المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 41 - بتاريخ: 16 - 04 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٤١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 41

- بتاريخ: 16 - 04 - 1934

ص: -1

‌مصر في الصباح

للدكتور طه حسين

ولابد من الكتابة عن (مصر في الصباح) بعد أن كتب صديقي الزيات عن الحالة الحاضرة، فهما عنوانان طالما ترددا في أفواه ثلاثة من الشبان، ظلوا أعواما طوالا يلتقون كل يوم إذا كان الضحى، ثم لا يفترقون حتى يتقدم الليل. وكانوا إذا التقوا أخذوا في فنون من الحديث والقراءة وتناشد الشعر، والاختلاف إلى الدرس، وإطالة المقام في دار الكتب. ودفعوا إلى الوان من الهزل، وضروب من العبث، حتى كانوا مضرب المثل عند اللذين يعرفونهم واللذين لا يعرفونهم من الأزهريين.

وكان هؤلاء الشبان الثلاثة قد اتفقوا على الضيق بالدرس الأزهري القديم، والابتهاج بما لم يكن مألوفا في بيئات الأزهر من درس الأدب والعناية به، وقراءة الصحف والإغراق فيها، ومن التطلع إلى ما كان يقوله ويأتيه المثقفون الممتازون، أولئك الذين كانوا يدبجون الفصول في الصحف، يمسون بها السياسة والأخلاق وشؤون الاجتماع. وأولئك الذين كانوا يخطبون في المحافل والمجامع ويتحدثون في الأندية، وتنشر الصحف خطبهم ومحاضراتهم، ويتناقل الناس أحاديثهم ومحاورهم، وتذكر أسمائهم فتمتلئ بها الافواه، وتبتسم لها الشفاه، وتشرق لها الوجوه، ويشتد بها الإعجاب، ويتخذ الشبان أصحابها مثلا عليا لما شئت مما يطمع فيه الشباب من بعد الذكر وارتفاع الشان، والظفر بما يظفر به عظماء الرجال من الإكبار والإجلال. وكان هؤلاء الشبان الثلاثة إذا التقوا وفرغوا من قراءة في كتاب، أو استماع لدرس، أو إنشاد الشعر، أو نظروا أمامهم إلى هؤلاء العظماء المثقفين، فاجلوا واكبروا، ونظروا من حولهم إلى شيوخهم الأزهريين فتفكهوا وتندروا، وأطلقوا ألسنتهم بالفكاهة والنادرة، ولعل من الناس من كان يجلس إليهم ويسمع منهم، ثم ينتقل فيذيع ما سمع، ويملا به هذه الحلقات التي كانت تنحلق من حول الصحن وعند القبلة القديمة أو القبلة الجديدة، وكانت أصداء ذلك ترد عليهم فيفرحون، وكان إنكار ذلك يبلغهم فلا يرتاعون، حتى اقبل ذلك اليوم الذي دار فيه الملاحظون في الازهر، يجمعونهم من دروس الظهر جمعا، ويدفعونهم إلى مجلس الشيخ الأكبر دفعا، ثم يسالون، فمنهم من يجهر ومنهم من يجمجم، ثم ينهرون، فمنهم من يبسم ومنهم من يعبس، ثم يعلن الشيخ إليهم انهم

ص: 1

مطرودون، وان درسهم الذي كانوا يحبونه موقوف ممنوع، وان شيخهم الذي كانوا يكبرونه مكلف أن يدرس المغنى لابن هشام بدل الكامل للبرد، منفى من الرواق العباسي، مقرون إلى اسطوانة من هذه الأساطين داخل المسجد يختارها له (رضوان).

هنالك ضاق الشبان الثلاثة بعض الضيق، وفرقوا بعض التفريق، ثم يلبثوا أن استأنفوا الحياة ومضوا فيها باسمين، يطمحون إلى ما كانوا يطمحون إليه، يسخرون مما كانوا يسخرون منه، حتى ضرب الدهر بينهم بضرباته، كما قال حافظ رحمه الله في ترجمة البؤساء، وقد كانوا يعجبون بهذه الجملة إعجاباً شديداً، ويرددونها ترديدا متصلا. وهنالك مضى كل منهم في سبيله، واخذوا لا يلتقون إلا من حين إلى حين، فإذا التقوا كانت ساعات اللقاء أضيق من أن تسع ما كان يضطرب في نفوسهم من الخواطر والآراء والأحاديث.

وكانوا في حياتهم تلك، كما كانت الشعوب الأولى في حياتها، أصحاب حس وشعور، وأصحاب قلوب تتأثر، ونفوس تتغنى، وكانت عقولهم غافلة أو كالغافلة، فكانوا ينشئون الشعر وينشدونه، وقلما يفكرون في النثر، فان فكروا فيه قلما يحاولونه، فإن حاولوه فقلما يجيدون. وكانوا لا يخطر لهم موضوع إلا تناولوه مسرعين، فنظموا فيه الشعر وتنافسوا في الاجادة، ولم يتحرجوا من أن ينقد بعضهم بعضا. وكانوا يبلغون من ذلك ما يريدون يجيدون قليلا، ويسيئون كثيرا، ويرضون دائما. وكانوا يحسون انهم ضعاف في النثر، وانهم في حاجة إلى أن يأخذوا منه بحظ، وكان الزيات يحاول أن يقوم من صاحبيه مقام الأستاذ، لانه كان احب منهما للصحف، واكثر منهما عكوفا عليها وإغراقا في قراءتها، ويجب أن نعترف بالحق، فقد كان أوسع منهما صدرا للتجديد، يحب الكتاب المحدثين وما كانوا يحدثون من الآداب، على حين كان صاحباه يكلفان من الأدب بقديمه، بل بأقدمه. كان الزيات يكلف بالمتنبي بين الشعراء القدماء، وكان صاحباه يسخران منه ومن المتنبي، ويكرهان أن يسمعا له حين ينشد شعره البديع. كان الزيات يقرأ المثل السائر، وكان صاحباه لا يعترفان بمن بعد الجاحظ من الكتاب. كان الزيات يؤثر شوقي، وكان صاحباه يؤثران حافظا، ويتعصبان للبارودي، ويسرفان في تقديم الكاظمي عليهم جميعا. كان الزيات إذن يقيم نفسه من صاحبيه مقام الأستاذ في النثر، وكانا لا يتحرجان من أن يقرا له بهذه الأستاذية، فإذا أراد أن يزعمها لنفسه في الشعر كان الجدال والنضال، وكان تذاكر الغرزمة

ص: 2

وآثار الغرزمة، وكان انتحال الشعر الرديء وحمله عليه وأضافته إليه، وكان انحاله هو للشعر الرديء وحمله على صاحبيه وإضافته إليهما، وكان إنشاد لمثل هذين البيتين:

بموسم عاشوراء قد عمت البشرى

وضاءت لنا الأكوان مذ علت الذكرى

ونادى المنادي أيها الناس يمموا

ضريح الحسين الشهم تنجوا من الأخرى

ولست ادري أي الثلاثة قال هذا الشعر الرائع، أو لعله شائع بينهم جميعاً. ولعل ثالثهم محموداً أن يكون قد حفظ هذا الشعر فيما حفظ من آثار هذا العصر، فقد كان إليه تخليد هذه الآثار التي لم تكن تستحق اقل من الخلود.

وفي ذات يوم اقبل الزيات يقترح على صاحبيه التفكير فيما ينبغي لهم في العناية من النثر، ويبين لهما ولنفسه أسباب هذه العناية ومذاهبها، ويرى أن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يفعل الثلاثة كما يفعل الطلاب في المدارس، حين يعالجون الإنشاء، ويعرض عليهما وعلى نفسه هذين الموضوعين:(الحالة الحاضرة)، و (مصر في الصباح). وكان يقول ذلك جاداً كل الجد، مؤمنا كل الإيمان، وكان صاحباه يسمعان له في موقف بين الجد والهزل، يريدان أن يكتبا ويعلمان انهما لن يستطيعا. فيقدمان ثم يضطران إلى الإحجام، ويستران ضعفهما بالهزل والعبث، ثم يفزعان إلى الشعر فينظمان منه ما شاء الله لهما أن ينظما بين الجيد والسخيف. وكانت الأيام تمضي وتمضي، والأصدقاء يلتقون ويتحدثون في النثر، والزيات يقترح الكتابة في الحالة الحاضرة ومصر في الصباح. وصاحباه يسألانه عن مصر في الصباح كيف

هي؟ وماذا يقول فيها فلا يحير جواباً، فيتمثل ثالثنا بهذا البيت الذي كان يغيض الزيات ويحفظه:

شيخ لنا من ريبعة الفرس

ينتف عثنونه من الهوس

وقد فتح الله على الزيات بعد خمسة وعشرين عاما فكتب في الحالة الحاضرة. ولم يفتح الله عليه ولا على صاحبيه بعد خمسة وعشرين عاماً ليكتبوا عن مصر في الصباح. ولكنه قد كتب على كل حال، فمازال إذن قائما من صاحبيه مقام الأستاذ، ولن يستطيع صاحباه منذ يوم الاثنين الماضي أن يصدماه بهذا البيت:

شيخ لنا من ريبعة الفرس

ينتف عثنونه من الهوس

ص: 3

وإني لأخشى أن يستطيل هو على صاحبيه، وقد عجزا ربع قرن عن أن يكتبا في الحالة الحاضرة، أو يصورا مصر في الصباح، فيصدمهما بهذا البيت بعد أن كان يخافه ويضيق به، ويكره استماعه منهما.

ولست ادري أأشفق ثالثنا من هذا النذير فاستعد لهذه الساعة الخطرة التي يلتقي فيها الأصحاب لتصفية الحساب، أم شغل بكتبه وأسفاره عن كل هذا الحديث. أما أنا فاعترف باني فكرت بهذه الساعة، وقدرت إنها ستكون عصيبة محرجة، وأشفقت من هذا الحرج، وحاولت أن احتاط له، واستعد لهجمة الزيات، واربا بنفسي عن أن اسمع منه هذا البيت الذي كنا نخوفه به، فاصبح خليقاً أن يخوفنا به:

شيخ لنا من ربيعة الفرس

ينتف عثنونه من الهوس

فحاولت منذ أسبوع أن اطرق هذا الموضوع، وان اكتب عن مصر في الصباح، فإذا بلغت من ذلك ما أريد أمنت الزيات وحالفته على صديقنا الثالث، كما كنت أحالف صديقنا الثالث عليه، ثم ذهبنا إلى صاحبنا نسعى إليه مبتسمين، حتى إذا بلغنا مجلسه لم نبدأه بتحية ولا مصافحة ولا حديث، وإنما وضعنا الرسالة بين يديه وفيها الحالة الحاضرة

للزيات، وفيها مصر في الصباح لطه حسين. ثم ابدرناه معاً بهذا البيت:

شيخ لنا من ريبعة الفرس

ينتف عثنونه من الهوس

ثم انصرفنا عنه راجعين وتركناه يغلي كالمرجل. ولكن الله الذي فتح على الزيات فألهمه وصف الحالة الحاضرة لم يفتح علي ولم يلهمني وصف مصر في الصباح. ذلك إن الزيات راغ وزاغ وعدل عما كان يراد منه من وصف تلك الحالة الحاضرة قبل نيف وعشرين سنة إلى وصف هذه الحالة الحاضرة التي نبغضها اشد البغض ونضيق بها اعظم الضيق. وأي الكتاب لا يقدر على أن يصف الحالة الحاضرة الآن؟ وأي الكتاب لا يقدر على أن يجيد في هذا الوصف ويأتي فيه بالأعاجيب؟ ومن يدري؟ لعلي احسن إذا ذهبت إلى صديقنا الثالث فالتقيت في روعة أن الزيات قد ذكر اسمه القديم فراغ وزاغ، ووصف ما لم يكن يراد على وصفه.

وإذن فهو مازال عاجزا كصاحبيه، وإذن فما زلنا ننتظر من يصف الحالة الحاضرة ويصور مصر في الصباح.

ص: 4

أما أنا فلم اشك في أن مصر في الصباح موضوع خطير لابد من الكتابة فيه، ولكن أي مصر، أهي مصري أنا أم مصر الزيات أم مصر صديقنا محمود؟ فقد كانت لنا أمصار ثلاث مختلفة فيما بينها اختلاف غير قليل. كانت مصري أنا تبتدئ في ربع من ربوع حوش عطى، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بمشهد الحسين والحلوجي بعد أن يقطع السالك إلى هذا المشهد الكريم إحدى طريقين: حارة الوطاويط، أو شارع خان جعفر.

وأما مصر محمود فكانت تبتدئ في الظاهر في حارة ضيقة قريبة من بيت الشيخ الانبابي رحمه الله، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بما شئت من الطرق التي تستقيم إن أردت لها أن تستقيم، وتلتوي إن أحببت لها الالتواء.

وأما مصر الزيات فكانت تبتدئ في حارة ضيقة على قلعة الكبش، ثم تنحدر إلى شارع لا اذكر اسمه، ولكنه ينتهي إلى مسجد السيدة زينب. ثم تصل بعد ذلك إلى الأزهر من طرق تستطيع أن تستقيم وتستطيع أن تلتوي، تستطيع أن تقصر وتستطيع أن تطول. فأي هذه الأمصار الثلاث اصف؟ وعن أي الأمصار الثلاث اتحدث؟ فاما مصري أنا فقد كانت حلوة لذيذة في الصباح، ولكنها لم تكن تعجب الزيات، ولم تكن تلذ لمحمود. كان يوقضني فيها مع الفجر صوتان: أحدهما صوت المؤذن الذي كان يدعو إلى الصلاة في جامع بيبرس، والآخر صوت جارنا الشيخ الذي كان شافعيا موسوسا، ينفق نصف ساعة في إقامة الصلاة: ال. . . ال. . . الله الله. . ال. . الله اكبر، ثم يبدو له فيخرج من الصلاة أو يستأنف الدخول فيها: أل. . أل. . الله. . الله. . أل. . . الله اكبر ثم يمضي في صلاته حتى يتم الفاتحة أو يكاد وإذا هو يخرج ويستأنف الدخول فيها. وما يزال يقبل ويدبر، ثم يبدأ ويعيد، ثم يقيم الصلاة ويستأنف أقامتها حتى إذا أشفق من فوات الوقت عزم امره، وهجم على صلاته فاقتحمها اقتحاما ثم مضى إلى درسه في الأزهر الشريف.

استغفر الله فقد نسيت صوتا ثالثا كان يوقظني في السحر لا في الفجر صوت ذلك الشيخ الظريف الذي لم يكن عالما ولا شيء يشبه العالم، وإنما كان تاجرا اعرض عن التجارة، وانقطع للفكاهة والضحك في النهار، وللصلاة والنسك في لليل. فإذا اقبل السحر خرج من غرفته يهمهم ويجمجم ويضرب الأرض بعكاز غليظ، ويبعث في الجو صوتا هائلا رائعا يحمل جملاً متقطعة من الورد الذي كان يبدأه في غرفته ليتمه، ثم يستأنفه في مسجد

ص: 5

الحسين، حتى إذا صلى الصبح عاد هادئا مطمئنا قد خف وقع عكازه على الأرض، وخف ارتفاع صوته في الجو، لان الذين كانوا نياما في السحر قد اصبحوا إيقاضاً حين ارتفعت الشمس.

استغفر الله، وقد نسيت أصواتاً أخرى، كانت تنبعث بعد أن ينقطع صوت المؤذن: فهذا سائق عربة قد اقبل يحل خيله أو يحل حماره الذي عقله تحت النافذة. وهذه (حمدة) التي كانت تبيع الوان الفاكهة على اختلافها باختلاف الفصول تفرضها علينا نحن المجاورين فرضا. فأما اشترينا وأما تعرضنا لغضبها، وويل لمن كان يتعرض لغضب (حمدة) فقد كان عنيفا مخيفا يضطرب له الربع ويزلزل له حوش عطى زلزالاً!!

على هذه الأصوات كنت استقبل مصرا، وكانت تستقبلني مصر في الصباح، فإذا هبطت من الربع ومضيت إلى مدخل حوش عطى، فهذا صاحب القهوة قد افاق، وهو يحك عينه من بقية النعاس، ويهيئ (الجوزة) للحاج فيروز، فإذا مضيت قليلا فهذه الحوانيت تستيقظ شيئا فشيئا، وهؤلاء باعة الفول والبليلة والطعمية قد ازدحم من حولهم الناس، حتى إذا تقدمت بعض، الشيء عطفت ذات الشمال ان كنت مستعجلا، فمضيت من حارة الوطاويط، حيث اقذر مكان خلقه الله، وحيث اعظم الناس حظا من البؤس رجالا ونساءً، قد جلسوا في اقبح شكل وأبشعه يسألون الناس. وان كنت مستانياً عطفت ذات اليمين، فمضيت من خان جعفر، وانتهيت على كل حال إلى شارع الحسين، ثم المفارق الأربعة ثم انغمست في شارع الحلوجي، ثم دفعت إلى باب المزينين. هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح واقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازور عني ازورارا. ولكني واثق الآن باني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلاماً يرضاها وابلغ من استحسانه ما اقصر عنه من غير شك لو أني صورت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند الكوكب في عابدين.

ان الزيات ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ من قلعة الكبش، وتنتهي إلى الازهر، وانما محمودا ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ في ظاهر القاهرة المعزية، كما كان يقول، وتنتهي إلى الأزهر، فأما مصرهما الأخرى هذه التي تبتدئ في شبرا وتنتهي عند

ص: 6

الرسالة، أو عند قبة الغوري، فلسنا في حاجة إليها الان، وقد يحتاج إليها أبنائنا بعد ربع قرن، كما نحتاج نحن إلى أمصارنا تلك العزيزة في أيامنا هذه.

طه حسين

ص: 7

‌مختار مريض

للأستاذ مصطفى عبد الرازق

لقيت مختارا أول ما لقيته في باريس عندما ذهب إليها لإكمال دراسته في (مدرسة الفنون الجميلة).

كنا جماعة من الشبان المصريين نسمر في بعض قهوات (الحي اللاتيني) والحي اللاتيني يومئذ مجمع الطلاب ومسرح الشباب، فهبط علينا فتى اسمر اللون رقيق الجسم، فيه وداعة وفيه حياء، تعرف من سحنته ومن سمته ومن حديثه انه ريفي، وتلمح في نظراته التائهة أن استعداده الفطري يوجه بصره إلى مرمى بعيد، ذلك الفتى هو (محمود مختار) وقد اخذ يعرض علينا أوراقا كان يرسم فيها أبطالاً من العرب كخالد بن الوليد وغيره ممن حفظ التاريخ فعالهم ولم يحفظ مثالهم.

وكنا كلما اجتمعنا بعد ذلك بمختار في الحي اللاتيني، طالعنا بثمرات عمله، وحدثنا في فنه الذي يكب عليه، ويوجه كل همه إليه، فأحببنا مختارا لما في شمائله من البساطة والتواضع والصفاء، وأحببناه لشغفه بفنه الجميل، ولما توسمنا فيه من مخايل النبوغ.

ثم غمر الفن مختاراً واستحوذت عليه الأوساط الفنية، وغمرتنا في الحياة شؤون اخر، فافترقنا زماناً، وسمعت ذكر مختار حين برزت آثاره الفنية في الميدان، وعرضت في معارض الفن في باريس، فنالت من أسنى الجوائز وشهد لها بالبراعة كبار النقاد.

وسمعت ذكر مختار حين صور لنهضة مصر تمثالا تجمع فيه للوثوب أبو الهول حتى كاد ينتفض انتفاضا، فهتفت مصر كلها باسم النابغة مختار.

رأيت النابغة مختاراً فإذا الشاب النحيف الأمرد، قد استوى رجلا مفتولا اصلع الهامة، طويل اللحية، عريض الصوت ضخم الملامح، طبعه الفن بطابعه، وألقى عليه من حب الجمال وفهمه جاذبية أيهل الجمال، ديمقراطي النزعة، أرستقراطي الذوق، يعجبك حديثه وجدله، وإن كان حديد الطبع سريع الرضا والغضب، في نفسه فيض من الصبى والمرح، كأنما هو على مر السنين يزيد.

منذ ذلك العهد تكررت فرص لقائنا في السفر والحضر، فشهدت مختارا في عمله جاهدا مثابرا مجدا، حتى حسبته لا يعرف اللهو، وشدت مختارا لاهيا مرحا، حتى ظننته لا يدري

ص: 8

مالجد، وبلوته صديقا وفيا، ووطنيا مخلصا، وعرفت من جانب حياته دلائل بر وشهامة، وصبر وكرامة، في شدة الحياة وفي رخائها.

ولقد يخيل إلى الناس أن مختارا لم تنله في حياته شدة. ذلك بأنه صبور على أحداث الحياة، لا يغيره عسر ولا رخاء. ولعلك لو اطلعت على مختار اليوم وهو في سرير المرض لوجدته باسما صبورا. ولو انه كان يقوى على الضحك لملا الدنيا كعادته ضحكا برغم أوجاعه ووحدته الموحشة.

الأستاذ مختار، هو صاحب (نهضة مصر) أول تمثال في تاريخنا الحديث صنعه مصري، وهو الذي أبدع للفلاحة المصرية تماثيل لا يستطيع إبداعها إلا فنان ماهر، أنبته الريف المصري، وغذاه بمائه وهوائه.

لقد قالوا إن في تمثال النهضة مآخذ: منها انه ضئيل فوق قاعدته الضخمة: وان حجاب الفتاة وتناسب أعضائها، وموقع يدها من أبى الهول لا يحقق ما يشتهي الفن.

ليكن كل ما يقولون صحيحا! فهل سلم من النقد اثر من آثار المجهود الإنساني في القديم والحديث؟

إن الأنظار ستصقل على مر السنين هذا التمثال العظيم القائم في ميدان المحطة رمزا وطنيا خالصا لمصر، وسيبقى اسم مختار في ديوان مجدنا القومي عنوانا لنهضة الفن الجميل في وادي النيل.

بذل مختار شبابه وقوته للفن ولمجد مصر من ناحية الفن. وقد يكون المرض الذي يعانيه الآن من آثار جهده المضيء.

في بعض حجرات (المستشفى الفرنسي) بالعباسية، يقيم مختار منذ اشتدت به العلة، وصار في حاجة إلى علاج يقظ متواصل، والى راحة لا يجدها المريض إلا في المستشفيات، وإذا كان عواد مختار قليلين، فقد يكون هو في شغل بأوصابه عن كثرة الزوار وقلتهم، وعن وفاء الناس وتقصيرهم، لكن علينا جميعا أن نحف بكل ما في قلوبنا من عطف وبر سرير ذلك المريض العزيز، تحية لعبقريته وتكريما لمجده الفني، وابتهالا إلى الله العلي ينجيه من براثن الداء، ويكتب له العافية والشفاء.

ص: 9

‌مقبرة عائمة

للدكتور احمد زكي

ليست هذه حكاية من صنع الخيال، ولكنها واقعة صدق، أرويها عن راوية صادق ورجل مسئول:

سكيم وحكيم شابان من أهل الإمبراطورية السماوية المقدسة التي يسميها أهل هذه الدنيا غير المقدسة ببلاد الصين، نشآ في قرية من قرى مديرية (كانتون) ولازماها حتى بلغا سن الشباب الأول، سن العشرين، هذا باحتساب دوران الأرض واختلاف الليل والنهار، فانك كنت تراهما فتحسبهما بلغا الثلاثين أو فاتاها، وتحدق في وجهيهما الكالحين مليا فتجدهما مثقلين بهموم الأربعين والخمسين. وتلك المسحة الحزينة الكلحاء تجدها حيثما ضربت في بلاد الله فالتقيت بصبي شاب أو شيخ، دائما أبداً ذلك الوجه النحيل الشاحب المسكين الذي تكاد تقطر منه الصفرة والألم. اشترك سكيم وحكيم مع شباب أمتهم في حمل ذلك الوجه الكالح والحزين، وزاده كلاحة وحزنا فروض ثقيلة يفرضها الآباء من يوم يخلقون، فالابن دائما في طاعة أبويه ومن متاعهما، لقن صغيرا انه إنما خلق لخدمتهما وترفيهما وكسب معاشهما، وان وجوده في هذا العالم لا يبرره إلا التضحية لها بالنفس والنفائس.

