الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 410
- بتاريخ: 12 - 05 - 1941
ما خلفته أثينا ورومة
أهل رومةَ الأولون قومٌ بناهم الله بنية وثيقة، فنشأوا عظامَ التجاليد أشداء العضل أقوياء العصب، يعطون البهيمية من نفوسهم، أكثر مما يعطون الإنسانية من قلوبهم. ووثاقة البنية وسورة الهوى تحركان في المرء شهوة الغلب وحب الأثرة؛ فبغى الرومان على الناس بحدة القلب وبأس الحديد، فملكوا أمم البحر المتوسط ملك الرقيق، واستعانوا على تدبير هذا الملك العظيم بالسيف واللسان والقانون، فتهيأت لهم بذلك مَلَكة أصيلة في الحرب والخطابة والتشريع، وحرمتهم جِبلتهم فنون النفس الرفيعة فكانوا في الأدب والفلسفة والفن حَميلةً على الإغريق. فلما أذن الله لدولتهم أن تدول سلّط عليهم الترف والفسوق فتدفقوا في اللهو و (الأرجي) حتى ترهل من لحومهم ما اكتنز، وهش من عظامهم ما صلب، وانسرق من قواهم ما اشتد، وذهب بذهاب سلطانهم ما شرعوا من قوانين وسنوا من نظم وألقوا من خطب؛ وأصبحوا لا يد تطول ولا لسان يقول، ولا فكرة تجول؛ ثم بادوا ولم يتركوا لأخلافهم على تعاقب القرون إلا ما يُعقبه السلطان الزائل من الغرور والتبجح والفيْش، وإلا ما يورثه اللهو الباطل من الغناء والموسيقى والرقص
وأهل أثينا الأقدمون قوم صاغهم الله صيغة حسنة، فكانوا مثلاً للكمال الممكن في الإنسان الأعلى. سمت فيهم ملكات العقل والقلب واللسان والجسم سمواً لا شبيه له في شعوب الأرض، فأبدعوا في نواحي الفكر والشعور والبيان ما ربأوا به أن يكون من صنع الإنس فنسبوه إلى أرباب من خلق أنفسهم. ثم تعاقبت على المدن الإغريقية أطوار الحياة العقلية للجنس البشري تامة غير مُخدَجة: فمن الغناء الفردي في المعابد إلى التمثيل الجماعي في المسارح، ومن الحياة الأبوية إلى الحياة النيابية، ومن شعبذة الكاهن إلى فلسفة أرسطو؛ ولم يبد في سائر الأمم إلا ظواهر لبعض هذه الأطوار تقل أو تكثر على قدر نصيبها من كمال الخلق، ثم تضعف أو تقوى على نسبة حظها من محاكاة الإغريق. فكأنما هذه البقعة وأهلها لِما جمعوا من شتيت المزايا صورة مصغرة لأمم العالم، ونسخة لتاريخ الإنسان
فلما أصابهم داء الأمم فني مُلكهم في ملكوت الرومان، ولكنهم انبثوا في عقول الناس وحضارات الأمم وثقافات الشعوب، فكراً لا يأفن، وفناً لا يبلى، وأدباً لا يقدُم، وفلسفة لا تبطل، ونظاماً لا يفسد، وعلماً لا يذهب؛ فكان الفكر اليوناني أساساً قائماً لكل حضارة، ولقاحاً مثمراً لكل ثقافة
ذلك أثره في الناس عن طريق الاقتباس؛ أما أثره في أعقاب بركليس والإسكندر فمن طريق الوراثة المتحدرة في الدماء حاملة مجد السلطان والغلَب، وعظمة الفكر والروح، وعزة الملك والقيادة، ومزية الإبداع والخَلق، وفضيلة الجمال والحق، وسمو الإيمان والعقيدة؛ فكان يونان اليوم كيونان الأمس مثلاً مضروباً في شهامة النفس وشجاعة القلب وحمية الأنف وصدق الوطنية والضرب في الأرض من أفق إلى أفق
أولئك أعقاب رومة يتمثلون في الطاغية (موسو)؛ وهؤلاء أخلاف أثينا يتمثلون في الرئيس ماتكساس. هناك الرأس الخواء، والقلب الهواء، والصلف البغيض، والغرور العريض، واللسان الطائش. وهناك العمل الصامت، والقول الثابت، والدماء التي تفور بمزايا الجنس، والقلوب التي تنبض بحب الوطن. ويشاء الله عزت حكمته أن يخرج العبرة للناس في هذه الكوارث الموئسة من تراث وتراث وجيل وجيل، فسلط نُعَرةَ نيرون على أنف الدتشي فوقف على ماسورة مدفع ضخم، ثم رفع أنفه إلى السماء، وبسط يده في الفضاء، وأرسل أمره الأرعن إلى عديده وحديده أن يخترقا حدود اليونان وهم في إغفاءة الفجر ينعمون تحت الكلل بأواخر الأحلام السعيدة. فسالت من البانيا فِرق الجيش الإيطالي بسياراته المصفحة، ودباباته المسلحة، وطائراته الموقرة بالقذائف والرصاص؛ وعلى رأس الطليعة المزهوة قائد جهم الوجه، كثيف اللحية، غليظ الألواح، يحمل إلى الجيش اليوناني المضطرب الهالع شرط الهدنة وصك الأمان!
يا سخَر القدَر ممن زعم أنه يصرِّفه! ويا عار (سيزار) ممن ادعى أنه يخلفه! ما باله يرمي فترميه أبابيل من طيور العذاب، ويهجم فتصده حصون من سواعد الشباب، ويصيح بأبطال الألب فلا يجيبه إلا صناديد الأولمب بالهجوم الجارف والضرب الدِّراك والقصف المزلزل، فذوو القمصان السود كالأرانب يتوارون في أخاديد الأرض، ويلوذون بجلاميد الصخر؛ فإذا أعجلهم الفزع عن التماس النجاة ألقوا السلاح صاغرين واستأسروا!
حينئذ تصبب الزعيم الشحيم عرقاً لا ندري أمن الكلال هو أم من الخجل، فأقسم ليحشدن الإمبراطورية كلها أمام الجيش اليوناني الصغير الفقير الذي يقاتل الطائرات بالحجارة، وينازل الدبابات بالسلاح الأبيض، ويزوده بالميرة والذخيرة النساء والشيوخ والأيفاع في شعاف الجبال وبطون الأودية، فكانت أفواج الجيش تذوب أمامه ذوبان الشمع، وأمواج
الحديد تنكسر دونه تكسر الهشيم، والأكياس الحازمون من قواد الفاشية وجنودها يتقهقرون حتى ارتدوا عن اليونان، وكادوا يجلون عن ألبانيا، لولا أن استغاث الدتشى بالفوهرر، فكانت الفاجعة التي لا ينصل عارها من تاريخ الألمان أبد الدهر!
أرأيت؟! هذه هي الفئة القليلة التي يصيح في دمائها وأعصابها تاريخ أثينا بأسره. وتاريخ أثينا ليس كتاريخ روما مسارحَ دراسة لصراع الثيران، وآثاراً عافية من مغامرات الفرسان، وأسفاراً ميتة من شرائع جوستنيان؛ وإنما هو ومضات الضمير التي لا تخبو، وآيات العقل التي لا تموت
وتلك هي الفئة الكثيرة التي تنتفخ بالهواء كالفقاقيع، وتعيش بغير مثل كالجراد، وتحارب بغير إيمان كالمرتزقة. لذلك تراهم يستأثرون بجانب الهزيمة في هذه الحرب، ويؤثرون وسائل الحقارة في هذه الجريمة. وإذا كان في انتصار اليونان وانكسار الطليان عبرة، فهي للعرب الذين يتميزون على الإغريق بوراثة القرآن الخالد الذي لا يتبدل، واكتساب الإيمان الصادق الذي لا يحول!
أحمد حسن الزيات
الإسلام بين السلف والخلف
للأستاذ محمد محمد المدني
مقدمة
يرجع الإسلام في أصل دعوته وتفاصيل شريعته إلى قسمين:
1 -
العقائد وما يلحق بها من أنواع العبادات
2 -
الأحكام العملية التي ينظم بها شئون الحياة
وللعلماء في بحث هذين القسمين طريقتان:
1 -
طريقة السلف من العلماء الأولين الذين تلقوا دعوة الإسلام من معينها الصافي، لم تشبها الشوائب، ولم تتحكم فيها الأهواء ولا المذاهب، ولم تفرقها الفرق ولا الطوائف
2 -
طريقة المتأخرين الذين خلفوا من بعدهم بعد أن دخل في الإسلام ما ليس منه، وطغت على عقول المسلمين فلسفات أجنبية، وأفكار طارئة لا عهد لهم بها من قبل
ونريد أن ننظر في هاتين الطريقتين، لنعرف: أيتهما هي الطريقة القويمة التي يصلح بها شأن المسلمين في حاضرهم
(ا) طريقة السلف
تمتاز هذه الطريقة بالبساطة المطلقة في العقائد وما يتصل بها، فهي لا تعرف التعقيد، ولا تتكلف التأويل، ولا تنزل على أساليب الفلسفة الملتوية ولا المنطق المركب، ولا تتصيد الأخبار والروايات لتضخيم العقائد أو تركيب العبادات
إيمان بالله لا يعدله إيمان، مصدره الاقتناع النفسي، والاطمئنان القلبي الناشئان من النظر في ملكوت السموات والأرض، والتأمل في بدائع هذا الكون وأدراك أسراره، والإذعان لقدرة خالقه
وإيمان برسوله الذي أيده بوحيه، وأنزل عليه كتابه يتلى عليهم بكرة وعشياً، ويهديهم للتي هي أقوم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور
ورضا فيما وراء ذلك بما يخبرهم به الله أو الصادق الأمين عن عالم الغيب، لا يكلفون أنفسهم بحثه أو التعمق فيه، أو الوقوف على تفاصيله علماً منهم بأن الغيب لله لا يظهر
على غيبه أحداً، وبأن للعقل حداً يجب أن ينتهي إليه، ويقف عنده
1 -
كانوا يؤمنون - كما نؤمن - بأن لله ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: ولكنهم لا يكلفون أنفسهم بعد ذلك الوصول إلى حقيقة هؤلاء الملائكة ولا تعرف كنههم، وهل هم أجسام نورانية أو أرواح علوية أو نحو ذلك؟
2 -
وكانوا يؤمنون بيوم الحساب - كما نؤمن - وبأن الله سيخرج للناس كتباً فيها أعمالهم، يلقونها منشورة، وبأنه سيضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً، ولكنهم لم يكونوا يكلفون أنفسهم ما وراء ذلك من معرفة هذا الكتاب، ولا أين تكون ساحة هذا الحساب، ولا حقيقة هذه الموازين، وكيف تقام، وهل لها كفتان ولسان، أو هي على شكل ميزان القبان، وهل هي من حديد أو نحاس، وهل تجسد الأعمال ثم توزن بها، أو تكتب في صحف ثم توضع في كفتيها
3 -
وكانوا يؤمنون - كما نؤمن - باللوح المحفوظ، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم أن يثيروا نقاشاً أو جدالاً حول هذا اللوح: ليعلموا أنه فوق السموات السبع أو تحتهن، أو أن مساحته كذا وكذا، أو أن قلمه كيت وكيت!
4 -
وكانوا يؤمنون - كما نؤمن - بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، لكنهم لا يتطلعون إلى معرفة كنه هذه الحياة، ولا نوع هذا الرزق
5 -
وكانوا يؤمنون بأن الرحمن على العرش استوى: (وأينما تولوا فثم وجه الله) و (يد الله فوق أيديهم) و (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)؛ ولكنهم لا يشغلون أنفسهم بالبحث في الاستواء وكيف كان، ولا بالسؤال عن اليد أو الوجه أو تأويل معناهما، ولا يتطلعون إلى معرفة حقيقة هذه المصاحبة وعلى أي حال تكون
سئل مالك رضي الله عنه عن معنى الاستواء المذكور في القرآن، فغضب وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة!
وسئل علي رضي الله عنه: كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟ وهل يكون ذلك دفعة واحدة؟ فأجاب: يحاسبون كما يرزقون!
وكان عمر رضي الله عنه يضرب أمثال هؤلاء بالدرة ويعنفهم ويتعقبهم، وقد مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم فسمعهم يخوضون في القدر، فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال: أفبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال!
هذه طريقة السلف الصالح في الإيمان بالله وما أخبر به من الغيب: لم يكونوا يكلفون أنفسهم شيئاً من التفاصيل التي لم يذكرها الله في كتابه، ولم ترد عن الصادق الأمين من طريق يعول عليه في إثبات العقائد، لأن العقائد إيمان ويقين لا يغني فيهما الظن: إن الظن لا يغني من الحق شيئاً!
وقد أدركوا بما لهم من العقول الصافية أن قياس الغائب على الشاهد لا يستقيم، وأن الله كلفهم بالإيمان بالغيب كما يريده غيباً يحتفظ به لنفسه ولا يطلع عليه أحداً من خلقه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)(وما كان الله ليطلعكم على الغيب)
وعلموا أن الاشتغال بما لم يأذن به الله من هذه التفاصيل هجوم على الغيب، وتعقيد للعقيدة، وتشتيت لأفكار المسلمين، وصرف لهم عما يجب من العمل بمقتضى إيمانهم إلى أنواع من الجدل، ليس فيها فائدة في العقيدة ولا في العمل!
وقد كان لهم في العبادات شأن كهذا الشأن: يعبدون الله كما يريد الله، لا ينظمون ذلك على ما يشاءون، ولا يبتدعون فيه أو يحدثون علماً بأن العبادة، أنواعها ورسومها وهيئاتها، شأن يرجع فيه إلى المعبود ويؤخذ فيه بما ارتضاه لنفسه، وإذا كان الملوك والحكام لا يستحبون لأنفسهم، ولا يرضون من رعاياهم أن يخرجوا على تقاليدهم أو يعدّلوا فيها، بل يوجبون في تشريفاتهم أوضاعاً خاصة، وملابس خاصة، وأوقاتاً خاصة، فهل يجوز للناس أن يبتدعوا أو يخترعوا في عباداتهم ما لم يأذن به مالك الملوك؟
لهذا كله سلم الدين في عهد الأولين من الابتداع والتفرق بالأهواء. ولم يدخل على العقائد والعبادات ما دخل من بعد، ولم يكثر الزيغ والإلحاد، ولم تتحير العقول، ولم يتقاذف الناس في الدين والعقيدة تهم الكفر والزندقة والفسوق تجري على ألسنتهم بغير حساب!
أما سنة الأولين في النظر إلى المعاملات وأحكام الحياة، واستنباط ذلك من شريعتهم: فقد فهموا أن هذه الشريعة إنما وضعت لإسعاد العباد وتحقيق مصالح الناس، وأنها تقوم على أساس العدل والرحمة، وأن السياسة الصالحة جزء من أجزائها وفرع من فروعها
فهموا ذلك، فلم يتعنتوا، ولم يتزمتوا، ولم يضيقوا واسعاً، ولم يحجروا على العقول
والأفكار، ولم يصادموا حرية الرأي، ولم يفرضوا على الناس مذهباً بعينه، ولم يقفوا أمام أحداث الزمن جامدين، بل وضعوا لكل مشكلة حلها، ولكل قضية قضاءها، وفتحوا باب الاجتهاد والرأي والنظر ليجاروا سنة الله في الحياة التي لا تعرف الركود ولا الجمود، والتي لا تنتظر المتخلفين والمترددين، ورسموا لذلك حدوداً لا يقصد بها تقييد العقول ولا التضييق على الأفكار؛ ولكن يقصد بها تنظيم الفكر، وتقويم الرأي، وتجنب الزلل، وضمان الصواب!
استمدوا كل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، ومن مقاصد الشريعة الكبرى التي هي رعاية المصلحة، وتحقيق معنى العدل والرحمة، وتطبيق ما تقضي به السياسة الرشيدة والقياس الصحيح!
