المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 411 - بتاريخ: 19 - 05 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤١١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 411

- بتاريخ: 19 - 05 - 1941

ص: -1

‌مسألة الفقر

للأستاذ عباس محمود العقاد

سألني الأستاذ زكي مبارك عن رأيي في الخلاف القائم على مسألة الفقر بينه وبين الأساتذة: توفيق الحكيم، وسلامة موسى، وفكري أباضة، وبعض حضرات القراء

وخلاصة هذا الخلاف أن الدكتور زكي مبارك يرجح أن الفقر عقوبة مستحقة على شيء من القصور، وان مخالفيه يرجحون ان الفقر غلطة اجتماعية تصيب الناس من خلل في (المجتمع) أكثر من إصابتها أيام من تقصير في الجهود. وعندنا نحن أن الفقر داء كسائر الأدواء: يصيب المريض به من إهماله كما يصيبه من ضعفه الموروث، ويصيبه مع الحيطة إذا جرى مجرى الوباء الذي تنتشرعدواه، كما يصيبه مع ترك الحيطة في هذا الحال وفي غيرها من الأحوال

وليس في وسع أحد أن يزعم أن ميزان المجتمع سليم من الخلل في توزيع الأرزاق أو تقدير المكافآت على حسب الجهود. ففي كل أمة أغنياء لا يستحقون الغنى وفقراء لا يستحقون الفقر وإن تفاوت الخلل وتفاوت الجور وتفاوت السعي في الإصلاح.

ولست أنا ممن ينكرون فضل البراعة المالية، لأنها في الحقيقة براعة لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية وتنظيم العلاقات، واستشارة الهمم، وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بغيرها عمران

وقد قلت منذ نحو عشرين سنة حين عرضت للبحث فيما يعاب من أخلاق المرأة خطأ وجهلاً بالبواعث النفسية:

(. . . أننا قد نرى للمرأة سبباً غير الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه: نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختبار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار، واجتلاب الإعجاب والإكبار. فقد كان أغنى الرجال في القرون أقدرهم على الاستلاب وأجرئهم على الغارات وأحماهم أنفاً وأعزهم جاراً، فكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنواناً على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجثم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على

ص: 1

ضبط النفس وحسن التدبير. فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضاً وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظراً وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلفاً وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر: قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور؛ وهكذا تجد اكتساب المال الكثير في كل عصر دليلاً على فضل الرجل، وعلاقة توحي إلى نفس المرأة ما يعين غريزتها على اختيار أجدر الرجال بحبها وأصلح الآباء لأبنائها. فلا تثريب عليها أن تختبر مزايا الرجل بهذا المسبار السهل القريب، ولا لوم عليها أن تريد ثراء المال ولا تعدل به الفقر والفاقة. . .)

فنحن لا نبخس البراعة المالية حقها ولا نغض من نفعها في باب الخدمة الاجتماعية، ولا من دلالتها على الخلق والكفاءة العقلية، ولكننا مطالبون في هذا العصر الحديث بإنقاذ المجتمع من الخلل الشديد الذي ألم بموازين الاقتصاد ومعايير الأرزاق حتى اصبح اقتناء الثروات ميسراً للمحتال والدجال الذي لا يعطي الناس بديلاً نافعاً يساوي الربح الغزير الذي يتدفق عليه. ولعلنا نتلطف في الأمر حين نقول إنه لا يعطي الناس بديلاً نافعاً وهو في الواقع يضرهم بمقدار ما يستفيد منهم، ويحرمهم بمقدار ما يغدقون الرزق عليه طائعين أو كارهين

ومثل من هذه الأمثال أولئك السماسرة الآثمون الذين يتواطئون على إشاعة الأراجيف، وإقلاق الاسواق، واللعب بأثمان الإسناد والأوراق ليسرقوا في ساعات ما تنقضي الأعمار دون الوصول إليه بالسعي الحلال أو بالسرقة على طريقة اللصوص الأقدمين

ومثل آخر من هذه الأمثال تلك الصفقات التي تنعقد في الهواء بغير مبادلة صحيحة في البيع والشراء، وإنما هي استغلال لثقة الناس التي كسبها أولئك المستغلون بحكم مراكزهم الاجتماعية أو المالية لا بحكم الكفاءة والجهد وتثمير المال الحلال

وإذا ارتفعنا شيئاً فشيئاً من هذه الهوة الغائرة في قرارة الإجرام فقد نصل إلى الكفاءات القيمة التي تعطى الناس ما ينفعهم ويسرهم، ولكنها تتقاضاهم جزاءً لهم أضعاف حقهن وأضعاف ما يحتاجون إليه لموالاة النفع والسرور

فإخراج رواية على اللوحة البيضاء عمل قد ينفع العقول ويدخل السرور على القلوب،

ص: 2

ولكن الدنيا تسرف جد الإسراف حين تشتري نفع الرواية وسرورها بمئات الألوف من الجنيهات وهي تضن بعشر معاشر هذا على المآثر الإنسانية التي يتصل بها نفع أقوام وبمرور أجيال

واقبح من هذا أن تكون الألوف المؤلفة نصيب الرواية الماجنة العقيمة ولا تحضي ببعض هذا النصيب أجود الروايات وأحفلها بالمعارف والمتع والعظات، أو يكون الجزاء الوافر حظ الممثل الذي لا يستحي ان يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات، ولا يكتب هذا الحظ لنوابغ الفن وأفذاذ الرجال

هناك خلل في الميزات لا نكران له ولا مناص من إصلاحه، لأن الغبن فيه غبن الأمم، والبلاء فيه بلاء الهمم، وليس غبن فقير يشكو الفاقة، أو بلاء ضعيف يطلب الرحمة والإنصاف

ولا نطمع أن يجيء اليوم الذي يتساوى فيه العمل والجزاء كل المساواة، ويبطل فيه الخلل بطلاناً يمنع الحيف ويحقق العدل في كل تقدير؛ فهذا مستحيل، ولعله غير محمود في عقباه، لأن الدوافع الحيوية إذا استقامت هذه الاستقامة خيف عليها أن تفقد الاندفاع الذميم على السواء

لكننا إذا استبعدنا الكمال المطلق فالنقص المطبق أولى منه بالإبعاد، وبين المثل الأعلى والمثل الأدنى خطوات لا تعيا بها قدرة الإنسان ولا يجمل به أن يقعد عنها مكتوف اليدين مقيد الرجلين، وحاجة مصر إلى الجهد في هذا الباب اعظم من حاجة بلاد كثيرات يعلو فيها صراخ لا يسمع له صدى في هذه البلاد

وقوام الإصلاح في مسألة الفقر على أن ما نرى أن نذكر الحقائق كلها ولا نكتفي بجانب واحد منها دون سائر جوانبها

أو الخير في هذه المسألة أن نقرن كل حقيقة جامحة بحقيقة كابحة تساويها وتكف من غربها

فأول الحقائق في مسألة الفقر أن حياة الإنسان كائناً ما كان أنفس من القوت والكساء ومطالب المعيشة، وأنه ما من مخلوق آدمي يعجز عن تقديم خدمة تكافئ ثمن قوته وكسائه ومطالب عيشه. فإذا هلك إنسان جوعاً أو عرياً ففي تقسيم الأعمال نقص يستدركه المصلحون والمتكلفون بسياسة الاجتماع

ص: 3

وبإزاء هذه الحقيقة الظاهرة حقيقة أخرى لا تقل عنها ظهوراً وجدارة بطول العناية والتدبر، وهي أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان. فإن كثيراً من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل، وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة. فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته وغلب عليه حب الاستقرار، ومني العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق

وهناك حقيقة لا مراء فيها وهي أن المغامرين المقتحمين ينالون أحياناً فوق ما يستحقون من جزاء، ويأخذون أحياناً بعض ما يستحقه المحرومون الذين لا وزر عليهم في هذا الحرمان

أما الحقيقة التي بازائها فهي أن المغامرين المقتحمين ينكبون أحياناً في الأرواح فضلاً عن نكبتهم في الأرزاق والأموال، وأنهم لا ينطلقون مع طبائعهم القوية في عالم تشتد قيوده وتتساوى نتائجه ولا تتسع فيه الهوة بين الأمل العظيم في نجاح كبير وبين الإقدام العظيم على خيبة قامة للظهور، وأن خسارة العنصر المسالم الوديع

وهناك حقيقة من هذه الحقائق فحواها أن الغنى ليس بجريمة، وأن الفقر ليس بفضيلة، فلن يقول أحد به مسكة عقل أن الأغنياء، وأن الفقراء يستحقون الغنى لأنهم فقراء، وأن جاز أن يقال أن الإفراط في الغنى والإفراط في الفقر ظلمان محققان

أما الحقيقة التي بازائها فهي أن الأمر لا يرجع هنا إلى العدل والاستحقاق، ولكنه يرجع إلى صلاح المجتمع ولو نال فيه فريق فوق ما يكافئ عمله وجدواه. فكل عضو شاك يكلف الجسم بعض الأحيان فوق حقه وفوق نصيبه من العمل والجدوى؛ وبغير هذا العلاج لا تستقيم صحة الأجسام

وصحيح أن العالم مدين للعصاميين، وأن العصاميين لم يولدوا في الذروة العليا من طبقات الامة، ولكن ليس بصحيح أن طبقة الحضيض هي صاحبة الحصة الكبرى في إنجاب العصاميين؛ وإنما الصحيح أنهم ينشئون وسطاً بين الطبقة التي نهكتها رذائل الترف والغرور والطبقة التي نهكتها رذائل الهوان والمسكنة. ومعظم المصلحين الذين نفعوا الفقراء لم يكونوا من ضحايا الفقر المدقع والمنبت المنحدر البالغ في الانحدار، مما يؤيد

ص: 4

رأي القائلين إن الفقر المدقع الذي يلازم أصحابه عقباً بعد عقب إنما هو قصور في الذهن والخلق يحلهم حيث يحل القاصرون المتخلفون أيا كان المجتمع الذي يعيشون فيه

وبعد هذه الحقائق جميعها تبقى لنا حقيقة لا يطول فيها جدل المنصفين، وهي أن الفقر آفة يجب أن تزول إذا استطعنا ان نزيلها، ويجب إلا يمنعنا عن أزالتها إلا مانع واحد لا نحفل بغيره: وهو عدم الاستطاعة، ولو كان الفقراء مستحقين لما هم فيه. فلن يبحث منصف عن المريض هل جلب المرض لنفسه بيده، أو سيق إلى المرض مكرهاً عليه، إذا كانت المسالة مسألة طب وشفاء مستطاع

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌من أوهام العقل وأحلام القلب

برج بابل؟!

للدكتور زكي مبارك

لما زرت بابل في سنة 1937 بحثت عن البرج المشهور في التاريخ، ولكني لم أهتد إليه، برغم ما بذلت من العناء في التعرف إلى ما هناك من رسوم وأطلال

فكيف بخلت الأقدار بحرماني من الاهتداء إلى معالم ذلك الأثر النفيس، وكان أول رمز لما فطرت عليه الإنسانية من تنافر الآراء وتناحر الأهواء؟

كان برج بابل خليقاً بالخلود، لو عرف بنو آدم مغزاه الدقيق، فصانوه من عوادي الزمان. وهل كانت بلبلة الألسنة حول ذلك البرج إلا إيذاناً بأن الإنسانية شبت عن الطوق، ولم يبق إلا أن تنتفع بمزايا الشقاق والنزاع والخلاف، وهي معان ظاهرها قبيح، وباطنها جميل؟

لو عاش برج بابل لكان مزاراً من أقدس المزارات، فحول رحابه طارت أول شرارة من ضريم الصراع بين الأجناس والألوان، وبين حناياه ذاق الإنسان الأول مرارة الحيرة، وهي مرارة جزيلة النفع، وأن كانت كريهة المذاق

ولو عرفنا تاريخ برج بابل لعرفنا في أي عهد بدأ الصيال بين الألسنة والعقول؛ فما نطمئن إلى ما قالت الأساطير في تحديد ذلك التاريخ، وهي لا تبعد به غير عشرات من القرون، وأنا أكره أن تصدق تلك الأساطير، لأني أحب أن يكون عهد أسلافنا بالخلاف أبعد من تلك القرون بآماد طوال طوال طوال

لو عثرت على برج بابل، أو اهتديت إلى شيء من رسومه الهوامد، لأضيف أسمي إلى أسماء من خدموا الإنسانية بكشف بعض المجاهيل من حسبها العريق

ولكن الحظ أراد غير ما أريد، فلم أعرف من بابل غير ما يعرف سواد الناس، ولم أشهد غير بقايا الحدائق المرفوعة فوق قواعد من الجدران، وهي جدران لم يفكر في هدمها الزمان، فبقيت شاهداً على مطامح أهل بابل في السمو العلاء

لابد من برج بابل، لابد، لابد، ولن استريح أو أهتدي إلى مكان ذلك البرج، فهو المهد الأول، المهد الذي نشأت فيه شياطين الخلاف، والخلاف هو صاحب الفضل في تأريث جمرات العقول، ونزوات القلوب، وشهوات الأرواح، وبدوات الأحاسيس

ص: 6

الحمد لله! الحمد لله! لقد وجدت البرج المنشود، ولكن أين؟ لم أجده في بابل، وإنما وجدته في قلبي، وأين بابل من قلبي؟ القلب الذي أجهله أشد الجهل، وإن كنت سمعت أنه يقيم بين ضلوعي؛ والجيران قد يجهل بعضهم أسرارا بعض. وسنعرف يوماً أن العين ليست ترجمان القلب في جميع الأحيان؛ فلكل من القلب والعين وجود مستقل تمام الاستقلال، وإلا فكيف يقع في كل يوم أن تعد العيون بنعيم لا تسمح به القلوب؟

الجاهل هو الذي يتوهم أن العين ترجمان القلب

وقد جهلت يوماً فتوهمت أني اعرف سرائر قلبي، ثم عرفت أني واهم فيما توهمت، فما كان قلبي إلا غابة تعيش فيها ألوف الألوف من أنواع الشجر والنبات والطير والحيوان والأفاعي والصلال

وآية ذلك أني أعرف أسباب أفراحي وأتراحي إلا في أندر الأحايين؛ ثم يغم على الأمر فلا ادري مصدر سعادتي أو منبع شقائي، فافزع إلى ما يفزع إليه الصوفية عند البسط والقبض بلا وعي ولا أدراك. ولو وعيت وأدركت لنفذ سهمي في جذب السعادة أو دفع الشقاء

وأنا مع ذلك اهتديت إلى ما لم يهتد إليه ديكارت؛ فديكارت فطن إلى أنه يفكر فعرف أنه يفكر فعرف أنه موجود، وأنا فطنت إلى أن برج بابل أقيمت صروحه فوق سواد قلبي، فاستشعرت الخوف من ظلمات قلبي، وهي ظلمات يعجز عن تبديدها نور القمر وضياء الشمس، لأنها ألفاف من الشر المدفون في أصول تلك الغابة الشجراء

وما أشد خوفي من قلبي، وهو قلبي!