وذات مساء ذهبا إلى حانوت القرية الصغير يشتريان من الأفيون أطيبه وأنضجه، ويتخيران منه أكثره تسكينا للطبع الثائر وتخديرا للمزاج الحاد، فقد كان اتفق في تلك الليلة أن أبويهما لم يكونا على أطيب حال وارحب بال، فالتقيا هنالك بعد غيبة أيام قليلة ملاتهما بالشوق الكثير، فرحب حكيم بسكيم، ورحب سكيم بحكيم، وتساءلا مليا في أدب كثير عن صحة أبويهما، ولما بلغا من ذلك ما طمأن بالهما وأقر خوفهما، انتقلا يصفان الزمن السيئ ويشكوان ضيق الحال، ويتأسفان على ما حاق بالقرية من الفقر والجوع وكان إلى جانبهما رجل من أهل الصفرة كذلك، إلا انه سمين بدين، وقد اضطجع على فراش من فرش الحانوت يهيئ لنفسه تدخيني الأفيون، وكان يستمع للشابين وشكاتهما، فلما بلغا من الحديث ما بلغا، شاء أن يتدخل فيأخذ بطرف من حديثهما فقال:

- نعم صديقي، إن في الزمن سوءاً، وان في الحال ضيقا، وكيف تقنع الروح فتهدا وتخلد للسلام والمعدة فارغة؟

ص: 10

فابتدره الصديقان:

- هذا حق. هذا حق لا مراء فيه

ثم أخذا يتساران:

- إن هذا الغريب المحترم لابد ان يكون فيلسوفا كبيرا لانه يتكلم بلغة الحكماء

وجرى الحديث بينهما وبين الحكيم المحترم، وبعد تحية تتلوها تحية، وشكوى منهما يتلوها تامين منه، وبعد ان ذكرا للغريب مرارا انهما وضيعان وحقيران لا يساويان خردلتين، تراءى للفيلسوف أن يفتح لهما عيبة حكمته ويدلهما على أقوم السبل واقر بهما للعناية بآبائهما الأشياخ حتى تنفرج الأزمة الحاضرة فذكر لهما جزيرة في ناحية من نواحي البحر المحيط يسكنها شياطين شقر من الهولانديين يقومون فيها بزراعة الطباق في مساحات مديدة واسعة، ويستخدمون فيها الشبان فيعطونهم أجور لا تتحقق إلا في الاحلام، هذا بشرطين: أولهما أن يكون الشاب قادرا ماهرا، وثانيهما ان يكون له الحظ المجدود الذي ييسر له الخدمة لدى هؤلاء الشقر. وذكر لهما انهما لابد مجدودان لأنهما وقعا غي سبيله، وانه هو أيضاً مجدود باستطاعته إسداء الخير لهما على هذا النحو. وكان في حديث هذا الفيلسوف عذوبة، كانت كلماته ملساء تنزلق في سهولة من بين شفتين ملساوين، ولا بدع فصاحبنا كانت تفرض عليه صناعته حذق الكلام وموادعة القلوب ومصانعة الإفهام، فهو رجل من الرجال المغامرين، الذين كانوا يجوسون خلال الريف يتصيدون الشباب البريء الساذج يبعثون به إلى وكلائهم بالموانئ ليرحلوهم في طلب العمل وراء البحر إلى حيث تشتري الأبدان اغتصابا لقاء كراء دنيء وعيش رقيق.

ولما كان في طبع الصيني ارتياب، وفيه كذلك حب المساعرة والممارسة، لم يطمئن سكيم ولم يطمئن حكيم إلى قبول الدعوى في الليلة الأولى من عرضها، وآثرا انتظار الغد، فالغد الذي يليه وانتهيا أخيراً إلى أن بلعا الطعم كما بلعه قبلهما ألوف وبثمن بخس، بخمسة وثلاثين دولارا فضة، باعا الجسم والروح وفي صبيحة يوم كان سكيم وحكيم يدقان بأقدامهما تراب الطريق إلى ميناء (كانتون) وهو ميناء في الشرق الأقصى في ذكر اسمه غناء عن سوء وصفه وشناعة الأمور التي تجري فيه، ولما بلغاه سيقا كالغنام في قطيع كبير من الضحايا إلى سفينة صينية عتيقة عرفت البحار طرازها منذ خمسة قرون. وكانت

ص: 11

سيئة النظام فاسدة التقسيم عاطلة من كل أدوات الراحة ووسائل العيش، لا أقول الرفيه، ولكن اللازم للتميز بينه وبين عيش الأنعام وسائر الحيوان. دخل شباب الصين إلى السفينة الصغيرة وكانوا خمسين ومائة رجل فملأوا طابقيها حتى ضاقا بهم، ولكن لم يظهر عليهم انهم ضاقوا بهما، وكيف يضيق الصيني بشيء وهو من أمة يرى الرجل فيها صنوف الكرب تحل به بأهله، وألوان الخسف والعذاب تنزل بغيره وبأهل غيره، وهو يحدق إلى هذه والى تلك بعين تنظر ولا ترى، ومقلة إن أدركت من الصور مبناها فقد فاتها معناها.

وتحركت السفينة باسم عزريل مجراها والى جهنم مرساها. وبتحركها بدأت تتحرك الأمور. فالبحر أخذ يدور فدارت معه نفوس الراكبين - في الأمم المتحضرة يذهب دوار البحر بوقار الناس، وهم يعلمون ذلك من أنفسهم فيحرصون على حرمتها فيتقون ما يقع لهم من ذلك بالتخفي والتستر، أما أصحابنا فلم يعرفوا للوقار اسما ولا لحرمة النفس معنى، ولو انهم علموا من ذلك ما علم غيرهم لما أغناهم علمهم شيئا، فلم يكن في السفينة موضع فاضل، فكيف بمكان ساتر، وما حاجة الصيني العامل المسترق للستر والخفاء، فمضت أيام ثلاثة، اختلط فيها الإنسان والمتاع والمكان، بمقذوفات الحلوق في جو امتلأ فسادا وتنضح سماً.

وصحا الجو في اليوم الرابع فرفع الرجال رؤوسهم وقاموا إلى وجبة من سمك وأرز، الارجلين بقيا بلا حراك على ظهر السفينة. ومن اجل هذين اجتمع ربان السفينة بوكيله اجتماعاً سريعاً فقررا أن الرجلين يحتضران، وانه لابد ألا يموتا في السفينة فيجلبا لها الشؤم والخراب. وكان من عادة أمثال هذه السفن أن ترسى على شواطئ غير أهلة طلبا للوقود الرخيص الذي يفر إليها هربا من الضريبة. وفي أول إرساءة انزل الرجلان ففرحا لذلك فرحا كبيرا، ولكنهما ما لبثا أن أدركا انهما نزلا إلى ارض لا أنس فيها ولا عون بل فيها المرض المتصل والمرض البطيء. فبكيا واستغاثا يطلبان العودة إلى السفينة، ورفعا أيديهما عبثا بالرجاء والدعاء. وأقلعت السفينة بدونهما. وعلم الرجال الذين بها ان هذا مآل كل من يسقط منهم هذه السقطة، ولكن لم يتحرك فيهم بنان باحتجاج أو لسان بكلمة دفاعا عن هذين البائسين، وكيف يقع من أحدهم شيء فيه إفساد لمغامرة مالية تعود على نفسه وأهلة بالنعمة والثراء؟ وما هذه بأول مرة بردت فيها المنافع الذاتية الدم الإنساني في موقف

ص: 12

كان من طبعه أن يغلي فيه ويفور.

سارت السفينة مع الريح جنوبا، وكان يهب من الشمال شديدا، فسرعان ما بلغت أرخبيلاً يقع إلى الجانب الأدنى من بوغاز (مالقة) فانقلب اتجاه الريح فاصبح حاراً لافحا، وبدأ العطش يأخذ من الرجال فاستنفذوا صهريج ماء كامل. وفتحوا الصهريج الثاني وبفتحته انفتحت طاقة من جهنم.

ففي مساء ذلك اليوم مرض ثلاثة من الرجال مرضا مفاجئا، وماتوا موتا سريعا فلم يمهلوا ربان السفينة ليفعل بهم ما اعتاد ان يفعله بالمرضى إذا قل فيهم الرجاء. فاستاء الربان وتشاءم وتربص شرا. وقذف الرجال الأحياء بالرجال الأموات من فوق ظهر السفينة إلى البحر، إلى أفواه القروش التابعة، ووحوش الأقيانوس السابحة، وكان في وجوههم جزع، وفي عيونهم رعب، وكانت في الجثث بشاعة وشناعة.

في الصين يعيش الناس في فقر مدقع وجهالة سوداء، وهذان يلدان القذارة فإذا حلت الهيضة (الكوليرا) بهم راعتهم اشد الروع فان كانوا على الأرض فروا منها وتفرقوا سراعًا في كل صوب، وفرقوا معهم عدوى المرض في كل ناحية، وان كانوا حيث لا مفر ولا منجاة استسلموا استسلاما كاملا، واشتد بهم الخوف فجمدوا عن الحركة وهذا ما حدث لسكيم وحكيم وأصحابهما على تلك السفينة المشئومة، فانهم جميعهم جلسوا القرفصاء ودلوا وجوههم بين أرجلهم يحدقون في الأرض تحديقا شديدا كأنما يريدون خرقها بانظارهم، وهم إنما يفكرون فيمن تكون عليه النوبة التالية، وبأي اسم يهتف الهاتف عن قريب.

ولم يطل تفكيرهم طويلا، فما انتصف النهار التالي حتى أجاب الهاتف منهم ستة رجال، وما جاءت العشية حتى زاد هؤلاء عشرة آخرين. وجاء النهار مرة أخرى وجاءت شمسه، وأخذت تصب على السفينة أشعة لا من ضياء لطيف ولكن حمما من النار، وكان من حولها البحر هادئا ساكنا كأنه صفحة الزجاج، تشقه السفينة بصدرها فيسمع انشقاقه واضحا في هذا السكوت الرهيب.

وزاد جدول المرضى وطال، وتحرك الريح فزادت سرعة السفينة، وما لبثت أن تراءت لها شواطئ جزيرة (سومطرا) وكان البحارة خمسة فمات منهم ثلاثة. ومات اكثر الركاب أو كانوا في سبيل الموت، وأحدق الأحياء إلى الأرض البعيدة، إلى الأمل النائي، إلى الحياة

ص: 13

من بعد أن ذهب رجاؤهم في الحياة. وكان من بينهم نفر ذهب الرعب بصوابهم فزادوا الحال خبالا

وعلم الربان أن السلطات لن تسمح بدخوله المرفأ الذي كان يطلبه على هذا الحال، فنكب عنه، وسار بحذاء الشاطئ يطلب مرسى آخر، وبعد ساعات وصل إلى ميناء صغير لهولاندا. وازدحم الرجال على ظهر السفينة، وفي عيونهم بريق الأمل، وفيها كذلك بريق الدموع.

ولكن كان الربان اضطر إلى ان يستعين على قيادة السفينة بأيد تعوزها الخبرة وينقصها المران، فلم يستقم سيرها، وظهر كانتا لا تعرف إن تميل ولا إلى أين تقصد، أو كأنها تدري ولكن لأمر ما تخشى وتخاف. فأثار ذلك الريبة في موظفي الميناء فخرج إليها ضابط هولاندي في قارب ومعه بعض الجند، فلما بلغ صاح مترجمه الصيني إلى رجال السفينة يسأل ما بها. فصمت الجميع ونطقت الجثث المترامية على ظهرها.

فصرخ الضابط: (إنها الكوليرا. الكوليرا السوداء. لا سماح بالنزول وإلا هلك من في الجزيرة جميعا. يا مترجم. صح بهم أن لا أمل في النزول. وانهم إن أبو نسفت السفينة بمن بها).

فكان بالسفينة هرج، وفيها مرج شديد، واصطفت تلك الوجوه الجوفاء الشاحبة تطل على القارب تبكي وترجو في ذعر ودهش من ان تبلغ القسوة هذا المبلغ من الإنسان. وتحول الضابط بنظره عنها وفي قلبه إحساس قوي اليم بأنه إنما حكم بالموت على هؤلاء التعسين، ولكنها الأوامر لم يكن باستطاعته مخالفتها، وغير ذلك فلم يكن في الميناء محجر صحي ينزل هؤلاء الأشقياء فيه واجتمع الربان بوكيله، واعتزما أن يعبرا البوغاز إلى الشاطئ الآخر يحاولون النزول على شاطئ الملايا كان هذا آخر أملهم فتمسك الرجال به تمسك الغريق بقطعة خشب عائمة، فقام من استطاع منهم بالمعونة لنصل السفينة سريعا إلى منزل الخلاص. وجاء الليل فمرض الوكيل وذهب. وجاء دور حكيم فدافع المرض بقدر ما في جسمه من قوة، ومر بكل أدوار الوباء وآلامه. ونظر إلى صديقه سكيم والداء يملؤه، يرجوا ويسترحم ويطلب تخليصه، ولكن سكيما فر، فحكيم لم يكن في تلك الساعة صديق طفولته وصباه الذي كان يعرف، ولكنه رجل يزفر الموت في أنفاسه وجمع القبطان رجاله، وذكر

ص: 14

لهم ان الخير في تجريد السفينة مما عليها من الأشلاء، وفي تنظيفها من مظاهر الوباء، وفي التخفي وفي التستر لكي يسمح لهم بنزول الشواطئ. فبدءوا في رمي الجثث إلى البحر بسواعد تضطرب، وفرائص ترتعد. وجاء دور الجثث التي لم تمت بعد، فنظر إليها الرجال ولم يمدوا إليها يدا، ونظروا إلى الربان يستنبئون، فصاح بهم: لابد من إزالة كل اثر فقذفوا بأجساد لا تزال بها حرارة الحياة. وكان حكيم لم يمت بعد، فاسترحم واستغاث. ومرت رعدة شديدة في ظهر سكيم لما رآه يقذف إلى الماء. ولكنه لم يفعل شيئاً.

دبر الربان ودبر القدر، فحدث ما لم يكن ينتظر. سكنت الريح وكان تيار الماء قويا في هذه المنطقة فحمل السفينة معه، وحمل معها الجثث التي قذفت بها، فسارت حولها في موكب مريع، وازدحم الرجال على السفينة ينظرون إلى الرجال الذين يرقصون في الماء. ونظر سكيم فيما نظر صديقه حكيما يصعد في البحر وفي فمه صياح وفيه إزباد وارغاء، ثم يغطس غطسة فسرتها ست من زعانف سوداء، أكلت (القروش) حتى شبعت، ومع ذلك بقيت على المائدة بقية صحبت السفينة حتى بلغت ميناء (كلانج).

وكان البرق قد طير خبر السفينة إلى (سنغافورة) فخرج رجال الميناء يطلبونها. فأقبلت تتهادى في ثقة من النزول هذه المرة لأنها تخلصت من آثار الوباء أو خالت أنها تخلصت منه، ولكن حال الرجال التي حملت كانت تنم عن كثير، وغير هذا فقد دخلت تجرر في أذيالها على الماء من بقايا الأموات وثائق حية تعلن التهمة للرياح الأربع فأحاط بها الجند من كل ناحية، وساقوها إلى جزيرة العزل، أما الأموات فدفنوهم مع كثير من الجير، وأما البقية القليلة الباقية فمركزوهم في نطاق مضروب، ومرضوهم فمات منهم ثلاثة، وخرج الباقون بعد حين في ذهول كبير، إلى الدنيا بلا خوف، إلى الأرض الجامدة الواسعة الامينة، يستقبلون حياة جديدة وأملاً جديداً. وكان كلما نظر ناظر منهم إلى خلفه اقشعر.

احمد زكي

ص: 15

‌الانقلاب الجمهوري في إسبانيا

1 -

إسباني ما قبل الحرب

بقلم الأستاذ محمد عبد الله عنان

تعاني إسبانيا الجمهورية منذ قيامها أزمات ومتاعب متوالية، وتتعاقب فيها القلاقل والاضطرابات المختلفة. وقد استطاعت حكومة السينور ليرو الأخيرة التي قامت بعد أزمة وزارية طويلة أن تسيطر على الموقف نوعاً. ولكن استنادها إلى العناصر الفاشية والمحافظة يثير سخط الأحزاب الاشتراكية والمتطرفة ويذكى النضال الخالد بين الجبهة الثورية. وتتنازع إسبانيا فوق ذلك قوتان أخريان: هما قوة الملوكية، وقوة الكثلكة. وقد قامت الجمهورية الإسبانية الفتيه على أنقاض الملوكية والقوى الدينية التي تحركها. ولكن فلول الملوكية مازالت تنبث في إسبانيا وتعمل في الداخل والخارج لإثارة الصعاب في وجه الجمهورية، وما زالت قوى الكثلكة رغم انهيارها تحاول النهوض والعمل لاسترداد نفوذها وسلطانها. وما زالت الجمهورية قويه تقبض على ناصية الحوادث، ولكن الخلاف الذي يضطرم دائماً بين العناصر الجمهورية والحرة، وبينها وبين العناصر المتطرفة والثورية من جهة أخرى، يزيد في متاعبها ويعرضها لأخطار شتى.

قامت الجمهورية الإسبانية منذ ثلاث أعوام، في إبريل سنه 1931 نتيجة لنضال ديمقراطية ثائرة تضطرم منذ أعوام طويلة. ولكن الديمقراطية الإسبانية قديمة ترجع إلى اكثر من قرن. وقد ظفرت إسبانيا بدستورها الحديث سنة 1812، أثناء الحروب البونابارتية، وهو الدستور الذي وضعته جمعية وطنيه في قادس، ووعد فرديناند ملكها المنفي يومئذ باحترامه، ولكنه لما عاد إلى إسبانيا بعد ذلك بعامين على اثر انتهاء الحروب البونابارتية، عمل على توطيد الملوكية المطلقة وانتقاص الحريات والحقوق الدستوريه، فعاد الشعب الإسباني إلى الثورة في سنة 1820، واضطر فرديناند إلى الاعتراف بالدستور كرة أخرى ن ولكنه لم يلبث أن عاد إلى انتهاكه، وعاونته الجنود الفرنسية التي أمده بها لويس الثامن عشر على تنفيذ سياسة الحكم المطلق. وكانت معظم الشعوب الأوربية تنزع يومئذ إلى الحركات التحريرية، ولكن الملوكيات القديمة لم تقف جامدة أمام هذه النزعة، ومنذ سنة 1815 عقدت المعاهدة المقدسة بين العروش الأوربية القديمة في روسيا، والنمسا، والمجر،

ص: 16

وألمانيا، للتعاون على إخماد النزعات والحركات الشعبية الحرة التي بثتها مبادئ الثورة الفرنسية، وإذكاها مبالغة الملوكية القديمة في الاستئثار بالسلطان والحكم المطلق، وفي تجاهل الرغبات والأماني الشعبية. وفي اواخر عهد فرديناند (نحو سنة 1830) اضطرام النضال بين فرديناند وأخيه الدون كارلوس على مسألة وراثة العرش. وكان فرديناند حتى سنة 1829 عقيما لا ولد له.، ثم ولدت له بعد ذلك ابنة، فعمد في الحال إلى تغيير قانون الوراثة ليحرم أخاه كارلوس من ارتقاء العرش وليبقى العرش لابنته. ولما توفي سنة 1833، اعترف (الكورتيز)(البرلمان) بابنته ايزابيلا ملكة لإسبانيا وبوالدتها وصية على العرش، واعترفت إيزابيلا بعد ذلك بالدستور الإسباني الجديد الذي وضع سنة 1936، على مثل دستور قادس. ولكن عهدها كان فياضا بالاضطراب والقلاقل، وتوالت فيه الحكومات الضعيفة العاجزة وفسدت النظم والادارة، وفيه فقدت إسبانيا معظم أملاكها الأمريكية على اثر الحركات التحريرية التي قامت في أمريكا الجنوبية وانتهت بتحرير شعوبها من النير الأسباني، وقيام الجمهوريات الأمريكية الجديدة، واستمرت إسبانيا عصرا تعاني غمر الاضطراب والفوضى، ولكن الديمقراطية استطاعت خلال ذلك ان تنمو وان تقوى، وبذلت يومئذ لتحطيم الملوكية عدة محاولات عنيفة، ووقعت من جراء ذلك حوادث دموية كثيرة. واشتد ساعد الحركة الجمهورية إلى حد روعت معه الملوكية، واستمرت أداة الحكم على ضعفها وانحلالها، والعرش فيما بين ذلك يهتز توجساً وفرقاً، حتى غدا الموقف مما يستحيل استمراره. ولم تقوى الملكة ايزابيلا على مواجهة هذه الصعاب والخطوب كلها، ففرت إلى فرنسا، ثم تنازلت بعد ذلك عن العرش لولدها الفونسو الثاني عشر. وكان الفونسو وقتئذ طفلا في نحو العاشرة، فلبث العرش الإسباني خاليا مدى حين، وأقيمت حكومة مؤقتة تحيط بها الصعاب والأزمات من كل ناحية ثم كان عرض العرش الإسباني على ليوبولد الألماني من أمراء آل هوهنزلرن، ومعارضة نابليون الثالث في ذلك، وقيام تلك الأزمة الخطيرة التي التمست سببا لاضطرام الحرب بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870 فعدلت إسبانيا عن ترشيح ليوبولد. وانتهى الأمر باختيار امديس أمير سافوا ملكا لإسبانيا، فجلس على عرشها نحو ثلاثة أعوام يعمل في ظروف صعبة، ثم استقال وغادر البلاد وخلا العرش كرة أخرى، وهنا اضطرمت البلاد بثورة تحريرية قوية، واستطاع

ص: 17

الأحرار أن يعلنوا قيام الجمهورية، وان يقيموا الحكم الجمهوري مدى عام (سنة 1874)، وكان هذا أول ظفر حقيقي للديمقراطية الإسبانية، ولكنه كان ظفرا خلبا، لان العناصر الرجعية لبثت قوية تعمل لاسترداد سلطانها. وكانت إسبانيا تعاني في نفس الوقت مصائب الحرب الأهلية، لان الدون كارلوس وأنصاره انتهزوا فرصة الاضطراب العام ليحاولوا انتزاع العرش فوقعت الحرب الكارلية الثانية (سنة 1872)، ولبثت نحو أربعة أعوام تمزق أوصال الأمة، ثم انتهت أخيرا بسحق قوى الدون كارلوس وفراره إلى فرنسا. وعندئذ أعلن الفونسو الثاني عشر، وكان عندئذ طالبا يدرس في إنكلترا - انه ملك إسبانيا الوحيد، واستمر أنصاره في الداخل يدبرون له سبيل العودة، حتى استطاع أن يعود وان يجلس على عرش إسبانيا سنة 1875، وهو فتى لا يجاوز السابعة عشرة، وكان الفونسو الثاني عشر رغم حداثته يتمتع بخلال ومواهب طيبة، فاستطاع بمعاونة وزيره الشهير شاروفاس دل كاستيلو ان يقمع الفوضى وان يعيد الأمن والنظام، وان يقوم بإصلاحات واسعة المدى. وتنفست إسبانيا في عهده الصعداء، وتمتعت بفترة من السكينة والرخاء. ولكن الموت لم يمهله فتوفي شابا في السابعة والعشرين من عمره سنة 1885، وترك أرملته حاملا، فوضعت بعد وفاته ولدا سمي بالفونسو الثالث عشر، واعن منذ مولده ملكا لإسبانيا وعينت أمه الملكة ماريا كرستينا وصية للعرش.

كان الفونسو الثالث عشر خاتمة لتلك السلسلة الحافلة من ملوك قشتالة الذين لبثوا قرونا يحاربون العرب والإسلام في إسبانيا والذين قضوا بعد طول الجهاد على الإسلام والحضارة الإسلامية في إسبانيا. وكان وريث ملوكية عريقة كانت مدى حين تفوق جميع الملوكيات أل أوربية في العظمة والبهاء، وتبسط سلطانها ما وراء المحيط على قارة بأسرها. ولكنه لم يرث من ذلك التراث العريق الباذخ سوى بقية واهنة مضعضعة. كانت الملوكية الإسبانية في الواقع تطوي مرحلتها الأخيرة في بطئ، وشاء القدر أن يكون مصرعها على يد الفونسو الثالث عشر آخر ملوك قشتالة.