وقد أوسعوا بذلك دائرة الشريعة علماً وعملاً، ولبوا بها مطالب عصورهم ونهضوا بحاجات قومهم وأوطانهم، واشتركوا مع رجال الحكم والرأي في تدبير شئون الأمة، والحفاظ عليها، وحياطة دينها وشريعتها؛ وكان لهم في ذلك مفاخر ترفع الرءوس وتكرم شأن العقول، وتحدث عنهم بأنهم عرفوا لأنفسهم حقها ومتعوا عقولهم بلذات النظر والفكر!
أخصبت في ظل هذه الحرية الفكرية عقول المسلمين، واتسع نطاق الرأي والنظر في جميع علوم الإسلام، وكثر المجتهدون والمستنبطون لأحكام الشريعة، وانبثوا في كل قطر من أقطار المسلمين، وصاروا يعدون بالمئات لا بالآحاد ولا بالعشرات؛ ووجد الخلفاء والأمراء والقضاة والحكام حاجتهم من المبادئ والأحكام والنظم والقوانين في الشريعة، فلم يحاولوا الخروج عليها، ولم تحدثهم نفوسهم بنبذ أحكامها أو استبدال غيرها بها، واحتفظت الشريعة بما ينبغي لها من الاحترام والمكانة والكلمة العليا في المراكز العملية وقصور الحكم والسلطان، ودور الإدارة؛ ولم تقصر على الدراسات في المدارس أو المساجد، ولم يتخذ أهلها وحملتها طابع الروحية والكهنوت، يحشرون لأيام الزينة، ويعرضون للاحتفالات!
هكذا كان شأن علمائنا السافين في فهم العقائد، وإدراك المقاصد، وتطبيق أحكام الله: تسليم فيما يتصل بالعقائد والعبادات أغناهم عن الجدل والتفرق بالأهواء والبدع، وحرية واجتهاد في فقه الحياة، فتحا أمام الناس أبواب الحياة!
فماذا فعل الخلف من بعدهم؟
(ب) طريقة الخلف
لقد عكسوا طريقة السلف: ففصلوا ما كان مجملاً، وأجملوا ما كان مفصلاً، وضيقوا ما كان واسعاً، وظلموا أنفسهم بتجاوز حدودهم، وجنوا على شريعتهم بتفريطهم!
1 -
جروا في العقائد على تفصيل أدخل على المسلمين الفرقة والانقسام، وفتح أمامهم أبواباً من الجدل المفضي إلى التشاحن والتدابر كانوا في غنى عنها وسلامة منها، وشوهوا أمام الناس علم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتجرأوا على الغيب يستطلعون خباياه ويستكشفون أسراره، وزحموا العقائد الصافية في زحمة الروايات الموضوعة، والأخبار الملفقة، والإسرائيليات المدسوسة!
وصفوا لنا عالم الأرواح، وما يدور فيه من أقوال وأفعال، وحدثونا عن حياة الأولياء في قبورهم، والشهداء عند ربهم، فذكروا أنها حياة حقيقية يأكلون فيها ويشربون؛ بل وتمتعون فيها ويتزاجون!
وصفوا لنا الملائكة وأصنافهم وأحوالهم وأجنحتهم ومقاييس أجسامهم، وما يقولونه في تسبيحهم حين غدوهم أو رواحهم، وما يكون من حوارهم بعضهم وبعض!
وصفوا لنا أرض المحشر وساحة الحساب، ومواقف الأولين منها والآخرين وحدثونا في تفصيل دقيق عن الصحف المنشورة والموازين المنصوبة، وعن الحوض ومياهه، وأكوابه وسقاته، وتدافع الناس من حوله، وازدحامهم بالمناكب عليه؛ كأنما كانوا شهوداً لكل ذلك إذ يفيضون فيه، أو كأنما أطلعهم الله على برنامج هذا اليوم المشهود فهم يقرأون منه على الناس كتاباً مفصلاً!
وحدثونا عن اللوح والقلم، والعرش والكرسي: أيها خلق قبل الآخر، وأيها يصدر إليه أمر الله أولاً، وكيف يكتب القلم وما عدد أسنانه، وما عدد ما سطر في اللوح من آيات الله وكلماته، ونسوا أن ذلك كله من عالم الغيب، وأنهم يتهجمون منه على ما احتفظ الله به، ويتعدون حدود بشريتهم، ودائرة عقولهم، ويركبون متن الشطط والغرور!
ثم صوروا للناس قضاء الله وقدره بصورة تدفعهم إلى التواكل، وتعلمهم الركود والإخلاد، وتوهمهم أنهم مكبلون من فوق هذا الكون بقيود أو أغلال لا سبيل إلى تحطيمها، ولا إلى
التخلص منها!
2 -
وأدخلوا على العبادات أنواعاً من البدع لم يأذن بها الله: يتصيدون لذلك من الأحاديث الضعيفة ما يؤيدون به شهواتهم، ويحاجون به ناصحيهم، حتى اختلط على الناس أمر الدين، ولم يعد أكثرهم يميز بين ما شرعه الله وما شرعته الأهواء: ففي الصلاة بدع، وفي الصيام بدع، وفي الحج بدع، وفي الذكر بدع، وفي الأذان بدع، وفي تشييع الجنائز وزيارة القبور بدع. بل استباحوا لأنفسهم أن يركبوا أنواعا ًمن العبادات أو الرسوم الدينية لم يكن يعرفهم المتقدمون: كفائدة الأربعاء، وإقامة الموالد، وإسقاط الصلاة عن الميت، وعدية يس، والعتاقة، ونحو ذلك من ألوان العبث الهازل الذي لا يليق بأمة دينها الإسلام، وكتابها القرآن!
ولقد أصبح المسلمون بذلك أشتاتاً: كل طائفة بإمام، وكل شيخ بطريقة، يكفر بعضهم بعضاً، ويفسق بعضهم بعضاً، وكل حزب بما لديهم فرحون!
3 -
أما في الفقه والتشريع، وتطبيق أحكام الله على مشكلات الحياة، وأمراض المجتمع وأحداث الزمن، فهناك الجمود والخمول: جمود لواهم عن التفكير، وأغمض عليهم كلام الله، وباعد بينهم وبين إدراك روح التشريع، وتقدير المصالح ودراسة فقه الحياة، وخمول زواهم عن الناس، وأنساهم أنفسهم وصرف العقول عنهم، وأيأس المفكرين منهم، وأضعف ثقة أهل الحكم والسياسة بهم وبشريعتهم: فذهبوا يلتمسون أحكام الحياة والمعاملات، ونظم المال والاقتصاد والعقوبات من شرائع أوربا، ويحكمون في بلاد الإسلام بغير ما أنزل الله، وتركوا هؤلاء قابعين في مساجدهم ومعاهدهم يتناقشون في حملة العرش هل هم أوعال أو غير أوعال، ويتدارسون أحكام المياه المطلقة والمياه المختلطة، ويختلفون في سؤر البغل: أطاهر هو أم طَهور، ويكتبون في مجلاتهم عن الحسد والرقية منه، وعن الجذب والشطح وما يكون فيهما، وعن العباد المكلفين: أيخلقون أفعال أنفسهم أم يخلقها الله لهم، وعن تلقين الميت: أمشروع هو أم غير مشروع؛ ثم عن العمامة والفاروقية، وأيتهما (تحقق) الشخصية العلمية. . . الخ
تركوهم لذلك وأشباهه يدرسون منه ما يدرسون، ويتركون منه ما يتركون، وينقطعون عنه ما ينقطعون، ومراكز الفقه والتشريع والإدارة والقضاء في أيدي غيرهم، وكراسي الحكم
والنيابة خالية منهم، وبيئات العلم والأدب جاهلة بهم معرضة عنهم، والأمة لا تراهم إلا حيث يكون الاحتفال بالمحمل، أو الاجتماع للموالد مع أرباب الطرق، أو الحشد للمواسم والأعياد!
وهكذا قضي عليهم بالموت البطيء ينساب إليهم في مثابرة واتصال كما ينساب إلى المصدور أو العليل!
في مثل هؤلاء يقول (ابن القيم) منذ ستة قرون:
(لقد جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من معرفة الحق والتنفيذ له، ظناً منهم أنها منافية لقواعد الشرع، ولعمري إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نافت ما فهموه من شريعته. . . والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شراً طويلاً، وفساداً عريضاً، فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه. . .)(الطرق الحكمية ص13)
وفيهم يقول الأستاذ الأكبر الإمام المراغي في مذكراته الإصلاحية التي كتبها في سنة 1928 وجعلها برنامجه في إصلاح الأزهر:
(ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديثة، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنها، ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين)
هذا، ولعل الرسالة توفق إلى نشر مذكرة الأستاذ الأكبر الإمام المراغي بعد أن مضى عليها أكثر من اثني عشر عاماً، فأني أخشى أن يكون طول الزمان قد خلع عليها ثوب النسيان، ولستُ أعلم مذكرة عالجت شئون الأزهر والفقه والدين بمثل ما عالجتها به هذه المذكرة في العصر الحديث.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
مقال أوحاه قصف المدافع في ليلة قمراء
دنيا الشقي السعيد
في 172800 ثانية
للدكتور زكي مبارك
في الساعة العاشرة من مساء الجمعة وهو اليوم الثاني من شهر مايو، شهر الأزهار، كما يسميه أحد شعراء الفرنسيس، مضيت إلى دار المفوضية العراقية مع مترجم (آلام فرتر) لنشهد آلام الأصدقاء الأعزاء وقد آذتهم أخبار الحرب في يوم الاحتفال بميلاد (الملك الشبل) وهو ابن غازي وحفيد فيصل
وفي الساعة العاشرة من مساء الأحد، وهو اليوم الرابع من شهر مايو، حملت القلم لأحدث قراء (الرسالة) عن تفاصيل ما ثار بيني وبينهم من خصومات، ولكن المدافع ثارت فوق رأسي حتى كدت أتوهم أنني المقصود بعدوانها الأثيم، فالبيت الذي أقيم فيه يرتج ارتجاجاً عنيفاً جداً؛ وأنا أكتب هذه السطور بدون أن أعرف كيف تنتهي هذه الليلة السوداء، وإن كانت قمراء. وصاحب البيت يطرق باب غُرفتي بعنف ليحضني على النزول إلى السرداب، فأجيب: دعني، دعني، فأنا أشتهي أن أموت والقلم في يدي!!
ومعنى ذلك أنني في الإسكندرية وفي أخطر مكان وهو (الرمل)
الغرفة محجوبة النوافذ بحجاب سميك، وفيها نور ينفعني ولا يراه أحدٌ غيري، وأنا مع ذلك أكاد أشهد نيران المدافع وهي تخترق أحجبة النوافذ، فهل حان الوقت لأستريح من دنياي، ولأنجو من بغي الأعداء، وغدر الأصدقاء؟
طاخ! طاخ! طاخ!
تلك أصوات المدافع، وكأنها تقصدني بالذات، فهي تُزلزل الدنيا من حولي، وتنذرني بغاية كريهة دميمة هي الموت في مكان لا أودِّع فيه أهلي وأبنائي
طاخ! طاخ! طاخ!
اصنعوا ما شئتم، أيها العادون من بني الألمان، فأنا أشتهي أن أموت والقلم في يدي، ولن أنزل أبداً إلى السرداب، ولو لقيت الحتف بمدافعكم الباغيات
طاخ! طاخ! طاخ!
لكم الويل ماذا تريدون مني، وقد قضيت شبابي في خدمة الآداب والفنون؟
طاخ! طاخ! طاح!
تلك إذن خاتمة المطاف لدنيا الشقي السعيد، وهو الرجل الذي شهد الاحتفال بعيد 14 يوليه في باريس ست مرات، ونعِم بالألعاب النارية في باريس أكثر من عشر مرات في مواسم مختلفات، ولعلها تزيد على العشرين، فلا ضَيْرَ عليه في أن يموت بالنار الحقيقية في إسكندرية وفي يده قلم أعنف من قنابل الألمان، وإن عشت بعد هذه الليلة الباغية، فسيرون كيف صدقتُ في الثناء على نفسي، فأنا بالرغم منهم فَتى مصريٌّ لم يعرف الخضوع لغير صاحب العزة والجبروت
طاخ! طاخ! طاخ!
الجيران يصرخون ويولولون، ونوافذ غرفتي تصرخ وتولول، وقلمي مع هذه المزعجات أكثر طمأنينة من التمساح الجاثم بأعالي النيل، فكيف أُغمِدُ قلمي في هذه اللحظة وأنا أشتهي أن أموت وقلمي في يدي؟
طاخ! طاخ! طاخ!
سأموت بعد لحظة أو لحظتين، فقد كادت نوافذ غرفتي تتصدع من هول الصيال بين مدافع الإنجليز وقنابل الألمان، فما أسعدني حين أموت والقلم في يدي، وإن كنت أرتاب في إنصاف التاريخ
توت! توت! توت!
انتهت الغارة بعد تسعين دقيقة، فواخجلتاه من العيش، وليس في يدي مدفع ولا سيف!
فما دنياي وأنا الشقيُّ السعيد في الثواني التي تعد بال172800؟
ما دنياي في تلك الثواني التي تفوق الأزمان الطوال؟
دخلت المفوضية العراقية في ليلة حرب وقد تهيأت أبهاؤها لتكون ميدان رقص، فقلت: إن اللهو لا يعاب على الأمم القوية والعراقيون أقوياء بالروح، وإن أُتهموا كذباً أو صدقاً بنقض العهود.
قال الحجاج: إن أهل العراق أهل شقاق ونفاق
وأقول: إن أهل العراق أهل شقاق، ولكنهم ليسوا أهل نفاق
فأين من يسمع كلامي قبل أن ينجح من يسرهم إفساد ما بين إنجلترا والعراق؟
وأين من يسعى للصلح بين جيشين كانا بالأمس حليفين؟ ولن يستفيد من تأريث القتال بين هذين الجيشين غير من يتربصون لأولئك وهؤلاء؟
وهل ضاعت الفرصة لإصلاح ذات البين؟
ثم اشتركت في الحديث مع الرجلين الكريمين عبد الستار الباسل وعلي الشمسي، وكان الحديث حول ما تستطيع مصر أن تصنع في هذا الظرف الدقيق (؟!)
وقيل كلام وكلام وأنا ضيِّق الصدر بكل ما أسمع؛ فقد كان دخان المدافع في حدود الحبانية يصل إليَّ، على بُعد ما بيني وبين الحبانية. وهل يبعد عني شرٌّ يطير أُواره في أروقة بغداد؟
الله وحده هو الذي يعلم كيف كان حالي والرقص محتدم بأبهاء المفوضية العراقية، والرقص من فنون الحرب، لأنه صراع بين العواطف والأحاسيس
ورجعت إلى داري في سيارة رجل كريم من أشراف الحجاز وصدري يكاد ينشقُ من الألم والغيظ؛ فقد كنت أحب أن تعفيني الحوادث من صدمة الكرب في ليلة الاحتفال بميلاد ملك العراق!
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟
سأمضي في الصباح لمقابلة رئيس الوزراء، وسأقول له كيت وكيت، وسيكون لي مقام محمود في التمهيد لشئون تقوى المركز الأدبي لمصر في الشرق
ثم جاء الصباح فتذكرت أني مسئول أمام وزير المعارف لا أمام وزير الخارجية؛ وخطة السير في هذا الأسبوع توجب أن يكون عملي في المدينة التي تواجه عدوان الحرب من يوم إلى يوم، فهل أغيِّر الخطة وقد عرفت أن عملي سيكون في مدينة مبتلاة بمخاوف الحرب؟
وكيف وأنا لا أرحم نفسي في أداء الواجب؛ لأني أؤدي الواجب بلا رقيب، فقد وثق بي رؤسائي وأسلموني إلى ضميري لأقتل نفسي بلا ترفق ولا استبقاء. ولو راقبني رؤسائي لرحمت نفسي، وانتفعت بحقي في تعديل خطة السير وفقاً للظروف، ومَن أسلمك إلى
ضميرك فقد أسلمك إلى رقيب لا يعرف الغفلة ولا الهجود!