وآه ثم آه من الجبن عن مكاشفة العدو الذي يلبس ثوب الصديق!؟

كان يطيب للشعراء أن يقولوا إنهم يعيشون بلا قلوب ليبرروا عجزهم عن استبدال حبيب بحبيب.

وأقول: إني يئست من الأمل في العيش بلا قلب، وأين المفر من قلبي وهو قطار من أحابيل وعقابيل شد بعضها إلى بعض بسلاسل مصنوعة من أوهامي وظنوني وأنا رجل مخلوق من أوهام وظنون، وإن شهد خوفي من القلب بأني على شيء من العقل، والعقل أضعف حلية يتحلى بها الآدميون، فلو عاش بنو آدم بعقولهم في جميع الشؤون لكان مصيرهم مصير الأنعام، فلم يزينوا الوجود بروائع الآداب وغرائب الفنون

ص: 7

لم أستطع التخلص من أوزار القلب، ولن أستطيع التخلص من اثقال العقل، فما عيشي في صحبة هذين العدوين؟ وما قيمة وجودي وأنا محروم من نعمة الاستقلال؟

وهل أنسى بلائي بعدوان القلب والعقل وقد عانيت منهما في الليلة الماضية ما عانيت؟

وما الليلة الماضية؟ هي ليلة من ليال، فما رحمتني الأقدار من معاناة الصراع بين القلب والعقل منذ اليوم الذي عرفت فيه أن العيون لا يكون لها سحر حرام أو حلال إلا في نور القمر أو ظلال الرياض

إن واجهت العيون ضياء الشمس فعلى سحرها العفاء، لأن الشمس تحيل العيون إلى جوارح تعجز عن الحقل والفتك. وهل تصنع الغلالة المنسوجة من نور القمر أو ظل الروض حين تواجه الطرف الكحيل إلا كما تصنع الغلالة المنسوجة من الحرير حين تطوق الجسم اللطيف؟

الحرير يزيد الأجسام النورانية صفاء إلى صفاء، وهي تتخايل من تحته كما تخايل الكواكب من فوق السحاب الرقيق

وأنا لم أصاول سهام العيون ألا في نور القمر أو ظلال الرياض، فأين كنت في الليلة الماضية وقد كان (برج بابل) بعض ما تشقى يحمله ضلوعي؟

كنت في ضيافة قمرين: قمر الروض وقمر السماء، ويا ويل من يعيش في مصر الجديدة وهو يعاني مكاره الصراع بين القلب والعقل!

وفي لحظات أقصر من عمر الطيف تحولت دنيانا من صفاء إلى كدر ومن كدر إلى صفاء؛ ثم انتهينا إلى قطيعة قد تقصر وقد تطول، فما استطاع الدهر ولن يستطيع أن يفرق بيننا أكثر من أيام أو أسابيع

سمعت صوت العقل فأقسمت لأهجرن ذلك البدر إلى آخر الزمان وما هي إلا لحظة حتى تحركت الحيات والثعابين في برج بابل

فأصخت إلى ما تجود به أفواهها الفيح من فحيح، فكنت والله كمن يسمع نشيداً ترتله ملائكة السماء

أنا مشدودٌ مشدود إلى قطار الوجود، فأين من يرحمني من مصارعة العيون في نور القمر أو ضياء الرياض؟

ص: 8

الليلة الماضية، وما أدراك ما الليلة الماضية؟

هي ليلة من ليال، ومن لم يعش كما عشت فليس من حقه أن يقول بأنه اكتوى بنار الصيال بين الهدى والضلال

وما ليلتي الحاضرة بين الليالي؟

مصباح وقلم ومداد وقرطاس، وآمال بيض، وآلام سود، وقرار في دار تواجه الصحراء في ليلة قمراء، والقمر يشجع أفاعي الفيافي على الدبيب والوثوب

ليلتي الحاضرة ليلة كرب وبلاء، فبرج بابل تعتلج فيه خواطر اشد سواداً من قلب الغانية التي لطمت وجهها منذ سويعات في أعقاب موجة من موجات العتاب، وبرج بابل يقول بأن الحوادث تنذر بالشر الوبيل في مدائن منها الإسكندرية وبور سعيد والسويس وبغداد، وتلك أول مرة صرح فيها برج بابل بأشياء وأشياء، فمتى أرجع إلى جهل ما في ذلك البرج من أحابيل وعقابيل؟!

أنا أملك أمري في الليلة الحاضرة، فليس بيني وبين دار هوى غير خطوات، ولكن بلائي صيغ من الليالي المواضي، فمن الليالي المواضي نسجت عواطفي وأحلامي وأوهامي وظنوني، وهل أنا إلا مجموعة آراء وأهواء كتبت صحائفها الأولى في القاهرة ودمشق والقدس وبغداد وقرطبة وتونس وباريس؟

لو فكرت في إحصاء المدائن التي تعلمت في مدارسها المعروفة والمجهولة، ولو فكرت في إحصاء من استفدت بمعارفهم من أهل الشرق وأهل الغرب، لوصلت إلى القول بأني شخصية دولية لا يستقل بها بلد عن بلد ولا جيل عن جيل، فكيف أملك الفرار من الجزع لآلام المكتويين بنيران الحرب ولو كانوا - رسمياً - من أعدائي؟

ولو فكرت في أن الغانية التي لطمت وجهها الجميل في أعقاب العتاب لم تخرج على الأدب في خطابي إلا وهي مثقلة بأوهام نشأ بعضها في الشرق وأخذ بعضها عن الغرب لنظرت إليها كما أنظر إلى الطفل الذي يجرم وهو غير مسئول

وهل تسأل صحراء مصر الجديدة عن الإمحال وقد هجرها الغيث؟

أن كان ذلك فستسال القلوب التي أذويتها بجفائي، وما كنت من الجافين، لولا الشواغل التي صيرتني أقسى من الجلمود في محاجر أسوان

ص: 9

القمر في ليلتي الحاضرة جميل جميل، ولكن ما قيمة جماله وأنا مصدود عن الاستصباح بنوره الوهاج؟

وما طيب النوم الأحلام لمن حرموا طيب نجواي؟

ألم أقل لهم: إن الذي ينام بمصر في المقمرات من ليالي الصيف ليس إلا قطعة ثلوج الشمال نقلت ظلماً إلى هذه البلاد؟

النوم ضرب من الموت، وهو الموت الأعظم لمن يجهل فضل الليالي المقمرة بمصر في أوقات الصيف

لو كنا معاً في هذه اللحظة لعرف البدر أن السعادة ليست مقصورة على أهل السماء؟ إن صح أن أهل السماء سعداء، وكيف يسعدون وما عرفوا ظلم العواطف ولا طغيان الأحباب، وإلا فكيف استطاع القمر أن يحتفظ بصباه على مر الدهور وكأنه فلان في البلادة والغباء؟

وسيصنع الدهر ما يصنع بالغصن الذي آذته نسائم الحب، وأن عاش وعشنا فسنقيم المناحات في حضرته العالية على الظل الذي زال عند (الزوال)

القطيعة باقية، ولن نسأل عن تلك السرحة ألا يوم تمسى وهي مهددة بأرواح الخريف، فلتصنع بمصيرها ما تشاء، فلن تكون أكرم على الدهر من تخلى حلوان في أشعار القدماء

ومن يرعى تلك النخلة وقد تخلى عنها الحارس الأمين؟

ترعاها الفواقر والقوارع والخطوب!

يرعاها الجهل بالسر المكنون في ضمائر الشعراء!

وإن استطال الجمال على الشاعر فبشره بالمحاق والأفول لغير وجهك الجميل يوجه هذا النذير، يا صاحبة الجيد الأغيد والمعصم الريان

وما الدنيا وما الوجود إذا أمسى جمالك الفتان وهو طل من الأطلال؟

سيصنع بك الدهر ما يصنع، لأنه موكل بإذلال الأقوياء، ولكنه سيعجز عن محو ما دار بيننا من أكواب العتاب في تلك الليلة القمراء

هي ليلة من ليال، وسأعرف كيف أنتقم لنفسي، إن طاب لك الاعتصام بالهجر والصدود

أما بعد فقد رجعت إلى قلبي لأشهد بعض العجائب من برج بابل، فماذا رأيت؟

رأيت وجودي مقدوداً من أحجار ذلك البرج، ورأيت عواطفي وأحلامي مشبوبة أو مقبوسة

ص: 10

من اللهب الذي يتأجج في أركان ذلك البرج، ورأيتني جديراً بما أتصف به أهله من الحيرة والقلق والانزعاج

رأيت ورأيت، وكأنني إنسان وقف يتلهى بصراع الأسود، وهو يجهل أن فيها أسداً قريب العهد بالاستئناس، فهو يرجع إلى الشراسة حين تسمح الظروف

رأيتني واقفاً على حافة الهاوية بلا رفيق ولامعين

رأيتني أحمل القلم لأمزق به ما بيني وبين الناس من أواصر وصلات

رأيتني أساهر النجوم وهي لا تدرك من همي غير أطياف

رأيتني انفصلت عن (برج بابل) فلا أدري ما يثور فيه من مصاعب وأهوال

رأيت ورأيت

رأيت أني سأسأل بعد أيام عن مصاير أحباب كان لهم في حياتي تاريخ، فمن أولئك الأحباب؟

الدنيا التي ضنت بأن أحمل السيف في الدفاع عن وطني هي الدنيا التي ضنت بأن أحمل السيف في الدفاع عن وطن أحبابي

لله الأمر من قبل ومن بعد

وسيعرف أقوام مغازي هذا الزمن الدقيق

أنا أذن أعبر بالرموز؟؟

هو ذلك، لأني أكتب مقالي هذا في أيام السرار من شهر الوجود

اللهم عونك ولطفك وغفرانك، فما استعنت إلا بك، ولا توكلت إلا عليك، فأنت وحدك أمل اللائذ بحصنك الحصين

زكي مبارك

ص: 11

‌مؤتمر

للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى

تسري الآن في نواحي الحياة المصرية حركة مباركة تبشرنا بعهد زاهر من عهود الإسلام التي يذكرها التاريخ بالفخار

هذه الحركة هي مطالبة بأن يكون التشريع الإسلامي أساساً لما نضع من قوانين وأحكام. وقد كان من بواكير ذلك مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي الذي هيأته للناس في الشهر الماضي، ودعتهم إلى شهود جلساته دعوة عامة ليسمعوا ما أعده خطباؤه من أبحاث قيمة تبين كيف وضع ديننا القواعد التي تنير سبيل الحياة وتوصل إلى الخير

وقد عرف الناس من هؤلاء الباحثين على أي نحو يحارب الإسلام آفات المجتمع التي تشكو الأمم منها، ويعالجها بأدوية ناجعة في القضاء عليها. وكيف يدعو إلى الأخلاق الفاضلة حين يقررها ويجعلها غاية من غاياته. وعلى أي وجه يبني نظام الآسرة ويحوطه برعاية تجعله ثابتاً أمام الأعاصير، صالحاً لحياة دائمة مفيدة. وكيف يعامل الناس على أساس من الحرية والإخاء، وينظم علاقة الدولة بغيرها في السلم والحرب، على قاعدة العدالة والمساواة. . . الخ. واطمأن السامعون إلى أن الإسلام معين صالح للتشريع في العصر الحديث، وأن تشريعات البشر في أسمى صورة قد عجزت ن معالجة أدواء المجتمعات واضطربت. ولذا اعترف العقلاء من غير المسلمين بصلاحية الدين الإسلامي للنهوض بعبء التشريع وموافقته لأرقى النظم وتلبيته لحاجات المدينة والعمران

لست أكتب الآن لأجلي نظريات المؤتمر أمام القارئين وأبين لهم فائدة ما دعا إليه، ولا لأنظر في النتيجة التي وصل إليها المؤتمرون أسلبية هي أم إيجابية، ولا لأستحث لجانه التي يقال إنها تبحث لتصل إلى قرارات عملية حتى نسرع في ذلك؛ ولكنني وقد شهدت جلساته جميعاً أردت أن أسجل ملاحظات كانت حديث جمهور المستمعين وغيرهم، وحديث كثير من المثقفين في مجالسهم العامة والخاصة

1 -

أن الظاهرة الواضحة استعداد الناس لقبول النظم الإسلامية في مظاهر حياتهم ومعاملاتهم، لأنهم رأوا العنت من النظم الوضعية وعجزت هذه النظم من تحقيق ما يبتغون. ومن ثم نادى كثير منهم بذلك ونشرت الصحف رغباتهم في وضوح وجلاء. وإن

ص: 12

نواب الأمة وشيوخها لينادون بذلك الذي ينادي به الناس ويجهرون به على مسمع من رجال الحكم وتسجل آراؤهم في هذه الناحية بين التصفيق والإعجاب

ورجال الحكم أنفسهم لا يقفون في هذه الطريق ولا يعوقون عنها، فقد رأينا كثيراً من كبارهم يشتركون في المؤتمر ويحرصون على نجاح دعوته. وهذا وزير من وزراء الدولة يأتي بنفسه فيفتح جلساته وينوه فيه بتعاليم الإسلام السامية ونواحي إصلاحه التي لم يصل أحد إلى مثلها، ثم يقول:(أن هذه الثورة الاجتماعية العظيمة قد مكن لها الإسلام في جميع العصور بما وضع من المبادئ العامة التي يجب أن تكون سنن الاجتماع في كل أمة وفي كل عصر. وبما ترك من التفاصيل والجزئيات التي يجب أن تكون موضع الاجتهاد لمن يتقيدون بأمر الله ونهيه، ويستمدون بحثهم من روح الإسلام ويلائمون بينه وبين الزمن والبيئة)

بل إن جلالة الملك حفظه الله ليحب ذلك ويرجو أن يكون، وقد تواتر الحديث عن جلالته بهذه الرغبة الكريمة. وكان آخر ما سمعناه من ذلك ما رواه عن جلالته شيخ الإسلام ليلة الاحتفال بعيد الجلوس الملكي في هذا الشهر حين قال فضيلته:(إن من أعز أماني جلالته أن يرى البلاد تسير على نظام اجتماعي يستند إلى دينها وتقاليدها)