تولت الملكة ماريا كريستينا زمام الأمور حتى يبلغ ولدها اشده. وكانت مهمة شاقة، لان الأمور لم تكن قد استقرت بعد، ولكن الملكة الأرمل استطاعت أن تعمل في جو من العطف سواء في الداخل أو في الخارج، فهدأت الخواطر وتحسنت الأحوال نوعا. وكان اعظم

ص: 18

الحوادث في هذا العهد نشوب الحرب الإسبانية الامريكية، وفقد إسبانيا لباقي مستعمراتها، وكان سبب نشوبها الخلاف بين إسبانيا وأمريكا على جزيرة كوبا، وتطلع أمريكا إلى انتزاعها من إسبانيا. ونشبت الحرب بين الدولتين سنة 1898، وهزمت إسبانيا وحطمت قواها البحرية، وفقدت كوبا وباقي مستعمراتها في الهند الغربية، وفقدت أيضاً جزائر الفلبين الغنية في الهند الشرقية، ولم يبق لها شيء من تراثها العريض فيما وراء البحار وكبدتها الحرب نفقات باهظة أنضبت مواردها وأثقلت كاهلها مدى حين.

وفي مايو سنة 1902 توج الملك الفونسو الثالث عشر، وهو في السادس عشر من عمره، وتولى زمام الحكم، وبدأ بذلك عهد جديد من الملوكية الإسبانية استطال مدى ثلاثين عاما، وكان عهد الفصل في تاريخها. وأبدى الفونسو منذ ولايته همة ونشاطا، بيد انه لم يمض نحو عام حتى توفي السنيور ساجستا رئيس الوزراء وزعيم الأحرار، وكان سياسيا بارعا يتمتع بكفايات جمة، فاضطربت شؤون الحكم، وانتقلت السلطة إلى المحافظين، وتعاقبت منهم في الحكم خمسة وزارات في نحو ثلاثة اعوام، واخذ الملك الجديد يواجه كل الصعاب التي واجهها إسرافه. وكان الفونسو الثالث عشر يبدي منذ البداية ميولا رجعية قوية ويلتمس الوسائل المختلفة لمقاومة النزعات الحرة والحريات الدستورية، ويعتمد في تنفيذ سياسته على العناصر الرجعية المحافظة وبجمعها حوله، وكان ذلك سببا في بث السخط حول العرش وحول شخصية حتى انه دبرت يوم زواجه من الأميرة فكتوريا أوجيني ابنة آخي الملك إدوارد السابع، أول محاولة لاغتياله (سنة 1906)، وبدأت من ذلك الحين سلسلة من الاعتداءات شاء القدر أن ينجو منها جميعا. وكانت الحركات والنزعات الديمقراطية والثورية أثناء ذلك تنمو وتشتد وخصوصا في مقاطعة قطلونية. وكانت قطلونية فوق ذلك مسرح حركة انفصالية قوية ومهد معركة مضطرمة بين الوطنيين القطلان والراديكاليين المركزيين بزعامة السنيور ليرو. وعاد الأحرار إلى منصة الحكم منذ سنة 1905 على يد زعيمهم موريه واستمروا بضعة أعوام؛ ولكن الملك ما لبث أن عاد إلى محالفة المحافظين، وكانت المسالة المراكشية تشغل إسبانيا منذ حين، وكانت قد سويت مع فرنسا في سنة 1904 بمعاهدة فرنسية إسبانية، اعترف فيها بحقوق إسبانيا، وحددت المنطقة الإسبانية تحديدا يرضي أمانيها. ولكن المسالة المراكشية استمرت شغلا

ص: 19

شاغلا للسياسة الإسبانية، بل غدت كما سنرى كابوس السياسة الإسبانية مدى أعوام طويلة، وكانت عاملاً جوهرياً في تطور الحوادث في إسبانيا، وفي تذرع العناصر الرجعية بإقامة حكم الطغيان الشامل الذي لبث عدة أعوام يخمد أنفاس الشعب الإسباني، ثم انتهى بذلك الانفجار الحاسم الذي حطم صرح الملوكية القديمة، وحقق في إسبانيا آمال الديمقراطية كاملة شاملة.

وخلف المحافظون الأحرار في منصة الحكم على يد زعيمهم السنيور مورا، وفي ذلك الحين اشتدت الحركة الثورية في قطلونية، واضطرمت الحرب في مراكش في نفس الوقت لأن بعض قبائل الريف هاجمت الخط الحديدي الذي يربط المناجم الاسبانية؛ وقررت الحكومة أن تعبئ الجنود الاحتياطية القطلونية، فثارت قطلونية احتجاجا على ذلك، ونظم إعتصاب عام في برشلونة امتد إلى باقي أنحاء الولاية (يوليه سنة 1909) وانفجر بركان الثورة فقبضت العسكرية على زمام السلطة، وقمعت الثورة بمنتهى القسوة، واعدم الزعيم الثوري فرانشيسكو فيرر؛ فازدادت البلاد سخطا، واضطرت الوزارة المحافظة إلى الاستقالة، وعاد الأحرار إلى الحكم أولاً على يد السنيور موريه، ثم بعد استقالته على يد السنيور كاناليخاس (فبراير سنة 1910). واستمرت الوزارة الحرة في الحكم حتى مقتل رئيسها كاناليخاس في نوفمبر سنة 1912. وامتاز هذا العهد بحادثين في منتهى الخطورة، أولهما: اضطرام المعركة بين الحكومة الحرة والكاثوليك، بسبب اضطهاد الحكومة للكاثوليك وسخط الفاتيكان من اجل ذلك؛ والثاني قيام الخلاف بين إسبانيا وفرنسا بسبب المسالة المراكشية. وكانت فرنسا تزداد توسعا في مراكش حتى شعرت إسبانيا أنها تهدد منطقتها ومصالحها وانتهزت ألمانيا هذه الفرصة للتنويه بمصالحها في مراكش، وأرسلت الطرد (بانتير) إلى مياه أغادير بحجة حماية مصالحها، واضطرت فرنسا إلى أن ترضي ألمانيا بتحقيق بعض مطالبها في الكونغو، واضطرت من جهة أخرى أن تحترم سياسة إسبانيا على المنطقة الإسبانية وكان ذلك فوزا للوزارة الحرة، ولكن اشتدادها في إخماد الحركة الثورية في قطلونية انتهى بمقتل رئيسها (نوفمبر سنة 1912)، فخلفتها وزارة محافظة برئاسة السنيور داتو لبثت في منصة الحكم حتى ديسمبر سنة 1915، وفي عهدها نشبت الحرب الكبرى. وأعقبتها وزارة حرة برئاسة الكونت رومانونيس، فاستمرت حتى

ص: 20

أوائل سنة 1917. ولزمت إسبانيا الحياد أثناء الحرب، واستفادت من حيادها فوائد تجارية واقتصادية جمة وتمتعت بفترة من الرخاء الحسن، وكان الرأي العام الإسباني يتراوح بين تأييد الحلفاء وتأييد ألمانيا. فالأحرار وأحزاب اليسار تميل مع الحلفاء، والأحزاب المحافظة ورجال الدين يميلون مع ألمانيا. وكان السلام الذي تمتعت به إسبانيا خلال الحرب نعمة سابغة وعاملا كبيرا في استقرار شئونها وأحوالها.

وفي أواخر سنة 1917 تحركت أحزاب اليسار (الأحزاب الاشتراكية) كرة أخرى، ودبرت إعتصابا عاما في جميع إسبانيا. وكانت الديمقراطية ترمي بهذه المحاولة إلى تحطيم النظام القائم، وإقامة جمهورية أسبانية ديمقراطية، ولكنها أخفقت في تدبيرها واستطاعت العسكرية ان تسحق الثورة في مهدها. وكانت العسكرية تتطلع دائما إلى فرض نفوذها وسلطانها على شؤون الحكم، وكانت ترى من حقها بعد أن أنقذت الملوكية والنظام القائم من ثورات الديمقراطية غير مرة، أن تستاثر هي بالسلطة، وان توجه سياسة البلاد طبقا لرأيها، وقد استطاعت في الواقع ان تحقق هذه الغاية إلى حد كبير على يد الوزارة المحافظة التي قامت يومئذ برياسة السينور جارسيابريثو، وتولى فيها وزارة الحربية رجل من رجال العسكرية هو الجنرال لاتشيرفا، ولكن هذا الطغيان العسكري لم يطل يومئذ أمده لما أبداه لاتشيرفا من عجز وصلف؛ فسقطت هذه الوزارة المسيرة؛ والفت وزارة حرة برئاسة الكونت رومانيوس (ديسمبر سنة 1918)؛ وعلى يد هذه الوزارة التحقت إسبانيا بعصبة الامم التي كانت يومئذ معقد كثير من الآمال والأماني. ولكن الوزارات الحرة كانت تصطدم دائما بعثرات وصعاب جمة سوداء من جانب العرش، وقد كان يؤثر دائما جانب الطغيان والقمع ويعتمد على مؤازرة العناصر الرجعية والعسكرية والدينية، أو من جانب العسكرية وقد كانت ترهق بضغطها كل حكومة لا تذعن بإرادتها ووحيها. فسقطت وزارة رومانيونس، وخلفتها وزارة محافظة برياسة السينور مورا، ثم وزارة محافظة أخرى برئاسة السينور توكا، وكانت هذه الوزارة الأخيرة وزارة قوية مستنيرة، ولكنها اصطدمت بإرادة العسكرية ولم تذعن لها، فاستقالت مرغمة، ولكن المحافظين استمروا في الحكم أيضا أولا على يد السينور سلازار ثم على يد زعيمهم السينور داتو الذي ألف الوزارة الجديدة في مايو سنة 1920. وكانت إسبانيا ترزح يومئذ تحت خطبين عظيمين: أولهما اضطرام الثورة في قطلونية، وثانيهما

ص: 21

اضطرام الحرب في مراكش؛ وكانت حوادث قطلونيةدائما كابوس السياسة الداخلية، كما كانت حوادث مراكش كابوس السياسة الخارجية، فحاولت وزارة داتو أن تقمع الثورة في قطلونية وانساقت كالعادة إلى القسوة والتطرف متأثرة بإرادة العسكرية والعرش، لكنها لم تفلح في إخماد الهياج، وانتهى الأمر بمقتل رئيسها (مارس سنة 1921)؛ فعاد السينور سالازار إلى تأليف الوزارة الجديدة؛ وهنا تطورت حوادث مراكش تطورا خطيرا نرجئ شرحه إلى الفصل القادم.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 22

‌فضيلة.

. .!

للأستاذ الأديب عباسي

والفضائل كالرجال: منها المائع المسترخي، ومنها الشديد الصلب الذي لا يثنى، ومنها المقرور مفرط القر، ومنها المشبوب مفرط الحر، ومنها مرهف الحد نافذ الشفرة، ومنها كثير الفلول كليل السطوة، ومنها الذليل المستعبد ومنها الأبي المستكبر، ومنها الواضح البين، ومنها الذي ليس له أول ولا آخر. وتستطيع أن تمضي بالمقارنة إلى آخر ما يحضرك من صور للرجال ونماذج. ولا عبرة بما يوحيه اللفظ من معاني القداسة والاشتقاق من الفضل. فأنت تعرف جيدا من الفضائل كالرجال أيضا تخضع لملابسات الحياة وتعنو الزمن، وتنال من دهرها تقديرا عادلا حينا، وتقديرا جائرا أحيانا أخرى.

وفي عصور النضال العنيف والجهاد المحرج يقسر الناس على التفطن إلى جميع مناحي الحياة دقيقها وجليلها ويحملون على تناول موادها تناولا سريعا مرتجلا لا إشفاق فيه - غالبا - على ماضي تليد ولا مستقبل موموق بعيد والذي يربح المعركة للقوم من هذه المواد هو الذي لاشك يربح البقاء والخلود.

ولعل الشرق في هذا الوقت الحافل بجميع ضروب النزاع المليء بأقرب الاحتمالات وابعدها، هو احوج ما يكون إلى أن يكر راجعا إلى هذا الكتاب القديم الذي دونت فيه فضائلنا، ويطمس بالقلم العريض هذه الأسطر المجرمة التي تسيء إلى رجولة الشرقي، وتنقص من حيويته الفردية ثم حيويته الاجتماعية، وعملية التنقيح في الاخلاق والفضائل هذه عملية قديمة خبرها اليونان والرومان والعرب وغيرهم، وخبروا أخيرها اصدق مختبر. ولعل اشد عصور هذه الأمم سوادا هي العصور التي كان فيها الرقيب في غفوة عنها، فشبت بعض هذه الفضائل من رقدتها ونشبت تنهش في الحياة وتوالي تمزيقها إلى ان أحالتها في النهاية رسما لجسم، وبقية من جثة. والحياء - كما تعلم - من اقدم ما خط في كتابنا الأخلاقي - الحياء لا بمعنى صرف النظر وتحويل الفكر عن الشهوات والملاذ الدنيئة - بل الحياء بمعنى إعطائك سيفك لخصمك ليقتلك به، أو الارتماء على فجوة بين حائطين ليعبر عليك إلى غايته من هو دونك، أو السير وراء الناس من بعد تلتقط بقايا الزاد وفتات الأطعمة.

ص: 23

إن سبيل النجاح سبيل واضح لا يخطئه النظر الصائب والاستعداد الصادق. فإذا رمت السير فيه غير مرفوع الرأس موفور الثقة بالنفس، فأحر بك أن تجدك في آخر الطريق أو موطئا للإقدام. ان الزحام على طيبات الحياة لا يدعك تسير في رفق وعلى مهل. وخجلك الذي تخجل واستكانتك التي تستكين، ليس لهما إلا نتيجة واحدة تعرفها لاشك تمام المعرفة. وهي لا ريب الحرمان والخيبة على حين قد تكون وأنت المحروم اكثر الناس استعداداً وأحقهم بالفوز تقول كتابة فرنسية: ما من حياة إلا ويمكن ان تكون ضررا على حياة أخرى أو اكثر. فإذا صدقت كاتبتنا فيما تقول - وما أخالها إلا صادقة - فما معنى ذلك؟ معناه أن نجاحك في سعي أو سبقك إلى غاية هو في الواقع حرمان لواحد أو اكثر ممن عداك. فهو - لذلك - مدفوع بغريزته إلى مزاحمتك وإقامة العراقيل في وجهك ليصرفك عن النجاح في هذا المسعى أو السبق إلى تلك الغاية. وهو غالبا لا يكتفي بان يوقفك حيث أنت بل تراه لا يحجم ولا يتجمجم أن يدفعك خطوة أو خطوات إلى الوراء، فذلك اضمن لفوزه واكفل بنجاحه.

ونحن لا ندعو إلى إطراح الخجل أو المزاحمة بالمناكب لنقف عند هذا الحد من تقوية الأنانية الفردية واحتجان معظم الخير للنفس. ولكن يقيننا الذي لا يتسرب إليه الشك هو إن من احسن نيل الحق خاص وأجاد في مدافعة الأخصام عنه يحسن أيضا المدافعة عن حق عام والمزاحمة في نصرته. والمرء في أمم الغرب العريقة يزج في أتون من الخصام العنيف والنضال الشديد فما يزال ينحي ويذود عن نصيبه الموموق وحقه المشروع حتى يناله. فإذا دعا داعي النصيحة العامة والبذل المطلق كان صاحبنا هذا في أول الملبين وطليعة المستجيبين. وما ذلك إلا إن فضائل الصبر والاحتمال يصيبها المرء من هذا النضال مضافا إليها استشعاره الرضى كل الرضى عن هذا البلد الذي يظلله ويهيئ له من فرص النجاح على قدر استعداده، هي مما يحبب إليه هذا البلد ويدعوه إلى المسارعة في البذل له والتضحية من اجله وليس من باب المصادفة المحضة أن تجد الإنكليزي اكثر الخلق مطالبة بحق خاص، وأكثرهم في ذات الوقت مطالبة بحق عام.

ثم لا تحسبن انتفاء الحياء والخجل يولد الغرور ويشجع على القحة كما قد يتبادر إلى الذهن. والصواب أن نقول: إن انتفاء الحياء بالمعنى الذي أردت هو قتل للغرور

ص: 24

واستئصال للقحة. وذلك إن ظهور الجميع بمظهر الصراحة والثقة بالنفس لا يدع للدعى مضطربا يضطرب فيه أو مجال يصول فيه، إذ لا يبقى حينها رائجا إلا سوق الجدارة والاقتدار. ولو انتفى المزاحمون لراح هؤلاء الأدعياء المغرورون يملأون الدنيا صياحا وصخبا وادلالا بقوتهم وسمو مواهبهم:

زد على هذه المحاذير أن الحيي بانزوائه قد يحرم المجتمع الذي نعيش فيه كثير من الثمار الطيبة والجني اليانع الذي قد لا يخصب خصبه المطلوب في غير نفسه. وحبذا لو درس أصحابنا الخجلون هؤلاء شيئا من صحائف الطبيعة الناطقة، ولقنوا بعض دروسها العلمية. إذا لكانوا يشفون من مرضهم المخامر هذا. لينظروا إلى الزهرة ترفع جيدها لتستقبل الشمس، وليلاحظوا الرياح تذروا النبتة لا تتشبث جهد التشبث في أديم الارض، وليلحظوا أيضا الزهرة الجميلة لا يفوح عطرها يأتي عليها منجل الحاصد وتلقى بين ما يلقى أمام البهائم. ثم ينظروا إلى ذلك الطائر الجميل يتخذ من رواء ريشه وجمال زينته وسيلة للتشبث بأسباب الحياة. وليصغوا أيضا إلى ذلك الطائر عينه يملا الأرض برجع صوته الرخيم، لا ليشنف اسماعهم، بل ليكون له مما تصوغه حنجرته الصغيرة وسيلة يستبقي بها النوع ويستديم الذرية.

إن المرونة الخلقية لا باس بها، ولكن ليس إلى الحد الذي يصبح عنده الإنسان كالإسفنج تعتصر كل ما فيه من حياة دون أن يأسى أو يتألم، فيحاول المدافعة عن نفسه بالتي هي احسن أو بالتي هي اشر. الحرير لا باس به لباسا للمترفين، ولكنه بئس اللباس للمحاربين. فلنكن إذاً الشوكة تدمي الأنامل وتؤذي الملمس لا الوردة تنثر غلائلها أو الشهد يستساغ منهله.

شرق الأردن

أديب عباس

ص: 25

‌الشطرنج كيف اخترع؟ - تطوراته بين الأمم القديمة

لعبة الشطرنج من أدق اللعب الفكرية وأهمها وانفعها. بل هي معيار

لقوة الذكاء والمهارة والحذر والدهاء والإقدام، لأنها دقيقة في وضعها،

دقيقة في لعبها، تروض الإنسان على التحذر وسعة الحيلة وتدفعه إلى

المجازفة إذا ما تبين له بريق أمل من الفائدة.

إن هذه الرقعة التي يلعب عليها اللاعبون بقطع من الخشب مصورة ذات أسماء موضوعة، إنما هي ملعب الحياة، ومضمار السباق والرهان فيها، بل هي سر الحياة والعظمة، والموت والمهانة والزراية، ففيها يعلو الصغير إلى منصة العرش، وفيها تخطو الفرس ثلاثا فتعلو على الشاه فنلقيه بحافرها، هذه وغيرها كلها مشاهد في لوحة هذه الحياة التي تعتورها دائما ظروف شاقة لا يحتملها غير ذي الصبر والجلد الذي يفسح له من الآمال مجالا، ويجعل بين حدي الفشل والنجاح اتصالا.

لا يوجد من الأسانيد التاريخية القديمة شي محقق يدل على تاريخ وجود هذه اللعبة الفكرية كما حققت هذا (دائرة المعارف الفرنسية) وكل ما عرفوه عنها راجع إلى العهد الذي ذاعت فيه، فقد كان للقدماء العاب شتى بالطبع يلهون بها في فراغهم لترويج نفوسهم. وقد تشاهد منقوشة على الآثار المصرية القديمة ولكن لم تعرف لها قواعد.

(وقد قيل في أساطير الأولين ان أول من اخترع لعبة الشطرنج هو (بالاميد) إبان حصار طروادة وقد صدرت جريدة خصيصة بهذه اللعبة اسمها (بالاميد)).

وللشطرنج أسماء قديمة تباين اسمه العصري، فقد كانوا يطلقون عليه في أوربا في القرون الوسطى، عندما كانت اللغة اللاتينية ذائعة في ذلك الحين اسم (لودوس لاترنكولوروم) وكانوا في الهند يسمونه قديما (شطرونجا) وأطلقوا عيه في القرن السادس اسم (شاتورانجا) وتسربت هذه اللعبة إلى فارس وبلاد العرب وغيرها من مختلف البلاد. ولعل أول عهد لأوربا بها كان القرن السادس عشر وأخذت تذيع فيه إلى حد أن تألفت فيها مجامع ومدارس وجرت مسابقات بين البلاد وعقدت مؤتمرات خصيصة بها وغامر فيها الغاوون بضياعهم ورؤوس أموالهم حتى لقد فقد واحد كل ما ملكت يداه في سبيل لعبة واحدة فلم يحزن لانه أضاعها بغلطة فكرية. ولعبة الشطرنج في ذاتها، فكرية تبعد الناس عن كل

ص: 26

موبقة وتصرفهم عن كل إثم، فأنت ترى الجالس أمام الرقعة مقصور النظر والفكر عليها، لا مطمع له إلا أن ينهمك في المغامرة ليغلب بجد، ويدفع عن حياض فكره بحق.

وللاعبين حيل غريبة في التغلب، فان الدهاء لابد أن يكون الآلة العاملة مع الفكرة، مثال ذلك إن اللاعبين في أوربا في القرن الخامس عشر كان أحدهما إذا لاعب الثاني ليلا جعل الضوء إلى يساره، وإذا ما لاعبه نهارا اجتهد في أن يجعل خصمه إزاء الضوء حتى يضلل بصره. وقد كانت هذه الطريقة التي جرى عليها (فنسان) و (دي لوسينا) وهما من اشهر اللاعبين الأوربيين في ذلك الحين. وقد كان للعرب القدح المعلى في هذه اللعبة، وكانوا يسمون الملك؟

(شيخاً) وهو الذي اسماه الفرس (شاها) وجرت تسميته حتى الآن. وقد روي (الصفدي) انه رأى غير مرة في دمشق سنة 731 هـ شخصا يعرف (بالنظام العجمي) وهو يلعب الشطرنج غالبا في مجلس (الصاحب شمس الدين) ورآه أول مرة يلعب مع (الشيخ أمين الدين سليمان) رئيس الأطباء فغلبة مستدبرا ولم يشعر به حتى ضرب (شاه مات) بالفيل.

وحكى له عنه انه يلعب غائبا على رقعتين وقدامه رقعة يلعب فيها حاضرا ويغلب في الثلاث. وكان الصاحب يدعه في وسط الدست ويقول له عد لنا قطعك وقطع غريمك فيسردها جميعها كأنه يراها.

