المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 406 - بتاريخ: 14 - 04 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 406

- بتاريخ: 14 - 04 - 1941

ص: -1

‌مفتاح السر المجهول

(لكاتب كبير)

لكل موجود قوة حيوية تنفع كل النفع أو بعض النفع في إذكاء روح

الوجود، وما كان تفاوت الأوصاف بمانع أهل الضعف من القول بأن

لهم فضلاً في إكمال الصورة الملونة لخريطة الموجودات. وهل عرفت

قيمة الفاضل إلا بالقياس إلى المفضول؟

ولكني لا أريد لك أن تكون إشارة تكميلية في الصورة الوجودية، ولا يرضيني أن يقال أنك على ضعفك مظهر من مظاهر الوجود، فما أرضى لك هذا المصير إلا يوم يصح عندي أنك لا تملك تغيير ما بنفسك، وانك لم تخلق إلا لتكون شاهداً على أن الناس درجات. ومن أين عرفت يا جاهل أن الله لم يرد لك الصيرورة إلى منازل الأشراف من أحرار الرجال؟

أنك تستطيع أن تكون عظيما حين تشاء، والعظمة الحقيقية هي أن تكون رجلاً نافعاً إلى أبعد الحدود في الميدان الذي أرادت الطبيعة أن تقفك فيه وقفة الحارس الأمين، فتكون أعظم الأدباء والمفكرين أن شئت، وتكون أكبر رجال الأعمال أن أردت، وتكون إماما في الصناعة أو التجارة أو الزراعة، وفقا لما خصك به الله من المواهب الأساسية، على شرط أن تهتدي إلى مفتاح السر المجهول.

فما هذا السر؟ وما ذلك المفتاح؟

السر هو نفسك، والمفتاح هو عقلك. واليك أسوق الحديث:

في النفس قوى غافية تفوق العد والإحصاء، وهل عرف إنسان قيمة ما تنطوي عليه نفسه من أعاجيب البراعة وغرائب القدرة على خلق المستحيل؟! لو عرف بنو آدم أقدار أنفسهم لحولوا الصحارى إلى رياض وبساتين، وعاشوا من أرواحهم في جنات وفراديس. وكيف وبنو آدم بلا عقول، كما عبر أبو العلاء؟!

ادرس نفسك في كل وقت وحاول التعرف إلى ما في قرارها من القوى الغافية، وتذكر يا جاهل أن أكثر العظماء لم يكونوا في بداياتهم إلا نكرات لا تبشر بشيء، وتذكر أنك لم تصل إلى غاية بعيدة أو قريبة إلا بعد لاستصباح بالأقباس المكنونة في سرائر نفسك، فما

ص: 1

الذي يمنع من أن تجعل التعرف إلى قواك النفسية والروحية فرضاً من فروضك في صباحك ومسائك؟

احترس من الغفلة عن نفسك، فللنفس ومضات تغير أرجاء الوجود. والتأهب للاستفادة من ومضات النفس يزيدها إشراقا إلى إشراق.

وهل كان ما ترى من الروائع والنوادر والغرائب في آثار الأذواق والقلوب والعقول إلا إثارة من التأهب لتلقي الوحي الصادر عن ومضات النفس؟

هي جوهر يشع في كل وقت، فارفع الحجاب عن عينيك لتنتفع بذلك النور الوهاج، فإن لم تفعل فأنت مجرم في حق نفسك، وفي حق وطنك، وفي حق الإنسانية.

وهل ترى من المستحيل أن توفق إلى كشف أفق جديد يزيد ثروة الناس في الفكر والمعاش؟

جرب حظك في محاولة التعرف إلى سرائر نفسك، فقد تصبح قوة كهربائية تغير ما بحيوات الناس من ألوان وأفانين؛ وقد تكون لمحة واحدة خليقة بأن تجعل لك مكانا بين أهل الخلود أن أحسنت التأهب لتلقي ذلك الوحي الجليل.

ولكن متى تحسن فهم أسرار نفسك، وأنت عنها في شغل بالظواهر الخوادع من توافه الشؤون؟

أن عقلك هو الذي يهديك إلى الانتفاع بالقوى المستورة في أطواء نفسك، فهل استهديت عقلك؟ وهل فكرت في أن أكابر الموهوبين قد لا يكون بينهم وبينك من الفروق ما يستوجب أن يتقدموا وتتخلف؟

فكر في مصيرك، يا جاهل، فقد يحطك الله في جهنم لأنك لم تحسن الانتفاع بهدى عقلك في معرفة قوى نفسك، والنفس هي اشرف الأرزاق.

وما النفس وما العقل؟؟

الذي يهمني هو الاطمئنان إلى أنك تعرف جيدا أنك خلقت لغاية غير الغاية التي خلق لها أخوتك وزملاؤك، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي تختلف فيه ملامح الوجوه، ومن الواجب أن تختلف فيه ملامح العقول، فمن أنت؟ وما صورة وجهك؟ وما سمة نفسك؟ وما صبغة عقلك؟

ص: 2

تفرد وتوحد، يا خلقة الواحد المتفرد. كن أمة وحدك ليرضى عنك من سواك، فما خلقك إلا وهو يريد أن تكون فريداً في الصورة والمراد. فهل تراني دللتك على مفتاح السر المجهول، وأنا من البحث عنه في حيرة وضلال؟

أنا وأنت رفيقان هائمان في بيداء الوجود، وفي صدري من اللوعة إلى كشف المجهول بعض ما في صدرك، فخذ بيدي كما أخذت بيدك، لنصل إلى شاطئ المعرفة واليقين بسلام وأمان، والله يهديني ويهديك!!

(كاتب)

ص: 3

‌في المصادر والأصول

نساؤنا بين التقاليد والتجديد

لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك

مدير عام دار الكتب المصرية

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

التبذل

وإني لمناسبة ما ذكرته من الاختلاط لغير مقتضياته الاجتماعية ذكرني صديق بأن بعض فتياتنا قد يغشين المجامع لغرض شريف ذلك هو الرغبة في الزواج وبناء البيت، وإذا صح ما ذكره صديقي، فإن نبالة النية وشرف القصد لا يحولان دون فساد الأسلوب وتعثر الطريق المتبع، لأنه لا مأمن من نزوات النفوس ووساوس الشيطان، إذ يضيع على الرجولة شهامتها فيستخدم الخلطة للعبث والتسلي دون تقدير لما يترتب على ذلك من تردي الفتيات والنساء في سبيل الغواية، ودون نظر إلى فداحة الآثم حين يصيب كل من جنس الرجل والمرآة من الآخر آنسا لا يحلله إلا صدق المواثيق والعقود وإخلاص النفوس. وزيادة على ذلك فإن الفتاة إذا غشيت هذه المجامع المصنوعة دون حذر شديد، أو حامت حول حماها، فقد تقع في مخاطرها، لأن حظ الفتاة من طيبة القلب وليونة العاطفة وروح الإيثار وسذاجة الوجدان يربو كثيرا عن حظ الرجل الذي راضته أحداث الزمن على مرانة في التفكير وقلة في الحساسية وتغلغل في الأنانية، مما قد يساعده على أن تكون المرأة هدفاً لخديعة الرجل وتغريره. ولطالما يهفو الرجل فتدفعه هفواته لاستباحة المتعة من المبذول، لكنه طالما يكرم نفسه باختيار زوجته ممن يكرمن أنفسهن في حمى العزلة وقداسة الصيانة. وأزيد على ذلك أن ابتذال الفتيات لأنفسهن مضيع للعزة والكرامة. وينبغي أن تكون عزة المرأة وكرامتها فوق شرف الزواج، ولا عزة لمن يتقدمن من النساء في سوق العرض والطلب، ومن الخير لهن أن يكن معززات مصونات محببات يطلبن في شغف، لأن في الابتذال إضعافا للرغبة. ومن الخير للرجل أن يكون شهما كريماً، فيستخدم شهامته ومروءته لصيانة شريكة حياته وأم بنيه عن مواضع الذلة ومواطن الابتذال حين تنزل

ص: 4

الفتاة في ميدان العرض والطلب فيصيبها ضعة العارض ومهانة المعروض.

فساد الذوق

وفيما سلف ذكره، قد أشرت إلى انحراف الاختلاط عن وجهه القويم، وأشرت إلى سوء فهم الحرية المعقولة والى مهانة الابتذال. أشرت إلى كل ذلك لعناصر مسيئة لنسائنا المجددات؛ ويجدر بي أن أشير إلى عنصر آخر لا يقل أثره سوءاً. ذلك هو اختلال الذوق في اللباس والتزين. لقد ذكر أحد العلماء الممتازين الحاليين الدكتور (كاربل) في كتاب له إلى ما أصاب العصر الحديث وأهله من ضعف في الإنتاج الصالح، وضمور في الجسوم، وضعف في الذوق الفني. وليس من شك في أن ملابس السيدات الغربيات قد أدركها ذلك الضعف، من حيث الذوق ومن حيث اللياقة. وإن مستحدثات الأزياء التي يتخذها نساؤنا عن الغربيات ويغيرها بين حين وحين مبدعو الأناقة من أهل التجارة، تدل أبين دلالة على ضعف هذا الذوق الفني وانحلاله. فالجلباب القصير والمحاسر والقبعات قد يؤلم الكثير من أشكالها نظر ذي الذوق السليم. فهبك رأيت امرأة طويلة نحيلة في جلبابها الذي لا يبلغ ساقيها، ويخرج عن كمية ساعداها الطويلان النحيلان العاريان وتمتد رقبتها الدقيقة من طوقها المفتوح، وتتخم شفتاها الظاهرتان في وجهها الضئيل بتلك الأصباغ الدامية. أفلا يخيل إليك أنها كالأفعى ولغت في الدماء؟ وليست هذه الصورة الدميمة البشعة إلا من نتائج اللباس القصير الحاسر الذي لا يرضه لهذا الجسم ذوق صحيح.

التغرير بالمرأة

وكما أساء الاختلاط المطلق الحرية السقيمة المعتلة وفساد الذوق الشائع إلى النساء والحديثات المعاصرات كذلك أساءت إليهن فلسفة التغرير. فقد يغرر العصر الحاضر بالنساء حين يدفعهن إلى ميادين من الأعمال الشاقة. كان من الخير أن يزاولها الرجال ويحتملوا أوصابها وتبعاتها دون النساء حرصا على أن تسلم وظيفة الأمومة التي هيئت لها المرأة، ووقاية من زجها في الجهود المضنية التي تعطل فيها صحة أنسجتها العضوية، وتفسد عليها رقة الطبع وسلامة الأعصاب.

كتب الأستاذ فريد وجدي (حين بحث في مشاركة النساء الرجال في أعمالهم) قال:

ص: 5

(إن من أقبح مظاهر اسر المرأة في الأفراد والأمم ترك حبلها على غاربها، وقذفها بذلك الجسم اللين والعواطف الرقيقة والفؤاد المملوء رحمة، والمهجة المتشعبة الشفقة، أن تزاحم الرجال في معترك الحياة كتفاً لكتف لسد رمقها، فتقضي طول نهارها وجزءاً من ليلها بين لهيب المعامل ودخانها أو على قارعة الطرق بين هيجاء تلك المدينة المفزعة. ولو تسنى لك يوماً من الأيام أن تزور معامل أوربا وأمريكا مما جمع إلى فخامة المبنى وضخامته سعة لا يكاد يحيط بها البصر، رأيت في داخلها أمرا عجيباً: رأيت جماعات من ذلك الجنس الرقيق مكلفات بأشق الأعمال وأقسى المحاولات العضلية واقفات أمام التنانير المسجورة يعانين أوصاب الحياة ومرارة العيش، تقرأ على وجوههن التي لفحتها تلك النيران المستعرة هذه الجملة التي لا تذهب من مخيلتك أبدا:

(هذا منتهى أسر الرجل للمرأة)

ومحررو المرأة عندنا بدلا من أن يعدوا هذا مرضاً اجتماعياً كما يعده علماء العصر الحاضر ويضعوا كل همهم في حياطة بلادنا منه مثل ما يفعله حكماء أوربا وأمريكا تراهم يودون أن يفتحوا علينا ذلك الباب الهائل لظنهم أننا سائرون خلف أوربا قدما بقدم.)

ولقد صدق الأستاذ وجدي فيما كتب فمحاكاتنا للغرب تدفع نساؤنا الحديثات في كل ميادين العمل الاجتماعي ويغرر بهن ليسرن في هذا السبيل من غير قيد ولا حذر. وقد توقع الكثير من علماء الاجتماع سوء عاقبة هذا التمادي في التغرير بالمرأة وتوريط المجتمع في كوارث اقتصادية وخلقية، حتى أن (أوجست كومت) وهو رأس من رؤوس فلاسفة الغربيين كان يرى من واجب الهيئة الاجتماعية أن تضمن للنساء حياة ناعمة مريحة إذا أعوزهن من يكفلهن من الأقارب والأزواج. وذلك لكي تتجه النساء وجهتهن فيما خلقن له من إسعاد الأسرة ودعم أسسها، ومن إنعاش جو المحبة، ومن إشاعة نسمات السلام. وإن ما يذهب إليه هذا الفيلسوف يساير تعاليم الإسلام حين يوجب على بيت المال أن يقوم بنفقات من يفقدن كافلهن ولا يملكن ثروة تدرأ عنهن العوز، أو ليس لهن من يعولن عليه من ذوي القربى الواصلين للأرحام.

ولقد ذهب كذلك (جول سيمون) الاجتماعي الفرنسي إلى تأكيد ما يفصل بين واجبات المرأة وواجبات الرجل في الحياة الاجتماعية مما يدعو في جملته وتفصيله إلى الحد من التغرير

ص: 6

بالنساء بزجهن في كل الأعمال التي تقتضيها الحياة العمرانية

الأسرة وقيودها

يتبين مما تقدم ذكره أن للمرأة كمالاً نوعياً خاصاً، ومضمار هذا الكمال الأمومة وتربية الأولاد وتنظيم البيت وإسعاد من فيه. وعلى حد ما يقول قاسم أمين في كتاب المرأة الجديدة:

(نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة للاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية أولادها، وأنها معرضة لعوارض طبيعية كالحمل والولادة والرضاعة لا تسمح لها بمباشرة الأعمال التي يقوى عليها الرجال؛ بل نصرح هنا أن أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تتزوج وتلد وتربي أولادها. هذه قضية بديهية لا تحتاج في تقريرها إلى بحث طويل)

ومن المعلوم أن تأسيس الأسرة وتكوين العائلات إنما دعم على انتقاد من حريات الأفراد وحد من استقلالهم حيال ما يعود من الفوائد الناتجة عن التكامل العائلي حين يشمل أفرادها الحدب والحنان والعودة والتراحم وما يترتب على ذلك من تبادل المنافع.

لقد كانت المرأة في حالة الهمجية الأولى واسعة الحرية، وكذلك كان الرجل. لكن تقدم النوع الإنساني وأطوار العمران قضت شيئاً فشيئاً على هذه الحرية الهمجية إلى أن وصل المجتمع إلى تكوين الأسرة المهذبة المتراحمة على أنقاض هذه الحريات.

ولقد حددت الشرائع وما تعارف عليه الناس لكل من أفراد الأسرة مختلف النظم والحدود، وعلى ذلك يجب أن يمارس كل من الزوج والزوجة والبنين حقه وواجبه في حدود الله والعرف الصالح.

ويسوءنا أن نلاحظ على مجتمعنا في العهد الأخير أن الناس نساء ورجالاً قد تعدوا حدود المعقول والمشروع في السلوك. وبخاصة فيما يتعلق ببنية الأسرة وجوهر آدابها.