ثم امتطيت القطار إلى الإسكندرية وصدري معتكر بالمعاني التي ساورتني في الليل، وبعد الوصول بدقائق كنت أحاور الأدباء الإسكندريين، فهم سلوتي كلما حللت بمغاني ذلك الشاطئ الجميل
- ستطيل عندنا الثواء، يا دكتور؟
- خمس ليالٍ طوال!
- إذن فستمتع عينيك وأذنيك بقصف المدافع!
وفي صدر اليوم التالي كنت أؤدي واجباً بمدرسة الطائفة الإسرائيلية، وهي مدرسة لا تعطل في أيام الآحاد، أو هي المدرسة الإسرائيلية الوحيدة التي لا تعطل في الأحد الأول من كل شهر، وما يرضيني أن أقضي يوماً بلا عمل؛ وقد آذتني وزارة المعارف حين أسلمتني إلى ضميري
السنة الأولى الثانوية بهذه المدرسة مكانها في السطح. وعند الظهر صكت آذاننا المدافع بأصوات أعنف من قصف الرعد في لحظات الخوف والبأس
ومدير المدرسة يشير بأن ننزل إلى مكان أمين
وأقول: يجب أن نموت ونحن في الدرس
ثم يصلصل الجرَس مؤذناً بالانصراف فتضعف حجتي في العناد
وفي المساء يقع ما عرفه القراء في مطلع هذا الحديث
أما بعد فأين أنا مما كنت أريد؟
كنت أحب أن أتحدث عن الشاطئ الذي أوحشَ بعد إيناس
كنت أحب أن أدرس بعض الشؤون الأدبية أو الاجتماعية
كنت أشتهي أن أقول كلمة في (الإنسان) الذي رُفِعَ عنه بعض الحجاب فعرف من أسرار الوجود أشياء، ثم كان حاله حال الطفل الذي وُهِبَ مسدّساً محشواً بالرصاص فهو يصوبه إلى صدور الآمنين كيف شاء عقله الوليد! وإني لأخشى أن ينتقم الله من (الإنسان) فيسلبه القدرة على (استغلال) ما عرف من أسرار الوجود!
انتصف الليل أو كاد، وسكتت المدافع منذ لحظات، فهل هدأ البلبال الذي يساورني كلما
فكرت في مصير الشرق؟
ما أشقى الرجل الذي يعيش وهو موكَّلٌ بتعقب ما في الدنيا من قُبح وحُسن، وجهل وعلم، وقنوط ورجاء، وإن استباح القول بأنه الشقيُّ السعيد
زكي مبارك
ألقاب الشرف والتعظيم
عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 2 -
ونعود إلى الكلام على الباب فنقول: إن القلقشندي قال (صبح الأعشى 472: 5): (الباب بباءين موحدتين مفخمتين في اللفظ. وهو لقب على القائم بأمور دين النصارى الملكانية (أي الكاثوليك) بمدينة رومية. . . وأصله البابا بزيادة ألف في آخره، والكتاب يثبتونها في بعض المواضع ويحذفونها في بعض، وربما قيل فيه الباب ' بإبدال الألف هاء، وهي لفظة رومية (أي لاتينية) معناها أبو الآباء. . .) انتهى المطلوب من إيراده
وقال ابن رُستَه في كتابه الأعلاق النفيسة ص148 من طبعة الإفرنج: (مدينة الرومية وهي مدينة يدير أمرها ملك يقال له الباب)
وفي نزهة المشتاق للإدريسي ما هذا نصه (74): (وفي مدينة رومة قصر الملك المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه)
وجاء في تقويم البلدان لأبي الفداء في مادة رومية: (وهي مدينة مشهورة، ومقر خليفة النصارى المسمى الباب). وقال في أهل بيزة: (وليس لهم ملك؛ وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى)
وذكر ابن الوردي في كتابه خريدة العجائب طبعة مصر سنة 1300 في ص58: (وبها قصر الملك المسمى البابا وهو قصر عظيم أجمع المسافرون على أنه لم يبن مثله على وجه الأرض)
وورد في رحلة ابن بطوطة ذكر البابة فقال (في436: 2 من طبعة باريس): (ويأتي إليها البابة (وهو يريد هنا نائب البابة الذي سماه أبو شامة في كتاب الروضتين في ص183 من طبعة باريس) مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى لقائه، ويترجل له، وعند دخوله المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحاً ومساء للسلام عليه، طول مقامه في القسطنطينة حتى ينصرف). اهـ
وابن خلدون تكلم مراراً على البابا، من ذلك ما ورد في مقدمته ونقلناه في صدر هذا البحث، ثم قال:(وأردوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء. وظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر، على ما زعم جرجيس بن العميد في تاريخه، ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم، وهو كرسي رومة، لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه، فلم يزل سمة عليه إلى الآن. . .)
وممن كرر أسم البابا مراراً المقريزي. فقد قال في كتابه المواعظ والاعتبار طبعة بولاق (في484: 2): (وكان بطرك الإسكندرية يقال له البابا. . . ومعناه أبو الآباء؛ ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الإسكندرية إلى كرسي رومية. من أجل أنه كرسي بطرس، رأس الحواريين، فصار بطرك رومية يقال له البابا، واستمر ذلك إلى زماننا الذي نحن فيه). انتهى
ونحن لا نريد أن نمعن أبعد من هذا في المدى لإيراد الشواهد على هذا الاسم، وأنه لاتيني، أي رومي أو روماني، ففيها مجزأة، لمن يتحرى الحق، ويرمي إليه.
فهذه سبع لغات في البابا، وهي: الباب، والباب. والبابة، والبابة، والبابَّ، والبابا، والبابا. وكل كاتب، حاول أن يؤدي اللفظ على ما ينطق به أصحابه، ولم يحاول واحد منهم أن ينقل معناها إلى العربية، بعكس ما يفعل اليوم بعض المتفصّحين والمتحذلقين من السوريين وأشباههم
وأما البطرك، فقد اختلفوا في تعريبهم إياه اختلافهم في الباب، والإنبراظور. قال في التاج في (ب ط ر ك): (البطرك، كِقمطر وجعفر، أهمله الجوهري. وقال الأصمعي: هو البطريق، وهو مقدم النصارى، وبه فسر قول الراعي يصف ثوراً وحشياً:
يعلو الظواهر فرداً لا أليف له
…
مشى البطرك عليه ريط كتان
ويروى مشى النطول، وهو الذي يتنطّل في مشيتِهِ، أي يتبختر. قالهُ الأزهري، أو سيّد المجوس. قال الأزهري: وهو دخيل ليس بعرَبي) اهـ.
قلنا: البطرك: يوناني، وهو في هذا اللسان أو ومعناه الأب الأكبر أو الأب الديني
وقال في صبح الأعشى (473: 5): (البطرك: بباء موحدة مفتوحة، ثم طاء مهملة ساكنة، وبعدها راء مهملة مفتوحة، ثم كاف في الآخر. وهو لقب القائم بأمور دين النصرانية. . .
وأصله البطريرك، بزيادة ياء مثناة تحت مفتوحة، بعدها راء ساكنة، وهو لفظ رومي. . . ورأيت في ترسل العلاء ابن موصلايا، كاتب القائم بأمر الله العباسي في تقليد أنشأه: الفطرك بإبدال الباء الموحدة فاءً. . .)
وفي التنبيه والإشراف، للمسعودي في ص159 من طبعة الإفرنج:(وأخبار أصحاب الكراسيّ الذين هم البطاركة أحدهم بطريرك)؛ قال ناشره في الحاشية: (وكل مرة وردت البطريرك ذكره الثعالبي صاحب اللطائف باسم بطريرك)
وقال المسعودي نفسه في كتابه الآخر (مروج الذهب)(406: 3 من طبعة باريس): (وذلك أن مدينة إنطاكية بها كرسي البطريق المعظم عندهم)
وورد في تاج العروس في مادة بطرق: (. . . وقيل البطريق هو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب، وقد يقدم عندهم. قلت: (أي الشارح وهو السيد مرتضى) هو بالرومية بترك، قاله الجواليقي وغيره). انتهى
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: وهذا وهم من السيد الشارح، لأن بترك هو تخفيف البطريرك، كما ذكره القلقشندي وأما البطريق فرومية أي لاتينية لا يونانية، وهي
معجم لاروس الوسيط: (أنشأ منصب البطريق قسطنطين وقلده خلفاؤه أشهر ضباطهم، ولما صارت دولة الغرب في أقصى دركاتها اتخذ بعض الرؤساء لقب البطريق وكان يقابل البرنس أو نائب الملك. ولما أعلن أُرستس بانبراطورية ابنه أوغسطس، كان لقبه يومئذ بطريقاً وآيتيوس الذي أذل أتّيلا وغلبه، كان لقبه بطريقاً يومئذ، وتلقب بلقب البطريق أيضاً كلوفيس ملك فرنسة، وكذلك ملوك برغونية. ولقب الملوك البرابرة بطارقة قواد جيوشهم. وكان قياصرة الروم يجودون به على لباب الوظائف العليا من مدنية وحربية، وبعد ذلك بكثير خلع البابوات هذا اللقب على ملوك الإفرنج لما استأنفوا التقاليد الانبراطورية، فكان ممن تلقب به: بيبن، وشرلمان، ودُعوا بطارقة رومة ا. هـ تعريباً
ويُرى من هذه النصوص المنقولة هنا، أن بعض الكتّاب لم يميزوا بين البطرك أو البطريرك، وبين البطريق. فصاحب الاسم الأول رجل ديني، وصاحب الاسم الثاني رجل مَدَني. واللفظ الأول يوناني الوضع، لاتينيُّهُ. على أن كِلَا الاسمين مأخوذ من معنى الأب. فالأول يعني الأب الروحاني، والثاني الأب النبيل أو الشريف. لكن لابد من أن يُميَّز الواحد
من الآخر حرصاً على المعنى، وتمسكاً بمدلولات الألفاظ الأصلية، لكي لا يقع التباس فيها
ويُرى من هذه النصوص أيضاً أن في البطريرك ثمانية أوجه معربة؛ وهي: البَطْرَك، والبِطَرْك، والبَتْرَك، والبطريك، والبطريرك، والفطرك، والفطريرك، والبطريق. فهل بعد هذا من ينكر هذه المفردات، ومعانيها ولغتها، وقد أيدناها بالشواهد والنقول الموثوق بها؟ وهل يستطيع المُتَبَلْتعُون السوريون، أن يضحكوا من كتّاب مصر، لأنهم يستعملون في مقالاتهم مثل سكرتير، بروفسور، ودكتور، وماجستير، وليسانسيه؛ وكلها ألقاب وضعها الغربيون كأنها أعلام ألقاب. ومن ثمّ لا حقّ للناطقين بالضاد أن يغيروها، ولا أن يترجموها بأي صورة كانت. وقد جمعنا من الألقاب الغربية التي عرَّبها العرب نحواً من مائتين وخمسين؛ ولم يفكروا يوماً بوضع مقابلات لها في لغتهم، لا بل أن بعضهم ظنها مُضَرِيَّة محضة، ولا صلة لها بغير لغتهم. وأنا أذكر هنا بعضاً منها مصداقاً لكلامي. من ذلك ما يتمم بَحْثي السابق:
6 -
الدوفن
قال ابن مكرّم في تركيب (د ف ن) ما هذه عبارته بنصها: (ودَوْفَن: اسمٌ. قال ابن سيده: ولا أدري أرَجُلٌ أم موْضع. أنشد ابن الأعرابي:
وعلمت أني قد مُنيتُ بِنِئطِلٍ
…
إذ قيل: كان من آل دَوْفَنُ قُمَّسُ
قال: فإن كان رجلاً، فعسى أن يكون أعجمياً فلم يصرفه، أو لعل الشاعر أحتاج إلى ترك صرفه، فلم يصرفه؛ فإنه رأيٌ لبعض النحويين. وإن كان عنَى قبيلة، أو امرأة، أو بقعة، فحكمه ألا ينصرف؛ وهذا بين واضح. اهـ
وقد نقل صاحب التاج عبارة اللسان من غير أن يشير إلى مأخذها مع أن النص واحد بلا أدنى تغيير، سوى أنه قال: قمَّسِ وهي قمس؛ وقال: إن كان عنى قبيلة والصواب وإن كان عنى قبيلة
وقال صاحب القاموس: ودوفن رجل وامرأة. وفي بعض النسخ: رجل أو امرأة
قلنا: فما معنى هذه اللفظة، ومن أي لغة هي؟ فعند الوقوف على الحقيقة، تضمحل الآراء المتضاربة، ويقبض على ناصية الحق فنتمسك بها
أما رأينا فهو أنها من الفرنسية على حد اللفظ العربي ومعناه. وكان أصل وضعه لقباً
للثنيان الفرنسي أي للذي يكون دون السيد أو الملك في فرنسة؛ ثم غلب هذا اللقب على كثيرين من أولئك الأشراف، فصار بمنزلة العَلم لهم، وأول من لقب بذلك، كان في عهد كيك أحد قمامسة فينّة الفرنسية، المتوفى سنة 1142 للميلاد. وفي أوفرنية كان أحد القمامسة في عهد غليوم السابع. وكان لقب به لأول مرة سنة 1152؛ ثم أنقلب هذا اللقب فصار علماً لأولئك الرجالات، ومن أراد التفصيل فليراجع كتب التاريخ والمعاجم في مادة دَوْفن. وهناك دوفن أشتهر بدوفن أوفرنية وهو شاعر بروفنسي، من المائة أل 12 أو أل 13، واسمه الحقيقي روبر وكان دوفناً من سنة 1169 إلى سنة 1234
ودوفن أيضاً امرأة الدوفن، وبالفرنسية والأحسن أن يقال في العربية دَوْفَنة لكي لا تلتبس بالمذكر ودَوْفن أيضاً، والأحسن دَوْفِينَه عَلَم بقعة في فرنسة. فصحَّ بهذا التأويل أن (دوفن) كلمة أعجمية وإنها أتت بمعنى أسم رجل، وأسم امرأة، وأسم بقعة، ومما يؤيد أن الدوفن هو بالتأويل الذي ذكرناه أن الشاعر قال:
(كان من آل دوفن قمَّسُ)
والقُمَّس هو سابقاً، والذي نقل بعد ذلك إلى صورة كُنْت ومعلوم أن البيت الذي فيه دَوْفن، قد يكون فيه عدة قَمامِسة، إذا كان فيه عدة ذكور، غير البكر ونحن نذكر بعد هذا القمس ونبحث في مختلف لغاتِهِ
ومن الغريب أن المعاجم الإفرنجية، وبالعكس أي المعاجم العربية الإفرنجية. لم تذكر مقابلاً للفرنسية كما لم تذكر مقابلاً إفرنجياً للدَوْفَن. فمعجم بادجر الإنكليزي العربي، (وهو أساس جميع المعاجم الإنكليزية العربية ذكر مقابلاً لها في العربية (بكرُ ملك فرانسا) - وقال نجاري بك، في معجمه الفرنسي العربي:(بكري الأمير) وهو كلام لا معنى له. - ومعجم غسلين الفرنسي العربي ذكر المؤنث ولم يذكر المذكر فقال: (زوجة ولد سلطان فرنسة) وهذا غريب. - وقال الأب بلو في معجمه الفرنسي العربي: (ولي عهد ملوك فرنسا) - وأما صاحبنا الشهير إلياس بقطر فقد قابله بقوله: (ابن بكر سلطان فرنسا)
ولا تسألني عمن نقل (دوفن) إلى لغة أجنبية في المعاجم العربية الغربية، فإن أصحابها جميعهم أهملوها كأنها لم تكن، وفي كل ما ذكرناه من النقول، ما يبين لك قصور أرباب تلك الدواوين، وبذلك يظهر لك ما فيها من النقص والعجز، والحاجة إلى الإصلاح الأعظم
(له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
خواطر في الموسيقى والناس
في الإنسانية خير
ما دام فيها أمثال (شتروس)
للأستاذ سيد قطب
منذ لحظات كنت أستمع إلى أفراح الإنسانية العذبة في موسيقى (شتروس) في أحد الأفلام الشهيرة. لست أدري كم مرة شاهدت هذا الفيلم؛ ولكنني أدري أنني انسقت لمشاهدته كالمسحور، كلما قرأت عن عرضه في إحدى الدور.
