المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 407 - بتاريخ: 21 - 04 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 407

- بتاريخ: 21 - 04 - 1941

ص: -1

‌المبالاة

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب إليَّ الأديب صاحب الإمضاء من خطاب يقول فيه بعد تمهيد:

(إن الإنسان يفيد دائماً من التجارب المادية. فالأطباء مثلاً يهتدون بالتجارب الماضية ويطبقون في فنهم آخر ما يصل إليه العلم؛ ومن ثم كان التقدم الملحوظ في الطب وسائر العلوم والفنون والآداب. فلماذا لا تسير الأمور كذلك في معالجة المشاكل النفسية؟ أريد أن أقول أن الإنسان - كل إنسان - لا يريد أو لا يستطيع أن يطبق القاعدة السابقة على مشاكله النفسية. فمثلاً حدثنا الكثير من الفلاسفة والكتاب عما انتابهم من أزمات منها ما أخافهم أو أيأسهم أو آلمهم، ثم أردفوا ذلك بأن وضعوا تحت أعيننا تجاربهم وتجاوزهم هذا الطور إلى طور آخر. . . وعندنا مثلاً أقرب هو صديقكم المازني الذي كتب كثيراً مصوراً ما كان يلح عليه في شبابه من يأس وخوف، محاولاً أن يقنعنا أن كل ذلك كان عبثاً لا طائل تحته، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش دون أن يكون بحاجة إلى شيء من ذلك. . . فلماذا لا يعتبر الشباب بقول المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى، ويقضي شبابه في أنس وراحة وسعادة؟ لماذا يأبى كل امرئ إلا أن ينهج في حياته على طريقته الخاصة، فيقبل على ما يسلمه للخوف والشقاء ويعج في الألم واليأس؟. . . وأريد أن أقول أيضاً: إذا قيض للإنسان أن ينتفع بتجارب غيره النفسية على النحو الذي ينتفع به في التجارب المادية، أيكون هذا رقياً وازدهاراً، أم عندئذ تنتفي الحياة؟)

وبعد إسهاب في هذا المعنى يقول الأديب: أرجو أن يتيح لنا الأستاذ ساعة نهرب فيها من حديث السياسة والحرب ونأنس به فيها إلى ظل الأدب الوريف، وأن يكون ذلك على صفحات (الرسالة)، فإني من قرائها المدمنين

(دمنهور)

صلاح المسيري

ويحضرني في الإجابة عن هذه الأسئلة قول الكاتب الإنكليزي الحديث ستيفنسن إننا حين نقول للشاب: هكذا أيضاً كنا نفهم في شبابنا فنحن نؤيده ولا نفنده بهذه الحجة!

ص: 1

وهو قول حق نافذ إلى اللباب؛ لأننا ندل به على أن هذا الفهم الذي ننقده ونحاول أن نثني الشباب عنه إنما هو من طبيعة الشباب التي لا محيد عنها ولا استثناء فيها. فكل شاب إذن خليق أن يفهم الأمور كما فهمها الشاب الذي نلومه ونهديه إلى خطئه!

وهكذا يسألنا الأديب: لماذا لا يعتبر الشاب بقول صديقنا المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى ويقضي شبابه في أمن وراحة وسعادة!

والجواب أن صديقنا المازني نفسه لو عاد إلى الشباب لما اعتبر هذا الاعتبار ولا سلك في الحياة إلا المسلك الذي عدل عنه بعد حين

وخيراً تصنع الحياة إذ تجعل كل حي مستقلاً بحياته عن التجارب النفسية التي جربها سابقوه. فليس من الحياة أن يعيش الإنسان عالة على شعور غيره، وليس هذا بالمستطاع لو حسن أن يكون

وفرقي شاسع بين المعلومات والتجارب النفسية في هذا المجال، فإنني لا أستطيع أن أعرف وحدي جميع المعارف الإنسانية التي عرفها السابقون وأضاف إليها اللاحقون ما أضافوه؛ ولكني أستطيع أن اجرب وحدي ما جربه كل فرد وحده، ولا خسارة علي في ذاك!

لا بل الخسارة كل الخسارة في تركي إياه يشعر (بالنيابة) عني وإلغائي لشعوري أنا معتمداً على ما جربه واهتدى إليه. أما المعلومات فيكفي أن تنتقل إلي ليصبح نصيبي منها ونصيب من عرفوها جميعاً على قدر سواء، فلا خسارة في انتقالها من جيل إلى جيل

وينبغي أن نذكر هنا أن التجربة ليست مسألة فهم ولكنها مسألة رياضة

فالحصان الوحشي الذي تربطه بالقيود وتقيم من حوله العوائق لتمنع جماحه وتسلس قياده لا يثوب إلى السلاسة لأنه فهم أنها خير من الجماح، أو وازن بينهما موازنة فكرية فاختار أفضلهما في الرأي والمنطق؛ ولكنه (ريض) على حالة لا يستطيع غيرها ولو فهم أن غيرها هو الصواب

ولو كانت التجارب مسألة فهم لما استعصى خطبها على أحد، فإن حكمة الحكماء الذين قالوا إن (الصبر مفتاح الفرج) تفهم لفظاً ومعنى في لمحة عين، ولكن النفس لا تراض عليها قبل سنين حافلة بالحوادث والدروس؛ وقد تمضي السنون ولا تبلغ بها مبلغ الرياضة على

ص: 2

تلك الكلمات الثلاث!

إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا. فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟

إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع من الحوادث والتجارب دون أن (نأكلها) كما أكلها الذين من قبلنا

ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء؛ وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام؛ وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك؛ وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين

والرجل بمفرده قد يجرب الحالة الواحدة على أنماط وألوان لا يحيط بها الإحصاء؛ فيخونه عشرة أصدقاء ولا تحذره إحدى هذه الخيانات أن يستهدف لغيرها لأنها مختلفة المنحى والنتيجة. ويحب عشر نساء ولا تعطيه إحداهن ما تعطيه الأخريات. ويسافر إلى القطر الواحد مرات ثم يعود من كل مرة بتجربة جديدة لا تنسخ ما قبلها ولا تنسخها التي تليها

وهذا معنى التجربة، وهذا معنى الحياة

والأصل في الحياة المبالاة بالحوادث والمؤثرات، لأن الكائن الحي كجهاز التلقي والإرسال الذي لا ينعزل مما حوله ولا تنقطع الصلات بين العالم الخارجي وبينه. فإذا انتهى به الأمر إلى تجاهل الحوادث وقلة الاكتراث لها فتلك ضرورة طارئة تراض عليها النفس بعد معالجتها وتكرير علاجها، ثم يكون الاستقرار عليها بمثابة الصدأ الذي يمنع الاتصال، فلا تلقٍّ ولا إرسال، أو يكون على أحسنه بمثابة رفع المفتاح وتعطيل الأداء والاستقبال

وربما فهم ذلك في بعض مراحل الحياة التالية؛ أما الابتداء به في المراحل الأولى فغير مفهوم ولا معهود، إلا أن يكون عن نقص في التكوين وعجز عن التجربة ما يراد منها وما لا يراد

قيل أن السعيد من وعظ بغيره. ولكن أين هو السعيد؟ وما جدواه من السعادة إن كان اتعاظه (شعوراً) غير أصيل فيه! أما إن اتعظ أصيلاً في شعوره فهو هنا مبتدئ وليس بتابع، وهو يجتنب الخطر لأنه أحسه واختبر منه ما يدعوه إلى اتقائه. فليس هو بعالة على تجربة

ص: 3

غيره، وليست تجربة غيره إلا تذكيراً لناسٍ أو تنبيهاً لغافل

ولنتخيل عالماً يستريح الناس فيه من (المبالاة) فماذا يبقى لهم من الحياة؟

ماذا يبقى من الحياة لمن لا يبالون الخوف والرجاء ولا يحنون إلى ماض ولا يتوقون إلى غد ولا يحفلون بحاضر؟

العريان في القافلة مرتاح

وهذا عري في قافلة الحياة!

ولاشك أن التجارب تعلمنا كثيراً أن العناء لا يفيد، ولكن من هذا الذي يعاني باختياره؟ ومن هذا الذي يعاني لفائدة يلتمسها من عنائه؟

إنما يعاني الإنسان على حسب ما عنده من طاقة العناء لا على حسب ما يستفيده من العناء

ولهذا يوجد بين الناس آحاد معدودون يطلبون العظائم ويبلغونها ولا يقنعون بما بلغوه منها، وينظر إليهم ملايين الملايين فلا يتحركون لمثل ما ابتغاه أولئك الآحاد المعدودون، لأن المحرك هنا هو الطاقة الموجودة وليس هو الفائدة التي لم توجد بعد ولا يضمن وجودها

إن كرة المطاط تنضرب إلى الأرض مائة مرة ولا تزال تعلو وتسفل في أثر كل ضربة. ثم تنضرب بعد هذا فتقع حيث هي لا علو ولا استفال. ألانها علمت أن العلو لا يفيد؟ كلا. . . بل لأنها أضاعت مرونتها التي تعلو بها وتهبط. . . فمن الذي يطلب من الكرات الجديدة أن تعتبر بمصير هذه الكرة (المجربة) فتقع حيث هي وتضيع من مرونتها باختيارها ما ضاع (بالتجربة) على غير اختيار؟

ولست أقول للكرة التي سكنت إلى موضعها: غالطي الحقيقة وعاودي الوثوب وقد راضتك الحوادث على اجتنابه!! ولكني أقول للكرة الجديدة: إياك أن تغالطي الحقيقة وإن تسكني لأن غيرك قد سكن من قبلك. بل اسكني حين يوائمك السكون ولا تقدرين على غيره؛ واطلعي وانزلي مادامت لك طاقة بالطلوع والنزول

فقلة المبالاة لا قيمة لها أن لم تأت بعد مبالاة، لأنها تكون يومئذ مرضاً أو قصوراً لا يغبط عليه. ولابد إذن من مبالاة ولو قصيرة الأمد قبل أن تصبح قلة المبالاة تجربة نفسية ورياضة خلقية. وليس شرطاً مع هذا أن تكون تلك التجربة مما يحمد على كل حال، وأن تكون تلك الرياضة مما يقتدي به كل إنسان

ص: 4

وغاية ما يرجى من انتفاع بتجارب من مضى أن نعيد تجربتها في وقت أقصر وعلى ثقة أوضح وأبصر. . . ولم؟ ليتسع العمر لتجارب أكثر مما جربه الأولون، لا لينقص نصيبه من التجربة اكتفاء بما جربوه

فتكرر الأجيال عبث إذا كان معناه أن جيلاً واحداً يعالج مشكلات الحياة ثم تعفى بقية الأجيال من علاجها. وتكرر الأجيال معقول إذا كان لكل جيل نصيبه من عبء الحياة وعليه مزيد جديد.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌القرآن والمسلمون

للأستاذ الشيخ محمود شلتوت

وكيل كلية الشريعة

إن خير حديث يتحدث به المسلمون بعضهم إلى بعض في هذا

الشهر الذي يذكرون فيه ميلاد نبيهم محمد صلى الله عليه

وسلم، هو ما يتصل بهذه المعجزة الخالدة التي أظهرها الله

على يد هذا النبي الكريم، وبها حول العالم من سبل الشر

والشقاء، إلى سبل الخير والسعادة

وإن الحديث فيما يتصل بالقرآن الكريم لكثير النواحي. متشعب الأطراف. وقد رأينا أن يكون حديثنا في ناحية من هذه النواحي هي علاقة المسلمين بالقرآن في عصورهم المختلفة، وذلك ينتظم:

(1)

القرآن والمسلمون في العهد الأول

(2)

القرآن والمسلمون في العصور التالية

(3)

القرآن والمسلمون في العهد الأخير

وقد رأينا تمهيداً لعرض الموضوع الذي نحاوله أن نقدم بين يديه ما يجلي لنا الغاية التي من أجلها نزل القرآن، والفكرة التي يعمل لإقرارها في هذا العالم

مقدمة

أ - كان الناس قبل القرآن في عقائدهم وأعمالهم على طرفين متناقضين: إما الإفراط أو التفريط؛ وكلا الفريقين بعيد عن جادة الاعتدال. فبينما كنت ترى فريقاً عكف على المادية البحتة، وشغف بها حتى جرت منه مجرى الدم في العروق، وحرص على تنمية عواملها، وتوطيد وسائلها، وحرم نفسه تذوق اللذة الروحية، إذا بك ترى فريقاً آخر قد نزع إلى الطرف المقابل، ونسي حظه المقدر له في المادة بمقتضى خلقه وتكوينه، فتحكمت فيه تقاليد

ص: 6

الروح المحضة، وأعرض عن الدنيا وما فيها، وحرم نفسه متاعها ومباهجها

هذان هما الفريقان المتقابلان يستظل أولهما بظل اليهودية أو الوثنية، ويستظل الآخر بظل المسيحية أو الصابئية أو نحو ذلك

ب - إن اقتسام هاتين الفكرتين للعالم على هذا النحو، أو طغيان إحداهما على الأخرى، من شأنه أن يحول بين الناس وبين القيام بواجبهم الذي من اجله خلقوا، وجعلهم الله خلفاءه في أرضه: ذلك الواجب هو عمارة الكون والانتفاع بما خلق الله فيه من شيء، والسمو بالعقل الإنساني على وجه يسعد به الناس في معاشهم ومعادهم؛ ذلك الواجب هو الذي تضمنته الآية الكريمة في بيان حكمة هذا الخلق

(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً. ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: أني أعلم ما لا تعلمون!)

ج - جاء الإسلام وهاتان الفكرتان تقتسمان العالم وتسيطران عليه. فحدد غاية الإنسان في الحياة وأرشده إلى مقوماتها الصحيحة، وأهاب به إلى الفكرتين جميعاً، وحثه على قصد الجادة والاعتدال، وطلب إليه أن يأخذ في كل ناحية بقسط ملائم حتى تتحقق له السعادة على أكمل وجوهها. . .

