؟ أو من ظهور جدتها؟ الحقيقة أني ضعيف. . . ضعيف. . . دائماً يندى قلبي بالحنان وبالعطف، فما كان أجدر بي أن أكون ممرضة. . . أما رجلاً فلا. . . لست رجلاً ولست زوجاَ. . . فأمثالي نساء

ص: 53

كاملات، أو رجال مغفلون. . . ومع هذا هل أنا في حاجة إلى دليل جديد؟ دمرت حياتي وانتهى كل شيء)

وقضى النهار ضالاً لا يقر، بترد الألم في صدره مع أنفاسه، وعاد مع الأصيل إلى البيت فوجدها أسوأ حالاً وأشد هزلاً. وأقبلت عليه حماته تسأله أين كان، وتقص عليه ما قال الطبيب، فلم ينفذ شيء من قولها إلى صدره وعاف الرد عليها بتاتاً، بل لذله أن تقول أن الحالة سيئة، فلتتألم كما يتألم، ولكن كيف يفهمها أنه يعلم كل شيء؟ كيف يحادثها في هذا الموضوع الخطير وأمها لا ترضى بمفارقتها في مثل تلك الحال الخطيرة؟. . . واشتد به الحنق، فاعتزم أن يمنع عنها الدواء ليعاودها الهذيان سريعاً فيسمع منه ما امتنع منه سماعه في اليقظة؟ وملأ الفنجان ماء خالصاً ووضعه على فم المريضة فازدرته بامتعاض. . . وعاد إلى فراشه يرقب الفرصة، ولكن زوجه لم تنم في تلك الليلة ولم تهذ واشتد عليها الألم الموجع فباتت تئن وتشكو وتضطرب. واستدعى الطبيب عند منتصف الليل فعاينها ولكنه لم ينصح بشيء، وهمس في أذنه بأن الحالة جد خطيرة. . . وبعد هذا التصريح بنصف ساعة احتضرت المريضة وفاضت روحها.

وخلا إلى نفسه، وكان الذهول مطبقاً على حواسه جميعاً؛ لأن الموت والخيانة الزوجية انتظما تجاربه الشخصية معاً في ساعة واحدة دون عهد سابق بهما. وماتت نعيمة ولم يحزن لموتها، ولكن حادثة الموت أذهلت نفسه الرقيقة المرهفة؛ على أن الحقيقة لم تغب عنه فقال:(لم تمت كما يظنون. . . أنا قتلتها. . . قتلتها لأني منعت عنها الدواء ليلتين متواليتين هما أشد ليالي المرض. . . فأنا قتلتها. . .) وجعل يردد (أنا قتلتها).

فكان يشعر لها بوقع غريب في نفسه يمتزج فيه الخوف بالارتياح ثم قال مرة أُخرى: (وقتلتني هي حياً، وألصقت أسمي قسراً بطفلة إنسان سواي. . . ولكني قاتل فلست إذن مغفلاً). وأسند رأسه إلى يده وراح في تأمل طويل وقد سرت في جسده قشعريرة البرد والخوف.

كيف انقضت الأيام التي أعقبت الوفاة؟. . . انقضت في ألم وقلق ومخاوف لا يمكن أن تتمثل لعقل إنسان، ثم أعلن عن رغبته فجأة في السفر إلى لبنان انتجاعاً للصحة والراحة، وكان في الحق يفر من أفكاره وطفلته. ومضى إلى الإسكندرية واستقل السفينة، والظاهر

ص: 54

أن نفسه الرقيقة تعرضت في البحر لأزمة عنيفة هدت كيانها وأتلفت أعصابه، فاستشعر اليأس من الدنيا جميعاً وألقى بنفسه في ليم خلاصاً من عذابه وآلامه، محتفظاً بأسراره لقلبه ولبطون الأسماك. . .

وكان يترحم عليه المترحمون فيقولون: (ما رأينا إنساناً يحب زوجه كالمرحوم صابر، فلا هو صبر على فقدانها ولا احتمل الدنيا بعدها فقضى على نفسه بعد موتها بأيام. . . رحمهما الله!)

نجيب محفوظ

1

1

ص: 55