وفي لحظة من لحظات الشك التي تساور النفس هذه الأيام في ضمير الإنسانية وطبيعتها؛ وفي غمرة من غمرات اليأس أن يكون في الفطرة البشرية خير أو تطلع؛ وفي فترة من فترات الخمود الروحي والجسمي، رانت على النفس فيها غشاوة، وحطت على الجسم فيها أثقال، ذهبت منساقاً إلى استماع هذه الألحان
وإن هي إلا لحظات، ونغمات، ورقصات، حتى أحسست بالخفة الناشطة في نفسي وجسمي؛ وبالرجاء المشعشع والاطمئنان المصفى، والأمل المحلق، والإنسانية الطليقة، والفرح السعيد.
قلت في نفسي: إن الإنسانية التي وسع ضميرها كل هذه الأفراح النقية وكل هذه الغبطة البريئة، والتي ذخرت طبيعتها هذا الفيض الإنساني المرح، وتلك الطلاقة الروحية المرفرفة في ألحان (شتروس) ورقصاته، لا يمكن أن تخلو من الخير، وأن تتهم بالإقفار من الحب، مهما نغل فيها اليوم من أحقاد وأضغان
هذا الفرح الملعلع في أجواز النفس وأجواز السماء؛ وتلك الطلاقة التي لا ظل فيها لقيد من قيود الأرض والغريزة؛ وذلك التحليق النابض بالحياة الحلوة البريئة؛ هذا كله لا يكون إلا أن يكون في البشرية خير مذخور، ورجاء منظور، وقبس من نور. وإلا أن يكون لها في السماء أمل، وفي الفراديس مكان، لا يتاح لغير الإنسان
وذكرت في هذه الساعة من يتحدثون عن (الفكر والسلطة) ومن يتحدثون عن (منفعة) الفنون المجردة. أولئك الذين يرفعون مرتبة التنفيذ فوق مرتبة التوجيه، وهؤلاء الذين لا
يريدون أن يروا في (الإنسان) إلا معدته.
قلت: أين هي السلطة الكائنة على وجه هذه الأرض التي تستطيع أن تصنع من الخير ما تصنعه هذه الحان؟ بل أين هي النبوة التي تستطيع أن ترتفع بالفطرة إلى أعلى من هذا المكان! ثم أية (منفعة) في هذه الدنيا الفانية أنفس من هذه السعادة التي تقرب وتقرب، حتى لها نغمة في الآذان وحركة في الأبدان
لن يستطيع ذو سلطان يعتمد على السلطان، مهما سما فكره، وطابت نفسه، أن يصنع مثل هذا الخير، وأن يطلق النفوس من غرائزها وقيودها، فرحة سعيدة راضية، لا تخطر الخطيئة لها ببال، ولا يهجس الشر لها في الضمير؛ وهي محلقة في هذا الأوج، مرفرفة في هذه الآفاق، خالصة من وحي الفناء ولذع الشقاء.
ولن يستطيع أكبر المخترعين والمهندسين والعالمين أن يزجي إلى الإنسانية باختراعاته وآلاته ونظرياته هذه السعادة التي تحسها وهي تستمع لمثل هذه الأنغام. وإذا لم تكن غاية الجهاد في الحياة هذه السعادة العالية وتلك الغبطة الراضية، فما عساها تكون؟
جالت في نفسي هذه الخواطر ثم استعرضت لخيالي صورة المجزرة البشرية في هذه الأيام، وصورة الحقد الوخيم، والضغن الذميم الذي يؤرثها، وصورة الغرائز المتسفلة التي تهيجها الدكتاتورية وتملقها في طبائع الأفراد والشعب، وصورة الذلة المشتعلة التي تثير الإعجاب في بعض النفوس ببطش الباطشين وغدر الغادرين. . .
فقلت: كيف اضطغنت البشرية هذا الحقد الحيواني كله، ووسعت معه ذلك الفرح الإنساني كله؟ ثم ذكرت قول العقاد: ثقلة في الحياة لم ينج طبع من عراقيلها ولم يخل عرف
وذكرت أن الإنسانية - كما يقول تاريخ الحياة - لا تزال طفلة تحبو في مدارج الزمن والارتقاء، وأن الحياة كلها لم تتجاوز الفجر الأول؛ فهي ما تزال تعيش حتى اليوم على نبات الأرض وحيواته، كما يعيش الطفل الرضيع على لبن أمه؛ ولن تبلغ هذه الحياة طور الصبا حتى تتطلع إلى غذاء تصنعه وتخلقه غير الغذاء الذي تجمعه وتؤلفه، كما يصنع الطفل بعد الفطام سواء
فينبغي ألا نستعجل الزمن، وألا نخدع بأبناء الحياة السابقين أولئك الفنانين الذين نضجوا قبل الأوان، وسبقوا خطوات الإنسانية بمراحل وأزمان، فتلك بواكير الروض، وطلائع
الثمار. والغد كفيل بالجني والقطاف!. . .
وما كنت أملك إلا توغل نفسي هكذا في الرجاء، وألا تتطلع إلى الأجواز والآفاق، وأنغام (شتروس) تتخلل دمي فترقرقه مزاجاً صافياً، وتلمس روحي فتطلقها ترفرف في السماء، وتخلصني من ثقلة الأرض ووكسة الغريزة، فأتطلع إلى هناك. . . إلى حيث الإنسان المرموق في آمال الوجود
وتشاء المصادفات الساخرة العجيبة أن أخرج من هذا العالم الوضئ الإشراق، فيطرق سمعي - على غير إرادة - صوت المذياع وينقل إلىَّ بعض الحشرجات البائسة التي يسمونها في مصر أغنيات جديدة!
يا للشيطان! بل أظلم الشيطان، فما تستطيع طبيعته أن تهبط إلى هذه المناقع والقيعان وأن تدبر لي تلك المفاجأة في هذا الأوان!
رباه!
أيمكن أن يكون واضعو هذه الهنبشات والحشرجات ومستمعوها من أبناء آدم الذي نعرفه، وأن يكون (شتروس) ومستمعوه من أبنائه كذلك في آن؟
محال. فما تلك إلا دويبات وجنادب وهوام، وأشياء أخرى مما يرتكس في المناقع والقيعان. وإلا فما كانوا يطيقون مجرد الصبر على هذا الغُثاء؛ وفي متناولهم تلك الموائد الربانية الشهية وذلك الغذاء السماوي المريء!
(حلوان)
سيد قطب
بين الأدب والتاريخ
الرحلات العربية
كيف بدأت ومتى دونت؟
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الرحلة هي النقلة من مكان إلى آخر. وقد تكون فردية لا يحتاج الإنسان فيها إلا إلى راحلته وهمامة نفسه ومشدود رحله. وقد تكون جماعية يخرج فيها الجم الغفير من الناس لغرض من الأغراض أو باعث من البواعث
وأكثر الرحلات يأتي طوع الإرادة ووليد المشيئة من غير اضطرار ولا قسر. وبعضها يكون وليد ظروف طارئة أو مناسبات قاهرة، تخرج المرء أو الجماعة عن الموطن الأول، أو ترمي به بعيداً عن مراتع صباه وملاعب شبابه، إلى وادٍ سحيق، أو مطرح بعيد. . .
ومن الرحلات ما يغير أوضاع التاريخ ويفرض على العالم نظاماً جديداً، فيقرب بعيداً، أو يبعد قريباً، أو يصل بين شعب وشعب، أو يربط بين جنس وجنس، فتظهر لغات جديدة، وثقافات جديدة. ومن هذا النوع رحلة القحطانيين من الجنوب إلى الشمال؛ أو إذا شئت التدقيق من اليمن إلى الحجاز. وهي رحلة جماعية كبيرة، وسَّمها إذا شئت هجرة، وسمِّها إذا أردت انتقالاً. ولكنها على كل حال أخرجت القحطانيين من ديارهم ونشرتهم في أنحاء الجزيرة العربية وأخرجت منهم بطوناً كثيرة وقبائل كثيرة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأدب
ولقد كانت هذه الرحلة بنت القهر ووليدة الاضطرار، وسببها أن سيل العرم فاض وبلغ الزبى فاكتسح السدود، ورمى بالحواجز، وغمر الأرض، وبُدِّل السبئيون حالاً بحال، فارتحلوا إلى الشمال - ولولا هذه الرحلة الجامعة ما قام المناذرة على حدود الفرس، ولا استقام ملك الغسانيين على حدود بلاد الروم
ومن سوء حظ التاريخ والأدب أنه لم يهتم بهذه الرحلة واحد من المهاجرين المشتركين فيها ولم يدون أبناءها ولم يصف مشاهدها وكل ما وصل إلينا منها أنباء قليلة بعضها من مصادر دينية، وبعضها يعتمد على الرواية والأخبار. ولو اهتم بها أحد ممن حثوا مطاياها أو شدوا رحالها لخرج لنا سفر عظيم من أسفار الرحلات الخالدة.
وبعض الرحلات أو الهجرات يكون ضرورياً لإكمال دعوة في أرض بعيدة غريبة، واجتناب أذى في دار قريبة حبيبة، ومن ذلك هجرة النبي محمد عليه السلام إلى المدينة بعد ما أوذي في مكة بين أهله وعشيرته مما هو مدون بالتفصيل في كتب السيرة الزكية
ولقد هاجر بعض المسلمين الأولين إلى الحبشة فراراً من الأذية، واستجابة لدعوة الجهاد - والحبشة بلاد كانت معروفة عند العرب وكان الاتصال بينها وبين الجزيرة قائماً إلا أن الإسلام زاده ووسعه. وكان في استطاعت بعض الراحلين أليها من المسلمين أن يدونوا رحلتهم ومشاهدها، إلا أنهم لم يفعلوا. ولعل مشاغل الجهاد ومتاعب الكفاح صرفتهم
والرحالة الذكي الفطن يستفيد دائماً من رحلته علماً وتجربة، ويكتسب منها فوائد، ويفتح عينيه دائماً على ما أمامه من مشاهد وما يلاقيه من معالم. فلا يدع شيئاً يمر من غير أن يقف على حقيقته، أو يكشف عن ماهيته، كما صنع بعض الرحالين من العرب الذين سنشير إليهم فيما بعد
وتزداد الرحلات بالطبع تبعاً لسهولة الاتصال بين المكان والمكان؛ فإن الاتصال هو الأداة الوحيدة لاستكمال الرحلة ونجاحها. ومن هذا نفهم قلة الرحلات وندورتها في الزمن القديم
وقد كان لقريش قبل الإسلام رحلتان عظيمتان: إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام. أشار إليهما القرآن الكريم في سورة خاصة من القصار. وكانتا تتعاوران في كل عام. وكان فيهما بالطبع ما في كل رحلة من لذة ومتعة واستجمام وطرائف ومشاهد. . . إلا أن ذلك كله لم يدون لمكان العرب من الأمية ومنزلتهم من البداوة. . . واكتفى أعضاء هذه الرحلات - وسنسميهم رحالين تجاوزاً - بقص القصص وسرد الحديث وإطالة الأسمار كلما حطوا الرحال إلى مكان، أو أستقر بهم النوى في أي مستقر
ومن حكماء العرب وشعرائهم من جاب البلاد، وطاف كل مطاف، وأنهم وأنجد، وشرق وغرب؛ إلا أنه لم يسجل لرحلته تاريخاً ولم يضع لها ثبتاً، ولكنه مضى على السفر إلى غير غاية. . . اللهم إلا المتاع ورياضة النفس واستجمام الخاطر. وقليل منهم من سافر لحكمة يصطادها أو معرفة يقتنصها
ولقد طوف امرؤ القيس في الجزيرة فخرج من بني أسد، ومر على السموأل بن العاديا في حصنه، وذهب إلى اليمن؛ وشاهد الموج يصطخب في البحر ويتعالى لجة فوق لجة فشبه
به الليل في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
على بأنواع الهموم ليبتلى
وأبعد في الرحلات والأسفار حتى وصل إلى بلاد الروم، ودخل أنقرة. ويقال أنه لقي قيصر وأتيح له من أسباب الرحلة ما لم يتح لغيره لغناه وشرفه ومكانه من السيادة في قومه، إلا أنه لم يدون هذه الرحلة في شعر طويل أو في نثر عريض، ولكنه أشار إليها في بعض قصائده
ولقد طاف أبو بصير الأعشى كذلك وأكثر من الرحلة، وظهر لذلك بعض الأثر في شعره، فقال:
قد جبت ما بين بانيقيا إلى عدن
…
وطال في العجم تردادي وتسياري
وأدخل بعض ألفاظ أعجمية في شعره تظرفاً أو تعالماً كقوله:
وشاهدنا الجل والياسمي - ن والمسمعات بأقصابها
إلا أنه لم يصنع أكثر مما صنع أمرؤ القيس
وجاء الإسلام وفتح المسلمون بلاداً جديدة، ودخلوا أرضاً كثيرة لم يدخلوها، وصار إليهم ملك واسع يحتاج إلى سهر كثير لحفظه، ويحتاج إلى تعب كثير لضبطه. فعرفوا الكثير عن البلاد المفتوحة ودروبها وجوادها وجبالها وأنهارها وغلة أرضها ومتنوع ثمارها ليجمعوا الخراج على قدر ذلك وليفرضوا الأموال على نسبته. ولم تكن هذه المعرفة مبنية على علم دقيق أو بحث متين ولكنها كانت تميل إلى التقريب أكثر منها إلى التحديد
ثم كثرت الرحلات التجارية بين أجزاء المملكة الإسلامية - وهي تذكرنا برحلتي قريش في الشتاء والصيف - إلا أن هذه كانت بين أقطار بعيدة وكانت تحمل من عروض التجارة ألواناً عديدة
ولقد ساهم الشعراء في نوع جديد من الرحلات يلتمسون به المال ويطلبون العطاء من ممدوح يقصدونه، أو عظيم يندبونه، فيكون ذلك الاتصال سبباً في بروز الشعراء وتألق نجمهم. يخرج الواحد منهم من رمال البادية إلى معالم الحضر، أو يخرج من مدينة إلى مدينة، أو يرحل من قطر إلى قطر طلباً للجاه والشهرة؛ ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة، لأنه مشغول عن ذلك كله بالحاجة التي قام إليها وركب الأسفار
من أجلها. . .