فالدواعي أذن متضافرة للعمل على هذا النوع من الإصلاح الاجتماعي ورسم الطريق المثلى أمام الناس بعدما أعدوا أنفسهم لتلقي هذه التعاليم المباركة. ولا نحسب بعد ذلك كله أن عقبة مهما كانت تقف في سبيل هذا الإصلاح الذي يتطلع إليه الشعب ويحرص عليه مليك البلاد

2 -

مما يدعو إلى الأسف أن الأزهر الرسمي لم يشترك في هذا الفعل الجليل الذي يفرضه عليه واجبه وتحتمه طبيعة رسالته. وليس من شك أن الأزهر لم يوجد لتخريج العلماء وتدريس هذا اللون من الكتب المعقدة فحسب؛ ولكن عليه إلى جانب ذلك واجباً أسمى: هو إطلاع الناس عامة على مزايا الإسلام وصلاحيته للنهوض بأعباء الحياة الاجتماعية في شتى صورها، وتنقية الأذهان من هذه الشبه الباطلة التي ألصقت به زوراً وبهتاناً، وتأثر بها كثير ممن يلون مناصب الحكم والتشريع في البلاد؛ لأن الأزهر خصص لرعاية الدين ونشر تعاليمه وتوصيل قبسه إلى الناس. فإذا لم يقم بما خصص له ولم يؤد

ص: 13

هذا الواجب كان جسما لا روح فيه. وأكثر الأشياء عندنا، كما يقول فضيلة الأستاذ الأكبر: أجسام لا أرواح فيها. وما نحب للأزهر أن ينزل إلى ذلك

وإذا كان الناس فيما مضى يعللون ابتعاد العلماء الأزهريين عن مثل هذه المواطن بكبر السن وحب العزلة عن الناس وعدم المعرفة بطرق الاتصال وأساليبه، فأن هذا العذر لا يقبل الآن وعلى رأس الأزهر رجل مفكر يحمد له الناس نشاطه في نواحي المجتمع، وحسن صلاته بكثير من البيئات العلمية وغيرها، ويعقدون عليه آمالاً جساماً في إصلاح جرئ لا يعرف المجاملة ولا المداراة

3 -

إذا كان التقصير عيباً، فان من أقبح ذلك وأفظعه التمادي في القصير. ولذلك يرى من لاحظوا على المؤتمر أن من واجب رجال الأزهر أن يتداركوا هذا التقصير، ويقبلوا على عمل يبين الناس وجودهم ومجهودهم وينصرفوا إلى ذلك مخلصين ليرضوا ضمائرهم أمام الله والتاريخ، وأمام الأبناء والأحفاد

وإن أشد ما يخشاه المخلصون أن تتجاوب الأصداء من حول الأزهر بالدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي على أساس النظم الإسلامية ويقف رجال الأزهر موقف المتفرج أو المتحرج

ليس ذلك لأن هذه الدعوة ستموت كما ماتت دعوات، أو لأن الناس سيتركون التشريع الإسلامي في هذه المرة إلى غيره وتتكرر مأساة الفقهاء في عهد إسماعيل، فإن شيئاً من ذلك لن يكون إن شاء الله؛ ولكن لأن الناس حين يترك الأزهر معالجة هذه الشؤون، سيرونه شيئاً لا فائدة فيه، حتى في تنفيذ ما هو من رسالته. وهذا يؤدي بهم إلى محاولة التخلص منه والقضاء عليه. فان لم يستطيعوا ذلك لأمر ما نحوه عن الطريق وأغمضوا عنه العيون وتركوا أهله في عزلتهم يهيمون

لذلك يجب أن ينتبه الأزهر إلى مثل هذه الدعوات في المستقبل ويحرص على الاشتراك في هذه الأمور اشتراكاً عملياً نافعاً، ويغزيها برجاله وأفكاره وخبرته، ويعمل على إنجاحها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً

ولا ينبغي أن تقوم دعوة إلى مثل هذا العمل مرة أخرى ثم لا يكون الأزهر في مقدمة الدعاة إليها والمنفذين لها

وإذا كان لنا - بعد تسجيل هذه الملاحظات - أن ندلي برأي عملي في هذا المقام، فها هو

ص: 14

ذا اقتراحنا عسى أن ينظر إليه رجال الأزهر بما يستحق من عناية تليق بموضوعه، لينصرفواٍ بعد تعديله أو إقراره إلى ناحية العمل المنتج المثمر

نرى من أهم واجبات الأزهر الآن أن يؤلف هيئتين علميتين من نابهي رجاله لا ينظر في تكوينهما إلى ما يحب بعض شيوخه أن ينظر إليه من الشكليات. على أن تعنى واحدة منهما بمخلفات المسلمين في الناحية التشريعية فتخرجه إخراجاً جديداً وتلبسه ثوباً جديدا، وتعرضه على الناس في أساليب يألفونها ويجدون طريق الوصول إليها معبداً ميسوراً. ويقوم الأزهر بنشر هذا التراث في زيه الجديد على نحو ما تفعل الهيئات العلمية

وتعنى الثانية بدراسة القوانين الوضعية المعمول بها الآن في القضاء أو في الإدارة أو في نظام الشركات أو ما إلى ذلك، وتستخرج من الشريعة الإسلامية السمحة قوانين مسايرة لروح العصر تحل محل هذه القوانين وتؤدي مطالبها وترسم الخطة المحكمة التي ينبغي السير عليها في نواحي الإصلاح عامة

وعلى الأزهر بعد ذلك بمعونة أولئك الذين اعترفوا جميعاً بوجوب السير على مقتضى النظم الإسلامية وصلاحيتها دون سواها أن يعمل على تطبيق هذه القوانين الجديدة على الناس شيئاً فشيئاً حتى يكون الحكم بينهم بما أنزل الله

وإذا قيل كيف ينفق الأزهر على هاتين الهيئتين الآن والموارد قليلة، ذكرنا على سبيل المثال - وإن كان شرف المقصود كفيلا بتدبير المال الوافر - أن الأزهر يحبس من ميزانيته كل عام خمسة آلاف من الجنيهات باسم نشر الثقافة، ونحو هذا المبلغ الضخم لشيء لا يعرفه أحد من المثقفين يسمونه مجلة الأزهر، فأولى له أن يوجه هذه الآلاف الكثيرة ونحوها إلى هذه الناحية من الإصلاح منتهزاً هذه الفرص المواتية حتى تغزو التعاليم الإسلامية نظم الإدارة والسياسة ونظم التعليم والتشريع والقضاء

وبذلك يحقق الأزهر رسالته الكريمة، ويؤدي واجبه المقدس، ويحمل الناس على الاعتراف بوجوده ونفعه والاتجاه إليه، ويفهم فن فتنتهم المدينة الغربية بزخرفها وزينتها أن الإسلام هو الدستور الصحيح للحياة، وأن تعاليمه السامية هي الكفيلة بإسعاد الناس والترفيه عنهم

عبد العزيز محمد عيسى

المدرس بمعهد القاهرة

ص: 15

‌في الاجتماع اللغوي

اللهجات العامية الحديثة

عوامل تطورها وصفاتها المشتركة

للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

- 2 -

درسنا في المقال السابق تسع طوائف من العوامل التي أدت إلى انشعاب هذه اللهجات عن العربية الفصحى وإلى تطورها المطرد في نواحي الأصوات والقواعد والدلالة والمفردات. وسنعالج في مقال اليوم بقية هذه العوامل. وتختمه بنظرة في الصفات التي تشترك فيها هذه اللهجات.

10 -

تناوب الأصوات المتحدة النوع، القريبة المخرج، وحلول بعضها محل بعض. يتبين من ملاحظة ظواهر التطور في مختلف اللغات الإنسانية أن الأصوات المتحدة النوع، القريبة المخرج، تميل بطبعها إلى التناوب وحلول بعضها محل بعض. فكل صوت لين عرضه بطبعه لأن ينحرف إلى صوت لين أخر، وكل صوت ساكن عرضة بطبعة لأن ينحرف إلى صوت ساكن متحد معه في مخرجه أو قريب منه. وقد كان لهذا القانون آثار ذات بال في انشعاب اللهجات العامية عن العربية وفي تطورها من ناحية الأصوات وقواعد الصرف ووزن الكلمات.

(أ) فقد حدث في هذه اللهجات تناوب واسع النطاق بين أصوات المد القصيرة التي يرمز إليها في الرسم العربي بالفتحة والكسرة والضمة. ويمثل هذا التناوب انقلاباً من أهم الانقلابات التي اعتورت اللغة العربية، فقد كان من آثاره أن انحرفت أوزان الكلمات. وانقلبت أشكالها رأساً على عقب، حتى لا نكاد نجد في اللهجات العامية كلمة واحدة بانية على وزنها العربي القديم. فالفتحة قد استبدل بها الضمة أحياناً والكسرة في كثير من الأحوال (فبدلاً من: يَعوم، يَسجد، يَسمع، عَثَر، خَلَص، سَكَت، عنِد، كَبير، أَلكتاب. . . الخ)؛ يقال في عامية المصريين: يُعُوم، يُسجد، يِسمع، عِتِر أو عُتُر، خِلِص أو خُلص،

ص: 17

سِكت أو سُكت، عَند، كِبير، إِلكتاب. . . الخ).

- والكسرة فد استبدل بها الضمة أحياناً والفتحة في كثير من الأحوال (فبدلاً من: يلطم، يضرب، يسرق. . . الخ؛ يقال في العامية المصريين: يلطُم، يضرَب، يسرأ. . . الخ). والضمة قد أستبدل بها الفتحة أحياناً والكسرة في معظم الحالات (فبدلاً من: محمد، ثُعبان، أُنثى، عُثّة، يقتُل، يذُم، ظُفْر. . . الخ؛ يقال في عامية المصريين: محمد، تِعبان، إِنتابة عِتة، يئتِل، يزِم، ضِفر. . . الخ)

وحدث كذلك تناسخ في أصوات المد الطويلة نفسها، وخاصة في الآلف اللينة إذا أحيلت في لغات بعض القبائل العربية القديمة، وتحال الآن في كثير من لهجات المغرب ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر وفي بعض اللهجات في بلاد الشرقية

وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الهندية، الأوربية

(ب) وكثير من الأصوات الساكنة المتحدة النوع أو القريبة المخرج قد تناسخت كذلك في اللهجات العامية وحل بعضها محل بعض. فالسين مثلاً قد تحولت إلى صاد في بعض المواطن ((ساخن) تحول إلى (صاخن) في عامية الشرقية وغيرها)؛ والصاد إلى سين في كثير من الألفاظ في عامية القاهرة وغيرها (فبدلاً من: يصدق، مصير،. . . الخ؛ يقال: يسدَّأ، مِسير. . . الخ)؛ والضاد إلى ضاء في عامية المغرب وخاصة طرابلس وفي لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر (فبدلاً من: وضوء، يضيع، يضرب، يضم. . . الخ)، يقال: وظوء، يظيع، يضرب، يظم. . . الخ) والعين إلى نون في بعض الكلمات في لهجة العراقيين (فيقال مثلاً (ينطي) بدلاً من (يعطي))؛ واللام إلى ميم في بعض الكلمات في عامية القاهرة ((امبارح) بدلاً من (البارحة))؛ والميم إلى نون أحياناً في عامية المصريين (فيقال (فاطنة) بدلاً من (فاطمة)) وهلم جراً. . .

وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الهندية الأوربية

11 -

يتغير مدلول الكلمات تبعاً للحالات التي يكثر فيها استخدامها. فكثرة استخدام العام مثلاً في بلد ما أو في عصر ما في بعض ما يدل عليه تزيل مع تقادم العهد عموم معناه وتقصر مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله؛ وكثرة استخدام الخاص في معان عامة عن طريق التوسع تزيل مع تقادم العهد خصوص معناه وتكسبه العموم. وكثرة

ص: 18

استخدام الكلمة في المعنى المجازي تؤدي غالباً إلى انقراض معناها الحقيقي وحلول هذا المعنى المجازي محله. واستخدام الكلمة في فن أو صناعة بمعنى خاص يجردها في هذا الفن أو في هذه الصناعة من معناها اللغوي ويقصرها على مدلولها الاصطلاحي. والتطورات التي حدثت في اللهجات العامية تحت تأثير هذا العامل تناولت آلافاً من المفردات العربية؛ حتى أنه ليندر أن يجد مفرداً عامياً مطابقاً في مدلوله كل المطابقة للمفرد العربي الذي انحدر منه

12 -

يتغير مدلول الكلمة أحياناً تحت تأثير القواعد. فقد تذلل قواعد اللغة نفسها السبيل إلى انحراف معنى الكلمة وتساعد على توجيه وجهة خاصة. فتذكير كلمة (ولد) مثلاً في اللغة العربية (ولد صغير)، قد جعل معناها يرتبط في الذهن بالمذكر؛ ولذلك أخذ مدلولها يدنو شيئاً فشيئاً من هذا النوع، حتى أصبحت لا تطلق في كثير من اللهجات العامية إلا على الولد من نوع الذكور

13 -

قد يتغير مدلول الكلمة في انتقالها من السلف إلى الخلف. فكثيراً ما ينجم عن هذا الانتقال تطور في معاني المفردات. وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام بعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع والمجاز. فقد يكثر استخدام الكلمة في جيل ما في بعض ما تدل عليه، أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار، ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد

14 -

وقد تغيرت في اللغات العامية مدلولات كثير من الكلمات، لأن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به وما إلى ذلك. فكلمة (الريشة) مثلاً كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور. ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعاً لتغير المادة المتخذة منها آلة الكتابة؛ فأصبحت تطلق على قطعة من الحديد مشكلة في صورة خاصة. (القطار) كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعاً لتطور وسائل المواصلات، فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها

ص: 19

قاطرة بخارية. و (البريد) كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعاً لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر

15 -

انتقال كلمات جديدة إلى بعض اللهجات العامية من اللغات الأجنبية التي احتكت بها. فقد انتقل إلى كل بلد عربي اللسان كثير من كلمات اللغات التي أتيح له الاتصال بأهلها اتصالاً ثقافياً أو سياسياً أو اقتصاديا. فأنتقل إلى لهجة العراق كثير من الكلمات التركية والفارسية والكردية والإنجليزية. وإلى لهجات الشام كثير من الكلمات التركية والفرنسية. والى لهجة مصر كثير من الكلمات التركية واليونانية والفرنسية والإيطالية. . . وهلم جراً

16 -

انتقال أصوات جديدة إلى بعض اللهجات العامية من اللغات الأجنبية التي احتكت بها. فمن ذلك مثلاً صوت بين الشين والجيم المعطشة ينطق به في عامية العراق في مثل كلمة (عربنجي)(سائق العربة). فمن المحتمل أن يكون هذا الصوت قد انتقل إليها من التركية