أوسع له في ضروب القول مستدلاً على عقم المادية البحتة بأنواع الاستدلال، وأخذ يصورها أمامه بأبشع الصور، واتجه به إلى كثير من مواطن الحياة، وحثه على استكمال حاجته منها؛ ونعى على الروحية المحضة، وجعلها من الأساليب التي تنافر الغاية من خلقه لعمارة الكون وخلافته عن رب العالمين

اقرءوا - إن شئتم - قوله تعالى في التنفير من المادية البحتة:

(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، ولدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟)

واقرءوا قوله تعالى في الحث على ترك الروحية المحضة:

(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في

ص: 7

الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)

واقرءوا قوله تعالى في الحث على الأخذ بالنصيبين:

(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض)

(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)

جاء القرآن لهذا الغرض: مهمته أن يبلغ العقل البشري رشده، وإن ينتفع الناس بالصالح من المادة والمفيد من الروح

وقد اتخذ هذا الاعتدال نهجاً له في إصلاح العقائد وتهذيب الأخلاق وترسيخ قواعد التنظيم الاجتماعي، وصرح في كثير من آياته بأنه يعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الطريق الأقوم، وينذرهم سوء العاقبة، ويبشرهم بالحياة الطيبة إذا هم تمسكوا بمبادئه وعملوا بإرشاداته، وحرصوا على تنفيذ أحكامه

واقتضت حكمة العليم الخبير أن يكون بعضه مفصلاً وبعضه مجملاً: يفصل ما لا تختلف فيه أغراض الإصلاح، ولا تتغير فيه وجوهه بتغير الأزمان والأمكنة، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم العبادات، ويجمل ما تختلف أحكامه بحسب ما تقتضيه أحوال الزمن وتطورات الحياة واختلاف الأمكنة، تاركا للعلماء تطبيق ذلك على الحوادث والواقعات الجزئية التي يجود بها الزمن

وذلك كله عملاً على سعادة البشر، وإطلاقاً لسراح العقل، وحثاً لأهل البصيرة على التمتع بلذات النظر والتنافس في مجال الاجتهاد

عالج القرآن بذلك العلل النفسية والأمراض الخلقية، وحل المشاكل الاجتماعية، ورسم طريق الحياة الطيبة الصالحة فكان كما وصف نفسه:

(إن هذا القرآن يهدي التي هي أقوم)

(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)

ص: 8

(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)

القرآن والمسلمون في العهد الأول:

على هذا الأساس آمن الأوائل من المسلمين بالقران، فوضعوه بالمحل الأول من مكانة التقديس والعناية، وسلموا إليه نفوسهم، وتركوه يتصرف فيها بالتزكية والتطهير والتعليم والحكم والسياسة وسائر شئونهم، العامة والخاصة، الداخلية والخارجية، حتى اتسعت أمامهم مسالك الحياة وانفسحت رقعة المملكة الإسلامية طولاً وعرضاً، فما احتاجوا وهم يقبلون القرآن بين أيديهم، ويفهمون آياته الواضحة، وإشاراته الواردة على سنن اللغة العربية القويم، إلى قانون سياسي أو مدني، ولا إلى نظريات الآداب والأخلاق، بل كانوا كلما تقدمت بهم الحياة ونظروا في القرآن، رأوا فيه حاجتهم، واستفادوا منه أكبر ما تطمح إليه النفوس الوثابة المتطلعة إلى عز الدنيا ومجد الحياة!

حصروا نظرهم إلى القرآن في الفهم والاتعاظ وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي، وأخذوا ينشرون ما يفيضه عليهم من أصول التشريع وقوانين الأخلاق والاجتماع على سائر المسلمين في جميع بقاع الأرض شرقا وغرباً، فوحد القرآن بينهم حول الغاية التي لأجلها نزل. وما كانوا ليتجهوا أو ليحاولوا أن يخرجوا بشيء من آي القرآن كلا أو بعضاً عن هذا النهج: نهج العمل، وتهذيب الخلق، وإصلاح العقيدة

ما فكروا يوماً في أن القرآن يبرئ لهم مريضاً، أو يرد عنهم غائلة عدو، أو يكشف لهم عن معضلة كونية إلا عن طريق ما أمر به من اتخاذ الأسباب، وقدح زناد العقل، والسلوك في الحياة على ما تقتضيه سنة الحياة.

بهذا سار المسلمون الأولون، وعظم سلطانهم، وتربت مهابتهم في قلوب الأمم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

وبهذا حافظوا على وحدتهم فلم يتفرقوا في العقائد، ولم تشتتهم الأهواء والمذاهب، وسلم لهم دين الله وكتابه خالصين متينين لم تلعب بهما الشهوات، ولم يتطرق إليهما عوامل الأحداث والابتداع

القرآن والمسلمون في العهود التالية

ص: 9

مضى ذلك العهد، وقد اتسعت بفضل القرآن وتأثيره في النفوس رقعة الإسلام، وامتد سلطانه، ودخلته حضارات وثقافات وعناصر مختلفة وأمم متباينة، فبدأت عوامل التفكك تتسرب إلى الوحدة الإسلامية

حدثت بدعة الفِرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب وحاملو رايات الفرق المختلفة يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول في فهمه إلى وجهات تتفق وما يريدون وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة التي تلقفها الرواة من أهل الكتاب وجعلوها بياناً لمجمل القرآن وتفصيلاً لآياته، ولم يروا بأساً من أن يضيفوا إليه خصائص موهومة في شفاء الأمراض وقضاء الحاجات وتفريج الكربات

ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح وغرضها المسوقة له لكي لا تصلح دليلاً لمذهب فلان، وبهذا اصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكما

كانت هذه ثورة، وثورة غير منظمة، عقدت حول القرآن غباراً كثيفاً حجب عن العقول ما فيه من نور الإرشاد والهداية. وكان من سوء الحظ أن صادفت هذه الثورة عهد التدوين، فحفظت ودونت كثير من الآراء الباطلة في بطون الكتب، وأخذت بحكم الأقدمية ومرور الزمن نوعاً من القداسة التي يخضع لها الناس، فتلقاها المسلمون في عصور الضعف الفكري والانحلال السياسي كقضايا مسلمة وعقائد موروثة لا يسوغ لهم التحلل منها ولا الاعتداء عليها ولا التشكيك فيها

قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفهم القرآن، والانتفاع بهداية القرآن، فجمد الناس على تقليد هذه الكتب، واتخذوها حكما بينهم، واعتقدوا كل ما فيها من غير تمييز بين حق وباطل ونافع وضار، واعتقدوا أنه لا يصح لمؤمن أن

ص: 10

ينكر شيئاً منها، وقالوا: هذا شيء درج عليه السابقون المتقدمون، ودونوه في كتبهم، وشرحوا به كتاب الله، وتلقته الأمة بالقبول؛ وما كان لنا، ولسنا بأعلم منهم بالدين، ولا بأبعد نظراً في فهم أساليب القرآن وتخريج الأحكام، أن نحيد عما تلقيناه منهم قيد شعرة، ولا أن نخالفه في قليل ولا كثير

وبذلك اسلموا عقولهم إلى غيرهم، وجنوا على أنفسهم بحرمانها لذة التفكير، وجنوا على دينهم باعتقاد أن هذه الأوهام من الدين

وكما أفسدت عليهم هذه النزعة حياتهم الفكرية، وصورت لهم دينهم بهذه الصورة المشوهة، جنت كذلك على حياتهم العملية فتركتهم يزهدون في الدنيا، ويكبلون الناس بما يفهمونه من معنى القضاء والقدر، ويكلونهم إلى التوكل الجاف الذي لا يعتمد الأسباب: وبذلك افتقر المسلمون والناس من حولهم أغنياء، وضعفوا والناس من دونهم أقوياء، وحيل بينهم وبين الأخذ بالأسباب على حين سخر الناس السماء والأرض والجو والماء!

(البقية في العدد القادم)

محمود شلتوت

ص: 11

‌المسألة الاجتماعية في مصر والشرق

بيني وبين الأستاذين

فكري أباظة وتوفيق الحكيم

للدكتور زكي مبارك

كنت توهمت أن طول عهدي بالصحافة السياسية والأدبية جعلني أعرف الناس بأساليب الجدال، وأقدرهم على الفهم لمذاهب الصحفيين في إقرار الحقائق وإزهاق الأباطيل

وكنت توهمت أيضاً أن الصحافة تهدي الجمهور، وإن كان الظاهر يلوح بأنها تستهديه، فقد كان مفهوماً عندي وعند أكثر الناس أن الصحافة قوة نورانية تبدد الظلمات، وتأخذ بيد المجتمع إلى درجات التقدم والارتقاء

كنت وكنت، إلى أن تلقيت عن الأستاذ فكري أباظة درساً لن أنساه، فما هو ذلك الدرس؟

كان الأستاذ توفيق الحكيم نشر مقالاً في مجلة المصور عن الإصلاح الاجتماعي، وقد صرح في ذلك المقال بأن المجتمع المصري سيظل في انحطاط مادام في مصر جماعة من الأغنياء يستأثرون بمصادر الخيرات؛ ثم قرر أنه لا نجاة لمصر إلا يوم تصبح (المسألة الاجتماعية) في قوة (المسألة السياسة): فتسبب إسقاط الوزارات، وتقدم وتؤخر في مراكز الأحزاب

وقد رأيت مقال الأستاذ توفيق الحكيم ضرباً من الحديث المعاد؛ فقد مضت أجيال والناس يتحدثون عن (اليوم الموعود): اليوم الذي توزع فيه أموال الأغنياء على الفقراء. وانتظارنا لذلك اليوم سيطول، فمن الخير أن نفكر في إسعاد الفقراء بطريقة عملية، فندرس أسباب الفقر لنقتلع جذوره من الأساس. ثم رأيت أيضاً أن الكلام عن (المسألة الاجتماعية) ليس إلا (بضاعة أجنبية) فهو منقول عن جماعة من الكتاب الأوربيين والأمريكان، وما يقال في الغرب لا يصلح دائماً لأهل الشرق

وسارعت فأرسلت مقالاً إلى المصور في تقرير هذه المعاني. وفي العدد الذي تلا ظهور المقال رأيت الأستاذ فكري أباظة يتبرأ مني، ويعلن أنه تلقى مئات الرسائل في تفنيد ما رأيت، وأنه سيتولى الرد علي في العدد المقبل؛ فكان رده تحريضاً للجمهور على الكاتب

ص: 12

الذي توهم أن الأستاذ فكري أباظه رجل يحترم حرية الرأي؛ فرددت عليه بمقال أعلنت فيه أن (الفقر مرض، ولكل مرض أسباب)، فعاد فقرر أن الرسائل التي وردت في الرد علي بلغت الألف عداً. ثم وجه إلي كلمات لا يليق صدورها عن زميل كنت أراه غاية الغايات في رعاية أقدار الزملاء

واليوم، ماذا أريد أن أصنع؟؟

أريد أن أحرر الأستاذ فكري أباظة من الاستعباد للرسائل التي تعد بالمئات أو بالألوف، فقد يخاف على (المصور) من غضبات القراء، وأنا أحب أن تدوم عليه وعلى مجلة (المصور) نعمة العافية، فهو صديقي وهي صديق، وإن لقيت منه ومنها ما لقيت!!

أريد أن أختبر قدرة الأستاذ فكري أباظة على الأبحاث التي تحتاج إلى تعمق واستقصاء؛ فقد رأيته ينتقل تنقل الطير من فنن إلى أفنان، ورأيته لا يصبر على (الطعام الواحد) غير أوقات تعد بالآحاد، وهو يدرك مرد هذه الإشارة في الأدب والتاريخ

أما الأستاذ توفيق الحكيم فقد خرج بالصمت عن لا ونعم، ولكني سأعرف كيف أسوقه برفق أو بعنف إلى شرح مذهبه في الإصلاح الاجتماعي، إن كان في اعتناق ذلك المذهب من المؤمنين؛ فأنا أخشى عليه عواقب التودد إلى القراء بأساليب يغلب عليها الترفق المصنوع

وأنا لا أخاف على (الرسالة) كما خاف الأستاذ فكري أباظة على (المصور)، فالقراء لن ينصرفوا أبداً عن مجلة تواجههم بالصدق في تشريح الآراء والأهواء. ولو كنت أعرف أن مجلة المصور ستخذلني لطويت عنها رأيي، وتركتها تتودد إلى القراء، كما تشاء!

أخذ الأستاذ فكري أباظة يبدئ ويعيد في التوجع لمصاير الصناع والعمال والفلاحين، كأنه يتوهم أن التوجع شفاء من كل داء!

نحن لا نريد أن نقيم الملاطم والمناحات على ما صرنا إليه، وإنما نريد أن ندرس جميع الظواهر الاجتماعية بصدق وإخلاص، وإن غضب علينا بعض من لا يفقهون

فهل يخرج الأستاذ فكري أباظة على مذهبه المألوف في تقييد الخواطر اليومية ليلقاني على صفحات الرسالة وقد استعد لنضال شريف سيعود على المجتمع بالنفع الجزيل؟

لقد نهاني الناصحون عن هذا الموضوع الشائك، وقالوا إن في مصر تياراً من الحقد على الأغنياء، وإن من العقل أن أساير ذلك التيار، كما يصنع الأستاذ فكري أباظة والأستاذ

ص: 13

توفيق الحكيم

وأقول إني أقاوم ذلك التيار لمنفعة وطني، فالوطن الغالي يناشد أبناءه جميعاً أن يعيشوا في تعاون وتساند، وهو يدعو الفقراء إلى الفرح بسعادة الأغنياء، كما يدعو الأغنياء إلى البر بالفقراء. ولن يعطف الله على الفقير إلا يوم يفرح بحلول النعمة على جاره المسعود، والفقير الذي يفرح جاره الغني هو الصورة الصحيحة للأدب الذي دعانا إليه الأنبياء

أما بعد فما هو أصل الخلاف؟ يقول الأستاذ فكري أباظة: إني حملت على الفلاحين والفقراء. لا، يا صديقي، وإنما كان رأيي أن الفقر الذي يعانيه بعض الفلاحين والعمال والصناع له أسباب، لأن الفقر في الجيب كالعلة في الجسم، ولكل نتيجة مقدمات

فما وجه الخطأ في هذا القول؟ وهل من الصحيح أن جميع الفلاحين والعمال والصناع منزهون عن الأغلاط؟

إن كان ذلك فكيف يصيبهم الفقر وهو لا يصيب غير من حرموا قوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية؟

وكيف اتفق لجميع المصلحين أن يضعوا آداباً لطلب الرزق، وهي آداب موجهة إلى الفقراء؟

وكيف يحرم علينا أن ندعو فقراءنا إلى التخلق بالأخلاق الاجتماعية والمعاشية، وهي دعوة تلقيناها عن أسلافنا الأمجاد؟

وأهجم على الأستاذ فكري أباظه فأوجه إليه هذا السؤال:

إذا صح أم جميع الفلاحين والعمال والصناع على جانب عظيم من الأخلاق الاجتماعية والمعاشية فكيف جاز أن يعيشوا فقراء ونحن نعرف أن السلامة من الآفات الأخلاقية تضمن السلامة من آفات البؤس؟

ثم أوجه إليه سؤالاً آخر فأقول:

إذا صح أن جميع الفقراء في غاية من الأمانة والصدق فكيف جاز أن يقوم بينهم وبين الأغنياء حجاز سميك لا تنفذ منه بوارق التعاون إلا في أندر الأحايين؟

ثم اوجه إليه سؤالاً ثالثاً فأقول:

إذا صح أن الناس جميعاً بخير من الوجهة الأخلاقية فلأي غرض تنشأ الجرائد والمجلات؟

ص: 14

ولأية غاية تقام حدود الشرائع والقوانين؟

إن كان الأستاذ فكري أباظة راضياً عن أحوال الصناع والعمال والفلاحين ففي الدنيا أقوام يرون غير الذي يراه، ومن حق أولئك الأقوام أن يعلنوا آراءهم بلا تخوف ولا تهيب، لينقلوا المجتمع من حال إلى أحوال، وليخطوا في كتاب الإصلاح الاجتماعي صفحة جديدة يحفظها التاريخ

ثم ماذا؟ ثم يسألني الأستاذ فكري أباظة عن أهلي في الريف، وهو يؤكد أن أقدامهم الممزقة وأياديهم الخشنة وصدورهم المحروقة ووجوههم الملوحة تشهد بأنهم أشقى سكان العالم وأعنفهم عملاً وكداً وكدحاً

وأقول إن أهلي ليسوا كذلك، مع الأسف الموجع؛ فلو كنت أعرف أن لأهلي في الريف أقداماً ممزقة، ووجوهاً ملوحة، لطابت نفسي، وأيقنت أن الريف لا يزال بخير، وإنما أعرف أن أهلي وأهلك تسامعوا بأن القاهرة نشأ فيها رجال يبكون أو يتباكون لشقاء الفلاح، ويزعمون أن الفلاح الأوربي أو الأمريكي يعيش عيش السعداء، فلا يعاني صحبة الفأس والمحراث إلا وفي يده جريدة يطالع فيها أخبار الصباح أو أخبار المساء!!