ولقد خرج (جرير) من بادية اليمامة إلى عاصمة الخلافة الأموية يقصد عبد الملك بن مروان ويقول لامرأته:
سأمتاح البحور فجنبيني
…
أذاة اللوم وانتظري امتياحي
وخرج أبو نؤاس إلى مصر (راحلاً) يمدح الخصيب ويقول:
ذريني أكثر حاسديك برحلة
…
إلى بلد فيه الخصيب أمير
وابن هانئ الأندلسي يخرج من الأندلس إلى شمالي أفريقية فيمدح الخليفة المعز ويرحل معه إلى مصر ويصف هذه الرحلة في بعض شعره
وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلى أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والأسفار. فهي عقيمة كل العقم من هذه الناحية
ولم يبتدئ الاهتمام بالرحلات لذاتها وتدوينها في أسفار خاصة، وتقييد كل ملاحظات الرحالة عليها إلى في القرن الرابع الهجري - المقابل للعاشر الميلادي -
ومن المقدمين في هذا الباب المسعودي صاحب (مروج الذهب) وقد أولع بالأسفار وهو صغير، وخرج للسياحة ولم يسلخ العشرين من عمره. ويمتاز ببعض الدقة العلمية، وعدم التصديق لكل خرافة تذاع أو ذائعة تشيع. وعبارته في الكتابة قوية لا تميل إلى ضعف ولا تجنح إلى ركاكة
أما البيروني - وكان من رحالي القرن الرابع أيضاً - فقد ترك لنا كتابيه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) و (تاريخ الهند). ويعد كتابه الثاني أوفى مرجع عن بلاد الهند وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها
ولقد ظهر في هذا القرن أيضاً رحالة عظيم اختصه الأستاذ أحمد أمين بمقال ممتع في الجزء الثاني من فيض الخاطر. وأسمه أبو عبد الله القدسي. وكتابه الذي وضع فيه قوانين الرحالين، وقواعد السفر، وشروط من يتصدى لشد الرحال اسمه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). وقد رأيته عند صديقي المستشرق الهولندي (مستر ستريكر)، وكان يعتمد عليه في دراساته الجغرافية التاريخية
ويمتاز هذا الرحالة باستجماع عدة الجوّاب، واستكمال أدواته. فقد عمل كل ما يستطاع
عمله لدرس حالة البلد الذي ينزل فيه. واتصل بالملوك، وخالط السوقة وعمل في أشرف الأعمال، وزاول أحقرها. ولقي في تأليف الرحلة وتدوينها عنتاً كثيراً ليكون كلامه عن صدق، وروايته عن تجربة، أو كما قال هو عن نفسه:(وإنما ذكرت هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا أننا لم نضعه جزافاً، ولا رتبناه مجازاً، فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من صنف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع)
ومن الرحالين المشهورين ابن جبير الأندلسي وابن سعيد المغربي صاحب كتاب (المغرب)، وياقوت الرومي صاحب المعجمين المشهورين:(معجم الأدباء) في تراجم الرجال (ومعجم البلدان) في جغرافية البلاد
وفضل معجم البلدان على كتب الرحالين جميعاً أنه - كاسمه - معجم مرتب ترتيباً أبجدياً لكل بلد أو مكان أو قطر مشهور أو مغمور، أو أرض عامرة أو غامرة، أو مدينة صغيرة أو كبيرة. وطالما أسعف الأديب بطلبته في الكشف عن محلة، أو الاهتداء إلى موضع، أو تحقيق غوطة، أو معرفة واد، أو متابعة نهر في مجراه. ويتخلل ذلك كله شعر جميل، أو رواية واسعة، أو قصة طريفة، أو حادثة تاريخية، أو ذكر يوم من أيام العرب
ولقد أعتمد عليه من أتى بعده من الرحالين في تحقيق الأماكن، ومعرفة المواطن. ولابن بطوطة شهرة واسعة برحلته المعروفة. وتمتاز بما فيها من ذكر الكرامات واستطراد الحكايات، وتصديق الخرافات. . . ويظهر أن صاحبها كان حسن الاعتقاد سهل التصديق. والحق أنها ليست تَسْوي من الناحية الأدبية شيئاً بالقياس إلى الناحية الجغرافية؛ ومؤلفها من رحالي القرن الثامن الهجري، المقابل للرابع عشر الميلادي
ولقد سكنت ريح الرحلات حيناً في عصور الاستبداد المظلمة لقلة الأمن وصعوبة الرحلة. ويظهر أن سلسلة الرحلات العربية كانت باعثاً لرحلات الغربيين التي تمخضت عن كشف أستراليا وجزرها. وكشف العالم الجديد الذي يبلغ عمره الآن أربعة قرون ونصف القرن
وفي مفتتح القرن التاسع عشر عاد العرب إلى نشاطهم في الرحلات. وكان حظ مصر في هذا المضمار عظيماً؛ فظهر جماعة من الرحالين الذين أنتجوا كتباً قيمة في أدب الأسفار. منهم: رفاعة بك الطهطاوي، وعلي باشا مبارك، وأمين باشا فكري، والشيخ أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب (الواسطة في أخبار مالطة) وهو ممتع لذيذ. ومحمد لبيب البتانوني
بك صاحب (الرحلة الحجازية) و (رحلة الأندلس) وغيرهما. وأمين الريحاني زعيم الرحالين في العصر الحديث، وقد ماتوا جميعاً إلى رحمة الله
أما الأحياء فنذكر منهم المكتشف الرحالة أحمد حسنين باشا صاحب (في صحراء ليبيا)، والأمير شكيب أرسلان صاحب (الحلل السندسية)، والأساتذة: محمد ثابت، وجميل خانكي المحامي، وتوفيق حبيب، ونزيه مسعد الصحافيين. أطال الله حياتهم
محمد عبد الغني حسن
من مدهشات العلم الهندسي والصناعة الحربية
المدافع الثقيلة
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
لاشك في أن مدفع برتا الذي ظهر في أواخر سني حرب 14 - 18 من مدهشات العلم والصناعة. أراد الألمان به أن يعزّزوا هجومهم في جبهة باريس بعدما طال وقوفهم أمام استحكامات الحلفاء في الخط الأخير في الميدان الغربي. وهذا المدفع الضخم العظيم كان من تصميم ووضع البروفسور المهندس راوزنبرجر من حوالي عالم 1909 وأخرجته إلى حيز الوجود مصانع كروب في مدينة إيسن بإقليم الرور الصناعي
وأسطوانة هذا المدفع (الماسورة) من الصلب الكهربائي أي الصلب المصهور في أفران كهربائية ويضاف إلى المعدن المصهور السائل بعض عينات من معادن كالمنجنيز وغيره تزيد في صلابة السبيكة وشدة مراسها ومقاومتها للظروف العظيمة واحتمال الحرارات العالية الناجمة من انفجار وخروج المقذوفات. وتصنع كذلك بعض أجزاء المدافع الأخرى التي عليها ضغوط أو رضوض أو ارتكازات هائلة من نفس المعدن النفيس السابق ذكره؛ وأمر هذا المعدن من اختيار خاماته إلى صهره إلى حرارته إلى إضافات معدنية أخرى إلى صبه إلى تبريده من الأسرار الصناعية التي يُحرص على تكتمها
وكان لشدة انفجاره عند بدء تجربته في تهديد استحكامات الخلفاء دوي مفزع وقعقعة شديدة وصلصلة مصمة وصفير حاد نافذ صارخ، أخذ كل ذلك بألباب الجنود أول الأمر وأفزعهم وأزهق منهم الأنفاس، وأدخل الارتباك في صفوفهم والذعر بينهم، وتناقلته الألسن بالتهويل. أما آثار التخريب الحقيقية من وقوع القذائف على الأهداف فلم تكن مما يناسب هذه الأصوات المدويَّة، وإن كانت لبعد المرمى تصيب التحصينات الخلفية الأقل استعدادا. وأخذت قيادة الحلفاء بهذا الأمر على غرة فاستعدت له وأصلحت من آثار وقعه في نفوس الجنود
ونظراً لبعد المرمى الذي يبلغ عشرات الكيلو مترات لا يمكن ضبط وتحديد الهدف، وعدم سقوط كل قذيفة تالية على سابقتها. وتتعذر الرؤية، وقد تسوء وقد تخطئ، ولابد من ستر المدفع وإخفاء موقعه؛ وهو يشغل مساحة كبيرة ويعلو في الهواء، فأمر تعميته وتغطية
العمليات العسكرية التي حوله ليست أمراً سهلاً؛ وهي اليوم من الفنون الحربية. وهو لا يشتغل دواماً برمي قذائفه بل لابد من راحة طويلة بعد كل سويعات، ولابد من راحة أطول بعد كل عملية، إذ الحرارة الشديدة لا يمكن تلطيفها بسرعة، وهي تقوِّس من استقامة الاسطوانة. وكذلك التآكل المعدني في سطح الاسطوانة الداخلي نتيجة احتكاك وانزلاق المقذوفات وخروجها حلزونية، وللترفيه كذلك والتخفيف النفساني عن الجنود القائمين بأمره
وسمي (برتا) باسم بنت أو أخت كروب الكبرى. وأنتظر الألمان من وراء استعماله مفاجأة للعدو وأثار تخريب وتمهيد نفساني؛ ولكن برغم سقوط بعض القذائف في باريس ودويّها في ضواحيها، فلم يتأت لهم جني ثمرة مغرية من غرسه. وكانوا يودون نصبه في كاليه ليضربوا منها الساحل الإنجليزي عند دوفر عبْر بحر المانش ولم يدركوا هذه الأمنية كذلك. وإذا ما علمنا أن الألمان عند أول استعمال هذا المدفع أعوزتهم بعض أمور نقص في البناء والتصميم والتركيب والحساب والخبرة وضيق الوقت والعجلة في الصنع وحرج الموقف الحربي، فيمكن القول أجمالاً بأن تجربته تمخضت عن فشل في الخارج والداخل. وإذا ما قدرنا ثمن أجزاء المدفع الباهظة ومعادنه النفيسة وثمن تشغيله وتضخم النقد وما علق الألمان عليه من آمال، أدركنا قيمة سقوط هذا المبتدع المخرب العظيم، وانتهت الحرب بانتهاء سنة 1918 على الوجه الذي نعلم جميعاً
غير أن الألمان أخذوا من الفشل درساً وعبرة، ولم تعجزهم تضييق شرائط الهدنة والصلح، حتى ولا سقوط النقد بعد الحرب والاضطراب السياسي، عن متابعة التحسين ومداومة الإبداع والاستحداث سراً، فأكملوا النقص وأصلحوا الأخطاء وصححوا المعايير الحسابية والأوزان الهندسية والنظريات العلمية والتراكيب المعدنية؛ وظهر مدفع برتا الثقيل من جديد في مخابئ كاليه على الساحل الفرنسي المحتل يطل بفوهته على البحر ويرنو إلى الشاطئ الإنجليزي، يقذف عليه الحمم ويصب النار والدمار تدله الطائرات بالاتصال اللاسلكي، وكذلك السفن الصغيرة السريعة على مواقع الأهداف وعلى سرعة واتجاه القافلات البحرية
إلا أن الإنجليز من جانبهم كالوا للألمان صاعاً بصاع وقذيفة بقذيفة وطلقة مدوية بطلقة داوية، فبهت الألمان وأدهشتهم المدفعية الإنجليزية الثقيلة. ولابد من الانتظار حتى تنتهي
هذه الحرب لنقول أي المحاربين كان لسلاحه أحسن استعمالاً وأدق تصويباً، وأي مدفعية أحق بالذكر والخلود في سجل مخربات حرب 1939
ويعقب كل طلقة تمزق في الهواء وتخلخل فيه واضطراب، ويمتد أثر هذه الخلخلة المدمرة والضغوط الهوائية إلى وديان واسعة، وينتشر أثرها المخرب إلى أبعاد مترامية. وعند أول استعمال هذا المدفع قضى على رجاله وطوح بهم، فكانوا بعد ذلك يطلقونه بالاتصال الكهربائي بعد شحنه وهم محتمون بالخنادق الأرضية والغرف المحصنة. وحدث أن كان جنديان من جنود مراقبة الحلفاء واقفين على شجرة مرتفعة يرقبان حركات العدو، أن هويا على رأسيهما من حالق إثر طلقة تمزق بعدها الهواء وأندفع بقوة عاتية
ومع أن تكاليف هذا المدفع الثقيل باهظة وتشغيله يكلف الأموال الطائلة فإن أثره المخرب لا يوائم هذه المصاريف. إنما يقصد به زعزعة الروح المعنوية وانتشار الذعر والهلع والدهشة الانتفاض والإحراج والفوضى وبلبلة الأفكار والتهويل، وهذه كلها تتطلب ثمناً ولا يقل أثرها في الحرب عن أثر التخريب والتدمير. ويقصد كذلك دك الحصون القوية وأجزاء الجيش المحصنة داخل الأسوار وتحت الأقبية. وحدث في الحرب الماضية أن وقف المغيرون الألمان أمام بعض الحصون البلجيكية التاريخية كنامور وليبج عاجزين عن سحق مقاومتها وتركوا أمر ذلك أخيراً لأعمال هذه المدافع. وحدث مثل هذا في هذه الحرب. ولما تابع الألمان زحفهم لتطويق جيوش الحلفاء في سهول الفلاندر قامت المدفعية الثقيلة في البوارج بتغطية الانسحاب وتعجيز الألمان عن اللحاق بالمنسحبين. وكانت تقع القذيفة على الدبابة الهائلة فتنثر أشلاءها وتصبحها فتاتاً. ولما قاومت فارسوفيا ورفضت التسليم طوقها الألمان بالمدافع الثقيلة فدكوا ربوعها وروعوا أهليها
ويحتاج المدفع الثقيل الواحد إلى 12 عربة نقل من عربات السكة الحديد، وإلى 5 عربات ذات بناء خاص لنقل الاسطوانة وغيرها من الأدوات الهامة، وهو يزن 88. 750 كيلو جراماً (ثمانية وثمانون طناً وثلاثة أرباع الطن). وتزن اسطوانته وحدها التي يبلغ قطرها الداخلي 42 سنتيمتر أو 17 بوصة 7500 كيلوجرام (سبعة أطنان ونصف). ويزن الترباس 1250 كيلو جراماً (طناً وربع الطن). وتزن كمية الخرطوش المتفجرة ثمانين كيلو جراماً، وهى من المفرقعات ذات القيمة العالية والضغط الهائل؛ وتشغل غازاتها
وأبخرتها إثر الاحتراق والتسامي من حالة الصلابة إلى الغازّية حيزاً كبيراً جداً. ويندفع لسان اللهب بعد الطلقة ويسير عشرين متراً، كما ترتد الاسطوانة عقب كل انفجار مائة وستين سنتيمتراً إلى الوراء رغم صدِّها وفرملتها بأسطوانة تحوطها مليئة بالجليسرين والهواء المضغوط. وترتفع القذيفة (الدَّانة بالوصف العسكري) في الهواء إلى ستة آلاف متر؛ ويحتاج المدفع الثقيل إلى 135 جندي لإدارته وتشغيله. والمدفع مصفّح من الأمام بدرع متينة لحماية جنود النيشان وضبط آلات الرصد. وتكلف الطلقة الواحدة ما يقرب من ألف جنيه. وتزن القذيفة تسعمائة كيلو جرام
وتتطلب هذه المدافع أسساً قوية تتحمل الضغوط والرضوض والأثقال. فالأرضية منها تُبنى لها حصيرة من الأسمنت المسلح أو ظهر الحديد المصبوب في قوالب. تربط هذه القوالب ببعضها ويحوطها سِياج من الحديد يضمها إلى بعضها، وهي بهذا الوضع يمكن نقل أساساتها. أما المدافع الثقيلة في البوارج البحرية فهي من الأعمال الهندسية الجبارة. وتحمل بعض وحدات الأسطول الإنجليزي من هذا المدفع ما سعة قطر فوهته 14 بوصة من الداخل. وهي مثبتة على ظهور السفن ذات السطوح المدرعة، وروعي فيها الإقلال من الوزن قدر المستطاع لضمان حرية في التوجيه والدوران أكبر، وزوايا الارتفاع والانخفاض
وما دمنا قد ذكرنا بعض ما قامت به المدافع الثقيل الأرضية من أعمال في هذه الحرب فلنعرض كذلك لبعض ما قامت به المدافع البحرية الثقيلة ولننوه بعملها الشاق ليل نهار في الانسحاب الناجح من أوربا بعد تسليم الجيش البلجيكي ولندلل على البسالة في بحار الشمال قبالة الساحل النرويجي. كما برهنت المدفعية البحرية الثقيلة في الأسطول الإنجليزي على تقاليد عظيمة وهندسة عالية وفن راق في مياه البلطيق والبِلت والاسكاجراك وفي البحر الأبيض مواجهة الساحل الليبي وفي البحر الأدرياتيكي مكنت لهندستها وصيتها ذيوعاً وإحقاقاً من ضرب العدو الإيطالي في عقر بحره وفي وهران ودكار. وبعض أعمال البطولة البحرية والرماية المدفعية أكدتها روالبندى وجارفس بي وكوزاك وأشيل وأجاكس وسدني. والمدفعية الساحلية الثقيلة في جبل طارق ودكار وكاليه ودوفر وهي كلها آيات ناطقة بالمكنة الهندسية والمقدرة الصناعية والعقل الإنساني وصفحات عظيمة في التاريخ
الهندسي في الجزء الخاص بالحرب
عبد اللطيف حسن الشامي
في مهرجان التاج
فاروق. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
فلَكٌ بِحُبِّكَ في الشَوَاطئ دَائِرُ
…
أَمَلُ الحَيَاةِ بهِ عَتيٌّ هَادِرُ. . .