واجمع بعض من المؤرخين على ان السبب في اختراع لعبة الشطرنج راجع إلى عهد الملك

(تلمبيت) ملك الهند الذي أحزنه أن يضع (شيربابك) أحد ملوك الفرس (النرد) وهو رموز على السنين والحساب، والأشهر، والأيام، والأسابيع، والقضاء والقدر، إلى غير ذلك. فعمد حكيمه (صوصة) إلى اختراع لعبة تفوق تلك وتعد فخارا للهند. فاخترع لعبة (الشطرنج) التي اجمع حكماء ذلك العصر ومفكروه على تفضيلها. فلما آن عرض اختراعه على الملك اعجب به وطلب منه أن يتمنى عليه ما شاء من جزاء، فتمنى عدد تضعيفه حبات قمح، فأنكر عليه الملك هذا الطلب التافه فالح المخترع في إجابة طلبه، فحسب أهل ديوان الملك هذا التضعيف ثم قالوا له إن ما عندنا من القمح هو دون الطلب، فدهش، ثم أوضحوا له الأمر فاعجب به لان تضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر أسفر عن اثنين وثلاثين

ص: 27

ألفا وسبعمائة وثمانية وستين حبة من القمح. فكيلت قدحا، ثم ضوعفت أجزاؤها إلى البت العشرين. فكانت ويبة، ثم ضوعفت هذه الأرادب فكانت في البيت الأربعين مائة وأربعة وسبعين ألفا وسبعمائة واثنين وستين إردبا وثلثي الإردب. ولما كان الإردب ستة وتسعين قدحا فان هذا القدر يملا شونة، ثم ضوعفت الشونة في البيت الخمسين فكانت الجملة ألفا وأربعا وعشرين شونة، وهذا القدر يعادل فسيح مدينة، ثم ضوعفت المدينة إلى البيت الرابع والستين وهو آخر بيوت رقعة الشطرنج، فكانت النتيجة ستة عشر ألفا وثلثمائة وأربعة وثمانين مدينةوهو ميزان الرقعة جميعها. فان جمع من البيت الأول إلى الثالث والستين كان الحاصل مساوياً لما في البيت الرابع والستين لا ينقص عنه غير حبة بر واحدة، ثم جمع ما في الرقعة جميعها فكان اثنين وثلاثين ألفا وسبعمائة وثماني وستين مدينة. فعجب الملك ومن حضر مجلسه العجب كله.

أبو بكر طاهر مؤمن

ص: 28

‌مهجور اللغة

روي إن ابن زيدون قام على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحدا بما أجاب به غيره، قال الصلاح الصفدي: واقل ما كان في تلك الجنازة ألف رئيس ممن يتعين عليه ان يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر.

وورد إن ابن نباتة الخطيب المصري أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها (أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون) وكان الحريري صاحب المقامات كلما جمع بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي وأراد أن يفرق بينهما بقوله (فلما اصبح الصباح) أتى بعبارة تغايرها لفظا في كل مقامة.

وليس في هذا كله ما يدعو إلى الغرابة وان دل على البراعة، فان اللغة العربية تمتاز في سائر اللغات بكثرة الترادف في الألفاظ والتعدد في الصيغ، يذكرون إن للخمر فيها مائتي اسم وللجمل خمسمائة وللسيف الفا، وهذا مما يساعد الكتاب على التوسع في العبارة، ويعيبهم على التفنن في أساليب الكلام، ولكن العجز قعد بكتابنا عن أن يحفظوا على اللغة هذه الميزة وان ينتفعوا بها في كتاباتهم، فهم يصيغون عباراتهم على نمط واحد، ويجرون في أساليبهم على طريقة متفقة، وتجدهم يستعملون ألفاظا محدودة، وأبنية متكررة ويميلون إلى الترهل واللين، حتى أصبحت ثروتنا اللغوية يكتنفها الإبهام والغموض، وأصبحت أساليبنا في الكتابة ضعيفةواهية لا تلمح فيها أثراً للفن والجمال.

وكتابنا معذورون في هذا ماداموا لا يشتغلون بمتن اللغة، فقل منهم من يهتم بكتاب اسمه (القاموس) أو (اللسان) أو (أساس البلاغة) وقل منهم من يعرف شيئا اسمه (فصيح ثعلب)(فقه اللغة) أو غير ذلك من كتب اللغة، يكتفي الواحد منهم يأخذ لغته من الصحف والمجلات، وبمعرفة جمل من الألفاظ من نوع (فحسب، ومهما يكن من شيء) ليجعل نفسه في عداد الكتاب ثم لا يستحي من اتهام اللغة العربية بالعقم ونضوب المادة ورميها بالتأخر والقصور!!

أنا لا أرجو من الكتاب أن يترسموا طريق ابن زيدون في كتابته، ولا أن يذهبوا مذهب ابن نباتة في أسلوبه، ولا أن ينهجوا منهج الحريري في سجعه وتكلفه، إنما أدعوهم إلى التمكن من فقه اللغة ومتنها، والارتفاع بالقواميس والمعاجم فان هذا مما يساعدهم على تلوين

ص: 29

الخطاب وإحياء كلم اللغة الميتة، فكم في لغتنا من الألفاظ مهجورة، وكم في قواميسنا من مفردات مهملة، مع إنها تصلح للاستعمال والتداول على اسلات الأقلام، فمثلا كلمة (يتمعج) بمعنى يلتوي ويتثنى لا تجد الكتاب يستعملونها مع إنها سهلة النطق والرسم وقد تكون أولى من مرادفاتها في الاستعمال، ومثلها كلمة (يعمس في الأمر) بمعنى يتجاهله ويتغافل عنه إلى غير ذلك من الكلمات التي نحن في حاجة إلى إيحائها والتي في تداولها تغزير لمادة الكتاب.

وإحياء مهجور اللغة معناه ان تستعمل كل كلمة غريبة مجهولة وان تجريها على أي وجه كان، وتدرحها في أي عبارة كانت، وإنما هذا مقام يحتاج إلى البراعة والدقة، وورد عن ابن شهيد الأندلسي انه قال (جلس إلي يوما يوسف الإسرائيلي، وكان افهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلا عزيزا علي من أهل قرطبة وأقول له: إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازح القريب القريب، طابت الألفة وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك، حسنت المناظر وطابت المخابر، أفهمت؟ قال أي والله!! قلت له وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام، من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر! أفهمت؟ قال نعم، قلت: وكما تختار مليح اللفظ ورشيق الكلام فكذلك يجب ان تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه قال: اجل، قلت: أتفهم شيئا من عيون كلام القائل؟

لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت

خفاتا على آثارهم لصبور

غداة التقينا إذ رميت بنظرة

ونحن على متن الطريق نسير

ففاضت دموع العين حتى كأنها

لناظرها غصن يراح مطير

فقال: أي والله! وقعت (خفاتا) موقعا لذيذا ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعا مليحا، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفا، فقلت له: أرجو انك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فاغد عليّ بشيء تصنعه الخ.

وفي هذه الحكاية يشرح لنا ابن شهيد كيف يكون استعمال الغريب وأحياء المهجور من الألفاظ، فيرى أن تختار الكلمات الصالحة، وان يراعى في وضعها القرابة والنسب، حتى تحسن الصحبة وتطيب الألفة، وهو رأي صحيح ولكنه يحتاج في تنفيذه كما قلنا إلى

ص: 30

البراعة والدقة، فلعل الكتاب يستجيبون لدعوتنا، ولعلهم يراعون هذا في كتاباتهم فيكونوا قد بروا بلغتهم وخدموا أساليبهم؟

الزقازيق

محمد فهمي عبد الطيف

ص: 31

‌الألوان والصور في شعر ابن الرومي

الشعر تمثيل وتصوير، قبل أن يكون لفظا منمقا وكلاما مزوقاً، وكما تعجبنا دقة الراسم حينما يبرز الأضواء والظلال، والألوان والشكول، لصورة من الصور، فكذلك تعجبنا يقظة حواس الشاعر حين يصور لنا في منظومه وأبياته ما يرسمه الراسم بريشته وألوانه وحين يبدي لنا الشاعر حور العيون، وسحر الجفون، وحمرة الخدود، وبروز النهود، بتمثيل وتصوير لا بريشة وألوان، كلا الفنانين ممثل للحقيقة إلا أن الراسم يصوغها شكولاً وألوانا، والشاعر ينقلها شعورا ووجدانا

قد يجتمع - وهذا نادر - للراسم خيال الشاعر، وللشاعر دقة الراسم، فان كل شيء من ذلك فقد استوى كل منهما على عرش الفن - فأي الرجلين كان ابن الرومي؟

كان ابن الرمي رساما فنانا، ومصورا ماهرا، مرهف الحواس شديد التأثر بالطبيعة كأن أعصابه أسلاك كهرباء وعينيه عدسة الكامرا ينطبع عليها مختلف المناظر والصور. وكأن أذنه - ميكرفون - موكل بالتقاط دقيق الأصوات وجليلها. وكان ابن الرومي أيضا شاعرا مطبوعا واسع الخيال، خصب الشعور، مشبوب العاطفة. ولئن حق لأبي العلاء أن نسميه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. فمن حق ابن الرومي ان يكون شاعر المصورين ومصور الشعراء

لأن في شعره دقة المصور وتعدد الوانه، وروعة خيال الشاعر وسمو عواطفه. وهو حين يصف قينة شادية، يستهويك من شعره عاطفة مشبوبة وخيال خصب، ثم تصوير دقيق وإتقان للألوان الطبيعية.

وقينة إن منحت رؤيتها

رضيت مسموعها ومنظرها

شمس من الحسن في معصفرة

ضاهت بلون لها معصفرها

في وجنات تحمر من خجل

كأن ورد الربيع حمرها

وللمشاهد الطبيعية الفاتنة، ومجالي الربيع الموقنة، لوحات ساحرة في شعر ابن الرومي ونحب أن نعرض عليك لوحة من هذه اللوحات لترى صدق قولنا. قال يصف روضة

وجادها من سحابة ديم

ورد أنوارها وعصفرها

وساق من حولها جداولها

فشق أنهارها وفجرها

فارتدت الماء من جوانبها

فزانها ربنا ونضرها

ص: 32

أمامها بركة مرخمة

ترضى إذ ما رأيت مرمرها

أعارها البحر من جداوله

لجا غزير المياه أخضرها

أفلا ترى انك في كل بيت، حيال زهرة تقطفها، وريحانة تنشقها، وبركة إطارها من مرمر ومياهها أشبه بمياه بحر اخضر؟

ثم أن حاسة اللون عند ابن الرومي حاسة زاكية متوفرة: وهي في شعره بمنزلة علبة الألوان عند الرسام. لا تقوم صورة إلا بها، ولا تأخذ حظها من الحياة والحركة إلا بأصباغها. فحين يصف لك الكأس تترقرق فيها الخمر لا يشبهها بحصباء من الدر على ارض من الذهب، وإنما يوكل بها حاسة اللون الزاكية اليقظة فلا تكاد تعرض إلا للونها البراق وشعاعها الخفاق. وقد يكون حظ ابن الرومي من تألق الخمرة ولهيبها. اكبر من حظ أبي نؤاس من نشوتها ودبيبها

صفراء تنتحل الزجاجة لونها

فتخال ذوب التبر حشو أديمها

لطفت فقد كادت تكون مشاعة

في الجو مثل شعاعها ونسيمها

ولقد عرض قوس قزح لعيون الشعراء ما عرض، فلم نر شاعرا قبل ابن الرومي أو بعده استطاع أن يصور ألوانه الطبيعية في أبياته تصوير الرسام له في لوحته وألوانه. فأنت تحت سحاب مطرز بالألوان، مرصع الأردان ما دامت تقرأ له هذه الأبيات

وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا

من الجو دكنا والحواشي على الأرض

يطرزها قوس السحاب بأخضر

على احمر في اصفر اثر مبيض

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبغة والبعض اقصر من بعض

واحب أن تلتفت إلى البيتين الأخيرين فان فيهما من جودة التصوير ومهارة تثبيت الألوان ما يعجز عنهما شاعر غيره.

وابن الرمي حين يصف القيان الشوادي والجواري الفواتن يدرن الكؤوس ويملكن النفوس، ويبرز لنا أعضائهن عضوا عضوا ويعرض علينا أجسامهن عرضا، حتى لا تفوتنا بضاضة الإهاب ولا شفافة الثياب

من جوار كأنهم حوار

يتسلن من حياة عذاب

لابسات من الشفوف لبوسا

كالهواء الرقيق أو كالسراب

ص: 33

فترى الماء ثم والنار والآ

ل بتلك الابشار والأسلاب

وكما كانت حاسة اللون اليقظة تصور اختلاف الوان الطبيعة وتباين شكولها فلا تفوتها خافقة أو بارقة. كذلك كانت أذنه السامعة المرهفة تلتقط أدق الأصوات وأخفى النغمات. وهو حين يصف لنا صوت المغنية وحيد، لا يصف غنائها فحسب، بل ينقل لنا بأذنه الحساسة رقيق نغماتها ولطيف نبراتها وعذوبة صوتها نقلا يشبه نقل الميكرفون.

مد في شأو صوتها نفس كا

ف كأنفاس عاشقيها مديد

وارق الدلال والغنج منه

وبراه الشجا فكاد يبيد!

فنراه يموت طورا ويحيى

مستلذ بسيطه والنشيد

فيه وشيى وفيه حلى من النغ

م مصوغٌ يختال فيه القصيد

ما هذا شعر! إن هو إلا حاك يحكى واسطوانة تغنى ولو أردنا أن نعرض عليك أشعاره في وصف الأقزام والمحدودين لحسبت نفسك أمام شريط سينمائي تطالعك فيه هذه الصور المضحكة. ولكن من الخير أن تكتفي بصورة واحدة من هذا الشريط وهي صورة الأحدب

قصرت أخادعه وطال قذاله

فكأنه متربص أن يصفعا

وكأنما صفعت قفاه مرة

وأحس ثانية لها فتجمعا

فقد شخص لناظر القارئ وفي هذين البيتين صورة طبق الأصل للأحدب يعجز عن تصويرها امهر المصورين.

وجملة القول في شعره انه كان تعرض له الصورة أيا كان نوعها فلا يصورها بحاسة واحدة تنما يوكل بها حواسه كلها. فترسم عينه أشكالها وألوانها وأضوائها وظلالها ولمحاتها وخلجاتها، وتنظم أذنه صوتها وجرسها، وينقل الأنف عرفها وريحانها، واللمس وقعها وأثرها. أي أن جميع حواسه تنهض في تصوير هذه الصورة حتى تبرزها موفورة الحظ من الحياة، وفي هذه الأبيات يصف فيها شمس الأصيل وهي تجنح عن روضة، غنى عن الشرح

وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت

على الأفق الغربي ورسا مزعزعا

ولاحظت النوار وهو مريضة

وقد وضعت خداً على الأرض اضرعا

وقد ضربت في خضرة الروض صفرة

من الشمس فاخضر اخضرارا مشعشعا

ص: 34

وأذكى نسيم الروض ريعان ظله

وغنى مغنى الطير فيه فسجعا

وغرد ربعي الذباب خلاله

كما حثحث النشوان صنجا مشرعا

لئن حفل شعر أبي تمام والبحتري بالكنايات الظريفة والاستعارات الطريفة، فأبن الرومي في الشعر التصويري الملون نسيج وحده

حلب

كمال الحريري

ص: 35

‌الأدب العربي والأدب الغربي

على ذكر رواية خسرو وشيرين

لا ريب إن الأدب العربي مقصر دون الأدب الغربي في كثير من

النواحي. برغم ماله من الميزات الخاصة وبرغم عراقته وحداثة الأدب

الغربي بالنسبة إليه. فقد سار الأدب الغربي بخطى واسعة وتطور في

عصوره. على حين سار الأدب العربي دائماً على نمط يكاد يكون

واحداً. وكبا بعد العصر العباسي الزاهي كبوة لم يقل منها إلا اليوم.

وكان من عهدها إلى العصر الحديث في حكم العدم إذا قيس بآداب

الأمم الرفيعة.

ولا ريب إن الأدب العربي يكسب كثيرا - وقد كسب بالفعل كثيرا - بلقاحه بالأدب الغربي، وهذا اللقاح يتأتى عن طرق ثلاثة:

الأول اطلاع أدباء العربية على الأدب الغربي. فان لذلك اكبر الأثر في نفوسهم وفي كتاباتهم وان لم يشعروا لم يتعمدوا إدخال ما قرءوا فيما يكتبون.

والثاني ترجمة الآثار الغربية المشهورة من نثر وشعر إلى لغة الضاد. فان ذلك يؤثر في أبناء العربية الذين لم يطلعوا على آداب غيرها تأثيرا يكاد يدنيهم ممن اطلعوا عليها.

والثالث إدخال الأشكال والمواضيع الشعرية الغربية في الأدب العربي إذا كانت غير موجودة فيه. فان ذلك يزيد اللغة ثروة وقوة، يقدر الأدب العربي على مجاراة آداب الغرب

والشعر العربي خاصة خلو من كثير من الأشكال والمواضيع التي يتناولها الشعر الغربي كالدراما والملحمة والشعر المرسل والقوافي المنوعة والأوزان المتداخلة في القصيدة الواحدة. فالشعر العربي فضلا عن كون مواضيعه محدودة قوامه الوحدة في الوزن والقافية، والأحكام في القواعد، والصنعة والرصانة في الأسلوب، وعلى المعنى ان يخضع لكل هذا فلا يخرج إلا مصقولا في قالبه. بينما الشعر الغربي اكثر مرونة واقل قواعد واسهل في يد الناظم واقدر على التحول والتنوع وزنا وقافية اتباعاً لمعاني القصيدة المتتابعة، ومن ثم

ص: 36

استطاع الشاعر الغربي أن يودع شعره من دقيق المعاني وعميق الأفكار وخاصها وجزئيها ما يشق على الشاعر العربي الذي لا طاقة له بغير ذكر العام والكلى، فكلما جاد الشعر العربي راع أسلوبه وأحكمت ديباجته ورافقت موسيقاه، وكلما جاد الشعر الأوربي دقت معانيه ولطفت أخيلته وتجسم وصفه وتصويره وعبر عن الخوالج النفسية البعيدة الغور. وبالجملة كانت نتيجة الوحدة في العروض والقافية في الشعر العربي إن كان شعر أسلوب، ونتيجة التنوع والمرونة في عروض الشعر الغربي وقافيته إن كان شعر معنى.

وإذا كان شعراء العربية الأقدمون قد قنعوا بذلك الضرب المقيد الموحد من الشعر وأدوا به معانيهم وأغراضهم العامة، فلن يقنع به عصرنا، هذا إذا كنا نريد للشعر العربي مجاراة الشعر الأوربي، ونريد أن يؤدي من لطيف الأوصاف للمشاهد الطبيعية والحالات النفسية ما يؤديه ذلك الشعر، ولابد لنا - كما اقتبسنا من الغرب القصة القصيرة والطويلة والرواية التمثيلية والمقالة في عالم النثر - أن نقتبس في عالم الشعر الأوضاع والأشكال التي توسع أفق شعرنا العربي وتزيده قوة وخصبا

والواقع إن القافية الموحدة التي تنظم القصيدة من أولها إلى آخرها غير معروفة في الشعر الغربي، وقد قال ملتون في مقدمته لملحمته المشهورة (الفردوس المفقود) انه عول على نضمها شعرا مرسلا وعلى نبذ القافية نبذا تاما لأنها اثر من اثار الهمجية، وكثيرا ما عاقت الشعراء عن تسجيل سامي المعاني، وبرغم مغالاة ملتون في قوله هذا - إذ للقافية روعتها ولزومها في كثير من ضروب الشعر - فلا شك في إن القافية كثيراً ما تقف عقبة في سبيل نظم دقيق المعاني وجليلها

لابد من رياضة الوزن العربي والقافية العربية على المرونة والسهولة والتنوع في القصيدة الواحدة تبعا للمعاني، كي يساعدا الناظم البارع على بيان أغراضه، فلا يعتمد الاعتماد كله على المعاني والتشبيهات ونحوها، بل يعتمد أيضاً على جرس الألفاظ وموسيقى الوزن ووقع القوافي وتجاوبها واختلافها لإبراز أوصافه وإحياء صورته التي يريد في خلد القارئ، فقد برع الشعر الغربي في هذا الضرب من الملائمة بين المعنى واللفظ والوزن ولاسيما في أشعار الوصف فبذ بتصويره ريشات المصورين في كثير من الأحيان ولا بد من التخلي عن بعض القيود والقواعد وإدخال بعض السهولة والحرية واقتباس ما يمكن

ص: 37

اقتباسه من الأوضاع والأشكال الشعرية الغربية على أننا يجب أن نذكر أولا ما سنقتبسه لن يلغي القافية الموحدة والوزن الموحد من العربية الغاء، بل تظل هذه الطريقة العربية الخاصة قائمة، لها ميزتها من الرصانة والفخامة، ولها مناسباتها التي تستعمل فيها فتؤدي غرضها أحسن الأداء، لن نهجر طريقتنا إلى طريقة غيرنا بل ناخذ مما عند غيرنا ما يزيد لغتنا وشعرنا سعة وثروة، ويجب أن نذكر ثانية إن الناظم الغربي إنما يستخدم تلك الحرية والمرونة في شعره ليؤدي بها أغراضا خاصة، تجسيم وصف، أو تمثيل حركة، أو تقليد صوت، أو اسلاس قصص، فيجب ألا نهجر القافية والوزن الموحدين إلا أن يؤدي تنويع الوزن والقافية مثل تلك الأغراض، وإلا كان الأمر مجرد تسهيل للنظم يغض من قيمة الشعر الفنية ويورث الناظم الكسل وقلة التعب في معالجة القصيد

واكبر اعتراض يقام أمام إدخال هذه الأساليب الشعرية الغربية نبوها على السمع الذي اعتاد الوحدة في الوزن والقافية العربيين. وهو اعتراض وجيه غاية الوجاهة: فان اقتباس تلك الأساليب إن أدى إلى فساد موسيقى الشعر العربي التي هو قوامه كان وبالا وكان علينا أن نقلع عنه مهما كان له من فوائد، ولكن هذه العقبة يمكن تذليلها بوسيلتين:

الأولى التدرج في التحرر من قيد الوزن والقافية تحررا يسير بطيئا مع الزمن ولا يفاجئ الآذان كبير مفاجأة، فان التطور دون الطفرة جدير بتعويد الآذن على اختلافات العروض والقوافي في القصيدة الواحدة، حتى تستطيب تلك الاختلافات وتلتذها وتصير لها فيها متعة كالمتعة التي نجدها في النظم الواحد، وقدما اخترعت الموشحات والأبيات المختلف شطراها طولا فكانت خرقا في الطريقة السائدة وكانت بلا ريب نابية على الأسماع في أول الأمر، ولكنها بمرور الزمن صارت مألوفة ولم يعد أحد من كبار الشعراء يتحرج من اللجوء إليها في بعض أغراضه.

والوسيلة الثانية هي أن يتصدى لإدخال هذه الأساليب في شعرنا العربي كبار الشعراء الذين عالجوا القريض سنين طوالا، مارسوا اللغة واستوعبوا ثروتها واستنبطوا أسرارها وحذقوا عروضها، فهم وحدهم بخبرتهم ودربتهم وتمكنهم قادرون على أن يدخلوا في اللغة ما يلائمها وينبذوا ماعداه، ويصقلوا ما يدخلون بصقا لها حتى يصير جزء منها ويثبت فيها وينمو ويثمر، أما أن يتصدى لذلك الناشئون المتحمسون للتجديد على غير بصيرة فلن يأتوا

ص: 38

إلا بكل غث لا يؤدي أغراض الشعر الغربي ولا يبقى على جمال الشعر العربي ولا يكتب له بقاء.

والقافية اشد من الوزن قبولاً للتلقيح بالأساليب الغربية، والشعر المرسل خاصة يكون ذا مستقبل باهر في العربية إذا عالجته الأيدي القديرة، وقد مارسه الأستاذ فريد أبو حديد غير مرة ونجح فيه نجاحا غير قليل، ونشر في الرسالة ترجمة لفقرات من (عطيل) امتازت بالسلاسة ولم ينقص من قدرها في نظري سوى إن الأستاذ أختار لها بحر الرمل، وليس هذا ولا الخفيف المنظومة فيه رواية خسرو وشيرين بأليق البحور لبدء معالجة الشعر المرسل. بل اكثر البحور العربية استعدادا لذلك البحر الطويل الذي هو بطوله وفخامة موسيقاه واتادها اقدر على الاستغناء عن القافية وأحق بان يترجم إليه الشعر المرسل الغربي المعروف (بالبلانك فيرس) وان يحل عندنا محل ذلك الضرب الذي يختص عند الغربيين بشعر الدرامات والملاحم، ولا ريب ان ترجمة روايات شكسبيروأمثالها إليه أولى من ترجمتها نثرا.