ففي حين قضت حكمة الإسلام أن يكون للزوج درجة على زوجته في تسيير دفة الحياة العائلية اصبح الحال بعكس ذلك في الأسر التي طغى عليها التقاليد المنحرف الدخيل، وفي حين كانت تدعو التقاليد الإسلامية بأن تحتجز زينة النساء وتبرجهن للبيت والأزواج؛ اصبح الكثير من النساء لا يستسغن التزين والتبرج إلا للمجتمعات مع ضعف في الذوق

ص: 7

جرت إليه المحاكاة الطائشة.

وفي حين كانت تقاليد الإسلام لا تبيح للنساء مخالطة الرجال ولا تبيح للرجال مخالطة النساء إلا بشروط وقيود. أصبحت حرية الاختلاط في بعض الطبقات الاجتماعية رهينة وحي اللهو والهوى والفتون، وفي حين كانت التقاليد الإسلامية تدفع بالناس إلى التبكير بالزواج والتناسل أصبحت أطوار الأخلاق، وفلسفة الزمان المستحدثة تغري بعكس ذلك من التقاليد التي قامت عليها عظمة الماضي وقوة السالفين.

وليس من شك أن هذه الحالة التي تواضع الناس على تسميتها بالحياة العصرية حيناً وبحالة التجديد حيناً آخر يتنافى مع التقاليد الأصيلة فينا، وإن هذه الحالة السيئة تسللت إلى مصر مع غفلة الزمن وضعف الشخصيات والولوع بالمحاكاة، ولقد شعر الكثيرون منا بخطر هذا الحال الاجتماعي واخذوا يثورون عليه سراً وفي استحياء في حين أن دعاة من صميم الغرب قد دعوا جهرة للحد من خروج المرأة عن نطاق عملها ودوائر نشاطها.

ورد في جريدة المقطم منذ أسبوع: أن سيدة سورية طلبت إلى الجهات المختصة في حكومتها الموافقة على انتظامها في سلك المحاماة، فردت تلك الجهات بامتناعها عن إجابة هذا الطلب لمخالفة ذلك لروح القرارات التي أصدرتها الحكومة الرئيسية في فيشي.

على أني لا أتعرض لإقرار ذلك أو رفضه، إنما أريد أن اتخذه دليلاً على ما يبديه الغرب من الروح الجديدة، والرجوع بالمرأة إلى الحدود الواجبة.

المعاول

ومما يزيد الأمر عندنا سوءا أن معاول الإتلاف في الحياة الاجتماعية متعددة وكثيرة، فإشاعة الروايات الغرامية، وعرض المسرحيات الرخيصة، وترديد النظر فيما يعرض في دور الخيالة السيئة، وما يوحيه ذلك للفتيات والفتيان والزوجات والأزواج والاختلاف إلى المتنزهات العامة دون رقابة واحتشام وعصمة، وقراءة ما يسمونه الأدب المكشوف، وكثرة الاطلاع على الصور في أوضاعها الخليعة، وما إلى هذه المغريات. كل ذلك شأنه شأن المعاول في هدم الحياة الاجتماعية المنتجة، وفي زعزعة أسس التربية الصالحة في كيان الأسر.

الدعوة والعمل

ص: 8

وأصبح لزاماً على المفكرين دعوتهم للإنقاذ من هذا البلاء، ولعل هذه الدعوة تجد آذاناً صاغية لما آلت إليه حالة المجتمع من التدهور كما وجدت دعوة قاسم أمين آذاناً صاغية عندما اشتدت التقاليد القديمة وضيقت الخناق في حياة النساء، وعسى أن يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية وللهيئة الحاكمة عمل في ذلك مذكور قد أتعرض لتفاصيله وبيانه في فرصة أخرى أن شاء الله.

على أنني أرجو من المرشدين الراشدين والكاتبين والكاتبات ورؤوس الأسر رجالاً ونساء أن يفطنوا للخطر الذي حقت كلمته في الغربيين وراء الاستهانة بروابط الأسرة ومقتضياتها ومقوماتها فاستيقظ الغرب يبتغي الوسيلة لوقايتها مما حاق بها وبرد المرأة إلى ما هيأته لها المقادير.

منصور فهمي

ص: 9

‌الصحافة العراقية

للدكتور زكي مبارك

ما عناصر هذا الموضوع الدقيق؟ -

في صلب المقال جواب عن هذا السؤال

لا يجوز إغفال الصحافة عند التكلم عن الحياة الأدبية في بلد من البلاد العربية، فإلى الصحافة يرجع أكبر الفضل في نشر المذاهب والآراء، واليها يرجع الفضل كله في المرونة التي ظفرت بها الأساليب في هذه الأيام، لأن الكتاب لم يعودا يهتمون بالخواص، كما كانت الحال في العصور الخوالي، وإنما يوجه الكاتب كلامه إلى جماهير كثيرة فيه العالمون والجاهلون والأذكياء والأغبياء، وذلك يوجب أن يكون الوضوح هو الخصيصة الأولى من خصائص البيان.

والمحصول الأدبي في مصر وسائر البلاد العربية هو في أغلب أحواله مقالات وبحوث نشرت في الجرائد والمجلات، والحال كذلك في الأمم الأوربية والأمريكية، فجانب كبير جدا من الأدب الفرنسي لم يكن إلا صحائف مختارة من بين ما نشر في الجرائد والمجلات. وكان من تقاليد جريدة (الطان) أن تنشر كتباً جيدة تختار موادها من بين ما نشرت لأكابر الكتاب والباحثين. وكانت جريدة (المؤيد) في مصر صنعت مثل هذا الصنيع فنشرت ما كانت تسميه (منتخبات المؤيد) ولو فكرت الجرائد المصرية في إحياء هذه البدعة الطريفة لظهرت مجموعات علمية وأدبية وفنية تزيد محصولنا الفكري قوة إلى قوة، وتحفظ ما يعرض للنسيان من آثار الأذواق والقلوب والعقول.

وكانت دار الكتب المصرية شرعت في طبع فهارس لأهم ما ينشر في الجرائد والمجلات، وهي فهارس لا يلتفت إليها جمهور الباحثين، وأخشى أن تكون عطلت بعد غلاء الورق، فتلك الفهارس تؤدي خدمات عظيمة لمن يهمهم الرجوع إلى محصول الفكر والعقل في هذه البلاد، وتشهد بحرصنا على تقييد الأوابد من معالم الأدب والتاريخ.

ويدور الجدل من وقت إلى وقت حول المفاضلة بين المعاهد التي خدمت اللغة العربية كالأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، وعند التأمل نرى أن هذه المعاهد لم تخدم إلا علوم

ص: 10

اللغة العربية، أما نشر الأفكار والمذاهب والآراء، ورياضة الأقلام على وصف ما جل ودق من شؤون الحياة بأسلوب واضح مقبول يفهمه العوام ولا ينكره الخواص، وخلق الروح الوطني والديني في نفوس الجماهير، وتقريب ما بين الشرق والغرب من المسافات العقلية، فذلك كله من ثمرات الجهاد المحمود، جهاد الصحافة الأدبية والسياسية، فهي التي رفعت اسم مصر بين أقطار الشرق، وهي التي أذكت مواهب الرجال، وهي التي أمدت اللغة العربية بروافد لم تر مثلها في أيامها الزواهر لعهد بني أمية وعصر بني العباس فما حال الصحافة العراقية؟

لم يصح عندي أن في العراق صحافة تساير ما فيه من النهضات العلمية والقومية، وإن كثرت فيه الجرائد والمجلات، فكيف تخلف العراق في هذا الميدان مع أنه تقدم في أكثر الميادين؟

قد يجاب بأن الصحافة هناك ترزح تحت أثقال من القيود بسبب العواصف السياسية، وهو كذلك، ولكن ما سبب تلك القيود؟

يرجع السبب إلى أن الصحافة العراقية ترى أن الحرية لا تكون إلا في الحدود التي تتمتع بها الصحافة المصرية، وذلك خطأ فظيع: فالمصريون والعراقيون يختلفون اشد الاختلاف في الميول والأهواء، ولو شئت لقلت أن في الطبع المصري هدوءاً لا يعرفه الطبع العراقي؛ فالمقالة القاسية في جريدة مصرية لا تغير إحساس الجمهور إلا بمقدار ضئيل، ولا كذلك المقالة القاسية في جريدة عراقية، فهي تزلزل إحساس الجمهور اعنف الزلزال، وقد تقبح سمعة من كتبت فيه ابشع التقبيح.

سمعت أن جريدة عراقية أغلقت لأنها كتبت مقالا عنوانه (الفرات الهائج)، فكيف أغلقت من أجل هذا العنوان؟ أغلقت لأنها تناست الفرق بين الهياج والطغيان، فالهياج يضاف إلى السكان، أما الطغيان فيضاف إلى الماء.

والسبب مضحك لمن ينظر فيه وهو يجهل المدلول السياسي لهياج الفرات، أما الذي ينظر فيه وهو يعرف محرر الجريدة ومذهب الحزب الذي ينتمي إليه فقد يعده باباً من التحريض، وقد يراه بوادر لمصاعب لا تطاق، وما احب أن أزيد!!

ومعنى ذلك أن الصحفيين العراقيين يخربون بيوتهم بايديهم، فهم لا يعرفون سياسية القول،

ص: 11

وهم يجنون على أنفسهم حين يفكرون في محاكاة الصحافة المصرية، وهي صحافة باغية لم تدع أديماً صحيحاً إلا مزقته بلا ترفق ولا استبقاء.

قضيت ليلة من ليالي الطوال في بغداد وأنا حزين بسبب ما كان ينشر في جريدة (الرأي العام) طعنا في مصر والمصريين؛ ولكن كيف؟ هل كانت تلك الجريدة تشتم مصر والمصريين؟ لا، وإنما كانت تنشر أقوال المصريين بعضهم في بعض، فتذيع ما كان يقع من التهاجي بين جرائد الدستوريين والسعديين والوفديين. . . فماذا صنعت؟

رأيت أن اذهب لمقابلة مدير الدعاية بوزارة الداخلية هناك لأفهمه أن الجمهور العراقي سيحقد على الحكومة العراقية حين يرى نفسه محروما من الطعن في وزرائه على نحو ما يتمتع به الجمهور المصري، وهو حال أن دام فستكون له عواقب سود. فكانت النتيجة أن تكف جريدة (الرأي العام) عن تقديم ذلك الطعام (المسموم) لقرائها (الأصحاء)

الصحافة الحزبية في مصر صحافة مؤذية، وهي كريهة المذاق، ولن ينجو العراق من شر هذه الصحافة إلا يوم تنجو منها مصر، وهيهات ثم هيهات!

ولكن الصحافة الحزبية عندنا تستر شرها بالتحدث عن أشياء من العلوم والآداب والفنون؛ أما الصحافة الحزبية في العراق فهي سياسة في سياسة في سياسة، ولا يظفر منها القارئ بزاد على أو أدبي إلا في أندر الأحايين.

تذكرت صحافة العراق حين نظرت في كتاب (السلوك، لمعرفة دول الملوك) وهو كتاب ألفه المقريزي ونشره الدكتور (محمد مصطفى زيادة) بعناية تضيفه إلى أقطاب المحققين، فرأيت المؤلف لا يرى الدنيا إلا في أخبار الملوك والوزراء، أما الشعب فليس له من جهد المؤلف خلاف وكذلك تكون صحافة العراق.

لو أن الصحافة العراقية جعلت أحوال المجتمع العراقي همها الأصيل لظفرت بجاذبية روحية وأدبية تغنيها عن الاهتمام بأخبار الوزراء، والجريدة الموفقة هي الجريدة التي تحدث الشعب عن ذات نفسه وتنقله إلى أفاق من الفكر والقلب والوجدان.

أما الجريدة التي لا تعرف غير الأخبار الرسمية، ولا توجه جهودها لغير الجانب السياسي فهي جريدة قليلة النفع في تربية العواطف وإحياء الآمال.

والصحافة الحزبية في مصر خليقة بأن تسمع هذا القول قبل أن تسمعه الصحافة الحزبية

ص: 12

في العراق.

ومن صحافتنا الحزبية استعيذ بالله، فهي معول يهدم ما بيننا من أواصر وصلات

ولكن لابد من النص على أن مصر تتمتع بمزية عظيمة هي (التماسك) فما يهدم الرجل العظيم في مصر ولو صوبت إليه ألوف الأكاذيب والأراجيف، أما الرجل العظيم في العراق فتهدم قوته المعنوية حين تشتغل الصحافة بتجريحه أسبوعا أو أسبوعين، وتلك حال طيبة من جانب وخبيثة من جوانب، فهي طيبة لأنها تجعل الحاكمين في حذر من تغير المحكومين، وهي خبيثة لأنها تجعل سوء الظن أساسا لأكثر الأعمال.

والصدق في حب العراق هو الذي يسوقني إلى النص على هذا الملحظ الدقيق، ولكن هل قلت كل ما يوجبه الصدق؟

يجب النص على أن الصحافة العراقية مشلولة بسبب انعدام التعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة الأدبية، فمن واجب الحكومة أن تعين الصحافة على نشر ما لا خطر في نشره من أخبار السياسة الداخلية والخارجية، ومن واجب الصحافة أن تراعي جميع الظروف، فلا تعمل على تهوين أقدار الحاكمين في انفس المحكومين في بلد يتأثر بالقيل والقال.

وانعدام التعاون بين هاتين السلطتين في العراق له نتائج تلمحها من حين إلى حين!!

أليس من العجب أن نقرأ في جميع الصحف العراقية أن الحال على ما يرام وفوق ما يرام، ثم يكون الواقع أن العراق يعاني أزمة وزارية أو دستورية؟

وأقارن بين الحالة في مصر والعراق فأقول:

الحرية الصحفية في مصر تصرف المصريين عن خلق الإشاعات والأراجيف، لأن الصحافة المصرية تقوم بهذه المهمة (خير قيام) فهي تزود أهل الفضول بما يكفي لإزجاء أوقات البطالة والفراغ، وتغنيهم عن الافتنان في اختراع الأقاصيص حول مسالك الكبراء والوزراء.

ومن هنا يكون في مقدور الحكومة المصرية أن تعرف ما يتحدث به الناس فتطب له قبل استفحال الداء.

أما صمت الصحافة العراقية عما يدور في أروقة الدوائر والدواوين فيروض العراقيين على الظن بأن الصحافة تطوى عنهم اشياء، فيتولون بأنفسهم خلق صحافة جديدة اسميها

ص: 13

(الصحافة الشفوية) وهي صحافة لا يشرف عليها حسيب أو رقيب، فتجول في الأندية والمجالس بلسان مسموم لا يكبحه عنان ولا يصده وثاق.

ومن هنا تعجز الحكومة العراقية عن الطب لوساوس الجمهور قبل استفحال الداء.

وهل احتاج إلى النص على أن الصحافة التحريرية أخف وقعا من الصحافة الشفوية؟

إن الصحافة التحريرية يديرها رجال ينهاهم العقل والمنطق والذوق عم الإمعان في الإرجاف، أما الصحافة الشفوية فيخب فيها كل مخلوق على حسب هواه، وقد يحترفها أقوام لا يعرفون أخطار (الغيبة الاجتماعية) وهي افظع من الغيبة الفردية، فأنت حين تغتاب شخصا لا تؤذي غير رجل واحد، ولكنك حين تغتاب حكومة قد تعرض أمة برمتها إلى التصدع والانحلال.

