الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 408
- بتاريخ: 28 - 04 - 1941
هل انبعث الأزهر؟
يغلب في ظني أن الأزهر انبعث فسمع فرأى ففكر! انبعث كما ينبعث الربيع في أوائل مارس، تراه الشجر سليب جديب الأرض مقرور النسيم، ولكن أسرار الحياة تكون - من وراء بصرك - قد انبثت في الثرى، وجرت في الأصول، وسرت في الجو، فلا تلبث أن تستعلن فتسعد الأرواح بجميل الزهر، وتمتع الأجسام بطيب الثمر
هؤلاء هم شباب الأزهر الجديد أساتذة وطلابا، قد جلت نفوسهم ثقافة العصر، وصقلتها مدنية الحاضر، فاشرق عليها أشعة النبوة ساطعة بعدما حجبها الغمام والقتام حقبا بعد حقب. فهم وحدهم الذين يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس؛ وهم وحدهم الذين يملكون تزييف الأباطيل المقدسة التي اتسمت بسمة الحق، وتسمت باسم الدين؛ ولكنهم حول هذا الهيكل البالي أشبه بالأغصان الخلفة التي تنبت نضيرة على اصل الدوحة العتيقة، ثم لا يتسنى لها الغلظ والسموق لأن الجذور الشيخة لا تمدها بالغذاء كله، والفروع الميتة لا تمكنها من الهواء كله. فإذا لم يرسل الله رسول الإصلاح ويؤته ما آتى أولي العزم من الرسل، فيقطع من أعالي هذه الدوحة ما اعوج، ويجتث من أسافلها ما ذبل، ويكتشف عن جذعها الواهن ما التف عليه من طفيلي النبت، بغي الجفاف على هذه الأفنان النواشئ فتذوي في زهرة العمر وبكرة الربيع
دفعني إلى تعجيل هذه البشرى وتسجيل هذه الظاهرة في هذا الوقت الذي شغل الأذهان بوحوش النازية الهاجمة ما قرأته للأستاذ شلتوت اليوم، وللأساتذة المدني والبهي والشرقاوي من قبل، وما سمعته من صفوة من أولئك الأساتذة الأزهريين الشباب ضمهم مجلس من مجالس الرسالة؛ فلقد كنت - علم الله - أدعو إلى إصلاح الأزهر وفي نفسي خلجات من اليأس؛ لأن أهله الذين وقفوا عقولهم عند حد النقل، وقصروا جهودهم على درس القديم: يشرحونه، أو يحشونه، أو يقررونه، أو يختصرونه، أو ينظمونه، حتى قر في نفوسهم أن القديم افضل من الجديد، والماضي خير من الحاضر؛ فالقرن الأول خير من الثاني، والثاني خير من الثالث، وهلم جرا حتى يجعلوا القرن العشرين شر القرون، وعلماءه أجهل الناس، فلا يجوز لفهم أن يبتكر، ولا لعقل أن يعترض، ولا للسان أن يقول: أن في الإمكان أبدع مما كان؛ أولئك لا يستجيبون لدعوة الإصلاح لأن الإصلاح تتغير أو ابداع؛ وقبول التغيير محال ما لم يتغير ما بالنفس، وإجازة الإبداع باطلة ما لم يتضح معنى
البدعة. ومن أجل ذلك كان لكل مهدي (عليش)، ولكل محمد عبده (رفاعي)، ولكل مراغي (. . .)
أجل، كان يخالجني اليأس من نهوض الإصلاح قبل أن اتصل عن طريق الرسالة بهذه الطبقة الممتازة من الأساتذة الشباب وتلاميذهم الإنجاب في كليات الأزهر الثلاث. فلما عرفتهم وفهمتهم انبثق في صدري الأمل في أن الأزهر سيعود ويقود، وإن الإسلام سيحكم ويسود؛ والأمر رهن بدفن الرميم وكسح الهشيم وانفساح المجال وتحرر العقلية العامة
أعجبني من الأستاذ شلتوت وأصحابه خلوص الدين في قلوبهم، ونصوع فكرته في عقولهم، وفهمهم إياه على أنه دين هذا العصر وشريعة هذا الناس، فنحن ابصر بموقع الحكمة فيه، واجدر باستنباط الرأي منه. والدين كالشمس، لا هي تراث ولا هي اثر. وإنما الشمس للحاضر لا للماضي، وللحي لا للميت، يستفيد منها الفرد بعد الفرد، والجيل بعد الجيل؛ ثم يقتضي اختلاف النظر وتقدم العلم أن يختلف فيها العلماء، وتتعارض في نظامها الآراء؛ ولكن رأي فيثاغورس أو بطليموس، لا يجوز أن يوازن برأي نيوتن أو هرشل
هذه هي المرونة البصيرة التي توجبها سنة الحياة ولا يكون بدونها إصلاح ولا تطور. ولم يصب الأزهر بهذا الجمود إلا لأنه فقد هذه المرونة، فلم يبال فعل الزمن في الدنيا وفي الناس. لذلك لم يعلم التاريخ جامعة من جامعات الأرض بقيت في القرن العشرين على ما كانت عليه في القرون الوسطى غير الأزهر!
كان الأزهر اسبق الجامعات الباقية في الدنيا إلى الوجود. أنشئ عام 972م وأنشئت جامعة بولونيا عام 1100م وجامعة باريس سنة 1150م؛ ثم تتابعت بعدهن الجامعات في أوربا وأمريكا وكانت كلها تنحو منحى الأزهر في النظام والمنهاج والطريقة؛ إلا أنها سايرت الزمان وأطاعت التطور واستجابت لداعي الحاجة، حتى أصبحت موردا ومرادا لأسمى ما بلغه العقل الإنساني من الثقافة والمعرفة. ولبث الأزهر وحده حيث كان يمضغ كلام السلف، ويردد لغو الالسن، ويعلل ضلال الأقلام، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك، حتى أصبحت المدارس الأولية آدني منه إلى طبيعة العصر، وافهم منه لمعنى الحياة!
لسنا اليوم بسبيل البحث في علل هذا الجمود المزمن المحزن، فذلك شيء تتصل أسبابه بما
انتاب المسلمين من ضلال العقيدة وشيوع الجهالة وفساد الحكم. وبحسبنا أن نسجل نهاية هذا الجمود بما بدا على بعض الأساتذة واكثر الطلاب من الطموح إلى السبق والنفور من التخلف والزراية على نهج المعلم وطريقة الكتاب. ومن تفاعل في نفسه القلق والاشمئزاز والسخط لسوء حال أو فساد أمر، شق عليه الاطمئنان إليه والاحتفاظ به. وتغير النفس إيذان بتغير الحال، والشعور بالنقص أول مراتب الكمال!
أحمد حسن الزيات
القرآن والمسلمون
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
القرآن والمسلمون في العهد الأخير
وصلت إلينا هذه الثورة التي دونت في بطون الكتب ووضعت موضع التدقيس؛ وهي من الخلط والخبط وتشويه معالم الدين على ما وصفنا
فأقعدت الناس عن النظر في القرآن، وملأت أذهان الناس بألوان من الأوهام الفاسدة عن التشريع والعقيدة، وما يحل وما يحرم؛ وصار كثير من المسلمين يعتقدون أن الحلال ما أحله فلان في كتاب كذا، وإن الحرام ما حرمه في كتاب كذا؛ وأن فلانا ذكر في معنى الآية الفلانية كذا وكذا. بل وصل الأمر ببعض أهل العلم إلى أن يقول: أن هذا الشيء ثابت في القرآن، لأن فلاناً وفلاناً حملوا عليه بعض آيات الكتاب الحكيم!
لم يستطع الجمهور أن يستخلص خطة عملية واضحة من القرآن بطريق مباشر، ولم يستطع أن يعتمد على هذه التفاسير الموروثة في استخلاص هذه الخطة التي هو في أشد الحاجة إليها
أما أنه لم يجد غرضه وحاجته في هذه التفاسير فذلك يرجع إلى ما في كثير منها من الحشو والتخليط والاعتماد على الروايات التي لا تصح
وأما أنه لم يستطع الوصول إلى هذا الغرض من القرآن مباشرة، فلأن هؤلاء القائمين على أمر القرآن من أهل العلم أوهموا الناس - لغرض ما - أن فهم القرآن ومحاولة النظر في آياته، بدون استعانة بكتب السابقين وآرائهم التي دونوها غرض بعيد لا يصل إليه إلا الأفذاذ من أهل العلم وأصحاب العقول الراجحة، وإن من يطمع في ذلك أو تحدثه به نفسه من غير أن يستكمل شروطه، فقد عرض نفسه لغضب الله!
يومئذ تصور الناس القرآن كتابا عزيز المنال، بعيداً عن الأفهام، فهابوه ويئسوا من الوصول إلى معانيه، وتقبلوا فيه وساطة هؤلاء المحتكرين، وتلقفوا من أفواههم ما جادوا به
عليهم، واقتنعوا به من القرآن كوسيلة من الوسائل يداوون بها ضعفهم النفسي والاجتماعي
انفتح لهم بهذا باب من الانتفاع بالقران لا عن طريق النظر في آياته أو التدبر في معانيه أو معرفة هدايته وإرشاده، ولكن على أساس ما تلقفوا من هؤلاء، فصاروا لا يعرفون القرآن إلا على نحو من الأنحاء آلاتية:
1 -
التعبد بتلاوته مجردة عن التدبر والاعتبار لا تعدو أن تكون حركات لفظية تضطرب بها الشفاه، وتغمغم بها الخياشيم ومن وراء ذلك قلوب عليها أقفالها
2 -
التبرك به، فاتخذوا منه التمائم والاحجبة والرقي والتعاويذ!
3 -
استنزال الرحمة به على موتاهم فجعلوا يستأجرون لذلك القراء المحترفين ليقرأوه في البيوت أحياناً وعلى القبور أحياناً لقاء اجر معلوم، ومال مقسوم
4 -
التماسه دواء للأمراض والعلل الجسمية عن طريق تلاوته أو كتابته أو التبخير به أو محوه بالماء ثم شربه
5 -
اتخاذه وسيلة لاستدرار عطف الغادين والرائحين، فتسولوا به في الطرقات وأمام المساجد وعلى أبواب البيوت في صور تنافي الكرامة ولا تتفق مع التقديس
وهكذا اخذوا ينتفعون بالقرآن، أو بعبارة أدق يستغلون القرآن على هذه الأوضاع المزرية التي لا تليق بكتاب أنزله الحكيم العليم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور
قد يجد الناظر في كتب السنة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في رقيته شيئا من القرآن كالفاتحة وغيرها، كما أنه قد يجد في كتب الفقه ما يدل على مشروعية القراءة وهبة ثوابها لأرواح الموتى
وسواء أصح هذا أم لم يصح، وسواء أكانت الرقية ونفعها لخصوصية في نفس الراقي، أم لأسرار ذاتية تحملها آيات القرآن وحروفه، فإن الذي ننكره على المسلمين اليوم ونلقي التبعة فيه على علمائهم أن ينبذوا كتاب الله وراءهم ظهرياً في كل شيء، ويتخذوا هذا القرآن مهجوراً إلا في هذه النواحي التافهة التي لا تقاس بجانب عظمة القرآن
إلا إن في ذلك لتصويراً للقران بصورة تنبو عنها الأذواق ودعاية سيئة عنه أمام العقول المفكرة لو كانوا يعلمون
استطار شرر هذه النزعة، وتفشى وباؤها، حتى تأثرت بها أذهان المفكرين من أهل العلم
والسلطان؛ تأثر هؤلاء جميعاً إلا قليلاً منهم بهذه النزعة الشعبية الجمهورية؛ وكان منهم من مالأ العامة وسايرهم في اتجاهه خوفا منهم، وكان منهم من تسمم عقله فعلاً، وفسد تصوره لحقائق القرآن الصحيحة، واعتقد ما اعتقده العامة فيها
نزل هؤلاء وهؤلاء على حكم الشعب، فلم يقاوموا هذه النزعة فيه، بل سايروه فيها وزينوها له، وأخذوا يدافعون عنها كأنما يدافعون عن حق يتوقف عليه بناء الدين ويرتفع به شأن الإسلام والمسلمين. وإذا ما دعا داع إلى استقبال القرآن ككتاب هداية وإرشاد وتشريع، تناولوه بالألسنة والأقلام، واتهموه بالزيغ والالحاد، والتضليل والإفساد؛ والله يعلم المفسد من المصلح، والمضل من المرشد، أنه عليم بذات الصدور!
أما الحكام الذين طغت عليهم هذه النزعة وبيدهم مقاليد الأمور والتشريع للبلاد، فقد توهم بعضهم أن الكتاب بعيد عن مجاراة الحضارة والتشريع الحديث، وأنه لا يفي بحاجات العقول المفكرة والأمم المتحضرة!
نعم يوجد من بين هؤلاء من يفهم حقيقة القرآن، وأنه لا يضيق صدره عما يقتضيه التطور الحديث من تشريع وتنظيم، ولكنه يخشى سلطان هؤلاء العامة من جهة، ويؤثر أن يجاري هؤلاء العلماء من جهة أخرى، لئلا يتهموه بالمروق ومعاداة القرآن، فلذلك تراه لا يحب أن يعقد بينه وبين هذه الموضوعات الشائكة صلة، ولا يشاء أن يمد يده ليضعها في أيدي المصلحين ليطالبوا بالرجوع إلى شريعة القرآن والنزول على حكم القرآن.
وأنه لما يحز في قلوب المؤمنين الصادقين أن هذه الفكرة قد طغت على أذهان كثير من أهل الحكم والنيابة عن الأمة، حتى صاروا يعتقدون عدم كفاية التشريع القرآني لتنظيم شؤون الأمة ومعالجة أمراضها الاجتماعية!
ويبيحون لأنفسهم أن يلجأوا إلى التشريعات الأجنبية، فيستمدوا منها ما ينظمون به شئون المسلمين: في المدنيات والجنائيات والآداب العامة
وهكذا هانت على المسلمين أحكام القرآن، بل هانت على المشتغلين بها أنفسهم، ولم يقدروا قيمتها العلمية والعملية حق قدرها، فضعفت هممهم عن دراستها وموالاة النظر فيها والانتفاع بها، وصاروا يكتفون منها بالقليل، واستساغوا لكرامتهم أن يفروا من التحصيل والعكوف على العلم بكل ما يستطيعون، وأصبحوا يؤدون ما يؤدون من ذلك في الحدود
التي تروقهم، وفي الأزمان التي يحددونها؛ ذلك بأنهم مسوقون إلى العلم بعوامل شخصية لا تمت إلى إرادة العلم والتثقف وخدمة الدين والقرآن بأدهى الأسباب
يحسن بعد هذا أن نتحدث عن موقف طائفة أخرى من القرآن - زعمت لنفسها ثقافة خاصة وأخذت تستند إليها في فهم القرآن وتفسير آياته؛ تلكم هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث وتلقنوا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها ثم نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً. فسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا انهم بذلك يحترمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية
نظروا في القرآن على هذا الأساس فافسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله
فإذا مرت بهم آية فيها ذكر للمطر، أو وصف للحساب، أو حديث عن الرعد أو البرق، تهللوا واستبشروا وقالوا هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب وكيف ينشأ وكيف تسوقه الرياح.
