المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 409 - بتاريخ: 05 - 05 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٠٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 409

- بتاريخ: 05 - 05 - 1941

ص: -1

‌وتقديم الساعة مرة أخرى

للأستاذ عباس محمود العقاد

يقول الراوي: سمعت فيما سمعت من فكاهات الناس أن غريباً نزل ببلد من البلدان يتفرج بالسياحة ويحتال للرزق، فلم ينفرج ضيقه، ولم يتسع في طلب الرزق طريقه؛ فخرج يوماً إلى مدافن البلد يتعظ ويستعبر، ومال على القبور يقرأ ما كتب عليها، فأذهله ما قرأ وعى بتفسيره وتأويله

هنا قبر كتبوا عليه أنه قبر الوزير العظيم فلان: حكم وعدل وأصلح وبلغ من العمر عشرة أيام

وهنا قبر كتبوا عليه أنه للقاضي الجليل فلان: كانت له أحكام يؤتم بها في مجالس القضاء، وأثرت عنه مؤلفات يتداولها الطلاب والأدباء، ومات ولم يجاوز من العمر أسبوعين

وهناك قبر لطبيب، وإلى جانبه قبر لأديب، ووراءهما قبر لسرى حسيب، وعلى مقربة منه قبر لناشئ نجيب، وما منهم معمر ولا مغتضر يجاوز الساعات والأيام، إلى الشهور والأعوام، ولا منهم إلا من تذكر له المآثر ويرتفع به المقام

فأستغرب الغريب، وسعى إلى الحارس يسأله في هذا الكلام المريب: ما خطبكم يا هذا؟. . . أحياؤكم في المدينة يشيبون ويعمرون، وأمواتكم في المقابر لا تعدّ لهم شهور ولا سنون. فهل يجاء بالأموات من بلد غير هذا البلد، أو تعدون العمر عندكم بغير ما ألف الناس من عدد؟

قال الحارس: بل هي مدافن القوم، وهي أعمار أبناء آدم، ولكنهم يسقطون منها مالا يسر ولا يؤثر، ويثبتون منها ما قضى في سرور وعمل مشكور. فمن ثم تنحسر السنوات بعد السنوات، فلا يبقى غير لحظات ولمحات، وهي التي تراها، وتحار في معناها!

قال الغريب: إن كان هذا فوصيتي لك أن تكتب على قبري حين يتوفاني الله في بلدكم: من بطن أمه إلى القبر!

ويقول الراوي مرة أخرى: ثم أدركتني سنة من النوم وأنا أعيد حكاية هذا الغريب اليائس وأسل نفسي: كم من الناس يحق له أن يزيد على ما أوصى؟ وكم من الأعمار يبلغ الساعات على هذا الحساب؟

ص: 1

وإني لكذلك إذ ارتفع بصري إلى دائرة هائلة الأقطار كأنها صفحة الساعة التي نقيس بها الزمن، ولولا أنها شيء لا يدرك له آخر ولا تظهر لعقربيه حركة، ولولا أن العقربين لا ينتهيان ولا يزالان ذاهبين ذاهبين إلى وجهة بخيل إليك أنها حافة وما هي بحافة، ولكنها أشبه شيء بخط الأفق المخلوق من وهم الناظر إليه الأبد كله يقاس بهذه الصفحة!! أو هي الساعة السرمدية التي ترصد بها حركات الأكوان، إن صح أن تسمى هذه الساعة وهي تشمل كل حين!

يقول الراوي: وألمح على الصفحة علامات مختلفة الشيات، لا أهم بأن استوضحها حتى يتضح لي جواب ما هممت بالسؤال عنه كأنه خطرة من خطوات الضمير لا أسمعها ولا أرى قائلها. . . هذه علامات السعود والنحوس، وهذه مفاتيح الإسراع والإبطاء، وهذه لوالب الأفلاك ومنها فلك الأرض الصغير، وهذه وهذه إلى آخر ما في الصفحة السرمدية من مجهول ومعلوم

وتتحرك يدي إلى مفتاح من المفاتيح، ويهجس في ضميري المجيب الذي لا أسمعه ولا أراه: مكانك! إلى أين؟

قلت: إلى المفتاح الذي يعبر أوقات النحوس في لمحة عين

قال: ويحك. وما أنت وعلم هذا؟ وأي نحوس تريد؟ نحوسك أنت، أو نحوس العالم أجمع، أو نحوس فريق من الناس دون فريق؟ هذه أسرار لا تهديك فيها العلامة ولا يطيعك فيها المفتاح. وإنما قصاراك أن تنظر في الساعة التي تخص حياتك إن اهتديت إليها. فهنالك ترى من ساعاتك وأيامك ما يقتضب أو يستطال، على شروط يدلك عليها الدليل الموكل بتلك الآجال

قلت: وأين أجد هذه الساعة أصلحك الله؟

قال: في خلف هذه الصفحة. . . فهنا صفحة الكون الخالد وهناك صفحات الأحياء من أبناء الفناء

واستدرنا أو خيل إلينا أننا نستدير فإذا الدوائر أمامنا متشابكات متداخلات لا يحدها الطرف ولا يحصيها الحساب، وإذا بالمجيب الذي لا أراه ولا أسمعه يشير إلى إحداهن ويقرئني عليها أسمي وعلامات السعد والنحس في عمري، ويقول لي: دونك ساعتك فاصنع بها ما

ص: 2

أنت صانع. فهي إن عمرت أو خربت لك أو عليك قلما يضار من جرائها أحد سواك

ثم يعود صاحبنا فيقول: وأعلم أنك لا تأخذ السعادة ولا تتقي الشقاوة في هذا المكان، فإنما هو للحصر والتسجيل ثم تحال إلى الخزانة التي فيها ما تشتهيه وتتقيه، فعلى حسب ما في يدك من سجل أوقاتك وسعادتك وشقاواتك يكون التسليم من يد الخازن الموكل بهذه الأمور

ودارت المفاتيح، وذهبت إلى الخازن، وأريته السجل والتعداد، وانتظرت ما يقول، فإذا هو يراجعني مراجعة البائع المتحرج الذي تأبى له ذمته أن يستر بخساً أو يبالغ في مزية، ولا يثنيه عن ذلك غضب ولا استعجال

قال: هذه سويعات بل لحظات لك في سجل السعادة، أفأنت نازل عن عمرك كله من أجل هذه اللحظات؟

قلت: أو ليست هي سعادة خالصة؟

قال: بلى، ولكن مأمور بأن أبصرك بالحقيقة قبل أن آخذ منك أو أعطيك

فهذه اللمحات لا يدخل فيها الوقت الذي تشتاق فيه إلى السعادة، ولا الوقت الذي تحن فيه إلى ذكراها، ولا الوقت الذي تعرف فيه قدرها بفقدانها والشعور بالفارق بينها وبين نقيضها.

وهذه اللمحات تتصل بسعادات أناس آخرين لولا هم لما ظفرت بحصتك التي كتبت بعنوانك، فإما أن تتسلموها جميعاً أو تتركوها جميعاً ولا انفراد لك بالرأي فيما تختار

وهذه اللمحات إنما هي كالري للظامئ فلا إرواء لها إلا بعد إظماء، ولا محل للإيجاز في أوقات الشقاء إلا أن تصاب لمحات السعادة بمثل هذا الإيجاز

قلت: أني أغليت الثمن وبذلت عمراً كاملاً في سبيل هذه اللمحات القصار

قال: أنك لم تبذل شيئاً بل استرحت مما أنت باذل من شقاء، ولهذه الراحة ثمنها، فمن عسى أن يبذل الثمن غير المستفيد؟

قلت: أننا في عالم الدنيا نشتري الحلو والحامض ونلقي بالحامض جانباً إذا كرهناه، وغاية ما يسومنا البائع أن يبيعنا الفاكهة المنتقات بأغلى من سعر الفاكهة التي ليس فيها انتقاء. فلم لا تتبعون في بيعكم وشرائكم ما نتبعه فيما بيننا من بيع وشراء؟

قال: ذلك لأن حلاوة الحلو عندنا من حموضة الحامض، فليس بينهما انفصال!

ص: 3

وسألته: وما النتيجة؟

فأجابني: والنتيجة أننا ننقصك من السعادة بمقدار ما ننقصك من الشفاء، وليس الأمر كما ظننت زيادة على هذه يقابلها نقصان من ذاك

يقول الراوي: فتدبرت كلام الخازن الناصح فوجدته على صواب، وتبين لي أن الصفقة لا تنعقد إذا هي انعقدت إلا على ما أشترط ووفق ما رسم. فهذه الساعة التي نعمت بها لأنني قضيتها مع من أحب، كيف أنتزعها وحدي وأعزل حسابها من حساب عمره؟ وهذه الواحة التي ابتهجت بها لأنني عبرت إليها الصحراء كيف أبتهج بها ولا أبتئس بصحرائها؟ وهذه المرارة في كأس الفتنة، كيف أتركها ولا أترك معها نشوتها وأحلامها؟ وهذه الخلاصة كيف أستخلصها ولا أتعب في استخلاصها

أيها الخازن الناصح: شكراً لك، فقد نصحت وأبلغت فهل يضيع تعبي في تقديم الساعة بغير جزاء؟

أيها الباحث عما ليس يوجد: هذا هو الجزاء، وهكذا يتعب من يختصر العمر ليختصر الشقاء!

وبعد فقد كتبت في السنة الماضية عن تقديم الزمن وتأخير الزمن، فحق لهذه السنة أن نحفل بتقديم ساعاتها وإن كنا لا نقدم ولا نؤخر بهذا الاحتفال

وأراني عشت عشرين سنة ولم أتبين جديداً يقال منذ قلت:

تبغي السعادة لا سعادة مثلها

والعدم قسمة طالب الإكسير

ومنذ تبين لي أن الفقر نصيب من يطلب الإكسير الذي يعطي المعادن الخسيسة قيمة الذهب الإبريز، وأن الشقاء نصيب من يطلب الإكسير الذي تتساوى به معادن الأيام فكلها نفيس وكلها محمود وكلها سعيد؛ فلا ذاك يبلغ الغنى ويسلم من الفقر، ولا هذا يبلغ السعادة ويسلم من الشقاء، وحسبنا نصيب أهل، الفناء فهم في أخر الأمر تراب، وكل ما أصابوه أنفس من التراب

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌صورة. . . وصورة.

. .

للأستاذ محمد محمد المدني

هذه كلمة من نوع ما كنت أكتب عن الأزهر من قبل، جاشت

النفس بها ثم احتبستها، ولكن كلمة الأستاذ الزيات:

(هل أنبعث الأزهر) قد أثارت كامن الشوق القديم:

وذو الشوق القديم وإن تعزى

مشوق حين يلقي العاشقينا!

الصورتان متقابلتان كأتم ما يكون من التقابل، متنافرتان كأعنف ما يتصور من التنافر، وهما مع ذلك مجتمعتان في مكان واحد، وبينهما صلة جوار قريبة ورابطة قوية يبدو أنه لا سبيل إلى التخلص منها قبل زمن بعيد!

ليس الموضوع خيالاً يا عشاق الخيال، وإنما هو الواقع الذي لم تفسده التصاوير، والحقيقة المبرأة من المبالغة والتهويل!

الصورتان في الأزهر، والأزهر يحتفظ بهما معاً، ويصانعهما معاً، ويود لو يبقى الناس غافلين عنهما، منصرفين عن النظر إليهما

الصورة الأولى

صورة باسمة مشرقة متميزة الملامح والقسمات، يشع منها نور الإيمان، وتبدو على محياها سمات العقل والتفكير: لمن هذه الصورة؟؟ إنها صورة أزهري صحيح الفكر، رشيد العقل، واسع الأفق، لا يضيق صدراً بما يأخذ به الناس من أسباب حياتهم، وألوان ثقافاتهم، وطريقة تفكيرهم مادام ذلك في حدود العقل الصحيح والعلم الصحيح!

يشعر بأن الأزهر في عهده الحديث مطالب بأن يفهم ما حوله فهماً صحيحاً، لأن هذا الفهم ضروري له، وضروري للدين الذي يحمل لواءه، وضروري للأمة التي تجعله منها في مكان القيادة!

فهو ضروري له، لأنه إذا لم يفهم ما حوله فهماً صحيحاً، ظل يخبط في ظلمات، ويضرب في مجاهل، فتكون النتيجة - ويالهول! - أن يفقد اعتباره أمام الأمة، وأن يكره بعد حين قريب أو بعيد، على التخلي عن مركزه التاريخي العظيم فيها!

ص: 5

وهو ضروري للدين، لأن الدين عدو الجهالة والجمود، ولو كان الإسلام يرضى بالجهل أو يسكت عنه، أو يحب الجمود أو يصبر عليه، لما عاش هذا العمر المبارك الممتد إلى آخر الزمان إن شاء الله، بل لما وصل إلينا اليوم إلا طعيناً جريحاً، أو هرماً عملت الليالي والأيام فيه، ولكنه وصل إلينا شاباً تجري في شرايينه دماء الحياة نقية متدفقة، وصل إلينا قوياً غلاباً مرَّ بحضارات وحضارات فلم يضق بشيء منها صدراً ولم يقف أمام واحدة منها حائراً متردداً، ولا مأخوذاً مشدوهاً؛ وصل إلينا سليما منتصراً، قد تكسرت من حوله النصال، وتحطمت السهام؛ ذلك بأنه دين الفطرة والعقل والعلم الإصلاح!

وهذا الفهم الصحيح ضروري للأمة نفسها، لأن الأمة تنشد لأبنائها ثقافة قومية إسلامية خالصة، ولا ترضى بأن تفنى في غيرها، أو تؤخذ بثقافة غربية عنها عاجزة عن أن تمدها بوسائل الحياة التي تصلح لها، قاصرة عن أن تثير في نفسها شعور العزة والكرامة والتطلع إلى تاريخها ومفاخرها. تنشد الأمة لأبنائها هذه الثقافة وتتجه إلى الأزهر طالبة منه أن يمدها بها، لأن الأزهر قد زامل تاريخها الذي به تعتز، ولأنه هو الذي حفظ لها هذه الكنوز في الدين والفقه واللغة والأدب، ولأن الأزهر هو مدرسة الشعب العليا التي تجمع ابن الفلاح وابن الصانع وابن التاجر من سواد الأمة الذين يفهمون حاجاتها، ويدركون ما يصلح به شئونها!