ولكن ما نتيجة انعدام التعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة الأدبية في العراق؟

النتيجة هي ضعف الأدب السياسي هناك، وكيف يقوى الأدب السياسي وما تستطيع جريدة أن تقول إنها أسندت هذه الوزارة أو قوضت تلك؟؟

وكيف ينبغ الكتاب السياسيون وقد حرموا القدرة على تشريح المذاهب والآراء؟

وارجع مرة ثانية إلى الخطر المخوف على الصحافة العراقية وهو محاكاة الصحف المصرية، فتلك المحاكاة هي سبب البلاء، ويجب أن يكون للصحافة العراقية مسالك جديدة تراعي فيها ظرف المكان، وتطب لأدواء المجتمع العراقي بلا استطالة ولا بغي ولا عدوان.

والى أن يجيء اليوم الذي يتم فيه التفاهم بين السلطة التنفيذية والسلطة الأدبية. . . ما الذي يجب أن تصنع صحافة العراق إلى أن يجيء ذلك اليوم؟

أرى أن يفكر الصحفيون العراقيون في تزويد جرائدهم بأطيب الزاد من العلوم والآداب والفنون لتصبح الجريدة وهي جارحة من الجوارح الروحية لا يستغني عنها رجل يتنسم هواء العراق.

إن كان للصحافة العراقية عذر في العجز عن خلق الكاتب السياسي، فما عذرها في العجز عن خلق الكاتب الأدبي والكاتب الاجتماعي؟

ما عذرها وليس للحكومة سلطان على كتاب الأدب والاجتماع؟ وما عذر أدباء العراق في

ص: 14

التخلف عن السبق في ميدان التأليف؟

لن أنسى واجبي في دعوة أدباء العراق إلى التفكير في الانتفاع بذخائر الثروة الروحية والعقلية في تلك الأرجاء.

كان الكبح السياسي في القرن الرابع أعنف من الكبح السياسي في القرن الرابع عشر، فأين العراقيون اليوم من جهود أسلافهم بالأمس؟ لقد تمخض الكبح السياسي والديني في القرن الرابع عن ذخائر فلسفية هي (رسائل إخوان الصفاء) فأين ثمرات الكبح السياسي في هذا العهد؟ وأين محصول العقول في تدبير الرسائل لشر أحلام القلوب وأهواء النفوس؟

كنت كتبت كلمة في الرسالة اصد بها الأديب (الدسوقي) عن الاغترار بما يصدر عن وحي القلب في سن العشرين، فثار جماعة من أدباء الشباب وعدوا كلمتي تعطيلاً لمواهبهم الأدبية. ولكنهم لم يستطيعوا أن يفحموني، وأفحمني شاب عراقي حين سألني وهو في بغداد عما كنت اصنع بأحلامي وأفكاري يوم كنت في سن العشرين!

ومن هذا الكلام فهمت أن الخميرة الفلسفية لها بقايا في العراق. وقد عرفت في بغداد شاباً كان ينفق على أهله وهو تلميذ بالمدارس الثانوية من دراهم معدودات كان يجنيها بعرق الجبين في خدمات أدبية شريفة لا تصرفه عن استذكار الدروس؛ ولا أدري ما صار إليه أمر ذلك الشاب، وإن كنت أعرف أن مجلة الرسالة قومت أدبه فنشرت له قصة من أدب طاغور بعناية والتفات. وإن صحت فراستي في هذا الشاب فسيكون له بين أكابر الأدباء في العراق مكان.

العراق روحياً بخير وعافية، ولكن كيف نخلق الفاعلية الأدبية في العراق؟ وكيف تخلق المنافسة الجدية بين القاهرة وبغداد؟

أما بعد فأين أنا مما أريد

حديث اليوم عن الصحافة العراقية، وقد تكلمت عنها بالتفصيل في كتاب (وحي بغداد) فما هو الجديد في هذا الحديث؟

الجديد هو أن الصحافة العراقية لا تزدهر إلا حين تبتعد عن المشكلات السياسية، ولكن كيف وكل امرئ في العراق يشغل نفسه بالسياسة ولو عاش في الدربونة الواقعة خلف شارع صريع الغواني؟

ص: 15

في العراق صحافة أدبية لا تعرف تصريف الفعل من ساس يسوس، وهي صحافة مبثوثة في أرجاء العراق، فنرى لها ملامح في البصرة والحلة والنجف والموصل وبغداد، وقد نراها في الكوفة المسكينة التي عاشت مساجدها الجوامع طول العهد بالخراب، وقد نراها في (العمارة) ممثلة في صحيفة تسمى (الفرزدق)، قد نرى ملامح الصحافة الأدبية في كل مكان بالعراق، وإن لم تكن في قوة الصحافة الأدبية في وطن الأزهر والجامعة المصرية.

ولكن. . . ولكن هل ننسى قيمة الاستقرار في بلد الرشيد؟

لم يسم العراقيون عاصمتهم (مدينة السلام) أو (دار السلام) إلا استجابة لرغبة مقهورة هي الشوق إلى أن تكون عاصمتهم دار الأمان، وهي في جميع عهودها دار الخوف، أو دار الحرب، فما فيها موضع قدم إلا وهو معهد صيال لعزائم الأبطال.

والعراق حين يسألك عن حالك يقول: هل أنت مستريح؟ ومعنى ذلك أن التعب هو الحال الغالب في تلك البلاد!

وأقول إن الاستقرار الصحفي تظهر قيمته في (مجلة المعلم الجديد) فما هي تلك المجلة؟ هي مجلة تصدرها وزارة المعارف العراقية لشرح شؤون التربية والتعليم، وقد ظهرت في سنة 1935، ولا تزال تصدر بقوة وحيوية تشهدان بقيمة النظام في العمل الذي يستريح مزاولوه من أعباء التكاليف الثقال: تكاليف المال.

مجلة المعلم الجديد هي السجل الصادق لآثار العقول العراقية في مختلف الشؤون، وقد عجب الشاعر على محمود طه صاحب (الجندول) من أن ينال من رعاية تلك مكانا لم يظفر بمثله بين مجلات وادي النيل، فكان ذلك شاهدا على أن مجلة المعلم الجديد تتسامى إلى الرعاية الأدبية لجميع آثار العقول في سائر الأقطار العربية.

ما شاء الله كان، فما نظرت في محصول مجلة المعلم الجديد إلا أيقنت بأن زملائي في بغداد قد وصلوا إلى أشياء، ولكن كيف وصلوا وهم بأعمالهم التعليمية مشاغيل!

السر كل السر في أن مجلة (المعلم الجديد) لا ينشر فيها حرف بالمجان، فهي تتخير من محصول العقول ما تشاء، ومن أخصب تخير - كما كان يعبر الأسلاف - وكيف تضيع مجلة تنفق عليها الدولة بسخاء؟!

لو أردنا اختبار المواهب العراقية في الصحافة والتأليف، لدعونا مجلة (المعلم الجديد) إلى

ص: 16

التحرر من (كرم) وزارة المعارف هنا، ولكننا نطلب المستحيل، فالشرق هو الشرق، ولا يدوم عمل في هذا الشرق إلا بسناد متين من أسندة الحكومات! واه ثم آه من بلاء الاتكال على الحكومات في جميع الشؤون!

ثم أما بعد، فهذا مقال تحررت فيه من مراعاة الظروف والملابسات في مصر والعراق، فهل جنيت على نفسي بالهجوم على الصحافة هنا وهناك؟

أنا الغريق، فما خوفي من البلل - كما يقول المتنبي - أنا الرجل الذي عاتى مكاره الاغتراب في كل أرض، فكانت غربته في القاهرة أقسى وأعنف من غربته في باريس وبغداد!

وهل كانت الصراحة من اظهر صفاتي؟ وكيف وقد قضيت العمر في جمع المال لاشتري مثقالاً من الرياء، وسأموت قبل أن اجمع الثمن لغالي لذلك المثقال!!

إليك، يا فاطر الأرض والسموات، أوجه الرجاء، فما تقدمت ولا تأخرت إلا بحكمة عالية من كرمك البالغ وحصنك الحصين.

زكي مبارك

ص: 17

‌على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

الدين والفلسفة

للدكتور محمد البهي

هل للفلسفة قيمة العلم واعتبار اليقين في بحث الله وبحث ما وراء الطبيعة كقيمتها واعتبارها في بحث العقل الإنساني وفي بحث القيم الأخلاقية؟ هل للدين اعتبار فحسب فيما يحكيه عن الله وعن عالم ما وراء الطبيعة أم يتجاوز اعتباره في نظر العلم إلى دائرة الإنسان؟

أطال فيلسوف المذهب الألماني (كانت) في الإجابة عن هذين السؤالين، ولم يرتض مكس شلر من الفلاسفة العصريين ما ذهب إليه فيلسوف كونس برج بشأن الدين.

هل الدين يعادي العلم أو يؤاخيه؟ وهل في طبيعة الدين ما يساعد أو يمنع الاستمرار في البحث والاسترسال في التفكير الحر؟. . .

تناول كثير من الكتاب علاقة الدين بالفلسفة على هذا النحو، وهي علاقة الدين بالعلم في نظرهم. ولم تخل الإجابة من تحيز لطرف منهما، أو من سوء تحديد لميدان كل منهما، أو عن سوء فهم لطبيعة الدين أو لحرية الفكر والبحث العلمي.

لا عن هذا ولا عن ذاك أريد الآن الكلام. بل أريد فحسب أن أضع أمام القارئ مادة للإجابة عن سؤال يتصل بعلاقة الدين بالفلسفة كذلك على نحو آخر وهو: هل من مصلحة الدين أن يجذب نحو الفلسفة؟ وهل من مصلحته أن يفلسف بأن تشرح حقائقه بآراء الفلاسفة؟

في العصر الحاضر يميل بعض العلماء الشرح القرآن بما عرف - وتستجد معرفته - لعلماء الطبيعة والكيمياء، وعلماء الهندسة الميكانيكية والكهربائية، وعلماء المعادن والأحياء؛ وبالجملة يميل إلى شرحه في ضوء العلم والفلسفة. ويذهب إلى أبعد من هذا في وضع منطق ديني لمعرفة الصحيح والفاسد من الدين؛ وقوام هذا المنطق الديني الأقوال التي تذكر في استحضار الأرواح، وما يدور حول التنويم المغناطيسي، ونظرية الأثير و (التجارب الحسية) على إثبات الروح.

وقديماً مال فلاسفة المسلمين وبعض علماء الكلام إلى شرح العقيدة الإسلامية في الله وفي صفائه، وفي صدور العالم عن الله ونشأته عنه، وفي ملائكته ورسله، وفي الجنة والنار،

ص: 18

وفي الإنسان: في روحه ونفسه، وفي صلة جسمه بروحه، وفي مستقرها ومستودعها، بما نقل عن فلاسفة الإغريق خاصاً بالمبدأ الأول للكون وبنشأة الكون عنه، وخاصا بالأفلاك وبالنفس الكلية التي هي نفس العالم وبفيضها على النفوس الجزئية، كما مال فريق آخر من هؤلاء القدماء إلى شرح الآيات الكونية بما عرف لبطليموس وأقليدس من فلاسفة اليونان الطبيعيين والرياضيين.

وكما ادعى فلاسفة المسلمين الأولون ممن فلسفوا العقيدة أن تفلسف العقيدة وشرح حقائقها بالآراء الفلسفية وسيلة من وسائل تقويتها وعنوان على تطابقها مع الفلسفة اليونانية، وفي ذلك إبراز لكمال العقيدة، لأن الحكمة اليونانية - هكذا ظن أو اعتقد هؤلاء الفلاسفة من المسلمين - تمثل أعلى درجة من المعرفة وارفع مرتبة من الفضائل. يدعي كذلك بعض العلماء المعاصرين المفلسفين للعقيدة أن تفلسف الدين إبراز له في ثوب ملائم للعصر وموافق لأهم مظاهره - وهو مظهر العلم - وبذا يقرب من نفوس الخاصة المثقفة من المسلمين، ويقرب كذلك من إفهام بعض العلماء الغربيين الذين أساءوا إليه عن (جهل بحقيقته)، وفي الوقت نفسه يبرهن على (صلاحيته لكل جيل وزمان).

والإنسان الحديث ربما يسر لهذا اللون من الشرح، بل ربما يتحيز له ويدعو إليه لما فيه من جدة لن تؤلف، ولأنه يدل على أن (الكتاب لا يفرط في شيء)، كما هلل إنسان القرون الوسطى قبله، وبالأخص إنسان القرن الثالث والرابع الهجري، لخلط الدين بالفلسفة الإغريقية، وذهب في هذا الخلط إلى حد بعيد.

ولكن وراء سرور الفرد ووراء انفعاله وإكباره لهذا العمل حقيقة لا تتغير بمظاهر انفعاله وإكباره، وهي: أمثل ذلك الصنيع يلائم طبيعة الدين ويلائم غايته؟ ولاشك أن يسر الدين وكونه قريباً من إفهام أكبر عدد ممكن من الجماعة البشرية من أهم خصائص طبيعته. ولاشك أن اقتناع الكثرة به واجتماعها حوله غير متفرقة ولا متحزبة لتأويل معين لحقيقة من حقائقه غاية رئيسية له.

فإذا كان تفلسف الدين إذا يساعد على نمو طبيعة الدين ويساعد على تحقيق غايته، كان من مصلحة الدين جذبه نحو الفلسفة، وكان من مصلحة شرح عقيدته بآراء الفلاسفة.

دخلت الفلسفة الإغريقية بشرح رجال مدرسة الإسكندرية منذ عصر المأمون في ثقافة

ص: 19

المسلمين، وأحدثت على إثر دخولها تحولاً في نشاط المسلمين الديني والعقلي أساسه الميل إلى الفلسفة في إنتاجهم في هاتين الناحيتين. وكانت العقيدة الإسلامية اشد تأثراً بالفلسفة في نطاق الإنتاج الديني؛ إذ من أهم ما تناولته الفلسفة بالبحث المبدأ الأول للكون، وصفات هذا المبدأ، ونشأة العالم المشاهد عنه، والإنسان أمام العقل الإسلامي المشتغل بالعقيدة الإسلامية نظرية الواجب والممكن، ونظرية وساطة العقل الفعال بين الله والعالم، ونظرية الصورة والهيولي، ونظرية العقول المجردة، ونظرية فيض النفس الكلية على النفوس الجزئية. . .