17 -

دخول قواعد جديدة في بعض اللهجات العامية للحاجة إليها في الكلام أو عن طريق احتكاكها باللغات الأخرى. فقد انتقل مثلاً إلى المصرية والعراقية طريقة النسب التركية (بزيادة جيم وياء) في بعض الكلمات وخاصة ما يدل منها على الحرفة: (عربجي. طرشجي. جزمجي. . .)، وطريقة الإضافة في بعض الكلمات بتقديم المضاف إليه على المضاف (كتبخانة، أنتيكخانة. . .). وانتقل إلى اللهجة العراقية طريقة النعت الفارسية التي يقدم فيها أحياناً النعت على المنعوت (. . . (خوش ولد) خوش كلمة فارسية معناها حسن. ومعنى الجملة ولد حسن أو ما أحسنه من ولد). وطريقة تنكير الاسم المفرد بذكر الاسم المفرد بذكر كلمة قبله تدل على الوحدة ((فرد رجل)؛ (فرد مخالفة). . . الخ) وانتقل إلى معظم اللهجات العامية المتشعبة عن العربية طريقة الإضافة بتوسط كلمة تدل على الملك بين المضاف والمضاف إليه: ففي مصر تتوسط غالباً كلمة بتاع المحرفة عن متاع؛ وفي تونس والجزائر كلمة (إنتاع) أو (تاع)؛ المحرفة كذلك عن متاع؛ وفي المغرب الأقصى كلمة (ديال)؛ وفي العراق كلمة (مال) للمذكر و (مالة) للمؤنث؛ (. . . (الكتاب مالي)؛ (الكراسة مالتي)، أي كتابي وكراستي). ودخل في معظم هذه اللهجات كذلك زمن جديد

ص: 20

للمضارع للدلالة على الاستمرار. وقد اختلفت هذه اللهجات في الإشارة إلى هذا الزمن، فبعضها يشير إليه بباء في أول الفعل (بيكتب) في بعض اللهجات المصرية؛ وبعضها يشير إليه بميم في أول الفعل كذلك ((منكتب) في بعض اللهجات المصرية والسورية)؛ وبعضها يشير إليه بكاف قبل الفعل ((كيكتب) في لهجة المغرب)؛ وبعضها يشير إليه بكلمة (عم) قبل الفعل ((عم يكتب) في كثير من اللهجات المصرية والعراقية)؛ أو بكلمة (راه)((راه يكتب) في لهجة المغرب. وتستخدم هذه الأداة كذلك في مصر ولكن للدلالة على الاستقبال وتقلب هاؤها حاء، فيقال (راح يكتب))

18 -

انقراض بعض الكلمات لانقراض مدلولها أو قلة استخدامه. فقد انقرض في اللهجات العامية كثير من الأسماء العربية الدالة على أمور بطل استعمالها؛ ويصدق هذا على أسماء الملابس والأثاث وعدد الحرب ووسائل النقل وآلات الصناعة والمقاييس والنقود ومظاهر النشاط والنظم الاجتماعية. . . التي كانت سائدة عند العرب في عصورهم الأولى، ولكنها انقرضت أو لم يعد لها شأن في عصورنا الحديثة، فانقرضت معها الكلمات الدالة عليها

19 -

انقراض بعض الكلمات لثقلها على اللسان أو عدم تلاؤمها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق. . . وما إلى ذلك وإلى هذا العامل يرجع السبب في انقراض كثير من الكلمات العربية من لغات التخاطب العامية في العصر الحاضر

20 -

انقراض الكلمة لدقة مدلولها، أو لعدم الاحتياج إليه في لهجات المحادثة العادية، أو قلة دورانة فيها، أو وجود لفظ آخر مرادف له. فلهجات المحادثة تقتصر في العادة على الضروري وتنفر من الكمالي وتنأى عن مظاهر الترف؛ وإلى هذا العامل يرجع السبب في انقراض آلاف من الكلمات العربية من لهجات المحادثة الحاضرة، وفي تجرد هذه اللهجات من أهم خاصة تمتاز بها العربية، وهي سعة الثروة في المفردات وكثرة المترادفات

هذا، وعلى الرغم من اختلاف هذه اللهجات في ظروفها، فقد تأثرت في بعض النواحي بعوامل متحدة، فاتفقت في طائفة من مظاهر التطور. وتبدو وجوه اتفاقها هذا في أمور كثيرة من أهمهما يلي:

1 -

تجردها من جميع الحركات التي تلحق آخر الكلمات في العربية الفصحى، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب وما كان حركة بناء. فينطق في هذه اللهجات بجميع

ص: 21

الكلمات مسكنة الأواخر، وتلتزم حالة واحدة في الكلمات المعربة بالحروف ويعتمد في فهم الأمور التي ترشد إليها في العربية الفصحى علامات الإعراب (وظيفة الكلمة، علاقة عناصر العبارة بعضها ببعض. . . الخ) على سياق الحديث أو على كلمات مستقلة تذكر في الجملة.

2 -

استبدل في هذه اللهجات بالطرق المعقدة الدقيقة التي تسير عليها العربية الفصحى في تركيب الجملة وترتيب عناصرها، طرق بسيطة ساذجة وأساليب حرة طليقة

3 -

لم تحتفظ هذه اللهجات إلا بجزء يسير من تراث أمها العربية وثروتها العظيمة في المفردات، ويتمثل هذا الجزء في الكلمات الضرورية للحديث العادي.

ومن هذه الخواص الثلاث يتبين أن أهم ما تمتاز به العربية الفصحى عن أخواتها السامية قد تجردت منه اللهجات العامية الحديثة، فمسافة الخلف بين لهجاتنا الحاضرة واللغات السامية الأخرى أضيق إذن من مسافة الخلف بين هذه اللغات والعربية الفصحى.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 22

‌الليبيون.

. .

للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي

من المتفق عليه بين علماء الجيولوجيا أن شمال أفريقيا لم يكن صحراوياً في العصور الغابرة، بل بالعكس كانت أمطاره غزيرة مما ساعد على جريان الأنهار فيه واخضرار أراضيه ونمو الغابات، وبالتالي على تكوين البحيرات الشاسعة التي كانت ملجأ للتماسيح والجاموس البحري، وعاملاً على وجود المستنقعات التي تحلق فوقها الطيور؛ وكانت هذه المستنقعات تشغل الأماكن المنخفضة وما زالت آثارها باقية إلى الآن تشهد بما كانت عليه الصحراء الكبرى في العصور القديمة؛ وكانت ترتع حول هذه البحيرات وبين أشجار الغابات أنواع من الحيوانات، بعضها من آكلة اللحوم وبعضها من آكلة العشب، ولكنها انقرضت بعض أجناسها واختفت نهائياً بمرور الزمن نتيجة لحدوث تحول في الأمطار أدى إلى نقصانها شيئاً فشيئاً في الصحراء وازديادها في أواسط أفريقيا مما نتج عنه جريان نهر النيل الحالي، فأضطر سكان شمال أفريقيا، ومنها (الليبيون) أن يهجروا أقاليمهم ويتجمعوا حول الأماكن الخصبة الجديدة التي كان من بينها نهر النيل وواديه، وإلى الآن لم يعرف بالضبط تاريخ صحيح لبدء هذا التجمع، وقيل أنه يرجع إلى ستة عشر ألف سنة مضت، ومن هنا نرى أن الليبيين كانوا عنصرا أساسيا في تكوين الشعب المصري القديم الذي ازدهرت المدنية على يديه، والذي سبق الشعوب الأخرى في مضمار الحضارة. أما من بقي من الليبيين في مكانه، فقد كان على اتصال بمصر أهلها

وبالأسف أن معلوماتنا عن الليبيين في تلك العصور القديمة قليلة جداً، وكل الذي نعرفه أنهم كانوا يعيشون على هيئة قبائل متفرقة مثل الآن، والقبائل الملاصقة لحدود مصر كانت تمتاز بشعرها الأسود وعيونها العسلية وهي قبائل التحنو، أما قبائل المشواش فهي إلى غرب القبائل الأولى، وقد سكنت الصحراء المجهولة الحد وقتئذ، وأهلها ذوو شعور شقراء وعيون زرقاء، وهناك أسماء أخرى كانت تطلق عليهم منها رابو وقد ذكر هيرودوت أبو التاريخ هؤلاء القوم تحت أسم ماكسيز وهم بلا جدال أصل البربر الذين استعمروا شمال أفريقيا فيما بعد، والمشواش قوم متمدينون نوعاً ماهرون في الفنون الحربية مسلحون جيداً

وكان الليبيون ينظرون إلى مصر الممثلة في واديها الخصيب بعين الطمع خصوصاً وأنهم

ص: 23

قد أصبحوا في صحراء جرداء مما دفعهم إلى محاولة الاستيلاء على مصر للحصول على خيراتها العظيمة كلما حانت الفرص، فليس بغريب بعد ذلك أن يصفهم أحد ملوك مصر وهو منفتاح (بأنهم يمضون أوقاتهم محاربين ليملئوا بطونهم كل يوم، وقد أتوا إلى مصر ليحصلوا على ما تحتاج إليه أفواههم) وكان الوجه البحري دائماً عرضة لهجوم الليبيين القاطنين غربية وأنه لكثرة هجرة هؤلاء القوم إليه انصبغ الجزء الغربي منه بالصبغة الليبية التي بقيت ظاهرة فيه حتى زمن هيرودوت المؤرخ اليوناني. وتشير اقدم أخبار الوجه البحري إلى منازعات ومشاحنات مستمرة مع الليبيين. على أنه عندما تمكن الملك مينا من توحيد الوجهين وتثبيت عرشه وجه همه لتأمين البلاد من هجمات الليبيين فشن عليهم الغارات وأسر منهم حوالي مائة وعشرين ألف نسمة عدا مليون وأربعمائة وعشرين ألفاً من الأغنام، وأربعمائة ألف من البهائم كما جاء ذكره في الآثار المصرية. وكانت هذه الغارة بمثابة طرد عام لهم. على أن هذه الضربة القاسية التي حلت بهم لم تمنعهم من الإغارة على مصر بل كانوا ينتهزون فرصة حكم الملوك الضعاف للهجوم على الوادي وسلب ما يحتاجون إليه مما أقلق بال فراعنة مصر؛ ولهذا نراهم يتخذون سياسة حازمة نحو الليبيين ويقومون بالحملات عليهم تارة، وأحياناً يلجأون إلى سياسة سلمية لإيقاف هذه الغارات بأن يتزوجوا من الليبيات لعقد أواصر الألفة والسلام. ومن أنصار السياسة الأولى مينا كما تقدم، وسمورع أحد ملوك الأسرة الخامسة الذي ترك لنا نقشاً غائراً يمثل انتصاره على اللوبييون وفيه نرى جماعة المهزومين من قبيلتي (يافت) و (باش) ومعهم قطعانهم من البقر والماعز والحمير وهي تعد بالآلاف. أما أمنحعت الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة فقد أرسل نجله سيزوستريس الأول على رأس جيش ليعاقب الليبيين على أثر غارة شنوها على الدلتا فثأر منهم. وأهم عمل قام به أنصار هذه السياسة هو ما فعلته الملكة حتشبسوت حيث أجبرتهم على دفع الجزية. وأما الذين اتبعوا سياسة المصاهرة فهم قليلون وعلى رأسهم الملك خوفو العظيم باني الهرم الأكبر الذي تزوج من سيدة ليبية

وحدث حوالي القرن الثاني قبل الميلاد أن استوطن بعض الليبيين الواحتين اللتين هما جنوبي وغربي الفيوم، وتقدم بعضهم حتى بلغوا الشاطئ الغربي لفرع النيل الكانوبي المعروف وقتئذ بالنهر الكبير. ولما زاد عدد الليبيين بالدلتا تجاسروا وتطاولوا على فرعون

ص: 24

مصر فجمعوا شملهم وكونوا قوة نظامية للاستيلاء على أرض مصر، وكانوا وقتئذ تحت قيادة ملكهم المدعو مريي وهذا أجبر بدوره التحنو أن ينظموا إليه، ثم استعان بقرصان البحر الأبيض المتوسط وأخذوا يزحفون على مصر للاستيلاء عليها والاستيطان بها. أما حلفاؤه من قرصان البحر المتوسط فكانوا مكونين من سردينيين وصقليين ومن باقي أهالي جزر البحر الأبيض المتوسط، وكان هؤلاء القوم قد عبروا البحر كثيراً فيما مضى وإليهم يعزى أصل الليبيين البيض البشرة (يرى هذا المرحوم جيمس والأستاذ هنري برستدت)، وبذلك أصبح الليبيون يهددون كيان الدولة المصرية. وكان على عرشها في ذلك الوقت منفتاح فرعون موسى عليه السلام على ما يقال - فأستعد هذا الفرعون لخطرهم وأمر موظفيه بحشد الجيوش وتجهيزها. وكان الليبيون في ذلك الوقت قد أخذوا يتقدمون نحو مصر فلما أبصروا خيراتها العظيمة ازدادت همتهم واشرأبت أعناقهم إليها، فاخترقوا الحصون المصرية الغربية، وهناك عند مدينة بريرع التي نجهل موقعها الآن اشتبكت الجنود المصرية مع الأعداء وتمكنت من طردهم بعد أن كبدتهم خسائر فادحة وأجبر ملكهم مريي على الفرار إلى وطنه تاركاً جميع أسرته يائساً من النصر بعد أن قتل أولاده الستة؛ ثم خلعه قومه وملكوه عليهم غيره. ويستدل من القتلى والغنائم أن جيش الليبيين وحلفائهم كان لا يقل عن عشرين ألف مقاتل وهكذا نجت مصر من الغزو الليبي

توفي الملك ورمر خليفة الملك السابق المعزول فورث العرش ابنه تيمر وهذا صمم على الانتقام لشرف الليبيين من فرعون مصر، وكان في ذلك الوقت رمسيس الثالث، ولتنفيذ غرضه نراه يتحالف مع قرصان البحر الأبيض المتوسط ثانياً ولكن سرعان ما هزمهم رمسيس الثالث بالقرب من مدينة (رمسيس الثالث معاقب أهل التمحو (لببا))

أمام هذا الفشل المتكرر لم ير الليبيون فائدة من القيام بحملات ضد مصر لكي يستوطنوها ولكنهم مع ذلك قاموا بهجرة عظيمة ثانية إلى غربي الدلتا على أثر غزو قبائل المشواش لبلادهم التي أتلفوها ثم أجبروهم أن يتحدوا معهم لمحاربة مصر، وتولي قيادة هذه الحملة الجديدة مششر بن ملك المشواشيين المدعو كبر ولكن الفشل في هذه المرة أيضاً كان حليفهم إذ هزمهم فرعون مصر فولوا هاربين بعد أن قتل قائدهم وأسر والده مع عدد عظيم منهم واعتبر رمسيس الثالث هذا النصر العظيم عيداً يحتفل به سنوياً وسماه (عيد قتل