ليت أهلي في الريف حفظوا عهد جدي، فقد كان جدي رحمه الله يحدث أبناءه بأن الحقل يفرح بصاحبه حين يراه، وهم اليوم لا يرون حقولهم إلا في الحين بعد الحين، وأكثرهم يخجل من أن يسحب بقرة أو يركب جملاً! وكيف يسبحون البقرات أو يركبون الجمال وهم من أبناء الجيل الجديد، الجيل الذي ينشئ في سنتريس أكثر من سبع قهوات مع أن أهلها لا يجازون عشرة آلاف، ومع أن الآباء والأجداد في سنتريس لم يكونوا يشربون غير الماء القراح

أريد أن أرى بين أهلي رجلاً ممزق القدمين من آثار الكدح الموصول لأتقرب إلى الله بالثناء عليه، ولأنشر عنه مقالاً في مجلة مصرية أو شامية أو عراقية

أنا لم أفكر في (إحداث ضجة) تقع كارثتها فوق رأسي، كما يهددني الأستاذ فكري أباظة، وإنما أفكر في مصاير قومي، وأنا بشهادة خصومي أصدق الناس في الوطنية، ولله الحمد على هذا الميراث النفيس

وأهجم على الأستاذ فكري أباظة مرة رابعة فأوجه إليه هذا السؤال:

ص: 15

هل تعرف، أيها السيد، كيف حرم أبناء الريف نعمة الشاعرية؟

ولكن ما هذه الشاعرية؟

إليك أسوق الجواب:

كان جميع أبناء الريف يتعلقون بمزارعهم إلى حد الفتون، فكان الرجل منهم يراعي مزروعاته بشغف وشوق، ويكاد يعرف كيف تطول الورقة الخضراء من ساعة إلى ساعة، بل من دقيقة إلى دقيقة، بل من لمحة إلى لمحة؛ وكان الرجل منهم يعطف على مواشيه كما يعطف على أبنائه الأعزاء؛ وكان الفلاح يعرف ملامح كل شجرة، ويأنس بكل نبتة، ويكاد ينظم قصيدة رثاء حين يرى سنبلة قصمتها الرياح

فأين أهلونا في الريف من هذه المعاني بعد أن سمعوا بقصة التمدن الحديث؟

أين أهل الريف من هذه المعاني، وما نشأ منهم ناشئ إلا وهو يرجو الرحيل إلى القاهرة، ليجد وظيفة تغنيه عن الأنس بمزارع القطن والقمح والفول؟

إن أسلافنا القدماء عبدوا مصادر الخيرات في بلادهم إلى الحد الذي سمح بأن يروا معنى الألوهية في البقرة الحلوب، والى الحد الذي سمح بأن يعتقدوا أن النيل اله معبود

فأين نحن من أولئك الأسلاف؟ وأين فينا من يتشرف بأنه فلاح وابن فلاح؟

لقد توهم الأستاذ فكري أباظة أنني من (سادة الصالونات الأرستقراطية التي تعيش في دنيا الجاتو والجيلاتين والجامبون والمارون جلاسيه). فليعرف أن هذه الألفاظ تحتاج إلى شرح يقربها إلى ذهني بعض التقريب، لأن بيتي لا يعرف هذه الأصناف، ولان من يتفضلون بدعوتي إلى بعض الولائم يطوونها عني، ولأني نسيتها نسياناً تاماً بعد فراق باريس، أن كنت ذقت في باريس غير أقذاء العينين تحت ضوء السراج

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أريد القول بأن دنيا الناس في مصر قد أصيبت بالانحراف وإلا فكيف جاز أن تكون دعوتي إلى إصلاح أخلاق الفقراء كارثة لا تقع إلا فوق رأسي؟!

وكيف يجوز أن يكون الأستاذ فكري أباظة من خصومي، وقد اكتوت يداه بالانحراف الاجتماعي كما اكتوت يداي؟

بلادنا مهددة بالشقاء، بسبب سوء الفهم لعناصر النظام الاجتماعي، فما الذي يمنع من أن

ص: 16

نتعاون على الإصلاح المنشود؟ ومتى ندرك أن تمزيق أقدام الفلاحين هو شارة من شارات التشريف، وليس باباً من أبواب الرثاء؟

من حق الأستاذ فكري أباظة أن يتوجع لمصاير الفقراء من العمال والصناع والفلاحين، أما أنا فلن أتوجع لمصاير أولئك ولا هؤلاء، لأني أومن بأن الله خلق منافع الوجود لجميع الناس ثم دعاهم إلى التسابق بقوة العزيمة والأمانة والصدق والإخلاص فربح من ربح وخسر من خسر، كما كان يعبر أستاذنا الشيخ مصطفى الطماوي

الله وحده هو الذي يعلم سريرتي في إثارة هذه المشكلة الاجتماعية، ومنه وحده استمد العون على من يعادونني ظالمين آثمين. والى اللقاء بعد أن اسمع حجج المناظر المفضال

زكي مبارك

ص: 17

‌في العقد

لأستاذ جليل

صاحب البيت الثاني: (ولرب مأخوذ بذنب عشيره) هو غير صاحب البيت الأول: (جانيك من يجني عليك. . .) وإذا كان قد قاله كما روى صاحب (العقد) والشريشي شارح (المقامات) فقد سار مع العروض التامة. ويظهر أن أديباً استطال الصدر فاستبدل به: (ولرب مأخوذ بلا قرف) - واقترف في هذا المعنى أكثر - فخرج بذلك من (العروض التامة والضرب الأحذ المضمر) إلى (العروض الحذاء المضمرة والضرب الأحذ المضمر) ولم يذكروا هذه العروض، ولم ترد في أشعارهم، وإذا جاءت فإنما تجيء في مطالع القصائد مصرَّعة كما قال صاحب (العقد) في مقطوعة (عروضية):

عينيّ، كيف غررتما قلبي

وأبحتماه لوعة الحب؟!

يا نظرة، أذكت على كبدي

ناراً قضيت بحرها نحبي!

خلوا جوى قلبي أكابده

حسبي مكابدة الجوى حسبي!

عيني جنت من شؤم نظرتها

ما لا دواء له على قلبي!

جانيك من يجني عليك وقد

تعدى الصحاح مبارك الجرب

ولا تصريع في بيتينا

وقد يقال: إن أديباً آخر فطن لذلك الخروج في (بلا قرف) فبدل به (بلا ترة) فأقبلت النغمات متوائمة وإن لم يبن البيت هنا إبانته في تينك الروايتين

وبعد فإن رواة البيت: (جانيك. . .) في كتب اللغة والأدب قد غلطوا في روايته فالبيت مرفوع لا مخفوض، ولا إقواء فيه، وقد قصد صاحب اللسان (وتبعه صاحب التاج) جبره بهذه الرواية:

جانيك من يجني عليك وقد

تعدى الصحاح فتجرب الجرب

فما انجبر، و (مُبارك) في البيت ليست مرفوعة وإنما هي منصوبة

وقد شاء الله أن يكون الفضل في إعلان الرواية الصحيحة المحققة لهذا البيت لمجلة (الرسالة) في هذا الزمان؛ والإفضال على الأدب العربي في كل جزء، في كل أسبوع، هو هجيراها، هو دأبها، وحسبها وحسبنا تلك (الأولى) لربها فيه

ص: 18

البيت لذؤيب بن كعب في مقطوعة (ستة أبيات) قالها في يوم تياس، وهو من أيام العرب، وقد ذكره صاحب (العقد) مختصراً، وأورد ثلاثة أبيات من المقطوعة. وروى الخبر أتم والمقطوعة كاملة أبو عبيدة في تعاليق (النقائض)، وستظهر تعليقة البيت حقيقة الرواية. وقد رأيت أن انقل الخبر والأبيات والتعليقة لندور تلك الطبعة الغربية في الشرق. ومحقق (النقائض) وناشرها هو العرباني الأستاذ (ا. ا. بيفن)

قال أبو عبيدة: (كانت قبائل بني سعد بن زيد بن مناة، وقبائل بني عمرو بن تميم التقت بتياس، فقطع غيلان بن مالك ابن عمر بن تميم رجل الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فسمي الأعرج، فطلبوا القصاص، فأقسم غيلان ألا يعقلها ولا يقصها حتى تحشى عيناه تراباً وقال:

لا نعقل الرجل ولا نديها

حتى ترى داهية تنسيها

فالتقوا فاقتتلوا، فجرحوا غيلان حتى ظنوا انهم قتلوه، ورئيس عمرو كعب بن عمرو، ولواؤه مع ابنه ذؤيب، فجعل غيلان يدخل البوغاء في عينيه ويقول: تحلل غيل، حتى مات. فقال ذؤيب بن كعب لأبيه كعب:

يا كعب، إن أخاك منحمق

إن لم تكن بك مرة كعب

أتجود بالدم ذي المضنة في ال

جليّ، وتلوي الناب والسقب

فالآن إذ أخذت مآخذها

وتباعد الأنساب والقرْب

أنشأت تطلب خَطة غبناً

وتركتها ومسدُّها رأب

جانيك من يجني عليك وقد

تعدى الصحاحَ مباركَ الجرب

والحرب قد تضطر جانيها

إلى المضيق ودونها الرحب

قال أبو عبيدة: أنشدني داءود أحد بني ذؤيب: (الصحاحَ مباركُ الجرب) فرفعوا مبارك، وجروا الجرب، وذلك أقواه

قال أبو الخطاب: إن عامة أهل البدو ليس تفهم ما يريد الشاعر، ولا يحسنون تفسيره، وإنما أتى إقواء هذا من قلة فهم الذين رووه، وإنما عنى الشاعر (وقد يعدي الأجربُ الصحيحَ مبركا) فلما وجدوه مقدماً ومؤخراً لم يحسنوا تلخيصه، ووجدوا مبارك لا ينصرف، فأظلم عليهم المعنى، وإنما أراد: وقد تعدى الصحاحَ مباركَ الجربُ)

ص: 19

قلت: (الصحاح مبارك) التي لم يفهمها البدو في ذلك الوقت. . . هي مثل الحسن وجهها في قصة (الصفة المشبهة) ذات الستة والثلاثين وجهاً. . .!

ومن أبيات الكتاب:

فما قومي بثعلبة بن سعد

ولا بفزارة الشُّعري رقابا

قال الشنتمري: (نصب الرقاب بالشعرى على حد قولك الحسن وجهاً، ويجوز فيه (الشُّعرِ الرقابا) على ما أنشده بعده وهو كقولك: الحسن الوجه بالنصب على الشبه بالمفعول به. وصف فزارة بالغمم وهو كثرة شعر القفا ومقدم الرأس، لأنه عندهم مما يتشاءم به ويذم، والمحمود عندهم النزع، وهو انحسار الشعر عن مقدم الرأس، والشعري مؤنث الأشعر، وهو منه كالكبرى من الأكبر، وأنثه لتأنيث القبيلة، والشعر جمع أشعر، فجمع لأنه جعل كل واحد منها أشعر، فجمع على المعنى)

وأختم هذه الأسطر بالشكر للأستاذ المفضال عبد السميع صبري

* * *

ص: 20

‌على ذكر المولد النبوي

للدكتور عبد الوهاب عزام

الذكر العظيمة في تاريخ الأمم نجوم يهتدي بها في ظلمات الأيام، وأعلام يستبين بها الطريق في ضلالات الزمان، ودعوات إلى الحق والخير تدوي على مر السنين. والزمان بالناس دائر لا يفتر، تعتورهم أحداثه، وتتداولهم غيره، فمن لم يعتصم بسبب من الحق، ويستمسك بعروة من العمل الصالح، ضل وانبهمت عليه السبل، والتبس عليه الحق والباطل، والهدى والضلال. ومن لم يجعل له قدوة من سير العظماء تردد وتحير، والزمان لا ينتظر المترددين الحيارى، أو ضل وهلك، والدهر لا يشفق على الضلال والهلكى.

وإن لنا معشر المسلمين من سيرة رسولنا خاتم النبيين نجوماً نيرات، وأعلاماً واضحات، وأسى تهدي إلى الخير والبر، والتي هي أقوم من أعمال الدين والدنيا. إن لنا من سيرة الرسول الكريم هدي في كل صغيرة وكبيرة من أعمال الفرد والجماعة.