ولم يشأ العقل الإسلامي أن يعالج هذه النظريات في عزلة عن الدين، ولا أن ينقدها - إذا نقدها - من غير رعاية للدين بل حاول جهد طاقته، وبالأخص بدء اشتغاله بها، أن يشرح بعض حقائق العقيدة بما ورد في الفلسفة من آراء لأنه جعل شعاره:(إذا انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال). إذ أنه يقول: (وهل الحكمة إلا مولدة الديانة؟ وهل الديانة إلا متممة للحكمة؟ وهل الفلسفة إلا صورة النفس؟ وهل الديانة إلا سيرة النفس؟). وإذ أنه يقول: (لا خلاف بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة بأن غرض الشريعة هو غرض الفلسفة على الحقيقة)

وقد كان للعلماء المسلمين بعض العذر في تحديد الصلة بين الدين والفلسفة الإغريقية بعد ترجمتها على هذا النحو لأن الفلسفة الإغريقية نقلت إليهم من ثوب ديني صوفي في كثير من نقطها، نتيجة عمل رجال الإسكندرية، ولأن منطق أرسطو الذي ترجم أولاً، في عهد المنصور، أحدث في نفوس المسلمين شبه يقين برجاحة العلم اليوناني وعصمة الحكمة اليونانية)

وتبعاً لذلك الشعار وهذا التحديد في الصلة بين الدين والفلسفة من العقل الإسلامي، أصبحنا نرى علماء العقيدة يستدلون على مغايرة الله للعالم بنظرية الواجب والممكن التي أسسها أرسطو على نظامه الفلسفي في الصورة المحضة والمادة المحضة، والتي استتبعت مما استتبعت من صفات، وحدة الوجود الواجب بمعنى عدم تعدد ذاته وعدم تركب ذاته الواحدة من أجزاء. وقد بنى فريق من المسلمين على مبالغته في إثبات الوحدة ففي صفات الباري، كلها أو الكثير منها، لأن إثباتها - في نظره - يقتضي التعدد. وسلك فريق آخر من الراغبين في إثبات الصفات، تمشياً مع ظاهر القران، وفي الوقت نفسه من الحريصين

ص: 20

على نفي ما يوهم عدم الوحدة طريقاً هو أقرب إلى التلاعب بالألفاظ منه إلى الإتيان بنصيب إيجابي جوهري في حل هذا الإشكال. فقال: (الله له صفة كذا. . . وهي عين ذاته)

كل هذا بعد أن كان المسلم، وبعد أن كان في استطاعة كل مسلم كذلك أن يفهم، أن المعبود غير متعدد لا شريك له، وأنه غير ما في الكون من مخلوقات إذا تليت عليه آيات ربه الداعية إلى التوحيد وعبادة الخالق مثل قوله تعالى:(وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم). وبعد أن كان يكفيه في إثبات هذه الدعوى مثل قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)

تبعاً لذلك الشعار أصبحنا نسمع لأبى الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة رأيا في أن كلمة التكوين (قول الله للشيء: كن) التي تعبر عن الإرادة الإلهية حادثة لا في محل، وإن الإرادة تغاير المريد والمراد. وعلى هذا فكلمة التكوين في المكان الوسط بين الخالق الأزلي وبين العالم المخلوق الحادث. وهذه الكلمات المعبرة عن الإرادة الإلهية هي بمثابة جواهر بسيطة تشبه المثل وعقول الأفلاك.

يقرأ الكثير من المسلمين لأبى الهذيل العلاف هذا الرأي ولكن الذي يفهم المراد منه قليل، وهو الذي يعرف المثل، ويعرف لأي غرض وضع أفلاطون نظرية المثل، ولماذا كان القول بالوساطة بين المبدأ الأول (الله) والعالم؟ بينما المسلم إلى عهد الترجمة كانت نفسه مطمئنة إلى الإيمان بخلق الله للعالم على أية كيفية، وكانت حرارة هذا الإيمان تعمر قلبه فانتج وساد، وبينما كان لا ميزة لأحد على غيره في تصور تأثير الله في العالم، ولا مختصاً بسر من أسرار هذا التصور.

تبعاً لذلك الشعار أصبحنا نرى الملائكة تحدد بأنها (جواهر بسيطة، عقلية، علامة، فعالة، وبأنها صور مجردة عن الهيولي مستعملة للأجسام، مدبرة لها، ومنها أفعالها. كما وجدنا هذا التحديد يتخذ أساساً من أسس الإيمان (والثاني من الأمور التي يضعها واضع الشريعة - في نظر إخوان الصفا - ثم يبني عليها سائر ما يعمل أن يرى ويتصور موجودات عقلية،

ص: 21

مجردة من الهيولي، كل واحد منها قائم بنفسه، متوجه نحو ما نصب له من أمره وهم ملائكة الله تعالى وخالص عباده.)

فما معنى الجوهر؟ وما معنى بساطته؟ وما معنى كونه علامة؟ وما معنى كونه فعالاً؟ وما معنى الصورة؟ وما معنى تجريدها عن الهيولي؟ وعلى أي كيفية يكون تدبيرها الأشياء؟

لاشك أنها معان لا تفهمها إلا قلة من الخواص فضلا عن أن تفهمها عامة المسلمين. ومع هذا طولبوا بالإيمان بها في نظر فريق من علماء المسلمين في نظر إخوان الصفاء.

تبعا لذلك الشعار رأينا الشريعة الإلهية تحدد (بأنها جبلة روحانية، تبدو من نفس جزئية في جسد بشري، بقوة عقلية، تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى، في دور من الأدوار لتجذب النفوس الجزئية، وتخلصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة)

لماذا وجدت النفس الكلية؟ ولماذا كانت المصدر المباشر للفيض، أو كانت القوة التي تتولى نقل الأثر - وهو الإيجاد - من الله إلى هذا العالم؟ وما معنى جذب النفوس الجزئية إليها؟ لاشك أنه لا سبيل إلى فهم ذلك إلا لمن اطلع على فكرة النفس الكلية في الأفلاطونية وفي الرواقية وفي الأفلاطونية الحديثة؟ وعلى فكرة جذب (الصورة المحضة - للهيولي) في رأي أرسطو.

تبعاً لذلك الشعار، رأينا الجنة تفسر بأنها عالم الأفلاك والعقول المجردة، والنار تفسر بأنها عالم ما تحت فلك القمر، وهو العالم الأرضي عالم الكون والفساد. ورأينا الشهداء الذين ذكرهم الله في قوله تعالى:(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) تعلل تسميتهم بالشهداء لمشاهدتهم تلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولي.

هذا مثال من صنيع العلماء المسلمين بالعقيدة الإسلامية بعد دخول الفلسفة الإغريقية، وبعد رغبتهم في شرحها بالفلسفة، وفي تفلسفها.

والعلماء الحديثون المفلسفون ينهجون نهجهم في تفلسف العقيدة، ولكن فقط يستمدون شرحهم الفلسفي من نظريات العلم التجريبي التي تطبع العصر الحاضر بطابعها الخاص! وقد يستمدونها أيضاً مما بقي لدى أصحاب العلم والحضارة اليوم، وهم الأوربيون، من

ص: 22

الآراء الميتافيزيكية والأقوال الروحية، واثر صنيعهم في العقيدة لا يقل عن أثر ذلكم من قبل.

فنرى بعضهم يحاول تحديد الروح، وهي التي اختص بها علم الله (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) بما يسميه أدلة حسية (تجريبية طبقاً لطابع العصر العلمي) فيقول:(إن الروح وإن كانت أمراً إلهياً لا يدرك لها كنه، إلا أن لها جسدا أتيزياً على صورة صاحبها، غاية في اللطافة، لا يتعريه البلى ولا التحلل، في قدرتها أن تستبدل مادة من الخارج وإن تظهر بصورة صاحبه في أحوال خاصة، ويكون صاحبها إذ ذاك واقعاً في غيبوبة)

ونرى تعليقاً من أحد هؤلاء المعاصرين على رأي (لأحد أقطاب الفلاسفة العصريين) يذكره على هذا النحو: (هذه محاولة فلسفية تعتبر أبدع ما أنتجت الفلسفة العالية إلى تأييد الكتاب المجيد. أليس كل ما في هذا البحث الجليل - وهو رأي أحد هؤلاء الأقطاب - محصورا في قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون))

وصنيع كل من السابقين والحديثين هذا، وهو جذب الدين نحو الأفكار الفلسفية وشرح العقيدة وحقائقها بآراء الفلاسفة، شيء آخر يختلف اختلافاً جوهرياً عن محاولة تعليل مبادئ دين من الأديان مما يسمى (حكمة التشريع)، ويختلف كذلك عن تعليل العاطفة الدينية في الإنسان وضرورة وجود الدين في الجماعة البشرية تبعاً لذلك مما يسمى (سيكولوجية الدين)

فتعليل مبدأ الزكاة في الإسلام مثلاً، وجعل حظ الذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، ومبدأ صلاة الجماعة والحج. . . وتعليل: لماذا كانت طبيعة الدين تحتم وجود أمور تعبدية في العقيدة؟ أو لماذا كان الدين ضرورة اجتماعية وعنصراً أساسياً في التنشئة والتهذيب؟ أو لماذا كان القانون المستمد من الدين اشد أثرا على النفوس من القانون الوضعي به؟ تعليل مثل هذه الأشياء غير شرح الحقائق الدينية التي ترد في أصل العقيدة وفي كتاب العقيدة غير محددة وغير معرفة تعريفاً منطقياً - ويجب أن تبقى غير معرفة، لأن في عدم تعريفها أساس أبديتها وأساس عمومها - بشروح مستمدة من محيط الفلسفة كما تقدم.

وما عنيته للآن بالكلام تحت عنوان (الدين والفلسفة) هو جذب الدين نحو الفلسفة، ومحاولة

ص: 23

شرح حقائق العقيدة بالآراء الفلسفية.

والآن نلقى السؤال مرة أخرى: هل مثل هذا الصنيع يساعد على نمو طبيعة الدين، ومن خصائصها أن يكون وإن يبقى ميسراً سهلاً؟ وهل مثل هذا الصنيع يساعد على تحقيق غاية الدين وهي تتجلى في التفاف الجماعة حوله من غير تحزب ولا تعصب لتأويل معين في حقيقة وردت مجملة من حقائقه؟ أم أن مثل هذا الصنيع سبب من أسباب تعقيد العقيدة وإبهامها على كثير من الناس؟

واعتقد أن في المحاضرة التي أذاعها الأستاذ الكبير الشيخ شلتوت وكيل كلية الشريعة منذ أسبوعين من محطة الإذاعة للحكومة المصرية عن (موقف المسلمين من القرآن وموقف القرآن من المسلمين) ما يلقى كثيراً من الضوء على فهم طبيعة الدين وفهم غاية الدين. ولو تفضل بنشرها على صفحات (الرسالة) لاتضح - أكثر من الآن - قيمة تفلسف العقيدة، وتحدد - بشيء أكثر من الدقة - أثره في تفلسف العقيدة نفسها، إيجاباً أو سلباً.

وهو لما له من شخصية علمية دينية ناضجة، أن فعل لاشك أنه يؤدي خدمة جليلة للبحث العلمي في تراثنا الإسلامي، والبحث العلمي في هذا التراث غايتنا وغايته وغاية شباب الأزهر الحديث.

محمد البهي

مدرس علم النفس والفلسفة بكلية أصول الدين

ص: 24

‌محمد عبده ومحاولته إصلاح الأزهر

للأستاذ عثمان أمين

المدرس بكلية الآداب

للأزهر منذ إنشائه قصة طويلة، وله مهمة معلومة نيط به أداؤها. فلم يكن المقصود منه أن يكون مسجدا للعبادة، ولا أن يكون مدرسة للتعليم فحسب، وإنما أثر الأزهر في العالم الإسلامي وفي تكوين العقلية الإسلامية أثراً عميقاً يفوق أثر المساجد والمدارس والجامعات. من أجل ذلك كان إصلاح ذلك المعهد في نظر الشيخ محمد عبده من الأهمية بمكان عظيم، لأنه بمثابة إصلاح للأمة الإسلامية كلها.

توجه الشيخ محمد عبده إلى إصلاح الأزهر منذ كان مجاوراً فيه يتلقى على أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني. وشرع في العمل لذلك أيام الخديو توفيق. ولكنه لم يستطع في ذلك الحين أن يدخل إلا بعض الإصلاحات الثانوية. ووجد محمد عبده، من البداية، في أكثر شيوخ الأزهر خصوصاً ناصبوه العداء. وأدرك حينئذ أنه لن يستطيع السير في حركة الإصلاح دون أن يظفر بتأييد الخديو والحكومة. ولكن الخديو توفيق لم يكن لديه استعداد لفهم التجديد المنشود، فلم ينظر إلى جهود الشيخ محمد عبده بعين العطف والرعاية. ولما جاء الخديو عباس الثاني - وكان قد تربى في أوربا - استبشر الناس بولايته ورأوا فيها فاتحة عهد جديد. وتقدم الشيخ محمد عبده إلى الخديو عباس وكاشفه بجملة رأيه في الأزهر، ورغبة في إصلاحه وتحويله من الحال التي كان عليها، وكان في ذلك الحين أشبه بتكية من التكايا أو ملجأ من الملاجئ، يأوي إليه العجزة والفقر، وأهل الكسل والبطالة.

ويمكن أن نلخص رسالة الأزهر كما تراءت حينئذ للشيخ محمد عبده في الأمور الآتية: أن يكون مدرسة جامعة بالمعنى الصحيح يتلقى فيها الطلاب العلم الصحيح الذي يعدهم لأن يكونوا رجالاً عاملين، فيكون منهم لمصر وللإسلام قضاة ذوو نزاهة، وأساتذة باحثون، وعلماء متخصصون، ومرشدون مخلصون يعملون على بث الآراء الدينية الصحيحة، والمعاني الأخلاقية السليمة، ومكافحة الخرافات، والقضاء على البدع والأباطيل.

وكلف الخديو الشيخ محمد عبده أن يضع مشروعاً للإصلاح فشكل الشيخ لذلك (مجلس إدارة) من أكابر علماء المذاهب في الأزهر وجعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان

ص: 25

من أعضائه. وكانت مهمة ذلك المجلس الإشراف على التعليم والتربية في الجامعة الأزهرية.

وسار الشيخ في إصلاحاته أول الأمر بسرعة اغتناماً للفرصة، ولم يلق معارضة من أحد مباشرة، وإن كان قد أشير عليه من وقت إلى آخر بتأجيل بعض المشروعات بحجة التدريج والسير بهوادة!

وكان أول أبواب الإصلاح التي وجه الشيخ عنايته إليها هو تحديد مدة الدراسة بالأزهر: فقد جرى العرف منذ زمان طويل أن ينفق المجاورون من أعمارهم الأعوام الطوال في الأزهر، دون أن يجدوا من أولى الأمر أية رقابة على أعمالهم. وحدد القانون بدء السنة الدراسية ونهايتها، كما حددت أيام العطلة والمسامحات. وقد كانت الحال قبل ذلك بلا ضابط: فكان المشايخ والطلاب يمكنهم التغيب متى شاءوا فضلاً عن تغيبهم أيام المسامحات الرسمية.

ووجه الشيخ بعد ذلك عنايته إلى نظام التدريس والامتحان: فاقترح أن تعقد للطلبة امتحانات سنوية. ولم يكن ذلك النظام معروفاً قبل ذلك في الأزهر، بل لم يكن عدد من يمتحنون كل عام يزيد على ستة، وهؤلاء كانوا يتقدمون إلى الامتحان لا بحسب دورهم أو ذكائهم أو علمهم، بل بشفاعة الشفعاء وإلحاح الملحين، والغرض من ذلك طبعاً هو بث روح التسابق فيهم وترغيبهم في التحصيل.

وثالث الإصلاحات التي اقترحها الشيخ محمد عبده: إصلاح لا يقل عن سابقيه أهمية وأثراً، وهو يقضي بإلغاء دراسة بعض الكتب العقيمة - كالشروح والحواشي والتقارير - التي اعتاد المشايخ تلقينها الطلبة من غير فهم، وكان من شأنها أن تشوش عليهم موضوعات العلوم التي يدرسونها؛ واستعيض عن ذلك كله بكتب أنفع وأقرب إلى مدارك الطلاب.

ورابع الإصلاحات يرمي إلى تقسيم العلوم التي تدرس بالأزهر إلى مقاصد ووسائل؛ فأطيلت مدة الدراسة في (علوم المقاصد): كالتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والأخلاق. أما (علوم الوسائل): كالمنطق والنحو والبلاغة ومصطلح الحديث والحساب والجبر، فهي التي يلزم طلاب شهادة العالمية بأداء امتحان فيها.