فإذا ما تخلف الأزهر عن تلبية هذه الرغبة، ولم يقابل ثقة الأمة به، وتعويلها عليه، بالنشاط والعمل والتقدم نحو الكمال، ولم ينتفع بهذا المركز الفريد الذي ميزه به تاريخه وعلومه وطبيعة رسالته - أذاق الأمة لباس الحرمان والفجيعة، ودفعها إلى أعداء الإسلام كرهاً من حيث لا يحتسب

تقول الأمة الإسلامية للأزهر: إن من أعز آمالي أن أحمل عليك عبء تزويدي بما أحتاج إليه من قانون وتشريع، وفقه وقضاء، وأن أعمل برأيك الناضج في جميع نواحي الحياة: في الاجتماع، في الاقتصاد، في السياسة، في العلم، في الأدب، ولكن ينبغي أن يكون منك تقدم وخطوات عملية في جميع هذه النواحي، تشعرني بأنك عرفتها ودرستها عن خبرة وفهم وتحقيق ومقارنة، ولا أكتفي منك بهذه الدراسات اللفظية الأثرية، ولا بهذه الأفكار التقليدية التي لو كان أصحابها الآن بيننا لتخلو عن كثير منها

ص: 6

لقد كان الفقيه المجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة مراراً، لاطلاعه على ما لم يكن قد اطلع عليه، أو لانكشاف حالة لم تكن قد انكشفت له، أو لمناقشة عالم أقنعته بما لم يكن مقتنعاً به؛ وقد مر على هؤلاء الرجال المفكرين قرون وقرون، وحدثت أحداث، وجدّت نظم، وتغيرت دول، وانكشف للناس من أسرار الله في الحياة ما لم يكن قد أنكشف، وظهرت مشكلات ومسائل وقضايا من طراز جديد، فكيف يلتوي عنق الأمة إلى الماضي من غير نظر إلى الحاضر، وكيف نقف والفلك المحرك دائر؟ في البلد شركات مالية تقوم على أساس من الاقتصاد خاص، وفي البلد مصارف أصبحت جزءاً مقوماً من نظام المال في الدنيا، وفي البلد ألوان من النظم والمعاملات لم تكن معروفة فيما مضى، فهل درستم نظام هذه الشركات والمصارف؟ وهل تفهمتم أصول هذه المعاملات والنظم؟ وهل تبينتم من ذلك كله ما يتفق مع التشريع الصحيح ومالا يتفق؟

في البلد مشكلات اجتماعية، وعلل تحتاج إلى الإصلاح، فهل فكرتم في أن تجدوا حلاً لهذه المشكلات ودواء لهذه العلل، ثم عرضتم ذلك عرضاً منظماً جاداً حازماً على ولاة الأمور، وأقنعتموهم بالصلاح فيما تعرضون؟

إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يقول: إن التشريع الإسلامي ليس كفيلاً بإسعاد المجتمع، وإنهاض الأمة؛ ولو قال ذلك أحد من الناس لكان ممعناً في الخطأ، جاهلاً بالحقائق، أو عدواً للإسلام جاحداً بفضله

ولكن قبل أن تنادوا بذلك، تحللوا أنتم أولاً من هذه القيود التي أثقلتكم. تحللوا من هذه الدراسات اللفظية الأثرية التي شغلتكم. برئوا أنفسكم وكرموا وجه العلم من أن تخلعوا على كل رأي قديم، مهما كان أمره، هذه القدسية التي لا يعرفها الإسلام إلا لله ورسوله!

إن هؤلاء الذين سبقوكم قد قاموا بما يجب عليهم، وأدوا إلى الله أماناتهم، ولبوا حاجات عصورهم وكانوا يصدرون فيما يرون أو يقولون عن نظر وتأمل واقتناع، فمن البر بهم أن تسيروا على سنتهم، وأن تهتدوا بهديهم: فتلبوا حاجات عصركم - في حدود الشريعة - كما لبوا حاجات عصرهم، وتصدروا عن فهم ووزن صحيح لحاجات أمتكم، كما أصدروا عن مثل ذلك

ذلك هو النداء الروحي الذي يشعر الأزهري الناضج بأن الأمة تنادي به الأزهر؛ وذلك هو

ص: 7

الصوت المدوي الذي ينادي به الدين أبناء الدين؛ وذلك هو الروح الكريم الذي يوحي به الإخلاص للأزهر ورسالة الأزهر؟

هذه إحدى الصورتين المتقابلتين في الأزهر!

الصورة الثانية

أما الصورة الثانية فيا الله! كيف أصورها؟ إنها صورة مظلمة قاتمة تنبو عنها العين، وينقبض لمرآها الصدر: شيخ يعيش في عصر النور والعلم ويأبى إلا أن يكون بروحه وعقله في عصر الجهالة والتعصب والغموض والإبهام

تقول له: قال الله، فيقول لك: قال فلان في شرح كذا أو حاشية كذا. وتقول له: تأمل هداية الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، واعتبر بتطبيقه لآيات الله، وفهمه وفقهه في أحكام التشريع. فيقول لك: هذه مهمة المجتهدين وقد انقضى عهدهم، وأصبح الزمان لا يجود بمثلهم. أما أنا فمقلد وسأبقى مقلداً، لأن فلاناً يقول في منظومته:

(وواجب تقليد حبر منهمُ. . .)

وهكذا يجعل التقليد واجباً له مرتبة العقيدة!

وتقول له: أنظر ماذا كان يفعل الأصحاب الأولون، وكيف كانوا يفهمون العقائد والأحكام كما نزلت في كتاب الله، لم تشبها الشوائب، ولم تفسدها المذاهب الباطلة، ولم تؤثر فيها النحل الغريبة؛ فيخالطه الشك في أمرك، ويجري لسانه بألفاظ يرددها ولا يفهم لها معنى: أهل السنة، المعتزلة، الباطنية، الإجماع، الإلحاد، الزندقة، إنكار الحقائق الشرعية. . . إلى غير ذلك. ولو سألته ماذا يقصد بهذه الألفاظ؟ ومتى حدثت في تاريخ الإسلام؟ ومتى جعلت معايير للكفر والإيمان لما وجدت جواباً!

وآفة الآفات في ذلك كله افتراض الثقة المطلقة في نظريات بعينها وأشخاص بخصوصهم، مع الشك المطلق أو الرفض المطلق لنظريات أخرى وأشخاص آخرين؛ ومثل هذه الطريقة لا يعرفها الإسلام ولا يرضاها لأهله، ويأباها القرآن الكريم الذي عظم شأن البرهان، ونعى على الذين يجمدون بدون تفكير على تقليد الآباء

هاتان هما الصورتان المتقابلتان في الأزهر. وقد أبدع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في تصوريهما إذ يقول في العدد الماضي من الرسالة:

ص: 8

1 -

(هؤلاء هم شباب الأزهر الجديد أستاذة وطلاباً، قد جلت نفوسهم ثقافة العصر، وصقلتها مدنية الحاضر، فأشرقت عليها أشعة النبوة ساطعة بعد ما حجبها الغمام والفناء حقباً بعد حقب. فهم وحدهم الذين يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس، وهم وحدهم الذين يملكون تزييف الأباطيل المقدسة التي اتسمت بسمة الحق، وتسمًّت باسم الدين)

2 -

(ولكنهم حول هذا الهيكل البالي أشبه بالأغصان الخلفة التي تنبت نضيرة على أصل الدوحة العتيقة، ثم لا يتسنى لها الغلظ والسموق لأن الجذور الشيخة لا تمدها بالغذاء كله، والفروع الميتة لا تمكنها من الهواء كله. فإذا لم يرسل الله رسول الإصلاح ويؤته ما آتى أولى العزم من الرسل، فيقطع من أعالي هذه الدوحة ما أعوج، ويجتث من أسافلها ما ذبل، ويكشف عن جذعها الواهن ما التف عليه من طفيلي النبت، بغى الجفاف على هذه الأفنان النواشيء فتذوى في زهرة العمر وبكرة الربيع)

فمتى يرسل الله هذا الرسول، يا فضيلة الأستاذ الأكبر؟

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

ص: 9

‌عندما حيرها الصمت!

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

قَالَتْ: أرَاكَ كَأَنَّمَا إنْ

فَجَرَتْ حَيَاتُكْ مِنْ شِهَابْ

وتَدَفَّقَتْ بِكَ مَوْجَةٌ

سَوْدَاءِ مِنْ حُلُمِ الضَّبَابْ

فَكَأنًّ عُمْرَكَ في بَدِ الأ

(م) قْدَارِ إعْصَارٌ مُذَابْ

وَكَأنَّ. رُوحَكَ كَوْكَبٌ

مُتَمَرِّدٌ فَوْقَ السَّحَابْ

لا النَّجْمُ يَعْرَفُهُ، وَلَا

يَدْرِي مَنَابِعَهُ التُرَابْ. . .

أفْصِحْ عَنِ السِّرِّ الدَّفِينْ

يَأبُّهَا لقَلقُ الحَزِينْ!!

إنِّي أرَاكَ كَعابِدٍ

نَشْوَانَ يَحْضُنُهُ الإلهْ

سَكَبَتْكَ رَاحَاتُ لغُيُو

بِ رَحِيقَ خَمْرٍ في صَلَاهْ!

وَكَشَاعِر ذُبحَتْ عَلَى

قَيْثَارِهِ الدَّامِي رُؤَاهْ!

نَفَضَتْكَ أجْنِحَةُ السُّكو

نِ ظلَالَ مَوْتٍ في حَيَاهْ!

أشْعَلْتَ في قَلْبِي الهْوَى

وَتَرَكْتَنِي في النَّار! ِ آهْ. . .

. . . لَوْ كُنْتَ تُفْصِحُ أوْ تُبْينْ!

أهَوىً أذَابَكَ أمْ جُنُونْ؟!

قُلْتُ: اصْخَبِي بِهَوَاكِ حَوْ

لِيَ يا حبيبة وَاعْصِفِي بِي!

أنَا عَاشِقٌ قَذَفَتْ بهِ

بَلْوَاهُ في عَدَمٍ رَهِيبِ

أنَا قِصَّةٌ بَكْلَمة تَرْ

وِى سِحْرَهَا شَفَةُ الغُيُوبِ

أنَا جَدْوَلٌ تَجْرِي بهِ الأ

(م) حْزَانُ في وَادٍ غَرِيبِ

مَلَّتْ جِرَاحُ الحُبِّ صَمْتِ

يَ فَارْتَمَيْتُ عَلَى اللَّهيبِ

رُحْمَاكِ بي. . . وَدَعِي الحَنِينْ

يُلْقِي سُؤالَكِ لِلسِّنِينْ

وَغَدً. . . تَرَيْنَ وَتَعْرِفينْ!

(مراقبة الثقافة العامة)

ص: 10

محمود حسن إسماعيل

ص: 11

‌في الأدب العراقي

ديوان الحبوبي

للدكتور زكى مبارك

حق الأدب على الأديب - خطبة لمبسون وخطبة تشرشل -

انتقام الغزاالي - الحبوبي بين الشعر والتدريس - لمحات من

شاعرية الحبوبي - مراجع - شهيد الدفاع - الشاعر المصري

المجهول احمد زناتى

حق الأدب على الأديب

بعد أن فرغت من مقالي عن (الصحافة العراقية) وقدمته لمطبعة الرسالة جاءت الأخبار بانقلاب جديد في العراق وهي أخبار آذتني اشد الإيذاء لأني أتمنى في كل وقت أن يعيش العراق في هدوء واطمئنان ليفرغ لتحقيق ما يسمو إليه من التفوق في ميادين العلم والأدب والاقتصاد

وكان من أثر ذلك الانقلاب وأثر اشتداد الأزمة الدولية أن أسكت عن حديث الأدب إلى أن تنكشف الغمة هنا وهناك فنجد ويجدون مساغاً للكلام عن الأدب والبيان

ولكنى رجعت فنظرت في حق الأدب على الأديب ومن حق الأدب الذي نتشرف بخدمته أن نجعل الهيام بتقييد أو أبده فرضاً من أوجب الفروض فلا نسكت عنه ولو آذنت أشراط القيامة بسقوط السماء على الأرض، والله الحفيظ من مكاره هذه الأيام. . .!

فمن طاب له أن يعجب من اشتغالنا بالأدب في أوقات لا يشغل فيها الناس بغير أخبار الحروب فليعرف أن للأدب ميداناً لا يقل خطرا عن ميدان القتال وقت شاءت المقادير أن نكون جنودا في الميدان الأدبي فمن واجبنا أن نقف صادقين في ذلك الميدان وان نتناسى ما سواه من الميادين وان كان تناسى ما يهدد مصر والشرق من المستحيلات

ولو شئت لقلت إن روح الغزالي ينتقم منى. ففي كتاب الأخلاق عند الغزالي تنديد بالرجل الذي غرق في خلوته وانقطع لأوراده، والدنيا من حوله تضج بغارة الإفرنج على بيت

ص: 12

المقدس، وتذكره بالواجب في الدعوة إلى الجهاد

الآن عرفت أن العلماء والأدباء لا يصورون عصرهم أصدق التصوير من النواحي السياسية، وإنما يصورونها من النواحي العقلية والروحية، فأنا لا ألتفت التفاتاً جدياً إلى أخبار الحرب ولا يهمني أن أدون ملاحظاتي على ما أقرا من أقوال الزعماء، وإنما اوجه جهودي إلى متابعة الحياة الأدبية والفلسفية عساني أصل إلى أشياء يستنير بها روحي وعقلي

أليس من العجب أن تستهويني خطبة السير لمبسون عن القديس جورج أكثر مما استهوتني خطبة المستر تشرشل عن مراحل الحرب في لوبيا والبلقان، مع أن الظروف توجب أن يكون اهتمامي بالخطبة الأولى أقل من اهتمامي بالخطبة الثانية؟

كان في خطبة لمبسون فكرة فلسفية آذنتني بأنه يسايرنا في آفاق الأرواح والعقول؛ أما خطبة تشرشل فتسير في الطريق لست منه وليس مني، لأني بعيد كل البعد عن آفاق السياسة والحرب، ومن الخير ألا يعي خطبة تشرشل غير من يشتركون في توجيه دفة السياسة والاستعداد لدفع أخطار الحرب، فهم المسئولون عن وعي الدقائق من هذه الشؤون

وليس معنى هذا أني أفاضل بين ميدان وميدان، فجميع الميادين أمام الواجب سواء، وإنما أقول بأن الاشتغال بالأدب الصرف لا يعد انسحاباً من المعترك السياسي، ولا هرباً من الإصاخة لدعوة الواجب عند احتدام الخطوب، فقد أعدنا الوطن لفروض لا تقل أهمية عن السياسة والحرب، وهو لن يطالبنا بغير الوفاء لتلك الفروض، وسيرى كيف نكون عند ظنه الجميل إن أشار بإغماد الأقلام وإشهار السيوف، فلنا سواعد وعزائم وقلوب، ولن تضام مصر وهي موصولة الفتوة برجال أقوياء يعدون بالألوف وألوف الألوف

أما بعد، فإن الأخبار السود التي أطالعها في الصباح والمساء لن تصدني عن الواجب الذي أعدني له وطني، وهو خدمة الأدب في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وأنا ماض في أداء ذلك الواجب مهما اعتكرت الظروف

فما حديث اليوم؟

ومن الأديب الذي نلوذ بماضيه الهادئ فننسى أو نتناسى ما يحيط بنا من متاعب لا يتجاهل وقعها الأليم إلا من قد قلبه من الصخر الجلمود؟

ص: 13

الحبوبي

نحن أمام ديوان طبع في بيروت سنة 1331هـ 1913 م على نفقة الحاج عبد المحسن شلاش، والشاعر هو السيد محمد سعيد حبوبي (أشعر شعراء الشرق أمس وأكبر علمائه اليوم) كما كتب في صدر الديوان، فمن هو بين الشعراء والعلماء؟ إن العبارة التي رقمت على صدر الديوان تشهد بأن الرجل واجه لونين من ألوان الحياة الفكرية، فعاش أولا للشعر، ثم أنقطع للعلم، وبذلك طغت شخصيته العلمية على شخصيته الشعرية؛ فإن انتهى بنا البحث إلى القول بأنه كان من الطبقة الثانية أو الثالثة بين الشعراء فسيصدق أقوام حين يقولون بأنه كان في صدر الطبقة الأولى من العلماء، وهل من القليل أن يسمو العلم بالحبوبي فيحفظ له ضريحاً في رحاب الحرم الحيدري بالنجف؟

ولكن كيف هجر الحبوبي حياة الشعر وانقطع العلم والتعليم مع ذلك الحظ من الفطرة الشعرية؟

يرجع السبب فيما أفترض إلى الرغبة في التفوق، وكان الحبوبي يعرف في سريرة نفسه أن طاقته العلمية أقوى من طاقته الأدبية. وفي المقدمة التي كتبها الشيخ عبد العزيز الجواهري لديوان الحبوبي عبارة تشهد بأنه كان مفهوما أن الحبوبي لا يقدر على مسايرة شوقي وحافظ وزناتي وصبري، وهم شعراء وصلت قصائدهم إلى العراق في ديباجة مصقولة لم يسبق لها نظير في الشعر الحديث، ولا تسهل محاكاتها على رجل يعيش في بيئة تأخذ زادها الأعظم من أقوال النحاة وقضايا الفقه والأصول

على أنه لا موجب للتكلف في البحث عن الأسباب التي قضت بانتقال الحبوبي من ميدان الشعر إلى ميدان التدريس. فالرجل فيما يظهر كان يميل إلى إيثار الحياة العلمية، وكان الناس من حوله يطيب لهم أن يروه من أعاظم العلماء، إن صح أن البيئة التي سكن إليها وسكنت إليه كانت تملك صرفه عن الانخراط في سلك أكابر الشعراء، لو أرادت به شياطين الشعر غير ما يريدون!

