المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 412 - بتاريخ: 26 - 05 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤١٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 412

- بتاريخ: 26 - 05 - 1941

ص: -1

‌مثل الغني الصالح

أنا لا آلف بني قارون بحكم مَرْباي ومَحْياي وطبعي. لا آلفهم لأن فيهم شموخاً على الناس لا يدري أحد ما سببهُ، لا هم آلهة فيرزقوا، ولا هم أناس فيحسنوا؛ إنما هم صِنف من خلق الله إلههم الذهب، ومعابدهم البنوك، ورسالتهم أن يظلموا أنفسهم بالشح، ويظلموا غيرهم بالأثرة.

حبسوا مُشاع الرزق في خزائن من الحديد ومخازن من الاسمنت؛ ثم جعلوا عليها أقفالاً من صنع الشيطان لا تنفتح إلا لتأخذ؛ واستغلوا ما ركب الله في طباع الناس من تقديس المال وتمجيد أهله؛ فجعل لهم نفوذاً في الحكم، ورأياً في التشريع، وسلطاناً على العامة. وكان من وراء جشعهم وشحهم وأثرتهم وسلطتهم ودالَّتهم أن اختلت موازين الخير، وتكدرت مجاري النعمة، واحتكرت منابت الرزق؛ ووجد الضعيف مجاله الحيوي ضيقاً فاضطرب فيه، وحظه المقسوم مغتصباً فسكت عنه؛ ومِن هنا نشأت مشكلة الفقر وما نجم عنها خلال القرون من نظم وأحكام وعظات ومقالات وثورات وحروب.

ما رأيت قارونياً إلا ملكني نوع من الشعور يحسه من يلقى سجَّان النعمة وحابس القوت وغاصب الحياة. وكان في مقدور كل غني أن يكون رسول سلام وملاك حب لو أنه فقه معنى الدين، وفهم حقيقة الإنسان. وإن اللذة التي يجدها الغني البَرُّ حين يرى صنائعه يرتعون في معروفه ويستظلون بجاهه، لأصدق وأعمق من اللذة التي يدركها الغني الفاجر حين يرى ضحاياه يغمسون خبزهم في الدماء والدموع والعرق.

على أن التعبير باللذة عن ذلك الشعور الآثم الذي يجده الغني اللئيم في بؤس الناس فيه تجوَّزٌ لجهلنا اللفظ الذي يطلق على هذا الوجدان في هذا الحيوان. وبحسبي أن أضرب لك مثلين: رجلين أحدهما فاجر والآخر بَرٌّ، لتدرك بنفسك الفرق بين أثر الغني في قلب دجا فيه الكفر، وبينه في قلب أشرق فيه الإيمان.

عرفت من لئام الأغنياء رجلاً وصفته منذ عامين لقراء الرسالة فلا أسميه؛ وكان مما أملاه لسانه على قلمي قوله:

أفرط عليَّ الغني حتى غطى على بصيرتي وبصري، فلم أعرف أن لي ديناً له حرمة، وزوجة لها حق، وأولاداً لهم رعاية. وعشت لنفسي، بل لمالي: أقضي النهار له وأسهر الليل عليه، حتى كرهتني أسرتي، وحقَرتني عشيرتي، وسئمتني حياتي. وأصبت بمرض

ص: 1

عُقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطيع المشي ولا النهوض. واستولى ولدي البكر على مفاتيح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع، فأنا أشتهي كل شئ، وأبتغي كل شئ، ثم أنظر في يدي الجمَّاعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة الموحشة فأرى أطياف اللذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهلَّ مدامعي انهلال القَطر على خدي الغائر الشاحب، وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة. حتى الدواء لا أناله، وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي، وأبقى على نصفي الشاعر، لأدرك بعيني وفكري وخيالي مض الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصَب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.

ذلك مثل، والمثل الآخر رجل يسرني أن أكشف قليلاً عن اسمه: هو الأستاذ (م. محمود جلال). عرفني هذا الرجل قبل أن أعرفه، وسعى إليَّ دون أن أسعى إليه؛ وتلك مخالفة لرسوم الكبرياء لم تقع من غيره. ثم حدثني وكتب إليَّ، وزرته ثم كشفت عنه، فعلمت أنه رَجلُ وحدِه في هذه الطبقة. لا يعتبر الغني غاية كما يعتبره الاشحة، وإنما يعتقده سبيلاً غايته السعادة. والسعادة في رأيه معنى منتشر لا يجتمع لنفسه إلا بسعادة أسرته وأمته وملته. فهو لا يحتكر ولا يدخر ولا يطمع. إنما ينفق غلة أرضيه الواسعة على عامه الحاضر فلا يبقى شيئاً منها إلى قابل. وعلى هذا المبدأ يتسنى لإيمانه الكامل أن يعمر نواحي المعروف بفعله. والإيمان الكامل هو الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بكل ما يدخل في مفهوم الحق والخير والجمال. يتجلى ذلك الإيمان في تدبيره لبيته، وتربيته لِبنيه، ومعاملته لفلاحيه، وإدارته لثروته، ونيابته عن أمته. فبيته المؤسس على الرضوان والتقوى متحف فن ومكان عبادة ودار ضيافة. وأولاده البنون والبنات قد أخذهم بأدب الإسلام، فهم يؤدون الصلوات، ويتنافسون في الخيرات، ويحفون من حول أبيهم