ص: 26

والإصلاح الخامس يقرر إدخال دروس ومحاضرات جديدة في علوم: التاريخ والتاريخ الطبيعي والرياضيات والجغرافيا والفلسفة والاجتماع وما إلى ذلك من العلوم التي كان قد أهمل تدريسها بالأزهر إلى ذلك الحين.

ويلاحظ أن تلك الإصلاحات المتواضعة لم يستطع الشيخ محمد عبده أن ينفذها جميعها لمقاومة الشيوخ إياها، إما عن سوء قصد أو سوء فهم، فضلاً عن وقوف الخديو نفسه حجر عثرة في وجه المشروع انتقاماً من الشيخ محمد عبده - كما سنرى - ولكن ما نفذ من الإصلاحات المقترحة لم يخل من أن يحمل ثمراً طيباً: فقد شوهدت في طلبة الأزهر إذ ذاك حماسة جديدة، ودبت فيهم روح فتية، وشاعت عندهم رغبة في التوسع في التحصيل واستيعاب البرنامج التعليمي. وربما كان من الميسور اطراد ذلك التقدم لولا قيام مصاعب جديدة لم تكن في الحسبان.

والواقع أن الشيخ محمد عبده إذا كان قد استطاع أن يضع مشروعاً كاملاً للإصلاح، فذلك لأنه كان يحس بأن من ورائه سلطة الخديو تؤيده. هذا إلى أن شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي كان يشاطر الشيخ محمد عبده كثيراً من آرائه. ولكن سرعان ما تبدل موقف الشيخ حسونة عندما ظهر له أن الشيخ محمد عبده لم يكن من أهل الحظوة لدى الخديو عباس. ولما عزل الشيخ النواوي، حل محله الشيخ سليم البشري، وكان رجلاً محافظاً مناوئاً لكل فكرة عن التجديد. ومع ذلك، فقد حظي هذا الرجل برعاية الخديو، وصدر قرار بإلغاء الإعانات التي كانت تعطى للطلبة المتفوقين. وكان معنى هذا العدول عن عقد الامتحانات السنوية. ولكن الشيخ سليم البشري اخذ يعود شيئاً فشيئاً إلى آراء الشيخ محمد عبده. وفترت علاقات البشري بالخديو فعزله دون أن تذكر أسباب العزل في المرسوم الصادر بذلك.

ومنذ ذلك الحين اصبح منصب شيخ الأزهر شاغراً. وكان لابد من اتفاق الحكومة المصرية مع ممثل الاحتلال الإنجليزي على تعيين من يشغل ذلك المنصب؛ فعرضت المعية السنية على الحكومة - بواسطة اللورد كرومر - أسماء طائفة من مرشحيها ومن بينهم الشيخ حسونة النواوي - وكان قد عاد إلى الحظوة لدى الخديو - والشيخ محمد بخيت الذي كان معروفاً بعداوته الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد راشد الإمام الخاص للخديو، والشيخ أحمد

ص: 27

الرفاعي الذي كان معروفاً بصلته بالبلاط الخديوي. ولم تقبل الحكومة أحداً ممن رشحتهم المعية السنية، ورشحت المعية أخيرا الشيخ علي الببلاوي، فوافقت الحكومة عليه، وصدر قرار بتعيينه شيخاً للأزهر.

وكان الوفاق تاماً بين الشيخ محمد عبده والشيخ الببلاوي، فعاد الهدوء إلى الأزهر، واقبل الطلاب على دروسهم وامتحاناتهم، وانصرف مجلس الإدارة إلى الاشتغال بإنجاز الأعمال العديدة التي كانت أهملت في عهد الشيخ سليم البشري: فقرر المجلس عقد امتحان لشهادة العالمية التي تمنح الحاصلين عليها حق التدريس في الأزهر أو القضاء أو الإفتاء. . .

وراجت في تلك الفترة إشاعة مؤداها أن حديثاً دار بين الخديو عباس وبين (الشيخ الببلاوي) على موضوع الإصلاحات الأزهرية التي أنجزها (الشيخ محمد عبده). وذكروا أن الخديو قال ضمن حديثه للشيخ الببلاوي: (سمعت أنك تعمل في الأزهر كل ما يريد المفتي (الشيخ محمد عبده)، مع أنك حر في أن تعمل برأيك. . .). وذكروا أيضاً أن الشيخ الببلاوي أجاب الخديو:(إني أوافق المفتي كلما رأيت أن الحق معه، ولو اخطأ لقلت له، ولكن لم تعرض بعد فرصة لذلك، فالحمد لله على تلك الحال)

وتالف في الأزهر خلال تلك الفترة حزب لمعارضة الإصلاح؛ وكان على رأس ذلك الحزب (الشيخ محمد الرفاعي) الذي ذكر اسمه بين مرشحي (المعية السنية) لمنصب مشيخة الأزهر. وكان من أعضاء الحزب (الشيخ المنصوري) الذي كان قد عينه (الشيخ البشري) شيخاً لرواق الصعايدة. وشرع الحزب يقدم عرائض ينتقد فيها أعمال مجلس إدارة الأزهر. وفي ذلك الحين كان بعض المسلمين قد طلبوا إلى الشيخ محمد عبده - وكان مفتياً للديار المصرية - أن يدلي بفتوى في جواز أكل المسلم من ذبائح أهل الكتاب، وفي جواز لبس (البرنيطة) والتزيي بزي الأوربيين. وأفتى الشيخ محمد عبده مصرحاً بأن القرآن لم يحرم طعام غير المسلمين ولا لباسهم، لاسيما إذا كان المسلم مضطراً إلى أن يعيش مع الأوربيين. فضج حزب المعارضة وأرجف في تلك الفتوى، واخذ يطعن عليها وعلى شخص المفتي. وكان له مأجورون أخذوا يذيعون أن المفتي إنما يعمل على التقريب بين المسلمين وغير المسلمين. وأسس حزب المعارضة جريدة يومية اسمها (الظاهر)، كان غرضها محاربة الفتوى. وقيل حينئذ أن مدير تلك الجريدة كان مؤيدا من الخديو. . .

ص: 28

وراجت الأكاذيب والإشاعات، وتفاقم الأمر حتى اخذ الناس يهمسون باحتمال عزل المفتي. وقالت جريدة (المقطم) حينئذ أن اللورد (كرومر) هو الذي حال دون ذلك العزل، إذ تدخل في الأمر وصرح بأن الشيخ محمد عبده أصلح من في مصر للإفتاء، وأنه لذلك ينبغي أن يبقى في منصبه.

ولاحظ (الشيخ الببلاوي) أن حزب المعارضة اخذ يشتد ويعظم نفوذه بتأييد الخديو إياه، حتى أصبح وكأنه الحزب الرسمي، ووجد هو نفسه معطلاً عن العمل. ثم حدثت حادثة (رواق المغاربة) الذين احتموا بالقنصلية الفرنسية، واحتلوا بعض غرف خالية في الرواق العباسي، وانتهى الأمر بإخراجهم منها؛ ولكن شيخهم كان أكثر الوقت يتردد على (سراي القبة). وكبرت هذه الأمور على (الشيخ الببلاوي) ويئس من صلاح الحال فاستقال.

ولما وجد الشيخ محمد عبده نفسه وحيداً محروماً من معاونة شيخ مجرب كالببلاوي، آثر أن يستقيل من مجلس إدارة الأزهر. وتبعه في تلك الاستقالة عضوان آخران من أعضاء المجلس هما الشيخ عبد الكريم سليمان والشيخ أحمد الحنبلي

تلك خلاصة لما حدث بالأزهر في السنوات الأولى لهذا القرن، ومنها يتبين مقدار ما لقي الشيخ محمد عبده من الأذى في سبيل إصلاح مناهج التعليم والتربية في الأزهر، ومبلغ ما بذل من جهود لتقويم ما فسد من نظم الإدارة فيه.

ولكن رغم ما عاناه المصلح من عنت الشيوخ الجامدين، وما حيك حول مساعيه من دسائس الخديو وحزبه، فإن شيئاً لابد أن يبقى ولا تستطيع قوة أن تقضي عليه: ذلك البذر الصالح الذي ألقاه الأستاذ الإمام في ذلك المعهد يوم ألقى فيه دروسه فبث فيها من حر الآراء وسليم الأفكار ما نرجو أن يحسن الخلف القيام عليه.

عثمان أمين

ص: 29

‌في جنة الدنيا دمشق

غماغم الربيع

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 1 -

تعالي يا عروسي الخلوب

تعالي. . . يا سيدة بردى المعطر وابنة قاسيون الجميل. . .

اسمعي أيتها الغوطة المفتان. . .

لقد جئتك مسرعاً ولهان، وباسماً فرحان. . .

خرجت من الغيوم البيض كالعذارى، فخفقت في الفضاء، ورتعت في الهواء، وطوفت في الأرض، ثم أويت إلى أحضانك الريا. . . يا غوطة الشآم. . .!

لقد حملتُ إليك كل ما تشتهين. . .

لك الزهر. . . لتحليك بسماته

ولك النحل. . . لتطربك همساته

ولك العطر. . . لتسكر نفحاته

فتعالي. . . جعلك لك الخلود، وحملت إليك الجمال، وأوتيت إلى أحضانك من بين الغيوم. . .!

- 2 -

اسمعي. . . اسمعي. . .

سأجعلك فتنة النظر. . .

سأحييك بالنور والجمال، وأجعلك مغنى الحب ومرتع الخيال، وأوشي جنباتك الزهر بالأفياء والظلال، وأحلى أعطافك الخضر بلآلئ الغمام. . . الغمام الذي أذيته لك لؤلؤاً يبسم ويرف. . .!

فانظري إلي. . .

أنا الربيع الجميل. . .

ص: 30

إليك أويت يا غوطة الشآم. . .!

- 3 -

ما لربوعك صامتة لا تبين. . .؟

أأحزنها خفوق المجد، وزوال النعيم. . .؟ أم شجاها تولى الصحب وفقد الحبيب. . .؟

اسمعي همسي. . . ولا تحزني. . .

لقد شهدت مواكب الملوك العظام. . . وفتحت أحضانك للمحبين والهيام. . . وسمعت أحاديث المجد يرويها آل غسان. . . ثم استقبلت الفاتحين والغزاة، وبسمت للطارئين والبداة. . . فرتعوا في المغاني، وهوموا في الرباع، ثم. . . ثم غبيتهم على حفافي نهرك، وكفنتهم بوردك وزهرك، بين العشب والنعناع. . .

إلا تحسين. . . إلا تحسين. . .

وتحتك عظام تئن، وأطلال تنام! عظام أو الملوك الغطاريف الرافلين بالحرير، الغارقين في النعيم، اللاهين في الحنايا والقصور.

وأين القصور يا غوطة الشام؟ أين أغاني الوليد وأهازيجه. . . أين سكرات يزيد وصبواته. . . أين ترانيم المجد وأغاريده؟. . .

أين. . . أين. . .؟

اقدر لتلك الدماء التي شربتها أن تصبح زهرات حمراء، ولتلك الرفات التي طويتها أن تنقلب أعاشيب خضراء؟. . .

فاضحكي يا عروسي. . .

لقد مضوا كلهم وبقيت أنت. . . وسيمضي غيرهم وتبقين:

اضحكي لعيني الحلوتين. . . أنا الربيع. . . فلقد حملت إليك النور. . . وأتيت من أجلاك من بين الغيوم. . .!

- 4 -

أيامي قصيرة في الأرض يا عروسي. . .

تمر كومضة البرق، وبسمة الأمل، وقبلة الحبيب الراحل. . .

ص: 31

فافتحي لي أحضانك. . . وسأنثر قلبي في جنباتك. . . وأروي من دمي أكنافك. . .

يا من في أحضانك نثرت قلوب. . . وبين ذراعيك جادت نفوس، وعلى شفتيك أهرقت دماء. . .

وكان للمجد في صدرك تاريخ، وللنور في فضائك عيد، وللحب في محانيك تغريد، وللأغاني في سمائك ترديد. . .

فابسمي لعيني الحلوتين. . . يا عروس الشآم فلقد ولدتني الغيوم البيض كالعذارى. . . فجئت أحمل لك الحياة والنور!

- 5 -

واسمعوا أيضاً. . . اسمعوا. . .!

أنتم أيها الفنانون

يا من تبعدون الجمال وتقدسون النور. . .

تعالوا إلى غوطة الشآم. . .

انظروا لجمال الفينان؛ والدلال النشوان، والتبرج والفتون!

واسمعوا غماغم الهوى المعسول، وتأوهات الزهر المسحور وتمتعوا بالربيع النديان غافياً على ركبتي العروس. . . ينفث الرحيق، وينشر الأريج، ويداعيها بالقبل، ويسكب بين يديها الدموع. . . فنبت عند كل قبلة زهرة. . . ويتفجر عند كل دمعة ينبوع. . .

تعالوا. . . وانظروا ميلاد الشعر والحب. . .

أقبلوا. . . وارنوا إلى هداياي. . .

زهور سمت نجوم السماء

وعطور فاقت أفاويه الهنود. . .

ومياه رقيقة كنجوى المحبين

ولكن. . . لا. . . ما العطور، وما الزهور. . .

لقد وهت لها الحياة، الحياة، والجمال والنور

- 6 -

ص: 32

بشرك يا غوطة الشآم. . .

إلى أحضانك جئت من الغمام. . .

أنا الربيع الجميل

أنا الذي أدغدغ النهود فتثب، وأشعل الخدود فتلتهب، وأغرق الألحاظ بالسحر والفتون. . . وأهز القدود بسكر الشباب، وأغمر القلوب بالحب والحنان. . .

أنا الربيع. . .

أنا ضحكات الشفاه، وخفقان القلوب، وغمز العيون. . .

أنا رنين القبلات، واختلاج القسمات، وأحلام العذارى، وهمس الأحباب. . .

أنا. . . أنا نصوع الزهر، وسطوع العطر. . .

أنا الحب، أنا الجمال. . .

مررت على الجنان. . . واصطفيت أبدع الألوان، وجئت إلى أحضانك مسرعاً عجلان. . .

فابسمي. . . واضحكي. . .

فلقد ولدتني الغيوم البيض كالعذارى،

فجئتك أحمل لك الحياة الحياة، والنور. . . والجمال. . .!

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 33

‌رد على رد

وأد البنات عند العرب في الجاهلية

لدكتور علي عبد الواحد وافي

عقب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي على مقال لي في وأد البنات عند العرب في الجاهلية بكلمة ترجع خلاصتها إلى النقط الآتية:

1 -

يسألني من أين أتيت بالرأي الذي ذكرته في هذا المقال بصدد عقائد القبائل التي كانت تئد بناتها، والعوامل التي كانت تحملها على ذلك.

2 -

يرى أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد أن الله خالق كل شيء، بدليل قوله تعالى:(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم). فكيف يصح مع هذا ما ذكرته من أنهم كانوا ينسبون خلق الذكر لآلهتهم وخلق الإناث لله.

3 -

يرى أن ليس المراد بالبنات في الآيات التي استشهدت بها الإناث من بني الإنسان، وإنما المراد بهن الملائكة.

4 -

يرى أن آية النحل التي ذكرتها: (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)، لا تدل على انهم كانوا ينسبون الذكور لآلهتهم، وإنما تدل على انهم كانوا ينسبونهم لأنفسهم.