رَقَصَتْ لَهُ الأَيَّامُ وازدَحَمتْ عَلَى
…
كَفَّيْه مِنْ سِحْرِ الخُلْوُدِ بَشَائِرُ
وَتَنَفَّسَ الوَادِي بهِ. فَكَأَنَّهُ
…
نَغَمٌ مِنَ الفَجْرِ المُهَلَّلِ طَائرُ
فإِذَا رَأَيْتَ النِّيلَ قُلتَ مُتَوَّجٌ
…
الدَّهْرُ صَوْلَجَهُ القُوِيُّ القَاهِرُ!
وَإِذَا رَأَيْتَ الحَقْلَ قُلْتَ قَصِيدَةٌ
…
خَضْرَاء وَقَّعَها الرَّبِيعُ السَاحِرُ
وَإِذَا رَأَيْتَ الطَّيْرَ قُلْتَ مَلائكٌ
…
لِلْحُبِ في فَمِهَا نَشِيدٌ طَاهِرُ!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ خُلْتَ بِهِمْ هَوَى
…
ممَّا يُحَمِّلُهُ المَشُوقُ السَاهِر
مُهَجٌ يَرِفُّ بها سَنَاكَ كَأَنَّهَا
…
ظَمَأٌ يَدِفُّ إِلَيْهِ نَبْعٌ زَاخِرُ
وَدُعَاء أَلسِنَةٍ يَكادُ لِطُهْرِهِ
…
تَرْفَضُّ مِنْهُ عَلَى الوُجُودِ مَجامِرُ
وَيَكاَدُ يَنْقُلُهُ إلى شفَةِ الرُّبَى
…
وَيِعيدُ نَغْمَتَهُ الحَمْامُ الذَّاكِرُ
وَأَكادُ في مَوْجِ الضِّفَافِ أَرَى لَهُ
…
رَجْعَاً يُرَدِّدُهُ الرَشَّاشُ الثَّائِرُ
وَأَكادُ أَسْمَعُهُ جَنِينَا لَمْ تُذِعْ
…
أَصْدَاَء لِجَّتِهِ إِلَيْكَ سَرَائِرُ
أَنَا مُرْعِشُ الأسْرارِ في كَبِدِ الدَُجى
…
واللَّيْلُ عَرَّافُ الظَّلَامِ مُحاذِرُ
شِعْراً هُوَ الدَّمُ لوْ لَمَسْتُ خَيَالهُ
…
فِي الروحِ أَحْرَقَني الهُدُوءُ السَّاعِرُ
أَرْسَلْتُ في فارُوقَ آيةَ حُبِّهِ
…
إِعجْازَ فَنٍّ وَحْيُهُ يَتَوَاتَرُ
إِنْ لَمْ أُذِعْ لِلنَّجْم سِرَّ جَلالِهِ
…
حَتّى يَهِيمَ بِهِ الشُّعَاعُ الطَّائِرُ
إِنْ لَمْ أُرِقْ لعُلَاهُ أَحْلامَ الضُّحَى
…
حَتّى أَرَى الدُّنَيا بهِ تَتَسَامَرُ
إِنْ لَمْ يَطِرْ نَغَمي إِلَيْهِ عَلَى رُؤىً
…
بَيْضَاَء يَحْمِلُها الصَّباحُ العَّاطِرُ
إِنْ لَمْ أَرَّ الأَفْلاكَ تُصْغِ لِمِزْهَرِي
…
وَأَنَا أُغنِّي التَّاجَ مَا أَنا شَاعِرُ!
فاروقُ يا حَادِي العَظائِم فِي حِمّىً
…
بِكَ نَجْمُهُ فَوْقَ العَوَالمِ سَائِرُ
في ضَجَّةِ الأيامِ وَالدنيا غَدَتْ
…
بُرْكانَ هَوْلٍ نارُهُ تَتَطَايَرُ
وَالحَربُ عَاجَلَتِ القِيَامَةَ يَوْمَهَا
…
فَمشَتْ بها بيْنَ العِبَادِ تُقامِرُ
نَقَلتْ جَهَنَّمَ لِلشُّعُوبِ وَإِنما
…
حَمَلَ الخَطِيئَةَ فِي لَظاها الطَّاهِرُ
إِنْ حَلَّ جَاحِمُهَا بأَرْضٍ أَصْبَحَتْ
…
وَبها القُصُورُ الشاهِقَاتُ مَقَابرُ
نَشَرتْ خَرِيف الموتِ في سَاحَاتِها
…
فَجَمَاجِمُ الْهَلكَى بِهِنَّ أَزَاهِرُ
ذَبَحَتْ أَمَانيَهَا عَلَى رَاحَاتِهَا
…
فَغَدُ الْمُؤَمِلُ فِي هَواهَا خَاسِرُ
وَغَدا بها سِيَّيْنِ فِي لَهب الرَّدَى
…
ذُو رَحْمَةٍ يَخْشَى السَّماَء وَجَائِرُ
لا تَرْوِ لِلزَّيْتُونِ ذِكرْاً عِنْدَها
…
فَحدِيدُهَا بِالسِّلْمِ جَانٍ كافِرُ
دَفَنَتْ شَرَائِعَهَا فَضَلَّلَ دَهْرَها
…
فِي غَيْهَبِ الطُّغْيَانِ شَرْعٌ حَائِرُ
فِي لَيْلِها الداجيِ وَدُونَ قَتَامِهِ
…
خَطْوُ الرِّياحِ الْهُوجِ خَطْوٌ عَاثِرُ
سَطَعَتْ بِكَ الأَوطانُ شَرقِي السَّنَا
…
فَجْرُ البَشاَئرِ مِنْ يَمِينِكَ سَافِرُ
نَشَرتْ خُطَاكَ بها سَكِينَة مُؤْمِنٍ
…
يَحْدُوهُ بَطَشٌ لِلْعَزَيمَةِ قَادِرُ!
أَنَّى مَشَيْتَ بدَتْ برَكْبِكَ آيةٌ
…
لَيْسَتْ لَها في المالِكينَ نَظَائِرُ
حُبٌّ مَدَاهُ إِلى القَدَاسَةِ يَنتهيَ
…
لوْ كَانَ لِلْحُبِّ المُقَدَّسِ آخِرُ!
أَذكاهُ شَعْبٌ في ظِلالِكَ سَابحٌ
…
يا طَالَمَا أَغفَى وَطرْفكَ سَاهِرُ!
أَوَلَسْتَ آسِىَ جُرْحِهِ مِن بَعْد ما
…
شُقتْ بِنَارِ الخُلْفِ منْهُ مرَائِرُ؟
أَولَسْتَ جَامعَ شمْلِهِ مِن بَعْد ما
…
أَرَدَاهُ فِي لَهب الشقِّاق تَنافُرُ؟
أَولَسْتَ بَاعِثَ جِيلِهِ مِن رَقْدَةٍ
…
بُوقُ النشُورِ لَها أَنِينٌ عَابِرُ؟
أَولَسْتَ قَائِدَهُ لعصرٍ أَبيضٍ
…
آياتُ مُلْكِكَ فِي سَمَاهُ مَنَائِرُ
أَولَسْتَ فَجْرَ البَائِسِينَ بِشِطِّهِ
…
وَزَمَانُهُمْ كالليْلِ دَاجٍ عَاكِرُ
أَولَسْتَ مِنْ مَاضِيِهِ بَعْثاً أَوْشَكَتْ
…
أَيَامُ (فِرعونٍ) بِهِ تَتَفاخَرُ
أَولَسْتَ لِلشرْقِ المُجَرَّح بَلْسَماً
…
يَا طَالَمَا بِنَدَاهُ قَرَّ الثائِرُ؟
يَأَيُّهَا الأَمَلُ الفَتِيُّ لأُمَّةٍ
…
كَادَتْ يُشَيِّبُهَا الشَبَابُ السَّادِرُ
قُدْهَا إِلى الجَوزَاءِ أَنْتَ شَبَابُهَا
…
وَمَعِينُ حِكْمَتِهَا الدَّفِيقُ الزَّاخِرُ
وَاسْبَحْ بِها فَوْقَ النُّجُوم فَطَرْفُهَا
…
أَبَدَاً لِحَيَاةِ بِنُورِ عَرْشِكُ نَاظِرُ
قَالوا: وَعِيدُ التَّاج! قُلْتُ: تميمَةٌ
…
لِلنِّيلِ تُنْشِدُهَا رُبي وَمَخَاضِرُ
إِنْ هَزَّتِ الأَوْتَارُ فيهِ غِنَاَءهَا
…
وَتَرَنَمَتْ لِلشَّعْبِ فِيهِ قَيَاثِرُ
فأَنَا بِقَلبِيَ جَدْوَلٌ مُتَدَفِّقٌ
…
بالشَّدْوِ مَشْبُوبُ الأَغَاني ثَائِرُ
اللهُ ظَلَّلَهُ، وَكَرَمَ شدْوهُ
…
تَاجٌ رَعَتْهُ مِن السَّماءِ مَقادِرُ
محمود حسن إسماعيل
من وراء المنظار
آدمي. . .!!
كان يوم رأيته آخر مرة في الحقل يبدو مصفاراً مضعوفاً لم تبق العلة في وجهه غير أثر ضَئيل مما كان يترقرق فيه من نضرة العافية، ولم يدع السقم في بدنه إلا بقية طفيفة مما كان يكمن فيه من فتوة الشباب؛ وكان يجيل الفأس في حركة أشبه بحركة الآلة البخارية نفد وقودها أو كاد فبدت كأنما أوهنها طول العمل
وألح عليه الداء فلم يبرح داره أياماً؛ وساورتني رغبة قوية أن أذهب لأعوده، ولم أكن أعرف موضع بيته من القرية فاستصحبت من يدلني عليه
مشيت دقيقتين أو ثلاثاً فيما يسمى القرية شارع (داير الناحية). ثم قادني صاحبي إلى حارة لا يزيد اتساعها على ثلاثة أمتار أخذت تلتوي، فأنعطف تارة نحو اليمين وطوراً صوب اليسار وأنا أمر على الجانبين بهاتيك المباني المتلاصقة التي تتشابه في كل شئ، في صغر منافذها وقلتها، وفي حجم أبوابها ووضاعة مظهرها، ثم في هذه الأقراص الجافة المتخذة من روث الماشية والمرصوص فوق هامتها كأنها الأكاليل!
ولم أكن دخلت من قبل داراً من هاتيك الدور البائسة، ولم أرى إحداها من الداخل إلا بالنظرة العابرة حين أمر بباب مفتوح من تلك الأبواب القبيحة التي تزين صدر كل منها ضبة أشد قبحاً منه
ووجدتني في فناء دار ذلك المريض الذي جئت لأودعه، وهو فناء لا يزيد اتساعه كثيراً على ثلاثة أمتار في مثلها، في ناحية منه مصطبة عليها جرة من تلك الجرار التي يحمل فيها الماء من الترعة؛ وإلى جانب المصطبة موقد من الطين أحسب أنه لم توقد فيه نار من زمن طويل فلا أثر للرماد فيه؛ وفي ناحية أخرى من الفناء وقفت جاموسة عجفاء هي أثمن ما في الدار من متاع، بل هي أصل ما في الدار من متاع، وعليها وحدها يتوقف ما فيها من معيشة. وكانت أرض الفناء إلا مساحة قليلة مبللة بالماء الذي ينساب إليها من فوق المصطبة حيناً ومن تحت الجاموسة أحياناً!
ودهشت زوجة المريض أن رأتنا وأخذتها ربكة حتى ما تجد كلاماً تقوله، وبدت الدهشة في عينيها وفي وجهها وفي ارتعاش أطرافها وتعثر خطواتها وهي تشير إلى القاعة التي يرقد
فيها زوجها. . . وما كنا لنخطئ تلك القاعة لو لم تدلنا عليها، فلم يك أمامنا غير باب تحكم إغلاقه ضبة عتيقة، وآخر أنفرج قليلاً؛ وليس مما يجوز في العقل أن تلك الضبة العتيقة، تغلق الباب دون المريض، فليس إلى حبسه سبب ظاهر أو خفي فيما نعلم. . .
وأسرعت المرأة أمامنا فدخلت قاعة المريض تخبره بمجيئنا. وتألمت إذ أدركت أنه سيحاول القيام، فأسرعت في أثرها لأقسم عليه ألا يفعل؛ ودخلت ولكني لم أره أول الأمر، فالقاعة مظلمة لا يدخلها نور النهار إلا من كوة صغيرة قرب السقف
وسمعت صوتاً يئن ويقول في إعياء وهمود بالغين: (كتر خيرك يا سيدي. . . الحمد لله. . . الله يخليك يا رب ولا يريك اللي أنا فيه)
وحركت نبرات ذلك الصوت نفسي من أعماقها، وخيل إلي أني داخل قبر أستمع إلى صوت آدمي عادت إليه الحياة منذ لحظة، فهو لطول عهده بالصمت لا يستطيع إخراج الألفاظ إلا في عسر شديد. . . وكاد يغلب الخيال يقيني، فرحت أستمع إلى ذلك الأنين المؤلم، وفي وهمي أنه يخلص إلي من تحت الأرض
ولكني رأيت الرجل حينما اعتادت النظر في الظلمة عيناي فسألته عما به؛ فأشار إلى فخذه وأسترسل في أنينه. وقالت امرأته وهي تحبس دمعها: (بعيد عنك، طالع له طلوع في فخذه وجسمه سخن زي النار)
ونظرت فرأيت الرجل ممدداً على التراب، فليس تحت جسده فرش ما ولا تحت رأسه وسادة اللهم إلا خرقة قديمة كورتها له امرأته. وعاد الخيال يغريني أنه ميت بعث، وأنه برز من جوف الأرض، حتى لقد توهمت أني أرى خضرة الكفن فيما تهدل على جسده الهزيل من ثياب!
ونظرت حولي في القاعة، فلم أجد غير بعض الحبال ومنجل وفأس في زاوية، فوثبت إلى ذهني صورة أخرى من صور الموت فقد كان آباؤنا الأقدمون يضعون مع الميت في قبره متاع دنياه!
وخرجت أستدعي الطبيب وخلفي زوجة المريض تقول في نبرات حزينة: (حصلت البركة، مستعجل ليه يا سيدي، خليك نذبحلك خروف)
أيها التعساء البائسون! إن بهائم سادتكم الذين يسخرون مثلكم في فلاحة الأرض لأسعد حالاً
منكم، ومع ذلك فأنتم آدميون كما أنهم آدميون!