فقط حفظ لنا التاريخ سيرته في بيته ومسجده، وفي سياسة الجماعات، وتربية الأمم، وقيادة الجيوش، وفي الإصلاح بين المتعادين، والقضاء بين المتخاصمين، وفي السفر والحضر، والشدة والرخاء، والحرب والسلم، والغضب والرضا، فما تلقانا حادثة من حوادث الزمان، أو عمل من أعمال الحياة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، إلا وجدنا في سيرة سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلوات الله عليه وسلامه مثلاً عالياً، وأسوة حسنة، ورأياً هادياً، وقضاء فصلاً، يهدينا إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. كل فرد منا يجد في سيرة محمد وهديه شفاء دائه، والتحرر من أهوائه، وإصلاح خلقه؛ وكل فرد منا يجد في سيرة نبيه الجهاد في الحياة والصبر على لأوائها، والطموح إلى معاليها، والاستكبار عن دناياها، والإباء على كل ضيم والنفور من كل مذلة

وكل أمة من أمم المسلمين تدوي فيها ليل نهار الدعوة المحمدية تدعوها إلى أن تقوم في أرض الله على عباد الله بقانون الله (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)

وكل أمة على هذه الأرض تجد في هُدى محمد ما يطب ادائها، ويقيم من عوجها. وهل أودى بالجماعات إلا عصبيات باطلة، وأهواء جامحة، وشهوات مسلطة، واستكبار على

ص: 21

الحق، ونفور من العدل؟ هل كب الناس في جهنم إلا ما استعر في قلوبهم من الضغينة، وثار في رؤوسهم من الهوى؟ وهل يعرف التاريخ كمحمد رسولاً جاء بالشرع الجامع، والأخوة العامة، والعدل الشامل؟ هل يعرف التاريخ كمحمد هادياً ألف بين منازع النفس على قانون من العفة والعدل، وألف بين الإنسان والإنسان على شريعة من المودة والأخوة، وألف بين الأمة والأمة على منهاج من الحق والبر والعمل الصالح لخير الناس أجمعين؟ من رفع للناس لواء الأخوة لا يفرق بين الأبيض والأسود، ولا يميز بين المشرق والمغرب؟:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم). من دعا الناس جميعاً إلى التنافس في الخير على اختلاف أديانهم ونحلهم وأنزل عليه: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير). (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعلمون)

أين أنتم من هذه الأخوة الجامعة يا ضلال البشر؟ أين أنتم من دعوة الخير العامة يا دعاة الشر؟ أين أنتم من هذه الرحمة يا قساة القلوب؟ أين أنتم من هذا الصلاح يا فساد الشعوب؟

المسلمون أحق باللوم وأجدر بالتعنيف. فهم أهل هذا الدين وأولى الناس بهديه، وهم هم خذلوه وهجروه، وحفظوا ظاهره وضيعوه. (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) فإن ترهم اليوم في فرقة وشقاق فبما ضيعوا أخوة الإسلام، وإن ترهم في مذلة وهوان فبما فرطوا في عزة الإسلام، وإن ترهم أتباعاً فقد علمهم الإسلام مشرعة السيادة فنبذوها، وأعطاهم أزمة القيادة فأضاعوها

أيها المسلمون، هذه ذكرى نبيكم، وميلاد تاريخكم، ومبدأ مجدكم، ومنشأ سعادتكم؛ فإن شئتم لأنفسكم السيادة والسعادة فكونوا أهلاً لهذا الشرف. كونوا بأخلاقكم وأعمالكم جديرين بأن تسموا أمة محمد. ولا تتخذوا الانتساب إلى محمد هزواً ولعباً، وتحسبوا الإسلام أسماء وأقوالاً، فإنما هو الأخلاق والأفعال والجهاد الذي لا يفتر، فمن شاء أن ينتسب إلى محمد فهذه سنته، ومن شاء مجد محمد فهذه طريقته

(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا).

ص: 22

عبد الوهاب عزام

ص: 23

‌نظرة في مناظرة

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

قال بعض أصحاب الفكر والذوق للمعاني: إن الثقافة وعي أطراف صالحة من أثمار العقول، العلمية والفنية والأدبية، بها يلتفت المثقف إلى المبادئ والأسباب والقوانين والحقائق، ويرشد قومه إلى الأصلح لحالهم، والأنفع لترقيتهم، والأخلق بالإنسانية. . .

ومناظرة الأستاذ العقاد بكلية الآداب - في أن (التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية بين الشرقيين) - هي مشاركة في بحث يمت إلى هذه الثقافة، إذ يرمي إلى إنارة الأذهان بالكشف عن الحقيقة في الخلاف بين الذاهبين إلى الأخذ عن الغرب وبين القائلين بالاقتصار على تراث الشرق، في سبيل نهضتنا؛ والحقيقة تتبين من مقابلة الشيء بضده، والموازنة بين الرأيين

ألقى علي الأستاذ الفاضل عبء الدفاع عن الرأي الذي يصعب تأييده، وهو ابن بجدته، فجاء من الحجج بما يعسر الخروج منه. وكان كلامه، مع إيجازه المطابق لمقتضى المقام، أحسن ما يستطيع مثقف أن يقول في الموضوع. وفي الأدب العربي فصول في مثل إيثار الدمامة على الجمال، ونحو ذلك من الموضوعات التي لا يجيد متناولها إلا بأوفر دراية ولباقة. لكن ذلك الكلام أذكرنا مناقضات نوردو للآراء المألوفة في الاجتماعيات والنفسيات، ورسالة روسو في حمد الجهل وتفضيله على العلم، وقد أجازه عليها مجمع ديجون وكدنا نصدقها يوم قرأناها

استخدم المناظر منطقاً وبياناً في طريقة حصيفة هدته إليها ثقافته؛ وصاحب المنطق يستطيع أن يهدي به ويضل، وصاحب البيان ساحر، والثقافة قدرة إن شاء حائزها أحالت الهدى ضلالا والضلال هدى، وهو لم يشأ، بل أراد فتق الأفكار والآراء بالمناقضة، وتعليم النظر الأدبي وذلاقة اللسان بالمثال البارع؛ وافتتح كلامه بقوله (كان من نصيبي) أن أؤيد هذا الرأي، فكأنه أراد أن ينبه في لطف على قبوله القيام بهذا التأييد كي تقوم المناظرة المفيدة؛ ولم يقل أن رأيه الشخصي هو الاكتفاء بالتراث الشرقي، وإن ساق الحجج الحاذقة في كفايته لنضج الحياة العقلية (عند الشرقيين)

قال: إن تراث الشرقيين هو (ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد

ص: 24

سلوك، وروح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية، وما يصاحب ذلك من فقه شريعة ودين).

أما العلوم الطبيعية التجريبية - يعني العلوم الحديثة - والمعارف الرياضية، فإنها خارجه عن التراث الشرقي والتراث الغربي معاً، لأن (الحقيقة الطبيعية ثابتة في جميع الجهات)، يكتشفها (الإنسان باعتباره إنساناً مدركا حيث كان) و (ما كشف منها في الغرب تتمة لما سبقها منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة، فهي جزء من التراث الإنساني)؛ ولأن المعارف الرياضية (لا تتوقف على المشاهدات والمحسوسات بمقدار ما تتوقف على قوانين العقل المجرد، المعزول عن خصائص الأوطان والأزمان).

لكن تحقيق النظر في التراث الشرقي محصوراً في هذه الحدود يظهر أن لبابه من ثمر أحوال النفس الواحدة في البشر، ومن أحكام العقل البشري ونتائج تجارب الإنسان أينما كان، ومن مقتضيات حاجاته في الحياة الإنسانية: فالحب - مثلاً - في الشرق هو الحب في الغرب، وكذلك البغض أو الشجاعة أو الجبن، أو الفرح أو الحزن وسائر الوجدانيات، وكل أولئك معزول في ماهيته عن خصائص الأوطان والأزمان؛ والإنسان (باعتباره إنساناً مدركا حيث كان)، قد عرف حاجته إلى الحث على الخير والنهي عن الشر، والى إقامة النظام يتقي به آفات الفوضى؛ وهذه المعرفة ونتائجها من التراث الإنساني. ومن الحكم والمواعظ العربية ما له نظائر في تعاليم (كونفوشيوس) مثلاً، أو في أخلاقيات (فوفنارج)؛ وفي الشرائع الرومانية ما يقارب بعض الشرع الإسلامي؛ وفي الأدب اليوناني ما يماثل بعض الشعر العربي، وفي الأدب العربي ما يشبه أمثالاً وحكايات هندية أو فارسية أو غيرها؛ وذلك كله بأن الإنسانية دارجة في تطور عام واحد مطرد، على نحو ما بينه (ريكلو) و (ويلز) وإن لم تخل قبائلها وشعوبها من أنواع التفاوت في المدنية

فمهما كان على هذا التراث من مسحة وطنية ومن أثواب اللغة العربية، فهو في جوهره حلقة من سلسلة الأثمار العقلية والنفسية، وهي سلسلة لا يقف تمددها (منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة).

وتلك أمور إنسانية في صميمها مهما كانت من قبيل ما يمتزج بحياة الشرقيين، و (مصطبغ بصبغة الشرق ويجري على سنته)

ص: 25

وليس هذا بمانع من أن يقال: (إن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين، فهي لاحقة بالتراث الشرقي أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه)، مثل الفلسفة اليونانية كما نقلتها الحياة الشرقية إلى الشرق العربي؛ أو يقال: إن الحقيقة الطبيعية أو الرياضية منسوبة إلى العقل الناضج الذي كشفها - كنسبة قوانين الجذب العام إلى نيوتن - وإن كانت من (التراث الإنساني)

أما العقل فإننا إذا اعتبرناه عضواً في الإنسان، كعينه وأذنه وسائر أعضائه الظاهرة والباطنة، فهو ينضج كما تنضج بالبلوغ وتستحصف إلى الأربعين، وهو يؤدي وظيفته كما تؤدي وظائفها، وذلك منذ تميز الإنسان عن الحيوان في ظلمات الماضي الأقصى، بالنسبة إلى علمنا، من اللانهاية الزمنية، وإنما تميز بقدرة عقله على التصور والقياس والحكم. وعقل الإنسان (يعمل ويفكر، ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه) منذ لم يكن له أي تراث في أي مكان؛ ولولا ذلك لما سما إلى مستوى هذه المدنية. فالسلامة البدنية والصحة النفسية تكفيان وحدهما أبداً لتصحيح العقل الذي يصيب ويخطئ، كما تخطئ العين وتصيب؛ وبين الأفراد تفاوت في حصافته الفطرية كتفاوت حدتها فيهم، ولكنه عقل ناضج بهذا الاعتبار على كل حال.

كان العقل الناضج هذا النضج في الإنسان (يعمل ويفكر فيما يراه ويحيط به) يوم كان صاحبه يعيش عيشه الوحوش المفترسة، ويخشى ظواهر الطبيعة التي يجهل كل شيء من أسرارها؛ ويوم أدرك ضرورة الحد من حريته الفردية الفوضوية، ويوم وضع نظماً للعائلة فالقبيلة، إلى آخر ما هنالك. وهذه مستويات تدرج الإنسان في الرقي إليها مع تدرج عقله الناضج في نضجه التطوري بما غذاه، في كل وقت، من تجاربه وتجارب سلفه وعمل عقولهم الإنسانية

ويتضح مما تقدم بيانه أن العقل باعتباره عضواً من الإنسان له نضجان: نضج أول هو قدرته على تأدية وظيفته الفطرية، وهو عام بين الأصحاء لا يحسن تأديتها إلا به: ونضج ثان هو إدراكه محصول أعمال العقول الإنسانية في زمان معين من حياة البشر مع قدرته على المشاركة في زيادة هذا المحصول أو تحسينه؛ فللعقل البشري في كل مستوى أعلى من مستويات العرفان العام نضج أتم.

ص: 26

والجدير بالنظر إنما هو النضج الذي غذته أثمار العقول الإنسانية في هذا الوقت، والذي يتيسر للمثقف أن يشارك في إنماء هذه الأثمار أو تحسينها، في آية ناحية يميل إليها، فيكون لعمله شأن يذكر له ويشكر، والأستاذ نفسه أدرى الناس بالفرق بين نضج عقله القوي قبل أن يعي كل ما استوعب من الثقافة الغربية، أو العصرية، وبين نضجه بعد ذلك؛ لكن كان عليه أن يعارض رأي مناظريه، فعارضه بطريقة حاذقة شفت عن هذا النضج الأخير، أي عن ثقافة سامية

والخلاصة أن العقل يعد ناضجاً، أو غير ناضج، لا من حيث تأديته وظيفته فحسب، بل من حيث قيمة ما وعى وما ينتج، فهي قيمة مناسبة لدرجة علمه وثقافته، والمهم إذن في النضج إنما هو مستوى (الموضوعات والمواد التي يتناولها) عمل العقل؛ ولذا ليس يمكن أن تنضج للشرقيين حياة عقلية إذا هم لم يأخذوا عن الغرب في هذا العصر. أما إن هم اقتصروا على تراث الشرق بحاله المحدودة في ثقافته عصر غابر كانوا كأنهم عائشون فيه، ولمن أراد بنضج العقل ذلك النضج الأول، أو أراد نضجاً عتيقاً، أن يقول إن (التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، ولم يخل الشرق من العقول الناضجة قديماً وحديثاً)

فهارون الرشيد وابن خلدون كان كل منهما ناضج العقل في مستوى الثقافة العربية في زمانه ومكانه، بعدئذ مضى على خروج العرب من شبه جزيرتهم قرنان إلى ثمانية قرون بنوا دولهم فيها على ما طوعوا للدين والشريعة من نظم ومدنيات وفلسفات لأمم كاليونان والرومان والفرس وسواهم. أما جمال الدين الأفغاني فقد يكون فيما نعتوه به مواضع نظر لعلها تستدعي التحقيق العلمي المتحرر من المؤثرات الوجدانية والسياسية؛ ولولا تفاهة ما أفاد من الثقافة الفرنجية لاختلف شأنه. . .

وليس يصح إن نوازن بين عقول أمثال هؤلاء الرجال وبين عقول تلاميذنا لتفاوت الأسنان والتجارب والمشاغل، ولقلة المحصول في التلمذة فضلاً عن أننا ما نزال في سبيل التحصيل من الثقافة الحديثة؛ ولسنا نشك في أن بين تلاميذنا النجباء من لا يقل في نضج العقل، ذلك النضج الأول، عن أولئك الرجال حين كانوا في سن التلمذة

ألا أن البحار والجبال لم تحل دون التنقل والاتصال بين بني الإنسان من قديم الأزمان حتى عصر الطيران. والناس إلى الآن يفرقون بين الشرقي والغربي، وبين الأسود

ص: 27

والأبيض، والأسمر والأصفر؛ ولكن ما تحت الجلود لون واحد، والأجسام جميعاً مكونة من عناصر وخلايا متماثلة، لا يتميز بها جسم عن جسم إن حلل لم يبق منه سوى أملاح ومواد قليلة، لا تختلف في واحد من هذه الأجسام. وليس يستحيل عقلاً وقياساً أن يتكامل ما بدأ في الدهارير من تطور، وإن يأتي على الإنسان حين من الدهر وطور يصل فيهما بالتجارب أيضاً والتقارب، كلما صغرت عقبة المسافات بسرعة المواصلات، إلى ثقافة واحدة شاملة، تكبح من شر الغرائز، وتهدي العقول والنفوس إلى تفاهم أتم، وسلام أدوم وأعم، في إنسانية أصفى وأسمى نحول المثل الأعلى

لكن ما لنا وللفكر هنا في مثل هذا المستقبل الخيالي الأبعد؟ وحسبنا أن نلاحظ أننا منقادون لسنن التطور، يسوقنا توافر عوامله في وجهته الطبيعية، ولا يمنعه اختلاف آرائنا في موضوع المناظرة إذ نحن في الواقع آخذون عن الغرب كما أخذ عنا؛ وقد نفعل ما فعل السلف الصالح حين صبغوا الفلسفة اليونانية في زمانهم صبغة عربية، وكما فعل اليابان في عصرنا هذا

فلا يفهن أحد من الرجعيين أو من الشباب مضللاً بشهوة جاهلة، أو بعاطفة غالبة، أن المناظر الفاضل أراد في تأييده القوي لذلك الرأي القائل أن يقتصر الشرق العربي على تراثه، ويهمل كل ما فيه ذرة حديثة أو غربية، ثم يعمل بهذا التراث وحده إلى أن يبلغ مستوى يسابق فيه الغرب في الرقي؛ لأن ذلك مستحيل عملياً وإن جاز فرضه نظرياً؛ وإذا نحن جارينا هذا الفرض الخيالي انتهى بنا التخيل إلى أن الشرق، يوم يبلغ ذلك المستوى، قد يجد أن الغرب رحل إلى السيارات يستعمرها أو ما شاكل هذا من الأعاجيب التي لا يعرفها العلم. وليس من المعقول أن يهمل الشرق كسب الإنسانية في قرون ليكد هو قروناً مثلها في تحصيله.