ص: 25

المشواشيين) ولقب جلالته نفسه بعد ذلك بالألقاب الآتية: (حامي مصر والمدافع عن الأقطار وغازي المشواشيين ومتلف أرض التمحو)

هذه هي المرة الثالثة التي صدت فيها القبائل الغربية عن الدلتا ونيلها. ولم يعد بعد ذلك عند رمسيس الثالث مجال للخوف من تلك الجهة بالرغم من أن قوة الاستعمار عند الليبيين لم تنعدم بالمرة. والمعروف أن هؤلاء القوم لم تتحد لهم كلمة بعد ذلك، لكنهم أخذوا يهاجرون مسالمين إلى القطر المصري كما فعلوا قبل حكم الأسر، وكان ذلك على فترات متقطعة وبنفر قليل لم يقاومهم فرعون مصر ولم يهتم بهم كثيراً لعلمه بضعفهم وعجزهم، ولكن بفضل هذه المهاجرة السلمية استطاعوا ان يبسطوا بعض نفوذهم على الوجه البحري. ومما ساعدهم على ذلك زيادة الجنود الليبية المأجورة بالجيش المصري باطراد. وكان فراعنة مصر قد لجئوا إلى استخدام الجنود المرتزقة في أواخر الدولة الحديثة من التاريخ المصري القديم، وأصبح الجيش المعسكر بالدلتا لحفظ النظام هناك تحت قيادة ضباط مشواشيين حتى إنه حدث في عهد الأسرة الحادية والعشرين أن قصرت بعض الوظائف الهامة عليهم

ثم ظهر من بينهم رجل قوي ثري يدعى شيشنق لقب نفسه (برئيس المشماس العظيم) استطاع أحد أحفاده أن يعلي من نفوذ آسرته الليبية ثم انتهز فرصة ضعف آخر الملوك الأسرة الحادية والعشرين أو انقراض ملوكها واستولى على عرش مصر وأتخذ له مدينة تل بسطة عاصمة لملكه وكان ذلك في عام 945 ق م وقد اعتبر مانيتون المؤرخ المصري القديم شيشنق هذا مؤسساً للأسرة الثانية والعشرين وبذلك استطاع الليبيون التربع على عرش مصر بلا تعب ولا حاجة إلى امتشاق الحسام بعد مضي مائتي سنة تقريباً من وفاة رمسيس الثالث الذي سحقهم سحقاً لما علم بنياتهم الخبيثة نحوه ولكي يوطد شيشنق عرش أسرته زوج ابنه بكريمة آخر الملوك الأسرة الحادية والعشرين لكي يمنح ابنه حقاً شرعياً لتولي عرش مصر بعد وفاته وذلك عن طريق زوجته

حاول شيشنق هذا إصلاح حال مصر وإرجاع أملاكها القديمة فنراه يبسط نفوذه على فلسطين تاركاً ولايتها لسليمان الحكيم كما استرجع النوبة. والخلاصة أن مصر تمتعت برخاء نسبي في أول عهد الحكم الليبي بعد أن ساء حالها. وقد كشفت آثار بعض ملوكهم في العام الماضي فوجد معظمها من الفضة وهي كما نعلم كانت في عهد الفراعنة أغلى من

ص: 26

الذهب مما يدل على حياتهم المترفة. ويجب علينا آلا ننسى أن الحكام الليبيين تطبعوا بالطباع المصرية وحاكموا أهلها في العادات وعبدوا المعبودات المصرية وقدموا إليها القرابين كأهل البلاد تماماً، ولكن كل هذا لم يمنع سقوط عرشهم في عام سنة 745ق م على أثر ازدياد نفوذ قواد الجيش المأجورين فقووا مركزهم في مدن الوجه البحري وعملوا على تقسيم القطر المصري إلى عدة إمارات حربية صغيرة وبذلك يكون طول مدة الحكم الليبي في مصر حوالي 200 سنة 945 ق م تقريباً

ويجب ألا ننسى أنه لولا المشاغبات التي كان يقوم بها الليبيون لما فكر فراعنة مصر في غزوا تلك البلاد لفقرها، اللهم إذا استثنينا الواحات حيث تزرع الكروم التي كانت لها شهرة خاصة وزيتها الذي يطلق عليه الزيت اللوبي، وكان يستعمل حسب التقاليد المصرية لذلك الأجسام.

مصطفى بعيو الطرابلسي

كلية الآداب - إسكندرية

ص: 27

‌ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب

للأب أنستاس ماري الكرملي

- 3 -

7 -

القمس

تقدم لنا ذكر القمس، وقد ذكره غير واحد من فقهاء اللغة وجاء في بيت شعر، لأحد شعراء حلب في سنة 544 للهجرة (في 1149 و1150 للميلاد)، ما هذا نصه (في كتاب الروضتين ص 64 من طبعة باريس):

(واستقودوا الخيل عُربْاً واستقدتَ لنا،

قوامِصَ الكْفر في ذلٍّ وفي صَغَرِ)

فيكون مفردها هنا: (قوْمَص)، ولاتينيتها بمعنى الفرنسية. وجاءت أنثاها (قوْمَصِيَّة). قال في الكتاب المذكور، (ص 199):(وأخو صاحب جُبَيل، وابن القومصية) - وفي ص 200: (وأما ابن القومصية فأنه استفكته أمهً)

وقال في ص 191: (ووصل في هذه السنة (573 هجرية 1177 و1178 م)، إلى الساحل من البحر، كند كبير يقال له اقلندس، (صوابه إفِلبُّس أكبر طواغيت الكفر) وفي ص 257و 258، ذكر القومص خمس مرات، والقومصية مرة واحدة، ثم تكرر ذكر القومس مراراً عدة وفي ص 271 ذكر (الملك وكفود) وهو جمع كند ثم تكررت هذه الألفاظ باختلاف وجوهها، لكنها لم تختلف عما ذكرناه هنا فلا حاجة لنا إلى الإكثار منها

ولم يذكر أرباب المعاجم هذه المفردات جميعها وبلغاتها في دواوينهم. فقد قيدوا أشياء منها وأهملوا شيئاً آخر. فأما ما قيدوه فالقموس. قال السيد مرتضى: القومس كجوهر الأمير بالنبطية. نقله الصاغاني عن ابن عباد؛ وقال الأزهري: الملك الشريف. . . وقيل: هو الأمير بالرومية

قلنا: وهذا هو الصحيح، لا من اللغة النبطية، وإن كانت هي السبب إلى نقلها إلى العربية، ومعناها الأصلي في الرومية الرفيق، لأنه كان في بادئ الأمر يرافق الملك في حروبه وتنقلاته ثم أطلق على الأمير؛ ثم قال الشارح: والقمَّس كسكَّر: الرجل الشريف. كذا نقله الصاغاني وهو قول ابن الأعرابي وأنشد:

ص: 28

وعلمت. . . (البيت)

فسره بالسيد والجمع قممامس وقمامسة. أدخلوا الهاء لتأنيث الجمع؛ والقمامسة: البطارقة نقله الصاغاني عن ابن عباد ولم يذكر واحدة وكأنه جمع قمس كسكر

قلنا أن البطارقة هنا بمعنى الأشراف من أكابر القوم. وكذلك قولهم القومس: الأمير؛ والقمس: الرجل الشريف. فكل هذه المعاني مرجعها واحد، وإنما الفروق هي من بعض الشراح. أما من جهة التحقيق، فالقومس أو القمس غير البطريق وهذا غير الرجل الشريف؛ والرجل الشريف غير كبير القوم أو أميرهم. أما التوسع في المعاني فأشهر من أن يذكر

والأقباط يسمون كبير قسوسهم بالقمص كالقُفل، أو القمُّص بضم الأول وتشديد الثاني المضموم، والجمع القمامصة. وسمي النويري القمامسة: قماصة بالصاد بمعنى الأشراف؛ وهذا يشعر بأنه اعتبر المفرد قمصا، وزان سكر، بصاد في الآخر. وهذا من لغات مضر، أي قلب السين صاداً للتفخيم. وكذا عل ابن الأثير المؤرخ؛ فأن الذي سماه بعض المؤرخين قومساً، سماه هو قومصاً: وسمي الأنثى قومصة - قومصية. قال في الكامل (247: 11 من طبعة الإفرنج): (وكان القمص (وفي بعض الروايات القومص) صاحب طرابلس، واسمه ديمند ابن ديمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحبة طبرية)

وقد جرى على هذه التسمية كثير من المؤرخين الذين جاؤوا بعده. وقال في وقائع سنة 583: (فر القومص إليها (إلى صور) يوم كسرتهم (كسرة الصليبيين))

والذين جاءوا بعد هذه الطبقة من المؤرخين الكتاب قالوا: الكند بدال في الآخر، أو القند بقاف ونون ودال. فمن الأول قول أبي شامة (راجع كلامه الذي أوردناه في الدوفن)

ومنه أيضاً الكنداسطبل. وقد تحذف الهمزة. ومعناها أمير الإسطبل. وهو تعريب اللاتينية قال صاحب مختصر الدول (ص 448 من طبعة بيروت):

(ومن الأرمن الكندسطبل، أخو التكفور حاتم). - وفي الكامل لابن الأثير (10: 211): (وأسر مقدمهم المعروف بكنداصطبل، فاقتدى نفسه.)

وقد غلط المعلم بطرس البستاني غلطاً فظيعاً في معجمه، محيط المحيط، إذ قال في ترجمة (ك ن د):(الكند: الشرس الشديد. فارسي) اهـ. - وقد نقل الكلمة عن فريتغ وهو مأخذه

ص: 29

الأكبر ولم يصرح به. وفريتغ حاطب ليل لا يميز الحطب والجزل، وقد أولج في الضادية مفردات جمة لا حقيقة لها، سوى سوء فهمه لكلام بني عدنان، أو لسوء قراءة كلمهم. هذا فضلاً عن البستاني لم يفهم معنى كلمة فريتغ اللاتينية وهي فهي لا تفيد أبدا معنى (الشرس) كما نقلها إلى لغتنا، بل النشيط، الثقف، العامل، الفعال. فهذه أغلاط فوق أغلاط فوق أغلاط، فهي ظلمات من فوقها ظلمات ومن تحتها ظلمات. ومن الغريب أنه نقل هذه الكلمة اللاتينية نفسها في مادة (كُنْداكِر) بالمعنى غير المعنى المذكور. فقد قال:(الكنداكر: الشجاع الجسور) اهـ.

قلنا: وهذا يجوز لأنه من معاني الرومية المذكورة أي لكن كنداكر منقولة عن فريتغ أيضاً، وقد قال فيها أنها فارسية، وهي لا فارسية ولا عربية ولا هندية ولا صينية، بل ولا وقواقية، لأنها مركبة من كند أي أمير وأكر أي عكاء، ومحصل معناها: كند عكاء أو أمير عكاء، ويراد به هنا الكنت هنري دي شنباي وبالحروف الفرنسية: ' ،

وسعيد الشرتوني صاحب أقرب الموارد، نقل هذين الغلطين عن البستاني، ونسبتهما تواً إلى فريتغ كذباً وزوراً. مع أن الحقيقة أنه نقلهما رأساً عن محيط المحيط، فنكرانه لمجهود المعلم بطرس البستاني لا يشرفه ولا يبرر وهمه. فقد قال في مادة (ك ن د):(الكند بالضم الشرس الشديد (فارسي)، نقله فريتغ عن بعض كتب العرب) اهـ. فلو نقل الشرتوني الكلمة تواً عن فريتغ، لنقل منى لاتينية نقلاً صحيحاً غير ما نقله البستاني، لكن أراد الله أن يكشف سوء عمله، فقال ما قال كذباً وزوراً، فكان عليه أن يعترف بالصدق ويقول:(نقلته عن محيط المحيط وهو نقله عن فريتغ)؛ وهذا لم يحسن القراءة ولا فهم معنى اللفظة

وكذلك قال في كنداكر: الكنداكر (وضبطها ضبط قلم بضم الكاف وإسكان النون وفتح الدال يليها ألف فكاف مكسورة فراء في الآخر): الشجاع الجسور، فارسية، نقلها فريتغ عن بعض كتب العرب؛ وكان حقه أن يقول ما ذكرناه في كلمة الكند

أما صاحب البستاني فذكر الكند إذ قال: الكند بالضم الشديد الشرس (معرب). فأراد أن يبين أنه لا ينقل عبارته عن محيط المحيط ولا عن أقرب الموارد فقدم وأخر فقال: (الشديد الشرس معرب) عوض أن يقول: الشديد الشرس فارسي.

فيا للأسف! كيف أن أنباء العرب ينقلون لغتهم عن الدخلاء ولا يشعرون بالضرر الذي

ص: 30

يلحقونه بلسانهم الفصيح، البديع، البليغ بعملهم هذا المليم! وكيف أنهم يسرقون أتعاب غيرهم ولا يقرون بفضلهم، وكيف أن الله يهتك أسرارهم وسرائرهم بصورة لا تعلى شرفهم

وخلاصة البحث في القند، أنه يقال: القُنْد، والكْند، والقُمْس، والقُمَّس، والقُمس، والقُمْص، والقُمَّص، والقُمَص، والقُمُّص، والقَوْمَسْ، والقوْمَص. وإذا زدنا عليها ما يقوله صحفيون في هذا العهد، أي الكنت والكونت، وما ذكرناه بادجر في معجمه الإنكليزي العربي، الذي صححه الشيخ أحمد فارس الشدياق، أي القونت، مَثُلَ بين يديك رجل عربي ينطق بأربع عشرة لغة، فلله دره من لغوي بارع!