الخفيف
مختارات من مراثي مسعود
من قصيدة الأستاذ محمد مصطفى الماحي:
مسعودُ يا عَلم الفصحى ومنجدها
…
ومرسل النور في أيامها الجُون
ويا مجل اليراع العفِّ في صحف
…
برئن من غمزات المطمح الدون
وكم عكفت على بحث كشف به
…
ما حير الناس من سر الدهاقين
إذا تغشت صحيح الرأي غاشيةٌ
…
جليتها برهيف الحد مسنون
وإن تكشَّف عن رعناء جائرة
…
خَصم تكشفت عن حق وعن لين
ما العلم مجداً إذا لم يحمه خلق
…
ولا الإخاء على حقد بمضمون
فارقت دنيا تبدت في مفاتنها
…
لكلِ غر هواءِ القلب مفتون
لا الخل فيها بموفٍ في مواثقه
…
ولا الصديق على سر بمأمون
بغى القوي وكم للبغي من صور
…
ذاق الضعيف بها شتى الأفانين
وأصبح الناس فوضى لا منارَ لهم
…
ولا مدبر من عقل ومن دين
وأطبق الشر حتى عاد أحْزَمهم
…
يمضي برأي من الأهواء مأفون
لا يؤمنون وإن لانت قناتهمُ
…
وكيف تؤمن غرات الشياطين
فمن مداج رمى عن قوسه عجباً
…
من النقيضين: تمكين وتوهين
ومستبد رمى الدنيا بآبدة
…
كأنما هي أفواه البراكين
في لمحة الطرف أمسى أهلها سِيراً
…
ما بين محترق منهم ومطعون
فبات ظاهر ما فوق التراب صدى
…
لكل ناء من الماضين مدفون
وبات باطن ما تحت التراب حمى
…
يأوي إلى غوره شم العرانين!
لم ينج في سبح الأفلاك معتصم
…
من البلاء ولا في مسبح النون
ويل الحضارة باتت لا تطالعنا
…
إلا بفن إلى الآثام مقرون
ومرحباً بالوحوش الضاريات ففي
…
جوارهن أمان غير موهون
هل غاية العلم أن تشقى النفوس به
…
وأن تسام عذابَ الخسف والهون
وأن يعيش ذووه عيشة نكدا
…
طاوين ما بين محروم ومسجون
فأهنأ بتركك داراً لا قرار لها
…
ما كان تاركها يوماً بمغبون
ومن قصيدة الأستاذ محمد الأسمر:
أمسعود خانتنيَ القافيات
…
وحبل القوافي لديَّ أضطرب
وماذا تقول بحورُ القصيد
…
وطوفان قولك شئ عجب
يعب ففي الصحف من موجه
…
على كل أرض وبحرٍ لجب
كتابة مطَّلع قادر
…
دءوب وليس يمل الدأب
خبير بأبحاثه صادق
…
تراه مع الحق أنى ذهب
وكم كاتب لا يعي ما يقول
…
وآخر لا يتحاشى الكذب
وكم كاتب ليس همٌّ له
…
سوى أن يقال فلان كتب
وكم كاتب همه كسبه
…
ولو كسب العار فيما كسب
يُرَى أبداً مُسْرَجاً مُلْجماً
…
رهين الإشارة، تحت الطلب
فيا ضيعة الحق بين العبيد:
…
عبيد الهوى، وعبيد الذهب
ومن قصيدة الأستاذ حسين شفيق المصري:
أمسعود هات تحدث إلينا
…
فإن لك السَّمَر المشتهى
تحدث إلينا عن العادلين
…
من المالكين وعمن بغى
فعندك أخبارهم كيف كانوا
…
ومن للضلال ومن للهدى
تحدث إلينا بهم في العصور
…
وعد في الحديث بنا القهقرى
إلى عهد مِينَا الذي كان أو
…
ل من عرف الناسُ ممن علا
أرى الناس من قبل مينا توالت
…
عليهم دهور وطال المدى
وما جهلنا بِقُدَامَى الأناسيّ
…
جاعلُهم يذهبون سدى
أما كان في الأرض مُلْكٌ كبير
…
يدين لِمَلْكٍ شديد القوى
بلى كانت فيها ممالك بادت
…
وباد الذي ملكت وانمحى
فزالت مساكنهم والقبور
…
وآثارهم، كزوال الرؤى
وما الدهر إلا سحاب تمر
…
فعهد يجئ وعهد مضى
ومن تلد الأرض تأكله إما
…
شواَء وغى أو قديد ضنى
أما في ظلال السلام الردى
…
كما هو تحت قتام الوغى
رويد الجحافل فيما القتال
…
وفي اللهو قتل لهذا الورى
وهذا الغرور إذا ران يوماً
…
على مبصر فالنهار دجى
وليس بعينيه ما يُشْتَكى
…
ولكن عمى القلب شر العمى
ومن يغترر يحسَب الناس عبدا
…
نه وقديماً أتيلا طغى
وكان هلاكو ظلوماً جهولاً
…
ونيرون كان يبيد القرى
وكانت جيوش تلاقي جيوشاً
…
بضرب يذيب غلاظَا الكلى
فمات الكميُّ وملقي السلاح
…
وجاء الفناء على ذا وذا
فلم يبق مستضعف مستكين
…
يخال الحضيض له مرتقى
ولم يبق ذو مِرة مُسْتَبِدٌ
…
يدوس بنعليه هام العلى
ولولا الردى في صروف الحروب
…
لكان الردى في صنوف المنى
رسالة العلم
علاقة الكهرب بالأثير
للأستاذ حسين عباس قائدبيه
ما هي علاقة الكهرب بالأثير؟
أهي مباشرة أم غير مباشرة؟ وهل يمكن وجود أحدهما بدون الآخر؟
وهل يوجد مصدر لحركة هذه الكهارب؟
هذه الأسئلة لا بد أن تعترض الباحث في هذا الموضوع الغامض؛ ويمكن الجواب عنها كما يلي:
نحن نعلم أن الكهرب يسير في فلكه حول النوات بانتظام، كما تسير الأرض حول الشمس لحفظ كيانها، وإذا غادر هذا الكهرب مركزه لسبب ما من الأسباب اختل توازن الذرة.
ونعلم أيضاً أن الأمواج الكهرطيسية لا تنتشر في الفضاء إن لم تقذفها الكهارب؛ وأشعة الراديوم الخارقة ليست سوى فيالق من الكهارب المنطلقة من ذراته
فإذا انطلقت الكهارب من أفلاكها، أحدثت ارتجاجاً أو تموجاً في الأثير. ومن الثابت أنه لا يمكن إحداث تموجات ضوئية في الأثير بدون انفعال الكهارب وانطلاقها من مراكزها
والارتجاج الذي يحدث في الأثير من انطلاق الكهارب من مراكزها، حالة من حالات الأثير غير الاعتيادية، كما أن انطلاق الكهارب من مراكزها، حركة من حركات الكهارب غير الاعتيادية؛ فعندما تكون الكهارب في حالتها الاعتيادية سائرة في أفلاكها بحركتها الدائمة المنتظمة حول النواة، يكون الأثير في حالته الاعتيادية المنتظمة
ومن الثابت أن الكهارب تدور حول النواة باستمرار وانتظام، وأن الفراغ الموجود بين الكهارب والنواة، يشبه الفراغ الموجود بين الأرض والشمس؛ كما أن الأرض تدور حول الشمس بقوة جاذبية الشمس، والفراغ الموجود بين الأرض والشمس ندل عليه بالأثير
إذن يمكن الاعتقاد بأن حركة الكهارب حول النواة ليس لها علاقة مباشرة بجاذبية الأرض والشمس؛ وإنما هي نظام خاص محصور بالمادة؛ ولكن الفراغ الموجود بين الكهارب والنواة يشبه إلى حد ما الفراغ الموجود بين الأرض والشمس
وعليه يمكن القول بأن الأثير الذي يشغل فراغ الكون، هو نفس الأثير الذي يشغل فراغ
المادة، ونحن إذ نلمس المادة إنما نلمس الأثير، لأنه يملأ كل فراغ، وكل المسافات بين أجزاء المادة، إذن فالأثير هو شئ في كل شئ: أوليست السيارات والشموس والنجوم نقاطاً في بحار الأثير
وبعد كل هذا أرى أن للكهارب صلة بالأثير، وهذه الصلة أما مباشرة أو غير مباشرة، وهذا الاتصال لا ندركه لأننا نجهل خواص الأثير وفعله، ولكن نعلم أنه الرابط بين دقائق وأجزاء المادة. ومن صفات الأثير أنه لا يرى ولا يلمس ولا يسمع ولا يشم ولا يتحول ولا ينحل، لا تؤثر فيه الحرارة ولا البرودة، شديد الصلابة كثير الليونة، تتحرك فيه المادة بدون مقاومة وبسهولة مطلقة. هذا كل ما يعرف وما يظهر من صفات الأثير
فإذا كانت حواسنا لا تدرك الأثير، ألا يمكن أن ندركه بالواسطة؟ ولكن ما هي الواسطة التي تمكننا من الإطلاع على أسرار الأثير المحتجبة وراءها أسرار الكون بما فيها سر الحياة الغامض؟! ويمكنني الإجابة عن هذا السؤال ببساطة: ربما كان الكهرب!
أقول ربما كان الكهرب أو ما يتفرع من الكهرب، لأن العلم لم يجزم بأن الكهرب هو نهاية الصغر في تركيب المادة، ولا يحق له أن ينفي وجود دقيقة أخرى أصغر من الكهرب لها تأثير ما على حركته في كيانه أو خارجاً عنه، لأن النفي أصعب من الإثبات، وسواء أكان هناك دقيقة أصغر منه أم لم يكن، فلا بد من وجود صلة بين الكهرب والأثير
فالكهرب سبب كل حركة في الكون، واستمرار حركته يرجع إلى الأثير؛ وهو الذي سيكون المعتمد في الكشف عن أسرار الأثير
الكهرب لا علاقة له بالوقت (أنا أقصد الوقت الذي نعرفه نحن سكان الكرة الأرضية)، لأن بإمكانه الانطلاق بسرعة النور تقريباً: - سرعة دوران الكهارب تختلف باختلاف الذرة المرافقة لها، فذرة الإيدروجين مثلاً أصغر وأخف من جميع ذرات العناصر الاثنين والتسعين المعروفة، وسرعة الكهرب الذي يدور حول نواة الإيدروجين تبلغ 2100 كيلو متر في الثانية، بينما سرعة الكهرب الذي يدور حول نواة ذرة الأيرانيوم تبلغ 190 ألف كيلو متر في الثانية. ومهما كانت ظروف الكهارب مناسبة فقد لا تتجاوز سرعتها أل 200 ألف كيلو متر في الثانية أي ما يعادل ثلثي سرعة النور
وحسب النظرية النسبية العامة (لإينشتين) - التي أعتقد بصحتها - فأن كل جسم يسير
بهذه السرعة - أي سرعة النور أو ما يقاربها - يعتبر الوقت لهذا الجسم صفراً
وعليه يمكن القول بأن القرون والدهور في عرفنا ليست إزاء الكهرب سوى لحظة. نحن نستعمل الأوقات والقياسات حسب المكان والزمان الذي يحيط بنا والذي تدركه حواسنا، وبالنسبة إلى السرعة التي نسير بها في الفضاء وهي 18 ميلاً في الثانية، فما هي نسبة الأوقات والقياسات المستعملة لمن يسير بسرعة النور؟
نحن لنا حواس خمس، أيمكن بهذه الحواس الخمس أن نصل إلى أعماق أسرار الكون؟ وهل يقتضي للمعرفة الشاملة خمس حواس فقط؟ وهل هناك ما لا يمكن إدراكه بهذه الحواس الخمس؟
في الأثير أسرار عظيمة محجوبة، وهو القابض على زمام الحركة في الكون، وفي عبابه سر الأسرار الذي يتطلع إليه الإنسان بلهفة وحسرة، وهو كمن عرف مقر الكنز الثمين، ولكنه يجهل كلمة السر التي يفتح بها الكنز؛ فمن يا ترى سيحمل إلى العالم كلمة السر هذه؟
إذا نفحنا الدهر برسول يحمل إلى العالم كلمة السر التي يفتح بها كنز الأسرار، فعند ذلك الرسول سيكون الجواب الفصل.
نحن نقول أن الأرض مضى على وجودها ملايين السنين، ولكن الكهرب ينكر علينا هذا القول. أليس من المدهش أن نثبت بالبرهان حسب التواريخ والآثار أنه مضى على وجودنا على الأرض ألوف ومئات الألوف من السنين، ثم يأتي الكهرب فينكر علينا هذه الحقيقة! أوليس من العجب العجاب أن نسمع الكهرب يقول - لو كان للكهرب لسان - بأننا خلقنا الآن!
لاشك بأنه شاهد سيارات غير هذه التي نعرفها وقد اندثرت وربما شيدت هذه السيارات التي نعرفها من بقايا تلك؛ والساعة التي تنتقل فيها هذه الكرة الأرضية من حالة إلى حالة يراها الكهرب كما نشاهد نحن الرؤيا
هو يسير منذ الأزل ويقطع فيافي الأزمان والدهور، وسيبقى إلى الأبد يتخطى رحاب الكون في حركته الدائمة وسرعته التي لا يحصرها الوقت، يقع على هذا النجم ويصطدم بذاك، ويعمر الآخر، ويدمر الذي بعده ليجعل منه مذنبات ونيازك يبعثها إلى العوالم الأخرى، ليدل على وجوده ودوام حركته السرمدية
(عين عنوب - لبنان)
حسين عباس قائدبيه
البَريدُ الأدَبي
الملاح التائه
وأخيراً عاد (الملاح التائه) إلى مرفأه الأول يتزود من روح خالقه ويزداد. عاد وهو ينشد دعاء سيده الشاعر لحبيبه الهاجر:
فاجعل البحر أماناً حوله
…
واملأ السهل سلاماً واليفاعا
وقُد الفُلك إلى بر الرضى
…
وانشر الحب على الفُلكِ شراعا
ولله ما لقي الملاح التائه تحت الشراع المضطرب على ثبج البحر الهائج من تصاوير الشر وتهاويل الموت! كان زورقه الفضي الراقص ينساب بين الغواصات والمدمرات والبوارج كما تنساب عروس الماء بين عمالقة التماسيح والتنانين في نهر العَدم. كان نشيده في وسط الزعازع كصوت السلام في وغى الحرب. وكلمة السلام لا تبيد ولا تخفت لأنها من الحق وإلى الأبد. وهي على كل حال وفي كل وقت حجة في فم الطاغية الفاتك يبرر بها الحرب الضروس، كما يحلل الذابح بذكر الله الدم المسفوح!
ليس (الملاح التائه) قصائد أجراها علي طه على بحور الخليل؛ وإنما هو نبضات قلب، وخلجات نفس، ولفتات ذهن، صاغها الفنان الموهوب أناشيد يرددها المجهودون والمعمودون ومن شق عليهم أن يبصروا ومضات المنار على خِضم الحياة
صاغها أناشيد يتسع الخيال فيها اتساع اللانهاية، ويعمق الفكر فيها عمق الأزل، ثم تعيها ألفاظ مونقة متخيرة كزهرات الطاقة المفوَّفة نسقتها يد عاشقة شاعرة
كان ديوان (الملاح التائه) يوم ظهر في طبعته الأولى حادثاً أدبياً استفاض حوله الحديث، واستطال به الشعر، وانتعش على حسابه النقد. ومن النادر أن نال شاعر ما نال علي طه من تقدير أعيان الأدب وتكريم أقطاب الصحافة. ذلك لأن علي طه شاعر بالمعنى الأخص الذي تريده السليقة والصنعة من لفظ الشعر. واليوم يظهر في طبعته الثانية على فترة يسيرة من ظهور شقيقه (ليالي الملاح التائه) فيضخُم ويعظُمُ بالديوانين ديوان الألحان في موسيقى الشعر الحديث.