وإذا رأوا القرآن يذكر الجبال أو يتحدث عن النبات والحيوان وما خلق الله من شيء قالوا: هذا حديث القرآن عن علوم الطبيعة وأسرار الطبيعة
وإذا رأوه يتحدث عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم قالوا هذا حديث يثبت لعلماء الهيئة والفلكيين أن القرآن كتاب علمي دقيق!
ومن عجيب ما رأينا من هذا النوع أن يفسر بعض الناظرين في القرآن قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم)، بما ظهر في هذا العصر من الغازات السامة والغازات الخانقة التي أنتجها العقل البشري فيما أنتج من وسائل التخريب والتدمير في هذا الزمان!
يفسرون الآية بهذا ويغفلون عن قوله تعالى بعدها: (ربنا اكشف عنا العذاب أنا مؤمنون، أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين، ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون)، مما يدل على
أن هذه الظاهرة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصيب بها الذين عارضوه وكذبوه وقالوا معلم مجنون
روى أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود قال له: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه: يفسر قوله الله سبحانه: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) بأن الناس يوم القيامة يأتيهم دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام. فقال أبن مسعود: (من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم)! إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام؛ فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد!
وأغرب من هذا وأعجب أن يفسر بعض هؤلاء المفسرين الحديثين شأناً غيبياً من شئون الله الخاصة لم ينزل بتفصيله وحي، ولم يطلع الله على حقيقته أحدا من خلقه، ببعض الظواهر الحاضرة التي اكتشفها العلم واهتدى إليها بنو الإنسان:
يفسر الكتاب المبين والإمام المبين الذي تحصى فيه الحسنات والسيئات وتعرض على أصحابها يوم القيامة، بالتسجيل الهوائي للأصوات، ويقول: أظهر العلم ذلك بالمخترعات البشرية واستخدمه الإنسان فيما يختص بالاصوات، ولا تبعد أن يستخدمه فيما يختص بحفظ الحركات والسكنات والخواطر النفسية، والله القادر خلق الكون على هذه السنن لغاية أسمى من ذلك هي محاسبة الناس يوم القيامة، وعرض أعمالهم عليهم كشريط مسجل يضم جميع حركات الناس وسكناتهم وخواطرهم وأقوالهم، وما قدموا من عمل
يقولون هذا ويفسرون به قوله تعالى: (علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى). وقوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشوراً). ويهجمون على الغيب بما لم يأذن به الله، ويجدون من العلماء من يؤيدهم ويشجعهم ويزكيهم ويتمنى أن يكثر الله من أمثالهم!
إن هؤلاء في عصرنا الحديث لمن بقايا قوم سالفين فكروا مثل هذا التفكير، ولكن على حسب ما كانت توحي به إليهم أحوال زمانهم، فحاولوا أن يخضعوا القرآن لما كان عندهم من نظريات علمية أو فلسفية أو سياسية
ولسنا نستبعد إذا راجت عند الناس في يوم ما نظرية داروين مثلا أن يأتي إلينا مفسر من
هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول: أن نظرية داروين قد قال بها القرآن منذ مئات السنين!
هذه النظرة إلى القرآن خاطئة من غير شك، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف
وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم
وهي خاطئة لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان. والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً خرافة من الخرافات
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها، وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفاً حرجاً في الدفاع عنه وإقناع الناس به
فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولتعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس أيماناً مع أيمانهم
وحسبنا أن القرآن لم يصدام ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول. قيل: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة؟ فنزل قوله تعالى:(يسألنك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج. وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى، وآتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون)
وانك لتجد هذا في سؤالهم عن الروح حيث يقول عز وجل:
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
أليس في هذا دلالة واضحة على أن القرآن ليس كتاباً يريد الله به شرح حقائق الكون؛ وإنما هو كتاب هداية وإصلاح وتشريع؟؟
قد عرفنا مهمة القرآن التي لأجلها نزل، وعرفنا موقف المسلمين الأولين من هذه المهمة، وما كان لهم بفضل موقفهم هذا من عز وجاه وسلطان
ثم عرفنا موقف المسلمين في العصور التالية، وكيف عقدوا على الناس طرق الانتفاع
بالقرآن والاهتداء بهديه
وعرفنا كيف تلقى المسلمون في عهودهم الأخيرة كتاب لله في وسط هذا المزدحم فاشتبهت عليهم معالمه واختلطت بغيرها، فانصرفوا عن القرآن وهدايته وتدبر آياته إلى أشياء لا تنفعهم في دينهم ولا دنياهم، أو خرجوا به عن مهمته الكبرى، وحملوه مالا يحتمل مما يروج عندهم أحياناً وتزيفه العقول أحيانا
وعرفنا كيف تقلص عن المسلمين خير القرآن، وحرموا الانتفاع به في الهداية والإرشاد والتشريع وقد آن لنا أن نتساءل هل للمسلمين أن يفكروا فيما يعود بهم إلى سالف غيرهم ورفيع مجدهم عن طريق القرآن وتشريع القرآن؟
هذا سؤال لابد أن يدور في خلد كل مؤمن يعتقد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين
هذا سؤال لابد أن يتوجه إلى كل من يهمه أمر الإسلام والمسلمين ويكون صادقاً في غيرته على الإسلام والمسلمين
هذا سؤال لابد أن نوجهه إلى طائفتين من الأمة، عن آرائهم تصدر وفي خطتهم تسير: هما طائفة العلماء وطائفة الحكام
بل هذا سؤال لابد أن نوجهه إلى كل فرد في هذه الأمة من عالم ومتعلم، من حاكم ومحكوم، من شيخ وشاب
فعلى كل من هؤلاء قسط من المسؤولية لا مناص له من تحمله: على العلماء البيان والنصح والإرشاد وتيسير سبل الدين وهداية القرآن للناس؛ وعلى الحكام الرجوع إلى هذا المصدر الإلهي في التشريع والتنظيم؛ وعلى الأمة أن تشعر ولاة أمورها بتلك الرغبة، وإن تنادي بتنفيذها، وتؤازر من آزرها وتحارب من حاربها.
أيها العلماء: اسمعوا ما يقول الله في كتابه العزيز:
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم؛ وأنا التواب الرحيم)
أيها الحكام: اسمعوا ما يخاطبكم الله به في شخص الحاكم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم:
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. وإن كثيرا من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟)
أيها المسلمون: اسمعوا ما يناشدكم به الله في كتابه:
(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون. أعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها. قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون)
محمود شلتوت
الفرد هو الحجر الأول
في بناء المجتمع
(ما رأي الأستاذين الكبيرين الزيات والعقاد في موضوع هذا
الحديث؟)
للدكتور زكي مبارك
منذ ليال وقفت في جمعية الشبان المسيحية ألقي محاضرة في تشريح آراء الدكتور طه حسين، وألقى السامعون طوائف من الأسئلة فأجبت عنها بحذر واحتراس، لأن أغلبها انصب على نقطة دقيقة متصلة بالرأي الذي أعلنته في معالجة أمراض الفقراء من صناع وعمال وفلاحين، ولكن الاحتياط الذي التزمته في الإجابة عن تلك الأسئلة لم يمنع من أن يصرخ جماعة من الحاضرين: يسقط عدو الفلاح! يسقط عدو الفلاح!
ولم يؤذني هذا الصراخ؛ لأنه صدق في صدق، فأنا عدو الفلاح الكسلان، وسأمضي في معاداته إلى أن ينظر في نفسه فيعرف نعمة الله عليه، ويدرك أن من الخطر أن يسمع أقوال المرائين الذين يتقربون إليه بأساليب دميمة ستشقيه وترديه، لأنها تصوب إلى هدف واحد: هو إقناعه بأنه يعيش عيش الأشقياء، مع أنه في حقيقة الأمر أسعد السعداء. وكيف يحرم السعادة وهو أول منتفع بثمرات الأرض، وأخر من يحمل هموم الكساد عند اختلال الأسواق؟
الفلاح سعيد، سعيد، سعيد، على شرط أن يسد أذنيه عن أقوال من يرون في التوجع لشقائه المزعوم وسيلة للظهور بمظهر الغيرة الوطنية، والوطن برئ ممن يزعزعون ثقة الفقراء بالأغنياء. الوطن برئ من جميع الذين يحاولون زعزعة يقين الفلاح بأن لجماله الحق صورة واحدة: هي تلويح وجهه وتشقق قدميه بسبب الجهاد في استخراج ثمرات الأرض: الأرض الجميلة التي لا ترضي من عشاقها بغير الكفاح الدائم والكدح الموصول؛ ولن يكون الفلاح سيد هذه الأرض إلا يوم يتخلق بما تخلق به أجداده الشرفاء. وقد كان أجدادنا يبغضون التأنق ويتفاخرون بالتقشف ويتبارون في الاخشيشان، ليصح انتسابهم إلى الأرض التي لا يسود فيها غير من يملكون القدرة على التصرف بالفؤوس والمحاريث
وأرجع إلى موضوع البحث فأقول:
لما شاهد الأستاذ سلامة موسى جماعة يصرخون في وجهي هاتفين: (يسقط عدو الفلاح! يسقط عدو الفلاح!) حدثته النفس بأن وقت الانتصار على خصمه القديم قد حان، فانتضى قلمه ومضى يجرحني في مجلة اللطائف المصورة بعبارات لا تصدر إلا عن كاتب فقد القدرة على ضبط النفس، وأنا لن أجزيه عن تلك العبارات بما يباريها في القسوة والعنف، فما أحب أن يتحول الجدل إلى ملاحاة تصرف القراء عن فهم دقائق الموضوع الذي ثار من أجله الخلاف
وأنا أرى أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع؛ وأرى من الواجب أن توجه الجهود الصوادق إلى إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتكون من أفراد. ولا يمكن القول بسلامة بناء من الأبنية إلا عند التأكد من سلامة المواد التي كونت ذلك البناء
ويجب حتماً أن يكون لكل فرد (شخصية خلقية) لتكون له (كرامة ذاتية)
ولكن ما هو الخلق الذي يتحلى به الفرد، لتكون له شخصية خلقية؟
تنقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق سلبية وأخلاق إيجابية؛ فالأخلاق السلبية يصورها ترك المحظورات، وهي الأخلاق التي تخطر في بال الناس عندما يسمعون كلمة أخلاق
أما الأخلاق الإيجابية فهي التي تفرض على أصحابها مشاق ومتاعب في تحصيل المزايا النفسية؛ المزايا التي تنقل الرجل من حال إلى أحوال، فيحلق بعد الإسفاف، وينبه بعد الخمول، ويخلق لنفسه مكاناً بين المياسير والأغنياء
ولا تكون للرجل شخصية خلقية إلا حين يتحلى بالأخلاق الإيجابية، أما الاكتفاء بحلية الأخلاق السلبية فقليل الغناء، لأن ترك المحظورات لا يشهد بقوة الخلق إلا حين يكون الرجل على جانب من القدرة على اقتراف السيئات، وهو لا يكون كذلك إلا يوم يملك من أسباب الغنى والعافية ما يجعل انصرافه عن المهلكات شاهداً على أنه يجاهد في سبيل التصون جهاد الأبرار
وحين يتضح هذا المعنى في نفس كل فرد، أو في أنفس أكثر الأفراد، يمكن الاطمئنان إلى أن بناء المجتمع يتكون من أحجار صحاح؛ فالبناء المتين لا يعيبه أن يكون فيه حجر منخوب في أحد الجوانب، وإنما يعيبه أن تكثر الأحجار المناخيب فيخشى عليه التصدع
والسقوط
فما الفرد وما المجتمع في بناء الأمة؟
المجتمع هو صورة البناء؛ والأفراد هم الأحجار التي يتكون منها البناء
فمن حدثكم أن العناية بالفرد علامة الأنانية فاعرفوا أنه رجل سطحي التفكير، لا يصل ذهنه إلى لباب الحقائق، ولا يهتدي عقله إلى دقائق الشئون
يرى الأستاذ سلامة موسى أن من الخطر أن يقول الفرد: (أنا وحدي) وأقول أن من عظمة الأمة أن يكون لأفرادها من القوة ما يسمح لأحدهم بأن يقول (أنا وحدي). . . وما ضعفت بعض أمم الشرق فيما غبر وفيما حضر إلا بسبب عجز أفرادها عن الشعور بتلك الوحدانية، فكان أكثرهم شبيهاً بالنباتات الضعيفة التي لا تفارق ذلة اللصوص بالأرض إلا حين تعتمد على جذع منصوب
واعتماد الفرد على المجتمع في أكثر الشؤون من علائم الانحطاط، وأعظم كلمة قبلت في وصف الشخصية الخلقية هي كلمة الشاعر الذي يقول:
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي
…
بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
والمنحطون هم الذين ينتظرون من الحكومة كل شيء، فهي عندهم مسؤولة عن صيانة جميع المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، و (إصلاح جميع الأحوال)
المنحطون هم الذين يفاضلون بين المرشحين للمجالس النيابية على أساس البراعة في التزيين والتهويل، فأقدر الرجال وأصلحهم للنيابة هو من يزعم أنه سيفرض على الحكومة أن تحول الدائرة التي ينوب عنها إلى فردوس لا يقتات ساكنوه بغير أقراص الشهد وأكواب الرحيق!