8 -

الهنباط

قال في تاج العروس: (الهنباط، بالفتح، صاحب الجيش بالرومية. وقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة: إذ نزل الهنباط ثم قال: هنا (أي في مادة هـ ن ب ط) ذكره ابن الأثير (صاحب النهاية)، وذكره الصاغاني في مادة (هـ ب ط) وقلده المصنف أي (الفيروزابادي) والصواب أنه بالنون. وقال في تركيب هـ ب ط:(الهيباط، بالفتح: ملك الروم. نقله الصاغاني هنا. والصواب أنه الهنباط بالنون). اهـ. وفي النهاية لابن الأثير المطبوع في مصر، ضبط الهنباط بالضم، وهو خطأ، لأنه مخالف لنصوص جمهرة اللغويين

وكان فكرنا في أول الأمر أن الهنباط مقطوعة من الرومية (إنبراطور)، لكن نبهنا الأستاذ الأجل إلياس قدسي إلى أن الكلمة من اليونانية (هُبَاطُس)، وأول معناها: الأعلى والأرفع، ثم أطلق عندهم على الرئيس الأعلى؛ أي ما يسميه الرومان (قنصلاً). وكان يرد بالهنباط يومئذ لقب أحد الحاكمين الأعظمين اللذين كانا بديوان رومه. وجاء الهيباط بعض الأحيان بمعنى قنصل الإقليم، وهذا كان يسمى باللاتينية برو قنصلاً. وكان الهيباط يلفظ في أول الأمر (هُبَاط) وزان غراب، ثم (هِباط) بكسر الأول ككتاب، ثم صحفه بعضهم فقال (هَيباط) بياء مثناة بعد الهاء. وآخرون قالوا (هنباط) بنون بعد الهاء. فالمادة الأصلية هي (هبط) وكان يجب على اللغويين أن يذكروها في هذا التركيب الثلاثي لا في سواه

وأصل اليونانية (هفاطس)(هُفامس)، أي أن اللفظة في أصل وضعها القديم كانت بالميم،

ص: 31

ثم قلبت تاء أو طاء. قلنا: فإذا جردنا الكلمة من زوائدها، يكون لنا (هفا) أو (عفا)، لأنه ليس في لغة اليونان حرف حلقي فخم، فعندهم الهاء والعين شئ واحد، والعرب تقول: عفا فلان على فلان في العلم وغيره زاد. واسم الفاعل عاف والجمع عُفاة. فالهباط أو العفاط هو العافي لا غير في أصل معناه، المشرف على غيره بالعلم أو بالرئاسة

وقلب الميم تاء أو طاء في العربية واقع وقوعه في اليونانية. فقد قال بنو عدنان: حات يحوت بمعنى حام يحوم، وقالوا: الغطس كالغمس، ورجل أطرط الحاجبين كأمرطهما، وجعل الهاء عيناً، وبالعكس أمر مشهور أيضاً لا يحتاج إلى تأييد، من ذلك قولهم: تربع السراب وترية، وعاث فيه وهاث، والهنشنش كالعنشنش، والهكوك كالعكوك والهجفة من النساء كالعجفة. فاتضح من هذه المقابلة أن اللفظين هما واحد في الأصل، وهذا عجيب غريب!

(له صلة)

الأب أنستاس ماري الكرملي

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ص: 32

‌من الأدب النسائي

من مذكرات مطلقة

للسيدة الفاضلة (ليلى)

(إذا قسا قلب الرجل ومات ضميره فلن تجد الرحمة سبيلاً إلى

قلبه، وهيهات أن يرد إليه الشعور أنه سارق، وفي بعض

الحالات قاتل. يعطي باليمنى ويسلب باليسرى، ويغتصب

الروح الهانئة لتحل الشقوة ويدب التلف إلى القلب النابض

فيخفت. أيها الإنسان العابث! أما عرفت أن هناك إلهاً

بالمرصاد؟)

أذلك حلم أتخيله، أم هي الذكريات تطوف برأسي كما يطوف النحل بخلاياه لها أزيزه وطنينه، ولكنها لا تنتج العسل ولا فيها شفاء للنفس ولا للناس؟ لقد كادت صرخة الجوع تفلت من بين شفتي، ولكنها في سجن من الإباء وقيد من الكبرياء! لقد سمحت للدموع أن تطفئ أشجاني وتبرد نار أحزاني، ولقد هتفت بوحدتي أن أسبلي على ستارك، ولا تمتعي بآلامي مهجة الشامت، حتى تستقر نفسي، ويعاودني كسابق الأمر أنسى، وهيهات. . . فالقلب قبر صامت يحمل رفات الذكريات! لقد نسى الغادر كؤوس الهناءة التي سكبتها له بيدي، وألوان السعادة نعم بها في جواري، وجنة البيت تضفي عليه النعيم. . . نسى الصدر الرحب الذي وسع أنانيته، والروح التي خلقت فيه عبقريته. . . نسى الحنان يرتع في جنباته، والحب الخالص يرعاه في غداوته وروحته. . . كانت حياتنا معاً مثلاً عالياً للوفاء، فبرهنت الأيام على أن ليس لحال بقاء. . . نسى كل شئ، وبرم بعشرة السنين الطويلة: لم يرحم الإحساس المرهف يجرح بسكين الصد والهجران؛ ولا الآلام تخترم الجسم الرقيق كالنبال، ولا النفس العالية يسهمها الخسف والهوان؛ وطغى كالسيل الجارف يهد من جسر الآمال، ويذيب الأماني ويفرقها في صميم الأوحال! أستبدل بالمرحلة السعيدة التي قطعناها،

ص: 33

أخرى شيقة ما ألفناها، تبدل وتغير من ربيع زاهر ضاحك إلى خريف مجدب ماحل، ثارت النفس لهذا الاختلاف، ثم جاء وقت الحساب، فما أجدي تفاهم ولا عتاب. افترقنا، هو سادر في غلوائه، وأنا قلبي تائه في بيدائه، وحملت نفسي أشلاء ممزقة وهي حائرة مبعثرة، وصرخت في وجه القدر: أنا صابرة صابرة، وعلى تحدي غدره قادرة! أشحت بوجهي حين تقدم إلى بالمساعدة، حتى حقوق رفضتها معاندة، وخرجت من بيته مرفوعة الرأس. وهناك في غرفة حقيرة الأثاث انطويت على نفسي بعيدة عن الناس، أبيع الحلية أسد بها الرمق، أغالب حالات الضيق والقلق، وأطارد شبح الذكرى حتى حقرت في نظري الحياة. وما هي ذي نفسي تستمرئ هذا العيش الجديد، بالرغم من بعده عن كل تغيير وتجديد. بقى فضول الناس، فهم بمعرفة حقيقتي مولعون؛ يعجبون لوحدتي وانفرادي، ويتساءلون عمن أحب وعمن أعادي. لم يبق غير الجبل أسارع إليه لأدفع عني شر الإنسان، ولا بد انه ملاحقي في كل زمان ومكان. إني أحسن جوارهم، ولكن لا أحب حوارهم. آنس بالوحدة وأرى فيها عالم من نور، وأوقن أن ما يصيبنا في كتاب مسطور. درأت عن نفسي فتنة الدنيا بهذا الاحتجاب، وكأني سائحة طال عليها الاغتراب. رأيت السلوان في مصحفي وكتابي، وناشدت الله أن يجزل ثوابي؛ حتى إذا اجتزت المحنة في ثبات. أخذت أفيق من غمرة ذهولي وأقول: حياة كالعدم، شئ غير معقول. . . لم لا آخذ من دهري بنصيب، وأستبدل حبيباً بحبيب؟

صحت وقد نفضت عني حياة العدم، فليس في صفحتي ما يوجب اليأس والندم: أشرقي يا نفسي في جوانب صدري. هأنذى لا زلت شابة فتية. . . لم تكونين يا نفس ضحية الأحزان ونعيم الوجود يبدو أمامك؟ انشطي وأفسحي المجال لروحك، وضمدي بالسرور شتى جروحك. . . ما ضرك لو تعرفت بهذا وذاك. . .؟ أليس لأسير الأسى من فكاك؟ أيقضي علي بالقسوة والحرمان، وسواي يلهو مع الصحب والخلان. . . إن ظهري لا يحتمل وقر السنين، ولا يرضى بشقاء العيش غير المجانين! لقد لقيت جزاء الإخلاص، وأفلست من حبه أيما إفلاس، ولكني سأتناول بيدي كؤوس النعيم، وأطرح همي الدائم المقيم. نحن بني آدم كالأعاصير نثور ونهدأ، وما نحن ألا قصة أو حديث في أساطير، ومهما طال بنا الأمد فسيجرفنا الفناء. وسنجد أن الحياة لم تكن تستحق العناء، فلنشرب من

ص: 34

وردها الصافي. إني احبها وعلى رأسي تاج من الشرف يلمسه من جهلني ومن عرفني. أحبها في أحضان السمعة الطيبة والكرامة، ولا ينقصها وخزة ضمير ولا ندامة. فاللهم اهدني السبيل، واكفني شر القال والقيل. كيف أناضل للعيش وحيدة، وأنا بمعرفة أساليب الناس بعيدة؟ وا خيبتاه أن وقعت في الحبالة، ولم يبقى في مصباح عقلي زبالة. اللهم خذ بيدي فلست أريد إلا أن أخرج عن جمودي وأشعر بكياني ووجودي. هأنذى أفتح النافذة وأتلقى نظرات جاري متحفزة. قال: عمي مساء! قلت: عم مساء! قال: يظهر أننا في الوحدة سواء. لم تنفرين من المجتمع، أما من أقارب أو أصدقاء لك في هذا البلد؟ قلت وجدت الخير في صحبة الكتاب، بعد أن تقطعت بيني وبين صاحبي الأسباب. أما البنون فالحمد لله الذي رفع عني عبئهم، ولم يشأ أن أتحمل ذنبهم. قال يا لك من مسكينة! لا بد أن تكون حياتك موحشة قاسية، وماذا يملأ فراغك؟ ما ضرك لو نكون صديقين؟ فكانت إجابتي بسمة ساخرة، وكنت في تحويل دفة الحديث ماهرة. ثم أقفلت النافذة بغير تحية، وأنا أقول: خاب فألك! لن أكون مرة أخرى ضحية

دخلت على جارتي ودعتني للزيارة، فلم أشأ أن أعارض، وجلست إليها أستمع هراء في هراء، ولا أدري أن كان حديثاً أو مواء. لقد حاولت الإفصاح، وأخذت تستدرجني لأقص عليها واقعة حالي، وأنبئها بآلامي وآمالي. فقصت عليها أمري باختصار، فأضهرت لي أنها من خيرة الأنصار، وأخذت تلين ملمسها كالحية الرقطاء، على صورة لم يخف ما بها من دهاء. وبرغم تظاهرها بالبذخ واليسار شعرت باحتقارها. ثم خرجت من لدنها وبيني وبينها هوة سحيقة. لقد تجرعت الساعة التي قضيتها معها ككأس مرة المذاق، وقد عزمت وأكدت العزم ألا يكون بعدها تلاق

خرجت اليوم في الطريق، من غير ما صاحب ولا رفيق، فآخذتني النظرات السافلة، ورحت أتعثر بين السابلة. أخذت سمتي إلى ملهى من الملاهي، وأنا أقول أسألك العصمة يا ألهي. رأيت نساء يرقصن شبه عرايا، ونفوسهن تشف كالمرايا، ليس لهن هدف غير الرجال، وسلب ما يقدرن عليه من مال. أما الحب الذي يتظاهرن به فما هو إلا خداع وإغراء، قد جاز على عقول هؤلاء التعساء. كانوا يلتهموهن بأنظارهم التهاما، ويظهرون جوعاً وهياماً. والنساء يتدللن والرجال يتعللون، وكل بدوره يحيك الشباك، ويبحث عن

ص: 35

ضالته هنا وهناك. وبدلاً من أن أسر بالأنوار الساطعة والموسيقى الصاخبة، شعرت كأني أريق ماء وجهي، وأن الشيطان واقف وراء ظهري وأمامي ينفث من روحه في تلكم الأنغام؛ فأسرعت بالفرار من هذا المكان، أنشد في وحدتي الطمأنينة والأمان.

(ليلى)

ص: 36

‌سليمان فوزي

دمعة مكبوتة على فقيد عزيز

للأستاذ صالح علي عيسى السوداني

أي أستاذي وصديقي سليمان فوزي!

لقد كنت في حياتك بي مرحبا حفيا، وهاأنا قد أصبحت اليوم بموتك شقيا. . . لجأت إلى الدموع فلم تسعفني من شدة الحزن. . . وشر الدمع ما كان عصيا. . . واقتل الحزن ما كان مكتوبا دفينا

وما قَّصرت في جزع ولكن إذا غلب الأسى ذهب البكاء

أي سليمان! فما اعظم مصابي بك! وما اشد حزني عليك!

إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني

أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

أخَلاي لو غير الحِمام أصابكم

عتبت، ولكن ما على الموت معتب

اتصلت بالمغفور له سليمان فوزي منذ نيف وعشرين سنة فألفيته على جوانب عظيمة من المروءة والشهامة والنجدة والإخلاص لإخوانه، والاستخفاف بالشدائد والاعتداد بالرأي والاعتماد على النفس والاستهانة بالمال ينفقه في سبيل أداء الواجب نحو وطنه وأبناء وطنه وإخوانه وزملائه، إذ كان يؤثرهم على نفسه، ويا طالما كان يضيق على نفسه ليوسع على العافي المعوز من أصدقائه الذين اتصلوا به

ولقد لازمت الفقيد - رحمة الله - في كثير من أوقات الشدة والمحنة داخل السجن وخارجه، فكان القدوة ومضرب المثل في الشدائد مع الرضاء. . . كان يقابل النكبات بابتسامته الساخرة والتهكم المحبب إلى ذوي النفوس القوية، فإذا حاولت أن تسري عنه أو تهون عليه سرعان ما كان يقف منك موقف المسري المخفف لما حاولت أن تهونه عليه! مزدرداً البلوى النازلة مهما عظمت، والنكبة الطارئة مهما كبرت، بتلك الكلمة التي يتخذها شعاره وهي:(ربنا يستر). كان يقولها في المواقف الحرجة التي ترتعد فيها الفرائض، والمواطن الخطرة التي تنخلع لها القلوب وتذهب شعاعا. ولا عجب، فقد كانت تتجلى في الأستاذ سليمان فوزي جميع صفات الشجاعة بأجلى ما في كلمة الشجاعة من المعاني، إذ كان يمضى قدماً إلى الغاية التي كان يتوخاها بنقده، والهدف الذي كان يرمي إليه بحملته

ص: 37

الصحفية، لأنه كان يقدس عمله الصحفي، وكيف لا، وهو الذي كان يضحي في سبيل أداء الواجب الصحفي براحته ومكسبه وصحته! ولا جدال في أنه لم يستطع حاكم بسطوته وجبروته أن يرهبه أو يخفيه أو يحمله على العدول عما كان يعتقد محاربته لزاماً. ولم يستطع زعيم أو متزعم مهما بلغ من قوة نفوذه أن يثنيه عن المضي في عمله الصحفي ناقداً أو داعياً إلى الفكرة