5 -

يرى أن وأد البنات لم يكن للسبب الذي ذكرته، بل كان بعضه للفقر، وبعضه لخوف الفقر، وبعضه لخوف السبي والعار، وإن لا مانع من أن يكون بعضه تنفيذاً لنذور كانوا ينذرونها. فقد كان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب.

وردي على هذه المسائل يتلخص كذلك في النقط الخمس الآتية:

1 -

لم آت بالرأي الذي ذكرته من كتاب، ولم أنقله عن أحد، بل هي نظرية لي استنبطتها استنباطاً من آيات الذكر الحكيم؛ وصرحت في مقالي أنه لم يسبقني بها أحد. فلا محل إذن لمطالبتي بالمرجع الذي رجعت إليه بصددها.

2 -

لم يكن العرب في الجاهلية على دين واحد، بل كانوا فرقاً كثيرة يختلف بعضها عن بعض اختلافاُ كبيراً في العقائد والعبادات، فكان منهم من يعبد الله على مل إبراهيم، وكان من هؤلاء الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بعثته وكثير من السابقين الأولين إلى الإسلام،

ص: 34

وكان منهم اليهود، وهؤلاء كانوا ينتمون إلى عدة قبائل يسكن معظمها المدينة وضواحيها وشمال الحجاز (بنو قريظة، بنو النضير. . . الخ) وكان منهم المسيحيون، وهؤلاء كانوا فرقاً كثيرة تنتمي إلى مختلف مذاهب المسيحية المنتشرة في ذلك العصر، وكان منهم عبدة الكواكب، فكنانة كانت تدين للقمر وللدبران، وبنو لخم وجرهم كانوا يسجدون للمشتري، وبنو طبئ ألهوا سهيلا، وبنو قيس بن عبلان توجهوا للشعري اليمانية (وهم الذين قد سفه الله عقائدهم إذ يقول عز وجل:(وأنه هو رب الشعري). . . وهلم جراً، وكان منهم الدهريون الذين لا يؤمنون بإله وينسبون كل شيء للطبيعة:(أن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وكان منهم الوثنيون عباد الأصنام، وهؤلاء كانوا فرقاً كثيرة تختلف كل فرقة منها عن غيرها اختلافاً كبيراً في نوع الأوثان، ونظرتها إليها، ومبلغ تقديسها لها، وعقيدتها في الله تعالى. ففريق من هؤلاء كان يعتقد بوجود الله وينسب إليه الخلق والأمر، وما كان يعبد الأصنام إلا لتشفع له عند الله وتقربه إليه. وفي هذا الفريق جاءت الآية التي أوردها الأستاذ وآيات أخرى كثيرة (ألا الله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)؛ (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله. . . الخ). وفريق من الوثنيين كان ينسب الخير لأصنامه والشر لله تعالى. فكان الله في نظرهم إليه الشر أو ما يشبه الشيطان في نظرنا، (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً). ولذلك كانوا ينسبون إليه ما يكرهون. وفي هؤلاء يقول الله تعالى:(ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى)(النحل 62). والقبائل التي كانت تئد بناتها كانت من هذا الفريق، لأن الآية السابقة جاءت في سياق الحديث عمن كانوا يئدون البنات. وغنى عن البيان أن من ينسب لله ما يكرهه والدنيء من الأشياء لا يمكن أن يكون ممن يعتقدون أنه تعالى خالق كل شيء. فالآية التي أوردها الأستاذ عبد المتعال والآيات الأخرى التي من نوعها تتحدث عن فريق من العرب غير الفريق الذي نحن بصدد الكلام عنه.

3 -

تفسير البنات بالملائكة لا يستقيم في معظم الآيات التي أوردتها في مقالي السابق. ففي قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)؛ وقوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى)؛ وقوله: (فاستفتهم

ص: 35

ألربك البنات ولهم البنين). في هذه الآيات وما إليها لا يستقيم في نظري تفسير البنات بالملائكة، لأن الملائكة لا تقابل الذكور من بني آدم. فلا يصح أن يقال فيمن يقتصر على نسبة الملائكة لله معتقداً أنهم إناث: أنه يختص نفسه بالبنين من الآدميين دون بناتهم، كما تصرح هذه الآيات، وإنما يقال فيه أنه ينسب لنفسه النوعين من الآدميين - أي الذكور والإناث - وينسب لله الملائكة ويجعلهم من نوع الإناث لا غير.

على أن كثيراً من الآيات التي ذكرتها في المقال لسابق، قد جعلت وأدهم للبنات مترتباً على عقيدتهم هذه (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى الخ) ولا يستقيم هذا إلا إذا كان الغرض من البنات الإناث من بني آدم لا الملائكة.

حقاً انهم كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم كانوا ينسبونهم لله ويعتقدون أنهم أولاده، كما يصرح بذلك كثير من الآيات؛ ولكن هذا لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه من أنهم كانوا ينسبون البنات من بني آدم لله تعالى، بل يزيده تأييداً كما أشرت إلى ذلك في مقالي السابق. وذلك أن القسمة الضيزى التي أجروها في عالم الأرض ونسبوا فيها لله تعالى الإناث ولآلهتهم الذكور، قد أجروا مثلها في عالم السماء، فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث. ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم انهم من هذا النوع. ولذلك جاءت عقيدتهم بصدد الملائكة في معظم الآيات التي أوردناها في المقال السابق مصاحبة لعقيدتهم بصدد الأولاد من الآدميين. وذلك يدل على انهما عقيدتان مرتبطة كلتاهما بالأخرى ومترتبة عليها:(فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟ (أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزى. . . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى). فالقرآن في هذه الآيات يحدثنا عن حقيقتين لا عن حقيقة واحدة: إحداهما ما يعتقدونه بصدد الذكور والإناث من الآدميين؛ وثانيتهما ما يعتقدونه بصدد الملائكة.

4 -

وأما نسبة الذكور لآلهتهم أو لأنفسهم فهذا لا يهم كثيراً في موضوعنا، ولا يؤثر شيئاً في النظرية التي أوردتها؛ لأن المهم أنهم كانوا ينسبون الإناث لله وانهم لذلك كانوا يئدونهن؛ وسواء لدينا بعد ذلك أن كانوا ينسبون الذكور لأنفسهم أو لألهتهم. على أن ما ذكرناه في المقال السابق بصدد الذكور تحتمله آية النحل، وخاصة لأن الضمير في الآية

ص: 36

التي قبلها يرجع إلى الشركاء: (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. آه البيضاوي) نصيباً مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون). فرجع الضمير في لهم إلى الشركاء المذكورين في الآية السابقة ليس محتملاً فحسب، بل أرجح كثيراً في نظري من رجعه إلى المشركين. لأن موضوع الحديث هو تقسيمهم المخلوقات بين الله وشركائهم لا بين الله وأنفسهم. ويزداد هذا المعنى تأييداً إذا ربطت هذه الآيات بآيات الأنعام:(وجعلوا لله مما ذراً من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. . .). (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. . .)

ويزاد هذا المعنى تأييداً كذلك إذا لاحظنا انهم ما كانوا ينسبون خلق شيء لأنفسهم، بل كان ذلك يتردد بين الله وآلهتهم.

5 -

لا يمكن أن يكون سبب الوأد هو الفقر أو خوف الفقر؛ لأن هذا النظام لم يكون معمولاً به في الطبقات الفقيرة وحدها، بل كان عاماً عند الفقراء والأغنياء في العشائر التي أخذت به، ولو كان الفقر هو الدافع إليه للحق جميع الأولاد بدون تمييز بين الذكور والإناث. ولا يمكن أن يكون سببه خوف العار والسبي للأسباب التي ذكرتها بتفصيل في مقالي السابق. ولا يمكن أن يكون سببه نذوراً من نوع نذور عبد المطلب بن هاشم لأننا بصدد قبائل كانت تئد كل بنت تولدها لا بصدد حالات فردية كانت تنحر فيها بعض البنات وفاء لنذور سابقة.

علي عبد الواحد وافي

ص: 37

‌حول السنوسيين

للأستاذ محمد الأخضر العيساوي

جاء في الرسالة الغراء عدد 385 مقال عنوانه (السنوسيون) للأستاذ حسين جعفر بعضه صحيح وبعضه مبالغ فيه وبعضه الآخر خطأ.

وإلى القارئ ما جاء من أخطاء في مقاله الأول، قال:(خلف السيد السنوسي الكبير المولود بالجزائر ببلد مستغانم سنة 1202هـ والمتوفى بالجغبوب سنة 1276هـ ولدين الأكبر محمد الشريف والثاني محمد المهدي) والصواب العكس لأن السيد محمد المهدي هو الكبير حيث ولد بماسة بالجبل الأخضر سنة 1260هـ والسيد محمد الشريف هو الصغير لأنه ولد بمدينة درنة سنة 1262هـ

وقد استمر الكاتب في الكلام إلى أن قال: (ويقال إن الولد الأصغر أظهر ذكاء وكفاءة أكثر من أخيه ولذلك قرر الوالد أن يختبرهما أمام جميع الأخوان في الجغبوب فأمر ولديه أن يتسلقا نخلتين عظيمتي الارتفاع وسألهما باسم الله ورسوله أن يقفزا إلى الأرض، فقفز المهدي في الحال ولم يصب بسوء في حين رفض الأكبر): والحقيقة أهذه القصة كلها لا أصل لها، وقد جاء فيه أيضاً:(ويجب إلا يخفى أن الثورة التي كانت حدثت في سنة 1888 سنة 1889 في (دارفور) من الخليفة عبد الله التعايشي كانت باسم السنوسي) وحقيقة الحال انهم لم تكن باسمه ولا كان له دخل فيها. والدليل على ذلك ما جاء في جريدة (الجزيرة) التي تصدر بشرق الأردن بتاريخ 23 ذي القعدة سنة 1359 الموافق كانون الأول سنة 1940 بقلم المجاهد الكبير علي باشا العابدية المهاجر بتلك الديار وهو من أتباع السنوسيين المطلعين على بواطن الأمور حيث قال فيها (تنبؤ السنوسيين بمستقبل الإنكليز) عند قيام مهدي السودان على المصريين والإنكليز سنة 1888 أرسل إلى السيد المهدي السنوسي رسولاً في إعلان الجهاد وإن يكون خليفة من بعده، ولكن السيد المهدي رفض ذلك لسببين (الأول) أن الحكومة المصرية حكومة إسلامية (والثاني) أنه كان يعتقد أن الطليان سيستولون على طرابلس وبرقة وأنه سيأتي يوم يقوم فيه الإنكليز بمحاربة الطليان في طرابلس وبرقة وسيمدون إلى الأمة الطرابلسية البرقية يد المساعدة لتخليصها من محنتها. . . الخ). وكتاب السيد المهدي لعبد الله التعايشي في هذا الموضوع مذكور في

ص: 38

تاريخ مصر، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه. نعود إلى المقال الأول، قال فيه أيضاً:(وفي (واداي) كان خلف السلطان يوسف وهو السلطان إبراهيم الذي تولى سنة 1898، كان يهمل نصائح الشيخ متشجعاً في ذلك بهزيمة الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان. وكان رد السنوسي على هذا أن حرم على أهل واداي تدخين التبغ وشرب المريسة (البيرة الوطنية)، فأرسل السلطان إبراهيم إلى السنوسي بأن شعبه يحارب ويموت في سبيل المريسة، وأنهم ينبذون تعاليم السنوسية ليشربوها. وكان السنوسي المهدي حكيماً في تنازله عن رأيه، معلناً أن الله أجاب على صلاته بأنه جل شأنه قبل أن يستثنى أهل واداي من هذا التحريم)؛ فكان حقاً على الأستاذ إلا يذكر هذه الأسطورة التي يمجها السمع ويأباها العقل السليم والنقل، لأن مثلها يتحاشاها أجهل الجهلاء، فكيف بأعلم العلماء وأتقى الأتقياء وهو السيد المهدي السنوسي الذي أشتهر بالتقوى والصلاح أن يحلل ويحرم من عند نفسه، سبحانك هذا بهتان عظيم.

وجاء في الرسالة أيضاً عدد 386 مقال آخر، وإلى القارئ ما جاء فيه:(وقد عرفت شروط للاتفاق بين الإيطاليين وسيدي أحمد في النصف الأخير من سنة 1915، وكاد يتم الاتفاق لولا أن سيدي أحمد رفض أن يقبل مركز (باي) تحت الحماية)

والحقيقة أن الإيطاليين خطبوا وده كثيراً ومنوه بأماني معسولة، ولكنه لشرفه وأمانته وعلو همته أبى أن يصالحهم على شبر واحد من أراضي المسلمين ولو أعطوه ملء الأرض ذهباً.

وجاء فيه أيضاً: (ولذلك أرسلوا (أي الإنكليز) في نوفمبر سنة 1915 ابن عمه السيد محمد إدريس من الإسكندرية ليتفق معه (أبى سيدي أحمد) على أن يتخلص من مستشاريه الأتراك في مقابلة مبلغ من المال). فهذا أيضاً مخالف للواقع، وكان على الكاتب إلا يذكر شيئاً منه حتى يتصل بالسيد إدريس ليكون على بصيرة.

وجاء فيه أيضاً: (وأقر شيوخ الطريقة السنوسية سيدي محمد إدريس السنوسي على أن يكون السنوسي الأكبر إلى أن قال: وجد سيدي أحمد المقهور والمخلوع أن من الأفضل له أن يغادر طرابلس، فغادرها في غواصة ألمانية من مصراته إلى تركيا مع استمرار ادعائه أنه رأس الطريقة السنوسية)

ص: 39

وهذا أيضاً بينه وبين الحقيقة مراحل، لأن رئاسة الطريقة السنوسية موكولة للأكبر الأرشد بنص وصية من مؤسس الطريقة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، والسيد أحمد وقتئذ هو أكبر العائلة وأرشدها، فهو أول بالرئاسة، وبأن يطلق عليه اسم السنوسي الكبير. وليس لأحد كائناً من كان أن يخلعه أو يقهره، لا من مشائخ الطريقة ولا غيرهم.

نعم ذهب إلى تركيا في غواصة كما قال الكاتب. لكن بدعوة منها وقد استفادت منه كثيراً، حيث فض لها مشاكل كثيرة وثورات في الأناضول كادت تقضي على حركة مصطفى كمال وهي في مهدها، ولولاء ما جنح الأكراد إلى الهدوء والسكينة بعد ثورتهم المشهورة.

وجاء أيضاً في آخر مقاله الثاني ما نصه: (في حين أنهم أبى السنوسيين يعترفون بأنهم على المذهب المالكي، فإن علماء القاهرة كثيراً ما كتبوا عن انحراف السنوسيين عن الإيمان الصحيح، ومعظم الاتهامات تنحصر في انهم فسروا القرآن الكريم والسنة بدون الاعتماد على مصادر معترف بها)

فأقول: إن هذا أيضاً مما لا ينبغي للكاتب أن يذكره، لأنه مخالف للواقع، فالسنوسيون سنيون مالكيون، وهاهي كتبهم بين أيدينا شاهد عدل على ذلك، فليراجعها من أراد الوقوف على الحقيقة. وهي (بغية المقاصد) و (إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن) و (شفاء الصدر بأرى المسائل العشر)، وكلها للسيد السنوسي الكبير، توجد في المكاتب الشهيرة بمصر وغيرها.