ص: 2

كالملائكة لا يتكلمون إلا في العلم أو في الدين أو في الأدب. وهو في مزارعه بين أجرائه، كالأب الشفيق بين أبنائه: لا يجهد الضعيف ولا يرهق الفقير ولا ينهك المدين. أقام لهم المساجد واستقدم إليها الوعاظ والحفاظ وأهل العلم؛ وأنشأ المدارس واستخدم فيها أولى الكفاية في التعليم والتربية؛ وأسس المستشفيات ودعا إليها الأطباء المختلفين بالتناوب، وصرف فيها الأدوية بالمجان؛ وهيأ لفلاحيه ومستأجريه وسائل الصحة والراحة، وقطع من بينهم أسباب الحقد والخصومة، حتى أغناهم عن الحكومة فلم يتقدموا إليها في دفع مظلمة أو أداء معونة.

وهو في البرلمان يمثل الدفاع عن الحق الكامل والرأي الثابت، لا يبتغي من ورائه الوصول إلى الحكم لأنه لا يوصِّل إليه، ولا الحصولَ على الجاه لأنه من قبل ذلك حاصل عليه.

وهو في كل مكان يبذل من يده ومن قلبه ما يكفكف الدمع ويخفف المصاب ويساعد على حدثان الدهر؛ فأخلصت النفوس في خدمته وأجمعت القلوب على حبه.

ذلك يا أخي الفقير مثل الغني الصالح الذي استطاع أن ينشئ عالماً مستقلاً يسود فيه السلام والحب، ويرضى عنه الله والوطن. فلو أن جميع الأغنياء اتبعوا سبيله لمنحتَهم حبك وإكبارك، وشاركت في الدفاع عنهم صديقنا الدكتور مبارك.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌رأي الإمام المراغي

في إصلاح الأزهر

إذا كنت رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا

في سنة 1928 وفي ولايته الأولى على الأزهر، قدم الأستاذ

الأكبر المراغي إلى أولي الأمر في الحكومة هذه (المذكرة)

الصريحة التي ضمنها زبدة رأيه في إصلاح الأزهر منهاجاً

وغاية. وهذه المذكرة - كما تراها - هي موقع الصواب في

هذا الباب؛ وما نضن أحداً ممن تحرى وجوه الصلاح لهذه

الجامعة الإسلامية العظمى قد بلغ من ذلك بعض ما بلغ الإمام

في هذه الكلمة. والأستاذ المراغي قد وضع هذه المذكرة لتكون

برنامجه في سياسة الأزهر، ثم أقرتها الحكومة وارتضتها

الأمة، فلم يبقى عليه إلا أن ينفذ ما وضع وطبق ما شرع.

ولكن أزهر (المراغي) لا يزال كأزهر (الظواهري) يغير في

الشكل ولا يغير في الموضوع، ويستعير هيكل (الجامعة)

الحديثة، ويحتفظ بروح (الجامع) القديم! فهل يستطيع كاتب من

الكتاب، أن يبين الحوائل ويشرح الأسباب؟

(الزيات)

المذكرة

ص: 4

أوجب الدين الإسلامي على أهله أن تختص طائفة منهم بحمله وتبليغه إلى الناس (فلولا نفرَ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).

وأوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الناس إلى السبيل الموصلة إليه (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).

وقواعد العلماء كلها متفقة على وجوب السعي إلى نشر الدين وإقناع العباد بصحته، وعلى وجوب حمايته من نزعات الإلحاد وشُبَه المضلين.

وفي الكتاب الكريم آيات كثيرة تحث النظر في الكون وعلى فهم ما فيه من جمال ودقة صنع. وقد لفت النظر إلى ما في العالم الشمسي من جمال باهر، وصنع محكم؛ ولفت النظر إلى ما في الحيوانات من غرائز تدفعها إلى الصنع الدقيق والأعمال التي لها غايات محدودة، وأشار إلى سِير الأولين، وحث على العلم وفاضل بين العلماء والجهال.

وأعمال السلف الصالح وسير العلماء لا تدع شبهة في أن الدين الإسلامي يطلب من أهله السعي إلى معرفة كل شيء في الحياة.

وقد تولى سلف علماء الأمة القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وأكمله فخلفوا تلك الثروة العظيمة من المؤلفات في جميع فروع العلم، ودرسوا أصول المذاهب في العالم، ودرسوا الديانات. ودرسوا الفلسفة على ما كان معروفاً في زمنهم، وكتبوا المقالات في الرد على جميع الفرق، وكانت للعقل عندهم حرمته وله حريته التامة في البحث، وكان الاجتهاد غاية يسعى إليها كل مشتغل بالعلم متفرغ إليه.

ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح للعلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة وجهلهم للناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديث، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء؛ فأعرض الناس عنهم ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين!

في الدين الإسلامي عبادات وعقائد وأخلاق، وفقه في نظام الأسرة، وفقه في المعاملات مثل

ص: 5

البيع والرهن، وفقه في الجنايات.

وقد عرض الدين الإسلامي لغيره من الأديان، وعرض لعقائد لم تكن لأهل الأديان، وأشار إلى بعض الأمور الكونية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة من: جماد ونبات وحيوان.

وقد هوجم الإسلام أكثر من غيره من الديانات السابقة: هوجم من أتباع الأديان السابقة، وهوجم من ناحية العلم، وهوجم من أهل القانون.