ولقد كان شوقي في أواخر أيامه اقدر الناس على ولوج هذه الأبواب لو أراد، لولا شديد اعتداده بالوزن والقافية الموحدين، فانه كان قد مارس قرض الشعر نحو نصف قرن حتى حذق صناعته، وكانت له موهبة في الأسلوب عالية، فبلغ في النهاية غاية الجزالة والسلاسة، وكان له من الوقت متسع للتجريب والمحاولة، ولو عمل على إخصاب اللغة ببدء هذه الأساليب الغربية فيها لخدمها خدمة اجل كثيرا من خدمته أياها بمعالجة النظم التمثيلي في أخريات أيامه، ورواياته التمثيلية ذاتها شاهدة بذلك: فان ميزتها الكبرى والوحيدة براعة الديباجة، أما إذا قيست بمقياس التأليف التمثيلي وقوبلت بالمؤلفات الغربية التي كان يقلدها ويترسمها فلن تكون شيئا مذكورا

على انه إذا كانت العربية قد فقدت شوقيا وحافظا الذين عالجاها حقبة وتمكنا منها، فما يزال لها من كبار الشعراء المجربين من هم قادرين على توسيع افقها ومضاعفة ثروتها بطرق هذا الباب من الاقتباس والابتكار، فلعلهم يتقدمون، ولعل مجهودات الأستاذ فريد أبي حديد تكون الخطوة الأولى في هذا السبيل.

فخري أبو سعود

ص: 39

‌بديع الزمان الهمذاني

للدكتور عبد الوهاب عزام

رحيله عن نيسابور

فارق بديع الزمان نيسابور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. نعرف هذا من قوله وهو يمدح خلف بن احمد أن سنه خمس وعشرون سنة. وهو مولود سنة ثمان وخمسين. ثم هو يكتب من سرخس إلى الشيخ أبي الطيب سهل بن محمد فيذكر ان الخوارزمي كتب إلى الأمير يسأله ألا يقبله في حضرته ويذم الخوارزمي ويرد عليه دعواه الغلب في مناظرته، ويهدده بالعودة إلى مساجلته. والخوارزمي مات في رمضان سنة ثلاث وثمانين

ويفهم من هذه الرسالة انه ذهب إلى مرو كذلك، يقول عن الخوارزمي، ان اللسان الذي اخرس لسانه، والبنان الذي انبس بيانه، لم تكسبهما مرد مجادة، ولا كستهما سرخس بلاده. وهما معي لم يفارقاني:

ولم يسم الأمير الذي نزل بحضرته في سرخس، والظاهر انه أحد أمراء السامانية. وقد اكرم الأمير مثواه كما قال في آخر الرسالة نفسها عن الخوارزمي:(وإما مسألة الأمير ألا يخرطني في سلكه ولا يمكنني من بساط ملكه فقد شملتني على رغمه أطراف النعم، وبلتني سحائب الهمم، وللراغم التراب، وللحاسد الحائط والباب) وفي سنة ثلاثة وثمانين مات الخوارزمي! يقول الثعالبي (وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا الجو للهمذاني، وتصرفت به أحوال جميلة، وأسفار كثيرة)

وفي رسائل بديع الزمان رسالة كتبها إلى من هنأه بمرض الخوارزمي يقول فيها: (فكيف يشمت بالمحنة من لا يامنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن افلت، فليس يفوت) وفي ديوانه قصيدة يرثى بها الخوارزمي ويرد على من قال: (قد خلا الجو للهمذاني) يقول فيها:

حنانيك من نفس خافت

ولبيك من كمد ثابت

أبا بكر اسمع. وقل كيف ذا

ولست بمسمعة الطائت؟

تحملت فيك من الحزن ما

تحمله ابنك من صامت

حلفت لقدمت عن معشر

غبيين عن خطر المائت

ص: 41

يقولون أنت به شامت

فقلت الثرى بفم الشامت

وعزت علي معاداته

ولا متدارك للفائت

وقال الأنام خلا الجو لي

لعمري ولكن على عانت

ابيض ولكن إلى عاقر

واصفر ولكن على ساكت

اكثر البديع أسفاره بعد مفارقة نيسابور. يقول الثعالبي:

(ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى وجبى ثمرتها، واستفاء خيرها وميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا استمطر منه بنوء، وسرى معه في ضوء، ففاز برغائب النعم، وحصل على غرائب القسم) ويقول الهمذاني في رسالته إلى القاسم الكرجي: (فإني وإن كنت في مقتبل السن والعمر، قد حلبت شطري الدهر، وركبت ظهري البر والبحر، ولقيت وفدى الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر)

وفي رسالة أخرى: (وإني أيد الله القاضي، على قرب العهد بالمهن قطعت عرض الأرض وعاشرت أجناس الناس.) وليس يمكن بما عندنا من الرسائل غير المرتبة أن نتتبع أسفاره في خراسان وسجستان وغزنة، ولكننا نعرف انه فارق خراسان لما وقع بها من الحروب، والظاهر إنها الحروب التي وقعت في أواخر الدولة السامانية، ونعرف إن الأتراك قطعوا الطريق عليه وهو ميمم سجستان كما قطع الأعراب طريقه وهو قاصد نيسابور من جرجان:(ولما وقع بخراسان ما وقع من حرب، وجرى ما جرى من خطب، واضطربت الامور، واختلفت السيوف، والتقت الجموع وظفر من ظفر، وخسر من خسر، كتبني الله في الأعلين مقاما، ثم ألهمني من الامتداد عن تلك البلاد، والإقلاع عن تلك البقاع. واعترضتنا في الطريق الأتراك. واحسن الله الدفاع عن خير الأعلاق وهو الرأس، بما دون الأعراض وهو اللباس. فلم نجزع لمرض الحال مع سلامة النفوس، ولم نحزن لذهاب المال مع بقاء الرؤوس. وسرنا حتى وردنا عرصة العدل، وساحة الفضل، ومربع الحمد، ومشرع المجد، ومطلع الجود، ومنزع الاصل، ومشعر الدين، ومفرع الشكر، ومصرع الفقر، حضرة الملك العادل أبي احمد خلف بن احمد الخ) هذا هو الذي مدحه في ست من مقاماته، وبعض رسائله مدحا لم يبذل لغيره مثله، ولكن بديع الزمان لم يعفه العتب الموجع حين آنس منه الإغضاء عنه.

ص: 42

ثم ذهب الهمذاني إلى غزنة حاضرة الدولة الغزنوية ومدح السلطان محموداً بأبيات. ولا نجد في رسائله تفصيل مقامه في غزنة ولقائه السلطان. ولكننا نجد له رسائل كثيرة إلى الفضل بن احمد الاسفرائيني وزير السلطان يذكر بعض خطوب هذه الدولة، ويهنئ ببعض فتوحاتها. والأبيات التي مدح بها السلطان مثبتة في الديوان، وفي اليتيمة وأولها:

تعالى الله ما شاء

وزاد الله إيماني

أأفريدون في التاج (م)

أم الاسكندر الثاني؟

أم الرجعة قد عادت

إلينا بسليمان

أظلت شمس محمود

على انجم سامان

في هراة

ثم سار إلى هراة ليرحل عنها كما رحل عن غيرها، ولكن كتبت له الإقامة بها حتى الممات. يقول في رسالته إلى الشيخ أبي نصر انه سار من سجستان إلى بوشنج، وانه لما سكنت الحرب وانفتحت السبل إستأذن الأمير في المسير إلى هراة. ويقول في رسالة أخرى (ويا سبحان الله ما علمت إن هراة تنسيني صرصر والصرات، حتىانستني دجلة والفرات، على ظهر الغيب نظر الريب. فكيف بنا إذا دخلناها وحللناها فسقاها الله من بلد، وأهلها من عدد.) وذلك إن بعض الهرويين أرسل إليه مرحبا قبل دخوله المدينة، ويظهر من رسائله انه لم يغتبط بالإقامة في هراة أول عهده بها، ولا أزمع المقام فيها، يقول في رسالته إلى الشيخ أبي النصر (كتابي أطال الله بقاء الشيخ، والماء إذا طال مكثه، اظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه).

كذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذ طال ثواؤه، ويثقل ظله، إذا انتهى محله. قد حلبت اشطر خمسة اشهر بهراة ولم تكن دار مثلى لولا مقامه. ونجده: في رسالة أخرى يشكو حيفا أصابه في هراة.

(والله، أطال الله بقاء الشيخ الرئيس، ما سكنت هراة اضطرارا، ولا فارقت غيرها فرارا. وإنما اخترتها قطنا ودارا، واخترته سكنا وجارا، لتكون ارفق لي من سواها، ولأزداد به عزا وجاها. فان كان قد ثقل مقامي، فالدنيا أمامي، وان كان قد طال ثوائي، فالانصراف ورائي. لست والله ذباب الخوان ولا وتد الهوان. والشام لي شام، مادام يكرهني هشام،

ص: 43

وهراة لي دار، ما عرف لي فيها مقدار، وقرى الضيف غير السوط والسيف الخ) فهذا يدل على انه غير مطمئن إلى هراة وإن أختارها سكنا. ونجده في الديوان يقول من قصيدة مدح فيها ابن عدنان رئيس هراة.

قد طال مكثي في هراة فهل لكم

في أن أوليكم قفا الأعراض

ولو أنني ماء الحياة لملني

ورداه وتنكبوا أحواضي

أحسنتم يا للكرام ضيافتي

عند الورود فاحسنوا إنهاضي

ولكن بديع الزمان، على هذا ألقى عصا التسيار في هراة واتخذها موطنا وأمضى بها بقية عمره. فما الذي بدّل رأيه وحبب إليه المدينة؟ يقول الثعالبي: (ومازال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر القديم والحديث حتى وفق التوفيق كله وخار الله له في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد الخشنامي. وهو الفاضل الكريم الأصيل الذي لا يزاد اختبارا إلا زيد اختيارا. فانتضمت أحوال أبي الفضل بصهره، وتعرفت القرة في عينه والقوة في ظهره. واقتنى بمعونته ومشورته ضياعا فاخرة، وعاش عيشة راضية.

وفي رسائل الهمداني تصديق خبر الثعالبي، فهو يقول في إحدى رسائله من هراة (والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفلة كفرخ يومين، قد حببت إلى العيش، وسلبت عن رأسي الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام (ص162) وهو يتكلم في رسائل هراة عن الزرع والاكرة والخراج وديونه على الناس والسفاتج (والشأن أن أعيشعيش الجعل، بين السرقين والعمل، وأنا على ذلك محسود. . . أرأيت رجلا يندم أن ولده آدم، أو يألم أن يسعه العالم، يحسد في قرية يشتريها وفي رسالة إلى بعض وزراء السلطان محمود: ومما أبث الشيخ الجليل، إن مبلغ خراجي بهراة ألفان. وعلى المخف من الجريان ثلاثة مدورة، بيض مقشرة، وعلى المثقل تسعة وعشرة. وودت لو أمكن التبلغ بأقل من هذا فافعل ولكن أفواها فاغرة، وأضراسا طاحنة، وعيالا وأذيالا، الله وكيلهم وأنا ربهم واكيلهم. وإن أمكن تحويل هذا المقدار من الخراج ببوشنج لتتوفر حقوق بيت المال، وأصان عن مجازفات العمال، وتبعات الحال، فتلك غاية الآمال وفي رسالة إلى والده: وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج، وان يرتب له عمارة شتوية تسعه والشيخ الفاضل العم، فليتفضلا وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله

ص: 44

أجمعين فما يعجبني لقاء ليس له بقاء، ولا وصل بعده فراق، فان لم يمكن استصحاب القوم فلا يتأخر بنفسه، فسيرد على خمسمائة نير وألف أكار، وأحوال منتظمة، وأسباب مستقيمة).

ومن اجل هذه الثروة قصده الناس واستماحوه. وفي رسائله واحدة كتبها إلى مستميح عاوده مرارا: عافاك الله: مثل الإنسان في الإحسان مثل الأشجار في الأثمار. سبيل من أتى بالحسنة أن يرفه إلى السنة. وأنا كما ذكرت لا املك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي. أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود. ولكن هذا الخلق النفيس، لا يسعه الكيس، الخ.

وفاة بديع الزمان

كان الهمداني يتعجل العمر ويستكثر السنين فهو يتكلم عن الشيب في مدحه خلف ابن احمد وهو في سن الخامسة والعشرين

ويرحب بالشيب ويفضله على الشباب وهو في سن الثلاثين: فجزى الله الشيبة خيراً، إنها لاناة، ولا رد الشبيبة إنها لهناة وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه، وبئس المثل النار والعار وونعم الرائضان الليل والنهار. وأظن الشباب والشيب لو مثلا لكان الأول كلبا عقورا، والأخر شيخا وقورا، ولأشتعل الأول نارا وانتشر الآخر نوراً. والحمد لله الذي بيض القار وسماه الوقار. وعسى الله ان يغسل الفؤاد كما غسل السواد. أن السعيد من شابت جملته، والشقي من خضبت لحيته) وفي رسالة أخرى: وأسال الله خاتمة خير وعاجل وفاة. إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها.) فهذا ينم عن طبع مكتئب وصدر يضيق بالحياة وكأن وفاته في سن الأربعين كان استجابة العمر لهذه السجايا.

في رسائله رسالتان يذكر فيهما مرضه، يقول في إحداهما (وقد عملت في أمر الدواء ما أشرحه له شفاها. وجملة الأمر أني أؤمل النفع في تناوله، وحالي الآن صالحة) ويقول في الأخرى (ولكني وقيذ أوجاع، أنتقل من حمى إلى صداع. وأخشى أن يأخذ مني لفح الهواء مأخذه، فلذلك لا ابرز عن البيت، وأنا فيه حي كميت. وعلى كل حال فإذا خفت وطأة الهواء، وحان وقت المساء، لعبت لعباتي إلى حضرته، متزوداً من طلعته إن شاء الله تعالى) وما أدري متى أصابه هذا المرض وهل كان مرضه الأخير أو غيره.

ص: 45

ويقول الثعالبي (وحين بلغ أشده وأربى على الأربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.) ويقول جامع الرسائل في عنوان رسالة (وله في تهنئة فتح الجابية بباب بلخ. وهذا آخر كتاب أنشأه. ومات يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.)

يتبع

عبد الوهاب عزام

ص: 46

‌غلطة نحوية

للآنسة سهير القلماوي

لا تستغربوا هذا العنوان، وأستحلفكم أن لا تستتفهوه، فسترون بعد حين أن للغلطات النحوية شأناً وأي شأن. ستدركون عظمة الغلطة النحوية وخطورتها، ولن يكلفكم هذا الإدراك ما كلفني. ستقرءون المقال وستؤمنون بعده إن للغلطة النحوية الواحدة قدراً، وأنه لقدر لو تعلمون عظيم

ما كادت تنتهي من محاضرتها حتى عادت إلى أستاذها تستطلع رأيه، وتحاول أن تلمح في تقاطيع وجهه قيمة جهدها الذي بذلته. لقد كانت تحسب حساباً كبيراً لنقده، وخاصة لابتسامته الساخرة التي يلاقي بها جهداً بذل في غير موضعه واستنتاجاً سخيفاً متكلفاً بعيداً عن الصواب، وعن طبيعة الأشياءكما يقول. وما وصلت حتى بادرها بقوله: أهنئك، قالت أشكرك، قال أريد مقابلتك، قالت ومتى تشاء؟ قال أأنت قادمةً لعمل في دار الكوكب غداً؟ قالت لا. قال إذا قابليني بعد غد فسأكون هناك، قالت حسن، إلى بعد غد

وجلست تفكر بعدها ماذا يريد منها يا ترى؟ لم يدعها في حياتها قط إلا لعمل ذي شأن، أو لمسألة ذات خطر. ثم هو يتعجل تلك المقابلة، ما سر هذه العجلة؟ أكانت المحاضرة سخيفة إلى هذا الحد؟ ولم هنأها إذا؟ ولم تره في ظرف من ظروف حياته يقول غير ما يعني، أكان هازئاً؟ ولكنها لم تلمح منه إلا الجد ليلتها، ثم هي توقن إنه لن يستهزئ بها مهما يكن، في مكان وفي ظرف كهذين، وأخيراً هي تحس في شيء من الإخلاص أن المحاضرة كلفتها جهداً، وإنها وإن لم تكن خالية من المآخذ، إلا إنها بكل تأكيد لا تستحق إستهزاءاً علنياً ومقابلة مستعجلة. وأحس قلبها إن الأمر أهون مما تظن، ولكن متى خضع العقل للقلب؟ لقد ظل العقل في عمله يقدر ويحسب، يستبعد ويستقرب، يرجح وينفي، كل هذا وهو متعب مكدود، فأفسد عليها يوماً كانت أعدته لراحته الكاملة.

ظلت يوماً وبعض يوم تفكر، وتقلب الاحتمالات التي أمكن أن يخترعها عقلها في مثل هذا الظرف، وبدأت تحس إن تفكيرها في الموضوع أصبح آلياُ دائرياً، يبدأ ليعيد، ثم يبدأ من جديد وهكذا، وانتهت أخيراً بإبعاد كل احتمال أن تكون المقابلة خاصة بالمحاضرة، فلو كان ثمت متعجل في شأنها لقاله لها يومها، وإلا لأنتظر فرصة أخرى فهي لا تتغيب عنه كثيراً

ص: 47

وما جاء صباح الأحد حتى استعدت للذهاب إلى المقابلة، وما كانت تستعد حتى سألها والدها ان تصحبه في نزهه كان يسرها جداً أن تصحبه فيها، ولكنها اعتذرت بضرورة ذهابها لمقابلةأستاذها، وسألها هل ستبطئين عنده، فتكلفت شيئا من عدم الاكتراث تخدع به نفسها، وقالت لا أدري، لأني لا أعرف لماذا يريد مقابلتي. ولكن نفسها لم تنخدع بهذا المظهر المتكلف وبدأ عقلها سيرته الآلية من جديد، وسخطت على نفسها، ما الذي يثير حب استطلاعها إلى هذا الحد؟ وفي استهزاء مؤلم اكمل صوت في قلبها و (خاصة إذا كان الأمر أهون مما تتوهمين) فثار عقلها واسترد سيرته الإلية في حمية جديدة.

وجاءتها ابنة خالتها تعرض عليها الذهاب إلى أختها لترى هناك صديقة عزيزة عليها، وكانت تود رؤية هذه الصديقة فهي لم ترها منذ سنين، ولعلها لا تراها سنين أخرى، ولكنها اعتذرت ثانية، فسألتها ابنة خالتها: ولكن ألا تعرفين لأي شئ يريدك، وكأنها أحست تطفلاً فأكملت حتى تستطيعي أن تلحقي بي هناك إذا كان الأمر لا يستغرق طويلاً. قالت بعدم اكتراث، لست أدري ماذا يريد، فلا أستطيع أن أعدك باللحاق بك. وبدأ عقلها سيرته من جديد، وبدأت نفسها تضحك منها وتعيد (الأمر أهون مما تتوهمين).

وأخيراً وصلت دار (الكوكب) وصعدت الدرج في اتزان عجيب تحاول أن تؤخر المعاد ما استطاعت حتى لا يستشف أستاذها عجلتها وحب استطلاعها. ودخلت حجرته فحيته وحياها، ثم جلست تنتظر. وتكلم في مواضيع مختلفة، وهي تحاول في جهد أن تتبع كلامه وأن تخفي عجلتها واشتياقها لمعرفة ما جاءت من أجله وجاء ذكر المحاضرة فأثنى عليها، ثم قال: ولكني اترك ما بها لغيري من أساتذتك، لأن لي معك الآن أمراً من أخطر الأمور. وخفق قلبها ولم تستطع حفظ مظهر الاتزان الذي تكلفته منذ الصباح، ودون أن تدري قالت في لهفة ظاهرة وما هو!؟ قال يا فريد آتني بعدد الرسالة الماضي.

فأرتفع الصوت الهازئ في نفسها يضحك ويقول (الأمر أهون مما تتوهمين) قال غلطة تكبرك بكثيرما قرأتها حتى كلمت الأستاذ الزيات بشأنها تلفونيا.

وارتفع صوت العقل وقال ألم اقل لك إن الأمر خطير ولكن العقل ما كاد يزهى حتى قال أستاذها متابعا كلامه - غلطة نحوية كبيرة. إما أنتقلعي عنها، وإما أن تطلعي على الناس بمذهب جديد هو عدم التفريق في الجمع السالم بين مذكر ومؤنث، ومن يدري قد تجدين من

ص: 48

يؤيدك. . . . . . . واستمر في كلامه

(غلطة نحوية) كانت كلوح ثلج نزل على رأسها الملتهب يوما وبعض يوم. وكأنه لمح شيئا من غيظ تخفيه بسكوتها بعد أن لم تجد آمن منه ستاراً. فقال: ألا تستحق هذه الغلطة انتقالك من العباسية إلى عابدين؟

وهمت أن تقول له إن هذا الانتقال ايسر ما كلفتها تلك الغلطة، ولكنه اسمر يحاول إغاظتها:

دوني في مذكرتك ان أستاذك استدعاك من العباسية إلى العابدين من اجل غلطة نحوية. وضحك في سخرية مثيرة للغيظ، فقالت محاولة إخفاء غيظها - سادون!

أستاذي: - غلطة نحوية كلفتني هذا. فليت شعري ماذا سيكلفني هذا المقال؟ ولكني أؤكد لك لا في تملق كما تقتضيه حال الخائفة من عقابك، وإنما أؤكد في صدق وإخلاص أن لولا يقيني برحب صدرك ما خططت حرفا في هذا المقال.

سهير القلماوي

ص: 49

‌تعتزل الحب!

للأديب حسين شوقي

الكونتس (س) سيدة في العقد الخامس من عمرها، أما جنسيتها فلا تهم كثيرا لأنها غنية جدا، والمال جواز سفر دولي تستقبل به بالترحاب في كل مكان، إن الكونتس (س) وهي سيدة صالونات - تلم إلماما تاما بجميع اللغات الحية كأنها سكرتيرة ممتازة بعصبة الأمم.

توفي زوجها حديثا فحزنت عليه لأنه كان رجلا طيب القلب، وديعا مطيعا لها مثل كلبها الصيني الصغير (بيبي) وكانت فضلا عن ذلك تتخذه حجابا لستر غزواتها الغرامية الكثيرة، وكانت الكونتس نهمة في الحب، بل شيوعية، لا تبالي إن قضت ليلتها مع أمير من الأمراء أو مع سائق سيارتها، وتمضي الكونتس (س) زمنا طويلا في معاهد الجمال، لتصلح أولا فأول الآثار التي يحدثها الزمن في وجهها، ولكن هذه الآثار كانت تزداد يوما عن يوم حتى قلقت الكونتس على مصيرها، لما ينتظرها وراء ذلك من شيخوخة محتمة. . لذلك فكرت في اعتزال الحب، كما فعلت المحظية المصرية الشهيرة تاييس التي روى قصتها الكاتب العظيم اناطول فرانس، أجل! ستفعل الكونتس ما فعلته تاييس قبلها، وتقيم هي أيضا في كوخ بصحراء مصر النائية.

وفي صباح يوم من الأيام، وبعد أن شاهدت الكونتس في الليلة تمثيل تاييس بالأوبرا، قالتلوصيفتها ماري:

ماري، إنني صممت على أن اعتزل المجتمع. اعدي الأمتعة، سوف نرحل إلى مصر حيث نعيش في الصحراء في عبادة وتقشف مثل تاييس المحظية المصرية التي اعجب بتضحيتها كل الإعجاب. . .!

فابتسمت الوصيفة ولم تجب، لأنها مقتنعة إن سيدتها غير جادة في قولها، وإنها إذا ذهبت إلى مصر فإنما تذهب لتهرب من برد العواصم الأوروبية القارس، ثم عادت الكونتس فقالت:

حقا! إنني سئمت المجتمع وما فيه من خدع وخيبة أمل! ولا سيما بعد خيانة صديقي جان، الراقص بفندق (بلاس) آه! إنني كنت احبه حباً عميقاً، كما كنت مفتونة بشبابه الغض، كيف استطاع أنيكذب علي وهو في مثل هذه السن الصغيرة؟

ص: 50

الوصيفة - ولم لا يكذب المرء وهو صغير في السن يا سيدتي! إنني كذبت في طفولتي أضعاف أضعاف كذبي الآن! كم سرقت الكرز من حديقة الجار، فإذا سألت عنه اتهمت الغربان!