محمد توحيد السلحدار

ص: 28

‌من آثام الربيع!

(إلى صلاة جريحة ترتعش في زمني بعد الغروب. . .)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

مَضَى رَبيع وتَهادَى رَبيعْ

ولم يَزَلْ حَوْلي هُمودُ الشِّتاءْ

لَا عِطْرَ في الفَجْرِ لِقَلِبي يَذِيع

وَلَا شَذىً للرُّوحِ عِنْدَ المَسَاءْ

يَمُرُّ في صَمْتِي النَّسِيمُ الوَدِيعْ

إِعْصَارَ لَيْلٍ في مَغَانِي فَناءْ

وَمَا بِكَأسِي غَيْرُ هَذا الأَنِينْ

وَلَا بِجُرْحِي غَيْرُ هَذا النَّغَمْ

غَدَا زَمَاني جَذْوَةً مِنْ حَنِينْ

وَعُمْرِيَ المَشْبُوبُ رُؤْيَا عَدَمْ!

نَزَعْتُ نَفْسِي مِنْ ضَجِيج الحَيَاهْ

وَطِرْتُ كالنَّسْرِ لأِعْلَى الْقِمَمْ

الْغَيْبُ حَوْلي سَابحٌ في أَسَاهْ

والصَّمْتُ مَشْبُوبُ الْهَوى مُضْطَرِمْ

وَإِذْ عَلَى سَفْحِ الَّليَالي (فَتَاهْ)

مَذعُورَةُ الرُّوحِ كَشَجْوِ الحُلمْ

سَأَلْتُهَا: عُمْرِي طَوَاهُ الْجُنُونْ

فَهَلْ بِكَفَّيْكِ لِجُرْحِي شفاءْ؟

قالتْ: رَبِيِعي أَزْهَقَتْهُ السِّنُونْ

وَمَا بِكَفِّي غَيْرُ هَذا الشِّتَاءْ!!

ص: 29

‌7 - أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(أكره أن أضايق القراء ببحث مطول في مجلة، ولكن رغبة

الأستاذ الكبير الزيات، وفيض الخاطر في هذا الموضوع

الخطير، حببا إلي أن أعود إليه)

إنسان غير مفهوم - أوربا المعمرة المدمرة - نكسة - خديعة

ذهبت إلى جهنم! - نغمات وترتيلات جديدة - تناقض بين

حياة الأرواح وحياة الأجسام - من الطبيب؟ - قانون طبيعي

ينتقم لنفسه

الغربي إنسان غير مفهوم! فقد كفر الأوربيون بالحياة في هذه الحرب بعد أن جنوا بها جنوناً في وقت السلم. وهم لا يذكرون السلم في هذه الحرب كما لم يذكروا الحرب في فترة السلم

لم يتخذوا من قانوني الحياة والموت حداً وسطاً يقيمون عليه حياتهم وما استخلفوا عليه من حياة الآخرين، فيعيشوا على كفتي ميزان معتدلين آخذين حظاً صالحاً يعدل السلام ويعدل الحرب

هم فجروا في فترة السلم: فتشهوا وكفروا وعبدوا الهوى واحتقروا الضعيف وشرهوا للمال وغصبوه من أفواه الآخرين بالحديد والنار، وخانوا أمانة الاستخلاف على الأرض، وتنازعوا على الطعام الكثير كما يتنازع الأطفال!

وهم فجروا في هذه الحرب، فلم يرعوا حرمات الحياة الإنسانية التي قدستها الأجيال: فصبوا العذاب على الأطفال والنساء والمستضعفين والمرضى وسكان المعاهد والمعابد المسالمين، وحرقوا الأقوات والأرزاق والمأوى. . . فحياتهم لا تحتمل ولا تستحق العمل بعد هذه الحرب إذا أصروا على أن يلجئوا لحرب أخرى بهذه الكيفية النكراء التي تدمر ما

ص: 30

عمروا وعمر الناس. . .

من يصدق أن أوربا البانية العالمة المعمرة المخترعة العابدة للحياة، الساعية الجاهدة في سبيل الكشف والمال والاختراع، الباحثة المنقبة عن خبايا الأرض وركازها، الرائدة الكاشفة عن مجاهلها، المبشرة بالمثل العليا بين الأجناس المتخلفة، القاضية على تجارة الرقيق، الحاملة للتجارات والمعلومات، الواصلة بين أقطاب الأرض صلة اللاسلكي والراديو والتلفزيون، المرسلة (المبشرين) لتحرير الناس من الوثنية، الدارسة للأنواع والأجناس. . . هي هذه المخربة المدمرة الباطشة بطش النمور والأسود، القاسية على النساء والأطفال والضعفاء، المفتنة في رسائل الآلام، الهدامة للدور، المحيلة عمار المدن إلى خراب القبور؟!

الأجسام العاجية الجميلة تذوب وتصهر وتسحق عظامها وجماجمها تحت أثقال الحديد والجلاميد. . .!

الوجوه المشرقة البيضاء ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية ذهبت قرابين تأكلها النار باختيارها

مسكينة! طافت في جميع بقاع الأرض تجمع الذهب الأصفر والذهب الأسود والحديد، ثم أوقدت على الجميع في النار واحترقت معه!

جمعت في أنانية وجشع واعتزاز واعتزام. . . لا لتملأ البطون الفارغة، وتكسو الأجسام العارية، وتعين أبناء الحياة على نوائب الحياة، ولكن لتملأ أفواه المدافع وبطون المقابر. . .!

خلاصة الإنسانية العاملة المجاهدة المتاجرة المخربة العالمة. تحترق الآن على مشهد من الزنوج والإسكيمو!

الحياة تتحطم بأيدي بنائها ومقيمي صروحها العالية وجامعي مواد بنائها من لحومهم وعظامهم ودمائهم وذهبهم وحديدُهم ونور عيونهم في المعامل والمعاهد!

الغادة اللعوب الفاتنة ذات المساحيق والأصباغ والعطور والأزهار واللؤلؤ والديباج (والمونوكير) تتكشف عن العجوز الشوهاء الدرداء المريضة الرسحاء العجفاء ساكنة الكهوف والمغارات، الضاربة على الدف لشن الغارات!

ص: 31

الأم العاقلة العالمة تصيبها جنة وجهالة فتأكل بناتها وبنيها!

لندن وبرلين عليهما الخراب والدمار صباً فيباد ما فيهما من مراكز نمو الحياة وعلب أسرارها (وقماقم) أجنتها وولائدها. . .!

والإنسانية الجاهلة الغافلة المقيمة بالأكواخ في القارة السوداء وأواسط التبت ترى هذه الإنسانية العالمة المدبرة الجميلة تشن الغارة على الحياة بالزلازل والبراكين والصواعق الصناعية. . . فتحمد الله على الحياة في الغابات مع الأسود والقرود التي لا تلتقم منها إلا أفراداً!

الحياة تصاب بنكسة حادة يا أطباء الحياة. . . فهل من دواء لها فيما صنعتم من العقاقير والأقرباذين؟!

كنا أوشكنا أن نعبد الدنيا ممثلة في لندن وباريس وبرلين، وننسى نهاية رحلتنا في هذه الدنيا غرباء عابري سبيل، لا تملك المكث ولا البقاء، ونخضع لقوانين الزوال والفناء، ويدور الفلك بنا دورات حتمية تشب الطفل وتشيب الصغير وتفني الكبير وتلقي بنا إلى العالم المجهول. . .

وكنا أوشكنا أن نظن تلك الأجسام الأوربية القوية الجميلة الرقيقة الرشيقة الذكية هي الإنسان المقصود بالحياة. وأما من عداها (فحيوانات بشرية) - كما تعبر الهتلرية - ومخلوقات تكميلية خادمة لها تعيش على هامشها وتسير في خدمتها، وقبح اعتقادنا في أنفسنا تبعاً لذلك حتى تركنا لها الأرض طوعاً وكرهاً وخلينا لها مكاننا من الدنيا. . .

وكنا اعتقدنا أن عناوين النظم الأوربية ثابتة لا تتزلزل، ونظمها البارعة عزيزة على أصحابها، وأن الإنسان الأوربي مقدس لدى نفسه وأممه، فلا تحطيم لدنياه ولا نسف لنظم حياته ولا تمثيل به ولا سحق ولا نثر لأشلائه. . .

وكنا أوشكنا أن نرى العالم المادي الدقيق الذي صار التنويع فيه والتشكيل والتلوين والدقة والتركيب كأنه دنيا أخرى من مخلوقات الحديد والصلب والخشب وسائر المواد الجامدة منفصلة عن روح الحياة في الإنسان فأخذنا نعيش بها عيشة آلية صخابة بدون وعي ووداعة وإحساس من الروح ويقظة للمصير المحتوم!

ولكن هذه الحرب أخلفت تلك الظنون الخاطئة، وصححت أفهامنا الفاسدة، وكشفت عن

ص: 32

أبصارنا غطاء التمويه وسحر التخييل، فإذا بنا نعود وإذا بالأوربيين أنفسهم يعودون معنا إلى المعاني الأزلية الخالدة التي بزغت من قلوب أنبيائنا واستنزلوها من السماء بالإخلاص والبكاء لرب الحياة الذي وضع الإنسان فيها موضعه بين الأهوال والألغاز والأسرار. . .

وإذا المثل العليا تعود ذكراها إلى الألسنة والأقلام يرددها الساسة وسماسرة المال! ويخطبون فيها خطابة الأنبياء والمرسلين بين عباد الأوثان بالبيان الساحر والحجج الأخاذة، والإذاعة العريضة الواسعة

وإذا الترتيلات بالحق والسلام والعدالة تنبعث من جميع بقاع الأرض وتنطلق بها حناجر الناس جميعاً، وتزيد كل أمة في طنبورها نغمة

وإذا بالنظم الأوربية الظالمة الجائرة المتحجرة تذوب وتنماع تحت حرارة أنفاس الدعاة إلى السلام والحق والعدالة، وتحت نيران هذه الحرب التي انتقمت شر نقمة من طغيان السياسة والرأسمالية والدعوات الهدامة

وإذا بالروح الإنسانية الوديعة الرحيمة المؤمنة بالله وبالإنسانية تعود في جو مخضب بالدماء، مندي بالدموع، مطرز بالآلام، إلى القلوب المهجورة القاسية الكافرة، كما يعود طير شارد تائه إلى عشه المهجور، ومكان حنينه وأشواقه، فيراه خرباً منثور الأعواد، عبثت به الرياح، وعششت فيه العناكب. . . فما يزال يضم عوداً إلى عود، وورقة إلى ورقة، ويرفرف عليه بجناحيه حتى يطرد عنه أنفاس السوء وأوساخ الحشرات، ثم يعمره بالرحمة والحب والحنين. . .

لقد بنى الغربيون حياتهم على مناعة الأجسام وحدها من أمراضها، ولم يبحثوا عن وسائل مناعة الأرواح من آفاتها. فأخذوا الحياة من جانبها الضعيف وتركوا الجانب الآخر، وقوانين الطبيعة لا ترحم من يخالفها ولا تحابيه، بل تدافع عن وجودها وتهدم من يحاول هدمها

فمن يدع ثغرة في بناء الحياة من غير سدها أوشك أن يدخل منها إلى البناء ما يأتي عليه من القواعد، ويجعله خاوياً على عروشه

وكان جديراً بالإنسان الأوربي الذي يعرف حجم الميكروب الصغير وخطورة آثاره، فيحترس منه ويقيم الأرصاد والجواسيس خشية اقتحامه عليه ثغرة من ثغرات جسمه. . .

ص: 33

أن يعرف أن للحياة الروحية جراثيمها الفتاكة فيجاهد لكفاحها وقتلها كما يفعل بأخواتها جراثيم الأجسام، حتى تسلم جميع قواعد بناء الحياة من أسباب الانهيار

ولكنه لم يعرف بعد الجراثيم الروحية، ولا يزال روحه يعيش في عصر التطبيب بالخرافات، كما كان يعيش في عصر الخرافات في طب الأجسام. . .

ولا يزال يسخر بأطباء الأرواح وعلاجاتهم كما كان يسخر بأطباء الأجسام حين يفاجئونه بكشف جديد لمرض قديم

فإلى أن يؤمن بما يصنع له طب الأرواح ويعمل به سيظل شقياً بتلك الأمراض التي هي اشد فتكا من الطاعون والسل والجدري وغيرها من الأمراض التي تهدم الإنسان وحده، ولا تهدم معه تاريخه ومبادئه ومبانيه وأمواله. . . فمن أعراض أمراض الروح تلك القنابل والصواعق والحرائق التي تترك المدن التي صبت فيها جداول المدنية والعلوم والتقت فيها الحضارات وثمار الجهود المشتركة خراباً ودماراً كأن لم تغن بالأمس

ولكن ينبغي له قبل ذلك أن يخرج من بين أطباء الأرواح أولئك الدجالين المشعوذين والأغبياء المحدودين الذين قد يقتلون النفوس بالعلاج الخاطئ، أو يغلقونها دون رحمة الله أو يصيبونها بعاهات، أو يعالجونها بالخرافات والشعوذة وأسباب الضلال، كما فعل بأشياعهم الذين كانوا يندسون بين أطباء الأجسام من قبل. . . حتى يستقيم علاجه على أيدي الأخصائيين الذين خلقهم الله لقيادة النفوس بالسلوك والمعاملة والبيان الواضح والفكر المضيء المنير. . .

أولئك الأوصياء لا يلزم أن تكون منهم في الأمم كثرة. بل ينبغي أن يكونوا قلة؛ حتى لا تصيبهم مصائب الزحام على الأرزاق والوظائف. . .

ويجب إلا يرتفعوا إلى المناصب بالوساطات والشفاعات و (الشهادات) بل بأنفسهم وما فيهم من خلق الوصاية الرشيدة والسياسة الحكيمة، والقدرة على إدراك الداء في كل نفس، ووصف العلاج

وينبغي أن يدقق في اختيارهم غاية التدقيق. وينبغي أن تكون وسائل العلاج هي ما صلح من مواريث القديم، وأصلح الآراء في علم النفس الحديث. . . أي ينبغي أن يكون علم النفس هو أساس التربية الروحية والدعوة إليها كما صار علم وظائف الأعضاء وعلم

ص: 34

الأغذية أساس الطب الجسدي الحديث

وعلم النفس أوشك أن يكون من الدقة والصحة بحيث يستطيع أن يضع الإنسان في المخابير والمسابير ويقيس كل ما فيه بأرقام لا تخطئ!