وما كان ذلك إلا بسبب الضعف في شخصية الفرد، ومن الأفراد الضعاف يتكون المجتمع الضعيف
ومن أجل هذا ادعوا إلى أن يكن لكل فرد وجود خاص، بحيث يشعر بالمسؤولية الخلقية في جميع ما يباشر من الشؤون: فالفلاح في المزرعة يشعر بسعادة عظيمة لوقوفه تحت الشمس حافي القدمين طاعة للواجب، والعامل في المطبعة يجد من الأنس في صف الحروف ما لا يجده اللاعب الظافر بالصيال فوق رقعة الشطرنج؛ لأن لصف الحروف
وترتيبها جاذبية يخلقها شعور العامل المخلص بأنه لا يؤلف بين حرف وحرف، وإنما يؤلف بين معنى ومعنى ويصل روحاً بروح. والمدرس الموفق يشعر بأنه مسئول أمام الله عن كل تلميذ، فتزيده تلك المسئولية قوة إلى قوة، وتسكب في ضميره رحيق الاطمئنان. والكاتب الصادق في كل ما يكتب يتلقى أحسن الجزاء من الشعور بأنه يصدر عن عقيدة منزهة عن الرياء
تلك قطوف من ثمرات الشخصية الخلقية، ومنها ندرك أن ليس في الدنيا سيد ومسود، ومستأجر وأجير، فكل امرئ في الدنيا يعمل لنفسه قبل أن يعمل لمن وثقوا بكفايته لما يسند إليه من أعمال
الشخصية الخلقية هي مصدر السعادة في حياة الفرد ومظهر السلامة في بناء المجتمع
ولا تكمل الشخصية الخلقية إلا لمن يملك القدرة على أن يقول (أنا)، ولا تصدر (أنا) صادقة إلا عن رجل له وجود خاص، وأنا أتمنى أن يكون لكل فرد في مصر (أنا) لأستطيع الاطمئنان إلى أن المصريين ليسوا أصفاراً تضاف إلى اصفار، وإنما هم أرقام تضاف إلى أرقام، والصفر في ذاته عدم يلبس ثوب الموجود، ولكنه يصبح وجودا ذاتيا حين يقف على يمين الرقم الصحيح
والـ (أنا) لا يراد بها التكبر والاستعلاء، وإنما يراد بها الشعور بقوة الذاتية؛ فالرجل الذي يطيع القانون (أدباً) رجل من أهل الأخلاق. أما الذي يطيع القانون (خوفاً) فهو من أهل الانحطاط. والذي يباشر الأعمال البسيطة طلباً للرزق رجل شريف، لأن طلب الرزق عن نية صادقة مطلب من أعظم المطالب، ولا يعاب على طالب الرزق إلا أن يقترف في سبيله ما يعاب
زعم عدو نفسه - وهو الأستاذ سلامة موسى - أني حكمت على خمسة عشر مليوناً من المصريين بضعف الأخلاق، لأني قلت أن الفقر يشهد على صاحبه بضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، فليعرف عدو نفسه وعدو الحق أن الفقير في نظري هو الشخص الذي يقاسي الحرمان بسبب الكسل وقلة الأمانة والرضا بالدون من مطالب الوجود، وليس في مصر من هذا الطراز غير مئات أو ألوف، وهم أهل للشقاء الذي يعانون
الصانع الذي يرجع إلى بيته في كل مساء وفي جيبه خمسة قروش ليس فقيراً
والفلاح الذي يدبر قوت أهله في كل يوم بعرق الجبين ليس فقيراً
والكناس الذي كحل عينيه بالغبار ليظفر بالقوت الجلال ليس فقيراً
وإنما الفقراء هم أولئك الكسالى المقاطيع الذين يطلبون ما لم يكونوا له بأهل، كأن ينتظروا الوظائف الحكومية وهم جهلاء؛ وكأن يخجلوا من ازدراع الأرض وترابها أشرف من نفوسهم التي ترى حمل الفأس أصعب من التعرض للسؤال؛ وكأن يتوهموا أن سلامة موسى، وفكري أباظة، وتوفيق الحكيم سيخلقون المستحيل فيوزعون أموال الأغنياء على الفقراء، وذلك وهم أعرض من البادية التي تفصل بين دمشق وبغداد
إن عدو نفسه وعدو الحق - وهو الأستاذ سلامة موسى - يقارن بين الوزير والكناس في المرتب، ويقترح إلا يزيد مرتب الوزير على مرتب الكناس بأكثر من خمسة أمثال
وذلك كلام لا يصدر إلا عمن سخروا أنفسهم لخدمة الرياء الاجتماعي
وهل اختلفت الأصابع في القصر والطول إلا لحكمة عالية هو تضامها بصورة متساوية عند تناول الأشياء؟
وكذلك اختلف الحظ بين الوزير والكناس لحكمة عالية، وما كان هذا الاختلاف أثراً من آثار انعدام العدالة الاجتماعية إلا في نظر من يسخر نفسه لخدمة الرياء الاجتماعي
ألم أقل لكم: أن الدنيا فسدت بحيث أصبح الرياء سيد الأخلاق؟
وإلا فعلى أي سناد اعتمد الأستاذ سلامة موسى حين جرؤ على القول بأن الدكتور زكي مبارك يعيش في ظلال عقائد بالية، لأنه يقول بأن انحطاط المجتمع فرع من انحطاط الفرد؟
لقد اعتمد على مراءاة المجتمع، وهو مجتمع يخدع فينخدع، وهو أيضاً مجتمع جبان، فقد عسر عليه أن يدفع قاله السوء عن الأغنياء، مع أن أغنياء مصر أقاموا أصدق الشواهد على أنهم عماد الوطن الغالي، فهم الذين ثبتوا قواعد الأزهر الشريف بما وقفوا عليه من الأملاك الثوابت، وهم الذين أنشأوا الجامعة المصرية، وهم الذين أقاموا الجمعية الخيرية الإسلامية، وهم الذين أسسوا المستشفى القبطي والمستشفى الإسرائيلي، وهم الذين أقاموا لعبادة الله وخدمة العلم مساجد ومدارس تعد بالألوف
فهل من العيب أن أقول بأن المغنى يشهد لأهله بقوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية؟
وكيف وأغنياء مصر كانوا أسبق الناس إلى داعي الوطن والدين؟
وما الموجب لأن نضطهد أغنياءنا بغير حق، وكان يجب أن نفرح بنعمة الله عليهم، وإن نسأله حمايتهم من التعرض للآفات التي تقضي على النعم بالزوال؟
ما رأيت رجلاً غنياً إلا فرحت وطلبت له المزيد، ولا رأيت رجلاً فقيراً إلا حزنت وسألت الله أن يجعل له من بعد عسر يسراً
فما ذنبي إذا كان الله فطرني على هذه السجية؟
ما ذنبي وأنا ادعوا قومي إلى التعاون الصادق بين الفقراء والأغنياء، ليظل الوطن في أمان من النزعات المجلوبة على أيدي جماعات من الأجانب لا يسرهم إلا أن يرونا جميعاً في تأخر وتقاتل وانصداع؟
وأرجع إلى جوهر الموضوع فأقول:
حين يصبح لكل فرد شخصية خلقية تضمن منفعتين صحيحتين: الأولى شعور الفرد بقوة الذاتية فتصبح كلمة (الرعاع) بلا مدلول، وينعدم التعادي بين الأفراد، التعادي المسبب عن انعدام الإيمان بتنويع المزايا والمواهب؛ ولو آمن الناس بأنهم خلقوا مختلفين في الوجوه والغرائز والطباع لغرض صحيح هو تجميل صورة الوجود لأقلعوا عن مساوئ كثيرة مردها الثورة الآثمة على اختلاف المصاير والحظوظ، فلا يوجد منهم من يوازن بين الوزير والكناس، كأن الكناسة عمل حقير، وكأن مزاوليها حقراء، مع انهم يؤدون خدمة نافعة لا يغض من شأنها إلا غافل أو جهول
أما المنفعة الثانية من منافع الشخصية الخلقية فهي الإقبال على أعداد النفس لجلائل الأعمال، بدون اعتماد على الحكومة أو المجتمع
وأخاطر بالمشي فوق الشوك فأقول:
صح عندي أن أضعف الناس إرادة وعزيمة هم المحميون بالحكومة أو المجتمع؛ فالأقليات في جميع البلاد يفزعون إلى أنفسهم فيعيشون أقوياء وسعداء، لأن شعورهم بالعزلة يوحي إليهم فكرة التسلح ضد الفقر والضعف، وما اعتمد إنسان على غيره إلا باء بالخذلان
عيب الفرد هو اعتماده على المجتمع واحتماؤه بالقوانين، فقد شلت من الإنسان مواهب كثيرة منذ اليوم الذي اطمأن فيه إلى أن له عصبية تنصره وحكومة تحميه. . . وأنا أدعو
إلى اعتصام الفرد بنفسه قبل اعتصامه بعدالة الحكومة وحصانة المجتمع، فقد يمضي به التواكل إلى غاية حقيرة هي صيرورته عالة على الحكومة وعلى المجتمع. وإذا أصبح كل فرد عالة على سواه فعلى الأخلاق ألف عفاء
ليست الغربة في أن ينقطع ما بينك وبين أهلك وأحبابك، وإنما الغربة في أن ينقطع ما بينك وبين نفسك، وهي الأهل والصديق، وهي معوانك على الظفر بحقك من شرف الوجود
جاهد ليلك ونهارك في التعرف إلى سريرة نفسك، ففيها عجائب وغرائب من القوى الكامنة كمون النار في السرحة الزهراء، واعلم أن المجتمع لا ينصرك حين تستنصره إلا أن وثق بأن قوته من قوتك، وشداه من شداك
يجب أن يكون موقفك من المجتمع موقف الشريك من الشريك، لا موقف التابع من المتبوع؛ وليس معنى هذا أني أدعوك إلى مجاوزة قدر نفسك فتدعي ما ليس لك، ولكن معناه أن يصح شعورك بالمسئولية في جميع أحوالك ولو كان عملك في ظاهره من أصغر الأعمال
وأنت لا تنال السعادة بالحقد على المسعودين، فلن يزيدك الحقد إلا شقاء إلى شقاء، وإنما تنال السعادة بالجهاد الشريف في سبيل الرزق وإن قضت عليك الأقدار بالعجز عن تحقيق ما تريد، فما كانت السعادة بكمية ما نملك، ولو كانت كذلك لامتنع أن يكون في الفقراء سعداء، وفي الأغنياء أشقياء، ونحن نرى أن الغني والسعادة لا يجتمعان إلا في أندر الأحايين
تنبع السعادة من معين واحد: هو الشعور بأنك تخدم نفسك وتخدم المجتمع بأمانة وصدق، ولا عيب في أن تقول أنك تخدم نفسك بخدمة المجتمع، فالمجتمع فرد مكرر، والذين يدعون الناس إلى التجرد من طلب المنافع ليسوا لا جهلاء، فلا عليك أن اتهموك بحب نفسك حين تطلب الجزاء على ما تقدم من خير ونفع؛ فمن حقك على أمتك أن تدعوها إلى مجازاتك على جهادك، وليس من حقك أن ترجو ما عندها بالسؤال والاستجداء وإن برعت في الحيلة فسميت هذا المسلك باسم مصقول، كالأسماء التي اخترعها المتسولون من صنائع الحذلقة الاجتماعية.
وقد تكلم الأستاذ العقاد في العدد الماضي من (الرسالة) عن (المبالاة) كلاماً في غاية من
الجودة، وهو يرى المبالاة أقوى الشواهد على الشعور بالحياة
وأقول: أن عدم المبالاة قد يصبح وجوداً حيوياً إذا صدر عن عمد، وهو عندئذ من مقومات الشخصية الخلقية. والحق أن لا وجود لعدم المبالاة ما بقي الشعور بالترك والانصراف، والذين اشتهروا بعدم المبالاة من أقطاب الفكر والعقل كانوا أصحاب مبادئ من هذه الناحية، ولم تكن استهانتهم بالمبالاة إلا مبالاة من نوع جديد
وخلاصة القول أن الفرد مسئول أمام نفسه قبل مسئوليته أمام المجتمع، ولا قيمة لمسئولية الفرد أمام المجتمع إلا أن صدرت عن نية، كأن يشعر بأن النظام هو الذي يفرض عليه تلك المسئولية، والصدقة وهي خير لا تزيد قوة الخلق إلا إذا صدرت عن نية، وإلا فهي تبديد وإتلاف، وإن انتفع بها من تقدم إليه
وهل أخطأ علماء الشافعية حين أوجبوا تقديم النيات على الأعمال؟ أن لذلك معاني لا يدركها إلا أولو الألباب
أما بعد فأنا مقتنع بهذا الرأي كل الاقتناع، ولكني حين أسير في شوارع القاهرة أرى أو شاباً من الناس لا يعنيهم خطأ ولا صواب، ولا يهمهم - أن كان يهمهم شيء - إلا أن ترفع عنهم جميع التكاليف، وإن يرزقوا بغير حساب. وما رأيت تلك الأوشاب المبعثرة ذات اليمين وذات الشمال إلا سألت نفسي عن قيمة الإحصاء الذي تشقى به الدولة من حين إلى حين، فما يجوز أن نباهي الأمم بالعدد إلا حين نثق بأن كل شخص في مصر له وجود خاص
الرأي عندي أن نكون جبهة جديدة تحارب الغفلة الفردية والاجتماعية، جبهة لا يكون فيها كتاب مراءون يخدعون الأفراد والجماعات ليتسموا بوسم الإصلاح الاجتماعي
وأعضاء الجبهة المرجوة لن يكونوا من الباكين لشقاء العمال والصناع والفلاحين بدموع التماسيح، ولكنهم سيكونون رجالاً صادقين يؤمنون بأن الشهرة كالرزق فيها حلال وحرام، ويتقربون إلى الله بالصدق، ولو عرضهم الصدق لغضب الجاهلية وكيد المتجاهلين
وبالله أستعيذ من جهل أولئك وسفه هؤلاء!
وأنا بعد هذا أنتظر آراء المفكرين الصادقين فيما تقدمت من بينات
زكي مبارك
8 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
النقص والتكامل - الإنسانية الواحدة - من وحي الحرب
العصرية - مقدمات الوحدة - عصر القبيلة الأممي - الأقدار
تفصل الجسم الواحد - دفع وهم - الخميرة في أمريكا - أم
مجنونة وبنت عاقلة - من توحيد الأرباب إلى توحيد الإنسان
- لا حياة مع هذه الحرب - قيامة صناعية - سلم طويلة من
حرب خاطفة - المبضع من السيف - دم الحرب دم مخاض -
معان تبقى من أمم تفنى
ألمس في نفسي وفي كل فرد عرفته من الناس مهما كان عظيماً نقصاً أجد تكميله عند غيري وغيره. وهذا مما يؤكد في فكري أن الدولة أولاً جسم واحد يكمل بعضه بعضا ولا يستقل عضو منه بحياته إلا ظهر مبتوراً ناقصاً فيه تشويه. . . وكماله وجماله في أن يتضام إلى غيره ويتعاون ويصبر على مضايقة ذلك الغير حتى يستطيع إدراك الكمال المنشود. . .