لهذا كانت مهمة العلماء شاقة جداً تتطلب معلومات كثيرة: تتطلب معرفة المذاهب قديمها وحديثها، ومعرفة ما في الأديان السابقة، ومعرفة ما يجد في الحياة من معارف وآراء، ومعرفة طرق البحث النظري وطرق الاقناع، وتتطلب فهم الإسلام نفسه من ينابيعه الأولى فهماً صحيحاً، وتتطلب معرفة اللغة وفقهها وآدابها، وتتطلب معرفة التاريخ العام، وتاريخ الأديان والمذاهب، وتاريخ التشريع وأطواره، وتتطلب العلم بقواعد الاجتماع.

والأمة المصرية أمة دينها الإسلام، فيجب عليها وهي تجاهر بذلك أن ترقى تعليمه، ليرقى حملته ويكونوا حفاظاً ومرشدين يدعون الناس إليه.

ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير، فإن العامة تتلقى أحكام الدين والأخلاق الدينية بسهولة لا تحتاج إلى أكثر من واعظ هاد حسن الأسلوب جذاب إلى الفضيلة بعمله وبحسن بصره في تصريف القول في مواضعه، ولذلك كان الدعاة إلى الفضيلة قديماً وحديثاً يلجئون إلى الأديان يتخذونها وسائل للإصلاح؛ بل إن كل دعاة المذاهب السياسية وحملة السيوف لم يجدوا بداً من الرجوع إلى الأديان وصبغ دعواتهم بها، كل ذلك لأن حياة المجتمعات لا تدين لنوع من أنواع الإصلاح إلا إذا صبغ بصبغة دينية يكون قوامها الإيمان.

والأمة المصرية، بل والأمم الشرقية جمعاء، تدهورت أخلاقها فضعفت لديها ملكات الصدق والوفاء بالوعد والشجاعة والصبر والإقدام والحزم وضبط النفس عن الشهوات، وضعفت الروابط بين الجماعات، فلم يعد الفرد يشعر بآلام الآخرين ومصائبهم، وقد أثرت الحياة الفردية في حياة الجماعة أثرها الضار فانحطت منزلة الأمم ورضيت من المكانة بأصغر المنازل.

وقد أرى أن الأمة المصرية وهي تريد النهوض والمجد وتتطلع إلى حياة سياسية راقية؛

ص: 6

يجب عليها أن تذكر دينها، وتلتفت إلى حملة ذلك الدين فتصلح شأنهم، وترقي تعليمهم، وتضعهم في المكانة اللائقة بالمرشدين، والتي يجب أن يكون عليها حملة الدين. أما إهمال هذه الناحية والسعي إلى ترقية النواحي الأخرى من حياة الأمة، فلا أرى أنه يوصل إلى الغرض المنشود، فالخلق هو العمود الفقري للأمم لا يمكنها أن تنهض بغيره، وأسهل طريق لتكوينه هو طريق الدين إذا أصلح تعليمه وهذب دعاته.

وقد كان الأزهر مصدر أشعة نور العلوم الدينية والعربية وغيرها إلى البلاد الإسلامية. وقد أصابه ما أصاب غيره في الشرق من خمول وضعة. فيجب على الأمة المصرية وهي تحمل راية الأمم الإسلامية أن تنقي هذا المصباح (الأزهر) من الأكدار، وأن توجد له جهازاً قوياً يستمد نوره منه على طريقة تتناسب مع ما جد في العالم من أطوار في العلم وفي التفكير وفي الحوار والتخاطب وفي طرق الاستدلال والبحث. والدولة تنفق على الأزهر قدراً عظيماً من المال لا تستطيع أن تمنعه عنه، ولا تستطيع أيضاً أن تلغي الأزهر وما يتبعه من معاهد لتوجد بدلها معاهد أخرى؛ فالحاجة إلى إصلاح الأزهر واضحة لا تحتمل نزاعاً ولا جدالاً.

وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم؛ وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه. وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر، أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة.

يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن يفهما على وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني، وعلى وفق قواعد العلم الصحيحة؛ وأن يبتعد في تفسيرها عن كل ما أظهر العلم بطلانه وعن كل ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية.

يجب أن تهذب العقائد والعبادات وتنقى مما جد فيها وابتدع، وتهذب العادات الإسلامية بحيث تتفق والعقل وقواعد الإسلام الصحيحة.

يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة. وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام

ص: 7

المنصوص عليها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف، وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء.

يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام بما هو موجود في الدين الإسلامي، ليظهر للناس يسره وقدسه وامتيازه عن غيره في مواطن الاختلاف. ويجب أن يدرس تاريخ الأديان وفرقها، وأسباب التفرق، وتاريخ الفرق الإسلامية على الخصوص وأسباب حدوثها.

يجب أن تدرس أصول المذاهب في العالم قديمها وحديثها وكل المسائل العلمية في النظام الشمسي، والمواليد الثلاثة، مما يتوقف عليه فهم القرآن في الآيات التي أشارت إلى ذلك.

يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة كما درسها الاسلاف، وأن يضاف إلى هذه الدراسة دراسة أخرى على النحو الحديث في بحث اللغات وآدابها.

يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية واللغوية على طريقة التأليف الحديثة، وأن تكون الدراسة جامعة بين الطرق القديمة (في عصر الإسلام الزاهرة) والطرق الحديثة المعروفة الآن عند علماء التربية. وعلى الجملة يجب أن يحافظ على جوهر الدين وكل ما هو قطعي فيه محافظة تامة، وأن تهذب الأساليب ويهذب كل ما حدث بالاجتهاد بحيث لا يبقى منه إلا ما هو صحيح من جهة الدليل وكل ما هو موافق لمصلحة العباد.

يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين، لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة ودينه عام، ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة، والأمكنة المختلفة، وإن لم يفعل هذا فإنه يكون عرضة للنفور منه والابتعاد عنه كما فعلت بعض الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها إذ تركت الفقه الإسلامي لأنها وجدته بحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم. ولو أن الأمة المصرية وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمن وتبدل العرف والعادة، وراعى الضرورات والحرج، لما تركته إلى غيره لأنه يرتكن إلى الدين الذي هو عزيز عليها.

ولست أنسى أن هذه الدراسة التي أسلفت بيانها دراسة شاقة تحتاج إلى مجهود عظيم،

ص: 8

وتحتاج إلى رجال قد لا نجدهم في طائفة العلماء، وتحتاج إلى مال يكافأ به العاملون؛ ولكن سمو المطلب يحملنا على تذليل كل عقبة تقف في طريقه، وتوجب علينا السخاء والبذل لأننا نريد إصلاح أعز شيء على نفوس الجماهير، ونريد بهذا الإصلاح تقويم هذه الأمة ونهوضها.

بعد أن ذكر الأستاذ الأكبر هذا البيان الشامل لما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، أتبعه بذكر الأسس الإجمالية للنظام الذي يبغي أن يكون عليه الأزهر والمعاهد الدينية؛ وهي أسس لا يكاد نظام الأزهر المعمول به الآن يخرج عنها. وقد جاء في أثناء ذلك فقرات هامة لابد من تسجيلها.

منها قوله:

(عندما فكرت الحكومة المصرية في إنشاء مدرسة دار العلوم لتخريج أساتذة اللغة العربية في المدارس الأميرية، كان العلماء في الأزهر لا يعنون إلا بدراسة القواعد وفلسفتها دراسة نظرية بعيدة عن التطبيق، وبدراسة الألفاظ وخدمة عبارات المؤلفين، ولا يعنون بالغاية من اللغة ولا بخدمة اللغة نفسها!

يشهد بذلك أن أسلوب الكتب المؤلفة في تلك الأيام بعيد كل البعد عن اللغة. ويشهد بذلك أن بعض كبار العلماء ممن شاهدناهم لم يكونوا يحسنون التعبير عن أغراضهم، ولا تزال منهم بقية إلى اليوم. وكان العلماء لا يدرسون شيئاً من العلوم العامة كالتاريخ والحساب والهندسة وتقويم البلدان. وكانوا يحافظون على ما هم عليه أشد المحافظة، ولا يرون الخير إلا فيما هم فيه؛ فلم تكن معلوماتهم العامة ولا طرائق تعليمهم مؤهلة لتوليهم تعليم النشء في المدارس الأميرية على النحو الحديث.

وعندما فكرت الحكومة في إنشاء مدرسة القضاء الشرعي كان الأزهر على النحو الذي وصفته؛ وكان فيهم علماء يحرمون تقويم البلدان والتاريخ والحساب، ويكتبون مقالات في الجرائد ضد هذه العلوم. وكان ولاة الأمور يشكون من أن القضاة لا يعرفون الأرقام، ولا يعرفون طرق التوثيق، ولا يعرفون من العلوم العامة ما يجب أن يعرفه شخص يتولى الحكم بين الناس.

وقد بدل الله هذه الأحوال، وأصبح قانون الأزهر مشتملاً على ضعفي العلوم التي كانت

ص: 9

تدرس من قبل، وأصبح يدرس فيه التاريخ الطبيعي، وتدرس فيه الطبيعة والكيمياء، ويدرس فيه الجبر والهندسة؛ وقبل الأزهر في قسم تخصص القضاء الشرعي دروساً في وظائف الأعضاء، ودروساً في التشريح قبل الأزهريون كل جديد، وأعدوا أنفسهم له، وزالت كل العقبات التي كانت من قبل، ولم يبق إلا إصلاح طرق التعليم وإيجاد المعلمين الأكفاء وتوزيع العلوم على الأقسام توزيعاً صحيحاً، وإذا كانت هناك بقية تعترض الجديد فلم يبق لها من الشأن ما تستطيع معه أن تكون عقبة في طريق الإصلاح.

في الدولة الآن مدارس متعددة بنوع واحد من التعليم: فيها دار العلوم لتعليم اللغة، وفيها الأزهر وكل المعاهد لعلوم اللغة، فيها مدرسة القضاء الشرعي للفقه ونظم القضاء، وفيها الأزهر للفقه ونظم القضاء، وفيها تجهيزية دار العلوم، وفي الأزهر أقسام تماثلها.

تنفق الدولة على هذه المدارس جميعها، ومن الممكن أن تقتصد في هذه النفقات، ومن الممكن أن تضم هذه النفقات بعضها إلى بعض وتوحد جهودها لتخرج أمثلة أحسن من هذه الأمثلة.