إن قوانين الروح قد غضبت وانتقمت لنفسها شر نقمة من الإنسان الذي لم يقم لها بعد وزناً. وأنه لجهل وصفه إلا يفطن الإنسان الأوربي بعد إلى أن يحمي نفسه من غضبها ونقمتها كما يحتمي من غضب قوانين صحة الأجسام

أنه يحشى أن يمد يده في النار لئلا تحرق، أو يلقي نفسه في الماء لئلا يغرق، أو يقف في طريق قاطرة لئلا يسحق. . . ولكنه يرضى لنفسه أن يبخل فيسرق، وإن يطمع فيكره، وإن يستبد فيحارب؛ وإن يخل موازين العدل فتفسد حياته بفساد حياة الآخرين، وإن يترك الناس إخوانه جاهلين مرضى الأجسام والنفوس فيحرضوه ويشقوا حياته بشقائهم. . .

كلمة يجب أن تعلم وتكرر دائماً أمام الدولة وأمام الفرد وهي:

إن الدولة كائن عضوي واحد كالجسم الواحد ذي الروح الواحد. . . فإذا سمحت لشيء منه ولو كان ظفراً أو منبت شعرة أو خطرة نفس أن يدخله الفساد، فسيلحق الجسم كله - وأنت خلية فيه - آثار ذلك الفساد وآلامه

فأحذر أن يمرض أخوك أو خادمك حتى لا تنتقل عدواه إليك. . . واشترك في إطفاء الحريق في بيت جارك قبل أن تمتد النار إلى دارك!

عبد المنعم خلاف

ص: 35

‌الكتب

وحي المطبعة

كتب جديدة

للأستاذ سيد قطب

دائرة المعارف الإسلامية - علم اللغة - ضحكات إبليس -

أسبوعان مع علي ماهر في السودان

لست أدري لم يغمرني شعور بالنشوة كلما أخرجت المطبعة العربية كتاباً جديداً، وبخاصة في هذه الأيام التي يرتفع فيها ثمن الورق وتكاليف الطباعة بينما تنصرف الأذهان عن الكتب وعن الدراسة إلى الأخبار اليومية والى ضجيج الحرب وويلاتها

بل أنا أدري سبب هذه النشوة وهو الشعور بأن الأمة العربية حية نامية لأنها تقرأ، والقراءة هي الدليل الذي لا يخطئ على الحيوية والتطلع إلى آفاق جديدة ومستقبل خير من الحاضر. فإذا كانت لا تزال تقرأ، أي لا تزال تحيا وتتطلع في هذا الجو الخانق الذي يشغل الذهن والقلب عن كل شيء، والذي يبث اليأس والقنوط من الإنسانية ومن المعرفة والثقافة جميعاً، فهذا دليل لا ينقض على أن في هذه الأمة ذخيرة وإن فيها أملاً

وسبب آخر وهو شعوري ببطولة المؤلفين الذين يؤلفون ويطبعون وينشرون فيضطلعون بمهمات ثلاث لا يضطلع أمثالهم في أوربا وأمريكا إلا بواحدة منها مع عظم الفرق بين البيئة والظروف التي تحيط بهؤلاء وهؤلاء

ولعل هذه البطولة تتجلى حين نعلم أن عدد الناطقين باللغة العربية في جميع أنحاء العالم يبلغون حوالي الأربعين مليوناً، نسبة المتعلمين فيهم لا تزيد على خمسة في المائة (2. 000. 000)، ونسبة المثقفين في هؤلاء المتعلمين لا تزيد على عشرين في المائة (400. 000) ونسبة القارئين في هؤلاء المثقفين لا تزيد على 25 في المائة (100. 000) مقسمين بحسب ميولهم وثقافتهم على أنواع التأليف المختلفة، فأقصى ما يطمع فيه مؤلف أن يقرأ كتابه عشرة آلاف في جميع أقطار العالم، وهو رقم نظري يهبط عند التطبيق العملي إلى النصف

ص: 36

بينما عدد الناطقين باللغة الإنكليزية مثلاً يبلغ نحو مائة وثمانين مليوناً نسبة المتعلمين منهم تبلغ نحو 80 في المائة، ونسبة المثقفين في هؤلاء المتعلمين لا تنقص عن 50 في المائة، ونسبة القارئين من هؤلاء المثقفين لا تنقص عن 50 في المائة. فعدد من يطمع المؤلفون في قراءتهم للكتب لا يقل عن 36 مليوناً من القراء موزعين بطبيعة الحال على حسب مذاهب التأليف ورغبة كل فريق في نوع معين منه بحيث يخص كل مؤلف نحو مليون قد يهبط عند التطبيق العملي إلى نصف مليون

وهذه الموازنة تبين مقدار بطولة المؤلفين بلغة العرب وضآلة الجزاء الذي ينتظرونه على مجهودهم بالقياس إلى زملائهم الإنجليز أو الفرنسيين. ومع هذا فالمشهورون منهم محسودون

جالت في نفسي هذه الخواطر وأنا أتلقى المؤلفات الأربعة التي وردت في عنوان هذا المقال، فرددت قول القائل:(فليسعد النطق إن لم تسعد الحال!)

دائرة المعارف الإسلامية:

منذ سنوات خلت ران اليأس على كثير من نفوس الشبان المتخرجين في الجامعة وسواها، لأن أبواب العمل قد سدت في وجوههم، وارتفعت الأصوات بالشكوى، لأن المثقفين لا يجدون ما ينفقون فيه ثقافتهم ونشاطهم

وفي ظلام ذلك اليأس وضجة هذه الشكوى كان جماعة من لشبان يأوون إلى حجرة مفردة في عمارة كبيرة وضعت عليها (لافتة صغيرة) باسم (لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية)، ومن حولهم غرف كثيرة لأعمال كثيرة ليس بينها وبينهم صلة في سمت ولا اتجاه!

وفي هذه الحجرة المنعزلة لم يأذنوا لظلام اليأس الذي يغشى حياة الشبان، ولا لضجة الشكوى التي يتعزون بها في هذا الظلام، أن يطرقا بابهم، ولا أن يعكرا عليهم لذة العمل الذي اتجهوا إليه في عزيمة وصبر وسكون

عرفت في ذلك الحين بعض أعضاء اللجنة، وشاهدت خطواتهم الأولى في عملهم المرتقب؛ ثم مرت السنون وانقضت الأيام، وتعاقبت أحوال وظروف على هؤلاء الشبان وعلى مصر والعالم، ولكنهم لم يقفوا يوماً ما عن عملهم المختار؛ وإذا بي أجد لدي في هذا العام المجلد

ص: 37

الرابع من مجهودهم الضخم وعددين من المجلد الخامس، وإذا مصر والعالم الغربي كله ينتفع بمجهود هذه الجماعة الصغيرة العاملة في صمت العلماء وتواضعهم، وإذا المسلمون يعرفون من (دائرة المعارف الإسلامية) أكثر مما عرفوه من الكتب الإسلامية العربية، لأن الدائرة تركز ما حوته تلك الكتب وتشير إلى مراجعه، ثم تناقشه وتدلي بالآراء المختلفة فيه، وتزيد عليه ما كتبه كثير من المستشرقين عن الشؤون الإسلامية، وتعليقات من كبار المسلمين الأحياء على كتابة المستشرقين؛ وإذا الدائرة بعد هذا كله مرجع ثمين من مراجع الإسلام وبلاد الإسلام، ودليل مرشد إلى المراجع الكثيرة في مؤلفات المسلمين وغير المسلمين

ولست أدري كم قارئاً عربياً أقبل حتى اليوم على قراءة (دائرة المعارف الإسلامية)، ولكنني أدري أن كل مثقف عربي في حاجة لأن يقرأها ليجد فيها كثيراً جداً مما لا يعثر عليه إلا متفرقاً في مؤلفات عربية ضخمة، ومما لا يعثر عليه في الكتب العربية على الإطلاق، وليس هذا بالمغنم اليسير

علم اللغة

الدكتور علي عبد الواحد وافي مؤلف هذا الكتاب شاب تخرج في (دار العلوم)، ثم درس في فرنسا حتى حصل على الليسانس والدكتوراه في الآداب من جامعة باريس، والآن هو أستاذ بكلية الآداب

وليس هذا كل ما يذكر للمؤلف، فكثيرون تخرجوا في (دار العلوم)، وكثيرون درسوا في أوربا، ولكن قليلين هم الذين انتفعوا بدراستهم وثقافتهم كما انتفع الدكتور علي عبد الواحد وكتاب (علم اللغة) مثل لهذا الانتفاع الناضج المكين

قرأت هذا الكتاب، فإذا هو الأول من نوعه في اللغة العربية، وإذا الجهد العلمي والدراسة والاطلاع على الكتب العربية والإفرنجية في موضوعه واضحة أشد الوضوح، وإذا الرغبة في الكمال متجلية فيه كل التجلي، فلم يكن هناك جهد يجب بذله في الإتقان لم يبذله المؤلف بوفرة وسخاء

والكتاب مقسم إلى ثمانية فصول بعد المقدمة والتمهيد هي: نشأة اللغة الإنسانية وتطورها، لغة الطفل ومراحلها ومبلغ تمثيلها لنشأة اللغة الإنسانية وتطورها، فصائل اللغات وخواص

ص: 38

كل فصيلة منها وما بينها من صلات، صراع اللغات، تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات، تطور اللغة وارتقاؤها، أصوات اللغة، حياتها وتطورها، الدلالة وتطورها

وبعض هذه الفصول نشر في (الرسالة)، ولعل الذين اطلعوا على ما نشر ثار في نفوسهم ما ثار في نفسي من الشوق لأن يقرءوا المؤلف كاملاً متسلسلاً متناسقاً. فلقد كان كثير من الأفكار عن اللغة متقطعاً مشوشاً، حتى جاء هذا البحث فنظمه ورتبه وكساه الثوب العلمي، وصور اللغة كائناً حيا حياة حقيقية واضحة الملامح، تخضع لقوانين ثابتة، لا للمصادفات والأهواء.

وفي هذا الكتاب درست خصائص اللغة التي تدل عليها عنوانات الفصول، ودرست خصائص المؤلف في آن واحد!

فالوضوح والدقة والعناية بالشواهد والأمثلة ودراسة كل ما يتعلق بالموضوع وغربلته ومناقشة الآراء المختلفة والاستقلال في الرأي بعد هذه المناقشة، واستخدام كل شوارد المعلومات المتعلقة بالفكرة. . . كل هذه الخصائص تلمحها في الكتاب وتلمحها في صاحبه على السواء.

وقد طالعت بلذة وشغف الأمثلة التي أوردها المؤلف من دراسته لتطور اللغة عند (ابنته عفاف) وأعجبت بانتباهه وصبره على ملاحظتها فتلك بعض سمات العلماء، وأخشى أن يكون تطور اللغة عند هذه الطفلة متأثراً بمصاحبتها لأبيها أكثر من مصاحبتها لأمها، وإن يكون في هذا التطور شيء من البعد عن الطريق المألوف للأطفال الذين يتأثرون بأمهاتهم أكثر من آبائهم؛ فإن طريقة المرأة في الحديث وقاموسها اللفظي ونوع معاملتها وتدريبها لطفلها غير طريقة الرجل في هذا جميعه.

وشيء وددت لو خلا منه الكتاب، فقد عني الدكتور بإثبات المصطلحات الإفرنجية مرة بالحروف اللاتينية ومرة بالحروف العربية مع ذكر ترجمتها. وتلك دقة مشكورة، ولكنها تشوش ذهن القارئ العربي الذي لا يعرف لغة أجنبية، والذي يعرف على السواء. وكان يكفي كتابة المصطلحات بالحروف اللاتينية مع إثبات ترجمتها العربية فالقارئ العربي الذي يعرف لغة أجنبية لا يحتاج لكتابة الاصطلاح الإفرنجي بحروف عربية ولا ينتفع به والذي لا يعرف لغة لا تجديه صورة الاصطلاح بالحروف العربية شيئاً وحسبه ترجمة

ص: 39

وذلك مأخذ شكلي صغير. أما الكتاب كله فتحفة للمكتبة العربية جدير بأن يفتح للنقد اللغوي والأدبي مجالاً جديداً في مطالعات القراء.

ضحكات إبليس

هي قصص قصيرة كل منها ضحكة خفية أو غمزة متوارية تبدو فيها (العفرتة) التي تهيئ للعنوان العام!

وقد أصدر مؤلف هذه المجموعة الأستاذ صلاح الدين ذهني مجموعة قبلها باسم (رئيس التحرير) وقصة طويلة اسمها الدرجة الثامنة، وهذه هي محاولته الثالثة

تضم هذه المجموعة أربع عشرة قصة قصيرة؛ والقصة القصيرة أصعب وأدق من القصة الطويلة التي تتسع للترسل والعرض والتحليل، كما أن القصة أصعب على العموم من الرواية، لأنها تستغني عن الوقائع الروائية، فلابد أن تستعيض عنها بعناصر أساسية في صلبها تعوض هذا النقص، وتلذ للقارئ لذاذة العنصر الروائي الجذاب

ومؤلف هذه المجموعة قد خطا خطوات تستحق الالتفات في مجموعته الجديدة، ففيها خمس قصص على الأقل تعد ناضجة كاملة وهي نسبة كبيرة جداً في فن ناشئ في اللغة العربية لم يتعد حتى اليوم حدود المحاولات، وهذه القصص هي: مانكان، وقريتنا النموذجية، وكلاب وناس، والعفريت، والتوبة

والقصص الثلاث الأولى اجتماعية تلمس ثلاث جوانب في حياتنا الاجتماعية المصرية تصور أولاها (كاريكتيرا) صادقاً لكثيرين من المشتغلين بالمسائل السياسية، الذين لا تتعدى وسائل نجاحهم في هذه المسائل أن يكون كل منهم (مانكان) دمية لا رأي لها ولا عقيدة إلا شرح آراء الآخرين ومناصرتها والتقلب على أشكالها، وتصور الثانية (كاريكتيرا) حقيقياً لتفكيرنا في إصلاح الريف ذلك التفكير الذي يجنح للترف والرفاهية والظواهر ويغفل المشاكل الحقيقية ولا يحاول الاتصال بعقلية الريف الصميمة. وتصور الثالثة (كاريكتيرا) مؤلماً لتفاوت الحياة بين قوم وقوم في مصر، حيث يموت الناس في سبيل الكلاب المدللة المحبوبة عند الأسياد المترفين!