وكان الأستاذ سليمان فوزي (أنموذجاً) ومثالاً وصورة ناطقة لجيل من رجالة الصحافة في مصر الذين احتواهم أعنف عهد من سني الحركة القومية والنهضة الفكرية. ولا مريه في أن فقيد الصحافة كان ن ابرز الشخصيات الذين قام على أكتافهم إعلاء شأن الصحافة في مصر، كما في طليعة أولئك الذين خلقوا للصحافة نفوذاً يخشى تجاهله ويعمل حسابه. . . ولكن سليمان انفرد بذلك الطابع الخاص في النقد السياسي اللاذع والتهكم المرير على سياسة وأنانية كثيرين من المتزعمين الذين اتخذوا الاشتغال بالسياسة حرفة ووسيلة لإشباع بطونهم الجائعة، وملء جيوبهم الخاوية. وبعبارة أخرى، كان سليمان في مقدمة أولئك الذين كشفوا للأمة - في شجاعة - خبايا نفوس بعض المتزعمين، وأبانوا للناس حقيقة وطنية المتجرين بالسياسة وعواطف الأمة

وكان من صفات الأستاذ سليمان فوزي المبادرة إلى معاونة كل صحفي إذا ألمت به ملمة حتى لو كان هذا الصحفي من خصومه في الرأي الذين قاومهم وقاوموه - على أني لم أر للراحل الكريم ضريباً في بذل الجهود لمعاونة إخوانه في أوقات شدتهم. وأني لأكتفي بذكر القليل من المروءة التي كانت تتجلى في الأستاذ سليمان فوزي نحو خصومه من رجال الصحافة والسياسة

لما قبض على الأستاذ الكبير محمد توفيق دياب في قضية سياسية (كيدية) وكان قد أستشهد بي ضد الكاتب الكبير بعض الذين كانوا يأكلون لقمتهم مغمسة بدماء الناس. وبالرغم من أن الأستاذ سليمان فوزي كان يخاصم الأستاذ الكبير توفيق دياب ويقاوم السياسة التي كان يروج لها، فإذا به (أي الفقيد الكريم) يسرع في مقابلتي - بمجرد أن علم بإلقاء القبض - ليذكرني بواجب الرجولة نحو رجل من حملة الأقلام - ولم أك ناسياً - وقد طالبني أن أقف في صف الأستاذ الكبير توفيق دياب وأن أكون له لا عليه في وقت شدته، على أن

ص: 38

نستأنف مقاومة رأيه السياسي بعد إطلاق سراحه. وقال: أما وهو رهين السجن فلنقم نحوه بما يفرضه الواجب على الرجال. قال ذلك، ثم أخذ يسعى لدى الدوائر الرسمية طالباً أن يعامل الأستاذ توفيق دياب في سجنه معاملة ليق بمكانته كأحد قادة الفكر في البلد

إذن لست مبالغاً إذا قلت أن المغفور له الأستاذ سليمان فوزي كان ينفرد في بيئته بالمروءة والشهامة والنجدة والشرف في الخصومة وتناسي الأحقاد وقت الشدائد. . . فهل قام إخوانه بالواجب نحو رجل كان يقوم بالواجب طوال حياته. . .! لعل الجواب لدى الأستاذ الهيهاوي والأستاذ محمود أبو الفتح وغيرهما

ولقد كان الأستاذ سليمان يقدم حيث يحجم غيره! كان قوياً في مواقفه الوطنية، كما كان يجامل أنداده ويلاطف من دونه، يشبع جائعهم ويكسو عاريهم. . . وقد كان رجلاً فوداعاً يا رجل!

صالح علي عيسى السوداني

ص: 39

‌ليلة قمراء

للأستاذ العوضي الوكيل

جلستُ أنَاجِي ضِيَاَء القَمَرْ

وأنْهَلُ أحلامَهُ بالنَّظَرْ

وألمحه بِشِغَافِ الفؤاد

واشهده بعميق الفِكَرْ

سَرَى في المشاعِرِ سَيرَ الخَيَال

رَضِيَّ الهدوء، جَمِيلَ الأثرْ

يطارحني خلجاتِ الشعور

ويَشْدُو وإن لم يَكُنْ ذا وَتَرْ

فأسمعه ملءَّ هذا الوجودِ

ما بَانَ أفقه واستَتَرْ

ندىَّ الجبين، لدى الشعاعِ

حَيٌّ تلفُّته، ذو خَفَرْ

ضَحَا الكون يا ليلتي وابتدَرْ

ورقْت عشياته والسَّحَرْ

ألا فاقبسي من سَنيَ ما انتَهَيْتِ

وصونيه في كَنزِكِ المدّخَرْ

تَمَلّىْ مسارحَ مَن الجمالِ

منتظراً سحرُها من نَظَرْ

رياضٌ من النورِ نسي العيون

فَأينَ الغصون وأينَ الزّهَرْ

جلست وفي جانبي من أُحِبُّ

يأمرني أن أجيلَ البَصَرْ

ويطلبُ مني رقيق النشيد

يخَلّد حيناً علينا عَبَرْ

أما كان يعلمُ أن سناه

مَعَانٍ لديوانِيَ المنتظَرْ

يدلَّ عَلَيّ وما ينثني

ولكنه ما نأى أو هَجَرْ

قديمُ - لعمرك - دلَّ الحسان

ألا ليته طاف مُبْتَكَرْ

ألا ما النشيد وما سحرُهُ

لدى وجهكِ العبقريّ الأغَرّْ

معانيه أخلدُ ما في الوجود

إذا ما انطوى غيرها وانْدَثَرْ

نَمَتْ واستطالت أقانينُهَا

ولم تبْقِ من روعةٍ أو تَذَرْ

فرحتُ أصلّى لدى سحرها

وأحبِسُ للصلواتِ العُمُرْ

وأفنى حياتي. . . فناء البقاء

وأنفى عن الروح هذا الضّجَرْ؟

سرى البدرُ في غفوة من منىً

ففي أيّ حلمٍ وضئ نَضِرْ؟

تعالي لنوقظه من سُبَاٍت

ونترك آلامَنَا تُحْتَضَرْ

العوضي الوكيل

ص: 40

‌مختارات من مراثي الشعراء

في المرحوم فؤاد بليبل

من قصيدة الأديب محمود السيد شعبان:

إلى الشاطِئ المجهولِ قد سارَ زوْرَقٌ

يَشُقُّ عُبَابَ الغْيبِ سهْماً مُسَدَّدَاً

عَلَى مَتْنِهِ مَلاّحُهُ وَيْحَكَ اتَّئِدْ!

فإنَّكَ مَا أدْرَكْتَ مِنْ عُمْرِكَ الَمَدَمي

تَعَوَّدْتُ أَنْ أَلْقَاكَ بِاْلبِشْرِ دَانِياً

فهأنذَا أَلقَاكَ بِالدَّمْعِ مُبْعَدَا

وَما كلُّ مَيْتٍ خَاِلدٌ غَيْرَ أَنّني

رَأَيْتُكَ فِي الأَمْوَاتِ حَيَّاً مُخَلَّداً

فُؤُادُ! لقَدْ آبَ الربِيعُ وَلَمْ تَعُدْ

وَمَا ضَرَّ لوْ أَسْدَيْتَ بِاْلعَوْدِ لِي يَدَا؟

عَرَفتُكَ سَبَّاقاً إلى كلِّ غَايةٍ

فَهَلْ كنْتَ تَهْوَى السَّبْقَ حَتَّى إلى الرَّدَى؟

مَشَوْا بِكَ فِي حَشْدٍ وَفِيٍّ مُوَدَّعٍ

فأَبْكَمْتَ مَنْ غَنَّى وَأَبْكَيْتَ مَنْ شَدَا!

شَقِيتَ زَمَاناً فاَسْتَرِحْ، طِبْتَ مَرْجِعاً

وَطَابَ لَكَ الفِرْدَوْسُ مَهدْاً وَمَرْقَدَاً!

رَجَعْتَ إلى الأرضِ اليَبَابِ فَقلْ لها:

دَعِيِني أعِشْ لِلنّورِ وَالحُبِّ سَرْمَدَ

رَوُيْتُكِ مِنْ شِعِري فلم أبْقِ بَلْقَعاً

عَلَى ظَمَأ يوماً وَلَمْ أبْقِ فَدْفَدَاً

وَنَضَّرْتُ بالأحْلَام رَوْضَكِ مُنْشِئاً

وَأطْرَبْتُ بِالأَلحانِ طَيْركَ مُنْشِداً

وَبَارَكْتُ فِيكِ الحُسْنَ وَالطُّهرَ وَالهوَى

وَأبْدَعْتُ مِنكِ الحَقَّ والخَيْرَ وَالهُدَى!

وَصُغْتُ قَرِيِضي مِنْ شُعُوري وَمِنْ دَمِي

وَمَا كُنتُ في يَومٍ لِغَيرِي مُقَلِّداً

فما لَكِ قَد غَيَّبْتِ في التُّربِ هَيْكَلِي

وَلَم تَحْفَظي عَهْداً وَلم تَحْمَدِي يَداً؟

ومن قصيدة الأستاذ محمود غنيم:

استقبل الناس الربيع بموِكب

ومضى أحبائي فرحت أشبِّع

الزهر ينفح فيه إلا زهرةً

منثورة الأوراق لا تتضوع

والطير يسجع فيه إلا بلبلاً

تحت التراب موسَّداً لا يسجع

كمَّ الرَّدى فَمَهُ وكان إذا شدا

في الأيك راح فم الزمان يرجِّع

لم يبق من نغماته إلا صدى

كالنزع في أذني يرن فأفزع

يا أيها المرح الطروب تحيةً

أتُراك تلهو في الضريح وترفع؟

ص: 42

قد كنتَ تبسِم للحياة: شقائها

ونعيمها، بكليهما تتمتع

تتزلزل الدنيا وقلبُك فارغٌ

مما يزلزلها وجامك مترع

ما كان يَنْقُصُك الشعور بوخزها

بل كنت عن آلامها تترفع

أسرعت في قطع الحياة كأنما

هي حَلْبَة فيها يفوز المسرع

يا ساكن الصحراء هلا خُطّ في

ظل الخمائل والربا لك مضجع

أدمى فؤادي إن نجمك قد هوى

إذ راح يأخذ في الظهور ويلمع

فاجأت أندية القريض بكوثر

لم يعرفوا من أي عدن ينبع؟

ما كان لأسمك رنةٌ لكنهم

وجدوا لشعرك رنةً فتتبعوا

شعر صريح في العروبة محكم

لا معجم واهي النسيج مرقع

ص: 43

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ الكبير (1. ع)

السلام على سيدي العلامة الأستاذ الكبير الكريم ورحمة الله وبركاته. . . وبعد، فرأى الأستاذ - أدام الله نفع الناس بطول بقائه - في أمر (الإرسال) هو الأعلى؛ ولا ريب في أن إرسال الريح الصرصر والحاصب والصيحة والعذاب - تسليط وعقاب، وكذلك إرسال الكلب والصقر على الصيد (المسكين) عند أبي العلاء والبراهمة والمنصفين من الآدميين. . . غير أن هذا الضعيف لا يرى في الإرسال إلا معناه الظاهر أي ضد الإمساك (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له)؛ ويرى التوجيه مثل الإرسال (وجه إليه كذا أرسله)، كما في اللسان (وجهه في حاجته توجيهاً أرسله فتوجه جهة كذا) كما في التاج؛ وترسل النعم (يرسل السماء عليكم مدراراً) كما ترسل النقم (ويرسل عليها حساباً) قال الراغب في (المفردات):(الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة)، فتختلف الإرسالات كما يختلف المرسلون والمرسلات. . . والإرسال حقيقة كما روى الأستاذ عن الأساس:(أرسل كلبه وصقره على الصيد) ومجاز كما روى - أيده الله - عن ذلك الكتاب (أرسل الله عليهم العذاب)

والآية الكريمة التي استشهد بها التاج - ناقلاً من اللسان؛ والتسليط قول الزجاج - وأوردها الأستاذ فيما روى من كلامه وهي: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) وقد تشعبت في معنى الإرسال فيها أقوال لغويين ومفسرين - والأستاذ أعلم مني بذلك - والإمام ابن جرير يقول في تفسيره: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تريا محمد أنا أرسلنا الشياطين على أهل الكفر بالله تؤزهم، يقول: تحركهم بالإغواء والإضلال، فتزعجهم إلى معاصي الله وتغريهم بها حتى يواقعوها. أزا: إزعاجاً وإغواء)

ولو لم يوجه الله الشيطان إليهم أو يسلطهم عليهم أو يخل بينهم وبينهم لطاروا إليهم من تلقاء أنفسهم، لأن عملهم في هذا الدنيا - وهذا (قضاء من الله العزيز أراده) - إضلال الكافرين وغير الكافرين وإفساد جميع الأناسين (إلا عباد الله المخلصين)

وأرسل في ختام هذا الكلام إلى سيدي العلامة الأستاذ الكبير الكريم - مد الله في عمره - خير تحياتي

ص: 44

* * *

عثمان زناتي

تفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) فصحح الخطأ الذي وقعت فيه حين تحدثت عن أحمد زناتي وأنا أريد عثمان زناتي

وأقول إن ذلك الخطأ كان نعمة عظيمة. فقد أوحي إلى هذا الأستاذ الكبير كلمة من أطيب الكلمات في التعريف بأخوين كان لهما في خدمة اللغة والأدب والتعليم مكان مرموق

ذلك خطأ وقعت فيه سهواً، فكان من آثاراه أن ينتفع القراء بتلك الكلمة الطيبة، وإلا فأنا أعرف أن الشاعر هو عثمان زناتي، وكذلك ورد اسمه في كتابي (الأسمار والأحاديث) ص 298 عند الكلام عما انتهب شوقي من معانيه الجياد

ولو ضمنت أن يصحح الأستاذ (ا. ع) جميع أخطائي لأخطأت عن عمد لأظفر بتلك النفثات التي تصدر عن باحث من أعاظم الباحثين

هذا، ولم أفهم من القول بان الشيخ عثمان زناتي كان من الشعراء الذين نبغوا في أواخر القرن التاسع عشر

فهل يكون معنى ذلك أننا انتقلنا من تاريخ الهجرة إلى تاريخ الميلاد؟

أرجو أن يتفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) بالإجابة عن هذا السؤال، فأن لم يفعل فهو وحده الذي عاد يطرق باب (التجديف) وهي تورية أتحفني بها منذ أسابيع، فهي منه وإليه

أدام الله عليه نعمة العافية والتوفيق والسلام

زكي مبارك

في تأبين المرحوم فؤاد بليبل

. . . وكان أيضاً في تأبين فقيد الشعر المرحوم فؤاد بليبل ينادي لبنان مساء الأحد 11 مايو ظاهرتان تلفتان النظر، وتستوقفان الفكر

أما الأولى فكانت روح الشباب في إبانة، وثورة الصبا في عنفوانه، فالمرثي شاب والراثون شباب. فلا جرم أن يكون رثائهم من شباب الرثاء إن صح ان يكون للرثاء شباب

ومن ثم كانت القصائد التي سمعناها في هذا الحفل تفيض بالحرقة والأسى. . . والحياة. .