الكونتس_هذا شئ آخر، هذه كذبة الطفولة البريئة، إني اقصد كذب الشباب، إن الشباب يصعب عليه في نظري إن يكذب، لأنه ليست في وجهه تجاعيد تستطيع أن تخفي الأكاذيب.

الوصيفة_وكيف عرفت خيانة السيد جان يا سيدتي!

الكونتس_من عشيقته نفسها!

الوصيفة_عجباً! وما فائدة عشيقته أن تفضح أمر صديقها؟

الكونتس (مستضحكة) _لتنتقم يا بنيتي! إن الوغد كان يخونها مع عشيقة أخرى ثالثة!

ثم أعدت الوصيفة الأمتعة للسفر إلى مصر كمشيئة الكونتس، ولكن لشد ما كانت دهشتها حين قالت لها سيدتها لدى عودتها إلى المنزل ظهراً:

ماري! إننا لا نسافر إلى مصر، إنني أولمفي الأسبوع القادم وليمة عشاء تكريما للمثال العبقري هنري دي. . . فابتسمت الوصيفة وقالت: وما سن هذا المثال العبقري يا سيدتي؟

الكونتس (في إعجاب) - خمسة وعشرون ربيعا!

ثم ضحكتا ضحكا عاليا على هذه الملاحظة، ولكن الوصيفة عادت فقالت في حسرة: يا للأسف على رحلة مصر إنها لن تتحقق! وقد كانت شديدة النفع لما اشعر به من ألم في المفاصل!

حسين شوقي

ص: 51

‌بعد النوى

أيها الرحل عن قلبي العميد

سوف يشقى بالنوى حتى تعود

ويح للعشاق في وادي الهوى

من عذاب فادح العبء شديد

أين من عيني وجه مشرق

رائع الطلعة كالصبح الوليد

أين من أدنى صوت ساحر

كل صوت دونه عندي زهيد

وحديث للهوى مستعذب

هو في الأسماع قرآن مجيد

وغناء كم هفت روحي له

مثلما يهفو لمغناه الطريد

يطفئ الوجد ويشفى مهجة

من بتاريخ الجوى كادت تبيد

يا حبيبي لم تروِّعك النوى

مثلما روعت الصب الوديد

أنت في الريف قرير ناعم

رافل في عيشك الحالي الرغيد

بين أهل جمعوا فيك المنى

وبك ازدان لهم هذا الوجود

وتمنوا بسط أكبادهموا

لك تمشي فوقها أين تريد

وشباب أنت فيهم كوكب

ضوءه ضاف على الدنيا مديد

كلما عدت تراءى جمعهم

للورى حولك كالدر النضيد

تهبط الحقل فيغدو نبتهُ

لك ما بين ركوع وسجود

ويهب الطير من أوكاره

حائما حولك في كل صعيد

ويغني أينما سرت به

كل لحن رائع الحسن فريد

ويفيق الدوح من غفوته

بعد ما أيقظه رجع النشيد

فترى الأغصان في نشوتها

قد غدت شطرك تهفو وتميد

وأنا في مصر نهبٌ للجوى

سادر في ظلمة الوجه شريد

وإذ ما عاد بي الليل إلى

مضجع عن أعين الناس بعيد

دفع الشوق بفكري عنوة

في ظنون ماله عنه محيد

وظنون الحب إذ ما عصفت

بفؤادي فهي شيطان مريد

أيها الغائب عن عيني وفي

قلبي المضني له عرش وطيد

أدرك الغارق في بحر النوى

قبل أن يصرعه الموج العنيد

فريد عين شوكه

ص: 52

‌من الأدب الإنكليزيالحديث

وقفة الوداع

للورد بيرون

لما وقفنا للوداع، نبكي واجمين، وقد انسحق قلبانا، من هول الفراق، نال وجنتيك الشحوب والبرودة، وكانت قبلتك مثلوجة، حقاً لقد تنبأت تلك الساعة بويل اليوم.

سقط ندى الصباح قارصا على جبيني، فكان نذير ما اشعر به الآن، لقد ضاعت كل عهودك، وظهرت لي قضيتك، كلما سمعتهم يلغطون باسمك، أحسست بنصيبي من عاره.

يذكرون اسمك أمامي، فيقع على سمعي وقع جرس الموت، وتعتريني هزة غريبة، ويلي! لم أحببتك كل هذا الحب؟ انهم لا يعرفون إنني أعرفك، أنا الذي عرفتك جيدا، سأتحسر عليك زمنا طويلا، حسرة بعيدة القرار.

التقينا سرا، فآلمني إن قلبك استطاع إن ينسى غدر نفسك، وإذا قدر لي أن التقي بك، بعد أعوام طوال، كيف أحييتك؟ بالصمت والدموع!

ص: 54

‌المطبعة

لروبرت. هـ. ديفيز

أنا المطبعة، أمي الأرض، قلبي من فولاذ، أطرافي من حديد، وأصابعي من نحاس، انشد أغاني العالم، القي خطب التاريخ، وأردد الحان الزمان، أنا صوت اليوم، ومتني الغد، أقص حكايات السلم والحرب على السواء، أحرك القلوب في خفوقها وخفوتها. أوحى للعامل المضي في منتصف الليل، أن يرفع رأسه محدقا في الفضاء البعيد غير خائف ليتلمس الأمل المواسي الخالد، ملايين من البشر تصغي إلى، حينما أتكلم يفهمني الجميع.

أملأ دماغ الغبي بأفكار تعليه، أنا النور والمعرفة والقوة.

اجمل انتصارات العقل على المادة، في الشروق وعند الظهيرة وفي الغسق، تقصد إليك أولادي، وأنت على نور الشمعة بين أضواء الفقر الخافتة أو نعم الثراء.

أنا قهقهة العالم ودموعه؛ وسوف لا أموت حتى يستحيل كل شيء ترابا. أنا المطبعة.

ص: 55

‌دعاهما الصبي فلبياه

لروبيرت بيرنس

في صباح يوم جميل من آذار، وقد لونت الطبيعة كل شيء بلون بهيج ضاحك، وعلمت الأطيار الغناء، والخراف اللعب وكشفت عن فتنة الصبايا ونضارتهن، استيقظ (جوان) الشاب مبكر جدا، وارتدى ثياب يوم الأحد مسرعا، لان (جيني) الصبية الجميلة، التي احبها (جوان) وعبدها، سترافقه إلى رياض المدينة، حيث يقضيان ساعة في اللهو والرقص والغناء.

دق ناقوس الكنيسة الخاشع، فتلمس الشاب طريقه وسار بخطوات المشتاق إلى منزل الحبيبة، قرع النافذة (أسرعي يا عزيزتي) عندها صاحت (جيني) صيحة الجزوع الضجور (من هنا؟) أنا يا حبيبتي، لا أحد سواي، اقبلي على مهل ولا تخافي عيون الرقباء.

ان أبي وأمي غارقان في رقادهما، وأخي بعيد يرعى غنمه، وأنت. ألا تزال أمينا على وعدك، وهل تبرهن أبدأ على وفائك! بحق ما في السماء من قوى، ساكون أبدا المحب العابد، ولن أضيع لحمامتي عهدا، ولن اغفر ذماما، ابعدي عنك هذه الشكوك وأسرعي يا حبيبتي.

وسارا ملتصقين بين الورود والرياحين، يضحكان ويعبثان حتى انتهيا إلى غدير يترنم في اسفل الوادي، فجلسا على حافته يتشاكيان الجوى، ثم استرخت الأكف للعناق، وكانت ساعة حالمة تساقيا فيها كؤوس الحب مترعة صافية، لقد دعاهما الصبي فلبياه.!

شرق الأردن

ترجمة بشير الشريقي المحامي

ص: 56

‌نجوى يتيم

ما لفؤادي ذاب

وما به وجد

وللدجى قد شاب

ولم أنم بعد

ما للأسى قد فاز

في كبدي الحرى

وما لدمعي ثار

من مقلتي ثرا

أمن بكا الأطيار

تستقبل الفجرا

أم لزمان جار

قد ألف الغدرا

أحنو إلى التذكار

وليس من ذكرى

خيال أمي غاب

وألفي المهد

عدا مع الأحقاب

ولم يزل يعدو

فتشت في فكري

عنك فخيبت

مت ولم أدري

إني قد عشت

ما ضر بالدهر

لو لفني الموت

خلفت في الأسر

قلبي ينفت

يندب في السر

حليفه الصمت

في زمن لعاب

من طبعه الحقد

يروح بالأوصاب

وبالجو يغدو

تمضي بي الأفكار

في هدأة الأغلاس

تسائل الأقدار

وتنبش الآماس

عل بها تذكار

لساكن الأرماس

والدهر للآثار

مخرب دراس

منقلب غدار

قاس شديد البأس

دهر حديد الناب

ليس له عهد

مزمجر صخاب

كأنه الرعد

الله للأيتام

ماذا يلاقونا

من عنت الأعوام

كم ذا يعانونا

ص: 57

غافون بالأحلام

بالدمع لاهونا

وهذه الأيام

لا تعرف اللينا

تسقيهم الآلام

والذل وألهونا

وتدهق الأكواب

لهم وتشتد

واليتم مثل الصاب

ما مثله ورد

أي طرفي الذراف

مالك لا تهدا

فالحلم الرفاف

أشرق وامتدا

والزمن المخلاف

لا ينجز العهدا

من طبعه الإجحاف

إن خشي اشتدا

في هزله مسراف

لا يعرف الجدا

دعني من التسكاب

فهمي المجد

وخافقي وثاب

قد شاقه الخلد

دمشق

أمجد الطرابلسي

ص: 58

‌في الأدب الفرنسي

زهرات من حديقة أبيقور

الحقيقة

هذه الحكمة اليونانية القائلة (أعرف نفسك بنفسك) هي لعمري طيش شديد وجهالة كبرى!! فلن نستطيع أبداً أن نعرف نفوسنا ولا نفوس غيرنا من البشر. وأنه لينبغي التيقن من ذلك والأيمان به، فأن خلق العالم أدنى صحة وأقل استحالة وأكثر إمكاناً من فهمه وعرفانه. لقد شك بها (هجل) بعض الشك، ومن القريب المحتمل أن يخدمنا العقل في يوم من الأيام بإبداع كون جديد، فأما الكشف عن مفهوم هذا الكون وتبين كنهه فذلك ما لا سبيل إليه، ولا قدره لأحد عليه. والأولى بنا أن نسئ استعمال العقل ونمعن في الجور وسوء التصرف به، بدلاً من أن نتخذه آلة لتحري الصواب ومعرفة الحقيقة. وحتى استخدامه للحكم والقضاء كما يتطلب العدل ويرتضيه الناس فأنه ضعيف ضئيل لا يجدي نفعاً كبيراً، وإنما يصلح العقل للتسلي بتلك الملاهي، وهي أكثر تعقيداً وغموضاً من الشطرنج، المسماة ميتافيزيك. علم الأخلاق. علم الجمال، ولعله جدير بالرضى والإعجاب حين يقتطف من هنا وهنالك قليلاً من النتوء أو بعضاً من الوضوح في الأشياء، ثم يتمتع بألوانها وأصباغها من غير أن يفسد تلك اللذة البريئة الخالصة بالتفكير الكلي الشاملوالاندفاع وراء الحكم والقضاء.

أدب الحياة

مادام معنى الجمال لا يدرك مستقلاً عن حدود الزمان والمكان فأني لا أشرع في استساغة آثار الفكر والتلذذ بمنتوجات العقل إلا حين أكشف عن وجه اتصالها بالحياة ولصوقها بها، وهذه الصلة هي التي تجذبني إليها وتأسرني عن قراءتها. فجرار هيارليك الضخمة حببت إلي (الإلياذة) كثيراً، وإذا كنت أتذوق (المهزلة الإلهية) وأسيغ حلاوتها جيداً، فلأني أعرف حياة فلورنسا، وأدرك الحال التي كانت عليها هذه المدينة في القرن الثالث عشر. أنا لست أفتش في الفنان إلا عن صورة الإنسان! وما عسى أن تكون القصيدة الجميلة الرائعة غير البقية الباقية من جثمان الشاعر؟ إليك هذا القول العميق يرسله جيتيه (الآثار التي تخلد دون غيرها هي آثار الظروف والأحوال) لكن الآثار الفنية لا يمكن أن تكون إلا آثار الظروف

ص: 59

والأحوال لأنها إنما ترتبط جميعها بالمكان والزمان اللذين أبدعاها وكونا عناصرها. ولسنا نستطيع تفهمها ولا محبتها إذا كنا نجهل الزمن الذي أنشئت فيه والمكان والشروط الاجتماعية التي أحاطت تكوينها.

الحق إن البلاهة المتعاظمة الصلفة إنما تبرز في القول بالإنتاجالفني المستقل. فالثمن الذي يدفع غالياُ للمؤلفات الرفيعة العالية إنما هو ثمن العلاقات التي تربطها بالحياة. وأنا كلما تبينت هذه العلاقات وكشفت قوتها أشتد هيامي بالأثر الفني أستسيغه وأستمرئه.

القمار

يلعب المقامرون كما يحب العشاق ويسكر الشراب مرغمين مجبرين. يلينون لقوة رائعة لا تقاوم، ويستكينون للنوازع الجامحة العمياء! وفي الناس من وقف نفسه على القمار ونذرها للعب، على نحو من يقف نفسه على الهوى وينذرها للتصابي والغرام. ولست أدري الذي ابتدع قصة ذينك الملاحين المقامرين تذيبهما نيران اللهو، كاد الملاحان يغرقان ثم طوحا بجسميهما وسط المغامرات الخطيرة، ولم ينجهم من الموت المحتوم غير الطفرة إلى ظهر حوت، فما لبثا أن انتزعا من الجيوب الزهر والفنجان، ثم راحا يلعبان!

هذه القصة أصح من الحقيقة وأشد منها ثبوتاً، وكل مقامر مدنف إنما هو ملاح على طراز من ذكرنا. والواقع إن في القمار معنى من معاني الرهبة، يهز أعصاب الشجاع، ويثير في نفسه ألوان الاضطراب والقلق. فليس اختبار الحظ غبطة يسيرة معتدلة، وليس ارتشاف حياة طويلة عريضة ذات أشهر وسنين مليئة بالخوف والرجاء، بالألم والأمل - ليس ارتشافها في هنيهة من الزمن لذة ضعيفة هامدة لا تثمل، أذكر إني كنت دون العاشرة من عمري حين قرأ علينا المسيو غريبيني، أستاذ الصف التاسع، حديث الإنسان والجنية. وبالرغم من طول البعاد وتقادم العهد، فأني ما أزال أعيه وأتمثله كأنما هو حديث الأمس القريب: إن جنية ماكرة دفعت إلى طفل صغير خيطاً طويلاُ قد لف بانتظام حول نفسه ثم قالت له (هذا خيط عمرك فألمسه وحين تريد أن يمضي الزمن لتستشرف له وتحيا فيه فأشدد الخيط فأن الأيام والليالي سوف تمر أمام ناظريك وتكر متتابعة في إسراع أو بطء حسبما تشد الخيط في قوة أو فتور. وما دمت لا تجذب هذا الخيط فإنك تبقى من الوجود في الساعة التي أنت فيها) فأخذ الطفل الخيط الملفوف فجره قبل كل شئ ليفلت من طور

ص: 60

الطفولة ويغدو رجلاً رشيداً، ثم جره ليتزوج ممن أحب، وما زال يجره حتى رأى أولاده تنمو، ونفسه تبلغ أسنى المراتب، وتنال المال الوفير والمجد الرفيع، ثم جره ليجتاز آلام الشيخوخة ويجتنب ثقل وطأتها وأمراضها. . وا أسفاه على هذا العود الأملد النظير! لقد عاش الطفل أربعة أشهر من بعدها ستة أيام على زيارة الجنية له.

لعمرك قل لي ما حد القمار إذا لم يكن الفن الذي يستبق أحداث الطبيعة العاقلة، ويشد تقلبات الأقدار المتئدة التي لا تبرز إلا في سنين وسنين! أليس القمار هذا الفن العجيب الذي يجمع في لمحة من الزمن مختلف الأهواء والميول المنتثرة بين حياة الناس البطيئة الراكدة؟ بلى! إنه سر الوجود ومعنى الحياة نتذوقها في مدى قليل من الثواني القصار، فهو يطاول القدر ويسايره جنب إلى جنب ولعله يشبه صراع يعقوب مع الملك، أو ميثاق الدكتور (فوست) مع الشيطان.

المال مادة القمار؛ ونقصد إنه العلة الضرورية المباشرة ومن يدري! لعل الورقة التي تستبطن، أو الكرة التي تتدحرج، تنفح المقامر اللاعب بالحدائق الجميلة، والحقول المزروعة، والأحراج الفخمة، والقصور المشيدة تشق السماء أبراجها الدقيقة. هذه الكرة المتدحرجة إنما تضم في اطوائها الأراضي الخصبة الواسعة، والدور العامرة تلمع مداخنها المنحوتة في مياه اللوار، إنما تضم كنوز الفن وعجائب الذوق، وجواهر غالية طريفة، ونفوساً كان يظن أن ليس إلى بيعها من سبيل. وعلى الجملة تضم مطارف الزينة والمجد، وشديد القوى ونافذ الأسلحة، ماذا أقول؟ إنها تضم شيئاً أثمن من هذا كله بكثير: تضم الأماني والأحلام، أفتريد بعد هذا ألاّ يلعب المقامرون وألاّ يلهو الهازلون. .؟؟ ولو أن القمار لا يبعث غير الآمال الكبار ولا يبدي إلا بسمة عينيه الخضراوين، لكان الميل إليه خفيفاً نحيفلاً، ولكنما أظافره مصنوعة من ماس، يروع، ويخلع البؤس إن شاء، والحياء حين يريد. . ومن هنا كان القمار إلهاً تقدم له فروض الطاعة ومراسيم العبادة:

يكمن الخطر في الأهواء الملحة العنيفة، أرأيت غبطة شديدة ليس يصحبها خمار أو يعقبها دوار، وإنما تسكر اللذة قد خالطها الفزع، وهل يخيف شئ في الوجود أكثر مما يخيف القمار؟ إذا أعطى أدهش، وإذا أخذ فتش. منطقه يباين منطقنا، فهو أصم وأبكم وأعمى، قادر على كل شئ كالإله، له عباده وقد يسوء الذين يحبونه لذاته لا لثوابه، وأكثر ما

ص: 61

يعبدونه حين ينزل بهم عذاباً أليماً، وقد يعريهم مما يلبسون، فيعزون النقص إليهم دونه، ثم يقولون (لقد أخطأت كثيراً في لعبي)

وا رحمتاه لهم! يتهمون أنفسهم ثم لا يكفرون

حمص

محمد روحي فيصل

ص: 62

‌العلوم

ماء جديد أيضا

للدكتور احمد زكي

ذكرت في العدد ألا سبق من الرسالة ما كان من أمر الماء الثقيل، وقد سألني سائلون الزيادة من ذلك فها هي: -

ان الماء الثقيل يختلف كل الاختلاف عن الماء العادي في خواصه:

الماء العاديالماء الثقيل

درجة السيحانصفر + 3. 8

درجة الغليان100 101. 42

الوزن النوعي

في درجة 251 1. 1056

الدرجة التي عندها

يبلغ اكثر كثافته + 4 + 11. 6

فمن اجل هذا، ومن اجل أن الأيدروجين في الماء الأخف يختلف عنه في الماء الأثقل اختلافا بينا، اقترح الكيمياويون الأمريكان لهذا الأيدروجين الأثقل اسما جديدا فأسموه ديوتيريوم واقترح له الأستاذ المعروف اللورد رذرفود اسما غير هذا لاعتبارات كثيرة فاسماه وكلا الاسمين ثقيل على السان العربي.

ولعل الثاني أخف وطأة من أخيه، وقد اشتركا في حرفهما الأول فصار رمز هذا العنصر الجديد هو حرف يصبح الماء الثقيل أكسيد الدبلوجين.

وقد قدر الباحثون مقدار الدبلوجين في الأيدروجين العادي وقدروا مقدار أكسيد الدبلوجين في الماء العادي فاختلفوا اختلافا كبيرا، وكان الاختلاف لأسباب، مثالها انهم اعتمدوا في أحد هذه التقديرات على طيف الأيدروجين، وكان أيدروجينا حضروه بطريقة التحليل الكهربائي للماء. فكان دبلوجينه لاشك قليل لان أكسيده أبطأ تحللا بالكهرباء من الماء.

فخرج الحساب بنتائج واطئة المقدار. ومن هذه النتائج الواطئة النسبة 1 إلى 25000 التي ذكرتها في مقالي السابق.

ص: 63

واتبع باحثان آخران طريقة أخرى يكفلان بها تحلل الماء كله تحللا كهربائياً كاملاً، ثم اختبروا طيف ايدروجينه الناتج، فقدروا ان به من الدبلوجين جزءا في كل 5000 جزء وطبق الأستاذان لويس ومكدونالد طريقة البكنومتر على المائين، العادي والنقي (هكذا أسمياهما) فخرجا على آن الماء العادي يحتوي جزءا في كل 6500 جزء واستخدم الأستاذ اللورد رذرفورد وأصحابه طريقة (القذائف) وفيها قذفوا عنصر الليثيوم بأيونات الدبلوجين وأيونات الأيدروجين، فوجدوا أن جسيمات (ألفا) الناتجة في حالة الدبلوجين لها مدى اكبر 50 في المائة من مداها في حالة الأيدروجين. وهذه طريقة دقيقة يرجون بها أن يقدروا أكسيد الدبلوجين في الأمواه الاصطناعية والأمواه الطبيعية المختلفة، فماء العين لاشك سيختلف عن ماء النهر، وهذا عن ماء البحر، ومياه البحار الطلقة لا شك ستختلف في ذلك عن مياه البحر الحبيسة. وقد وجدوا فعلا أن ماء البحر الميت يكثر مقدار أكسيد الدبلوجين الذي به، وقد قدرت النتائج الأولى هذه الكثرة بالضعف. وهذا ما كان منتظرا لتبخر مائه تبخرا يزيد على غيره من البحار. أما الخواص الكيماوية للدبلوجين ولأكسيده فالأبحاث التي أجريت عنها لا تزال قليلة. ولكنها في مجموعها تشير إلى قلة النشاط الكيميائي في الدبلوجين وفي أكسيده. مثال ذلك انهم حللوا ماء مأخوذاً من المطر بإمراره على الحديد المحمي فوجدوا أن الجزء الأول الناتج من الأيدروجين يحتوي 6000: 1 من الدبلوجين، بينما الجزء الأخير يحتوي 4500: 1 منه. ومثال ذلك انك إذا حللت ماء محمضا بالخارصين فان المتبقي من هذا الماء تزيد نسبة أكسيد الدبلوجين فيه زيادة كبيرة.

أن علمنا بالدبلوجين ومركباته لا يزال قليلا، ومناهج البحث فيه كثيرة والاحتمالات العلمية الذي سيتمخض عنها الغد لاشك جليلة. قال الأستاذ الورد رذرفورد (لقد فتح هذا الكشف لنا باب كيمياء جديدة وبليجة جديدة)

احمد زكي

ص: 64

‌ماء جديد

حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء

تحية واحترام وبعد، فقد قرانا فيما قرأناه من موضوعات شيقة آخر ما صدر من أعداد الرسالة فصلا قيما كتبه حضرة الدكتور احمد زكيفي باب العلوم بعنوان (ماء جديد) فهمنا منه أن البحث قد كشف أخيرا عن وزنين مختلفين لذرة الأيدروجين كما كشف قبلا عن مثل ذلك في الزئبق وغيره من العناصر، وانه ظهر على اثر ذلك أن الماء العادي يشمل على كم صغير جدا من ماء ثقيل شديد التركز مؤلف من ذرات الأيدروجين الثقيلة وذرات الأوكسجين وقد ذهب الدكتور الفاضل إلى أن هذه الحقيقة الأخيرة قد أظهرت خللا في الأسس المقررة لقياس الحرارة ووزن الإثقال وذهب بعض القراء إلى انه يؤخذ من مقال احمد أمين هذا - يريد احمد زكي - أن البحث الحديث قد أدى إلى نتيجة جديدة وهي إن الماء مؤلف من ذرات أيدروجين صغيرة وذرات أيدروجين كبيرة، وانه لا صحة لما كان يقال من أن السنتيمتر المكعب من الماء يزن جراما.