وإني أتحدى حضرة الكاتب أن يأتينا ولو بآية واحدة أو بحديث واحد مما زعم أن السنوسيين قرءوهما بدون أن يعتمدوا على مصادر معترف بها، كما أني أتحداه أيضاً أن يثبت لنا من هم أولئكم العلماء الذين كثيراً ما أفتوا بانحراف السنوسيين عن الإيمان الصحيح، وفي أي زمان ومكان حصل منهم ذلك؟ أظن الأستاذ يمكنه أن يثبت ذلك، ولو أجهد نفسه مدة حياته. هدانا الله وإياه للصواب.

محمد الأخضر العيساوي

عالم بالأزهر

ص: 40

‌أطياف الربيع.

. .

(مهداة إلى جماعة الشعر من شباب كلية الآداب)

للأستاذ محمود الخفيف

هَات يا زَامِرُ ألَحْانَ الرَّبيعِ

رَاقَ مِزْمَارُكَ ياَ رَاعي القَطيعِ

غَنَّ ما هَزْكَ في هَذا الضُّحى

مِنْ رُوي شَتَّى وَمِنْ سِحْرٍ جَميعِ

عَنَّ يَا هَيْمَانُ ألَحْانَ الهَوى

والصَبا الجَذْلانَ يَلْهُو بالمُنَى

لَحْنَ أُرغو لكَ نَشْوانُ الصَّدَى

في الضفافِ الخُضْرِ والَحْقْل المَريعِ

الفَرَاشاتُ بهَاتِيكَ الضفافِ

دَائبَاتٌ بَيْنَ وثْبٍ وَطَوافِ

فَرَحاتٌ بالزَّمانِ المُونِقِِ

بَعْدَ أيَّامٍ كَئِيباتٍ عِجَافِ

هَائماتٌ في ضُحَاهُ المُشْرقِ

لاِئمَاتٌ كُلَّ غُصْنٍ مُوِرقِ

فَرْحَة أَعْيَا بَيَانِي وَصْفهاً

وَأَنَا النَّاسِجُ مَوْشِىَّ القَوَافي!

قَضَّ سَاعاِتكَ رَفافَ الَجْنَاحِ

دَائِبَ التَّطْوافِ في كل النَّواحي

عَانِقِ الزَّهْرَ هُنَا أوْ هَاهُنَا

أَيُهَا العَاشِقُ أفْوَافَ الصَّباح

لَكَ مَاءٌ سَلْسَبِيلٌ وَجَنَى

أَيْنَمَا مِلْتَ وَظِلُّ وَسَنَى

لَيْتَ يَا جَذلانُ لي بَعْضَ الذي

يَتَوَافى لكَ من هَذا المِراحِ!

الرَّبيعُ الغَضُّ نَشْوانُ الشَّبابِ

مَرِحٌ يَظْفُرُ في كل الرَّحابِ

أَيْنَمَا دُرْتُ بعَيْنَيَّ أَرَى

لَمَحَاتٍ مِنْ سَجَاياَهُ العِذابِ

كُلماَ يَمَّمْتُ رُكْناً مُزْهِواً

لاحَ لي تَاِليِه أحْلَى مَنْظَرا!

كلَّ حُسْنٍ ملْء سَمْعِي هَاتِفٌ

خُلِقَ الحُسْنُ لقَنْصٍ وانِتهاَبِ

أيُّ سرٍ شاعَ في هَذا النماء

فانْجَلىَ لْلعَيْنِ مَرْمُوقَ الرُّواءِ

فاضَ واسْتَعْلَنَ في آثَارِهِ

وَهْو صِنْوُ الرُّوحِ في مَعْنَى الخَفاءِ

ص: 41

كم أَجَلْتُ الطرْفَ في أَزْهَارِهِ

والَجْديِد الغَضَّ مِنْ نُوَّارهِ

في زَمانٍ زَيَّنَتْ أَفْوَاقُهُ

كلَّ رَوْضٍ وَكَسَى كلَّ فَضَاء

رَفَّ قلبي لِمَجَاليِه الِحْسَانِ

وَلأَطْيَافٍ بهِ زِدْنَ افْتِتَانِي

لَمَحَتْ في كلَّ شيْء نَشْوَةٌ

مَلَكَتْ حِسيَّ وَفَرَّتْ في جَنَاتي

وَمشَتْ مِلْء كِياني هِزةٌ

أَنِسَتْ رُوحي بها صُوِفيةٌ

لمْ تَكُنْ لِلطينِ يَوْماً تَنْتَمي

حَرَّكتْ قلبي وإنْ عَىَّ لسَاني!

كم أَرَى البُرْعُمِ الْغَضَّ الوَليدِ

مِنْ طُيُوف ضَاقَ عَنْهُنَّ قَصِيدي

كم تَرَى رُوِحَي في مَوْلِدهِ

مِنْ مَعَاني البَعْثِ والخَلْقِ الجَدِيدِ

مَوْلِدٌ ما شَذَّ عنْ مَوْعِدهِ

حَدَّثَ المْبِصَر عَنْ مُوجِدهِ

مَوْلِدٌ ما مَرَّ عَجْلانَ بهِ

غَيْرُ لاهٍ مُظْلِم الحِس بَلِيِد!

غِبْطَةٌ تَزْهَدُ نَفْسِي في سِواها

فَطَنَ الَقَلْبُ إلَيْهَا فاحْتَوَاها

لَيْتَ مَنْ يَقضِي غُرُوراً عُمْرَه

نَسِىَ الأوْهامَ يَوْماً فاجْتَلاهَا

لَيْتَهُ في العَيْشِ ينْسَى زُورَه

فَيَرَى الحُسْنَ وَيَهْوِى سِحْرَهُ

لَيْتَ هَذا الحَيْ يَنْسَى جَشَعاً

يُوبقُ الرُّوحَ وَيُنْسِيَها هُداها!

يَا جَمالاً هاجَ في الكْونِ هُيَامِي

أَجْتَلى دُنياهُ عاماً بَعْدَ عامِ

نَشْوَةٌ كم ألْهَمْتني الفَرَحَا

يَوْمَ أَتْرَعْتُ بها كأُسَ غَرامي

أَتُرَى يَعْلَمُ ألفٌ نَزَحَا

أنني اليَوْم حَطَمْتُ القَدَحَا؟

وَيْكَ يَا قلبي! أَتَبْكي كُلَّمَا

جَدَّدَ الْعَيْشُ دَوَاِعي الابِتَسامِ؟

إِغْنَمِ المُتْعَةَ مِنْ هَذا الَجْمالِ

وَانْسَ آلَامَكَ في هَذِى المَجَالى

أَيُّهَا الْقَلْبُ إِلَامَ المُشْتَكى

إِبْتهَجْ فالْعَيْشُ عَجْلَانُ الليالي

ص: 42

إخْتَلِسْ عُمْرَ زَمَانٍ ضحكاً

وَانْهَبِ الحُسْنَ إذا الحُسْن زَكا

هَذِه الزَّهْرَة تَزْكُو في الضُّحى

والدَّجى يَمْشِي عَليها بالزَّوالِ!

الخفيف

ص: 43

‌رسالة النقد

الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي

تأليف الدكتور زكي محمد حسن

للدكتور محمد مصطفى

- 3 -

وفي كلام المؤلف عن امتداد (نفوذ الأساليب القبطية الإسلامية في التجليد إلى إيران) بقول في (ص 133): (بل أن ذلك النفوذ امتد أيضاً إلى بلاد منغوليا في أواسط آسيا حيث عثر في أطلال مدينة كانت عامرة في العصور الوسطى على جلد كتاب ينسب إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، وعليه زخارف من إطار ذي فروع نباتية عربية، وفي وسطه جامة أو صرة من جرابل، وفي كل من الأركان الأربعة ربع جامة)

ولم يذكر المؤلف المرجع الذي اقتبس منه عبارته هذه، وقد كان يهمنا أن نعرف اسم هذه المدينة التي - كانت عامرة في العصور الوسطى - وكذلك المكان الحالي المحفوظ فيه جلد الكتاب المشار إليه بما عليه من (فروع نباتية عربية)

وفي (ص 134) يقول المؤلف: (وقد عرف المسلمون التجليد في إيران وغيرها من الأقاليم الإسلامية في القرون الأولى بعد الهجرة. وذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أسماء بعض المجلدين، كان الحريش الذي كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون)

ولم يذكر المؤلف هنا أيضاً المرجع الذي اقتبس منه في كتاب الفهرست لابن النديم، وبالنسبة لطرافة الموضوع رأيت أن أنقل هنا عبارة مماثلة لعبارة المؤلف كتبها الأستاذ (بوب في حاشية يعلق بها على ما كتبه الدكتور (جراتزل) عن التجليد، وأورد ابن النديم أسماء المجلدين في ترتيب تاريخي حتى وقته (القرن العاشر الميلادي) وذكر منهم ابن أبى الحريش الذي كان يجلد في خزانة الحكمة (مكتبة المأمون) والمجراز العييبي، وأبي عيسى وابن شيران ودميانة الأعسر والحسين بن الصفار.

وقد أعطى الأستاذ بوب كمرجع لعبارته هذه، كتاب الفهرست لابن النديم طبعة فليجل ص 10

ص: 44

وإني أستغرب كيف أن الدكتور زكي لم يشر في أية ناحية من الفصل الذي كتبه عن التجليد (ص 132 - 138) إلى البحث الذي كتبه الدكتور أميل جراتزل في نفس هذا الموضوع مع أن هذا البحث بعد أحدث بحث علمي واف عن تجليد الكتب في إيران. هذا فضلاً عن أن الدكتور جراتزل - وإن كان قد توسع في كتابة بحثه عن المؤلف - قد أورد نفس الحقائق بنفس تسلل الأفكار الذي سار عليه للدكتور زكي محمد حسن في هذا الفصل من كتابه.

فإننا نرى أن ما كتبه الدكتور جراتزل في الفقرة الأولى (ص 1975) مفصلاً عن ميزات جلود الكتب الإسلامية، قد أورده الدكتور زكي محمد حسن، مجملاً في العبارة الأولى من الفقرة الثانية (ص132)، وفي الفقرة الثانية (ص1975) ما جاء في العبارة الثانية من الفقرة الثانية (ص132) عن استعمال الخشب والجلد والورق المضغوط في التجليد. وفي الفقرة الثالثة (ص1975) والفقرة الأولى (ص1976) تفصيل ما جاء في الفقرة الثالثة (ص132) وبداية (ص133) عن أساليب التجليد القبطية. وبين مراجع الحاشية رقم 1 (ص1975) نجد المرجع المذكور في الحاشية رقم 1 (ص133)؛ وفي الحاشية رقم 1 (ص1976) ما جاء في العبارة الأولى من الفقرة الأولى (ص134) عن أسماء بعض المجلدين؛ وفي الفقرة الثانية (ص1976) ما جاء في العبارة الثالثة من الفقرة الأولى (ص134) عن جلد كتاب عثر عليه الأستاذ بوب؛ وفي الفقرة الثالثة (ص1976) ما جاء بالعبارة الرابعة من الفقرة الأولى (ص134) عن الجلود المحفوظة بمتحف الفنون الإسلامية والتركية في استامبول، بما في ذلك (جلد مصحف لسلطان الجابتو)(هكذا أيضاً في جراتزل)، وهو كما نعلم السلطان محمد خدا بنده. وبين مراجع الحاشية رقم 3 ص1976 نجد المرجع المذكور في الحاشية رقم 1 ص134. وفي الفقرة الأولى ص1977 ما جاء في الفقرة الثانية ص134 من أن تيمورلنك استقدم إلى بلاطه مهرة المجلدين في مصر والشام. وفي الحاشية رقم 1 ص1977 نجد المرجعين المذكورين في الحاشية رقم 2 ص134. وفي الفقرة الأولى ص1977 أيضاً ما جاء في الفقرة الأخيرة ص134. وبداية ص135 عن المجامع التي أنشأها شاء رخ لفنون الكتاب. وفي الحاشية رقم 2 ص1977 نجد المرجعين المذكورين في الحاشية رقم 1 ص135. وهكذا. . .

ص: 45

ومما تقدم نرى أن الدكتور اميل جراتزل قد سبق الدكتور زكي محمد حسن في سرد الحقائق العلمية عن تجليد الكتب في إيران ولقد كان من الواجب على الدكتور زكي أن يشير في الفصل الذي كتبه عن التجليد إلى هذا البحث لاسيما وإن البيانات والحواشي التي أوردها في هذا الفصل، قد جاءت - كما رأينا - بنفس التسلسل الذي جاءت به ضمن البيانات والحواشي التي كتبها الدكتور جراتزل.

وإني أود أن أكتفي بهذا القدر من ملاحظاتي على هذا القسم من متن كتاب الدكتور زكي محمد حسن وطريقة تأليفه، ولو شئت أن استرسل في استعراض باقي فصول الكتاب لتبين لنا أن طريقته في هذا القسم لا تختلف عنها في القسم الأول

والآن ألقى نظرة سريعة على لوحات الكتاب. فأذكر للمؤلف بالثناء، أنه أورد صوراً لبعض التحف الإسلامية الأثرية التي لم يسبق نشرها - أو نشرت، ولكن ليس في كتاب شامل عن الفنون الإيرانية مثل كتاب بعضها من مجموعة معالي الدكتور إبراهيم باشا، وهي الأشكال 55 و56 و57 وتمثل ثلاث صور لتزيين الجدران، والأشكال 69 و71 و73 لثلاث سجاجيد، والأشكال 85 و89 و91 و99 و100 و101 و106 و107 و109 لتحف مصنوعة من الخزف. والبعض الآخر من مقتنيات دار الآثار العربية وهي شكل 111 لطائر من الخزف، وشكل 132 لحزام من الحرير، وشكل 136 لإبريق من البرونز مع رسمين توضيحين له في شكلي 137 و138 وشكل 172 لحشوة من الخشب.

ولكن المؤلف لم يشر في متن الكتاب إلا إلى سبعة وثمانين شكلاً من المائة والسبعة وسبعين شكلاً التي تتضمنها اللوحات ولم يصف التحف المصورة في اللوحات ويوضحها توضيحاً كافياً يوفر على القارئ البحث عن وصفها في متن الكتاب، بل ولم يذكر المؤلف مقاسات التحف المختلفة - لا في المتن ولا في اللوحات - لكي يتمكن القارئ من تصوير هذه التحف في مخيلته بهيئتها وحجمها الطبيعي.

فمثلاً يقول في وصف شكل 97 في اللوحة 87: (صحن من الخزف، مؤرخ سنة 607 هجرية - 1210 ميلادية، في مجموعة يومور فوبولوس).

وإني أعطي هنا وصف هذا الصحن نفسه في للمقارنة،

صحن من الخزف ذي البريق المعدني، عليه رسم خسرو

ص: 46

يكتشف شيرين مؤرخ سنة 1210 (جمادي الآخرة سنة

607هـ) مكتوب عليه: صنعه السيد شمس الدين الحسني، في

مجموعة يومور فوبولوس، مقاس القطر 13 و83 بوصة (34

سم)

هذا الوصف غير الوصف الذي أعطاه الأستاذ بوب في متن الكتاب في أثناء كلامه عن الخزف من صناعة مدينة قاشان، كما فعل الدكتور زكي، ذلك في ص196.

وقد وصف المؤلف شكل 75 من اللوحة 71 بقوله: (صحن خزفي القرن (3هـ - 9م)، في المتحف الأهلي بطهران) بدون ذكر نوع الصناعة، وتكلم المؤلف في متن الكتاب (ص167) عن هذا (الصحن) ونسبه إلى نوع (خزف بلاد ما وراء النهر)، ثم تكلم عنه ثانية في ص168 وسماه (سلطانية) ونسبه هنا إلى نوع آخر من الخزف وهو (الخزف الأبيض ذو النقوش الزرقاء والخضراء، بينما يسميه الأستاذ بوب (صحن) وينسبه إلى هذا النوع الأخير فقط.