وكذلك ألمس في كل أمة وحدها نقصاً أجد تكميله لدى غيرها. وهذا مما يؤكد في فكري ثانيا أن الأمم في المجموعة البشرية كالأفراد في مجموعة الأمة الواحدة، كل منها لها ميزة تكمل غيرها، وفيها نقص يكمله غيرها. . .
فالفرد الكامل الذي يستطيع أن يحيا وحده لم يخلق بعد ولن يخلق
والأمة الكاملة التي تستطيع أن تحي وحدها لم تخلق كذلك ولن تخلق
تلك حقيقة توحي إلينا الإيمان بالإنسانية الواحدة، وتحتم علينا أن نتناسى مواريث الوحشية القديمة والجهالات الأولى، وإن نفكر للحياة الواحدة المستقبلة التي يصح أن تنتظم الإنسانية جميعها بعد أن ذهب عنها دور الطفولة التي كانت فيها حدود الأرض ومعارفها مجهولة،
ومواردها وأرزاقها محدودة
ويعظم في نفسي يوماً بعد يوم وجه الشبه بين سير الحياة بالفرد الواحد من طفولته إلى رشده إلى شبابه إلى كهولته، وبين سير الحياة بالإنسانية جميعها من طفولتها إلى شبابها إلى كهولتها
وإني أكاد أجزم أن خطوات سير الحياة بالإنسانية كلها هي خطوات سيرها بالإنسان الواحد. . . وكل من يتفرس في الحياة الاجتماعية يجدها كحياة الفرد سواء بسواء في تدرجها من الغرائز والعواطف إلى الرشد والعقل
وكما يحصل للطفل والشاب أن يغضب كثيرا ويكون أنانيا فرديا في حاجاته، ويحطم ما أمامه ولا يبالي النتائج؛ كذلك الإنسانية في دور طفولتها: أنانية غضوب تحطم كل شيء في سبيل منفعتها الضيقة
ولكن كما تمنع التربية وضبط الأعصاب وفعل الزمن الرجولة من أن تلجأ إلى أساليب الأطفال وغرائزهم وتحبسها عن الغضب والتحطيم، إلا إذا امتدت فيها حياة الطفولة لضعف التربية، أو للشذوذ أو عدم تقدير النتائج كذلك الإنسانية لابد أن تصل إلى هذه المرحلة في يوم ما قريب أو بعيد. . .
يوحي إلي ذلك ما أراه في الحرب الحالية من عنف التحطيم وشدة البأس وجنون الإنسان وقسوة الآلة، بحيث لا يمكن مطلقاً أن تحتمل الحياة بعد هذه الحرب إذا لم تقمع الغرائز والحماقات التي أثارتها، وإذا لم يوضع أساس حياة مشتركة للإنسانية الواحدة التي ابتدأت وحدتها تبدو وتستعلن في هذه المجموعات الكبيرة من الأمم، وهذه الرباطات الوثيقة بينها ومن اختزال المسافات والأبعاد واشتباك المصالح، واشتراك مناهج الدراسة والثقافة العامة، ومن معرفة كل جنس بخصائص كل جنس، ومن الدراسات المنظمة والمؤتمرات الجامعة والجمعيات العالمية، ومن كثرة الأسفار وامتزاج الطبائع، واختلاط الأجناس وتفكير أرباب الأعمال في الأسواق العالمية، ومن تبادل تعلم اللغات والأغاني والرقصات وأدوات الزينة. ومن (الصندوق السحري): الراديو الذي سيصوغ حواس الطفولة وقلوبها غير صياغة قلوب الأباء الذين نشأوا محجوزين محجوبين بعضهم عن بعض بالسدود والحدود والتخوم، ومن (السبورة السحرية) السينما التي تنقل الدنيا وناس الدنيا وتعرض الجميع في حجرة
ضيقة
يصح أن نسمي عصرنا الحاضر (عصر القبيلة الأممي) والإنسانية كلها الآن تمر به كما مرت كل أمة بعصر القبيلة. واشتداد التناحر بين مجموعات الأمم المختلفة في هذا العصر هو صورة مما كان يحدث بين القبائل في الأمة الواحدة
ولم يحمل القبائل المتعادية في القديم على الصلح الدائم والاندماج والوحدة الشعبية إلا عنف ما كان بينها من حروب وتخريب وتعطيل للحياة. فلما رأت أنه لا حياة مع الحرية الكاملة والوحشية المطلقة تنازلت كل قبيلة عن بعض حقوقها وحرياتها ورضوا ذلك إما بضغط الأقوى وإما بالإدراك الصحيح للموقف ومراعاة مقتضيات الحياة
وكذلك كان الأمر في تكوين الإمبراطوريات المختلفة: حروب ونزاع مستمر وتخريب للممالك والمملوك ثم اتفاق أخير ونزول من الجانبين عن بعض المصالح في سبيل المصلحة التي لا غنى عنها للجميع
وكذلك تكونت الولايات المتحدة الأمريكية من جنسيات ومذاهب مختلفة بعد حروب ونزاع دمر حياتهم في بعض مراحل تاريخهم. . .
وكذلك وجدت البذرة التي لابد أن تنمو بعد هذه الحرب: وهي بذرة (عصبة الأمم) التي سيحافظ الغالب والمغلوب في هذه الحرب على إيجادها وجوداً فعالاً مسلحاً، لا وجوداً صورياً كالذي كان عقب الحرب الماضية
وعندي يقين ثابت أن الأقدار تفصل الآن بالحديد والنار جسم الإنسانية الواحدة ذات الحكومة الواحدة كما فصلت جسم كل إمبراطورية على حدة كما فصلت جسم كل أمة على حدة كما فصلت جسم كل قبيلة على حدة كما فصلت جسم كل أسرة على حدة كما فصلت كل جسم على حدة كما فصلت كل عضو على حدة كما فصلت كل خلية على حدة. . .!
هو قانون واحد يلف الكون كله! قانون الجزيء والذرة هو قانون المجاميع. . . واللقاح السياسي واللغوي والعلمي والاقتصادي في المجموعات الكبرى والإمبراطوريات واتحاد الولايات، هو الوسيلة إلى ذلك الأمل المنشود
ولا يتوهمن واهم أنني أزعم أن الخلاف سيذهب من الأرض كلا. . . وإنما سيبقى كما هو في حدود الدولة بين الأحزاب والآراء والمذاهب الاجتماعية. . . وكما يبقى بين الأسرة
الواحدة، وكما يبقى بين القوى المتنازعة في الفرد الواحد: بين العقل والعاطفة والغريزة لأن الدفع قانون طبيعي كقانون الجذب. . . ولكنه دفع لا يفلت من قانون القوة والقهر، كما هو الحال في الدولة الواحدة القوية التي لا يفلت منها من يريد الخروج عليها
أن نفوس الأجناس وطبائعها تتغير تغيراً سريعا من التمايز إلا الاندماج والاتحاد. فلم يبق في الولايات المتحدة أجناس، وإنما صارت كتلة واحدة بمرور جيل أو جيلين وبتوحيد اللغة. . .
والولايات المتحدة خميرة للحياة الإنسانية المقصودة، هي نموذج ناقص ولكنه أقرب إلى الكمال؛ وكان من الواجب أن يحذو العالم القديم حذو هذا العالم الجديد السعيد، ويترك مواريث التاريخ السيئة وعصبيات الأجناس ونعراتها، ويتفق على الحد الوسيط الذي يرضي الجميع مع التضحية ببعض الاعتبارات والحريات
أوربا ولدت أمريكا. . . والبنت هنا أعقل من أمها وأسعد. فلا تزال القارة العجوز تحتفظ بأحقادها القديمة ومواريث تاريخها السيئ في عالم الحسد والبغض والخديعة والبطش والتنازع. . . ولا تزال تشقى الأرض كلها معها. . . بينما أمريكا تسعدها وتجدد الحياة يوماً بعد يوم، وتنثر الأفراح والمباهج في كل مكان. . .
لقد برئت أمريكا من حب الاستعمار والتنازع عليه، فبرئت من السعار المادي الذي يصاحبه، وبرئت من الصفات الذميمة التي تصاحب خلق الافتراس. . . وصارت حبيبة إلى جميع أمم الأرض. . .
اتخذت الطريق المشروع إلى الغنى والثروة، وهو طريق التجارة والمنافسة المحمودة واستغلال الموارد الطبيعية، لا طريق الغصب والغلاب. . . فعاشت تجمع وتعيش بما تجمع وتوزع منه على مؤسسات البر والعلم في بقاع الأرض، ثم لا تفجع فيما تجمع ولا تحترق وتدمر معه كما جرى لأمم أوربا الآن. . .!
لقد خطا الإنسان بإدراكه عقيدة توحيد الله خطوته العظمى إلى الكمال العقلي والقلبي، حين رأى أن العالم كله يساق بيد واحدة، وتوزن أموره بميزان رب واحد. . .
وسيخطو خطوته العملية والعلمية العظمى، حين يدرك (الإنسانية الواحدة) ويؤمن بها؛ وكما حلت عقيدة توحيد الإله مشاكل العقيدة ووجهت الحياة وجهة واحدة بعد أن كانت موزعة
على أرباب متفرقين. . . كذلك سيحل الإيمان بوحدة الإنسان مشاكل وعقداً مستعصية، وتوجه به لأمم وجهة واحدة هي وجهة الخير المشترك، بدل الخير المتفرق الضيق الأناني، ووجهة العلم الباني المعمر، بدل العلم المخرب المدمر. . .
لقد كان منطق الفرقة والتنازع العنيف بين الناس معقولا في الأزمنة الماضية التي كان بين الأمم فيها حواجز سميكة من الجهالة والأسفار الطويلة، واللغات المجهولة، والثقافات المختلفة إلى حد التناقض. . . وكان دور تحكيم الغرائز لا بد منه لحمل ذلك الإنسان الجاهل على التسابق العنيف إلى كشف بقاع الأرض المجهولة، وتلقى منافعها الضائعة إذ لم يكن له علم وعقل يغنيانه عن الغريزة. وكان الاختلاف الحاد بين الناس معقولا لأنه لم يكن هناك أفق عقلي أو علمي أو عملي مشترك بين أمة وأمة متجاورتين بله المتباعدتين، ولم تكن الظروف لتسمح بوجود ذلك الأفق المشترك إلا عن طريق الحرب التي كانت وحدها هي الوسيلة الوحيدة للاختلاط بين المتفرقين، والتعارف بين المتجاهلين. . .
أما الآن فقد صار هذا التفرق والتنازع ضارا بالجميع قاطعاً للعلاقات التي تنمو في وقت السلم نموا عظيما غزيراً لم يكن له مثيل في العصور الأولى. . . وصارت العودة إلى تحكيم الغرائز ارتداداً وانتكاساً في الحياة كانتكاس الرجل الحليم إلى غضب الطفولة الذميم، إذ قد صار في يد الإنسان من أدوات الهلاك والدمار أشياء فظيعة تهدم الحياة من أساسها وتسحق براعم نموها وتجعل العمل للحياة، والسعي لها بعد الحرب عبثاً لا طائل تحته ما دامت الحرب تأتى بعد ذلك لتأكل الأخضر واليابس ولا تبقى ولا تذر
وقد ثبت الآن أن كل ما يصل إليه العلم من أدوات السيطرة والتغلب على قوى الطبيعة وأدوات ترف الحياة ومباهجها يتحول إلى أدوات دمار وإبادة إذا ما ثارت بالأمم ثورة الحرب وبراكين الحقد الدفين. . . فلا أمان على الحياة من شيء مع غضب الإنسان. وقد عاد شعار الجاهلية القديم الذي كان يهتف به المحاربون القدماء؛ وهو تلك الصيحة: يا منصور أمت!
وقد كانت الأديان والأخلاق قد جعلت للحرب في العصور المتوسطة قوانين فيها بقيا غلى مناطق نمو الحياة؛ وفيها ذكرى للود القديم والدم والنسب وصلة العلم والفن والعمران، وكانت الحرب تجد لها في وقت احتدامها ما يخفف آلامها من نبل الفروسية، ورحمة
القادرين، ووصايا القواد بالضعفاء والمرضى والشيوخ والأطفال والنساء والحرث والنسل:
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها
…
تذكرت القربى ففاضت دموعها!
أما الآن فإذا بطشوا بطشوا جبارين! لا يذكرون طفولة ولا شيخوخة ولا مخلفات الفنون والعلوم والآثار الثمينة التي هي ملك الإنسانية جميعها. . .
ومن كان يظن أن الإنسان الأوربي العالم الفنان الذي فتنته أحاسيس الحياة وجن بها جنونا فعبدها في الزهور والرياحين والحب والألحان والعناية بالطفولة، واقتنى التحف والمخلفات الأثرية من الجماجم والعظام والأحجار والخرزات، ولم يدخر في سبيلها مالاً، وجميع مجموعات النبات والحيوان، وحرص على استخراج كنوز الأرض، والتقى على صفاء في المجاميع العلمية والأدبية والملاعب الرياضية والمؤتمرات العالمية وتبادل تعلم اللغات، وسكن جميع بقاع الأرض، وعرف آلام الأجسام والأرواح، وأنفق الأموال الطائلة على نبش الأرض ليستخرج منها حلقة مفقودة تنير له تاريخ الإنسانية التي يعتز بها. . . من كان يظن أن من فعل كل أولئك يجرؤ على أن يهدم حاضر الإنسانية بكل ما حمل في طياته من الماضي، ولا يبالي أن يزهق الإنسان ومدنه وكل ما حمله عقله وقلبه!!
فأين عالم الدفاتر والمحابر والمنابر والمؤتمرات والمجامع والمعاهد والمعابد؟ أين عالم العقول والقلوب؟
أين الشعر والفن والرحمة والحب والجمال والخير؟
أين المعاني التي سجلها الدين والأدب عن الآلام، ودارت عليها فلسفات وقصص ومسرحيات؟
أين مؤسسات الرفق بالحيوان؟
أين كل (الدراما) و (الترجيديا) التي كانوا بها يبكون في المسارح؟
أكانت ملاهي وملاعب لا أكثر؟ يا لها إذا من خديعة عبقرية!