والواقع أن البيئة التي أحاطت بالحبوبي كانت ترجو أن يظفر بأعظم الحظوظ من الشاعرية، ولكن الرجل عرف ما يملك من الطبع، فلم يجاوز ما يطبق إلى ما لا يطبق، وإن أثقله محبوه بأضخم الألقاب

ص: 14

والواقع أيضاً أن الحبوبي الشاعر أضاعته الحياة الفقهية، وهي حياة لا يرتفع معها شعر ولا خيال، وإن كانت في ذاتها من أجمل الحيوات، وهل تعز الشاعرية على من يسعفه الروح بمثل هذا الهتاف

إسقني كأساً وخذ كأساً إليك

فلذيذ العيش أن نشتركا

وإذا جدت بها من شفتيك

فاسقنيها وخذ الأولى لكا

أو فحسبي خمرة من ناظريك

أذهبت نسكي وأضحت منسكا

وانهب الوقت ودع ما سلفا

واغتنم صفوك قبل الرَّنق

إن صفا العيش فما كان صفا

أو تلاقينا فقد لا نلتقي

وقد فتن الشاعر بهذا المعنى فأعاده بأسلوب آخر حين قال:

يا غزال الكرخ وأوجدي عليك

كاد سرى فيك أن ينهتكا

هذه الصهباء والكأس من لديك

وغرامي في هواك احتنكا

فاسقني كأساً وخذ كأساً إليك

فلذيذ العيش أن نشتركا

أترع الأقداح راحاً قُرْقفا

واسقني واشرب أو اشرب واسقني

فلماك العذاب أحلى مرشفاً

من دم الكرم وماء المُزن

إن الشاعرية لا تعز على من يسعفه الروح بمثل هذا الهتاف ولا تعظم على من يزور داراً في بغداد فيروعه ما عند أهلها من صباحة الوجوه وطهارة القلوب فيقول:

فلست أدري أَأُملي فيهم غزلاً

لما رأيتهُم أو أُنشئ المِدَحا

إن الفقه هو الذي وأد الشاعرية في صدر من كان يجيد مثل هذا النشيد:

رويداً سائق النوق

فما ودعتُ معشوقي

فبالأحداج لي رشأٌ

رمى سهماً بلا فُوق

يسهم اللحظ يرشقني

وقلبي جِدَّ مرشوق

كأن القلب يوم سرى

هوى من فوق عيِّوق

فليت العيس ما رحلت

ولا قامت على سوق

فقد خفَّت بمنبلجٍ

من اللألاء مخلوق

والبيت الأخير من وثبات الخيال

ص: 15

الفقه هو الذي أضاع صاحب هذا الهتاف:

يا حامل الوردة ما ألطفك!

فهل ترى لي اليوم أن أرشفك؟

يا وردة الناظر بالله قل

بهذه الوردة من أنحفك؟

لا أقطف الوردة، ولكنني

قد كدت من روضك أن أقطفك

وخلاصة القول أن الحبوبي كان آية في قوة الطبع، ودقة الذوق، ولكن الفقه جني عليه فلم يحفظ له مكان بين أكابر الشعراء

مراجع

رأى القارئ في صدر هذا المقال أني ضيق الصدر بسبب ما يثور من الأزمات الدولية، وقد حاولت أن أنتفع بفرصة الكلام عن الحبوبي فأسوق طوائف من البحوث المتصلة بتاريخ الشعر العراقي في العصر الحديث، ولكن الحوادث صدتني عما أريد، فلم يبق إلا أن أوجه نظر القارئ إلى المراجع التي تساعد على فهم شاعرية الحبوبي، وأهمها بعد الديوان كتاب (العقد المفصل) ففيه أخبار كثيرة عن الحبوبي، وفيه إشارات تشرح بعض الغوامض من ذلك الديوان

شهيد الدفاع

هذا عنوان قصيدة نظمها معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي في رثاء الحبوبي ومن هذه القصيدة نعرف أن الحبوبي كان نهض إلى الدفاع في المحرم سنة 1333 (1915) فأجابه خلق من أهل الفرات والأقاليم الجنوبية وسار بهم إلى (الشعيبة) ولكنهم أصيبوا بالخذلان فعاد إلى الناصرية ورابط فيها إلى أن مات في عشية الأربعاء ثاني شعبان سنة 1333

ومعنى ذلك أن الحبوبي لم يكتف بالمنزلة الأدبية والعلمية فتسامت نفسه إلى الاتسام بوسم الجهاد

وقصيدة الشبيبي في رثاء الحبوبي تضمنت إشارات إلى أغراض سياسية يضيق عنهما هذا الحديث، وفيها نفحة من قصيدة شوقي في (الأندلس الجديدة)

زناتي

مرت إشارة إلى الشاعر زناتي عند الحديث عن الشعراء الذين عجز عن مجاراتهم

ص: 16

الحبوبي، فمن هذا الشاعر المصري المجهول؟ هو الشيخ أحمد زناتي، أحد أساتذة اللغة العربية، وكان الشاعر الثاني بعد شوقي في نظر أستاذنا الشيخ محمد المهدي، وكنا نحفظ له في عهد الحداثة قصيداً نخاله مبتدأ بهذين البيتين

أرِقتُ وأصحابي خليّونُ نوَّمُ

وما أنا ذو شوقٍ ولا أنا مُغرَمُ

ولكنَّ هَّما بين جنبيِّ شبَّهُ

علىَّ ذوو القربَى عفا الله عنهمُ

وقد أرجع إلى البحث عن آثار هذا الشاعر بعد حين، الشاعر الذي جهله المصريون وعرفه العراقيون.

زكي مبارك

ص: 17

‌في الاجتماع اللغوي

اللهجات العامية الحديثة

عوامل تطورها وصفاتها المشتركة

للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ الاجتماع بكلية الأدب بجامعة فؤاد الأول

- 1 -

تقتضي نواميس اللغات أنه متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض، وتكلم بها طوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً، بل لا تلبث أن تنعشب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطويرها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينها حتى تصبح كل منها لهجة متميزة غير مفهومة إلا لأهلها. وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللهجات يختلف بعضها عن بعض في كثير من الوجوه. ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثار تنطق بما بينها من صلات القرابة ولحمة النسب اللغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول مدة كبيرة لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللهجات المتفرعة منه

ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها إلى العصر الحاضر. فاللغة اللاتينية مثلاً - وهي إحدى لغات الفرع الإيطالي من الفصيلة الهندية - الأوربية، قد أخذت في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى تنشعب إلى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، حتى أصبحت كل منها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة كبيرة لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللهجات المتفرعة منها (الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، لغة رومانيا. . .). ولكنها تنحت عن هذه الوظيفة بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات. . .

ولم تفلت اللغة العربية - وما كان يمكن أن تفلت - من هذا المصير؛ فمنذ أن اتسع

ص: 18

انتشارها، أخذت تنشعب إلى لهجات يختلف بعضها عن بعض وتختلف عن الأصل الأول الذي انشعبت عنه في كثير من مظاهر الصوت والقواعد والدلالة والمفردات؛ وسلكت كل لهجة منها في تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، تحت تأثير ظروفها الخاصة، وأخذت مسافة الخلف تتسع بين هذه اللهجات، حتى أصبح بعضها غريباً عن بعض: فلهجة العراق أو لهجة المغرب مثلاً في العصر الحاضر، لا يفهمها المصري إلا بصعوبة وفي صورة تقريبية. غير أنه قد خفف من أثر هذا الانقسام اللغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين

ويرجع السبب في أنشعاب هذه اللهجات عن العربية الفصحى وفي تطورها المطرد في نواحي: الأصوات والقواعد والدلالة والمفردات، إلى عوامل كثيرة من أهمها ما يلي:

1 -

انتشار اللغة العربية في مناطق لم تكن عربية اللسان فقد تغلبت اللغة العربية على اللغات اليمنية القديمة في معظم بلاد اليمن، وعلى اللهجات الآرامية في العراق والشام، وعلى الألسنة القبطية والبربرية والكوشية في مصر وشمال أفريقيا وشرقها. ومن المقرر أن اللغة الغالبة ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً) تحت تأثير لهجاتهم القديمة وأصواتهم ومفرداتها وما درجوا عليه من عادات في النطق وهلم جراً. . .

وقد كان لهذا العامل أثر واضح في اختلاف لهجات هذه المناطق الجديدة بعضها عن بعض، واختلافها عن اللسان العربي الأول. فقد تأثرت اللغة العربية في كل منطقة من هذه المناطق بلهجاتها القديمة، وانحرفت في ألسنة أهلها انحرافاً خاصاً اقتضته عاداتهم الصوتية المتأصلة ومناهج ألسنتهم الأولى؛ وتأثرت ألسنة الجاليات العربية نفسها في كل منطقة من هذه المناطق بألسنة أهلها، فنشأ من جراء ذلك في كل بلد من هذه البلاد لهجة عربية تختلف عن لهجة غيرها، وتختلف عن اللغة العربية الأولى فالعربية في الشام مثلاً متأثرة بالألسنة الآرامية القديمة، وفي المغرب باللهجات البربرية التي صرعتها العربية في هذه البلاد. . . وهلم جراً. . .

2 -

عوامل اجتماعية سياسية: كاستقلال البلاد العربية بعضها عن بعض، وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها ويوثق ما بينها من علاقات. فمن الواضح أن انفصام

ص: 19

الوحدة السياسية يؤدي إلى انفصام في الوحدة الفكرية واللغوية

3 -

عوامل اجتماعية نفسية تتمثل فيما بين سكان هذه المناطق من فروق في النظم الاجتماعية والعرف والتقاليد والعادات ومبلغ الثقافة ومناحي التفكير والوجدان. . . وما إلى ذلك، فمن الواضح أن الاختلاف في هذه الأمور يتردد صداه في أداة التعبير

4 -

عوامل جغرافية تتمثل فيها بين سكان هذه المناطق من فروق في الجو وطبيعة البلاد وبيئتها وشكلها وموقعها. . . وما إلى ذلك؛ وفيما يفصل كل منطقة منها عن غيرها من جبال وأنهار وبحار وبحيرات. . . وهلم جرا. فلا يخفي أن هذه الفروق والفواصل الطبيعية تؤدي - عاجلاً أو آجلاً - إلى فروق وفواصل في اللغات

5 -

عوامل شعبية جنسية تتمثل فيها بين سكان هذه المناطق من فروق في الأجناس والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها والأصول التي انحدروا منها. فمن الواضح أن لهذه الفروق آثار بليغة في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات

6 -

اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب. فمن المقرر أن هذه الأعضاء تختلف في تكوينها واستعدادها ومنهج تطورها تبعاً لاختلاف الشعوب وتنوع الخواص الطبيعية المزود بها كل شعب والتي تنتقل بطريق الوراثة من السلف إلى الخلف. فلم يكن مناص إذن أن تختلف أصوات اللهجات العربية بعضها عن بعض باختلاف الشعوب التي انتشرت فيها، وأن تتجه كل لهجة منها في تطورها من هذه الناحية إلى منهج يختلف عن منهج غيرها

7 -

التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق. فمن المقرر أن أعضاء النطق في الإنسان في تطور طبيعي مطرد في تكوينها واستعدادها ومنهج أدائها لوظائفها. فحناجرنا وحبالنا الصوتية وألسنتنا وحلوقنا وسائر أعضاء نطقنا تختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأولين، إن لم تكن في تكوينها الطبيعي، فعلى الأقل في استعداداتها؛ بل إنها لتختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأقربين

وغنى عن البيان أن كل تطور يحدث في أعضاء النطق أو في استعداها يتبعه تطور في أصوات الكلمات، فتحرف هذه الأصوات عن الصورة التي كانت عليها إلى صورة أخرى أكثر منها ملاءمة مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق. فكان من المستحيل أن تجمد ألفاظ اللغة العربية على حالتها الأولى في الأمم الناطقة بها؛ ولم يكن مفر من أن ينالها كثير