ويظهر لي أيضاً أن المؤلف لم يدقق في ترتيب بعض لوحات الكتاب، فمثلاً رسم الصحن في شكل 81 كان يجب أن يوضع إلى جانب الصحن في شكل 76 لأنهما - كما يقول بنفسه - من نوع خزف بلاد ما وراء النهر. لكي يستطيع القارئ أن يقارنهما معاً، وإن يوضع شكل 75 فيما يليهما حسب تقسيم كلام المؤلف عن الخزف.

محمد مصطفى

ص: 47

‌البريد الأدبي

المجمع العلمي العربي يبعث

كان (المجمع العلمي) قد توقف عمله منذ سنوات سبع، وقد أصدرت مديرية المعارف العامة مرءماً ببعثه وإحيائه، واجمع الأساتيذ أعضاؤه على انتخاب العلامة الكبير الأستاذ كرد علي بك رئيساً له، فصدر مرسوم جمهوري بذلك.

ولا شك في أن المجمع العلمي الذي استطاع بسعي رئيسه وجهود أعضائه - في مدة قصيرة من الزمن - أن يؤدي إلى اللغة العربية ما لم يؤده إليها كثير من الرجالات والمجامع في مدة طويلة، والذي رفع اسم الشرق في ندوات المستشرقين في الغرب سيعود إلى سيرته الأولى: فيحيى ما اندثر من آثار السلف، ويسعى للقضاء على الدجاجلة المتجرين باللغة، ويعنى بانتخاب أعضاء له ممن كانت لهم في اللغة جهود، وفي إصلاحها طرائق، وكان لهم على آدابها وفرائدها وأسرارها ودقائقها اطلاع، دون غيرهم من المتطفلين، ولو كانوا من أرباب الألقاب الجوفاء.

وقد وضع له برنامج واسع ونظام دقيق، وسننوه بهما مرة ثانية.

(دمشق)

(المنجد)

مناصرات كلية الآداب

مناظرات كلية الآداب شائقة ولكنها في دعوتها إلى التفكير أكثر منها في ختامها للتمحيص وهذا شأن المناظرات في كلية الآداب وفي غير كلية الآداب، لأن المناظر شأنه غير شأن المحاضر، ولابد أن يتقيد بجانب الرأي الذي يدافع عنه أكثر من تقيد المحاضر بجانب خاص من جوانب الرأي وليس تمحيص الحقيقة ووضوحها في المقارنة بين أقوال المناظرين وحدها بل هي في التوفيق بين أقوالهما وفيما يظهره هذا التوفيق من آراء قد تسقط في المناظرة للدفاع كل مناظر عما يدافع عنه من الرأي وتمحيص الحقيقة أيضاً في مناقشة الجملة التي هي موضوع المناظرة وهذا ليس من شأنه المناظر وفي بيان أوجه صلاحها للمناقشة واوجه فسادها ويتضح لنا صواب ذلك إذا رجعنا إلى المناظرة التي كان

ص: 48

موضوعها (هل يزدهر الفكر في عهد الفوضى أم في عهد الأمان) كما يتضح في المناظرة التي كان موضوعها (هل يكفي التراث الشرقي - أو العربي - لتمام نضوج الذهن). ففي المحاضرة الأولى لم يتضح من الجملة نوع الفوضى ونوع الأمان كما لم يتضح من الجملة الثانية معنى التراث ومعنى تمام النضوج فإن من الفوضى فوضى قد تكون ناشئة من التقاء الثقافات واجتماع الحضارات، وفوضى قد تكون ناشئة عن المحركات النفسية التي تبعث إلى التفكير، وكلاهما قد تكون فوضى نسبية تساعد على التفكير وازدهار الثقافة. كما أن من الفوضى فوضى ناشئة عن اختلال النظام واضطراب الدولة، والفتن والحرب التي تعم وتجعل الحياة غير موثوق من بقائها وتعطل الأرزاق وتشغل المفكر عن الفكر بالتماس طرق تأمين الحياة وطلب الرزق أولاً حتى يستطيع أن يفكر بعد أن يتهيأ له ما أراد، ومثل هذه الفوضى تعطل أمور التفكير وتمنع من ازدهاره. ومن الفوضى فوضى قد تكون بسبب شدة العصبية للرأي؛ فكل طائفة تريد أن تغلب رأيها، فإذا تعدت العصبية للرأي وسيلة الإقناع إلى وسائل القهر والإلزام، وصار النصر في تلك الوسائل سجالاً ومداولة وتبع هذه المداولة الفتك والقتل والنهب. منعت كل هذه الأمور من ازدهار الفكر إلى أن تستقر الأمور. ومن الفوضى فوضى نسبية هي أيضاً نتيجة شدة العصبية للرأي، ولكنها لا تلجأ إلى وسائل الفتك أو لا تدوم على تلك الحال أو لا يكون الفتك سجالا إلى أمد طويل. وهذه قد يزدهر معها الفكر ومن الفوضى فوضى تتخللها مواطن الأمان، أو كما يقولون جزائر الأمان ولا يراد بمعنى جزائر الجغرافي وإنما المراد مواطن أمان يطمئن فيها ويستقر إليها المفكرون إذ لا أمان في بقاع أخرى في الوقت نفسه فيكون ازدهار الفكر في مواطن الأمان لا في أماكن الفوضى ومن الفوضى فوضى لا توجد فيها جزائر الأمان فلا تساعد ازدهار الفكر والأولى مثل دويلات العهد الأخير من الدول العباسية ودويلات مدن الإغريق ودول ملوك الطوائف في الأندلس وغيرها، ومن الفوضى فوضى ناشئة عن عبث النفوس وقلة اكتراثها للجد والحق وهذه لا تعين على التفكير. ومن الفوضى فوضى يعقبها تعمير، وفوضى لا يعقبها إلا الخراب والاضمحلال، وفوضى تكون في أول نشأة الأمم والحضارات، وفوضى في أواخر عهدها. والأمان أيضاً أنواع، فمنه أمان يكون في عهد مجد الدولة وبأسها، واستقرار أمورها، واتساع نطاق تجارتها ونمو ثروتها، وهو أمان

ص: 49

يساعد على ازدهار الفكر، وقد تتخلله حروب أو لا تتخلله، وهذا الأمان النسبي هو كالذي كان في عهد الأسرة الرابعة والثانية عشرة والثامنة عشرة في تاريخ مصر القديم، وكالذي كان في العهد الأوجستي في تاريخ روما، وعهد أسرة تيودور والملكة إليصابات في إنجلترا، وعهد لويس الرابع عشر في فرنسا، وعهد هارون الرشيد في الدولة العباسية، وعهد بركليس في الدولة الأثينية، وعهد عبد الرحمن الثالث في الأندلس، وعهد الديمقراطيات والنظم الحديثة بعد الثورة الفرنسية وبعد حروب نابليون. ومن الأمان أن يكون معه الخمود والركود وقهر الفكر والفقر وهذا لا يعين على ازدهار الفكر. فنرى أن موضوع المناظرة الأولى لم يحدد معنى الفوضى والأمان ونوعهما. وإغفاله هذا التحديد لم يكن داعياً إلى تمحيص الحقيقة وإن كان داعياً إلى الفكر. ثم أن موضوع تلك المحاضرة قصر عوامل ازدهار الفكر أو ركوده على الفوضى والأمان ولم ينظر إلى العوامل الأخرى مثل التجارة وأنواعها، وطرق المواصلات وأثرها، والصنائع وأنواعها، مثل مصالح الحكومة، ومثل مقدار الثروة والتعليم الخ. وإذا نظرنا إلى المناظرة الثانية وجدنا أيضاً أن معنى تمام النضوج لم يحدد، ولم يحدد معنى التراث كما اتضح من أقوال الأستاذين الكبيرين اللذين تكلما في المناظرة. ولكنهما كانا متفقين في لباب الحقيقة وإن اختلفا في الظاهر.

إسماعيل فهمي

ليبيا وبرقة

تكتب الصحف فيما تنشره من أخبار عن طرابلس الغرب كلمتي: ليبيا - برقة. والكثير لا يعرف مدلولهما الصحيح ويذهب به الظن إلى أن ليبيا يسمى بها طرابلس الغرب، فلا ظهار الصواب نورد ما ذكره ابن خلدون في تاريخه. قال المؤرخ عن ليبيا:(وهي اسم قبيلة من البربر دخلت تلك الصحراء وعمرتها وهي لا تزال آثارها باقية، وهي تعرف الآن بالتوارق). وعن برقة: (أطلق العرب هذا الاسم على ولاية رومانية كانت تعرف عند قدماء اليونان بالقيروان نسبة إلى قوربنة إحدى مدنها وهي غير مدينة القيروان التي مصرها العرب في أفريقيا بعد الفتح. وقد كان الجزء الشمالي منها يعرف عند اليونان

ص: 50

ببنطابلس أي المدن الخمس، لأنه كان فيه خمس مدن كبيرة، الأولى هسبريدرس، وقد سماها بطليموس الثالث (هسبربدرس برنيقة) نسبة إلى زوجه برنيقه وسماها العرب برنيق وتعرف الآن بيني غازي. والثانية برقة وتعرف الآن بالمرج وبها سميت البلاد عند العرب. والثالثة قورينه وبها سميت البلاد عند اليونان، ولا تزال آثارها باقية ويسميها الأعراب قورينه. والرابعة البولونيه وتعرف الآن بمرسى سوسه. والخامسة توخيره أراسينوي وتعرف الآن بتوكره ونشأ فيها في زمن البطالسة مدينتان أخريان وهما بطلمايس وتسعى الآن طولميطة ودونيس دورينا وتعرف الآن بدرنة. وكل هذه المدن على الساحل ما عدا برقة وقورينه فإنهما على بضعة أميال منه. هذا ما أثبته ابن خلدون ومنه يعرف أن ليبيا ليست اسماً لطرابلس الغرب.

أبو القاسم سعيد الباروني الطرابلسي

تأبين الأستاذ فؤاد بليبل

لا تزال أندية الأدب ومجالس الشعر تردد عبارات الأسف على فقد الشاعر الشاب فؤاد بليبل، وتجدد في كل مناسبة أساها على فجيعة الشعر فيه، فقد كان المتصلون به والقارئون له يعتقدون أن سيكون له في الشعر الوجداني اثر مذكور بفضل ما وهبه الله من صدق الشعور وصفاء النفس وعذوبة الروح واستكمال الأداة. والحق أن الحياة القصيرة المضطربة التي حييها فؤاد كانت أشبه بأغرودة البلبل الجريح أدركه الإعياء قبل أن يسكن إلى عشه.

وقد فكر لفيف من أصدقائه أن يقيموا له حفلة تأبين يوم الأحد 4 مايو سنة 1941 بنادي لبنان في شارع توفيق رقم 12 ولا شك في أن هذه الحفلة ستكون مظهراً صادقاً لما يكنه إخوان الأدب والروح من الفجيعة واللوعة لهذا الفقيد الكريم

أخطاء في كتاب

للأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية كتب في الأدب يفرض تدريسها على الطلاب. من هذه الكتب كتابه في (الأدب العربي وتاريخه، في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية)، وقد تصفحنا هذا الكتاب فعثرنا فيه على أخطاء نحب أن

ص: 51

نلفت إليها أستاذنا الجليل ليتلافاها في الطبعة المقبلة، كما نحب أن نلفت إليها زملائنا الطلاب وجلهم بحمد الله من المشتركين بمجلة الرسالة الغراء.

يقول المؤلف في ص35 (وقوله - يريد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي تميمة الجهيمي: (إياك والمخيلة) فقال يا رسول الله نحن قوم عرب فما المخيلة؟ فقال عليه السلام: سبل الإزار)

والصحيح أن النبي قال هذا لجابر بن سليم الجهيمي، لأن تميمة تابعي وليس بصاحبي حتى يخاطب.

ويقول المؤلف في ص127 مفسراً بيت حسان:

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمِفصَل

(كلتاهما: كلا الماء والخمر. والمعنى في البيت أن الماء والخمر ناتجان عن عصر شيء؛ فالماء عن عصر السحاب، والخمر عن عصر العنب). . . وهذا التفسير خطأ (أولاً) لآن (كلتاهما) للمثنى المؤنث والماء مذكر والمعروف تغليب المذكر على المؤنث (ثانياً) لأنه قال (أرخاهما) للمفصل وأرخى أفعل تفضيل يقتضي المشاركة مع أن الماء لا إرخاء فيه أصلاً. (ثالثاً) لأنه قال كلتاهما حلب العصير والعصير إذا أطلق انصرف إلى عصير العنب. . . والصحيح: كلتاهما التي قتلت والتي لم تقتل في البيت الذي قبله وهو:

إن التي ناولتني فردتها

فُتِلَت قتلْتَ فهاتها لم تقتل

وهكذا روى الأغاني وخزانة الأدب وشرح ابن هشام لبانت سعاد

ويقول المؤلف في ص175: (. . . فقد قيل: أن عمرو ابن العاص لما رأي مكتبة الإسكندرية أرسل بخبرها إلى عمر. فقال له: إن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى وإن كان فيها يخالفه فلا حاجة اليه، فتقدم بإعدامها: فأحرقها عمر)، وهذا كلام يكذبه المؤرخون. . . ويعتمدون على أن إحراقها كان قبل الفتح. . .

ويقول المؤلف في ص178: (فقد ذكروا أن عبد الله بن المقفع اعترف بأنه دس على المسلمين أربعة آلاف حديث). . . والصحيح أنه لم يكن محدثاً، ولم يقل أحد عنه ذلك، ولم يرو حديثاً واحداً لا صادقاً ولا كاذباً.

ويقول المؤلف في ص182: (عمران ابن حطان السدوسي شاعر فصيح من الشراة، وكان

ص: 52

في آخر أيامه من القعدة. . . لأن عمره طال فضعف عن القتال، فكان يدعو بلسانه)

وهذا التعليل نقله المؤلف عن جورج زيدان وهو خطأ. . . ولم يكن عمران في آخر أيامه من القعدة كما ذكر. القعدة فرقة من الخوارج كانوا يرون التحكيم بين علي ومعاوية، ولكنهم قعدوا فلم يقاتلوا. . .

ويقول المؤلف في ص308 مترجماً لجرير: (ولد باليمامة سنة 42هـ في خلافة عثمان)، وهذا خطأ، لأن عثمان توفي سنة 35هـ

ويقول المؤلف في ص309: (وما زال جرير بالبادية حتى قال الشعر. ثم قدم الشام على يزيد بن معاوية وهو ولي العهد، ومدحه بقصيدة منها:

وإني لعفُّ الفقر مشترَكُ الغنى

سريع إذا لم أرض داري انتقاليا. . . الخ

والصواب أن هذه القصيدة قالها جرير يرد بها على الفرزدق قصيدة على وزنها ورويها وهما معاً في النقائض، وليس فيها بيت واحد في مدح يزيد. . . والصواب أيضاً أن جريراً لم يقدم على يزيد بالشام إلا وهو خليقة. . .)

وبعد، فنحن نقدر الأستاذ محمود مصطفى ونجله، ونعتقد أنه من الأساتذة العاملين في كلية اللغة العربية، وما قصدنا بهذه التصحيحات إلا خدمة الأدب، وخدمة الكتاب، وخدمة الطلاب الذين سيمتحنون فيه آخر العام.

عبد العليم عيسى

1

1

ص: 53