ولكن هذه هي الحرب العصرية. . . صورة مصغرة من أهوال القيامة. . . بل القيامة ساعة ثم تنقضي الحياة ويستريح الناس بالموت إلى حين. . . ولكن الحرب العصرية (قيامات) لا عدد لها. . . بها يموت الناس ويبعثون ثم يموتون ويبعثون كلما شنت عليهم غارة جوية إلى أن تضع الحرب أوزارها. . .
فيا بني الحياة! أي حياة هذه!؟
أن الله أرحم بالناس من أن يجعلهم لمثل هذه الحياة. . . الناس أرفع بأنفسهم من أن يعبدوا مثلها. . . أنها مرحلة لابد منها في طريق الإنسانية الشقية إلى الاستقرار والراحة واللقاء الذي لابد منه بعد الافتراق والتقلقل
ومن بين ظلمات هذه الحرب الخاطفة السريعة يلمع نور السلام البطيء الطويل. . .
ومن بين نيرانها وزلازلها وبراكينها يبدو برد الحياة وثباتها واستقرارها. . .
ومن بين قسوة القلوب فيها بقسوة الآلات والمدمرات تلوح عواطف الرحمة والحب. . .
لقد كان من نتائج الحروب الكبرى دائما ابتداء دورة زمنية بالإنسان وانقلاب في أوضاع الحياة. . . والذين عاشوا قبل الحرب العظمى الماضية وبعدها يدركون الفرق الشاسع بين الحياتين. . .
هذه السرعة التي في الحرب ستكون في السلم. . . وكما استحال سيف الحرب إلى مبضع الطب ستستحيل جميع آلات الدمار إلى آلات إنتاج وتعمير ورفاهية
ولاشك أن تشبيه الحرب بحادث المخاض والولادة تشبيه صحيح من كل وجه. . . فكل حرب تلد مولودا من الطباع والأوضاع والأفكار والآلات والمرافق. . . مولودا يجدد الحياة ويقذف في شعلتها حطبا ويسقيها زيتاً. . . ولا ضير فيما يصحب ذلك من الألم والدم والهزة والخوف؛ فكل هذه أعراض تصحب حادث الولادة في حياة الإنسان. . .
ولن تضيع سدى تلك الأرواح لتي ذهبت قرابين للمعاني السامية التي في قلوب الأمم المتحاربة. وإنما هي لبنات في البناء الخفي للوجود الإنساني. . . وأنها كلها حية تنظر إلى عراك الجماعات في عالم الظواهر كعراك ذرات تحملها الريح أو حصى يحمله ماء السيل حتى تبلغ مكانها المرصود في بناء الوجود. . .
وسواء أوضع حجر في خفاء الأساس أم رفع في علانية القمة، فالكل بناء واحد. . . وتبلغنا الآن أنباء انكسار أمة وانتصار أخرى فلا نلتفت إلى الأفراد فيها. وإنما يعلو عنوانها أو ينخفض وهي صورة موحدة ليس فيها توزيع. فتفرح كلها بالانتصار ولو باد في سبيله كثيرون، وتستاء كلها بالانهزام، ولو انتصر فيها كل فرد نصرا فرديا وأتى بأعمال البطولة المعجزة
فهل لأصحابنا الفرديين الأنانيين أن ينظروا موضع الفرد من الأمة على ضوء نار هذه الحرب، وموضع الأمة من مجموعة الأمم التي تنتسب إليها حتى يتبينوا أنه لا وجود إلا للمعاني العامة التي هي ملك الإنسانية جميعها؟
أن هذه النظرة تجعلهم يحملون السلم بقلب عارف بها، ويحاربون إذا كتبت عليهم الحرب بسيوف كمباضع الأطباء: تقطع لتشفي، وتقتل فتحسن القتلة بدون مثلة ولا نية أثم أو جريمة. وتجعلهم خصوماً شرفاء رحماء يحاربون بروح رياضية كأنهم يلعبون. وتجعل من السيوف ظلالا للضعفاء والمسالمين.
أولئك هم الربانيون المؤمنون بالله وبالإنسان أثمن ودائع الله في الأرض!
عبد المنعم خلاف
أشكر للأستاذ بشير صادق تقديره الكريم، وأرجو الله التوفيق
في طلب الحق والإبانة عنه.
صورة وصفية دمشقية من القرن الماضي
العجوزان!
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء، وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب، أو الكابوس الثقيل، ثم انفجروا يصيحون، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها وجود الشيخ فلم ينسبوا بها. وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة - والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده) يتراكضون ويتراشقون بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار، ويتراشون بالماء، أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار، فيغوص الولد في أمواهها، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه فتخرجه بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه وتجفف خشية المرض جسده، فإذا هو يتفلت من بين يديها، ثم يركض وراء أخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم الثأر، والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض والمرمر الصافي، التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج، حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى. . . وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع، وهم يتنقلون من غرفة إلى غرفة، ومن درج إلى درج، ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق، من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج) وقباب الشمشير (زينة الدور) والياسمين والورد والفل؛ تتوسط ذلك كله الكرمة (الدالية) التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي) الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ، لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنباً. . . والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم:
(ولك يا ولد أنت وياه. . . يقصف عمري منكم. . . وسختم البيت. . . يا ضيعة التعب والهلاك. . . الله يعجل علي بالموت حتى اخلص منكم!)
فيختلط صراخها بصياح الأولاد، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين، وهم يتضاربون، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني والكئوس. . . لا يصغي لنداء الجدة أحد منهم. . .
ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر، فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم، وتتخافت أصواتهم ويحسون بدنو ساعة الخطر، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ، أو أن يصلح ما أفسد منها، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته، ويتذكرون ما هشموا من آثار المنزل حين عاثوا فيه مخربين، فيجمع كل واحد منهم ما يقدر عليه من حطام الأواني فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ، ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل. وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة، لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها، لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها من أربعين سنة. . . في ذلك اليوم المشؤوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه، وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا، فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية) عشر دقائق كاملات. . .
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل، وخف (صرماية) للمسجد، و (بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار، و (قبقاب) للوضوء، وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب، ولا يخالف الشيخ في عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق، أو يتوضأ بباجوج الدرج. . .
وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله، وتهيئ (البقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة، من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة، وهي لا تزال تذكر إلى الآن. كيف وضح لها أسلوبه في الحياة وبين لها ما يحب وما يكره، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب، كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه إذا هي أتت شيئا مما نهاها عنه، فأطاعت ولبثت هذا العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة لم تخالف إلا في ذلك اليوم المشؤوم وقد لقيت فيه جزاءها، ونظرت العجوز الساعة فإذا هي في منتصف الثامنة. لقد بقي نصف ساعة. . . ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعدادا للمعركة، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام، وبعثت بالأخرى لتمسح
أرض الدار التي وسخها الأولاد، وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافاً. . . ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه؛ ولكل شيء في هذه الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه، سنة سنها الشيخ لا تنال منها الغير ولا تبدلها الأيام، فهو يحب أن يوضع يده على الشيء في ظلمة أو نور، في ليل أو نهار، فيلقاها في مكانه. ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم، نظرت في الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق. . . فاستعدت وغسلت يديها ووجهها ولبست ثوبا نظيفا كعهدها ليالي عرسها لم تبدله، واستعد أهل الدار بكبارهم وصغارهم. فلما استوى عقرب الساعة الثامنة أرهفوا أسماعهم فإذا المفتاح يدور في الباب. أنه الموعد ولم يتأخر الشيخ عن موعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودة عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه من سبيل. فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها، وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر، وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها
غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق، فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحازم المتزن، وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع، وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف. . . وكانت غرفة الشيخ التي يؤثرها على يمين الإيوان العظيم ذي القوس العالي والسقف المنقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق، والذي يتوجه أبداً إلى القبلة ليكون لأهل الدار مصيفاً يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف، ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق، يشرفون من على الصحن المرمي وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير. . . وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع كسائر الغرف الدور الشامية، تغطيها (تخشيبة) مد عليها السجاد وفرشت في جوانبها (الطراريح): الوسائد والمساند، وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة، وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار، وقد صف إلى جانبه علبة وأدواته، وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد كما حرموا الدخان بلا دليل. . . والى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير والكتابان اللذان لا
ينتهي من قراءتهما: الكشكول والمخلاة، وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق، فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر، وكل شيء في كيسه الذي خصصه به، وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها. وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب، فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه. ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علباً صغاراً في كل علبة نوع من أنواع النقد: من النحاسات وأنصاف المتاليك والمتاليك وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها والليرات العثمانية والإنكليزية ووالفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب، فإذا أصبح أخذ منها مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية) الشهر، ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه، فضم كل جنس إلى جنسه. وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان)، الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا (وقلما كان يفعل) يستضيء به في طرق دمشق التي لم يكن فيها أنوار إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم، واكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان نهارا ويطفأ ليلاً. . . وفيها الكأس التي تطوى. . . والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار. . . وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة، فأهدى إلى أصحابه قسما منها وأودع الباقي خزانته. . . وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها لأنه حشوها (شكولاته). . . وكانت هذه هي عجائب الدار السبع!
وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها (السكمجاية)، وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق، وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة، وهيئة غريبة، كانت شائعة يومئذ في دمشق، موجودة في أكثر البيوت المحترمة. . . . . .
والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه. ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بعلبة النشوق فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها، فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ - فكأنها أهل المنزل اسود - وحرموا بعده الدنو من هذا الحمى!
كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر، أحاط شبابه بالعفاف والتقى،
فأحط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة، وكان فارع الطول عريض الأكتاف، لم يشك في حياته ضعفاً، ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة. ولم يجد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك. فهو يفيق سحراً والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخاشعة - والخشوع الفاتن - والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يمجد الله في السحر، يتحدر من أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها، يمازجه خرير الماء المتصل يصعد من نافورة الدار يمجد (هو الآخر) ربه ويسبح بحمده، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان، ثم ينطلق لسانه ب (لا اله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين، ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طول حياته، لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل. وكثيراً ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده ويغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي، ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوماً واحداً، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة، ويرجع إلى داره فيجد الفطور معداً والأسرة منتظرة، فيأكل معهم اللين الحليب والشاي والجبن أو الزبدة ولزيتون والمكدوس، ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحها ورتبها
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي، وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصفت أثواب البز أما الجدران، ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء بسمعه وبصره، ويدفعون إليه الثمن، فإذا ركد السوق قليلا تلا الشيخ ما تيسر من القرآن أو قرأ في (دلائل الخيرات) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة، أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها، وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة من أهل الحل والعقد، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها. . .) وكان الشيخ مهيباً في السوق كهيبته في المنزل، تتحاشى النسوة المستهترات الوقوف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه لترى البضاعة، كما تكشف كل مستهترة، صاح بها فأرعبها وأمرها أن تستتر وإن تلزم أبداً حدود الدين والشرف، وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهاناً، أيهم يقرع عليه بابه، ويجعلوا
الرهان ريالا مجيدياً أبيض، فلا يفوز به أحد منهم.
وكان الشيخ قائماً بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها، ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم، ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج من الدار ليشتري شيئا؟ وما لهم ولها كل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين أيديهم، وما اشتهوا منه يأتيهم؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها، إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها، ثم أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفاً على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح، لأن الوضوء سلاح المؤمن، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة. أما في العصر فيصليه في مسجد الحي، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دق وجل من شؤونه. . . أختلف أبو عبده مع شريكه فيجب أن تؤلف جمعية لحل الخلاف. . . والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له. . . وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وأذى السابلة فلينصح وليجير على رفع الأذى عن الناس. . .!
أي أن هذه الجماعة محكمة، ومجلس بلدي، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريبا عن الحي يحوم حول أحد المنازل سأل عنه من هو؟ وماذا يريد؟ وإذا رأى رجلا يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا اخته، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأته في طريق فتعرف به حيثما سارت، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها على نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده، وإن فتح امرؤ شباكاً على الجادة سدوه، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك، ولكنها من الداخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقياً من الفواحش صيناً؛ أهله كأهل الدار الواحدة لا يظن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا
بماله؛ وإذا أقام أحدهم وليمة، أو كان عنده عرس أو ختان، فكل ما في الحي من طباق وصوان وكؤوس تحت يده وملك يمينه
مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف. مطردة اطراد القوانين الكونية، حتى جاء ذلك اليوم. . . ودقت الساعة دقاتها الثمان، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ؛ ولكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألما شديدا لم يفارقها منذ الصباح. وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب، ولم تحد عن هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته؛ فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة. فهز رأسه ودخل، فلما وقع بصره لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده، فلما مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة؛ وكان الشيخ على ما بيده من شدته وحزمه وحبه النظام، قوي العاطفة، محبا لزوجته مخلصاً لها، فرجع من فوره ولم يأكل، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء في تعليل هذه الحادث الغريب، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر من مداره. ومضت على ذلك ساعة أو نحوها، ثم سمع المفتاح يتحرك في الباب فسكتوا وحبسوا الأنفاس وترقبوا هذه المفاجأة. فدخل الشيخ وصاح:(روحوا من الطريق)؛ فاختبأ النسوة ليدخل الضيف، غير أنهن نظرن من شق الباب - على عادة نساء البلد - فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض. . . وكان الطبيب شيخاً وكانت بينه وبين العجوز قرابة، ومع ذلك فقد أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وإلا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره؛ ثم أدخله عليها، فجس نبضها، وقاس حرارتها، ورأى لسانها. وكان ذلك منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب، فودعه الشيخ وعاد، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وإن تلزم الحمية وتتناول العلاج الذي يأتيها به. . .
مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها، وتغلبها الحمى فتهذي. . . (صارت الساعة الثامنة. . . يلا يا بنت، حضري
الخوان. . . والقبقاب؟ هل هو في مكانه. . .)! وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها؛ وكانت بنتاها وكنتاها بمرضنها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كما تعهدها أم قد اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها، لا هم لها سواه
وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبرا، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقده بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين، فيجتمع لها من أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل امقار (كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامتة، ولا يعيقها ذلك عن تربية أولادها ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل، وتغسل القمح وتعجن العجين، وكذلك كانت الزوجات في القرن الماضي
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة. . .؟ لقد آلمها الأمر وحز في كبدها، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته وهوله، فلم يكن من ابنتها المخلصة وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حاراً مدراراً، وهم لا يدرون ماذا يعملون، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدوها. ثم هدا صياحها، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة، ووقف من وقف حائرا يبكي
ولكن العجوز عادت تنطق بعدما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا؛ وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب. . . بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة، وكان آخر ما فكرت فيه عند
موتها، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها: زوجها ودارها. . .
ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء. لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة، فخلت حياته من الحياة، وعادت كلمته لا معنى لها، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه، وامتدت إلى (الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحا، فلم تبق فيها تحفة ولا مالا، وهو لا يأسى على شيء ضاع منه بعدما أضاع شقيقه نفسه. وتهافت هذا البناء الشامخ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل!
علي الطنطاوي
المحامي
نظرات في الشعر
للأستاذ محمود البشبيشي
من الشعر ما يلعب بالنفوس لعباً، بل يقلب جوهره قلباً، فيبعث في الرجل الصخري المزاج روحاً ارق من نسيم الفجر، والطف من شفاء الورد، وأنقى من دموع الفرح؛ ومن الشعر ما ينفذ إلى القلوب بغير إذن، لأن كل لفظ فيه لفظ من القلب، وكل مقطع من مقاطعه قطعة من الفؤاد، تتفتح له القلوب لأنه منها، وتتلقاه خافقة لأن كل نغم فيه من خفقاتها. في الشعر قيود لا انفكاك لها، ولكنها قيود محبوبة، يحس بضرورتها من كان من ذوي النفوس الحية، والقلوب الندية، ويحس بضرورتها من يضيقون بحرية الحياة الجائرة وقد فسدت، وحرية الشهوات والنزعات الداجية وقد تمادت، فيميلون إلى قيد من قيود الشعر يسعدون به، ويشعرون فيه بمعنى حرية الطهر والنقاء. إنهم يشعرون بالحرية في قيده، لأن الشعر حين يقيدهم إنما يقيد صوراً حية من الحياة الجائرة، ويمنعها من الوصول إليهم، أو يطهرهم منها لحظة، ويتيح لهم أن يتصلوا بعالم منغم حلو نقي هو عالم الشعر
بحث الكتاب في الشعر، وسيبحثون لأنه موضوع الشعور الحي، موضوع الروح: موضوع الحياة، سار مع الزمن، يضعف في عهد فتذبل أناشيده على الشفاء، ويشتد في عهد فتغنى به القلوب، وما ضعف ولا أشتد لعجزه عن مسايرة الزمن وأطواره، ولكنه ضعف حين ضعف المشاعر النبيلة في النفوس، وغشيت القلوب الأطماع، وأشتد حين تلألأت في النفوس أنوار الشعور، وأحس الناس أن في صدورهم قلوبا تخفق، فمالوا إلى ترجيع الكلام، حتى يجانسوا بين أنغام القلوب وبينه. . . ولعل هذه الصلة هي أصل الشعر! ومن هنا كان الشعر محبباً إلى النفوس لأنه منظم لمشاعرها، ولأن الطبيعة وهي مصدره منظمة منقمة. ولا عجب، فكل ما في الشعر من وزن وقافية وموسيقى أساسه النظام. من روعة الشعر أنه خلق نفسه خلقاً في حياة الإنسان، لينظم ويرتب وينسق كل ما يتصل فيها بالشعور. . .
قاله الشاعر حين اضطربت مشاعره في نفسه وغلبته الآلام والآمال، وتراكمت ففقدت النظام؛ وشعر هو بذلك فضاق واضطرب، وضج وثار، وفكر وتأمل، ولما صدق تأمله أدرك أن في نفسه تعبيرا عجز عن بيانه، وإن حديثه وخطابته لم يجدياه نفعاً ولم يخففا
ألمه؛ فهو لا يزال مضطرباً، عاجزاً عن بيان ما يشعر به في قرارة نفسه. . . وهو لا يزال يشكو ولا يعقل أن يكون سبب شكواه ضعفاً في رجولته وهو ابن البادية. . . إذن لعل في أسلوب شكواه والعبير عن آماله نقصاً. . . أنه لكذلك فراح يبحث عن لغة جديدة ينفث بها آلامه وأماله فتهدأ نفسه، فكان الشعر لغته الجديدة، وكان شفاء علته، وكان لسان الروح ولسان القلب.
ما أروع الشعر! لقد خلق نفسه خلقاً، بل لقد خلقته حاجة النفس البشرية إلى تنظيم مشاعرها، ومنذ عرف الشعر أصبح ترجمان القلوب، ولغة النفوس، ينتقل بك من عالم القيد إلى عالم الخيال، وتجد أنت في ذلك لذة لا تدري كنهها، ولا تعلم مصدرها، ولكنك برغم ذلك تحبها وتود السبح في سمائها الحالمة، والشعر يغمر نفس الشاعر وجدانا موزوناً نغماً
يولد الشاعر والشعر في روحه سر من اسرارها، لا يظهر إلا إذا انتظمت مشاعره، ولكنه لا يتقيد بسن ولا بزمن، وقد تفاوت مواعيد ظهوره بتفاوت نفوس الشعراء واستعدادها لتنظيم حياتها بطبيعة النظام الشعري الكامن فيها، فمن الشعراء المفطورين من يتمادى به العمر قبل أن يقول الشعر، ومنهم من تشع نفسه إشعاع الشعر، وهي في أيام الصبا الندية. . . ليس معنى هذا أن ملكة الشعر تقبر طيلة هذه الفترة الخامدة في نفس الشاعر، بل أنها لتظهر ولكن في صور أخرى كأن يميل صاحب النفس الشاعرة في طفولته إلى اللعب المنظم وجمع الصور الملونة والى سماع الموسيقى، وفي شبابه إلى الرسم الجميل وابتكار الصور البديعة. ذلك بأن ملكة الشعر موجودة فيه، تنظم اتجاهات نفسه، وتعمل على السمو بها حتى تتهيأ لرسالة الشعر. ومن عظمة الشعر أن يكون للشاعر المكفوف عيناً يغمر قلبه بالنور فيبدد غياهب الظلمة، وينثر الشعر أمامه نجوماً وشموساً تبهر عيون المبصرين. إلا أن الشعر وحي يرتفع بالشاعر إلى مرتبة الروحانية، ففي استطاعة الشاعر أن يعرض لك الصور الحسية الجافة الصامتة عرضاً كله حيوية ناطقة؛ يصور لك الشيء الذي لم تره، فتشعر كأنك رأيته ولمسته وخبرته. وما رأيته ولا لمسته، ولكنه سحر الشعر وفنه وأعجازه، يجعل من المعنويات محسات، ومن الأخيلة حقائق، فما أبدعه وما أروعه! انتهينا إذن إلى أن الشعر لغة روحية، هب نسيمها على النفوس عندما انتظمت المشاعر، وحينما
تهيأت لتلقي الرسالة الشعرية؛ وأنه أسلوب خلق نفسه في الإنسان خلقاً، عندما ضاقت النفس بمعان لا تصورها خطابة، ولا يعبر عنها حديث، وقد ارتاحت النفوس إلى الشعر لأن طبيعته الوزن والنغم والنظام والأناقة؛ وأحبته حين نظم مشاعرها، ونظم أحاسيسها فأراحها
وإن الشاعر المفطور يخلق وفي طبعه روح الشعر، أن روح الشعر لا تخمد بخمود روح الشاعر، بل أنها لتظهر في صور فنية أخرى. ولما كان الشعر وليد العاطفة المنظمة لابست أغراضه أغراض النفس أصدق ملابسه، وتساوقت معاني القلوب وأحاسيسها في معانيه وأحاسيسه، وصار أمرا طبيعيا أن يكون الشعر صورة لنفسية الشاعر، وعبيرا لأزاهير حبه، ولهيباً لما يشتغل بين جوانحه من عاطفة، وشعاعاً لما يتألق في وجدانه من آمال. وكان بكل هذا حقيقاً أن يكون مجتلى لسائر العواطف الإنسانية السامية
وإن الباحث البصير ليستطيع أن يحدد زمن الشعر الذي يقرؤه إذا أوتي حظاً من دراسة النفس في مختلف العصور، بل أنه ليستطيع أن يهتدي بالشعر إلى كثير من أخلاق الشعوب، فيعرف ما شاع في كل عصر من الأخلاق، وما اضطرب فيه من العادات والتقاليد، وما كان يعتبر فيه مناط الفخر والمفاضلة، وأنه في كل ذلك لسائر على هدى ما يتأرج به الشعر، وما تشبه أرواح الشعراء؛ هبك قرأت الأبيات آلاتية:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كومنا
…
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تفلق هاماً من رجال أعزةٍ
…
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ألا تشعر بعد طول التامل، بل بقليل منه أنها من إنتاج الأدب القديم، أدب التضحية والفداء، عصر الشهامة والإقدام؟ وهبك قرأت قول الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله إنسانا
ألا تحكم لأول نظرة بأن هذا كلام متمعن في الحضارة، ممعن في الرفاهية، فياض بالرقة، تلوح على محياه نضرة النعيم، فلا يحلق بنفسك أقل عجب إذا علمت أنه من كلام (جرير). وهبك قرأت قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا
…
املك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه أن مررت به
…
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
ثم قرأت بعده قول الشاعر:
أصبحت لا أستطيع الثوب أحمله
…
وقد أكون وضافي الدرع سربالى
ولا تكاد يدي تجري شبا قلمي
…
وكان طوع بناني كل عسال!
ألا تشعر بأن الشاعر الأول بدوي النشأة، صحراوي البيئة، تتراءى في كلامه مظاهر العربي الصميم، الذي كل عتاده السلاح والبعير، ومن طبيعته جوب الفلاة والتعرض للذئاب والرياح والأمطار؟ أو لا تشعر أيضاً بأن روح الحضارة تهب من عبارة الشاعر الثاني؟ أفليس أدق فكرا نظاما من الشاعر البدوي؟ أو ليس له من مفاخر الحضري القلم يجريه كيف شاء؟ وإذا أمعنت في التأمل استطعت أن تدرك أن الشاعر الثاني فارس في حلبتي البيان والحرب. إلا تراه يقرن بين القلم والرمح؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا علمت أنه رب السيف والقلم (محمود باشا سامي البارودي)؟!
وهكذا يستطيع الفنان البصير أن يلمح صور الزمان والحضارات في مرآة الشعر؛ ويستطيع أن ينتقل من عهد إلى عهد على هدى من الشعر ومن نور البصيرة.
وإنك لتستطيع أن تزن أخلاق الشاعر بشعره، وتدرك ما كان عليه من مختلف الصفات، وتعلم من خلال شعره أكان قوي الروح أم ضعيفة، جياش العاطفة أم فاترها، بعيد مدى الآمال أم رهن محابس القنوط، واسع الرغبة في الغلبة وذيوع الصيت أم قانعا بما فرضه عليه الزمان، وتقيده به المقادير
الشعر أصدق في الإفصاح عن نفسية الشاعر من المخالطة، لأن الشاعر قد يكون في وقت المخالطة متكلفاً مسوقاً إلى ملابسة الأحوال التي تضطرب حوله. أما إذا قرض الشعر، فإن عواطفه تتراءى بين سطوره، وإن حاول الاختفاء واجتهد في التنكر؛ ومن هنا كان الإنتاج الشعري صورة لمختلف الوجدانات؛ وطبيعي أننا نريد من كل ما تقدم شعر العاطفة، لا الشعر البالي المأجور، ولا عجب بعد ذلك أن توفر الناس على الشعر الحي النابض بالشعور الإنساني دراسة واستيعاباً وشرحاً ونقداً، أو معارضة واقتباساً، وكما دل الشعر على أن أبا نواس كان صاحب مجون، وإن البحتري كان صاحب موسيقى، كشف لنا عن
سر طموح المتنبي وتحليقه في مساء عالية، وغلوه في الفخر والاعتزاز بقدره، فقد كان الرجل يحمل قلب ملك، ولسان شاعر؛ فلطالما رأيناه يبوح برغم محاربة الدهر له بما يضطرب في صدره من آمال جسام، وقد كان لا يصنع بما دون النجوم، وكان يريد من الزمان ما لا يبلغه الزمان من نفسه، أليس هو الذي يقول:
وما رغبتي في عسجد أستفيده
…
ولكنها في مفخر أستجده
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
…
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وهكذا كان الشعر وليد العواطف إذا احتدمت، ومنظمها إذا اضطربت، ومرآة الحياة العامة والخاصة؛ تنطبع عليها خبايا النفوس؛ فما أروع الشعر وما أجمله!!
(المنصورة)
محمود البشبيشي
البعث.
. .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
عَلَى يَدَيْكِ زَمَاني
…
طَيْرٌ شَقِيُّ الأغَانِي
بَكَى إليكِ حَناني
…
مُرَوِّعاً مُسْتَطارا. . .
اللَّيْلُ مِنْهُ اسْتَجَارَا
وَالفَجْرُ ضَجَّ وَثَارَا
وَالعُمْرُ كالطَّيْفِ. . . صَارَا
بَقِيَّةً مِنْ أمانٍ
…
عَلَى قلُوبِ الحَيَارَى!!
أشْعَلْتِ نَارَ الحَنِينِ
…
عَلَى رَمَادِ السِّنِينِ!
عَلَى لَظَاهَا دَعِيني
…
أُصَارِعُ الأقْدَارَا. . .
يَا مَنْ لِجُرْحٍ تَوَارَى؟
وَعَادَ للرُّوحِ نَارَا
هَاجَتْ زَمَانِي فَصَارَا
بَقِيَّةً مِنْ جُنُونِِ
…
عَلَى شِفاه السُّكارَى. . .
مَاذَا وَرَاَء السِّتارِ؟
…
يَا غَيْبُ أوقِفْ مَدَارِي!
لَيْلِي أضَلَّ نَهَارِي
…
فَلَمْ يَعدْ لي نَهَارَا. . .
بَلْ عَادَ جُرْحاَ مُثَارَا
أدْمَى الّليَالي وَدَارَا
عَلَى كِيانِي. . . فَصَارَا
بَقِيَّةً مِنْ غبَارَ
…
عَلَى سُكونِ الصَّحَارَى
هَاتِي لِيَ البَعْثَ هَاتِي
…
المَوْتُ مَلَّ رُفَاتي!
فَإنْ أرَدْتِ حَيَاتِي
…
قُومِي اسْكُبِي الأنْوَارَ
وَأرْعِشِي الأوْتارَا
أحِسُّ عِطْرَكِ طَارَا
إلى خَرِيفِي. . . فَصَارَا
بَقِيَّة مِنْ شَكاةٍ
…
عَلَى رَبِيعِ العَذْارَى. . .