ص: 20

من التطور باختلاف العصور. ومن آثار هذا ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات الجيم والثاء والذال والظاء والقاف. فقد أصبحت هذه الأصوات ثقيلة على اللسان في كثير من البلاد العربية، وأصبح لفظها على الوجه الصحيح يتطلب تلقينا خاصاً ومجهوداً إرادياً وقيادة مقصودة لحركات المخارج. ولعدم ملاءمتها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق في هذه البلاد أخذت تتحول منذ أمد بعيد إلى أصوات أخرى قريبة منها، فصوت الجيم الذي كان ينطق به معطشاً بعض التعطيش في العربية الفصحى قد تحول في معظم المناطق المصرية إلى جاف (جيم غير معطشة)، وفي معظم المناطق السورية والغربية إلى جيم معطشة كل التعطيش والثاء قد تحولت إلى تاء في معظم المناطق المصرية وفي بلاد أخرى فيقال:(توب. تلج. تخين. تعلب. تعبان. تفل. تئيل. تلت. تلاتة. تمن. تمانية. تور. أتنين. نتر. جتة. عتة. عتر. . . الخ. بدلاً من ثوب. ثلج. ثخين. ثعلب. ثعبان. ثفل. ثقيل. ثلث. ثلاثة. ثمن. ثمانية. ثور. أثنان. نثر. جثة. عثة. عثر. . . الخ). والذال قد تحولت في كثير من المناطق العربية إلى دال في معظم الكلمات، فيقال:(داب. دراع. ديب. ده. دي. دبل. دبح. دبان. دأن. أدان. ودن. دهب. دبل. . . إلخ بدلاً من: ذاب. ذراع. ذئب. ذا. ذي. ذبل. ذبح. ذبان. ذقن. أذان. أذن ذهب. ذيل. . . الخ)؛ وإلى زاي في بعض الكلمات، فيقال مثلا:(زنب. زهن. زكي. بزر. رزالة. . . الخ؛ بدلاً من: ذنب. ذهن. ذكي. بذر. رذالة. . . الخ). والظاء قد تحولت إلى ضاد في معظم الكلمات؛ فيقال: (ضلام. ضفر. ضل. ضهر. الخ. بدلاً من ظلام. ظفر. ظل. ظهر. . . الخ) وإلى زاي مفخًّمة في بعض الكلمات (كما ينطق في عامية المصريين بكلمات: ظالم. ظريف. أظن. حظ. . . الخ). والقاف قد تحولت إلى همزة في بعض الكلمات المصرية، فيقال:(أط. ألت. أبل. عأد. نطأ. . . الخ؛ بدلاً من: قط. قلت. قبل. عقد. نطق. الخ)؛ وإلى جاف (جيم غير معطشة) في معظم اللهجات العامية في مصر وغيرها من البلاد العربية، فيقال:(جط. جلت. جبل. عجد. نطج. الخ)؛ بدلاً من: قط. قلت. قبل. عقد. نطق. الخ)

8 -

الأخطاء السمعية وسقوط الأصوات الضعيفة. قد يحيط بالصوت بعض مؤثرات تعمل على ضعفه بالتدريج، كوقوعه في آخر الكلمة، وزيادتها عن بنيتها، وعدم توقف المعنى المقصود عليه؛ فيتضاءل جرسه شيئاً فشيئاً حتى يصل في عصر ما إلى درجة لا يكاد

ص: 21

يتبينه فيها السمع؛ فحينئذ يكون عرضة للسقوط. وذلك أن معظم الصغار في هذا العصر لا يكادون يتبينونه في نطق الكبار؛ فينطقون بالكلمات مجردة منه.

وقد كان لهذا العامل، مع عوامل أخرى سيأتي ذكرها، أثر كبير في سقوط علامات الإعراب بالحركات من جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية؛ على حين أن الإعراب بالحروف، لعدم تأثره بهذا العامل، قد بقيت آثاره في اللهجات العامية (أخوك، أبوك، المؤمنين، الطيبين. . . الخ)

9 -

موقع الصوت في الكلمة. وموقع الصوت في الكلمة يعرضه كذلك لكثير من صنوف التطور والانحراف

(ا) وأكثر ما يكون ذلك في الأصوات الواقعة في أواخر الكلمات سواء أكانت الأصوات أصوات مد أم أصواتاً ساكنة

أما أصوات المد، فقد لوحظ أن وقوعها في آخر الكلمة يجعلها في الغالب عرضة للسقوط، ويؤدي أحياناً إلى تحولها إلى أصوات أخرى. وقد كان لهذا العامل أثر كبير في سقوط أصوات المد القصيرة المسماة بالحركات (التي يرمز إليها في الرسم العربي بالفتحة والكسرة والضمة) التي تلحق أواخر الكلمات العربية. ففي جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية (عاميات مصر والعراق والشام وفلسطين والحجاز واليمن والمغرب. . . الخ) قد انقرضت هذه الأصوات جميعها، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب وما كان منها حركة بناء. فينطق الآن في هذه اللهجات بجميع الكلمات مسكنة الأواخر (فيقال مثلاً:(رجعْ عمرْ للمدرسة بعد ما خفْ من عياه) بدلاً من (رجع عمرُ إلى المدرسة بعد ما خفَّ من إعيائه). - ولعل هذا هو أكبر انقلاب حدث في اللغة العربية؛ فقد أتى جميع الكلمات فانتقصها من أطرافها، وجردها من العلامات الدالة على وظائفها في الجملة، وقلب قواعدها القديمة رأسا على عقب.

ومن هذا القبيل كذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات المد الطويلة: (الألف والياء والواو) الواقعة في آخر الكلمات، فقد تضاءلت هذه الأصوات في عامية المصريين وغيرهم حتى كادت تنقرض تمام الانقراض، سواء في ذلك ما كان منها داخلاً في بنية الكلمة (رمى، يرمى. . . الخ وما كان خارجاً عنها (ضربوا، ناموا. . . الخ)، فيقال مثلاً

ص: 22

في عامية المصريين (رام وعيسَ ومصطفَ أبُ حسين سافَر يوم الخميس لجرجَ) بدلاً من: (رامي وعيسى ومصطفى أبو حسين سافروا يوم الخميس إلى جرجا)

وما حدث في اللغة العربية تحت تأثير هذا العامل، حدث مثله في الكثير من اللغات الأخرى. فمعظم أصوات اللين المتطرفة في اللغة اللاتينية قد انقرض في اللغات المنشعبة عنها.

ووقوع الصوت الساكن (ونعني به ما يقابل صوت المد في آخر الكلمة يجعله كذلك عرضة للتحول أو السقوط، فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد التنوين ونون الأفعال الخمسة والهمزة والهاء المتطرفتين. فقد انقرضت هذه الأصوات في معظم اللهجات العامية المنشعبة عن العربية، كما يظهر ذلك بالموازنة بين العبارات العربية المدونة في السطر الأول ونظائرها في عامية المصريين المدونة في السطر الثاني:

محمدٌ ولدٌ مطيعٌ؛ الأولاد يلعبون، الهواءُ شديدٌ؛ انتظرته ساعةً كاملةً

محمدْ ولدْ مطيعْ؛ الأولاد بِيِلعَبُ؛ الهَوَ شديدْ، انتظرتُ سَاعَ كامْلَ

ومن هذا القبيل كذلك حذف آخر الكلمة التي يوقف عليها في عامية كثير من المناطق المصرية، كبعض مناطق بني سويف والشرقية ورشيد، فيقال مثلاً (إنت يَا وَلَ)؛ بدلاً من (أنت يا ولد)؛ (فين أخوك محمو) بدلاً من (أين أخوك محمود)؛ (إدِّيلُ خَمْسَأرو) بدلاً من (أدِّ له خمسة قروش)

وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في كثير من اللغات الأخرى. فمعظم الأصوات الساكنة المختتمة بها الكلمات اللاتينية قد انقرضت في النطق الفرنسي أو تحولت إلى أصوات ساكنة أخرى أضعف منها أو إلى أصوات لين

(ب) ووقوع الصوت في وسط الكلمة يعرضه كذلك لكثير من صنوف التطور والانحراف. فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد الهمزة الساكنة الواقعة في وسط الثلاثي، فقد تحولت إلى ألف لينة في عامية المصريين وغيرهم، (فيقال: راس، فاس، فال، ضاني. . . الخ بدلاً من: رأس، فأس، فأل، ضأن. . . الخ)

ومن هذا القبيل كذلك ما حدث بصدد الياء والواو الساكنتين في وسط الكلمة في مثل (عين) و (يوم). فقد تحولتا في بعض المناطق المصرية وغيرها إلى صوتين من أصوات المد،

ص: 23

فأولهما تحول إلى صوت يشبه صوت () في اللغة الفرنسية (عين، خيل، بين، زنيب. . . الخ)، وثانيهما تحول إلى صوت يشبه صوت () الفرنسي (يوم، نوم، فوز، لوم. . . الخ)

ومن ذلك تحريك الحرف الساكن إذا وقع في وسط كلمة ثلاثية في كثير من لهجات البلاد العربية (عامية الشرقية، وبعض عاميات الصعيد، ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر، ولهجة العراق. . . الخ؛ فيقال مثلاً: إسِم، رَسِم، مَصِر، جُرُن، بَدِر، فِجِلْ، فَحِل. . . الخ، بدلا من اسْم، رسْم، مصْر، جرْن، فجْل، فحْل. . . الخ)

وقد سجل الباحثون ظواهر كثيرة من هذا القبيل في اللغات الهندية الأوربية

(ج) ووقوع الصوت في أول الكلمة يجعله كذلك عرضة للانحراف. فمن ذلك ما حدث في بعض المفردات العربية المفتتحة بالهمزة؛ إذا تحولت همزتها في بعض اللهجات العامية إلى فاء أو واو ((أُذُن) تحولت في عامية المصريين إلى (وِدْن) و (أين) تحولت إلى (فين) أو إلى (وين) في عامية القبائل العربية النازحة إلى مصر، وفي عامية العراق والحجاز؛ و (أدَّى) تحولت في بعض المواضع في عامية المصريين إلى (ودَّى) فيقال مثلاً:(ودَّاه المدرسة) بمعنى (أدى به إلى المدرسة) أي أوصله إليها)

وسنعرض لبقية هذه العوامل في المقالات التالية إن شاء الله

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 24

‌هل لليهود فن؟

رد على رد

للدكتور أحمد موسى

(جاء بالعدد رقم 93 من مجلة الثقافة مقال بعنوان (هل لليهود

فن) قرر فيه الدكتور زكي محمد حسن مبدأين خطرين كانا

سبباً في اهتمامي، وهما (أولاً) أن اليهود لم يعرضوا للفنون

الجميلة أبداً. و (ثانياً) أن اليهود تركوا أدباً وديناً أثروا بهما

أثراً لا يقل عن أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية. وقد نفينا

الزعم الأول في استفهام أرسلناه إلى مجلة الثقافة ونشر بالعدد

رقم 99 مزوداً بمصادر علمية، وطلبنا إلى الدكتور زكي أن

يدعم الزعم الثاني بالأدلة؛ لأننا اعتبرناه فتحاً جديداً في العلم

يحتاج إلى البحث والفحص وذكر المصادر

وقد زد الدكتور على استفهامنا رداً نشرته مجلة الثقافة بالعدد 100 لم يكن مقنعاً - والقارئ يستطيع أن يكون لنفسه فكرة عامة عن المقال الأول وعن الحوار العلمي الذي دار حول هذا الموضوع الخطير، بقراءة هذا الرد).

(أ. م)

نشرت لي مجلة (الثقافة) استفهاماً بالعدد 99 ونشرت للدكتور زكي محمد حسن رده على استفهامي بالعدد 100 وهاهي مجلة (الرسالة) تفسح الصدر لنشر ردي على رده

والدكتور زكي مؤلف وكاتب معروف، ولا ينتظر من قراء مقالاته أن يهملوا ما يكتب، فنشكره ونعتذر إليه عن العودة إلى الكتابة لأن رده لم يكن مقنعاً

ص: 25

فمن رده على استفهامنا تؤخذ المسائل الآتية حسب ما ورد في مقاله بالعدد 100 في مجلة (الثقافة):

1 -

أن الأركيولوجيا أو علم الآثار تعني بدراسة المخلفات كلها وتدرس حياة الشعوب وطرق معيشتها، وهي مرجعنا الوحيد في دراسة مدنيات الأمم التي اندثرت بدون أن تصل إلينا وثائق مكتوبة عنها (ص 25 العمود الأيمن)

2 -

إن تاريخ الفن هو دراسة التحف التي صنعها الإنسان مراعيا فيها إلى حد ما شيئا من مبادئ الجمال، وهو لا يعني إلا بالتحف والآثار ذات القيمة الفنية (ص 25 العمود الأيمن)

3 -

أنه إذا كان في كتب الآثار الموضوعة عن شعب من الشعوب ما يدل على أن الفنون كانت زاهرة بين أفراده؛ فإن هذا لا يستلزم أن هذه الفنون كانت فنونهم ومطبوعة بطابعهم (ص 25 العامود الأيمن)

4 -

أن الدكتور زكي يرجح أننا لسنا على حق في حسبان بنسنجر من بني إسرائيل، لأنه كان مدرساً في كلية اللاهوت البروتستانتية بتوبنجن (ص 25 العمود الأيسر)

5 -

إن المراجع والكتب في تاريخ الفن تتحدث عن الطرز الفنية طرازاً طرازاً، ولكن (مستفهم) لن يجد بين صفحاتها فصلاً أو بعض فصل عقد للكلام عن فن ينتسب لليهود (ص 26 العمود الأيمن)

6 -

يأبى (مستفهم) أن يصدق أن اليهود أثروا بدينهم وأدبهم أثر لا يقل عن أثر الإغريق، ويقول إن هذا فتح جديد في العلم يحتاج لتصديقه والإيمان به إلى البحث والفحص وذكر المصادر، ويدعو (مستفهم) إلى دراسة العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وقراءة سير كبار العلماء والمفكرين اليهود واستعراض صلة اليهودية بحركة الإصلاح الديني في أوربا، وتبين أثر اليهود في القوانين الغربية؛ حتى أرى بذلك أن أثر اليهود في الحضارة لا يقل عن أثر الإغريق (ص 26 العامود الأيسر)

7 -

إن أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية وأثر اليهود فيها مسألة اعتبارية ونسبية (ص 26 العمود الأيسر)

وردنا على هذه المسائل ما يأتي:

1 -

لم تعن الأركيولوجيا بدراسة المخلفات كلها وحياة الشعوب وطرق معيشتها إلا في

ص: 26

عصر ديونيزيوس الهاليكرناسي (31 ق. م). الذي ذهب إلى روما وألف كتاباً في عشرين جزءاً لم يبق منها إلا نصفها تقريباً عن أركيولوجية روما تناول فيه حياة الشعب وطرق معيشته وعاداته وفنونه، وعصر يوسيفوس اليهودي المولود في أورشليم عام 37 بعد الميلاد الذي ألف كتاب الأركيولوجيا اليهودية في عشرين جزءاً ذكر فيها كل ما يتعلق ببني جنسه وأحوالهم وعاداتهم وفنونهم من أقدم العصور إلى آخر أيام نيرون

وقصد بالأركيولوجيا في عصر إحياء العلوم والأدب والفنون:

(ا) تفسير المخلفات الأثرية القديمة وتقدير الدرجة الفنية التي بلغتها ليدرك الناس ماهية الآثار والفنون، كما كان الحال عند (الإنسانيين) عندما تناولوا التراث الأدبي القديم لتحويله إلى دراسات عامة بعد أن كان من شأن الخاصة.