الزيات
مسابقة القصة
ذكرنا من قبل ما علمناه عن المسابقة القصصية التي تعتزمها وزارة المعارف. ونزيد اليوم أن معالي الوزير قد أصدر قراراً وزارياً بذلك؛ وهذا نصه:
تحتاج وزارة المعارف إلى قصة مصرية في نحو مائتين وخمسين أو ثلثمائة صفحة يكون موضوعها مصرياً من أحداث التاريخ الماضية أو وقائع الحياة العصرية، وأن تكون في مستوى المثقف المتوسط صالحة بذلك لأن يقرأها تلاميذ المدارس الثانوية وتلميذاتها داخل المدرسة وخارجها، وأن تكون خالية مما ينبغي أن يتصون عنه الشبان والشابات، وأن تكون في لغة سهلة بأسلوب عربي صحيح تستسيغه جمهرة المثقفين، وبألفاظ واضحة لا يحتاج قارئها إلى معجم. وتترك لغة الحوار فيها إلى ذوق الكاتب وحسن مسلكه
وستمنح الوزارة الفائز الأول جائزة قدرها مائة جنيه، والفائز الثاني 75 جنيهاً، والثالث خمسين جنيهاً. وإذا تبين للوزارة صلاحية القصة لأن تدرس في المدارس للمطالعة فهي مستعدة لشراء حق تأليفها وفق القواعد المرعية
في تأبين محمد مسعود بك
كان حفلاً أدبياً رائعاً حفلُ تأبين المغفور له الأستاذ محمد مسعود بحديقة الأزبكية مساء الأربعاء 30 أبريل، سمعنا فيه من غرر المنظوم والمنثور، ما الفقيد به جدير.
واسمحوا لي أن أسجل هنا ظاهرتين غريبتين لفتتا نظري في هذا الحفل.
الأولى أن أكثر ما سمعناه من شعر - على جودته - كان أميل إلى الصنعة والتقليد، فيه من التشبه بالقدماء والمحدثين الشيء الكثير. فقصيدة الأستاذ حسين شفيق المصري هي هي مقصورة ابن دُرَيْد المشهورة معانيً وألفاظاً وقوافيَ، وقصيدة الأستاذ الأسمر هي هي (وحقك أنت المنى والطلب) قافية وبحراً بل. . . ولفظاً. يحضرني منها:
وماذا تقول بحور القريض
…
وطوفان بحرك شئٌ عَجَب
أو نحوٌ من ذلك.
أما قصيدة الأستاذ الماحي فلعلها القصيدة التي انفردت بالطبع وقلة الصنعة، ويلوح لي أنها وليدة نفس فجعها المصاب أكثر مما فجع غيرها
هذا وإن لدي ميزاناً قلما يخطئ في نقد الشعر كان عمدتي في هذا الحكم. أما الميزان فهو
أني أقرأ الأبيات الثلاثة أو الأربعة بإمعان ثم أنكس الصحيفة وأمتحن ذاكرتي، فكل بيت يحضرني فهو - عندي - جيد وإلا فلا
ولقد انصرفت من هذا الحفل وفي خيالي صدى يتجاوب لأبيات من قصيدة الماحي منها:
لم أنس قولك في حفلٍ سمعتَ به
…
شعري وقد كنت تطريه وتطربني
أَجدت صوغ المراثي في أحبتنا
…
فهل تراك إذا ما مت ترثيني؟
لبيك مسعود. . . . . . الخ
ألا ترى الصدق والطبع في هذا الشعر على بساطته؟
أما الظاهرة الأخرى ففي كلمة الأستاذ كامل كيلاني؛ ولا أدري إن كان غيري تنبه لها
ذلك أنه وقف فقال أول ما قال: (لقد ألم الذين سبقوني من الخطباء بما كنت أريد أن أقول، ولم يبق إلا الذي لم أكن أريد أن أقول، وهو ما سأقوله الآن). ثم أن الأستاذ أخرج أوراقاً وأخذ يتلو منها رثاءه وذكرياته عن محمد مسعود؛ ومضى يتلو من هذه الأوراق فصولاً من (رسالة الغفران) لشيخ المعرة ليدلل على أن مسعود لن يفوته الاشتغال بالتأليف والتصنيف في قبره
فليت شعري. . . هل أوحى الله إلى كامل كيلاني بما لن يقوله الخطباء فأعده ليلقيه من أوراقه. . .؟ أطَّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟
(حدائق القبة)
محمد محمد رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
زناتي:
في العدد (409) من (الرسالة) الغراء مقال للدكتور زكي مبارك ذكر فيه: (الشاعر المصري المجهول الشيخ أحمد زناتي)، (الشاعر الذي جهله المصريون وعرفه العراقيون)
فليأذن لي حضرة الدكتور أن أنبهه على أن الشاعر الذي يعنيه هو الشيخ عثمان زناتي الذي درس في الأزهر، وسلخ وقتاً غير قصير من حياته مدرساً للغة العربية بالمدرسة الحربية، ولا يزال كثير من أصفيائه يتحدثون بمناقبه، ويروُون شعره، ويتمثلون به
وكان رحمه الله بين الفئة الممتازة من شعرائنا الذين ازدانت بهم أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن
ولم يبالغ الشيخ محمد المهدي في أن عدَّه (الشاعر الثاني بعد شوقي)؛ فقد روُيت لي منذ حقبة طويلة بعض قصائده ومقطوعاته، فأحسست من الرصانة والجزالة شيئاً كثير الشبه بشعر المتنبي والبحتري وأبي تمام. وليتني كنت قد دوُّنت إذ ذّاك ما سمعت؛ فإني والله لشديد الأسف على أن أفلتت مني هذه الفرصة. على أني عظيم الرجاء أن يُتاح لأنجاله (وهم - على ما بلغني - من صفوة المثقفين) أن ينشروا هذا التراث، حتى يضيفوا إلى ثروتنا الشعرية - في تلك الحقبة من تاريخ الأدب - فناً ممتازاً
أما الشيخ أحمد زناتي بك فأخو شاعرنا؛ وكان (أحد أساتذة اللغة العربية)، كما قال الدكتور، وتخرج في دار العلوم لنحو خمس وأربعين سنة خلت. فالتحق بخدمة سمو الخديو عباس حلمي، فعينه ناظراً لمدرسة (القبة) التي أنشأها على غرار المدارس الأولية الآن، ليتعلم بها بعض أطفال الطبقة الراقية في ذلك الحي. وكأني أذكر أن سمو الأمير محمد عبد المنعم تعلم بها فترة غير طويلة
وكان أحمد زناتي بك - إلى هذا - من ذوي المكانة والحظوة عند سمو الخديو، يشاوره ويجالسه، ويصحبه في رحلاته الصيفية إلى الآستانة وأوربا
ثم ألقى عصا التسيار في المرحلة الأخيرة من حياته العلمية بوزارة المعارف، فعمل في التفتيش، وتوفي سنة 1929 قبل أن يحال إلى المعاش، وتوفي الشيخ عثمان بعده بنحو خمس سنوات، على ما أخبرت
وكان الشيخ أحمد زناتي بك من دماثة الأخلاق وحميد الخلال بالمنزلة السامية؛ كما كان مضرب المثل في جمال البزة وطلاقة المحيا. ولقد خالطته طويلاً، فما رأيته مرة عابساً ولا مكتئباً ولا مضطرباً. وهذا نادر في الرجال
رحم الله الأخوين الكريمين وأجزل ثوابهما.
(ا. ع)
توجيه وأمل
سيدي الأستاذ الزيات
تطالعنا في رسالتك الغراء ببحوث ممتعة ناضجة، تحلق فيها بفكرة سابحة جوالة، وتصقلها بعقلك المتزن الحصيف، ثم تُنمقها بقلم في يدك برته لك المواهب الممتازة التي خصك به وبها حكيم عليم
وتحمل إلينا في رسائلك فصولاً رائعة فاتنة يبثها إلينا من طريقك أولئك العباقرة الأفذاذ، والكتاب النابغون العلماء: تقتطفون الزهرات الفياحة من مختلف الرياض، وتلتمسون لنا في رحاب أفكاركم الفسيحة ما تنفسون به روح الحياة العلمية، وتبردون غلة النفس الصادية
لك يا أستاذنا العظيم، ولهؤلاء الصفوة الأخيار، من: الدكتور منصور فهمي بك، والدكتور زكي مبارك اللبق، والأستاذ الكبير العقاد، ومن هم أصحاب فضل علينا وعلى الناس في إبلاغ صوت (الرسالة) ندياً إلى الآذان من أسبوع إلى أسبوع. . . لكم الإحساس المرهف والتقدير الصادق والصوت المسموع؛ وفي أيديكم الأقلام، وعندكم الغيرة، وفيكم الأقدام
وقد عالجتم ولا تزالون تعالجون الكثير من نقائض المجتمع، وبحثتم ولا تزالون تبحثون عن مواضع الداء لتطبوها بما توفر لكم من قدرة وما وهبكم الله من حكمة
غير أن شيئاً واحداً هاماً لا أذكر للرسالة نظرة فيه، ولا عناية به، وهو عندي وثيق الصلة بأغراض (الرسالة)، وهدف كان ولا يزال مما يسر النفوس أن تأخذوا بالأسباب في إصلاحه، ذلك هو شأن الحياة الزوجية في مصر وما أحاط بها من سوء تأصلت جذوره وتشعبت فروعه، حتى باتت مهددة بالزهاد فيها من شباب الجيل الحاضر
أضنكم في غير حاجة إلى ما دب في نفوس الكثرة المتعلمة من كراهية للبناء العائلي، حتى سرت عدوى ذلك إلى الكبار، أو هي منهم بادئة، وسرت إلى الصغار أخيراً
يقول الناس: إن التفكير في هذا إنما يعنى ويتصل برجال الدين وعليهم الدعاوة له؛ فإن يكن هذا حقاً: أفتكون الرسالة في معزل عن الإدلاء بصوتها في شأن يتصل أكثر الصلة بالدين؟ ما أظن.
على أن المسألة فيما أعتقد مسألة اجتماعية، وما تكون للدين عناية بها إلا لأنها أساس الاجتماع؛ وأنتم في غنى عن هذا، بل في تعرض له الآن تطاول عليكم، وإنما يكون التعرض لقوم يجهلون
شجعني على كتابة هذا إليكم وفي هذا الشأن بخصوصه أمور ثلاثة:
1 -
ما نراه يتفشى من مرض العزوبة مع ما يلحق من تلاعب في الحياة بين الأزواج
2 -
أنني بالذات تحدثت عن هذا في نبذة قصيرة بالإذاعة منذ أسبوعين، فتلقيت رسائل جمة تستحثني على الكلام كثيراً في هذا مما يدل على أن الأسرة المصرية في مضض وبحاجة إلى من يتلطف عليها بنظرة إصلاح
3 -
أننا قرأنا للدكتور منصور بك فهمي كلاماً غاية في الجودة والصدق عن حالة المرأة في مصر، فهل له ولك أن تمدا الحديث إلى هذه الناحية قياماً بحق (الرسالة) عليكما للناس؟ إنا لمنتظرون، والسلام
(ع ف)
مدرس في كلية الشريعة
أسبوع الفنون الجميلة
كان الأسبوع الأخير من شهر إبريل الفائت أسبوع الفنون الجميلة حقاً، فلقد تفضل مولانا الملك حفظه الله فأفتتح معرض محبي الفنون الجميلة الحادي والعشرين الذي أقيم بسراي الفنون الجميلة، وذلك في صباح السبت 26 إبريل الماضي، ولقد دل ذلك على حب جلالة الملك للفن وعطفه على المشتغلين به، وإن أسرة الفنون الجميلة العليا لتتقدم إلى جلالته بأسمى آيات الشكر والولاء
كما كان الأسبوع الأخير من شهر أبريل هو أيضاً أسبوع مختار الفنان المثال، فقد أقيمت مسابقة للتصوير والنحت، وقد تفضلت السيدة هدى هانم شعراوي فتبرعت بجوائز مسابقة النحت كما تفضل صاحب العزة محمد بك ذو الفقار فتبرع بجوائز التصوير. وقد تكرم صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا فأفتتح المعرض الذي أقيم في بهو المعرض بفندق الكونتننتال وذلك في يوم الخميس 24 من إبريل الماضي. . .
مسابقة مختار وقيس
أعلن منذ أكثر من شهر عن هذه المسابقة للنحت والتصوير وكان موضوعها (عروس النيل) فتقدم الكثير من المصورين الشبان بلوحات ذات موضوعات جميلة، كما تقدم الكثير
من المثالين بتماثيل فنية تبشر بنهضة في فن النحت. وقد فاز بالجائزة الأولى في التصوير الأستاذ عبد العزيز خالد درويش وقدرها عشرة جنيهات، وفاز بالجائزة الثانية وقدرها خمسة جنيهات الأستاذ علي كامل الديب. وفاز بالجائزة الأولى في فن النحت الأستاذ فتحي محمود علي وقدرها 20 جنيهاً، وفازت بالجائزة الثانية السيدة فريدة كساب وقدرها 15 جنيهاً
ولقد أعجبتني كثيراً فكرة الأستاذ عبد العزيز خالد درويش فقد رسم منظر النيل ورسم العروس في مركب وحولها أشخاص يزفونها، بينما تخيل النيل في هيئة رجل وقف على الشاطئ في انتظار عروسه، فوفق إلى حد كبير في إظهار فكرته، فنهنئ الأستاذ درويش على توفيقه
معرض محبي الفنون الجميلة
أقيم هذا المعرض كالمعتاد بسراي الفنون الجميلة بشارع مجلس النواب وقد تبين من هذا المعرض تقدم محسوس للفنون في هذا العام، فقد أشتمل على أكثر من خمسمائة لوحة، ويسرني أن أسجل هنا الهمة المشكورة التي بذلها مدير وأساتذة وطلاب مدرسة الفنون الجميلة العليا. فقد قام بتنظيم المعرض وزخرفته الأستاذ حسين يوسف فوزي، وزين طلبة المدرسة السلم بمشاريع زخرفية جميلة. ولقد أعجبت بصور كثيرة أخص بالذكر منها صورة (المسيو جورج ريمون) مراقب الفنون الجميلة التي صورها وقدمها الأستاذ محمد بك حسن مدير مدرسة الفنون الجميلة العليا. كذلك أعجبتني صورة (الصديقان) للأستاذ الكبير يوسف كامل رئيس قسم التصوير بمدرسة الفنون الجميلة. وكذلك صورة (الدلالة) التي عرضها الأستاذ حسين محمود فوزي، و (اللبانة) من تصويره أيضاً وقد اشترتها وزارة المعارف العمومية، و (حياة القرية) للأستاذ صلاح الدين طاهر، و (فناء جامع) للأستاذ حسن البناني الرسام بدار الأبرا الملكية، وكذلك قدمت الآنسة كوكب يوسف صورة طريفة أسمتها (سعاد). ولقد أبدع الأستاذ محمود بك سعيد في لوحاته التي قدمها، وكذلك الأستاذ عبد العزيز خالد درويش في صورته (الرسام). هذا وقد زين الأستاذ صالح الشيتي بالفرقة القومية الصالة الخارجية للمعرض بمشاريع مسرحية مثالية كانت غاية في الإتقان والإبداع وقد اشترت معظمها وزارة المعارف
وقد أعجبني من التماثيل المعروضة تمثال المرحوم عبد الحميد بك سعيد من عمل النحات المشهور الأستاذ مصطفى متولي، وكذلك تماثيل الأستاذ السجيني. وعلى الجملة كان معرض هذا العام موفقاً إلى حد كبير؛ إذ ظهر منه النشاط الذي ساد شبابنا في هذه الأيام؛ ولكن يؤلمني حقاً أن أذكر هنا أن فتياتنا المصريات لم يقمن بما كنا ننتظره منهن؛ فإن مجهودهن لا يكاد يظهر في هذا المعرض
أحمد كمال خواسك