ص: 45

وما عرفت الفقيد ولا رأيته إلا في شعره، ولكنني والله ما تمنيت أن أرى مرثياً لم يتح لي لقاؤه، كما تمنيت أن أرى فؤاد بعد أن شفني رثاؤه. وهيهات

ولقد يكون من حسن التقدير أن نشير إلى قصيدة كانت (بيت القصيد) فيما سمعنا من القصيد، وهي قصيدة الأديب محمود السيد شعبان الدالية. . . استمع إلى حسن المقابلة في قوله:

فيا لك من حلم جميل قد انتهى

ويا لك من حزن طويل قد ابتدأ

أو إلى قوله:

عرفتك سباقاً إلى كل غاية

فهل كنت تهوى السبق حتى إلى الردى

أما الأخرى - وإن أغضبت صراحتها الرسالة - فقد زادتني إيماناً بأن الناقد الحق ينبغي أن يسمع الشاعر أو الكاتب خطيباً فيستشف منه ما لم يستشفه من قلمه، ويستشرف من روحه وصوته ونبراته، وموقفه وإشاراته ونظراته، إلى ما ينير له الطريق فلا يزيغ حكمه، ولا يضل قلمه

أيقنت أن قلم التحرير والتصحيح في الرسالة يعاني الأمرين في ضبط ما يرد إليها من قصائد الشعراء، وإلا فكيف نعلل هذا اللحن الشائن الذي كان يغيم على ألسنتهم خطباء؟. . .

لقد أتيح لنا في هذا الحفل أن نسمع من يقول في شعره (عرفت ورجعت ووقفت) فلعلها لهجة عامية غلبت على الألسنة. . . وأتيح لنا أن نسمع من يقول (تهرب منا القوافي) و (أمسك القلم)، وأن نسمع من يقول (كان فؤاد عبقري النفس عبقري الروح) و (كان ابن الرومي ثائراً) ويكررها مرات. . .

ومن البلية أن خطيباً استشهد بقول الفقيد (المصلحون وليس فيهم مصلح) بالرفع وهو ضبط صحيح كما ترى، ولكنه حسب أنه أخطأ فأعادها (مصلح) بالجر. . .

أفبعد هذا نستبعد أن يكون لقلم التصحيح في الرسالة فضل كبير فيما نراه من ضبط صحيح؟. . .

فشكراً لمواقف الخطابة. . . إنها تبصرك بالأدباء فلتعرفنهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول.

ص: 46

محمد محمد رضوان

ربيع وجمادى

شاع - خطأً - وصف هذا الشهرين بما لم يعرف في اللغة فأحببت أن أنقل عن كتب اللغة وصفهما تنبيهاً وتصويباً؛ ولفت نظر الكتاب والمؤرخين؛ والرسالة الغراء - ومكانها في اللغة والأدب عالي الذروة - أسبق المجلات إلى الصواب والهدى

قال صاحب القاموس وغيره: والربيع ربيعان: ربيع الشهور، وربيع الأزمنة؛ فربيع الشهور شهران بعد صفر، ولا يقال إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر (بوزن الفاعل). وإما ربيع الأزمنة فربيعان: الربيع الأول الذي يأتي فيه النَّوْس والكمأة؛ والربيع الثاني الذي تدرك فيه الثمار. . .

وجمادي من أسماء الشهور معرفة مؤنثة وجمعها جماديات، وجمادي خمسة الأولى وجمادي ستة الآخرة.

طه محمد الساكت

مدرس بمعهد القاهرة

مذهب الفرد ومذهب الجماعة

أثار الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك مناقشة في مقاله (الفرد أساس الجماعة). ولا ينكر أحد أن الفرد أساس الجماعة بمعنى أن الجماعة أفراد. لكن الأمة ليست أفراداً فحسب، بل هي أفراد اقتضى اشتراكهم في فوائد المجتمع أن يضحي كل فرد بشيء قل أو كثر. والمعضلة هي إلى أي حد ينبغي أن يضحي الفرد من اجل الجماعة. . . ففي بعض العصور راجت فكرة من يقول: إن الفرد ينبغي أن يضحي بكل شيء إذا اقتضت فائدة الجماعة ذلك، وفي عصور أخرى راجت فكرة من يقول: أن الدولة التي أنشأتها الجماعة ينبغي ألا يتعدى اختصاصها النظر في أمور الأمن العام، وأنها ينبغي أن تترك كل فرد حراً في آرائه وإحساسه وميوله وأفعاله، ما دام لا يتعدى على غيره اعتداء يحرمه القانون؛ أما فكرة من يقول: إن الفرد ينبغي أن يكون في كل أمر خاضعاً للجماعة، فإنها تضحي

ص: 47

بحريات كثيرة، وقد تؤدي إلى تضاؤل الإنسان في فكره وإحساسه وعمله، وهذا التضاؤل مصيره تأخر الإنسانية؛ كما أن فكرة من يقول بمذهب صيانة أعظم قدر من الحرية للفرد قد تؤدي إلى كثير من الاختلال في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى التخاذل والتفرق والتباغض، وقد تؤدي إلى أن يضر الفرد نفسه بإساءة استعمال حريته الكبيرة. وهذا أيضاً مصيره تأخر الإنسانية لو دام هذا الأمر ودامت عواقبه. وقد كانت الفكرة السائدة بعد تأسيس الديمقراطيات الحديثة فكرة صون قداسة حرية الفرد لأن المفكرين وجدوا أن تدخل الحكومات قبلها لم يكن رشيداً ولا منتجاً نتاجاً حسناً. لكن تاريخ الديمقراطيات الحديثة قد أثبتت أن الأخذ بمبدأ الفرد أخذاً عاماً أدى إلى فساد كثير، وقد اضطرت الحكومات إلى رفضه في أمور كثيرة حتى في العهد الذي بلغ فيه غايته؛ فقد رفضته الحكومة الإنجليزية في القرن التاسع عشر بالرغم من إنها تقدس مبدأ الفرد، رفضته عندما تدخلت لحماية الأولاد والنساء والرجال في المصانع، وقد أدى الغلو في الأخذ بمبدأ الفرد إلى ضياعه وإلى قلة الثقة بالديمقراطية في بعض الأمم الأوربية، وإلى سقوط تلك الديمقراطية فيها، وإلى اضطرار الدول التي لا تزال تعتنقه إلى التفكير في أن تحده بتنظيم أمور الجماعة تنظيما لا بد أن يحد حرية الفرد وحقوقه، ولا شك أن هذه الحاجة إلى التنظيم ستزاد بعد الحرب القائمة الآن. فهذه المسألة التي أثارها الأستاذ لا تحل إلا بمحاولة التوفيق بين المذهبين وتجنب ما في كل منهما من أضرار لا شك فيها؛ والبحث في كل أمر يراد به إنقاص حرية الفرد وحقوقه وفحص نتائجه وألا يكون تدخل الحكومة في أمثال هذه الأمور نتيجة العاطفة وحدها أو الحيرة من وجود فساد لا تدري علاجه فتعالجه بالعاطفة أو القهر أو الوسائل التي لا تؤدي إلى إزالته وإن خيلت أنها تؤدي

رشيد العسقلاني

أصل الفقر

كتب الدكتور زكي مبارك في (المصور) وفي (الرسالة) كلاماً كثيراً عن الفقر والفقراء، خلاصته أن الفقر ظاهرة فردية ترجع إلى انحطاط أخلاق الفرد. فليسمح لي الدكتور الفاضل أن أقول له في صراحة نافعة له جداً، إنه لو كان قد درس شيئاً من الاجتماعيات

ص: 48

والاقتصاديات قبل أن يكتب ما كتب، لعلم علم يقين أن العلماء الاجتماع والاقتصاد في العالم كله قد أجمعوا على أن الفقر ظاهرة اجتماعية وليست فردية. وأن علة الفقر هي النظام الاقتصادي لا الأخلاق. فنحن عندما نبحث مشكلة الفقر في مصر مثلاً، لا نقول إن فيها أفراداً أغنياء وأفراداً فقراء. ولكننا نقول إن في مصر طبقات غنية وطبقات فقيرة. وهذه الطبقات الفقيرة - وهي الأغلبية الساحقة - ليست فقيرة لأنها منحطة الأخلاق كما يتوهم الدكتور. ولكنها فقيرة لأن النظام الاقتصادي السائد قد فرض عليها الفقر فرضاً. أرجو أن يعلم الدكتور أن الأخلاق هي أيضاً ظاهرة اجتماعية. فأخلاق الطبقات تتكيف إلى حد كبير جداً بالمستوى الاقتصادي لتلك الطبقات، أي بالغنى والفقر. ولم تكن أخلاق الطبقات قط، ولن تكون أبداً، سبباً من أسباب فقر الطبقات أو غناها

وغنى عن البيان ان هذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل وإلى شرح طويل. ولكنى لا أنوي الآن أن أتولى هذا الشرح فليلتمسه الدكتور - إذا شاء - في مظانه، أي عند علماء الاجتماع والاقتصاد. فلو قد فعل لفهم المسألة على وجهها الصحيح.

ولأراح نفسه وأراح القراء من هذا الكلام الكثير عن مشكلة لم يدرسها ولم تتصل بحياته الأدبية المعروفة عن قرب أو عن بعد

عزمي الدويرى

الأرجي

سيدي الأستاذ الزيات:

ورد في مقالكم القيم (ما خلفته أثينا ورومة) العبارة الآتية: فتدفقوا في اللهو و (الأُرْجي)، فرجعت إلى القاموس فوجدته يقول: الأرج والأريج والأريجة توهج ريح الطيب، والتأريج الإغراء، كالأرج والأرَجَان المغري، والأراج الكذاب، والمؤرج كمحد الأسد، ولم أجد كلمة (الأرْجي). فهل لسيدي الأستاذ الكبير أن ينفحنا بنفثه من يراعه السيال في معنى هذه الكلمة، وله جزيل الشكر

حسن محمد عويس

روافد الأدب العراقي

ص: 49

طلعت علينا أميرة المجلات للعربية - كما سماها الزهاوي - في عددها (رقم 404) بمقالة للدكتور الأستاذ زكي مبارك، حول (الأدب العربي الحديث في العراق)، وقد أكبرنا له جرأته وتجشمه الصعائب، وكتابته عن أدبنا الحديث الذي لم يكتب له تاريخاً يقرأ، وقد ذكر - حياه الله - ثلاثة روافد للأدب العربي العراقي هي: الأدب التركي والفارسي، والأدب المصري؛ وقال عن الأدب المصري:((ص 375). . . أما اتصال العراقيين بالأدب المصري فهو أقوى من اتصال المصرين بالأدب المصري وقال أيضاً: (ولن يمضي زمن قليل حتى يكون من الصعب أن نجد اختلافاً جوهرياً بين أساليب الشعراء والكتاب في مصر والعراق. . .). ويخيل إلي أن الدكتور نسى رافداً رابعاً وهو الأدب السوري الأمريكي، وإن أراد الدكتور أن أذكر له كتابنا الكثيرين الذين اقتفوا أثر (جبران خليل جبران) و (أمين الريحاني) و (ميخائيل نعيمة)؛ فأنا على قدم الاستعداد؛ وهم في السنين الأخيرة اتصلوا بالأدب المصري، اتصال محكماً - كما يقول الدكتور - ولكنهم لا يزالون متصلين اتصالهم القديم بأدب سورية في المهجر

محمود العبطة

تصويب

وقع تحريف مطبعي في بيتين من قصيدة الأستاذ محمد مصطفى الماحي في رثاء المغفور له محمد مسعود بك، وصحة الأول:

ما العلم مجد إذا لم يحمه خلق

ولا الإخاء على حقد بمضمون

وصحة الثاني:

لم ينج في مسبح الأفلاك معتصم

من البلاء ولا في مسبح النون

نداء الصخرة

هذا الاسم لمجموعة قصصية مصرية، أصدرها الأديب القصصي الأستاذ شعبان فهمي، وهو من نوابغ شبابنا القصصيين؛ وقد تجلت مقدرته القصصية في روايته الطويلة (وجيدة) التي أخرجها في مثل هذه الأيام من العام الماضي

وهذه المجموعة التي نحن بصدد عنها، تحوي ستة أقاصيص مصرية، ومسرحية واحدة

ص: 50

عنوانها (من السما)

وهذه الأقاصيص كتبت بأسلوب عربي جيد ممتع، غير أنك تقع في أثناء الكتاب على بعض الهنات اللغوية وهي قليلة جداً. وأرى أنها من المطبعة أكثر منها راجعة إلى قلم الكاتب. وتجد واحدة من قصصه كتبت بالعامية الدارجة، كذلك كتب مسرحية باللغة العامية

والكاتب شديد الولع بالشقراوات من النساء، فبطلات أقاصيصه كلهن شقراوات، وفي هذا تكرار للصورة الواحدة، في قصص مختلفة، في مجموعة واحدة. والحق أن هذه الصورة المتكررة بعثت في نفسي شيئاً من الضيق؟ كذلك نرى الكاتب يغرم بمشرب واحد من المشارب العامة في الإسكندرية كلها. فكلما أراد أن ينقل شخوص أقاصيصه إلى مشرب عام نقلهم إلى (كارلتون)، كأن الإسكندرية خلت إلا من (كارلتون)

والأستاذ كتب قصة الأميرة الراقصة في شكل يوميات، وقد وفق في ذلك. وهو يبث في قصصه فكرات اجتماعية عميقة ويحلل بعض نواحي مجتمعنا المصري في الطبقات الوسطى والمترفة، كما أن له قدرة في الحبكة القصصية، ولم أطراف الموضوع، والتسيطر على قلمه، وفي قصصه وحدة فنية، فالفكرة الأساسية واضحة بارزة

ومسرحية (من السما) لم أستطع أن أسكت على بعض حوادثها، فهي عندي مفتعلة، وليست صادرة عن منطق الحياة. فهو يظهر فيفي وهي التي بلغت السادسة عشرة من عمرها في مظهر ساذج. وأرى بعض الوقائع تبعد عن الواقع، ولا سيما إذا لاحظنا أنها تقع في مصر، بل وفي صميم الريف

ولا يسعني ألا أن أهنئ الأستاذ شعبان فهمي بهذا التوفيق

(القاهرة)

إبراهيم أحمد أدهم

ص: 51