(ب) وتأريخ المخلفات التي يرجع عهدها إلى المرحلة الزمنية المحصورة بين عامي 1500 و1750 من مبان وتماثيل ونقوش

واتخذت الأركيولوجيا اتجاهاً جديداً بعد ظهور كتاب أوتفريد مولر (1717 - 1768) عن أركيولوجية الفن. وكتب غيره من العلماء والأدباء والباحثين في الفنون في بلاد الإغريق وآسيا الصغرى والشرق، وبذا تم تأسيس معهد الدراسات الأركيولوجية في برلين سنة 1828، فاستقلت الأركيولوجيا علماً قائماً بذاته بفضل فنكلمان

وفي فجر القرن الثامن عشر عنى بنجهام الإنجليزي بوضع كتاب (أركيولوجية الكنائس في عشرة أجزاء، طبع لندن سنة 1710 - 1722، كما عني أوجستي الألماني بوضع كتاب آخر في أثني عشر جزءاً، طبع ليبتسج في نفس الفترة الزمنية

وظاهر مما تقدم أن الأركيولوجيا تطورت تخصيصاً؛ فأصبحت لا تعني بالمخلفات كلها، أو حياة الشعوب وطرق معيشتها، ولم تعد المرجع الوحيد في درس الحضارات البائدة، إذ لا بد من الاستعانة بعلوم أخرى لإكمال هذا الدرس، كعلم تطور القشرة الأرضية وعلم الجماجم والعظام البشرية وعلم الأجناس وسلالاتها وعلم المسكوكات والدراهم

2 -

أما قصر تاريخ الفن على دراسة التحف التي صنعها الإنسان (مراعياً إلى حد ما شيئاً من مبادئ الجمال)؛ فقد يبدو براقاً وإن يكن غير صحيح؛ والصحيح أن درس كل إنتاج فني من اختصاص تاريخ الفن بغير حساب للجمال، لأن مجرد نسبة هذا الإنتاج للجمال،

ص: 27

تقلل من قيمته الفنية لاختلاف الآراء في الجمال في كل زمان ومكان

يعني تاريخ الفن الفكرة واتصالها بالطبيعة صلة إلهام (البرشت دورر) وتتلوها وسيلة الإنتاج الفني (المسلك) وبها تقدر كفايته، وعلى هذا الرأي في الفن الأديب الأشهر جوتهولد ليسنج

وجعل العلامة فكلمان (3) التناسب أساس الفن ووصف الجمال بأنه بالمثل الأعلى، متتبعاً في رأيه خطوات أوجستين (354 - 430) ،

3 -

(إذا كان في كتب الآثار الموضوعة عن شعب ما يدل على أن الفنون كانت زاهرة بين أفراده؛ فهذا لا يستلزم أن هذه الفنون كانت فنونهم ومطبوعة بطابعهم)؛ فهذا مردود عليه باستحالة جمود شعب عن ممارسة فن يُنتحَ ويُخرَجَ ويُبرز في وطنه! على أن الجائز هو أنه لا يشترط حتماً أن يكون الفن المزدهر في بلد ما خالصاَ لأبنائه دون أثر أجنبي فيه

4 -

وترجيح صديقي الأستاذ الدكتور زكي حسن أن بنسنجر ليس من اليهود، لأنه كان مدرساً في كلية اللاهوت البروتستانتية بتوبنجن مخالف للواقع؛ فأنه ولد في شتوتجارت وتخرج في جامعتها وجامعة توبنجن ودرس لاهوت التوراة ببرلين إلى سنة 1901، ثم صار نائباً لقنصل هولاندا في أورشليم إلى سنة 1912، ثم ندب للتدريس اللغات السامية في جامعة تورنتو إلى سنة 1914، فأستاذاً لآداب التوراة في مدفيل إلى نهاية الحرب الماضية. أما مؤلفاته فكتاب الآثار العبرانية وشرح أسفار الملوك، وتاريخ بني إسرائيل، وفضل اليهود في ابتداء التشريع، ويافت، وإلوه ودليل (بيدكر) عن فلسطين وسوريا سنة1912 كل ذلك مما يؤيد أن بنتسنجر يهوي

5 -

لم تخل كتب تاريخ الفن من صفحات وفصول عقدت للكلام على فن ينسب لليهود، وإليك يا صديقي ثلاثة منها:

(ا) طرز الزخرفة، تأليف شبلتس، صفحات 39 - 41 ولوح رقم 14

(ب) الفن القديم تأليف لوبكه - برنيس، الجزء الأول، صفحة 105

(ج) أسس تاريخ الفن، تأليف لوبكة، الجزء الأول من صفحة 58 إلى 67

وهذه الكتب الثلاثة قليلة بالنسبة إلى كتب أخرى عالجت تاريخ الفنون عامة وألمت بتاريخ الفن اليهودي

ص: 28

6 -

أما قول الدكتور الفاضل بأن اليهود أثروا بدينهم وأدبهم أثراً لا يقل عن أثر الإغريق فلا يوافقه عليه أحد، على حين توافقني على نقيضه الكثرة الغالبة من العلماء والمؤرخين حتى من اليهود أنفسهم. وأقرر بأن اليهود تأثروا بالعرب في مصر وشمال أفريقيا وأسبانيا وغيرها، ونقلوا عنهم. وكان الفضل فيما وصلوا إليه راجعًا إلى علوم الإغريق التي أشتغل العرب بترجمتها

قال أبن ميمون (1185 - 1204) في كتابه (مرشد الحائرين) أن ما أقتبسه اليهود من العلم والفلسفة كبصيص من النور وصل إليهم عن طريق العرب الذين استفادوا من حكمة الإغريق

أما ما كتبه العالم اليهودي الألماني (مونك) في كتابه (مزيج من الفلسفة العربية واليهودية)؛ فهو يؤيد فضل العرب على اليهود، كما يقرر بأنه لم يكن لبني إسرائيل فليسوف سوى ابن ميمون

ولا نحب في هذا المجال أن ننقص من فضل، (باروخ شبينوزا) الفيلسوف الهولاندي المتوفي سنة 1677 المنسوب إلى اليهود، وأن كان التنويه بذكره لا يكسب بني جنسه شيئاً فيما نحن بصدده، لأنه كان مغضوباً عليه ومحروماً من دخول المعبد لإلحاده ولمذهبه في وحدة الوجود

هاتان شهادتان ليهوديين من كبار رجالهم لم يزعما قط أن أدب اليهود أو حكمتهم دنت من حكمة الإغريق أو أدبهم، ولم يدعيا أنه كان لأدب اليهود ودينهم أثر في تاريخ الحضارة لا يقل عن أثر الإغريق

أما ما أستند إليه الأستاذ وهو درس العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلامية فهذا ما لا دخل له في موضوع الحضارة من حيث هي إنتاج إنساني قائم بذاته؛ إذ أن العقائد في جوهرها تمس الباطن، كما تمس الحضارة من حيث الحالة النفسية للمتعبد، ودرس الحالة النفسية من اختصاص علم النفس، وهو فرع من البحوث الإنسانية التي لا دخل لليهود فيها. وإن اتفاق الإسلام واليهودية في بعض التعاليم والآداب كالختان والصوم والطهارة من الجناية. . . الخ؛ فهذه أمور كان التشابه فيها لتشابه ولتسلسل الشعبين من الجنس السامي، مع اختلافهما الجوهري في العقلية والنظر إلى الحياة والمثل العليا، ولا إخال صديقي يرمي

ص: 29

إلى إثبات محاولة انتحال الإسلام عن اليهودية

والإصلاح الديني عند المسيحيين وهو أبرز ما في تاريخهم الكنسي قام به رجل ألماني أسمه مارتن لوتر، وآخر سويسري أسمه كلفن، وثالث من أهل سانت جال بسويسرا أسمه تسوينجلي وليس واحد من هؤلاء من اليهود.

وحتى حركة حرية الفكر التي ظهرت في أوربا قبل الثورة الفرنسية فهي لرجال أمثال فولتير وروسو وديدرو ومونتسكيو، وفي إنجلترا أمثال دودويل وتيندل وكوليتر وكلهم كما يعرف الأستاذ مسيحيون لا علاقة لهم باليهود

وإن كان لليهود أثر ملحوظ في الدنيا الجديدة فهذا الأثر محصور في الأعمال المالية والتجارية، وهي مع قيمتها الاقتصادية لا تمت بصلة إلى الأدب أو الفلسفة أو الفن كما يمت أدب الإغريق وفلسفة الإغريق وفن الإغريق

ولعلي لم أدرك تماماً قصد الدكتور من علاقة القوانين الغربية باليهود؛ فغير خاف أن القوانين في إنجلترا مأخوذة في أول أمرها من العرف الذي تواضع عليه الناس هناك، وفي الدول اللاتينية أُخذ في لبه عن القانون الروماني. أما في العصر الحديث فهو عن الثورة الفرنسية والقانون الألماني. وقانون روسيا لا يخرج عن التشريع الشيوعي. وفي البلاد الإسلامية عن الشريعة المحمدية وعن بعض الدول الأوربية كقانون بونابرت.

على أن هذا لا يمنع أن نذكر أن لليهود أثراً في التشريع الخاص بهم حيثما وجدوا، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والنسب. . الخ وطهارة المأكل وصحة الذبح، غير ما جاء في التوراة بسفر الخروج وأخبار الملوك.

وكتاب (تراث بني إسرائيل) مكتوب في عصرنا هذا لتمجيد اليهود، فلم يكن إلا نوعاً من الدعاية لقضية معينة؛ فكانت المبالغة فيه ظاهرة واضحة لمن يتعمق في درسه.

7 -

أما أن أثر الإغريق وأثر اليهود مسألة اعتبارية ونسبية فهذا يخرج بنا عن حدود المقارنة العلمية التي يقوم الحكم فيها على الحالة الذاتية للشيء وليس على الحالة النفسية للباحث.

وخلاصة ما تقدم:

1 -

أن الأركيولوجيا لا تفسر وحدها الماضي بما خلفه، وليست مرجعنا الوحيد في دراسة

ص: 30

مدنيات الأمم التي اندثرت

2 -

أن تاريخ الفن لا يعني بتوافر شيء من مبادئ الجمال في الخلق الفني

3 -

أن من المستحيل جمود شعب يزدهر الفن بين أفراده دون اشتراكه، كما أنه من المستحيل أن يوجد شعب له أثر ملحوظ في الأدب والفلسفة والعلم ولا يعرض للفنون الجميلة أبداً

4 -

أن بنتسنجر كان من اليهود حقاً وصدقاً

5 -

أن مراجع كتب تاريخ الفن لا تخلو من فصل أو فصول عقدت لتاريخ الفن عند اليهود

6 -

أن أثر اليهود بدينهم وأدبهم لا يدنو من أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية

7 -

عند المقارنة والموازنة - بين حضارتين - لا يكون للاعتبارية والنسبية المقام الأول في البحث العلمي

ولما كان الاتجاه الذي رغب الأستاذ زكي محمد حسن إلباسه ثوب الحقيقة العلمية، وهو الإقرار لليهود بفضل التأثير في الحضارة الإنسانية بما لا يقل عن فضل الإغريق بأدبهم وحكمتهم وعلومهم وفنونهم يعد من أشد الاتجاهات العلمية خطورة، ولا يجوز لباحث مثلي ومثله إبقاءه على هذه الحالة من الإيجاز والغموض؛ فقد صحت عزيمة كاتب هذه السطور خدمة للعلم، على أفراد فصل قائم بذاته لتصفية هذه المسألة عندما يحين الوقت أن شاء الله.

أحمد موسى

ص: 31

‌ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب

للأب أنستاس ماري الكرملي

1 -

توطئة

ضَرِيَ السوريون منذ برهة، باستعمال ألفاظ جديدة، للتعظيم والتبجيل، واستهجان كل كلمة دخيلة تدل على نظائر تلك المعاني. ولذا تجدهم اليوم، لا يتخذون لقباً أو جلاء يدل على أدب، أو تكريم، أو علم، أو إدارة، أو سياسية، أو نبالة، أو كل لفظ عليه طابع دخيل، فليس فيهم كاتب يتخذ في كلامه كلمة آغا، ولا أفندي، ولا بك. وأما مسيو. ومستر، وسنيور، وهر وضون، فقد أصبحت في خبر كان. وكذلك لا تجد أثراً لماجستير وليسانسية ودكتور وبروفسور. وقد نفوا من عبارتهم الكبتن والماجور والكولونل والجنرال هذا في الرجال. وكذلك نقوا كلامهم من ألقاب الإناث مثل: هانم، خانم، خاتون، ومدموازيل، ومدام، ومس، ومسز، وليدي. والكلام هنا على ما يقال في الأجانب على اختلاف قومياتهم. وليس هناك خلاف في أنه إذا جرى الكلام على أبناء العرب من ذكور وإناث فيتخذ لقب السيد، والسيدة، والآنسة، والكريمة، والعقيلة، إلى ما ضارع هذه المفردات

أما أنهم يحاولون إطلاق هذه القاعدة على الأجانب، وعلى ما وضعه هؤلاء من الألقاب العلمية والسياسية والأدبية بشروط وامتحانات وأحكام، فأنهم يحاولون القبض على حبال القمر، أو على قبض الماء بأيديهم؛ إذ لا حق لهم فيها، ولا يوافقهم على تحكمهم هذا إلا كل أهوج، خال من الوقوف على تقدم علوم العصر ومصطلحاته وأدبه، وأنفاق جميع الأقوام على اتخاذه، لأنها أصبحت من أوضاع الأقوام جميعها، ومن مشتركاتهم فيها ومن حق الجميع وممتلكاتهم لها

ومن مضحكات أوضاعهم أنهم أخذوا يستعملون (العليم) و (الحكيم) في مكان (الدكتور). وجهلوا أن هذا اللقب وأمثاله بمنزلة الأعلام، أي أعلام الألقاب. والأعلام تروي، أو ينطق بها على علامتها، ولا يحق لأحد أن يبدلها بغيرها، أو يصلحها، أو يحرر فيها أي تحرير، كبيرا كان أم صغيراً. فكما أن أحمد غير حامد، وهذا غير محمود، محمود غير محمد، وهذا غير حماج، وحماد غير حميد، وإن كان الأصل واحد كذلك ألقاب الآداب لا يبدل بعضها ببعض، ولا يقوم اللفظ الواحد مقام اللفظ الآخر؛ فـ (المسيو) مثلا يدل على أن المتكلم

ص: 32

عليه رجل فرنسي، و (المستر) على أنه إنكليزي، و (السنيور) على أنه إيطالي، و (الهر) على أنه ألماني، و (الضون) على أنه أسباني. وفي كل ذلك من تسهيل معرفة قومية الرجل عند ذكر لقبه مالا تجده في قولك: السيد فلان. إذ هذه الكلمة تدل على أن المدلول عليه هو من أبناء الناطقين بالضاد؛ بل يدل عند بعضهم على أن من نسب النبي العربي. فأين هذا الحرف من الحروف التي سردنا لك منها أمثلة؟ إن السورين يجورون على الأمم، ولا يجارون السلف في أعمالهم منذ القدم

2 -

ألقاب رؤساء الممالك:

اتصل السلف مع تمادي لزمن بأقوام مختلفة وبدول شتى، وعرفوا ألقابهم مع ما فيها من الغرابة، ولم ينقلوا إلى معانيها في العربية، بل حافظوا عليها أعظم المحافظة. ونحن ننقلها لكمن كتاب الآثار الباقية لأبي الريحان، وهي هذه (عن النسخة المطبوعة في أوربا):

أنواع الملوك الألقاب الواقعة على أشخاص تلك الأنواع

1 -

ملوك الفرس الساسانيةشاهنشاه وكسرى

2 -

ملوك الرومباسلي وهو قيصر

3 -

ملوك الإسكندريةبطليموس

4 -

ملوك اليمن تبَّع

5 -

ملوك الترك الخزر والتغزغز خاقان

6 -

ملوك التُرك الغُزية حنوته

7 -

ملوك الصين بغبور (أو فغفور)

8 -

ملوك الهند بلهرا

9 -

ملوك قنًّوجرابي

10 -

ملوك الحبشةالنجاشي

11 -

ملوك النوبة كابيل

12 -

ملوك ملوك جزائر البحر الشرقيمهراج

13 -

ملوك جبال طبرستانإسَفْهبد

14 -

ملوك دنباوندمصْمغان

ص: 33

15 -

ملوك غرجستان شار

16 -

ملوك سرخسزاذويه

17 -

ملوك نساوابيورد بهمنه

18 -

ملوك كش نيدون

19 -

ملوك فرغانةإخشيد

20 -

ملوك أشروسفة افشين

21 -

ملوك الشاشثدن

22 -

ملوك مرو ماهويه

23 -

ملوك نيسابوركفبار

24 -

ملوك سمرقندطرخوت

25 -

ملوك السريرالحجاج

26 -

ملوك دهستان صول

27 -

ملوك جرجانأناهبذ

28 -

ملوك الصقالبة قبًّار

29 -

ملوك السريانيين نِمرُوذ

30 -

ملوك القبطفرعون

31 -

ملوك باميان شيرباميان

32 -

ملوك مصر العزيز

33 -

ملوك كابلكابل شاه

34 -

ملوك الترمذترمذ شاه

35 -

ملوك خوارزمخوارزم شاه

36 -

ملوك شروان شروان شاه

37 -

ملوك بُخارابخار خداه

38 -

ملوك كوزكانانكوز كان خذاه

وكل ما جاء هنا يتعلق بالشرق الأدنى أو الشرق الأوسط، ولم يتعرض المؤلف لألقاب أهل

ص: 34

الغرب، مع أنها وردت في كتب التاريخ، لا سيما حين اتصل العرب بأهل الغرب في أيام الحروب الصليبية وبالتجارات والمراجعات التي جرت في عهد العباسيين والفاطميين والأندلسيين من ذلك:

3 -

الباب

4 -

الأنبراذور أو الأنبراظور أو الأنبرور

5 -

البطرك

جاء في مقدمة ابن خلدون في آخر الفصل الثالث والثلاثين ما هذا نقله بحروفه:

واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد، ولا تسمى اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم. وضبط هذه اللفظة بباءَين موحدتين من أسفل والنطق بها مفخمة والثانية مشددة. ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة، أنه يحُّضهم على الانقياد لملك واحد، يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم، تحرجاً من افتراق الكلمة، ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم، لتكون يده عالية على جميعهم، ويسمونه الأنبرذور، وحرفه الوسط بين الذال والظاء المعجمتين. ومباشرة يضع رأسه للتبرك، فيسمى المتّوج، ولعله معنى لفظة الأنبرذور. وهذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين الذين هما البابا (كذا) والكوهن)

ونحن نورد هنا أيضاً الحاشية التي جاءت على كلمة الأمبرذور. قال الناشر: (المشهور قديماً إيمبراطور، بالطاء المهملة، والفرنسيس تقول: إيمبرور وعناها عندهم ملك الملوك) اهـ. ولنا هنا عدة ملاحظات، منها: 1 - أن المؤلف كتب الباب ولم يكتب البابا. ولما لم يكن عنده يومئذٍ الباء المنقطة بثلاث، ضبطها بالكلام لا بالقلم.

2 -

إن صريح كلامه لتقييد الكلمة أنها بباء مفخمة والثانية مشددة ولم يذكر أنها تختم بباء وألف بل بباء مشددة، فكان يجب أن تكتب هكذا (البابّ) لا (البابا) ونحن نظن أن رسم الكلمة البابا من الناسخ لا من المؤلف بما أن نص المؤلف واضح هو بباء مفخمة مشددة. وأول من نقلها بهذه الصورة ابن رُسته، وقد وضع كتابه في آخر المائة الثالثة للهجرة، أي في نحو سنة 908 للميلاد كما سترى

3 -

أما كتابة الانبرذور فتكاد تكون صحيحة، لأنها في لغة اللاتين ومعناها: الآمر. وكان

ص: 35

أصل وضعه لرئيس الجيش، أي القائد العام له، ثم في أيام كيكيرون جعل لقباً للقائد الظافر، ثم للقنصل وفي الآخر للملك الأكبر؛ فانتقل بعد ذلك إلى كل ملك كبير؛ فهو كقولك ملك الملوك، أو كشاهنشاهان عند الفرس. إذن ليس معناه المتَّوج ولا معناه ملك الملوك

4 -

إن كتابة الإمبراطور بهذا الرسم كما يرسمه المعاصرون لا يوافق القواعد العربية، لأنه لا يُرى في الكلم الضادية من عربية ومعربة، فيها الميم ساكنة، ويليها باء متحركة، فإذا وقع مثل ذلك رُسمتْ الميم نوناً. ولهذا يجب أن تكتب (الانبراطور) بنون

5 -

جرى العرب على كتابة الكلمة (أنبرور) بهذا الرسم. عند اتصالهم بالألمان والفرنسيين في نحو أواخر المائة الثانية عشرة وأوائل المائة الثالثة عشرة من تاريخ الميلاد، أو بعبارة أخرى في أواخر المائة السادسة وأوائل المائة السابعة للهجرة. فقد قال ابن خلكان في ترجمة أبي العباس أحمد عبد السيد الملقب صلاح الدين:(وعند وصول الأنبرور، صاحب صقيلة إلى ساحل الشام في سنة 626 هـ (1228م) بعث الملك الكامل الصلاح إليه رسولاً).

وقال في ترجمة أبي طاهر يحي بن تميم: (ولما هلك غنيمة (بن زُجَار. كذا. والصواب بن رُجَار براء مهملة). ملكت أبنته، وهي أم الأنبرور ملك ألمانيا في زماننا. ثم هلكت أم الأنبرور) اهـ

وجاء في تقويم البلدان لأبي الفداء: (وسلطانها (سلطان ألمانية) هو المعروف بالأنبرطور ومعناه ملك الملوك والعامة تقول الأنبرُوز) اهـ. وفي كتاب العبادين في كتاب ألفُنْس بن سانشس إلى الخليفة المعتمد الإنبيطور

فهذه عشر لغات في تعريب كلمة واحدة، أصلها اللاتيني فقيل فيها: إنبيطور، إنبرذور، إنبرظور، إنبراطور، إنبرادور، إنبرطور، إنبرور. وقال فيها البعض المعاصرين خطأ: إمبراطور، إبمبراطور، إيمبرور. ومن اللازم على المعاصرين أن يلاحظوا كيف أن الأقدمين باختلاف بلدانهم وعصورهم كتبوا بألف ونون، وليس أبداً بألف والميم، لأنهم عرب صميم والعرب لا تخالف قواعد سلفهم أبداً، وذلك سلبقة لا تطبُّعاً!

(له صلة)

الأب ألستاس ماري الكرمل

ص: 36

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 37

‌صفحة من كتاب

من جوف الليل

للأستاذ شكري فيصل

- 1 -

أرقت في هذه الساعة فما استطعت أن أنام. . . لقد حاولت أن أغمض عيني، وأن أستسلم لهذه الرؤى البارعة، وتلك الأحلام الرائعة، وذاك الجمال الذي أهواه، لعلي أنام على ذكراه وأغني على هدهدته، وأجد اللذة في مداعبة خياله، والأنس بحثاً له، ولكني لم أفد شيئاً من هذه المحاولة. إن النوم ليعصيني كأن بيني وبينه عداء؛ وما كنت لأعادي إنساناً أو أغضب رجلاً، أو أسئ إلى مخلوق، لأن قسوة الحياة علمتني منذ كنت طفلاً منكمشاً في زاوية المدرسة، وحيداً في أطراف الطريق، معتزلاً في ركن البيت، ألا أقسو على أحد، وأن أنشد الخير لهؤلاء الناس جميعاً؛ فليس أحلى من الخير، ولا أحسن منه استثارة العاطفة، وإرضاء للشعور الغاضب المضطرب

- 2 -

لِمَ يجفوني النوم؟ ولِمَ يباعد بيني وبين أحلامي الهانئة وقصوري الناعمة في جنات الخيال؟ ولِمَ يريدني على أن أساهر النجم وأراقب الكواكب وأشهد صفحة السماء بعيني، بينا، تتطلع إلى السماء بألف عين فأخافها وأخشاها، وأرتعد منها، وأفر إلى أعماق السرير، وأستر وجهي بهذا الغطاء الكثيف؛ فلا أنجو من الرعب ولا أخلص من الارتعاد، وتظل هذه الأعين تطل علي، وتلحق بي، وتتعثر في ناظري، وترمقني بشعاعاتها النافذات؟!

أي شيء أصبت من إثم حتى يجردني الله من لباس الليل، فلا أرتع فيه، ولا أغيب في آفاقه السعيدة أنسى هموم اليوم ومتاعب النهار، وأخبار السوء؛ ولم تتوافد علي الذكريات أليمة محزنة، وتطوف في خاطري كئيبة سوداء، وتنشر في نفسي ليلاً آخر بكل سواده القاتم، وجلاله القائم، ونجومه المنطفئات؟!

- 3 -

لم تعد لي قوة أحتمل بها هذه الوحشة. . . لقد كنت ألقي أهوال النهار فأفر منها إلى الليل،

ص: 38

ولكن الليل يطردني عنه، وينفيني منه، ويريد أن يحول بيني وبينه. لقد وسع كل شئ؛ كل الخيرين والأبرار، والآثمين والأشرار، والغاصبين والأخيار؛ ولكنه ضاق عني، وقذف بي إلى مغارة هائلة لا أدري أين أستقر فيها. . .

رحمة بالضعفاء يا ليل! إن الذين تزدريهم أعينك الليلة، ويتجافى عنهم مداك الواسع، وسلطانك الممتد. . . ليس لهم ما يستريحون إليه إلا هذه الساعات يقتطعونها من عمر الزمن، ويختلسونها من حياة الدهر، ويسرقونها سرقة الجائع المتهالك للكسرة الجافة واللقمة الشاردة لينعموا بها ساعة في نوم عميق ينسون فيه أنفسهم، وهذه الآفاق التي تحيط بهم، وتلك الذكريات التي تنتاشهم، وحادثات الألم التي تصك مسامعهم فلا يملكون بعدها الحركة والشعور، فهلا رفقت بهم أيها الليل هلا ضممتهم في نعيمك الممتع، ولففتهم بسكونك المتراخي، وتركتهم إلى هذا الهدوء الذي ينشدونه، وهذا الصفاء الذي يرمقونه، وتلك الفترات التي يتطلعون إليها ليجددوا بعد القوة على احتمال الأسى، ولقاء الشرور

- 4 -

إني لأخشى هذا الفضاء الهائل الذي أجدني فيه، ليس من حولي شئ، ولا إلى جانبي إنسان، لقد ذعرت حقا حين مددت يدي هنا وهنالك، وأجلت بصري أمام ووراء، فلم ألق هذه الإنسانية البرة الحنون التي رعت طفولتي بشقائها، وغذت يفاعتي بدموعها، ونشأت صباي من دم قلبها. . . لقد أدركت. . . إنها بعيدة عني، وأن بيني وبينها آماداً ومسافات يرعاها الله، ويكلؤها الرحمن، فمن لي باليد التي تطوق عنقي، من لي يفيض على الجرأة، ويبعث في القوة، ويطرد عني خوف الليل؟

إن فضاءً كبيراً حولي. . . وإن فضاء أكبر في نفسي. . . وليس في وسعي أن أملأه بما أرى في النهار، وأسمع في الطريق، وأحس في العمل، لأني لا أرى شيئاً، ولا أسمع صوتاً، ولا أحس حركة. لقد ابتلع الليل كل شئ، فطواه في ثناياه، وضمه إلى حشاه الواسع. . . إلا أنا. . . إلا أنا سهران لأنه يفيق عني، فأظل مشرداً في كهوف مرعبة من الشكوك والأحزان: شأن هؤلاء المشردين في أطراف الأحياء، وأرصفة الشوارع، وحافات المقاهي في النهار، ولكني أنا مشرد ليل، وليس لهذا الليل ندى آوى إليه، أو صديق أسلو معه، أو شارع أجوس خلاله. . .