في الدولة أشكال مختلفة من العلماء تخرجوا في مدارس مختلفة، يحسد بعضهم بعضاً وينقم بعضهم على بعض، ولهذا أثره في إفساد الأخلاق.

لم لا يحملنا هذا كله على التفكير في توحيد الجهود وتوحيد النفقات؟)

ومنها في وصف الكتب القديمة قوله:

(هي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية، وإنما يفهمها من مارسها ومرن على فهمها، وعرف اصطلاح مؤلفيها. . . وأرجو الله أن يمكننا من الاستغناء عنها بأحسن منها. فنحن في حاجة إلى رسل بين القديم والحديث. وأولئك الرسل يجب أن نعلمهم القديم والحديث ليخرجوا للناس حديثاً جيداً؛ فلابد لنا من علماء فيهم من القوة ما يستطيعون به فهم تلك الكتب القديمة ومعرفة تلك الطرائق القديمة، وفيهم من القوة ما يستطيعون معه تصوير ذلك في أسلوب حديث، ولذلك فإنه يجب أن يراعى في النظام الجديد للأزهر عدم إهمال طرقه الأصلية في البحث وفهم الكتب).

ومنها قوله:

(وهناك أمر لا يصح الإغضاء عنه: ذلك أن مدارس دار العلوم والقضاء وتجهيزية دار

ص: 10

العلوم مؤثر في الأزهر والمعاهد من حيث الرغبة فيهما، لأن نتيجة الأزهر - إذا لم يخرج قضاة ومحامين وعلماء للغة العربية في مدارس الحكومة - تقتصر على إخراج علماء للمعاهد وخطباء للمساجد، وهي نتيجة غير مرغبة، ومن شأنها أن تجعل التعليم الديني في المعاهد مقصوراً على بعض الطبقات التي ليس لها في الحياة آمال سامية، وهذه الطبقات وحدها قد لا تؤمن على هذه الوديعة: وديعة الخلق الديني والثقافة الإسلامية. ومن الواجب ألا يغيب عنا ونحن نتقدم لتهذيب التعليم الديني وتقويم أخلاق الأمة، أن نشجع الطبقات الراقية على الدخول في هذه المعاهد لتقوم بما يطلب منها من العناية بالأخلاق.

(وأمر آخر، وهو أن سلب الامتيازات القديمة التي كانت للأزهر من تخريج القضاة والمحامين وعلماء اللغة العربية يؤثر أمام الرأي العام داخل الدولة المصرية وخارجها في الأقطار الأخرى في سمعة الأزهر والمعاهد، ومن واجب الدولة المصرية أن تحافظ على كرامة هذا المعهد القديم، وأن ترد إليه مجده).

ص: 11

‌لوجه الله ولوجه الحق

معضلة المعضلات في مصر والشرق

للدكتور زكي مبارك

قبل أن أشرع في التعقيب على مقال الأستاذ عباس محمود العقاد ألتفت إلى بعض القراء فأقول: لا يستطيع الكاتب أن يظفر بثقة القارئ إلا إذا زهد في تلك الثقة كل الزهد، وليس معنى هذا أن يستهين الكاتب بعواطف القارئ، ولكن معناه أن يتحرر من رغبة الظفر بثقة القارئ، ليستوحي العقل والقلب والوجدان، وقد خلص من شوائب التودد إلى بعض الآراء والأهواء، فعندئذ يطمئن القارئ إلى أنه يقرأ كلاماً سلم منبعه من أقذاء التصنع والرياء.

أكتب هذا وقد تلقيت في الأسابيع الأخيرة رسائل يدعوني بها كاتبوها إلى الخروج من الميدان الأدبي، بحجة أني أبلبل أفكارهم وأدخلهم في محرجات من الحقد والبغضاء، وهم يعجبون من أن يصبر عليَّ قراء (الرسالة) على كثرة ما آذيتهم في تلك الأعوام الطوال (؟!).

وأجيب بأني أعجب مما يعجبون، وأشتهي الخروج من الميدان الأدبي، لأخلو إلى نفسي لا إلى قلمي، ولأتذوق الراحة من متاعب التفكير في نفع القراء.

ولكن خاطراً واحداً يصدني عما أريد ويريد بعض الثائرين: وهو الخوف من أن يخلو الميدان الأدبي من كاتب يثير في صدور القراء ثائرة الغيظ والحقد من حين إلى حين. فتلك الثائرة من أكرم الحظوظ الوجدانية، ولا تخلو الصدور من معاني البغض إلا حين تخلو من معاني الحب، ومن البغض والحب يقوم هيكل الوجود.

فالأديب الذي يثور ويهتاج كلما قرأ لي مقالاً لا يرضيه، هذا الأديب سيعض بنان الندم إن استجبت لرجائه فطويت عنه عدوان قلمي. وكيف يعيش هذا الأديب وهو لا يجد الكاتب الذي يبلبل أفكاره ويدخله في محرجات من الحقد والبغضاء؟

أخوف ما أخاف على اللغة العربية أن يصير جميع كتابها من المرضيِّ عنهم في جميع الشؤون، فالكاتب الذي يرضى عنه القراء في جميع الأحوال قد يتعرض للتفاهة والابتذال، وقد يمسي وهو حاك لا يجيد غير مضغ الحديث المعاد، إلا أن يرتفع جميع القراء فلا يرضيهم غير الذهن المبتكر والعقل الوثاب.