يَا كَوْكَباً هَزَّ دَهْرِي
…
يَا فَجْرِ خُلْدٍ لِشِعْرِي
خَمْرِي لدَيْكِ وَسِحْرِي
…
فَأيْقِظِي الأسْحَارَا
َونَاغِمِي الأطْيارَا
وَألهِمِي الأشعَارَا
بَارَكْتِ عُمْرِي. . . فَصَارَا
بَقِيَّةً. . . لَسْتُ أدْرِي!
…
هَيَّا نُزِيحُ السِّتارَا. . .
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
الفرس والعراق
إلى الأخ الدكتور زكي مبارك
السلام عليكم
أطلعت على مقالك الأول (في الأدب العراقي الحديث)؛ فإذا أنت تقول:
(فكيف صارت العروبة في العراق بعد سقوط بغداد وبعد انتهاء ما تلا عهد المغول من خطوب؟ ظل العراق العربي محتلاً بالقوى الفارسية نحو ثلاثة قرون، وهو أمد يقدر بثلاثة أرقام، ولكنه أمد طويل جداً)
وقد وقفت أيها الأخ الفاضل عند هذه الجملة، وسيرت فكري في تاريخ العراق بين غارات التتار وهذا العصر، فلم أعرف أن الفرس ملكوا العراق ثلاثة قرون. ولكن كان تسلطهم على العراق في عهد الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية (907 - 930هـ)، ثم تداولوه هم والأتراك العثمانيون حتى سنة 1048، حينما استولى عليه السلطان مراد الرابع العثماني. وكان العراق في هذه الحقبة دولة بينهم وبين الترك العثمانيين، وكان سلطان هؤلاء أغلب عليه؛ ثم استولى الفرس على العراق زمنا قصيرا في عهد نادر شاه بعد زوال الدولة الصفوية
فليس حقا أن الفرس ملكوا العراق بعد غارات التتار ثلاثة قرون ولا قرنين ولا قرناً، وإنما كانت مدداً غير متصلة بين عهد إسماعيل الصفوي وعهد مراد الرابع العثماني كما بينت
والأخ مشكور على اجتهاده واحتماله المشقة لتاريخ الأدب العربي في العراق، وله تحيتي وسلامي
عبد الوهاب عزام
عود إلى (التجديف)
عاد العلامة الدكتور زكي مبارك، في العدد 407 من الرسالة الغراء، يطرق باب (التجديف)، وكنت ظننت أنه أوصد لا إلى رجعة. وقد لخص ما كان قرره من قبل في هذا الموضوع، ببيان أوفى، وزيادات متممة. وتلطف في أثناء بحثه هذا فطلب إلي أن أكون
حكماً بينه وبين العوامري بك.
وقد رأيت، نزولاً على إرادة الدكتور، أن ارجع كرة أخرى إلى مقال العوامري بك في مجلة المجمع اللغوي، حتى أضبط الرأي وأحكمه، فوجدت أنه في هذا المقال، كما هو في غيره من مباحثه اللغوية، من أولئك (المحافظين) المتشددين الذين يقفون عند النصوص وأقوال الثقات فيما هو قياسي وما هو سماعي.
فهو لذلك لا يبيح أن يقال: التجديف أو التجذيف أو التقذيف؛ لأنه لم يعثر على أفعال هذه المصادر فيما رجع إليه من الكتب والمعجمات. وليس معنى هذا - كما هو بدهي - أنه يجزم بأن العرب لم تنطق بهذه الأفعال؛ كما أنه ليس معناه أنه لم يروها راو، أو أنها لم تدون في كتاب؛ وإنما هو يقول - كما يقول دائما في بحوثه الغوية -: أن هذا مبلغ جهدي، وقصارى اطلاعي. فمن عثر بعد ذلك على شيء مما أنكره فليدل به
ثم هو بعد ذلك يحظر تضعيف جدَفَ وجذَفَ وقذَفَ، لأن التضعيف للكثرة والمبالغة سماعي، يحفظ ما ورد منه ولا يقاس عليه، ولو أن (الجدف أو الجذف أو القذف لا يصور الحركة التي يثرها المجداف أو المجذاف أو المقذاف) كم قال حضرة الدكتور. فليس يصار إلى التضعيف إذا لمحنا في الفعل الذي لم يسمع تضعيفه معنى الكثرة أو المبالغة، كما أنه لا يصار إليه إذا أردنا منه (أي من ذلك الفعل) الكثرة أو المبالغة، فلا يقال مثلا في نَصَرَ (نّصر)، ولا في كِرهَ (كرَّه)، ولا في فهم (فهَّم) وهكذا
هذا شأن العوامري بك. وأعتقد أنه شأن الجمهرة من المشتغلين باللغة.
أما العلامة الدكتور زكي مبارك فالذي أستخلصه من نقاشه في هذا الموضوع وغيره (أن كنت قد وعيته حقا) أنه ربما يترخص ويتوسع، فيعدل عن المقطوع بصحته إلى غيره، لعلل وأسباب (رأينا بعضها في مناقشاته في الأعداد الأخيرة من الرسالة) هو مقتنع بكفايتها.
هذا يا سيدي الدكتور ملخص فهمي للرأيين أو المذهبين. فالواقع أن الخلاف بينكما ليس على الأمثلة، وإنما هو على المبادئ والأصول.
(أ. ع)
مسابقة وزارة المعارف لتشجيع التأليف في القصة المصرية
تتجه وزارة المعارف إلى تشجيع الأدب والتأليف في صورة مسابقات تعلن عن جوائزها وتدعو الكتاب لها، وستعلن قريبا عن مسابقة في القصة المصرية الطويلة
وسيختار قريباً أعضاء التحكيم من بين كبار الأدباء الموظفين في الوزارة
وقد علمنا أن الوزارة ستشرط أن تكون مادة القصة رامية إلى واحد من هذين الغرضين:
1 -
إحياء صورة من صور التاريخ المصري الإسلامي، أو التاريخ المصري القديم
2 -
تصوير الحياة الاجتماعية الحاضرة مع اقتران التصوير بإيحاء وسائل العلاج والإصلاح التي يتطلبها المجتمع المصري
وستكون الجوائز كما يلي:
الجائزة الأولى 100 جنيه، والجائزة الثانية 80 جنيهاً، والجائزة الثالثة 60 جنيها
وأخر موعد لتقديم قصص المتبارين إلى اللجنة هو منتصف أكتوبر القادم
تعقيب على نقد المناظرات
قرأت كلمة الأستاذ إسماعيل فهمي، وأود أن أعقب عليها بما يأتي:
أولاً: أن عصر بطليموس الأول والثاني والثالث هو عصر أمان نسبي ازدهر فيه الفكر، فهو مصداق آخر يدل على أن ازدهار الفكر في عصور أمان كالتي ذكرها
ثانيا: عصر إحياء العلوم في مدن إيطاليا هو عصر من عصور جزائر الأمان، وهو يثبت أيضاً أن ازدهار الفكر في أماكن الأمان لا في أماكن الفوضى
ثالثا: أن الفكر يزدهر حقيقة عند ملتقى الثقافات والحضارات المختلفة، ولكن ازدهاره عند ذلك الملتقى بسبب الأمان الذي يكون عند تبادل الشعوب لسلع التجارة والأفكار وليس بسبب ما قد ينشأ من الفوضى الفكرية.
رابعا: أن اختلاف الآراء ليس دليلاً على الفوضى الفكرية، وإذا نظرنا إلى عصور الحضارة والأمان وجدنا شيئا كثيرا من ذلك الاختلاف، إما لتسامح فيه أو تغاض عنه أو عجز عن منعه، أما إذا لم يتحقق أمر من هذه الأمور الثلاثة بطل ازدهار الفكر وبطلت الحضارة
خامسا: أن مواطن الأمان الذي يصحبه الركود والخمود والجهل والفقر وقهر الفكر، توجد
مع الأمان السياسي فيها الفوضى الفكرية الناشئة من ارتباك الجهل وخطله وارتباك الغباء، وكثيرا ما يكون تحت الأمان السياسي الظاهر فوضى في أداة الحكم، فهو إذا أمان مزيف
سادسا: إن اشتراط الحذر النفسي والفكري لنمو الفكر في الحياة أمر يختلف كل الاختلاف عن اشتراط الفوضى، وكذلك اشتراط المحركات النفسية أمر يختلف عن اشتراط الفوضى في قول من يشترطها
سابعا: إذا كانت الإنسانية قد كسبت من تقاتل الأجناس فقد خسرت كثيرا، وطالما اضطرت إلى أن تعيد بناء الحضارة من جديد بعد فوضى ذلك التقاتل؛ فاشتراط فوضى تقاتل الأجناس لازدهار الفكر شرط غير وجيه في قول من يشترطها
ثامنا: أن الركود والخمود الاجتماعي في الأمة إذا منعا من ازدهار الفكر لم يكن جالبهما الأمان وانقطاع الحروب والتدهور بسبب السكون والهدوء، بل لهما أسباب عديدة تختلف باختلاف الأمم، فمن تلك الأسباب ما هو حيوي (بيولوجي) ومنها ما هو (باثولوجي) طبي، كالأمراض التي تجتاح أو تتوطن فتهلك أو تضعف الجسم والعقل، وهذه الأسباب لم تذع دراستها كما ينبغي أن تذيع - ومنها ما هو سياسي لفساد نوع الحكومة. . . الخ
تاسعا: أن ازدهار الفكر في جزائر الأمان كثيرا ما يكون لأنه من بعض غراس عهد أمان شامل سابق أو قديم ووجدت بذوره وبقاياه من تعهدها برعايته في جزائر الأمان.
محمد عبد الله
الفكر والفوضى
أن رأيي في مناظرة ازدهار الفكر أن الوضع الصحيح قد عكس، فأني أستطيع أن أفهم أن الفكرة إذا أريد تطبيقها إلى أبعد غاية من غير نظر إلى ما يخالفها ويلطفها من الأفكار الأخرى التي تعين حدودها قد تسبب الفوضى أي أن الفكر قد يسبب الفوضى - ولكني أجد صعوبة في أن أفهم كيف أن الفوضى تسبب ازدهار الفكر ما دامت الفوضى فوضى، ولا أفهم كيف تكون معه حتى من غير الصلة السببية، فإن الفكر خطواته نظام، والنظام ضد الفوضى، والفوضى عمياء والفكر بصير، وكل فكرة - حتى الفكرة التي تقول أن الفوضى تسبب ازدهار الفكر - قد تضيء عليها فوضى المقاطعة والمعارضة وفوضى الاضطهاد
والأحقاد، إلا إذا ناصرتها الفوضى حباً لذاتها. ويا حبذا لو قرأنا في الرسالة مناظرة في الموضوع آلاتي:(هل يؤدي الفكر إلى الفوضى أم يؤدي إلى الأمان والنظام؟) وهو عكس موضوع مناظرة كلية الآداب
وتكون الفائدة عظيمة إذا تتبع كل مناظر حياة الأمم ومظاهر الفكر قديماً وحديثاً، ولكل مناظر مجال واسع في الجانبين من الموضوع، وهو موضوع قد يستلزم النظر في موضوع ثان، وهو: هل الفكر والفلسفة نتيجة النزعات النفسية والعواطف والأهواء أم هما سبب لإثارة تلك النزعات والأهواء؟
ولا داعي لأن أقول: أن الصواب في الجانبين معا: ولكن الفائدة في بيان شواهد الصواب في الجانبين؛ ونضرب مثلا من التاريخ القديم فنقول: أن الفكر الإغريقي هو أنفس ما يعتز به الأوربيون، وهم يعدونه أساس حضارتهم ومخترعاتهم ونظامهم، ولكنه مع ذلك أدى قديماً إلى مذهب السوفسطائية الذي كان له ضرر محقق. إلا أننا نعود فنقول: هل أدى مذهب السوفسطائية إلى فساد النفوس وفساد ميولها، أم أن فساد ميول النفس أدى بالفكر إلى السوفسطائية؟ وهذا الموضوع الثاني قد يستدعي موضوعاً آخر للمناظرة، وهو هل ينبغي أن يكون الفكر حراً طليقا، أم ينبغي أن يقيد؟ وإذا وجب قيده فكيف يقيد؟ والى أي حد؟ ومن الذي يقيده؟ وإذا جلب قيده فائدة فهل يجلب ضرراً مع الفائدة؟ وأيهما أشد وأبقى: الفائدة أم الضرر؟ وهل كان الفكر الإغريقي أو العربي يثمر كل ثمراته لو كان مقيداً قيداً حقيقياً؟ هذه مشكلة أخرى من مشكلات الفكر العديدة
السيد خليل
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
قرأت ما كتبه الأستاذ علي عبد الواحد وافي رداً علي في هذا الموضوع، وقد ختم رده بأنه بصدد قبائل كانت تئد كل بنت تولد لها، لا بصدد حالات فردية كانت تنحر فيها بعض البنات. وإني أقول في ذلك كلمة لا أحب أن أقول بعدها كلمة أخرى، لأن مثل هذا الذي يقوله الأستاذ علي عبد الواحد وافي لم تذهب إليه قبيلة عربية أصلاً، ولا يمكن أن تذهب إليه قبيلة في أمة من الأمم، اللهم إلا إذا أرادت أن تقضي على نفسها وتقطع نسلها من
بنات وبنين معاً، وإذا كان هذا شأن ما هو بصدده، فهو غير صحيح في نفسه، ومثله لا يصح أن نحمل آيات القرآن عليه، ولا سيما إذا كانت لا تحتمله
وقد رأى الأستاذ أن حمل قوله تعالى (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)، على معنى أنهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون، لا يستقيم مع الآيات الأخرى - كما ذكرت - لأنها صريحة في أنهم كانوا يجعلون ذلك لأنفسهم لا لآلهتهم، فذكر أن نسبة الذكور لأنفسهم أو لآلهتهم لا يهم كثيراً في موضوعه، مع أن موضوعه قائم على نسبة خلق البنين لآلهتهم والبنات لله تعالى
وكذلك رأى الأستاذ أن النصوص القرآنية صريحة في أن العرب كانوا يجعلون الملائكة بنات لله كما ذكرت، فلم يسعه إلا أن يعترف بهذا، ولكنه ذكر أنه لا يتعارض مع ما ذكره، من أنهم كانوا ينسبون إليه البنات من البشر، وإن المقابلة بين البنين والبنات في نحو قوله تعالى:(أم أتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) تقتضي أن تكون البنات من البشر كالبنين، وقد نسى الأستاذ في هذا آية الإسراء:(أفأصفاكم ربكم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثا أنكم لتقولون قولاً عظيماً). فالمقابلة فيها صريحة بين البنين من البشر والبنات من الملائكة، وهي مقابلة سائغة مقبولة، ووجه ذلك لا يخفى على مثل الأستاذ وافي
ولا أحب أن أطيل بعد هذا فيما أطال به الأستاذ، ويكفي أن مذهبه يؤدي إلى أنه كانت هناك قبائل تئد كل بناتها لأنها من خلق الله أو الشيطان، مع أن ذلك لم يكن إلا حالات فردية في تلك القبائل، وكان يدعو إليها الفقر من الفقراء، أو خوفه من الأغنياء، كما صرح بذلك القرآن الكريم؛ وخصوا البنات بذلك لأنهن لا يكتسبن
عبد المتعال الصعيدي
القصص
عطر المنصور
للأستاذ رفعت فتح الله
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وأمر المنصور حاجبه أن يستقدم سعيداً، ثم يستقدم زوجه، فلما قدم سعيد رأى في الفناء حبيباً مع صاحب الشرطة، فتعجب، وقال: أنت أمامي هنا وهناك!! ثم جد في السير كأنه يفر، حتى دخل على المنصور، فسلم وحيا، وبدت في عينيه نظرة الاهتمام.