ص: 39

ليس فيه إلا الفراغ المرعب، وهذه السهام المسددة التي تبعثها النجوم في نفسي

- 5 -

أخذت أتقلب في أطراف السرير وألوذ بجوانبه، ولكن الحركة لم تكن لتنجو بي من هذا الذي أشقى به، وأطراف السرير وجوانبه قلقة حائرة. لقد نبا بي كل شئ: حتى هذا الغطاء الذي آلفه في الليل وفي طرفي النهار. . . إنه ليضطرب فوق جسمي كأنما أنا أرتعد، وما أدري سر هذه الرعدات الخانقة وما أعرف متى أخلص منها. . . إن القمر الدائر ليتراءى لي، وإني لأحاول أن أفزع إليه. . . ولكن المسكين لا يقوى على شئ. لقد أهزله الطواف حول الأرض مدى عشرين يوماً ونيفاً فلم يبق منه إلا الجسم الناحل والعظم المقوس، ولم يعد له ذلك البريق الذي كان يفيض منه، ولا ذاك لألق الذي ينساب من أطرافه، ولا تلك الأضواء التي كانت تغمر الأرض، وتنير حواشي السماء، وتطرد ظلمات النفوس. لقد أضحى كابي النظرات، خامد الحسن. متهاتف القوى، وأصبح جمرة هامدة بعد أن كان شعلة متقدة. إن طبقة من الرماد الأزرق تحاول أن تطغي عليه. لقد امتدت إليه فعملت فيه كما يعمل السل؛ ونفذت في طرف منه فتقبلها بضحكته الكاملة وبسمته المستديرة وغمرها بألقه الحنون، ولكنها كانت من طباع الناس: فبها لؤم وغدر، وفيها إثم وشر فلم تزعه، وإنما أخذت تنفث سمومها فيه، لقد بترت أوصاله، وإنها لتسرى الآن إلى أحشائه تلتهمها. لم يبق بينها وبين قلبه شيء. إنها لتكاد تلتهم هذا القلب الكبير الذي وسع الأرض وطاف حولها، لا تكبر شيخوخته، ولا تحترم مشيبه ولا تذكر إحسانه إليها. . . هاهي الماكرة تسرق قلبه وتأنى عليه. . . لقد أضحى القمر المسكين ذؤابة بيضاء منحنية لا تملك أن تتماسك، ولا تستطيع أن تشتد، وستلحق هذه الانحناءة النادية بالقلب الكبير: لتجدد معه في العالم الآخر عهود الصفاء والضياء والنور

- 6 -

لقد نهضت أمشي. . . ولكني لا أملك أين أضع قدمي مخافة أن أنزلق به. . . إني لأحبو كالطفل، أتلمس الطريق بكل أطرافي وحواسي. لقد عدت طفلاً لا يعرف كيف يسير، فهو محتاج إلى من يمسك بيده ويأخذ بساعده ويمضي به، فهلا أخذت بساعدي - أيها ليل -

ص: 40

ومضيت بي كما تمضي بكل هؤلاء الناس إلى أحبتهم يناشدونهم الوصل، ويعتبون عليهم القطيعة، ويلومون منهم هذا الإهمال، وإلى أهلهم البعيدين منهم المتغربين عنهم: يبثونهم الحنين، ويهدونهم التحيات، ويطبعون على جبينهم قبلة الحب الذي يملأ كل جارحة ويغطي على كل شئ، وإلى معاهد الصبا يطوفون فيها ويسمعون في جنباتها ويرددون في آفاقها نشيد المرح والسعادة، وإلى أرض الوطن يسألونها ماذا حل بها وأي شيء أصابها، وماذا فيها من مكر الدهاة ومكارة الدنيا وعبث الزمان؟؟ وهل من بلاء - لا كان - يلقاه أبناؤها الغر: الذين يحملون فوق كل ما يحمل أبناء العالم من واجبات المدرسة والبيت، وحقوق المدن والريف، وأهداف الوطن والمستقبل، وغايات العرب والإسلام؟؟

- 7 -

لم يعد في وسعي شيء - أيها الليل - لقد سددت النافذة وأقفلت الباب ودفنت وجهي في الوسادة، ودسست كل أطرافي في أعماق السرير كمن يتحصن. . . ولكنك لم تشأ أن ترفق بي: إن الباب ليطرق طرقاً عنيفاً، وإن النافذة لتهتز هزة شديدة، وإن كل ما حولي ليتحرك. . . ولكني سأجمع كل قوتي، وستتركني أنت هنا في هذا الأسر الموحش. . . غير أن النهار سيضيء وسيحسن إلي مرة، لأنه يعرف أنه أساء إلى مرات، وسأنهض على قدمي وأفتح ناظري وأرى النور. . .

- 8 -

إنّ غبش الفجر ليلمع في جبين الليل، وإن همسات خافتة من أضوائه لتتراءى لي. . . هذا السواد يهزل ويهزل، إنه ليمضي في طرف الأفق مطرقاً مستحيياً، ولكني سأغفر له هذه الإساءة لأني أحب هدؤه وأعشق صفاءه وأعيش في أحلامه. . .

(القاهرة)

شكري فيصل

ص: 41

‌المرحوم محمد مسعود بك

للأستاذ خليل مطران بك

مضَوا تَباعاً وهذا يوم مسعود

هل في الكِنانة قلبُ غُير مكمود

نوابغٌ ملأوا بالفخر عصرهمُ

وجددوا المجد فيه كلَّ تجديد

عادت به لِفحول الشعر دُولتُهم

ودولةٌ للتحرير المجاويد

الكاتب الفذُّ قد ألقى يراعتَه

بعد اصطحاب طويل العهد محمود

بحر من الأدب الزخَّارِ مُصْطَفِقٌ

بِصَدرِ أرْوَعَ فيه حِشمة الرُّود

تراه في وجه مُسْتحىٍ وتَخبُرُه

فلست تَخبرُ غيرَ النبل والجود

تبدي ظواهره ما في سرائره

وقد تشعُّ نفوسٌ في التجاليد

يحيا وَدُوداً ومودوداً كأحسنِ ما

يرجو وهل مِن ودوَدٍ غيرُ مودود

ولم يكن مع لين الطبع واهِيَهُ

ولم يكن بمداجٍ أو بِرِ عدِيد

وربما صال ذَوْداً عن حقيقته

فجال في الشوط جولاتِ الصناديد

جاري صِحافةَ مصر منذ نشأتها

وِعبئُها مرهِقٌ في نضرة العود

بالعزم والحزم يستوفي مطالبها

وهل بغيرهما إدراك منشود

حتى إذا آب من أقطاب نهضتها

وسدًّد الرأيَ فيها كل تسديد

أجرى بما يخصب الألباب أنهرها

كالنيل بالخصب يجري في الأخاديد

وعلم الطير في أفنان روضتها

شتى الأفانين من شَدْوٍ وتغريد

إن الصحافة موسوعات معرفة

يزود العقل منها خير تزويد

تزيد أخبارها بالناس خبرته

حتى تُقَوَّمَ منه كل تأويد

مسعودُ مَهَّدَ في مِصر السبيلَ لها

فحاز فضلين من سبق وتمهيد

ثم انتحى مُرْصِداً للعلم همته

متابعاً كل مجهود بمجهود

يعي معارف ألواناً ويخرجها

لفظاً ومعنى بإتقان وتجويد

فمن تأليف لا تُحصى فوائدها

محدودة ومداها غير محدود

ومن رسائل في فن وفي لغة

سيقت لإفرار رأي أو لتفنيد

ومن مباحث في التاريخ شائقة

وفي البحار وفي الأمصار والبيد

ص: 42

وفي صفات بني الدنيا وما اصطلحوا

عليه في عهدهم من غير معهود

وفي عوالم أفلاك تحيط بنا

ما بين محتجب منها ومرصود

هديةٌ وهُدى منه لأمته

وموطنٍ بعد وجه الله معبود

مسعود يبكيك أبناء بررت بهم

فنشئوا نشأة الغر الأماجيد

يبكيك قوم مشوا والحزن يشملهم

في مشهد لك يوم البين مشهود

يبكيك إخوان صدق هاهنا احتشدوا

ينوهون بفضل غير مجحود

يمضي الزمان وتبقى في ضمائرهم

خليق ذكرى بتكريم وتخليد

خليل مطران

ص: 43

‌غريب

للأديب محمد قطب

غريب أنا في ذلك الكون كله

على سعة في الكون توحي بإيناس

غريب بنفسي عن نفوس كثيرة

غريب بفكري عن دُنى ذلك الناس

وأحسب أنى تائه في غمارهم

كما ضل ومض في غمار الدجى القاسي

وما نلتقي في خفقة أو وشيجة

ولا فكرة عليا ولا طيف وسواس

وما بيننا من رابط غير أننا

نجوب معاً دنيا من الحلك الكاسي

ترى أينا أصفى ضميراً وعنصراً

ومن فيه صدق أو سلامة إحساس

لأحسب في دنياهُم كل ضلة

وأحسبها دنيا شرور وأرجاس

لقد كنت قبل اليوم هيمان في الذرا

أحلّق نشواناً إلى كل مرتاد

يفيض بنفسي الفن بشراً وغبطة

ويهتف في أذنيّ كالطائر الشادي

ويخلق في نفسي مُنىً عبقرية

ويلهمني الإحساس كالكوكب الهادي

ويمنحني صفو الحياة وذخرها

وأجمل ما يهفو له الناهل الصادي

فأشبع حبي للحياة نقية

ويسمو إلى خلد السماء فؤادي

فأرقب هذا الناس في ديوانه

كما أرقب الأنعام تنساب في الوادي

فيأخذني رفق بهم في ضلاهم

يهيمون في دنيا الظلام بلا حادي

ولكنني أقفرت يوماً من المنى

وجئت إلى الظلماء غير مزود

فلفتني الظماء من كل جانب

وبثت ليَ الأشواك في كل مقصد

وما أرتوي من مورد، أي مورد

وما ألتقي إلا بدجوان أجرد

وطال هيامي في الظلام بلا هدى

فأجهدت من سير ممل مشرد

وأخلد قلبي لسكون وللكرى

بليداً من الإحساس أي تبلد

فلما أفقت اليوم من ذلك الكرى

تلمست حولي الكون علِّيَ أهتدي

فألفيتني فيه غريباً مشرداً

أهوِّم في واد من التيه سرمد

(معهد التربية)

محمد قطب

ص: 44

‌البريد الأدبي

فقر الأنبياء

ليس الفقر عيباً، وإنما السكوت عن مقاومة الفقر هو العيب، فنحن

جميعاً مسؤولون عن محاربة ما يحيط بنا من متاعب معنوية وحسية،

ومن واجبنا جميعاً أن نطمع في الانتفاع بما في الوجود من ثمرات.

على شرط أن ننال ما ننال عن طريق الجهاد المحمود

وقد سأل الأديب (ح. ع. مطر) عن فقر الأنبياء وما يدل عليه من معانٍ على فرض ان الفقر يدل على ضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية.

وأجيب بأن الأنبياء رحبوا بالفقر طائعين، لتقل شواغلهم الدنيوية فيستطيعوا القيام عروض الهداية والتهذيب، وليكون في انصرافهم عما في الدنيا من منافع قطعٌ لألسنة من يروق لهم اتهام الأنبياء بحب المال، وهو اتهام يزعزع ثقة الجماهير ويروضها على التمرد والعصيان

والمعروف أن الناس في كل أرض يتزيدون على الزعماء والمصلحين ويجعلون طلب الدنيا من أكبر العيوب، فليس غريباً أن ينسلخ الأنبياء من المنافع الدنيوية ليصدوا من يعارضون باسم الغيرة على الأخلاق؛ كأن الأخلاق تكره أن يتزود المصلحون بثروة الرزق الحلال!

وفي طلب السلامة من أذى السفهاء قال الرسول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة) أو كما قال، فلست أملك الرجوع في هذه اللحظة إلى نص الحديث

والعدل يوجب أن يكون ما يترك الأنبياء ميراثاً حلالاً لأبنائهم، ولكن الحرص على قطع ألسنة المتزيدين هو الذي أوجب أن يحرم الأنبياء أبناءهم من ذلك الميراث، وذلك ظلم جميل

ومن نحن حتى نرحب بالفقر كما رحب به الأنبياء؟

أولئك رجال يأخذون زادهم من الإيمان واليقين قبل أن يأخذوه من الطعام والشراب، فمن أنس في نفسه القدرة على الظمأ والجوع لينقطع إلى مجاهدة النفس ومجاهدة الآثام

ص: 46

الاجتماعية فهو أقرب منا جميعاً إلى التخلق بأخلاق الأنبياء

العصاميون

وقال قائل: كيف تهتم الفقراء بضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، ومن بين الفقراء نبغ العصاميون؟ وأجيب بأن العصاميين هم حجتي على أن الفقر داء له دواء. فالرجل العصامي يقيم الدليل على أن القوة الخلقية قد تقتلع ما يعترض طريق الرزق والمجد من حواجز وأسداد. والتاريخ يشهد بأن أكثر العظماء كانوا في البداية فقراء، فما تفسير هذا الذي يشهد به التاريخ؟

إنما كان ذلك لأن الفقير الموهوب تقوى عزيمته بفضل الاعتماد على الله وعلى النفس، ومثله في ذلك مثل من يعيش بلا عصبية تحميه، فهو يستعد للمقاومة في كل وقت، ومن ذلك الاستعداد يفوز بمناعة جسمية وروحية تصد عنه عدوان المعتدين فالذين يمنون الفقراء بأموال الأغنياء يقتلعون بذور العصامية من النفوس، ويعدون الجيل المقبل لأمراض أخفها الاعتماد على الغير، وهو بداية الخذلان

الإحسان إلى من يعجزون عن الارتزاق هو أوجب الواجبات، وهو الشاهد على اتصافنا بالكرم والجود، أما الإحسان إلى من يقدرون على الارتزاق فجريمة اجتماعية، ولا يشجع على هذه الجريمة غير الكتاب الذين يعيشون بفضل الرياء الاجتماعي وهو رياء له عواقب سود، في الدنيا وفي الآخرة، والآخرة حق، ولو كره من يراءون الناس

الحب والبغض

أما الأديب الذي كتب من المنصورة خطاباً في صفحات طوال عراض فمن حقه أن يبغضني كيف شاء، فما أفكر في الحب ولا في البغض حين أحاور قرائي، وإنما أفكر في الصدق، لأستطيع القول - ولو بيني وبين نفسي - بأني لم أفكر أبداً في مخادعة قومي، فالدنيا أصغر وأحقر من أن تروضنا بمغرياتها الأواثم على جلب منفعة وقتية ببعضها الصدق

وفي مجلة الرسالة كتاب أعظم مني، فما الذي يمنع بعض الناس من غض النظر عما أكتب، وقد صح عند ذلك (البعض) أن مقالاتي في الإصلاح الاجتماعي لم تصب هوى من

ص: 47

قلبه الرقيق؟

أفلح الدكتور طه وأخفقت: أفلح لأنه دعا الحكومة إلى إنقاذ الفقراء، وأخفقت لأني قلت باعتماد الفقراء على أنفسهم وعلى سواعدهم، فما تستطيع الحكومة أن تعين رجلاً لا يعين نفسه، ولا يستطيع المجتمع أن يحمي مخلوقاً يعجز عن حفظ مكانه بين طبقات المجتمع

أنا رجل فقير يحارب الفقر في كل وقت، وأنتظر من إخواني الفقراء أن يعينوني على محاربة ذلك العدو البغيض، لأصبح ويصبحوا من المياسير بفضل الكسب الشريف

لا يهمني أن يحبني قرائي، فما يبكي على الحب غير النساء، وإنما يهمني أن يكون ما أكتب صورة صادقة لما يعتلج في صدري عن آراء وأهواء

الصدق هو الذي يرفع أدب اللغة العربية. وهو الذي يزيد في ثقة الرجال بعضهم ببعض. أكرمنا الله جميعاً بنعمة الصدق وهدانا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، فهو وحده الحبيب الذي تتشرف بحبه القلوب

زكي مبارك

إلى الباحث الجليل (* * *)

السلام عليكم:

وبعد فقد جاء في بحثكم الممتع في العدد 404 من الرسالة الغراء ما يلي:

(في درة الغواص في أوهام الخواص: ويقولون: بعثت إليه بغلام، وأرسلت إليه هدية، فيخطئون فيهما؛ لأن العرب تقول فيما يتصرف بنفسه: بعثته وأرسلته، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا) وتقول فيما يُحمل: بعث به وأرسلت به، كما قال سبحانه إخباراً عن بلقيس:(وإني مرسلة إليهم بهدية) فعقبتم على ذلك في الحاشية بقولكم: (قلت: هل يرى الحريري الريح والصيحة والحاصب مما يتصرف بنفسه؟ ففي الكتاب: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً)، (إنا أرسلنا عليهم حاصباً)، (إنا أرسلنا عليهم صيحة). . .)