وعندي صاحب المقال لم يخطر بباله عند كتابته انه سيؤدي إلى هذه النتائج الخطرة فهو يقول أن الماء الثقيل يتجمد في درجة 4 تحت الصفر ويغلي على درجة 101 ويعد هذا دليلا على فساد أسس علم الحرارة، ثم يسال بأسلوب يلقي الريب في ذهن القارئ عن الجرام وهل وزن السنتيمتر المكعب من الماء الخفيف أو من الماء الثقيل؟

والصحيح أن الحقائق التي كشفها البحث وأشار إليها الكاتب لا تمس مقاييس الحرارة والأوزان من قريب أو بعيد. فالعبرة فيها كانت وستبقى في الماء النقي العادي، أو أن شئت الطبيعي، سيتجمد دائما في درجة الصفر ويغلي على درجة المائة ويزن السنتيمتر المكعب منه جراما لا غير في درجة معينة من الحرارة.

وما شان الماء الخفيف وحده والماء الثقيل وحده بعد ذلك في أمر الحرارة والثقل إلا نفس الشأن الذي لغيرهما من السوائل

فالماء النقي العادي سيظل كما هو أساس مقاييس الحرارة والأوزان. وأما ما ذهب إليه بعض القراء من الخلط بين الأستاذ الكاتب وزميله الأستاذ احمد أمين فمرده فيما أرى إلى تناول الكاتب موضوعاته العلمية بأسلوب كأسلوب زميله الأديب الكبير

ص: 65

واغلب الظن أن النتيجة العجيبة التي طفر بها إليها هذا البعض من تكون الماء من أيدروجين صغير الذرات وأيدروجين كبيرها تقع تبعتها على هذا الأسلوب الأدبي الممتع نفسه. . . . .؟

الإسكندرية

(م. ا.)

ص: 66

‌تعليق

أقرأني صديق الأستاذ الزيات اعتراض الكاتب الفاضل م. ا. وأرى انه إذا كان حضرته يريد القول بان هذا الكشف الجديد لا يؤثر في وزن السنتيمتر من الماء مطلقا، أو على حسب تعبيره (من قريب أو بعيد) فهو لاشك مخطئ، لان الأمواه تختلف نسبة الماء الثقيل فيها اعني أكسيد الدبلوجين، وإذن تختلف كثافتها.

ولو رجع إلى مقالي الثاني المنشور بهذا العدد من الرسالة لوجد بعملية حسابية أن هذا الاختلاف يتناول من كثافة الماء الرقم العشري الخامس، وأرجو أن يكون عالما بان من الموازين الحساسة ما يحس بزنة الرقم العشري الثامن من الجرام، ومن اجل هذا أمكن العلماء باستخدام طريقة البكنومتر، وهي تعتمد على تفريق بين الكثافات بالوزن، في تقدير ما بالأمواه من ماء ثقيل - وان كان الكاتب الفاضل يريد أن يقول أن هذا الاختلاف بسيط لا يؤثر في التجارب العلمية المعتادة فهو لاشك مصيب، فان الموازين العادية بالمدارس تزن إلى جزء من عشرة آلاف من الجرام، أي تصل إلى الرقم العشري الرابع فقط. وهذا هو عينه الذي قررته في مقالي الذي يعترض عليه. فقد قلت فيه (على ان هذه الاختلافات لا تؤثر في حوائج العلم العادية)

أن الكاتب إذ كتب في الأدب قد يذهب به الخيال عن الدقة، وقد يغتفر له ذلك، أما إذا هو كتب في العلم وجب أن يكون أول ما يقصد إليه الدقة في التعبير ويزداد هذا الواجب وجبا إذ هو حاول أن يتكلم عن العلم لغير علمين، فاضطر إلى استعارة شيء يسير من لغة الأدب، وهذا ما نأخذ به دائما. ولكن على القراء كذلك واجب التدقيق عند القراءة. فصاحبنا الذي خلط بين احمد أمين واحمد زكي كان من الطبيعي أن يخلط في فهم المقال. وحضرة الفاضل م. أنفسه لاشك قرا المقال بسرعة، فانه روى على ان الماء الثقيل يتجمد في درجة أربعة تحت الصفر والذي كتبته ونشر في المقال كان (في نحو درجة أربعة) ومعناها بالطبع فوق الصفر لا تحته.

احمد زكي

ص: 67

‌القصص

الميتة. . .

بقلم الكاتب القصصي (جي دي موباسان)

ترجمة الأستاذ خليل هنداوي

أحببتها حتى غلب علي فيها الذهول، ولماذا أحببتها؟ أغريب شأني إذا لم تر عيناي إلا كائنا واحدا، ولم تحمل نفسي إلا فكرة واحدة، ولم ينطوي قلبي إلا على أمنية واحدة، ولم يتسع فمي إلا لاسم واحد؟ ذلك الاسم الذي يصعد من فمي تكرارا. من أعماق روحي مرارا، كأنه ينبوع متفجر. أقوله وأعيد فيه القول ثانية وثالثة كأنه صلاة اذكرها وارددها.

لن أقص عليكم ما غشيني في هذا الحب، ومتى كان للحب حكايات متعددة، ورواياته في كل زمان ومكان واحدة. قد رايتها واحببتها، وهذا كل ما في روايتي.

قضيت زمنا - ويا حبذا ذلك الزمن - يغمرني عطفها، وتحوطني بذراعيها، وتشبعني نظراتها، ورداؤها وكلماتها. بل فنيت فيها حتى غلب علي الذهول فأصبحت لا ادري: أذلك الليل أو النهار يحيط بي؟ وأنا في قيد الحياة أو في سجل الأموات؟ وهل أنا على أرض غير الأرض؟

والآن ماتت، فكيف سطا عليها الموت؟ لا ادري. . لا اعلم، دخلت علي أمسية ليلة من ليالي الشتاء مبللة الأثواب فنامت، فتيقضت وهي ترسل السعال ملحة فلزمت سريرها مضطرة.

وبعد ذلك لا اعلم.

الأطباء حشدناهم من كل صوب. فكانوا يقدمون ويكتبون ويذهبون. والعلاجات تنهال عليها وإزاءها امرأة ترعاها. يدها حارة الملمس. وجبينها متوقد. ونضرتها ساطعة، لكنها كئيبة.

أكلمها فتخاطبني، ولكن ماذا قلنا؟ لا أعلم. . قد نسيت كل شيء. . كل شيء. إنها قضت ولا أزال اذكر تنهدتها الخفيفة وأنتها الضعيفة.

وقد صاح من خولها (آه) ففهمت أن الأمر انقضى.

لم اعد اعلم شيئا. .

ص: 68

لمحت كاهنا يخاطبني بهذه الكلمة: أمعشوقتك؟ فخيل الي انه ينال منها، - وهو بعد موتها - يجب عليه ألا يعرف شيئا من هذا فنفيته من دارها وطلبت غيره، فخف إلى كاهن طيب السريرة.

رقيق النفس، حدثني عنها فغلب علي البكاء.

أمسيت لا أعرف شيئا، ولكني اذكر الأكفان والناووس الذي ووريت فيه إلى الأبد.

نزلت في التراب، وجاء معها بعض صواحبها، وأخيرا انطلقت وطفت في السبل شاردا، وعدت أدراجي، وفي الغد الباكر حملت نفسي على الرحيل

وبالأمس دخلت باريس. . .

ومذ وقع ناظري على غرفتي. . غرفتنا وسريرنا ومتاعنا. وكل ما يخلفه الميت وراءه، شعرت بان أنفاسي تضيق، وبان كآبة تتمدد في إحناء نفسي فتزيد صدري حرجا. وتبعثني على إلقاء نفسي من النافذة. . . لم استطع البقاء طويلا في هذه الغرفة التي تتراءى لي فيها محبوبتي، فاسرعت عازما على الخروج فوقع ناظري على تلك المرآة المصقولة التي كانت تقف إزاءها ناضرة إلى وجهها وجسدها كل يوم، تتقن زينتها تجاه هذه المرآة التي كان رسمها ينعكس فيها، ولا يزال يتراءى على صفحتها فأدركتني رعشة عميقة، وعيني خلال ذلك لا تبرح المرآة العميقة الفارغة التي احتوتها - قبل اليوم - فخيل إلي أنني احب هذه المرآة فلمستها فإذا هي باردة. . .

ولكن الذكرى، الذكرى!! المرآة الملتهبة المعذبة.

إلا انهم سعداء، من تشبه قلوبهم هذه المرآة ترتسم عليها الضلال ثم تمحى. وتنسى كل ما ارتسم عليها وارتسم فيها.

برحت مكاني وأنا غير مختار. ولا اعلم أية وجهة اسلك!؟ فدخلت المقبرة فألفيت ضريحها المنفرد يشرف عليه صليب رخامي نقش تحته

(إنها أحبت وكانت محبوبة ثم ماتت. . .)

إنها تحت هذا الضريح قد عبث فيها الفساد! مكثت هنالك طويلا خاشع الرأس حتى واتى المساء، ولكن خطرة غريبة صعدت من نفسي هي خطرة عاشق يائس تحدثني وترغمني على قضاء الليل بجانبها ذاكراً باكياً، ولكن الناس سينظرون إلي وسيطردوني فما عسى

ص: 69

اصنع؟ نهضت وأبديت لمن يراني إنني ضال بين القبور، فسرت وأمعنت في السير، ولكن ما أضأل مدينة الموتى إزاء غيرها من مدن أهل الحياة، والموتى ينيف عددهم على عدد الأحياء.

يتخذ القصور الشامخة والدور الباسقة والسبل الفسيحة أبناء النور، وشاربو الينابيع، وراشفو ابنة الأعناب، وآكلو سنابل الحقول، أما الموتى الذين تحدروا إلى أعماق الثرى وما زالوا ينحدرون. أولئك لا ينالون شيئا. . . رقعة من الثرى تضمهم والنسيان يطوي أسماءهم ووداعاً.

في زاوية من زوايا المقبرة الآهلة بسكانها وقع ناضري على المقبرة العتيقة التي اختلط رفات أصحابها بالتراب، واتى على صلبانهم الهلاك. وغداً سيبدل الأحياء بالنازلين القدماء، نازلين محدثين.

كان يغشى تلك المقبرة ورود منتشرة، وأوراق سوداء، كأنها حديقة كئيبة سامخة تغذيها لحوم الموتى.

آويت إلى جذع شجرة تواريت به عن الناس. ولبثت مرتقبا قابضاً على الجذع كما يقبض الغريق على بقية من بقايا زورقه المحطم حتى مد الظلام رواقه، فغادرت مكاني وطفقت أطوف متمهلا بين اللحود

ضللت كثيراً وأنا أتلمس قبرها. فكنت أسرى باسطاً يدي. وفاتحاً عيني، وواثباً بين القبور على غير هدى، فكم قبور لمحت، وكم رسوم وقفت عليها كأعمى يود أن يهتدي إلى سبيله فلمست حجارة وصلباناً. وأكاليل ذوت ازاهيرها، واكاليل من زجاج. وتلوت أسماء كثيرة بيدي ولكنني لم أجدها.

لا قمر في السماء يزيح هذه الظلمة الداجية.! وياله من ليل بعث في نفسي الهول. أغشى الطريق تغمر جانبيها القبور. القبور عن يميني والقبور عن شمالي. والقبور أمامي وورائي. أعياني السير فاستويت على ضريح فسمعت خفقان قلبي وسمعت شيئا غير خفقانه.

ماذا اسمع؟ أهذه وساوس تعيث في رأسي؟! وهذه أسماء تتصاعد من الأرض الطافحة بأشلاء بني الإنسان؟

ص: 70

كم مضى علي من الزمن وأنا لابث في مكاني؟ لا أعلم: ولكن الخوف قابض على قلبي بكلتا يديه لا يبرحه. همت باكيا أصيح، وأوشكت أن اقضي نحبي.

فجأة شعرت بأن لوح الضريح الذي تخذته مقعداً لي بدأ يتحرك كأن شيئا تحته يزيحه، فنعدت عنه مذعوراً وإذا باللوح يمشي. . . وصاحبه ينتصب بهيكله العظمي. أزاح بظهره المقوس لوح الضريح فألقاه على الأرض

فتلوت على اللوح برغم حلوكة الليل: (هاهنا يرقد (جاك اوليفان) المتوفى في الخمسين من عمره. كان باراً بأبويه: وكان صالحا شريفاً. ومات تحت كنف الله)

رأيت الميت يحدق في هذه الكلمات ثم جاء بحجر مسنون يمحوها حتى لم يبق لها من اثر. ثم اخذ ينظر مكانها وتناول عظمة من عظامه وسطر عليها بأحرف بارزة (هاهنا يرقد جاك اوليفان المتوفى في الخمسين من عمره. قد عجل موت والديه لعقوقه، وأضنى امراته. وعذب أولاده وخدع جيرانه وسرق ما استطاع ومات فقيراً).

أتم الميت تسطيرها وظل يتأمل فيها، وغادرت مكاني فإذا القبور جميعها متفتحة، وسكانها جميعا بعثوا من مراقدهم، ومحوا الصفات الكاذبة التي سطرها أهلوهم على لوحات قبورهم، ونقشوا مكانها حقائقهم المجردة، فوجدت أن جميع هؤلاء الآباء الصالحين والزوجات الأمينات، والأبناء الطاهرين، والغواني العفيفات، وأن هؤلاء التجار المستقيمين، منهم العاق والبغيض، واللئيم والمرائي، والكاذب والحاسد والنمام، ومنهم السارق والخادع، والمرتكب كثيرا من الآثام. رايتهم جميعا منكبين على منازلهم يسطرون حقيقة أنفسهم التي يجهلها أو يكاد يجعلها أبناء الحياة.

شعرت - إذ ذاك - بان محبوبتي خطبها خطبهم، فجعلت إليها نافضا عني الخوف، ومن حولي القبور المفتوحة. والجثث المنشورة والهياكل المنتصبة. عرفتها إذ لمحتها، ولم أتوسم وجهها المتصبب عرقا. وعرفت القبر الذي كانت هذه الجملة مسطورة عليه (إنها أحبت. وكانت محبوبة ثم ماتت).

تلوت هذه الجملة الثانية (خرجت يوما لتخون حبيبها فأصابها برد أودى بحياتها)

ويبدو لي انهم عثروا بي راقدا عند شروق الشمس على أحد القبور

خليل هنداوي

ص: 71

‌في المزرعة

بقلم إيفان بونين

كان ذلك الوهج الوردي الفاتر المنبعث من الغروب الداوي يغادر السماء متلكئا متباطئا. وتوارى الضوء شيئا فشيئا بين جحافل الظلام التي أخذت تخيم فوق مزارع الغلال الفسيحة المترامية. ثم أمعنت تلك الجحافل في الزحف حثيثا على القرية. . بعد أن أرسلت بعض النوافذ الصغيرة في جدر الأكواخ وميضا نحاسيا خالبا يستبي اللب. كان المساء هادئا ساكنا. قد حشدت قبل قليل قطعان الماشية في حضائرها، واحكمت دونها الرتج والإغلاق. وآب أهل القرية من عملهم المضني فتناول كل عشاءه على الحصباء قبالة أكواخهم ثم غرقوا في صمت ساهم عميق. لا صوت لغناء ولا صرخة لطفل

كل شيء كان يحلم حلمه المسائي. وكان الكابتن ايفانيش وقد جلس إلى نافذته المفتوحة يحلم أيضاً.

كانت (عزبته) فوق رابية آجام واطئة من الاقاقيا والليلاك تحتها انجم كثيفة ملتفة مشتبكة من القراص والحماض تنحدر إلى اسفل في اتجاه الوادي. ومن النوافذ تستطيع العين ان تقطع مسافات شاسعة فوق تلك الأيك والإحراج البالغة مكانا قصيا.

كانت الحقول ساكتة صامتة تحت ذلك الغسق الشاحب، قد انقطعت فيها الحركة. والهواء جافا دافئا عليلا. والنجوم في السماء ترتجف بإستيحاء وفي غموض مبهم كأنما تخفي في باطنها أسراراً لا تدرك وأحاجي لا تحل.

ليس هناك تحت النافذة إلا بضع جنادب دائبة في صريرها المتشابه من غير كلل ولا ملل، وهي في مكامنها تحت عساليج القراص وإلا صيحات السماني المتزنة الآتية من السهل النائي البعيد.

كان الكابتن ايفانيش وحده، كدأبه دائما. لقد كتب له أن يعيش وحيدا يقاسي آلام الوحدة ما بقي حياً.

كان أبواه لا يملكان شيئا، يعيشان في بيت الأمير (نوكايسكي) ماتا إبان طفولتهولما يبلغ من العمر سنة واحدة. قضي أيام طفولته وفتوته في بيت عمة له مخبولة وفي مدرسة أبناء الجنود. كان في شبابه ينظم الأغاني ناسجا فيها نسج ديلفك وكولتسوف. نظم في قصائده

ص: 73

الغرامية الكثير عن (هي) المعهودة.

وما كانت (هي) المعهودة إلا (آنا) ابنة موظف في مكتب (تسجيل العقود) في القرية، لكنها ما كانت تحبه كما يحبها. كان اهل القرية يقولون عنه انه يشبه (السيد) ولكن ليس فيه شيء يسترعى النظر.

هو نحيف طويل بعض الشيء. قد صار يوما بتأثير الأمير ملازما في الجيش ثم ورث عن عمته نقودا واستقال من وظيفته أما (هي) فقد ذهبت لتقيم في بيت صديق لها وتزوجت واقفل هو مكتبه على قصائده الغرامية حيث ظلت وستظل إلى يوم موته.

أنشأ يشتغل بالزراعة وحاول العمل في مكتب الحكومة في القرية ولكن لم يسعفه الجد.

ومرت الأيام وانقضت الشهور وتعاقبت السنون، واصبح فلاحا حقيقيا: سترة طويلة تصل إلى ركبتيه وشاربان طويلان أسودان، على انه ما كان يعلم إن وجهه المنضمر المغضن بعض الشيء وما كان يعلوه من إمارات الحنو كان جميلا جذابا.

انه اليوم حزين مكلوم. وجاءت إليه في الصباح خادمة (اكرافية) التقية الورعة وذكرت له بين ما حدثته به (أتذكر السيدة (آنا) يا سيدي؟

- فأجابها الكابتن ايفانيش. نعم

فقالت له ماتت ودفنت في خلال أيام الصوم.

وبعد هذا لبث الكابتن ايفانيش طول يومه مرتسمة على شفتيه ابتسامة مضطربة غامضة. وفي المساء، وما أهدأ ذلك المساء وما اشده سكونا، وما أعمقه كآبة - لم يتناول عشائه ولم يذهب إلى فراشه مبكرا كعادته. بل تناول في يده لفافة غليظة من تبغ اسود قوي وظل جالسا إلى نافذته واضعا ساقيه الواحدة على الأخرى.

أراد أن يخرج من البيت ويذهب إلى مكان ناء، ولكنه سال نفسه: إلى أين؟!. أيذهب لصيد السمان؟ ولكن لم يبقى وقت لذلك، ثم ليس هناك من يرافقه. أيذهب؟ أم لا. . . لم يرق له صيد السمان. تنهد وخبط بيده ذقنه غير الحليق.

ثم قال في نفسه (ان حياة الإنسان لقصيرة ضنينة).

أترى الحقبة طويلة من يوم كان فتى في ميعة الشباب حتى الآن مدرسة أبناء الجنود - حسنا إنها ولت. . . إلى حيث لا رجعة. . . قر وسغب ولغب - أسفار إلى عمته، ما

ص: 74

أغربها من عمة. ما اشد شذوذها وغرابة أطوارها. هو يتذكرها جيدا، حتى لكأنها الآن ماثلة أمام عينيه - عجوز بكر هيفاء نحيلة. لها شعر اشعث، اسود فاحم، وعينان دعجاوان شاردتان ذاهلتان. كان يقول عنها أهل القرية إنها قد أصابها الخبل من حادث غرامي لم توفق فيه. . . هو يتذكر كيف كانت تحفظ جيدا بعض أساطير فرنسية جريا على عادة كانت في ذلك الحين متبعة في مدرسة ليلية من طراز قديم، وكيف كانت تكررها مرة بعد أخرى. ويذكر أيضا كيف كانت تضرب على البيان لحن (بولوني أو كينيكسي). لقد كانت تلك الأغنية تبدو مخيفة غريبة، لأن السيدة العجوز كانت تغنيها من غير عاطفة ولا شعور

أوه - تلك الأغنية (بولوني أو كينيسكي). . . (هي) المعهودة أيضاً كانت تحسن غنائها وعزفها على البيان.

والآن أخذت النجوم في السماء تبعث بصيصا ضئيلا من نور خافت وتتلألأ تلألؤاً سحرياً لا تدركه الأفهام.

وطفقت الجنادب تسبح بصريرتها تسبيحتها الواهنة الوانية، لا تلبث تفتر حتى تهتاج من جديد في هدوء المساء وسكون الطبيعة. . . هناك بيان عتيق. هناك في تلك الغرفة الداخلية. النوافذ مفتوحة لولا أن (هي) المعهودة تدخل الآن في الغرفة، خفيفة الظل كالطيف وتعزف عليها، تمس مفاتيحها العتيقة المغبرة. . . ومن ثم يذهبان معا إلى هناك. . . إلى هناك باستقامة واحدة. . . يمران من تلك الطريق الضيقة بين الجويدار الكثيف. إلى اين. . . إلى بعيد، حيث الضوء ينبعث في الأفق الغربي.

كبح الكابتن ايفانيش جماح أفكاره وابتسم قائلا بصوت مرتفع (لقد ذهب الخيال معي إلى بعيد. . .)

كانت الجنادب تصدح بإنشودتها في نسيم المساء الهادئ البليل ومن البستان يعبق شذا الأرقطيون المحمل بالطل. وأريج زهرة الفجر ورائحة القراص المخضل المنعشة، فتختلط كل هذه الأرواح العطرة في الفضاء وتتجه شطر الأنوف كأنما تنتوي نية أو تبغي بغية. . . هذه العطور الزكية ذكرته بمساء كان قد رجع فيه من المدينة في ساعة متأخرة؛ وكيف ظل يفكر (عنها) يخدع نفسه ويمنيها بآمال السعادة والهناء. . .

ما كنت ترى في القرية نافذة تشع، ساعة ساق عربته إلى أعالي الرابية. كل شيء تحت

ص: 75

تلك القبة السماوية الصاحية السلسبيل الزاخرة بالكواكب كان غارقا في سبات عميق. . . ليالي إبريل مظلمة دافئة من البستان كانت تفوح رائحة الكرز المزهر. والضفادع تنق وسنانة في البرك - فتبعث بموسيقى ضعيفة هزيلة من النوع الذي يسمع عادة في آخر هزيع من ليالي الربيع عندما يدنو الصباح. ظل زمناً طويلاً قبل أن يعقد أجفانه الكرى، استلقى في نومة عميقة فوق الحلفاء في الكوخ بالبستان. قد لبث ساعات يمشي الهوينى على سراب جار تحول من بعد إلى سحابة بيضاء شفافة متألقة من الأحلام البعيدة النائية. ولكن هناك جاءت من بركة ليست في الحسبان بعد حين صيحة مالك الحزين - كأنها لغز أو سحر، والظلام الحالك - الظلام الذي ضرببجرانه فيطرقات البستان الضيقة هو أيضاً بدا كاللغز أو السحر. وبعد ذلك، قبيل الفجر فتح عينيه واستنشق ملأ رئتيه نسمات البستان الندية الباردة المحملة بالعطر. ومن خلال الكوة المفتوحة قليلاً أطلت عليه نجوم الصباح اللامعة مضطربة قلقة. استفاق الكابتن إيفانيش من هواجسه واستوى قائماً. وراح يطوي أرجاء الدار ترجع الجدر أصداء خطواته، وينحني بلاط الغرفة هنا وهناك تحت قدميه مرسلاً صوتاً متزناً كأنما هو يئن تحت وطئهما أنين الألم.