قال المنصور: أتعرف الرجل الذي مررت به في فنائنا؟
قال سعيد: أعرفه
قال المنصور: أبينكما صداقة؟
قال سعيد: بيننا شيء
قال المنصور: كيف وجدته؟
قال سعيد: وجدته رجلا لا يعرف قيمة المال
قال المنصور: وكيف وجدت عقله؟
قال سعيد: هو رجل يروي أدباً ويقرض شعراً
قال المنصور: هل تتزاوران؟
قال سعيد: قد يزورنا
قال المنصور: ولكنك لست فارغاً للشعر والأدب!
قال سعيد: أن زوجي تحب الشعر والأدب، فإذا حضر تناشدا الشعر وتقارضا الأدب، حتى إذا أفلس أدبه قام عنا
فهمس المنصور: وهل يفلس الأدب كما يفلس المال؟! ثم قال: لعلك ترغب عن حديثه؟
قال سعيد: أن أكثر كلامه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف أرغب فيه؟
قال المنصور: أولست ترى له خيراً ترتجيه؟
قال سعيد: أنه ليس غنيا أرتجيه. . . غير أني. . .
فبادر المنصور قوله: غير أنك قد استفدت منه!
فاضطرب سعيد وقال: قد كان له جاه وجهه في عرض تجارتي، وله رأى رآني به في بعض أمري، وإني لأعجب من جاه لا مال معه! ومن لسان لا يد له!
قال المنصور: أتنكر مروءته؟
قال سعيد: لا، ولكني وددت لو كان غنياً لم تدركه حرفة الأدب
قال المنصور: وطهارته؟
قال سعيد: لم يذكر الناس فيه رجساً
وأسكتا!
ولما قدمت حبيبة أبصرت في طريقها حبيباً وهو على حيرته، يستحثه صاحب الشرطة، فأنكرت بصرها، ورنت إليه، وأطال العجب رنوها، وألهم حبيب النظر نحوها. فالتقت العين بالعين، ووجب القلب للقلب، ثم أخضع الأسى عينيه، وأسجد جفنيه؛ فسارت نحوه مضطربة السير، قد مد الاستفهام ذراعيها، وابتدر سؤاله فمها. قالت: ما لك؟ فقص عليها قصته. فهزت رأسها وقالت: فهمت. . . فهمت. . . لقد فاح ذكاء المنصور عطراً، فنصبه شركاً؛ أنه صراع الملك في قصة يوسف! (وغمزت بعينها وضحكت)؛ ثم قالت بصوت حزين: يا حبيب. . . أعط الخليفة الهدية!
قال حبيب: لقد كانت صلة تحمل طابع الحب؟
قالت: أن حبنا معنا، وأما هذا الطابع فنحن الذين طبعناه، ونحن إذا شئنا محوناه، ليعود خاتمها الأول. . . خاتم البخل؛ فلقد يغلط البخيل فتكون غلطته جوداً، ثم ينقلب معنى الجود في نفسه ندما. ولقد علمت سعيداً بخيلاً، يكاد يسترجع قيئه إذا ذكر أنه كان طعاما!!
فاشمأز حبيب شمأزيزة المال، واطمأن طمأنينة الحب، ونادى صاحب الشرطة حيث وقف جنبه، فقال له: قد رضيت حكم الخليفة، وإني ذاهب لأحمل المال إليه. فقال صاحب الشرطة: أرحت واسترحت! وأمر شرطياً أن يذهب معه فيحمل عنه؛ ثم ذهب إلى الخليفة في سكاته، فأسر إليه رضى حبيب بحكمه، فتبسم ضاحكاً!
والتفت المنصور إلى سعيد وقال: إيه!
فنظر إليه سعيد نظرة تتألق بطلب الحديث!
قال المنصور: إلا يزال حديث المال يتردد في نفسك!
قال سعيد: أنه يتردد مع أنفاسي، ولقد بت الليلة ضجيع خياله!
قال المنصور: كأنه امرأة ثانية!
وضحك ثم قال: أرايتك أن رددت عليك مالك بعينه أتحكمني في امرأتك؟
فأشرق وجه سعيد كثيراً، وأغيم قليلاً؛ ثم قال: نعم
قال المنصور: دعني إذن أستخلصه لك، واجلس عند الأُذن قليلاً حتى يأذن لك بالحضور مرة أخرى
فخرج سعيد متفائلاً، وهو يجمجم: نعم العطر!
فاهتز المنصور ضاحكاً، وهو يزمزم: نعم ذكاؤه!
ودخلت حبيبة تتهادى، وقد ربط التجلد على قلبها، فبدا وقارها. . .
قالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين والمؤمنات
قال المنصور: وعليك السلام أيتها المؤمنة
قالت: أحب أن أشكر أمير المؤمنين على عطره الذكي؛ فقد كان بشير يمن لزوجي، وأرجو أن يمسني يمنه كذلك
قال: ولكني أظنكما فرطتما فيه
قالت: ما وضعناه إلا حيث تخيرنا، عسى أن ينتشر طيبه على الطيبين
قال: (والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) وابتسم!
فانتفضت وقالت: (أولئك مبرؤون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم)!
قال: أوليس زوجك طيبا؟!
فارتجفت وقالت: أنه طيب المال، يجري حبه في دمه، كأنه ابن الدوانيق. . .
فأربد وجه المنصور غضباً وقال:
أتغمزينني بكنية (أبي الدوانيق) التي كناني بها بعض المرجفين في المدينة، إذ رأوني - حين بنيت بغداد - أباشرها بنفسي وأحاسب الصناع وأجازي المهملين، فظنوا أني فتنت بالدرهم والدانق، وإنما راقبت ربي فراقبت عملي، وقومت أمري فأرضيت نفسي، وما أنا بمفتون أو بخيل، ولكني رأيت كثيرا من الناس عبيد المال، فأمسكته لهم، ليكونوا عبيد الله
وخليفته!
قالت: أني أجل أمير المؤمنين أن أغمزه بتلك الكنية، فلقد رعيت المال: كثيره وقليله، وديناره ودانقه، فكنت أباه! وأما سعيد، فقد حكمه المال وتولاه، حتى صار خادمه ومتبناه!
فتساير الغضب عن وجه المنصور وقال:
- أني أكبر عقلك!
قالت: وهل أكبرت عقل سعيد؟
فنظر إليها المنصور وسكت ثم قال:
- أراك برزة!!
قالت: ما رأى مني أحب الناس إلي إلا ما رآه الخليفة من وجهي ويدي، فما ضرني أن أكون برزة؟! إنما خلق الله المرأة رجلة ولم يخلقها جنة! وجعل اللسان حجة ولم يجعله عورة! وإن المرأة التي تخشى الرجال هي التي أخشى عليها الرجال. . .! أليس الله أحق أن تخشاه؟!
ولقد حجبت نفسي بالعفاف، فبلغت غاية الحجاب؟
- أظن سعيداً معجبا بعفافك؟
- يعجب بعفافي بعد أن يعجب بماله!
- هو سعيد بك
- لو وجد هواه مع غيري لكان أسعد!
- وأنت سعيدة؟
- أسمي (حبيبة)
- ليست الأسماء حقائق
- قد تكون الأسماء آمالاً، ألم يسم أمير المؤمنين قصره (الخلد)؟
فنظر إليها المنصور نظرة رائعة ثم قال:
- وكيف تزوجت إذن سعيداً؟!
- تعارفنا بالأسماء وتقاربنا بالأنساب، فتزوجنا، وقد كان قلبي على فطرته ينبض كما كان ينبض منذ ميلادي، وكان زوجي يرعاني كما يرعى إحدى قريباته، ويحبني كما تحبني
إحدى قريباتي. . . وقد رأيته يتاجر فساعدته، وساعده الحظ معي، حتى أثرى، فكشف ثراؤه عن نفسه، وتجسد أمامي حبه للمال، يستكثر ولا يستكفي ويبخل ولا يستمتع، والمال تجاهه سلسلة لا تنتهي حلقاتها، كلما جذب حلقة بانت له أطراف أخرى فجرى إليها. . . فكرت وقدرت، فإذا موضع المال من قلبه في الأعماق، وإذا موضعي من ذلك القلب على الشط: أحمل دلوي لأغرف له، كأن عقد الزواج من عقود المال، وكأني شريكته في متجره لا في بيته. غير أني شريكة لا تشارك في ربح ولا تطالب بأجر!! وكيف يراني أو يسمعني وقد طرفت الدنيا عينيه، وسدت أذنيه؟! وهكذا حفر في قلبي أسفاً! وتتالت الأيام على حفر ذلك الأسف، فكان غضباً! وبالغت الشهور في حفر ذلك الغضب، فكان كرها!. . .
هناك سمعت من حفيرة قلبي دقاته الجديدة، فخلت خفقاته وقع المعاول!. . . أنا لم أولد على دكان ربوي شحيح، ولم أنشأ في رحل بدوي غليظ، فقد كان أبى أدبياً طبعني على أدبه، حناناً أرقني بحنانه، فكيف أعيش في كنز أسمع رنينه ولا يسمع أنيني؟ طار قلبي عن بيتي، فلم أدر: كيف يقع؟ وأين يقع؟ ولكني أحسست صدري فارغاً، قد طلاه الآسي بسواد، يعلن الحداد! ثم رأيت - في من رأيت - فلاناً
فابتسم المنصور ابتسامة المعرفة، واستكملت قولها:
تعرفته فتبينت فيه العفافة، وتأملته فتأولت فيه المروءة، رأيته شاعر النفس واللسان، رقيق القلب والبيان، فأحسست أن قلبي قد هبط معه، فما قابلته حتى تحادثت حمرة في الوجهين ودف عرس في القلبين!
قال المنصور: حسبك! فإني أخاف عليك الغرق والإغراق
قالت: قد بلغنا الساحل! (وأشارت إليه)
قال: وأين واجب الزوج؟
قالت: قد عرفت الواجب فرعيته، وقدرت الأمانة فأديتها؛ وما أثقل الواجب والأمانة إذا وغلت فيهما الكراهة! وأمير المؤمنين يعلم أن الله قد شرع الزواج آلفة لا نفرة، وشرع الطلاق ضرورة يلجأ إليها المضطر لا المغتر؛ ولكن كثيراً من الناس تعاموا عن حكمة الله، فاتخذوا الزواج مواجهة وجهين، لا معاقدة قلبين! وارتكبوا الطلاق مطية غرور لا قضية
نفور، وما أحكم قول الله:(فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه!)
وأستأذن حبيب فأذن له، ودخل مع المال يحيي الخليفة، وابتسم لحبيبة ابتسامة ردتها بأحسن منها، ثم قالت: أن هذا المال لحبيب. إذ أهديته اليه، وقد كان مالي من قبل. إذ أهداه لي زوجي، فما أبعد زوجي عنه!
قال المنصور: إلا تفتديان به قلبيكما؟!
قال حبيب وحبيبة معا: نعم الحكم أمير المؤمنين!
ثم ابتسما في خجل من تطابق الصوتين على الجواب، فابتسم المنصور. . . وأخذت العيون تسارق النظر: فالمنصور يرخي طرفه ثم يلمح الحبيبين، وكل واحد منهما ينظر إلى صاحبه والخليفة نظرة مقسمة بينهما، كأنها نظرة الأحول، وما أروع نظرات الحول المستعار! وإذن المنصور لسعيد بالحضور فحضر يدير عينيه!
قال المنصور: أهذا مالك يا سعيد؟
فرنا سعيد فرحاً؛ ثم قال: هو يا أمير المؤمنين
قال المنصور: خذه كما أشرت، وقد طلقت امرأتك كما شرطت فرفع سعيد رأسه ينظر إليه، ويقول: ولكنني رأيت عندها حبا وإخلاصاً!
قال المنصور: لقد أدت واجب الزواج فظننته حباً، ورعت أمانة العفاف فحسبته إخلاصاً، وما ربط قلبيكما حب، ولا جمع كبديكما ولد. . . على أنني قد تخيرت لك امرأة على هواك أسمها (سعدى) يا سعيد!
قال سعيد: الخيرة ما أختار أمير المؤمنين، وأنا درج يديه
وألتفت المنصور فجأة إلى حبيبة وحبيب؛ فإذا هي قد سدلت جفنها، وحدرت من تحتها إلى حبيب نظرة قد رويت من قلبها، بحبها! وإذا هو معقود النظر بها، كأنما نفثت فيه من سحرها!. . .
فهمس المنصور: خلقت هواك كما خلقت هوى لها!
ثم قال لهما: جمع الله بينكما بشرعه
ثم إذن لهم جميعاً، فخرجوا راضين، وهو يقول:
الحمد لك، الآن تلاءمت الأسماء، والتأمت الأهواء
وبعد أيام زفت سعدى إلى سعيد، وزف مالها إلى ماله، فتواصيا بالاكتناز، وتباعثا على الاكتساب؛ فما أصبحت ليلة الزفاف حتى امسكا دفتر الحساب!
وبعد أشهر زفت حبيبة إلى حبيب، وزف حبها إلى حبه، فورى القلبان بنار الشوق، كأنهما زنداه! وتلاقى الفمان على قبلة ال (حب) كأنهما حرفاه! واستبدت بهما القبلة، فتطاعم المتلاثمان، كأنهما حمامتان!
رفعت فتح الله