ص: 12

وما الذي يوجب أن نجعل رضا القراء غاية من الغايات؟

وكيف نهون على أنفسنا فنقبل ذلك الضرب من الاستعباد؟

وبأي حق ندعو إلى الحرية إذا أصخنا لدعوات بعض القراء فحرمنا أقلامنا نعمة الحرية؟

وما الذي يغضبكم، يا قراء هذا الزمان، ونحن لا نصوب سنان القلم إلى عيوب المجتمع إلا بتلطف وترفق؟

ما الذي يغضبكم وقد (راعينا خواطركم) فلم نؤدِّ من رسالة القلم غير كلمات ملفوفة لا ينحدر بها باطل ولا ينتصر بها حق؟

ما الذي يغضبكم وقد أطعنا بعض القلوب الخوامد، فعققنا روح العصر أبشع العقوق؟

كانت العصور الخوالي تسمى عصور الظلمات، ومع ذلك استطاع الأسلاف أن يواجهوا الجماهير بأفكار وآراء نعجز عن روايتها في هذا الجيل، فأين عصركم من تلك العصور؟ وأين أنتم من أولئك الرجال؟

قضت ظروف الحرب بإعلان الأحكام العرفية، وقضت الأحكام العرفية بمراقبة ما يُنشر في الجرائد والمجلات، فما الذي وقع؟

لم تتعرض الرقابة لمقالات الكتاب بالمحو والإثبات إلا بلطف ورفق، أما الجمهور فيرى أنه على شيء رقيب، وهو يعطل حركة الفكر بلا تهيب ولا استبقاء، وهو يدعى ما لا يملك من السيطرة على القلوب والعقول، وهو يؤذي من يخدمونه صادقين، وهو يحاول إخماد الجذوة الأدبية لتصبح آثار الأقلام وهي رسوم وأطلال.

ما نظرت في الرسائل التي (يتحفني) بها بعض الناس إلا أشفقت على مصير اللغة العربية، فهذه اللغة لا تحيا إلا إذا صارت أداة لتسجيل الحقائق والأباطيل. لن تحيا لغة العرب إلا إذا وجد فيها القارئ كل ما تشتهي العقول والقلوب والاهواء، على نحو ما يجد القارئ في لغة الفرنسيس والإنجليز والألمان. لن تحيا إلا إذا أصبح أدبها وهو أشبه الأشياء بالحدائق التي تجمع الأطايب من شتى الافانين، وفيها مع ذلك أشواك وأدغال تؤوي الفواتك من الحشرات والثعابين.

وما نظرت في مصاير الكتاب الذين (أدبهم) قراؤهم إلا جزعتُ: فالدكتور فلان كان خليقاً بأن يقيم في مصر نهضة فلسفية؛ ثم (أدبه) قراؤه، فهو اليوم (رجل طيب) يرى الفلاسفة

ص: 13

زنادقة وملحدين والأستاذ فلان كان جديراً بأن يبعث في مصر وثبة اجتماعية؛ ثم (أدبه) قراؤه، فهو اليوم أكبر نصير لمأثور العادات والتقاليد؛ والشيخ فلان كان أهلاً لحمل راية السلف الصالح؛ ثم (أدبه) قراؤه، فهو اليوم رجل متحذلق يسره أن يتسم بوسم التجديد ليضاف إلى أبناء العصر الحديث!!!

فماذا يريد أن يصنع معي قرائي؟

هل يتوهمون أن في مقدورهم أن (يؤدبوني) فلا أقول بغير ما يسرهم أن أقول، ولا أكتب إلا بحدود ما يشتهون؟

هيهات، ثم هيهات!!

سأحرص على الصدق في جميع الأحوال، ولن يقرءوا لي حرفاً إلا وهو من صور ضميري؛ ولهم أن يجرِّبوا قدرتهم على الانصراف عن أدبي: فأنا أتحدث عن آرائهم وأهوائهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وأنا أقرب إليهم من أنفسهم، وأعرف منهم بسرائرهم، وأقدر على التعبير عما يجول في ضمائرهم من نفثات الخوف وخطرات الأمان.

لو كنا نعيش في زمان سليم من الآفات لعرف قومٌ أن لا موجب لشتمي في خطابات مغرَّمة قد تزيد عن الآحاد في بعض الأسابيع.

وما الذي يوجب أن أُشتَم ولم أقترف غير إجادة التعبير عما في زماني من مشكلات ومعضلات؟؟

إن هذا البغي يزيدني حرصاً على الثبات في ميدان الجهاد، وستأتي إجازة الصيف بعد أيام فأفرُغ لمكافحة ما أراه من طغيان الأوهام وانحراف الآراء.

ومعاذ الحق أن يكون قرائي جميعاً من الجاحدين، فتحت يديَّ مئات من الرسائل تشهد بأن الرجل المخلص لا يضيع بين قومه الاكرمين. ولو نشرت رسالة الأديب (م. أ. ش)، والأديب (م. ع. ف)، والأديبة التي تكتب من الأُرمان، لعرف بعض الناس أن في الدنيا قلوباً يستهويها الصدق، وبالصدق وصلنا إلى كرائم الطيبات، فلله الحمد وعليه الثناء!