والقصتان الأخيرتان إنسانيتان ملونتان باللون المصري، اختار لأولاهما شخصية (وكيل المحامي) في الحي البلدي، فأبدع في تصويرهما معاً إبداعاً ذكرني بالقصص الروسي

ص: 40

البسيط العميق. واختار للثانية شخصية (الزوج المقامر)، الهاجر للبيت والزوجة حين يستيقظ ضميره؛ وقد استوحى فيها قصة (مفلسة نيم) للكاتب الفرنسي (أندريه ديماس)، وبالفعل جاء أفقها أوسع من آفاق القصص الأخرى.

وفي القصص الباقية محاولات تنبئ عن تبلور وشيك، وتركز مرقوب

أسبوعان مع علي ماهر في السودان

مؤلف هذا الكتاب الأستاذ (محمد حسنين مخلوف) شاب اشتغل بالصحافة حيناً من الزمن فانطبع تفكيره بالطابع الصحفي. وفي كتابه يبدو هذا الطابع واضحاً: العناية بالأخبار والدراسة السريعة المختصرة المفيدة للحوادث والمظاهر، والسرد الممتع الجذاب. . .

وتبدو في هذا الكتاب (روح الدعاية)، ولكن هذا لا يؤثر في شخصية الكتاب، ولا يحجب ما فيه من لذة موضوعية وفائدة محققة، فلست أنكر أن السودان كان قبل قراءتي لهذا الكتاب شيئاً غامضاً مجرداً من التعاطف الحي بينه وبين نفسي. كان فكرة سياسية في خاطري كل ما يجمعني به هو أنه شطر وادي النيل الذي يحتم علي الإخلاص الوطني والكبرياء القومي أن أستمسك به، وأدعو للاستمساك به. . .

ولكن السودان قد استحال في نفسي بعد قراءة هذا الكتاب كائناً حياً يعاطفني وأعاطفه، وقد شعرت بحقيقة الأواصر الدموية والعاطفية والعقلية والاقتصادية والسياسية التي تربط شطري الوادي، وتعيد وقائع التاريخ الجامدة قصة حياة نابضة

وكل مصري في حاجة إلى الاطلاع على هذا الكتاب؛ وإن وزارة المعارف لتحسن صنعاً لو جعلته في متناول أيدي مدرسيها وطلابها، إذا شاءت أن يحس الجميع إحساساً حياً قوياً بحقيقة العلاقة بين مصر والسودان، وشاءت أن تمد القومية المصرية بجرعات منبهة، وإن تحيل مصر والسودان فكرة واضحة في هن الناشئة. وهذا ما يجب أن يكون.

(حلوان)

سيد قطب

ص: 41

‌البريد الأدبي

مساجلات

1 -

عرفتُ من كلمة الأستاذ (ا. ع) كيف كان وجه الخلاف بيني وبين حضرة صاحب العزة العوامري بك يوم تعقبته في جريدة (البلاغ) بمناسبة الكلمة التي نشرها في مجلة المجمع اللغوي عن (التجديف) وكنت ظننت أن تعقيبي كان يرمي إلى إقرار كلمة (التقذيف) لأن ورودها في مؤلفات الشعراني بهذا الضبط يشهد بأن المصريين لا يقولون (تجديف) إلا كما يقولون جال في مكان قال، وأهل اليمن ينطقون القاف جاف، وعلى سنتهم يسير بعض أهل الصعيد وبعض أهل الشرقية

وأختصر الطريق فأقول: يرى العوامري بك أن التجديف والتجذيف والتقذيف كلها خطأ، والصواب: الجدف والجذف والقذف.

فهل أرجو من الأستاذ (ا. ع) أن يحكم بيني وبين العوامري بك؟

إليه أقدم البرهان فأقول:

الجدف أو الجذف أو القذف لا يصور الحركة التي يثيرها المجداف أو المجذاف أو المقذاف. والعرب لا يضعفون الفعل إلا وفقاً لغريزة لغوية تجعل الفعل المضعف أصرح دلالة في تعيين المعنى المراد، ومصدر المجرد لا يؤدي الصورة التي يؤديها مصدر المضعف، فقطع الحبل غير تقطيع الحبل، والمقذاف لا يَقِذف وإنما يُقذِّف، كما تشهد عملية التقذيف

أما القول بأن كلام الشعراني لا يغني في الاستشهاد فمردود بأني لم أقصد الاستشهاد وإنما قصدت الاستئناس، والشعراني يحكي كلاماً صحيحاً لا غبار عليه، إلا في نظر المتكلفين، وحوشي العوامري بك من التكلف، فهو من أعضاء المجمع اللغوي، وهم رجال يبيحون الاستئناس بكلام العوام في مختلف اللهجات!

وسكت الأستاذ (ا. ع) عما قلت به من استيطان الألفاظ، والاستيطان هو الاستوطان، ولعنة الله على الإعلال فهو إعلال!

فهل يكون سكوته دليل القبول؟

2 -

لما جمع الأستاذ السباعي بيومي فخوراً على فخورين تعقبه (ناقد جليل) بكلام يأخذ

ص: 42

قوته من السماع والقياس، فما رأي الناقد الجليل إذا رجوته أن يتسامح في جمع فخور على فخورين وجمع غيور على غيورين؟ وما رأيه إذا صارحته بأن التصحيح في أمثال هاتين الكلمتين أقوى في الإبانة من التكسير؟ وهل تكون كلمة غُير في مثل قوة كلمة غيورين؟ في التكسير نفسه شواهد تؤيد القول بحرص العرب على زيادة المبنى: فأسد يجمع على أسد يجمع على أُسْد وأُسود، فهل تجري أُسد على ألسنة الناس بقدر ما تجري أسود؟

يضاف إلى هذا أن البلاغة قد توجب الخروج على القياس في بعض الأحيان، وهل كان القياس في أغلب مناحيه إلا ضرباً من الشذوذ؟ وإلا فبأي حق يكون (فَعِيل) بصورة واحدة في التذكير والتأنيث إذا كان بمعنى مفعول؟ وما الذي يمنع من الاستئناس بقول صاحب اللسان (امرأة دفينة) وقد جرى كلامه على الأصل في التفرقة بين المذكر والمؤنث؟ والقِدْر بدون تاء في كلام الشعراء، وهي قِدرة على ألسنة العوام في مصر، فأي اللفظتين أفصح؟ الأفصح هو قِدرة، لأن التاء تؤكد التأنيث، ولو كره العوامري والنشاشيبي

وخلاصة القول أني أدعو إلى التخفف من أثقال التصريف حين تطغى العلة الصرفية على المعنى اللغوي، ولو كانت مراعاة التصريف نافعة في جميع الأحايين لراعاه العوام وهم أصدق إحساساً بمدلولات الكلمات، لأن محصولهم اللغوي يتكون من ألفاظ تنبض بالحياة في كل وقت، فالعوام يقولون: إوعَ، والصرفيون يقولون: عِ. وهل تكون عِ أفصح من إوعَ إلا في نظر من يستخفون بحكم العقل؟ والعوام يقولون في أغانيهم: إوْفِ بوعدك، والصرفيون يقولون: ف بوعدك. فأي الكلمتين أفصح؟

وخادم يذكر ويؤنث، ولكن عوام مصر لا يقولون إلا خادمة في التأنيث، فمن ينكر أنهم على صواب؟ وأنا أسمي الزوجة زوجة في جميع ما أكتب، ولا أرى رجلاً يقول:(سأستشير زوجي) إلا عرفت أنها عليه من القوامين

3 -

يتوهم كثير من الشبان أن لي مكتباً في دار الرسالة وأني أشارك الأستاذ الزيات في فحص ما يرد على الرسالة من أقوال الكتاب والشعراء، ومن أجل هذا يوجهون إلي العتب عما يتأخر نشره من آثارهم الجياد!

وكنت أرجو أن يصح هذا التوهم الجميل، لأشارك الزيات في توجيه الجيل الجديد، ولأنشر كلمة الأستاذ محمد كامل سليم بك، فما هي كلمة هذا الأستاذ الجليل؟

ص: 43

رجاه الأديب الأريب عبد الرحمن أبو العينين أن يوصي الأستاذ الزيات برعاية ما يقدم إلى (الرسالة) من كلمات أو مقالات فرد عليه بهذا الجواب النفيس:

(لست أرى من مصلحة الأدب أن أقحمك بنفوذي في ميدانه، ولا أرى من مصلحتك أنت أن أظهرك بسلطاني بين فرسانه، وإنما أرى من مصلحة الأدب ومصلحتك معاً أن تبرز مستقلاً بأسلوبك وبيانك، وتشغل الناس بأفكارك وبرهانك، وفي ذلك مصلحة ظاهرة للأدب وكرامة واضحة للأديب)

ويخطئ أشنع من يتوهم أن التشجيع ينفع بشيء، فالقوة الذاتية تقتحم الحواجز والحصون حين تستكمل عناصر الجبروت. والأديب الموهوب سيجد مكانه وإن تخلف عن نصرته ساسة الفكر وقادة البيان

4 -

لم أجب الأستاذ صلاح الدين المنجد في سؤاله عن أسلوب الأستاذ أحمد امين، وقد أجاب عني أحد الفضلاء في جريدة (صوت السودان) فليرجع إلى ذلك الجواب أن شاء.

5 -

لبعض القراء مزاج غليظ، وهو إرسال خطابات مغرمة وبدون إمضاء

وأقول إني سأرفض جميع الخطابات المغرمة ولو صدرت عن (الصدرية) في بغداد، فمن طاب له أن يداعبني بهذا الأسلوب (المقبول) فليعرف أن دِعابه مردود

6 -

يظهر أن مقالاتي في مجلة الرسالة تضايق فريقاً من الناس فيتصدون للرد عليها في بعض الجرائد والمجلات. فأرجو من أولئك الغاضبين أن يرسلوا إلي ما يكتبون لأجيبهم إذا اقتضى الحال

7 -

تصل إلي من وقت إلى وقت بعض الكتب عن طريق الإهداء، وأنا أرجو في باله من المؤلفين أن يرسل ما يرسل بثمن محول على البريد، لأستطيع القول باني أشارك مشاركة جدية في إنهاض التأليف، ودفع ثمن الكتاب لا يمنعني من الإعلان عنه في مجلة الرسالة بالمجان حين أراه جديراً بالثناء

وبهذه المناسبة أذكر أني تلقيت مؤلفات في غاية من الجودة، منها (حكايات من الهند) وقد ترجمها الوطني الصادق عبده حسن الزيات أحد نوابغ المحاماة والاقتصاد، ومنها (مصر القديمة) للمؤرخ الكبير الدكتور سليم حسن بك، و (علم اللغة) للباحث المحقق الدكتور علي عبد الواحد وافي، و (تاريخ الدروز) الذي ترجمه الكاتب المبدع أحمد تقي الدين، و

ص: 44

(الأشواق) للشاعر محمود أبو الوفا، و (الأغاريد) للشاعر محمد فهمي، و (المكتوب على الجبين) للرجل الكامل محمود تيمور، وسأتحدث عن هذه المؤلفات بعد قليل

أما دائرة المعارف الإسلامية - وقد ظهر منها المجلد الرابع - فلا تحتاج إلى تنويه، لأنها أظهر عمل قام به المتخرجون في كليات الجامعة المصرية، ولأن الأستاذ العقاد لم يترك في الثناء على مترجميها مزيداً لمستزيد

زكي مبارك

في اللغة

قرأت في العدد 405 من الرسالة الغراء قصيدة بليغة عنوانها (ميلاد نبي)، للشاعر الكبير الأستاذ محمد عبد الغني حسن. فعنت لي ملحوظتان لغويتان أود أن اعرضهما على الأستاذ وهما:

1 -

قال في وصف الجاهلية:

متفرقين هناك. . . لم يتفيئوا

لخميلة. . . أو يمسكوا ببناء

فعدى الأستاذ (يتفيئوا) باللام وهذا ما لا أعرفه

قال الجوهري: (وفيّأتِ الشجرة تفيئة، وتفيَّأت أنا فيها). وفي الأساس: (وتفيَّأتُ بالشجرة). وفي التاج: (وعداه أبو تمام بنفسه في قوله: فتفيأت ظله ممدوداً)

فهل اطلع الأستاذ على نص يتعدى فيه (تفيأ) باللام؟

2 -

وقال:

ميلاد (أحمد) كان مولد أمة

عربية وشريعة سَمْحاء

والذي أعرفه أن يقال: (سمحة) لا (سمحاء)، فإن من معاني السماحة السهولة واليسر. فيقال:(عود سمح: بين السماحة مستولا أُبن فيه) كما في الأساس

وفي التاج: (وقولهم الحنيفية السمحة: هي الملة التي ما فيها ضيق ولا شدة) هذا مبلغ اطلاعي. والله اعلم

(ا. ع)

حول الدين والفلسفة

ص: 45

قرأت كلمة الزميل الفاضل الأستاذ الدكتور محمد البهي بعدد الرسالة رقم 406، وفيه أراد كما يقول أن يضع أمام القارئ مادة للإجابة عما إذا كان من مصلحة الدين (أن يُفلسف بأن تشرح حقائقه بآراء الفلاسفة؟) وهذا موضوع للرأي فيه مجال كبير ليس من همي الآن الأخذ بنصيب فيه، ولكن وقفني عند قراءته ما ذهب إليه السيد الأستاذ من أن العقل الإسلامي جعل شعاره وهو يعالج ما أثارته الفلسفة الإغريقية من مسائل أنه (إذ انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال) لأن الحكمة ليست إلا مولدة الديانة وإن هذه ليست إلا متممة لتلك كما جاء في مقابسات التوحيدي، رأيت في هذا الرأي وما تقدم به حضرة الأخ الكاتب لتأييده من سند ما يستوجب هذا التعليق القصير

1 -

القارئ لهذين النقلين قد يظن انهما جميعاً لأبي حيان التوحيدي نفسه، والواقع غير هذا؛ فالأول الخاص بانتظام الفلسفة اليونانية والشريعة ساقه التوحيدي في أثناء عرضه لرأي أخوان الصفاء، وطريقتهم في الفلسفة، والثاني الخاص بأن الحكمة مولدة الديانة الخ من كلام أبي سليمان السجستاني محمد بن بهرام شيخ أبي حيان، وليس من كلام التوحيدي نفسه، وكل هذا يظهر بالرجوع لصفحة 46 وصفحتي 199، 200 من المقايسات

2 -

من الحق أن فلاسفة الإسلام عنوا فيما عنوا به بفلسفة الدين والتوفيق بينه وبين الفلسفة لعوامل عدة، منها أن الحكمة - كما يقول ابن رشد في فصل المقال - هي صاحية الشريعة والأخت الرضيعة، وهم في هذا مسبوقون بمحاولات اليهود والمسيحيين في هذه السبيل. ولكن لا أرى من الحق أن هذا كان شعار مفكري الإسلام جميعاً. هناك كثيرون من مفكري الإسلام لم يكونوا يرون هذا الرأي، ولم يكونوا يذهبون إلى فلسفة الدين بشرح حقائقه بالفلسفة، وأعني بهم المفكرين غير الفلاسفة من متكلمين وغير متكلمين. ولعل من أقوى الأدلة لهذا ما ساقه التوحيدي ذاته في أثناء كلامه عن إخوان الصفاء من أن شيخه أبا سليمان السجستاني صرح في كلام له كثير بعد أن قرأ جملة من رسائل إخوان الصفاء ووقف على قصدهم، ومنه التوفيق بين الدين والفلسفة، من أنهم (تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا. . . لأنه أين الآن الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ من الوحي النازل من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل)؟

بعد هذا أظن أن الأمر أوضح من أن نطيل فيه الكلام ويكفي هذه الكلمة التي لم اقصد بها

ص: 46

إلا بيان الحق، ولعلي أصبت، وبالله التوفيق.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين

إلى الأستاذ عبد المنعم خلاف

سيدي الأستاذ الزيات

اسمح لي بنشر هذه الكلمات التي تخطر لي اثر قراءة مقالات الأستاذ خلاف:

إن هذا هو الطراز من الكتاب الذي كنا نتشوق إليه في العربية:

منطق قويم، وفطرة سليمة، وحرارة وحماسة وإخلاص، وإدراك للمدنية الغربية، وعدم تعصب عليها لمجرد التعصب، وفهم لمحاسنها، وإدراك لروح الإسلام والدين، وعدم تعصب له لمجرد التعصب، وفهم لمحاسنه، وإدراك للمثل العليا الأخلاقية الصحيحة، وأفكار سديدة بارعة، وبيان رائع

هل تدري يا سيدي خلاف أننا نقرأ مقالاتك المرة تلو المرة تلو المرة، ثم لا نكتفي، ونحس بدافع يدفعنا إلى الإعادة. . .