قلت: الإرسال في هذه الآيات الكريمة بمعنى التسليط، لا بمعنى التوجيه، فليس يقال في مفعوله:(إنه مما يتصرف بنفسه، أولا يتصرف)، حتى يتفرغ عليه دخول الباء عليه أو عدم دخولها؛ إذ يمتنع أن يقال: سَلَّط عليه بكذا

ص: 48

ومن أمثلة الإرسال بمعنى التسليط قول الأساس: أرسل كلبه وصقره على الصيد، أرسل الله عليهم العذاب

وإكمالاً للبحث نورد ما جاء في (التاج) قال: (والإرسال التسليط، وبه فُسِّر قوله تعالى: (إنا أرسلنا للشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)، أي سُلّطوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم. والإرسال أيضاً التوجيه، وبه فسر إرسال الله عز وجل أنبياءه عليهم السلام

هذا ما عنَّ لي أعرضه على الأستاذ المحقق

(ا. ع)

وفاة الأستاذ محمود مصطفى

استأثر الله في الأسبوع الماضي بالأستاذ (محمود مصطفى) أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية؛ وقد كان رحمه الله من أصحاب الملكات القوية في الأدب واللغة. تخرج في دار العلوم ثم أشتغل في التعليم في المدارس الأهلية والأميرية بقية شبابه الأول، ثم فاختير للتدريس في كلية اللغة فقسم حياته العاملة بين التعليم والتأليف حتى زود المكتبة العربية بطائفة من الكتب النافعة في تاريخ الأدب والعروض. وقد قال الأديب البر محمد عبد المنعم خفاجي إن للفقيد سفرين جليلين في الأدب المصري منذ الفتح العربي إلى الآن يقعان في ألف صفحة، وقد عكف في آخر حياته على إعدادهما للطبع حتى انتهى منهما قبل وفاته بأسبوع. رحمة الله رحمة واسعة وعوض الأدب والعربية منه خير العوض.

تأبين المرحوم محمد مسعود بك

اجتمع في مسرح الحديقة في مساء الأربعاء الماضي جمهرة من أعيان الفضل وأقطاب الأدب ورجال الصحافة للاحتفال بتأبين العالم البحاثة المرحوم (محمد مسعود بك). فألقي كلمة الافتتاح معالي الأستاذ محمد علي علوبة باشا؛ ثم تتابع الخطباء والشعراء فجلوا مواهب الفقيد وآثاره في الصحافة والعلم والخلق والأدب والوطنية والترجمة. وكان الشعراء على الأخص قد احتفلوا لما قالوا فجاءت قصائدهم من محكم الشعر وجيده. وقد نشرنا منها في هذا العدد قصيدة الشاعر الكبير خليل مطران بك، وسنختار في العدد المقبل فرائد من قصيدتي الأستاذين محمد مصطفى الماحي ومحمد الأسمر لأنهما نشرتا بالأهرام.

ص: 49

وقد كانت الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ يحيي مسعود نجل الفقيد شكراً جميلاً للمحتفلين وتحية بره لوالده. أجمل الله عزاءه وعزاء الوطن في الراحل الكريم

حول بشر بن عوانة

كانت (المكشوف) قد ذكرت في بعض أعدادها أن الأستاذ بطرس البستاني أول من نفى شخصية بشر بن عوانة في الجزء الثاني من كتابه (أدباء العرب) فرأت (الرسالة) من واجبها أن تنبه إلى أنها أشارت إلى هذه الأسطورة في يناير سنة 1935. ويظهر من العدد 296 من المكشوف أنها نشرت هذا التنبيه ولاحظت عليه أن الجزء الثاني من (أدباء العرب) طبع للمرة الأولى في شباط سنة 1934 فيكون أسبق

نقول يظهر لأننا لم نطلع على العدد الذي نشرت به هذه الملاحظة لاضطراب البريد بين البلدين في هذه الظروف. ولو كنا اطلعنا عليها لنشرناها فينتهي الأمر من جهة الزميلة، ويبقى الرأي من جهتنا موقوفاً إلى أن نطلع على الطبعة الأولى من هذا الكتاب

اكتشاف جديد لا طالة عمر الإنسان

جاء من هنتنجتون في ولاية فرجينيا أن الأستاذ ماليسوف أستاذ علم الكيمياء الحيوية في معهد الفنون والصناعات في بروكلين أعلن في اجتماع عقد في هنتنجتون أن الإنسان يستطيع أن يعيش 185 سنة بفضل المادة الجديدة المسماة (صوديوم ثيوسيانتت) وقد اكتشف تأثيرها بعد تجارب عديدة

وكان مما قاله أيضاً أنهم استطاعوا في التجارب التي أجروها في الأرنب أن يبطلوا فيها أعراض كبر السن. ثم قال إن مادة الكولستروك اللزجة التي تشبه الشمع ترسب كمية منها في الأوردة والشرايين، وأن ثمة علاقة بين العمر وهذه الراسبة، وأن هذه المادة الكيميائية الجديدة (الصوديوم ثيوسيانيت) توزع الكولسترول من غير أن تحدث ضرراً في الجسم.

حول وأد البنات عند العرب في الجاهلية

لجأ الأستاذ الصعيدي - وهو من علماء الأزهر الشريف - إلى المغالطة والتقول عليَّ بما لم أقله بعد أن سُدّت أمامه السبل في تأييد ما يذهب إليه. فقد أنقسم رده الأخير إلى نقطتين تمثل كلتاهما أقصى ما يمكن أن تصل إليه الجرأة في طمس الحقائق:

ص: 50

1 -

يقول في النقطة الأولى: (وقد رأى الأستاذ علي عبد الواحد وافي أن حمل قوله تعالى (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) على معنى أنهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون لا يستقيم مع الآيات الأخرى كما ذكرت (أي كما ذكر الأستاذ الصعيدي)، لأنها صريحة في أنهم كانوا يجعلون ذلك لأنفسهم لا لآلهتهم)

وأنا لم أر مطلقاً هذا الرأي، بل رأيت - عكسه تماماً - كما صرحت بذلك في كلمتي الأخيرة إذ قلت ما نصه:(على أن ما ذكرناه في المقال السابق بصدد الذكور (أي نسبتهم لآلهتهم) تحتمله آية النحل، وخاصة لأن الضمير في الآية التي قبلها يرجع إلى الشركاء:(ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. . . ا. هـ. البيضاوي) نصيباً مما رزقناهم، تالله لتسألن عما كنتم تفترون، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) فرجع الضمير في (لهم) إلى الشركاء الذكورين في الآية السابقة ليس محتملاً فحسب، بل أرجح كثيراً في نظري من رجعة إلى المشركين، لأن موضوع الحديث هو تقسيمهم المخلوقات بين الله وشركائهم لا بين الله وأنفسهم. ويزداد هذا المعنى تأييداً إذا ربطت هذه الآيات بآيات الأنعام:(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. . . وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. . .) ويزداد هذا المعنى تأييداً كذلك إذا لاحظنا أنهم ما كانوا ينسبون خلق شيء لأنفسهم، بل كان ذلك يتردد بين الله وآلهتهم

2 -

وذكر في النقطة الثانية ما نصه: (وكذلك رأى الأستاذ علي عبد الواحد وافي أن النصوص القرآنية صريحة في أن العرب كانوا يجعلون الملائكة بنات الله، فلم يسعه إلا أن يعترف بهذا)؛ ويقصد بذلك - كما يفهم من سياق كلامه - أنني كنت أنكر هذه الحقيقة، حتى كتب ما كتب، فلم يسعني حيال قوة حجته إلا أن أعدل عن إنكارها وأعترف بها

مع أنني لم أذكر أنكر مطلقاً هذه الحقيقة، بل اتخذت منها دليلاً على صحة ما ذهبت إليه، كما صرحت بذلك في أول كلمة لي في هذا الموضوع؛ إذ قلت ما نصه:(ولم يقف أمر اعتقادهم عند حدود العالم الطبيعي: عالم النبات والحيوان والإنسان، بل جاوزه إلى عالم السماء؛ فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث. ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم أنهم من هذا النوع)

ص: 51

ثم أوردت الآيات التي تؤيد هذا ومنها قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً. . .). (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى). (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً. . .). (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون، ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله. . .)

وأسأل الله أن يوفقنا إلى تحري الصدق في القول ويهيئ لنا من أمرنا رشداً

علي عبد الواحد وافي

في اللغة

من حق الأستاذ الكبير (ا. ع) عليّ، وقد سلفت عندي يده، وطوق رقبتي ثناؤه، ان أشكره على حسن ظنه وجميل رأيه في قصيدتي التي نشرتها بالرسالة وجعلتها ذكرى لمولد النبي عليه السلام.

ولقد تقبلت نقده المؤدب المهذب بقبول حسن، فقد والله لمحت من خلال سطوره أدب الناقد، ورقة الأديب، وتواضع العالم وأنا مع الأستاذ الكبير أن كلمة (سمحاء) التي استعملها في قصيدتي النبوية لم ترد في كتاب من اللغة مما بين أيدينا. ويظهر أنها دلفت ألينا فيما دلف من ألفاظ أخر. ومن الغريب أنها دائرة على شباة أقلام كثير من كتابنا المعتمد بهم ولقد وجدت المرحوم قاسم أمين يستعملها اكثر من مرة في كتابة تحرير المرأة (راجع الطبعة الثانية من الكتاب ص 128، 162)

على أن نفراً من محققي كتابنا الأعلام فطن إلى خطئها، واستعمل في مكانها كلمة (السمح والسمحة) للمذكر والمؤنث، وفقاً لما جاء في اللغة. وفي الحديث الشريف (بعثت بالحنيفية السمحة).

وللأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات فظل إشاعة هذا الاستعمال الصحيح ولا زلت أذكر له مقاله البليغ (أمة التوحيد تتحد) في العدد 384 من الرسالة، ويشير فيه إلى الديمقراطية (السمحة) وكيف كان في مكنة العرب والمسلمين أن يعيشوا في حماها بوجه من الوجوه.

أما قول الأستاذ الفاضل إن الفعل (تفيأ) يتعدى بالباء أو بنفسه كما صنع أبو تمام. ولا يتعدى باللام كما جاء في قصيدة (ميلاد نبي) فهو قول نقبله على العين والرأس، ولكني

ص: 52

أضيف إليه أن تعدية هذا الفعل باللام ليست خطاء، فحروف الجر ينوب بعضها عن بعض. وقد عدى القرآن الكريم الفعل (يخيَّل) بالي في قوله تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى). ولكنه يَرِدُ كثيراً في الشعر العربي معدّى باللام كما لا يخفى على علم الأستاذ الكبير.

محمد عبد الغني حسن

ص: 53

‌الكتب

مجالس الغوري

للأستاذ محمد لطفي جمعة

نشرت لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ شهر للأستاذ النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام كتاباً جميلاً يمثل فترة من تاريخ مصر في آخر القرن التاسع الهجري، وطرفاً من القرن العاشر.

وقد شاء أدبه وفنه ووفاؤه وثقافته أن يجعل من علاقته بقبة الغورى أثراً أدبياً، لأنه رئيس جمعية الأخوة الإسلامية التي تعقد اجتماعها في القبة مرة في كل أسبوع؛ فبحث ونقب في مكاتب مصر والآستانة حتى اهتدى إلى ثلاثة آثار نفيسة للغوري: أولها ترجمة تركية للشاهنامة التي نشرها الدكتور منذ بضع سنين؛ وثانيها هذا الكتاب للمجالس؛ والثالث في المجالس أيضاً، ولكنه أصغر حجماً وأضيق نطاقاً، وفيه تكرار لبعض المجالس الواردة في الكتاب الكبير. ويحسن بي قبل أن أتكلم عن الكتاب أن أشكر الدكتور العالم الذي أثبت بنشر هذين الكتابين أن كانت لبعض سلاطين مصر ندوة أدبية هي أشبه الأشياء بمجمع العلوم والآداب يضبط فيها الوقت بالدرجات ويحضرها لفيف من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء وتدور فيها الأحاديث حول المسائل العقلية والفقهية والتاريخية، ولا تخلو من سمر رقيق وفكاهة ودعابة. وكان السلطان نفسه يرأس الاجتماع ويتلقى الأسئلة ويجيب على بعضها عندما يثبت عجز الحاضرين.

وهذه الصورة الجميلة لسلطان صالح كريم شجاع من أجمل صور التاريخ وتجعل لآثار الغوري التي نشهدها ونراها أثراً حياً في النفوس. كان الملك من رجال قاتيباي، ولم يكن ينظر إلى السلطنة؛ ولكن تقواه وعلمه وإخلاصه أوصلته إليها فقابل ذلك بالشكر لله والإحسان إلى الفقراء. وكان زمنه زمناً رخواً فهناك قصة عن هجوم بعض السفن الحربية على شواطئ مصر وانصرافها بقراءة الفاتحة. وهناك صورة أخرى لأخلاق البدو والحضر في الحجاز ومؤامرة بعض أمراء مكة مع هولاكو على جيوش الظاهر بيبرس ومحمله، وتدبير مكيدة لقتل أمير المحمل المصري. فدلت على أن تلك البلاد المقدسة ما زالت على وتيرة واحدة إلى ان أنقذها الله بالعهد السعودي

ص: 54

وكان السلطان إذا فقد ولده بالوفاة أو صديقاً عالماً أو وزيراً حكيماً كف عن الجلوس في ندوته يومين أو ثلاثة، وكان يجلس للناس ويسمع شكواهم، ويوزع الصدقات عليهم بيده، ويجد في ذلك لذة عظمى؛ وكان ينظم الشعر العربي والتركي ويضع الألغاز بهما، ويداعب جلساءه بمعضلات الفقه. ولم يكن مقصراً في الحرب فقد بنى قلاعاً في جدة وفي ينبع؛ ومن أسماء سلطان الحرمين ما يدل على أن كل حكومة شرقية طمعت في أن يكون لها سلطة في الحجاز

وقد اهتدى الدكتور الأستاذ عبد الوهاب عزام إلى نسخ مخطوطة فقارنها وصححها وطبعها ولقى في ذلك مشقة يستحق عليها كل إعجاب وثناء. ومن محاسنه أنه أبقى الأسلوب على حالته ليدل على حقيقة ما كان يكتب. وللسلطان الغورى هنة واحدة وهو أن كرمه أفقره فاحتاج إلى أخذ ضرائب فادحة من الشعب؛ ومن بين الذي وقع عليهم هذا الحيف سيدة مغنية معاصرة فرض عليها خمسة آلاف دينار فباعت حليها أو ما زعمت أنه كل ما تملك وحملت إليه ألف دينار وشفاعة القاضي فقبلها السلطان وأعفاها. وإذن كان في القرن التاسع الهجري في القاهرة قيان يغتنين من الغناء ويدخرن المال الكثير ولا يدفعن عنه زكاة حتى يأتي السلطان وينتزعه انتزاعاً. فما أشبه اليوم بالبارحة فيما عدا اغتصاب مال القيان. وأشكر اللجنة التي أعانت على نشر الكتاب والدكتور عزام على عمله الجليل

محمد لطفي جمعة

ص: 55