أما بعد فما الذي جاء في مقال الأستاذ العقاد؟

كان مقال هذا الباحث المفكر مؤيداً لما قلت كل التأييد، فأنا قلت: (الفقر مرض ولكل مرض

ص: 14

أسباب، كما أن الغنى عافية ولكل عافية أسباب).

وهو قال: (عندنا نحن أن الفقر داء كسائر الأدواء، يصيب المريضَ به من إهماله كما يصيبه من ضعفه الموروث، ويصيبه من الحيطة إذا جرى مجرى الوباء الذي تنتشر عدواه، كما يصيبه مع ترك الحيطة في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال).

والطريف في هذه الكلمة هو النص على أن مرض الفقر قد يصيب أهل السعي في طلب الرزق إذا جرى الفقر مجرى الوباء، وليس هذا مما نحن فيه، ولكنه ينفع حين يجب العطف على من سُدَّت في وجوههم المسالك لأسباب يعجز عن دفعها أهل الأمانة والاجتهاد.

وأنا قلت: (إن الغنى يشهد لأهله بقوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، وإن الأغنياء عِماد المجتمع، وبفضل قدرتهم على تدبير المال يرجع الفضل في تجميل الوجود).

وهو قال: (لست أنا ممن ينكر فضل البراعة المالية، لأنها في الحقيقة براعة لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية، وتنظيم العلاقات، واستثارة الهمم، وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بغيرها عمران).

وأنا قلت: (إن التغرير بالفقراء ودعوتهم إلى انتظار أنصبتهم في أموال الأغنياء قتلٌ للمواهب الإنسانية، وإن الحزم يوجب أن تذكرهم في كل وقت بأن الغنى لا يوهَب وإنما هو ثمرة الكدح الموصول في طلب الرزق الحلال).

أما الأستاذ العقاد فيقول: (إن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان، فإن كثيراً من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل، وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة. فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته وغلب عليه حب الاستقرار، ومُنِيَ العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق).

ومعنى هذه العبارة أن بعض منافع الدنيا مدين في وجوده إلى ما يستشعر الناس من الخوف، وأن انعدام الخوف قد يكون أخطر على العالم من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق.

وكذلك قلت، فقد صرحت بأن استنامة الفقراء إلى ما قد يوزَّع عليهم من أموال الأغنياء

ص: 15

ستخلق فيهم ضروباً من الطمأنينة تصرفهم عن الكفاح في التسبب والارتزاق.

ثم مضى ذلك الكاتب البليغ فسرد من غرائب الحظوظ أشياء وأشياء.

وأقول بصراحة إني لن ألتفت إلى تلك الغرائب، لأنها فوق الطب والعلاج، فستمضي أجيال وأجيال قبل أن يصح ذوق المجتمع فلا يستوي عنده الطيب والخبيث، ولا يصبح المخلوق التافه وهو آثر عنده من الرجل الحصيف.

وما الموجب لانتظار تلك العافية الاجتماعية، وهي العدل المطلَق، والعقاد نفسه يرى أن ذلك العدل قد يقضي على الدوافع الحيوية فينعدم الاندفاع الصالح والاندفاع الذميم على السواء؟

لن ألتفت إلى ما يقع في المجتمع من غرائب الحظوظ، ولن أجيب من يسألني عن أقوام تلطف معهم الدهر المخبول، ولن أقول كلمة في الوارثين، بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لانعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعاً أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال.

لن ألتفت إلا إلى ظاهرة واحدة: هي شيوع الفقر في البيئة المصرية، مع كثرة وجوه الارتزاق.

الفقر في مصر كثير وفظيع، ودميم وشنيع، وملعون وقبيح، إلى آخر ما في اللغة من ذميم الأوصاف والنعوت. ومصر مع ذلك أخصب بقاع الأرض، وهي جديرة بأن تضفي على جميع أبنائها أثواب النعيم، لو عرفوا كيف يجاهدون الفقر جهاد الرجال.

قلت: إن أسباب الفقر كثيرة، ولكنها ترجع إلى ثلاثة أسباب أساسية، هي الكسل، وقلة الأمانة، والرضا بالدون من مطالب الوجود.

وهنا صرخ المتحذلقون فقالوا: إنك تجعل الفقر علة فردية مع أنه علة اجتماعية.

وقد أجبت بأن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع، فالمجتمع أفراد أضيف بعضهم إلى بعض، وبذلك يشهد من زوده الله بزاد العقل.

ص: 16

ثم صرخ جماعة آخرون فقالوا: أنت أديب، فما شأنك بالمعضلات الاجتماعية؟!

فمتى يفهم الغافلون أن الأدب صورة الحياة، وأن الأديب رجلٌ يعيش كما يعيش كما يعيش سائر الرجال، وأنه قد يحس بلايا الحياة بأقوى مما يحسها زعماء الاقتصاد؟

ألأني أديب يُحرَّم عليَّ أن أتعرض للمكاره التي يعانيها وطني في الميادين الاجتماعية والمعاشية؟

يقول فلان إنه قرأ ما لم أقرأ من الكتب التي تبحث في أسباب الفقر والغنى.

وأقول إني رأيت ما لم ير فلان من أخلاق الناس في ميدان المعاش، لأني رجل ممتحَن بطلب الرزق، وطلاب الرزق (يرون) أكثر مما (يقرأ) فلان وفلان.