إننا نود لو نتلوها كل يوم، ولكن يعوقنا عن ذلك أنها غير مجموعة كتاب

أن كل ما تكتبه جميل ورائع وحبيب إلى نفوسنا لصيق بها

هذه كلمات صوادق. أنها ليست لك؛ إنما هي للفكرة التي تدعو إليها وتدافع عنها، أنها لنا (المقالات). . . لأنك تخدمنا بها وتفيدنا.

(دمشق)

بشير صادق

ص: 47

‌القصص

عطر المنصور

للأستاذ رفعت فتح الله

في إحدى قباب بغداد قرأ المنصور ورقة تشكو، ثم قبضها في يده تتلوى، وقد ظل يردد كلماتها، يكاد يتمزع من الغضب، كأنه سحاب راعد: في عينيه برقه، وعلى جبينه قطره، وفوق سمرته غيمه، ولم يكد يخفف عن الورقة قبضته حتى انتفضت، كأنها منخنقة فك خناقها، فبدت آثاره على صفحاتها اثناء، وعلى كتابتها شحوباً!

ألقى المنصور الورقة من يده، بعد أن ألقى ما فيها في نفسه، ولقد ارتعد إذ رأى رعيته تشكو بعض عماله، وكل راع مسؤول عن رعيته، فأين يفر الظالم من شكاية المظلوم؟ وكيف يواجه ظلم العامل حزم الخليفة؟

واخذ يفصل أنواع المظالم، ثم ينثرها في رأسه ليرسل إليها تفكيره، فتواردتها آراؤه كأنها حمام سراع إلى حب منثور، وتزاحمت، وتضاربت، حتى أحس ضرباتها في رأسه، ثم تلاقت الآراء على رأي سن عليه أمره، وعقد عليه قلبه: أن يعزل العامل لظلمه، ويأخذ ماله على عينه، ويترك المال في بيت مفرد، يسمى (بيت مال المظالم) ويكتب عليه اسم صاحبه

ولما استراح إلى رأيه نادى صاحبه ليأمره آمره، ثم قام إلى مجلس أهله ليقضي حق الاهل، فلقى في طريقه صبيا يلعب، فمس فرع أذنه بسبابته؛ فنظر إليه الصبي نظرة الصغر إلى الكبر، فأخذه على ذراعه، وغمز نغانغه، وكلمه مداعباً، ثم قبله على شغف، وأرسله على مرح قائلاً: إذا كان الحزم مع الكبير مجازاة، فهو مع الصغير مناغاة:

ونظر غير بعيد، فإذا رجل يمشي مشية الأسيان، يرسُّ الحديث في نفسه فتتحرك شفتاه بما لا تسمع أذناه، ويفتح عينيه ولكنه لا ينظر بهما، كأنهما انعكستا على رأسه، فتجسمت فيهما صور ما وراءها من تفكير، ولم تتصور أشباح ما أمامها من منظور، فهجس في نفس المنصور أنه يرى مظلوما أصابه بعض عماله، وارتجع إليه فكرة الأول، فلم يلبث أن أشار إلى الرجل الذاهل إشارة ضاعت في ذهوله، فأومأ إلى عصا ألقيت في طريق الرجل فاعترضته حتى كاد يتعثر، ولكنه اعتدل ولم يلتفت!

ص: 48

صاح حاجب المنصور: أيها الرجل!

فالتفت الرجل التفاته كأنها أفاقة المغشي عليه، ثم برق عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين

قال المنصور: وعليك السلام يا أسير الشجون! هل تتذكر اسمك؟!

قال الرجل: سعيد. . . سعيد. . . يا أمير المؤمنين!

قال المنصور: أسعيد أنت؟

قال الرجل: ذاك اسمي لا وصفي، والأسماء من اختيار الآباء، والأوصاف من اختيار الأقدار!

قال المنصور: وكيف كنت مع الأقدار؟

فتأوه سعيد، وقال:

- جعلت حياتي تتلون تلون الزمن: من سواد الليل إلى بياض الصبح، ومن حمرة الهجير إلى صفرة الأصيل. . . فلقد كان مشرق شبابي مغرب والدي، وكان ميراثي منه وفراً من الوصايا ونزراً من الدراهم، فما مددت يدي إليها حتى بعثت فيهما نشطة العمل، كأنها رقية التكسب، فتاجرت وأخلصت للتجارة حتى برت بي ودرت، لله درها! فقد صرت أعد أوقاتي بالدنانير حتى خيل إلي أن أشعة الشمس تجمد في يدي ذهباً!

فحدقه المنصور بعينين تطل منهما نفسه المحبة للمال، وقد كان المنصور يجمع في صفاته قوة الحزم ورجاحة الرأي وحب المال وطهارة اليد. فسطع في عينيه من معنى الذهب بربقه، ثم غلب عليهما من معنى الحزم حديده؛ ثم قال: أليس في هذا سعدك يا سعيد؟ فكيف احتضرك الهم؟

قال سعيد:

- لقد كنت أمس قرير العين بهيج القلب، إذ رجعت من سفرة راشدة - في تجارة رابحة - فدفعت إلى امرأتي ما أحضرت من كرائم الأموال، وطفقت اشغل يدي بتصفيفها ولساني بتحسينها، حتى أخذتني نشوة الظفر بما كسبت فأهديت، وأسرعت المرأة القبول. . . آه! يا لها من عجول!! تركتها ضائق النفس، وخرجت إلى الناس أؤدي حقوقاً لزمتني بالإياب، ثم رجعت إلى منزلي مع الليل، فأسر إلي حلماً منعما، تشيع فيه أضواء الذهب، وتنوس عليه

ص: 49

أهداب الديباج، حتى استرد الليل بردته السوداء، وطوى فيها حلمي ألهني، فصحوت أمد يدي. . . قالت المرأة: مالك؟ قلت أين المال؟ قالت: المال أخذ. . . أحسست أن عقلي أخذ معه، وقمت أتفحص عن الجدار فما وجدت نقباً، وطفت أتوسم في الأثاث فما رأيت أثراً، فأي لص هجم على بيت كأنه حصن؟ وكيف تسور أو تدخل؟ تخيل لي أن عقلي قد اختنق، وأن صدري قد اشتعل، فسرت تيهان هائماً كمحترق يفر من نار شبت فيه!!. . . وهكذا رأيت قرة عيني تسيل في دموع كأنها ينبوع!. . . وأحسست بهجة قلبي تطير في خفقان، كأنها غربان!. . .

قال المنصور: لعل المال مأخوذ غير مسروق

فنظر إليه سعيد نظرة سائلة وهو يردد قوله: مأخوذ! مسروق!. . . مأخوذ! مسروق!. . .

فأطرق المنصور عنه قليلاً، ثم قال: منذ كم تزوجت امرأتك؟

قال سعيد: منذ سنة

قال المنصور: شابة أم مسنة؟

قال سعيد: شابة

قال المنصور: ألها ولد؟

قال سعيد: لا!

قال المنصور: أبرْزة إلى الرجال، أم مقصورة في الحجال؟

قال سعيد: برزة

قال المنصور: جميلة؟

قال سعيد: أن وجهها كالدينار: أخذت بريقه واستدارته

فهمس المنصور: وتركت لك رنينه وصفرته

ثم قال: يروقك جمالها إذن!

قال سعيد: أنها كالبدر يا أمير المؤمنين

قال المنصور: ذكية؟

قال سعيد: أن ذكاءها هو السماء التي تطلع بدرها

قال المنصور: تلك امرأة حبيبة

ص: 50

قال سعيد: وذاك اسمها يا أمير المؤمنين

قال المنصور: والمال الفقيد حبيب أيضاً! وابتسم، ففز سعيد وابتأس!

قال المنصور: لا تبتئس، فعسى أن يرجع إليك مالك ثم دعا بقارورة طيب كان يهتم به ويختص، وقال: يا سعيد هذا طيب يتفاءل به، فخذ منه شيئاً عسى أن يكون جلاء همك وصقال نفسك، واستبشر بمسيسه كأنه حظ عصر لك في مدهن! وتمتع من شميمه كأنه من أرواح الجنة!

فأخذه سعيد وقبله كأنه تميمة سعادة، واصطانه كأنه مفتاح خزانة؛ ثم سلم على الخليفة، وانقلب إلى أهله وقد انتشر الأمل على أصغريه، كما انتشر الطيب على عطفيه. فلما دخل على آمراته قالت: أني أشم عطراً يتضوع منك. قال: ذاك عطر وهبه لي أمير المؤمنين، وإني واهب لك منه شيئاً عسى أن يكون لبيتنا فألاً ميمونا. فابتسمت شاكرة للزوج الواهب، ثم انصرفت مفكرة في العطر الموهوب

دعا المنصور أربعة رجال من ثقاته وأراهم طيبه، وأشممهم منه، ثم قال لهم: أٌقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم وعليه شيء من هذا الطيب فأتوني به. فذهبوا حيث أمرهم الخليفة، وجعلوا يتربصون بمن يمر بهم أريج الطيب، حتى ضم الليل شملته السوداء ومضى، وبعث الصبح في أطماره؛ فرقعت الأرض بالأقدام والظلال، وهم يترقبون ويتشممون، كأنهم من كلاب الصيد في توقع الفريسة، وإذا رجل قد توهج منه الطيب يجتاز أحد الأبواب، فانقض عليه أحدهم انقضاض عتاق الطير؛ فاهتز اهتزاز فراخ الصيد، وغيمت الدهشة في رأسه، فمادت نفسه، وحارت عينه، وسأل فلم يجد جواباً، ونظر فلم ير مناصاً، وسيق تائه المساق حتى قدم إلى الخليفة، فتقدم، ثم سلم تسليم مروع لا يدري من أين روعه؟

قال المنصور: ما الذي أقدمك؟

فنظر الرجل إلى الذي ساقه وقال: الجواب عند هذا يا أمير المؤمنين!

قال المنصور: ما اسمك؟

قال الرجل: حبيب!

قال المنصور: ما احب اسمك!

ص: 51

ثم مد رأسه من وراء أنفه وتشمم، ثم قال: وما أطيب طيبك!. . .

قال حبيب: هو نفحة من يمنك يا أمير المؤمنين

فضحك المنصور، واستعجب حبيب من ضحكه

قال المنصور. أنى لك هذا الطيب؟

فارتد حبيب كأنه لديغ، ونظر نظرة قد تخشعت جزعاً

فتبسم المنصور، وقال: لا ترع، فما أريد بك سوءاً، وأما كان مثل هذا الطيب يفوح من سرقة بالأمس، وقد باح به جسمك اليوم، وإني أخشى أن يلصق بك ما تتهم به!

قال حبيب: يا أمير المؤمنين. . .

قال المنصور:. . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه. . .

قال حبيب: أنا. . .

قال المنصور: وأنا أرى على وجهك مسحة براءة، وعلى يديك مسة طهارة، ولكني أمرت أن احكم بما ظهر، ولله ما بطن.

قال حبيب: ليس عندي من المال قديم ولا جديد إلا هدية أهداها إلي من لا اشك فيه

قال المنصور: ومن أهداها إليك؟

فاعتقل لسان حبيب في فمه!

قال المنصور: لقد رأيتك تدرأ عن نفسك حتى كدت تبرأ لولا غموضة تريب تلك الهدية، فهلا استكملت البراءة، ونزعت عن يديك تهمة ليست لبوساً لك! وإني موسع عليك ومخيرك: فإما أن تذكر من أهدى إليك فتجلو صفحتك ويقلب القضاء صفحته؛ وإما أن تنزل عن الهدية لنعرضها على صاحب المال فتسلم من آخر شيء يعلق به الاتهام، ويكون ذاك أغنى عن التصريح وأنفى للشك وابلغ في العذر

كاد حبيب يتكلم فيسلم، ولكن قلبه خفق فسكت، ودارت عينه، ودار من ورائها رأسه، لا يدري: أيمسك المال على بغض يبعثه اتهام الأمير! أم يتركه على حب يوحيه إهداء الحبيب؟ فإما أن يذكر مهديه المال خلاصاً فنفسه دون ذلك فداء، والفداء من سنة الحب، وما كان لفم طهره الحب أن تدنسه الوقيعة!. . . ولقد تعجب حبيب من صروف الأقدار في تصريف الأموال، فإنه ما كان ليعبأ بمال حتى يَفتن في جمعه ويُفتن بكنزه، وما تكاتفت

ص: 52

سحابة من كسبه حتى تقاطرت في صرفه! كأن المال زائر عابر: ما سلم حتى ودع! ولكن هذه الهدية عريت عنده من معنى المال ولبست معنى القلب، فما يحسب رنين ذهبها إلا صدى الخفوق! ووثب خياله إلى رجل هنالك قد جمد قلبه جمود الذهب حتى عد خفوقه رنيناً!. . . رجل هنالك!. . . وأزعجه الخيال بوثيته، فصحا من غفوته، فإذا الخليفة يجسه بعينه وبجانبه صاحب الشرطة!

قال المنصور لصاحب الشرطة: خذ هذا الرجل، فخيره في ما خيرته، وأمهله، فعسى أن ينجده وقته، فإن أبى فصب عليه من العذاب ألف سوط!

(البقية في العدد القادم)

رفعت فتح الله

ص: 53