(ثمانون عاماً عمر هذه الدار) قال في نفسه (لأستدعين الفعلة في الخريف سيكون البرد فيها في الشتاء المقبل قارساً لا يطاق). وفيما كان يتمشى جيئة وذهاباً كان يشعر إنه أضحى الآن أعجف سمجاً - هو طويل نحيل منحني بعض الشيء. ظل كذلك يجيء ويغدو ثم رفع حاجبيه وهز رأسه وغنى الغناء (البولوني). أحس إنه يرقب خطواته الخاصة - ينظر إلى نفسه - فقدم نفسه إلى نفسه على إنها رجل آخر يهيم في أرجاء الدار - رجل حزين قد أمضه الحزن وأرمضتقلبه الكلوم. حمل كنانته وخرج من الدار.

كان الضوء خارج الدار أكثر من داخلها، ولا يزال ضوء الغروب الشاحب الذي توارى خلف القرية يرسل على مزارعها بصيصاً ضئيلاً باهتاً. وبخطوات ثقيلة مرتبكة جاز رقعة من الأرض مفروشة بفراش من القراص انتهى منها إلى رابية وقف عندها. وبعد أن أشعل غليونه وقف على صخرة هناك ثم قال في نفسه (أراني جالساً كالبوم على سفح الجبل) وسيقول الفلاحون عني هناك. . . إن الشيخ لا عمل له. . . نعم لقد أمسيت عجوزاً (ألم تبت (أنا). . . حتى لكأنها لم

ص: 76

تكن) أين ذهب كل ذلك. . . كل ذلك الماضي

كم ظل محدقاً ببصره في الحقول النائية كم ظل مصيخاً بسمعه إلى هجعة الطبيعة وسكنة المساء. . .

قال بصوت مرتفع (كيف يمكن ذلك؟!) كل شيء سيبقى على حاله. الشمس تشرق. الفلاحون يخرجون إلى الحقول حاملين على أكتافهم محاريثهم عاليها سافلها، وسوف لا أرى من ذلك شيئاً - وليس هذا فحسب، بل ولن أكون في هذا المكان أبداً ولو مرت ألوف السنين، لن أعود إلى الدنيا مرة أخرى، لن أجلس جلستي هذه على هذه الرابية. .

لبث زمناً طويلا جالساً جلسته تلك، مطرقاً يسحب شاربيه الأشيبين ويعبث بشعراتهما.

ترى كم من السنين كان الرجل الذي أمامه الآنشيئا خطيراً - بارزاً. . . لقد كان ذات مرة صبياً صغيرا - وكان شاباً يافعاً - ثم هو في يوم قائظ لافح من أيام الصيف قصد بعربته الصغيرة إلى الانتخابات. . . ماراً من طريق عريض رحب

ما اعرض ذلك الطريق!. . .

ابتسم الكابتن ايفانيش إلى نفسه من أفكاره التي تتواثب من شيء إلى آخر.

لكن ذلك كله كان منذ زمن بعيد. . . ممعن في البعد. . . كذلك.

أواه! ماذا يرى الآن أمامه يا لهول ما يرى! قد بلغ زمنا هو كما يقول الناس يصل فيه كل شيء نهايته، سبعون، ثمانون عاماً لا يقدر الإنسان أن يعمر أكثر من هذا - ما هي الحياة البشرية - طويلة كانت أم قصيرة

قال في نفسه: (إن حياتي طويلة على كل حال)

هناك في ظلمة السماء أضاءت نجمة وخرت إلى الأرض. رفع عينيه الحزينتين الكليلتين، وظل يحدق في السماء. وفيما هو يرسل بنظراته في أعماق تلك اللانهاية المظلمة الهادئة الزاخرة بالكواكب، تنهد الصعداء وشعر بالحزن يذهب عن نفسه، لقد عاش هادئاً مطمئناً وسيموت هادئاً مطمئناً. كالورقة في تلك الأيكة تجف وتسقط متى يحين أوانها، إيه، لكل أجل كتاب.

لا تكاد الحقول المترامية ترى في ظلمة الليل الحالكة. اشتدت الظلمة وزاد لآلاء النجوم. وبين الفينة والفينة تسمع صيحات السماني، وأخذت تنبعث من العشب الندي رائحة

ص: 77

منعشة، استنشق الهواء بخفة، وبسهولة ملأ رئتيه، ما أشد اتصاله بهذه الطبيعة الهادئة الساكنة!

بغداد

ترجمة

ع. الحمدي

ص: 78

‌4 - شهر بالغردقة

للأستاذ الدمرداش محمد

مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف

عند آبار البترول

في الشمال من محطة الأحياء المائية وراء الأفق جبل عال تراه من المحطة إذا كان الجو صافياً ناتئاً بالبحر ببروز كبير. كان لهذا الجبل شأن كبير في قديم الزمان عند القدماء: من مصريين ورومان، فامتدت إليه همتهم وقصدوه من وادي النيل عبر الصحراء طلباً في سائل أسود كثيف ذي رائحة شديدة ينضح من جدار الجبل عند سطح الماء - هذا الجبل هو جبل الزيت، وهو سائل هو زيت البترول ولا يزال الجبل ينز بالزيت إلى يومنا هذا. وفي القرن الماضي عثر على الزيت في مغارات بالقرب من دمشة (جمسا) جنوبي جبل الزيت بنحو عشرين كيلو متراً، فدل هذا على وجود الزيت في باطن الأرض بكميات كافية للاستغلال التجاري، فتقدمت لاستغلاله شركة شل الإنكليزية، واستحوذت من الحكومة المصرية على منطقة امتياز في هذه البقعة، وبدأت العمل في مستهل هذا القرن، ثم حفرت أربعة وثلاثون بئراً مكثت تجود بالزيت حتى سنة 1927، ثم نضب معينها فهجرتها الشركة وتحولت إلى غيرها.

ويظهر إن هذا النجاح حفز حكومتنا السنية للبحث عن البترول، فاختارت بقعة جنوبي دمشة بخمسين كيلو متر تعرف بابي شعر، فأنشأت فيها في أوائل هذا القرن أيضاً مرفأ حسناً، وجعلت حوله رصيفاُ لإرساء السفن. مدت عليه سكة حديد ضيقة تربطه بالداخل لمسافة طويلة، ثم أقامت بالقرب من الرصيف المخازن والمساكن لإيواء الموظفين والعمال وجلبت إليهم الفناطيس والماكينات والسيارات والأنابيب، وكلها من أجود أنواع الصلب المتين، ثم أخذت في حفر بئر وقبل أن تتمها بدأت في حفر بئر ثانية على مسافة من الأول وقبل إكمالها توقفت عن العمل فصرفت العمال والموظفين وشونت الماكينات والأدوات وتركت الأبراج قائمة على الآبار إلى اليوم،

وقد زرنا أبا شعرة عصر أحد الأيام وهو قريب من محطة الأحياء المائية، فاستقبلنا بالقرب

ص: 79

من المرفأ الخفير القائم بالحراسة من قبل مصلحة المناجم، وقال هنا في هذا المخزن عربات الترولي وفي ذاك المخزن ست عربات لوري، وهناك الوابورات (ملقحة) وعلى يمينكم بيت المدير والإدارة وعلى يساركم منازل الموظفين والعمال، وعلى رأس السكة فنطاس الزيت، وخلف التل البئر الأولى وفي الوهدة أمامكم البئر الثانية. ثم تقدمنا فتبعناه فشاهدنا برجاً عظيماً من الحديد قد أقيم فوق البئر ولا زالت الأحبال والعدد هناك كما تركها العمال منذ عشرين عاماً ونيف.

وكنت أتخيل الحارس وهو يعد محتويات أبي شعر كأنه الترجمان في منطقة سقارة أو الهرم وهو يرشد السائحين إلى مقابر الفراعنة وآثار الغابرين. وكنت أسائل نفسي في حيرة عن السبب أو الحكمة التي أملت هذا التصرف الغريب وعن العقلية التي أوحت بترك كل هذه الأدوات والعدد وثمنها لا يقل عن سبعين ألفا من الجنيهات كما قال الحارس ملقاة هكذا وسط الرمال طوال هذا الزمن حتى كادت تبلى ما دامت الحكومة قد قطعت الأمل من وجود البترول في هذه المنطقة.

وفي عام 1914 استحوذت شركة شل (أيضاً) على شقة طويلة من ساحل البحر جنوبي أبو شعرة بعشرة كيلو

مترات (فقط) في منطقة الغردقة، ثم حفرت فيها الآبار وأقامت عليها الأبراج وشيدت المعامل والمنازل وما إلى ذلك كما سيأتي وصفه.

وقد توجهنا لزيارة هذه الآبار عصر أحد الأيام برفقة صديقنا الدكتور محمود أبو زيد مفتش مصلحة المناجم وهو مندوب الحكومة لدى الشركة وله الأشراف على تنفيذ اشتراطات العقد بينها وبين الحكومة، وقد استقبلنا لدى وصولنا إلى الشركة وكيل المدير وهو إنكليزي، وبعد تبادلنا التحية أجاز لنا الزيارة، فتوجهنا إلى المعمل الفني ثم إلى منطقة الآبار، ويدير المعمل عالمان لهما دراية خاصة بالجيولوجيا الصناعية فيقدم لهما عينات من أنواع التربة التي تخرج أثناء عملية حفر الآبار فيبحثانها بحثاً مستفيضاً من حيث التكوين والعصر الجيولوجي التي تكونت أثناءه ونوع الحيوانات التي كانت تعيش فيها وهكذا، ثم يعمل بذلك رسم تمثيلي لكل بئر يدل على الترتيب الطبقي للقشرة الأرضية في مكان البئر ونسبة السمك لكل طبقة وغير ذلك من البيانات الدقيقة. ومن هذا الرسم والشواهد الجيولوجية

ص: 80

المحلية يكون في مكنتهما أن يقدما للشركة بيانات صحيحة لدرجة كبيرة من الأمور الآتية

1 -

صلاحيات المنطقة من حيث وجود البترول

2 -

عمق الطبقات الخازنة له

3 -

نوع البترول

4 -

اتجاه البحث عند المشروع في اختيار مكان حفر البئر التالية.

ولهذا المعمل على صغره وسكون الحركة من حوله أهمية كبرى في نظر الشركة وذلك لعظم النفقات التي يتكلفها حفر البئر الواحدة، فقيمة ذلك تتفاوت بين ستة آلاف وعشرة آلاف من الجنيهات. وللقارئ أن يتصور فداحة الخسارة التي قد تصيب الشركة إذا سارت في حفر الآبار على غير هدى كأن تقوم بالحفر في منطقة رحل عنها البترول أو كانت الطبقة الخازنة له قليلة العمق ينضب معينه منها بعد وقت وجيز.

وقد انتهزت فرصة وجودي بالمعمل وسألت أحد العاملين عن رأيه في مسألة أصل زيت البترول، وهي من المسائل العلمية التي لم تقرر بعد بصفة قاطعة فأجاب انه في جانب النظرية التي تقول بأن البترول ناتج من انحلال مواد نباتية وحيوانية معاً.

خرجنا من المعمل قاصدين الآبار، وتقع في منطقة الاستنباط الأساسية عند سفح تل من حجر جيري

- المحطة نمرة 1 - وفي هذه النقطة حفرت الشركة أول بئر لها، وفد قيل لنا ان خروج الزيت منها كان بكميات عظيمة مكثت مدة تتدفق ليل نهار على هيئة نافورة، حتى أنها أغرقت من الأرض حولها مساحة كبيرة - ثم توالى بعد ذلك حفر الآبار شمالاً وجنوباً حتى بلغ عددها التسعين - وفي السنوات الأخيرة قل الناتج منها قلة ظاهرة دعت الشركة إلى الانتقال إلى المحطة نمرة (2) وهي تقع في شقة جبلية قريبة من البحر على مسافة كيلو مترين تقريباً جهة الشرق من المحطة الأولى. وعدد ما حفر من الآبار حتى وقت الزيارة بلغ سبع عشرة بئراً كلها تجود بزيت غزير.

وعملية حفر الآبار من العمليات الهندسية الدقيقة، وقد شاهدنا بئراً في دور الحفر في المحطة الثانية وقد أقيم عليها برجاً من الحديد لا يقل ارتفاعه عن عشرين متراً تتدلى من قمته أحبال من الصلب معلقة في بكرات ووقف في البرج حول البئر المهندس والعمال

ص: 81

وكانوا يدخلون في جوف الأرض أنبوبة طويلة من الصلب، ومصدر الحركة من البرج طارة كبيرة من الخشب تديرها ماكينة قوية وقودها الزيت الثقيل.

وعلى خبرة المهندس وبراعته يتوقف نجاح حفر البئر فمثقاب ثقيل صاعد هابط وأنابيب ترسل في جوف الأرض إلى عمق ألفين وربما ثلاثة آلاف من الأقدام الواحدة تلو الأخرى في استقامة رأسية، وإشارات المهندس يتلوها أفعال وأعمال بأوضاع مختلفة مؤتلفة. والمثقاب دائب الحركة داخل الأنابيب، وفتات الصخور والرمال ترتفع من باطن الأرض إلى سطحها بطرق ميكانيكية وبصيرة المهندس تلحظ ما هو جار في الأعماق فتصلح أي انحراف يطرأ على اتجاه الأنابيب أو تسد بالسمنت ما قد يحدث من الثغرات في جدرانها حتى لا يتدفق فيها ماء الرشح أو يتسرب منها الرمل فتفسد البئر، ويستمر العمل جارياً هكذا مدة ثلاثة شهور أو أربعة وأحياناً عشرة حتى يصل المثقاب إلى طبقة البترول، وهنا يسير العمل بحذر شديد وبعناية كبيرة، وتتجلى في هذا الدور ألمعية المهندس في توقيه ما قد يحدث أحياناً من انبثاق الزيت وهو تحت ضغط هائل من الأعماق السحيقة إلى وجه الأرض بشدة عظيمة تخرب البئر وتقذف الأنابيب والأدوات في الهواء إلى علو كبير، وتغرق الأرض بكميات كبيرة من الزيت يذهب معظمه هباء وتكون الخسارة افدح لو اتصلت النار بهذا الزيت فنشب حريق هائل قد يلتهم باقي الآبار ومستودعات البترول ومباني الشركة. للمهندسين طرائق مختلفة لاجتناب هذه الكارثة - فإذا اجتاز الحفر هذه الخطوة الدقيقة ووصل المثقاب إلى الزيت نفسه رفع المثقاب وأدليت مكانه مضخة ماصة كابسة تستقر وسط الزيت على عمق لا يقل في المتوسط عن 600 متر، هذا إذا كان ضغط الغازات في باطن الأرض عاديا، أما إذا كان الضغط كبيرا فان الزيت يستمر متدفقا داخل الأنابيب من نفسه مدة طويلة حتى يهبط ضغطه، وعندئذ تدار المضخة بواسطة محركات قوية فيخرج الزيت على هيئة سائل كثيف لونه اسمر داكن مشبع بغازات فوارة ومختلط بدقائق الماء الملح وبعض المواد الصلبة والأملاح فيرسل في أنابيب إلى أجهزة خاصة لتنقية مما فيه فتنفصل عنه أولا الغازات الخفيفة التي ينتفع ببعضها محليا كوقود ثم تفصل عنه الأملاح بغسله بالماء الغذب في أحواض مقفلة ثم يفصل عنه الماء بطرق كهربائية في مصنع كبير مشيد بالقرب من الآبار، ومن جهازات التنقية يذهب الزيت إلى

ص: 82

مستودع كبير بالقرب من الميناء لتخزينه بها حتى شحنه في السفن للسويس لتكريره وفصل مركباته عن بعضها كزيت الإضاءة وزيت الوقود والبنزين وغير ذلك - ويبلغ الناتج اليومي من البترول الخالص في حقل الغردقة 600 طن يصيب الحكومة منه نحو 60 طنا وذلك قيمة الضريبة.

يتبع

الدمرداش محمد

ص: 83

‌العالم المسرحي والسينمائي

فن التنكر -

وعلاقته بالإضاءة المسرحية

تحدثنا في الأسبوع الماضي عن فن التنكر من الوجهة العامة بحيث لوضحنا أهميته وخطره للممثل الذي يريد أن يتقن عمله المسرحي الإتقان الفني المنشود ليستطيع ان يخرج الشخصية التي يمثلها الإخراج الصحيح المطلوب من الممثل الكفء. وقد رأينا سعة الدائرة التي يشملها هذا الفن حتى ليتطلب الإلمام به دراسة شاملة دقيقة بعضها يتصل بعلم النفس، وبعضها يتصل بعلم التشريح والطب، وبعضها يتصل بدراسة الأجناس المختلفة المبعثرة على سطح هذه الأرض. ونتحدث في هذا الأسبوع عن فن التنكر من إحدى نواحيه الفنية اعني من حيث علاقته بالإضاءة المسرحية. فالأصباغ والأدهنة التي يستخدمها الممثل في تنكره تتألف من الوان مختلفة متعددة، ومن الثابت أن الألوان لها علاقة وثقى بالضوء، وشتان ما بين الأضواء الصناعية والضوء الطبيعي الذي يكسب الأشياء مظهرا خاصا ولونا خاصا لا يمكن أن يكون لها تحت الأشعة الصناعية، وليس ثمت ضوء صناعي يظهر الأشياء بنفس المظهر الذي يكون لها تحت أشعة الشمس في وضح النهار، لذلك كان لزاما علينا أن درس هذه العلاقة بين اللون والضوء حتى نستطيع في المسرح أن نعطي الضوء المناسب وقد أدخلت في السنوات الأخيرة تحسينات كثيرة على الإضاءة المسرحية سواء من الوجهة الفنية أو الآلية، وتكاد تكون لكل مخرج طريقته الخاصة به ونظرياته التي يبتكرها تارة أو يستنبطها من تجاربه المتوالية تارة أخرى. ولسنا بصدد شرح هذه النظريات، فنتركها إلى البديهيات التي لا محل فيها للاختلاف.

والان نضع هذا السؤال: كيف نرى الأشياء ونميز ألوانها المختلفة؟ حاسة النظر هي التي تودي لنا هذه الغاية بواسطة الضوء. وهذا ثابت من الحقيقة المعروفة إذ لا يمكن أن نرى شيئا من الأشياء إلا إذا سلطنا عليه ضوء طبيعيا أو صناعيا، فإذا لم يكن هناك هذا الضوءلم نستطع رؤية شيء. وادخل غرفة مظلمة وحاول أن تميز ما فيها فلن تستطيع مهما كنت حاد البصر، مع أن الغرفة ملأى بما فيها من أثاث وأدوات وغيرها. وعود من الثقاب تستطيع بلهبه، الذي يشع ما نسميه بالضوء تمييز ما في هذه الغرفة. واكثر ما في

ص: 84

هذا العالم من الأشياء لا يشع ضوءاً ذاتيا، وتسمى بذلك بالأجسام غير مضيئة، والبعض الآخر له القدرة على الإشعاع الذاتي وتسمى بالأجسام المضيئة. وهذه الأجسام كالشمس والمصباح واللهب ترى بواسطة الضوء الذي تشعه، ويتألف هذا الضوء من ذرات مضيئة يصل بعضها إلى شبكة العين فيؤثر فيها هذا التأثير الخاص أما الأجسام غير المضيئة فأنها تتراءى للعين لعلة واحدة وذلك بسبب مالها من الخاصية في عكس الأضواء التي تنصب عليها من الأجسام المضيئة. وعلى ذلك فان الأشياء التي تراها إنما تبين لناظريك عن طريق الضوء الذي تعكسه على شبكة العين. وتتوقف درجة وضوحها ومداها على طبيعة وحجم الأجزاء العاكسة للضوء فيها، وعلى مقدار الضوء المتسلط عليها، وعلى المدى الذي بينها وبين العين والأجسام المضيئة تبدو كأنها تزداد حجما كلما زاد ضوئها بريقا وقوة، وإذا نظرت إلى شيئين متساويين في الحجم أحدهما مضيء والثاني مظلم بدا الأول اكبر حجما من الثاني. ومن المسلم به إن الضوء الأبيض، كما يسمونه في الاصطلاحات العلمية، يتألف من جميع الألوان الموجودة في الطبيعة أو التي يمكن خلقها صناعيا، ومن الميسور تفريق هذه الألوان بعضها عن بعض، كما انه من الميسور مزجها من جديد فيعود للضوء لونه الأصلي. وهذه الألوان المختلفة يمكن تقسيمها إلى ستة الوان رئيسية هي: الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضروالأزرق والبنفسجي. ولكل من هذه الألوان طبيعته، ولكل منها موجته وخواصه إلى غير ذلك مما لسنا بصدده. ولكن يهمنا هنا أن نقرر أن جميع الألوان ليست إلا نتاجا للضوء في انعكاسه من سطح المنظور على شبكة العين. فالأشياء التي نراها ليست لها الوان ذاتية في الحقيقة، ولكنها تكتسب ألوانها التي نراها ونصفها من طريق الانعكاس الضوئي. أو نقول بعبارة أخرى، إن اللون ينتج من الضوء الواقع على الشي المنظور. وما نسميه بالألوان الطبيعية للأشياء يرجع إلى الحقيقة المقررة من أن كل منظور يعكس على العين لونا من الألوان الموجودة في الضوء الأبيض المسمى بالضوء الكامل لانه يتألف من جميع الألوان والأجسام غير المضيئة خاصة تمييز أو امتصاص الضوء المتسلط عليها. وهذه الخاصية لها قوة الاختيار، أي إنها تمتص بعض الوان الضوء وتعكس البعض الآخر. وعلى ذلك فلون شيء من الأشياء يرجع في حقيقته إلى طبيعة اللون الضوئي الذي لم يمتصه المنظور وعكسه على العين. فمثلا، إذا امتص

ص: 85

المنظور كل الضوء المتسلط عليه بدا المنظور اسود اللون وإذا عكس كل الضوء بدا ابيض اللون. فالمنظور الذي يبدو احمر اللون تحت الضوء الأبيض يكون قد امتص سائر الألوان الضوئية ولم يعكس منها إلا الأشعة الحمراء، فطبيعة اللون الذي يبدو للمنظور تتوقف على الضوء الساقط عليه، فإذا فرضنا إن الأشعة التي يعكسها المنظور معدومة في الشعاع الساقط عليه أو قليلة المقدار بداالمنظور قاتما أو غير تام الوضوح. ومن المعروف انه لا يمكن الحكم على الوان الأشياء حكما صادقا تحت الأشعة الصناعية. وذلك لان هذه الأشياء تكون في هذه الحالة معرضة لضوء لا تحتوي على كل الألوان الضوئية، ولذلك لا يمكن لهذه الأشياء أن تعكس جميع الألوان التي تعكسها تحت الضوء الطبيعي والضوء اللون ضوء ناقص، أي انه ينقصه لون أو جملة الوان من تلك التي يحتويها الضوء الأبيض الكامل.

وهذه الكلمة الموجزة عن طبيعة الضوء إنما تعيننا على فهم الإضاءة الصناعية المستخدمة في المسرح وعلى الاستفادة منها بحيث نتسلط عليها كل التسلط ونوجهها الوجهة التي ننشدها لنخرج منها على خشبة التمثيل ما نشاء من الصور والأخيلة التي نريد أن نبرزها للتفرج.

ولما كان التنكر المسرحي أساسه أصباغ وأدهنة ملونة، يستخدم كل لون منها لغاية مخصوصة محدودة، فان العلاقة بين فن التنكر والإضاءة المسرحية تبدو واضحة جلية.

محمد علي حماد

ص: 86