أليس من العجب أن يتحدث جماعةٌ عن العمال والصناع والفلاحين في مصر بعد قراءة كتاب عن العمال والصناع والفلاحين في بلاد الإنجليز أو بلاد الألمان؟

أكثر هؤلاء المتحذلقين لا يعرفون شيئاً عن بلادهم، وأكثر المتوجعين لشقاء الفلاح المصري لا يرونه إلا بعيون من قرءوا لهم من الكتاب الأجانب.

ولست بحمد الله من أولئك ولا هؤلاء، فأنا لا أستوحي كتاباً قرأته، وإن كنت أحرص الناس على القراءة والاطلاع، وإنما أستوحي ما تراه عيناي، ولي مصالح معاشية تسوقني سوقاً إلى درس أحوال العمال والصناع والفلاحين: فلي معهم في كل يوم شأن وشؤون، وبفضل ما ساقتني إليه المقادير من الاهتمام بالحياة المعاشية، سأصل إلى قرارة الضمير المصري، وسأعرف ما هو عليه من تحليق وإسفاف.

كنت دعوت الأستاذين الكبيرين الزيات والعقاد إلى إبداء رأيهما فيما قلت به من أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع.

وقد أجاب الأستاذ العقاد بما رأى القراء، فما هو رأي الأستاذ الزيات؟

كتب هامشاً قال فيه: (إن رأي (الرسالة) في الفقر ولفقراء معروف).

وهو كذلك، ولكن ما رأيكم إذا سجلت على الأستاذ الزيات أنه صرح في إحدى افتتاحياته بأن (الرسالة) قضت عاماً كاملاً في استنهاض الأغنياء إلى البر بالفقراء، فلم يسمع سامع ولم يستجب مجيب؟

ألم أقل لكم: إن الاعتماد على الأغنياء يضر أكثر مما ينفع؟

ص: 17

الأغنياء يخافون من معاملة الفقراء لأسباب لا يجوز النص عليها بغير التلميح، فمتى نرجع لمحاسبة أنفسنا بصدق وإخلاص؟

أنا أرجع إلى نفسي من وقت إلى وقت، لأرى كيف تقدَّم زملائي وتخلَّفت، فأرى أني المسؤول الأول والأخير، لأن في شمائلي جفوة تجعل التهور من صور الشجاعة الأدبية، مع أن بين الشراسة والشجاعة أبعاداً يعجز عن طيِّها البرق اللماح.

وأنا أنصح قرائي بما لا أنصح به نفسي، لأني أومن بأن للكاتب شخصيتين مختلفتين بعض الاختلاف: شخصية من يمثل عقله، وشخصية من يمثل هواه؛ فأنا أخاطب قرائي بعقلي، وأخاطب نفسي بهواي، إلى أن يلطف الله فلا أصدُر في جميع أحكامي إلا عن وحي العقل.

ثم أما بعد فأنا أدعو إلى بناء المجتمع المصري من جديد.

أدعو إلى خلق الجاذبية بين الأغنياء والفقراء، ليشعر الغني بأن الفقير هو الذي حمل على كاهله أحجار القصور الشوامخ، وهو الذي عانى عرق الجبين في استنبات البقول، وليشعر الفقير بأن الغني هو الذي دبر المال لتصير مصر إلى ما صارت إليه من وفرة المصانع والمتاجر والمزارع والخيرات.

أدعو الغني إلى التألم لألم الفقير والتوجع لبلواه؛ وأدعو الفقير إلى الدعاء للغني في أعقاب الصلوات.

أدعو أولئك وهؤلاء إلى التعاون الصادق بأمانة وعطف، ونزاهة وصدق.

وأكره أن يتدخل الكتاب المراءون في إفساد ما بين الأغنياء والفقراء.

أكره أن يحاول كاتب منافق أن يتسم بوسم المصلح الاجتماعي وهو مأجور للشيطان الرجيم، وإن خدع نفسه فتخيل ثم خال أنه رسول الاشتراكية في هذه البلاد.

لقد شبعت مصر من الكتاب المرائين في الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فمتى تعلن مصر شوقها المتوقد إلى كتاب لا ينافقون ولا يخادعون؟

إن صراحتي في الكلام عن الفقراء والأغنياء صنعت ما صنعت في تبصيري بدقائق من أحوال الناس وخلائق لمجتمع، وأشنعُ ما دلتني عليه هو أن في مصر كتاباً كسالى، وهم الذين يرون ما أرى، ثم يصدهم الكسل عن الاصطلاء بما اكتوت به يداي، وفيهم الباحث

ص: 18

الذي تحدث عن انقراض (الأجاج) فما الأجاج؟

أمِثْلي يُدْعى إلى الخروج من الميدان الأدبي ليتمتع الغافلون بنعمة الصفاء؟

لا، والله، فسأتعقب الغافلين في جميع الميادين، ولن أسكت عن كلمة الحق ولو آذيت بها أعز أصدقائي.

ارجعوا إلى أنفسكم، يا بني آدم من أهل هذه البلاد، ولا تحوجوني إلى ضرب الأمثال، فما أحب أن تشقوا بالحقائق المجردة من إفك التزيين والتهويل.

بداية البلاء هي الرضا عن النفس، والنفس أمارةٌ بالسوء، فكيف ترضون عن أنفسكم، مع دعوى التسامي إلى معرفة أسرار الوجود؟ من قرارة القلب أمتاح هذه المعاني، لأقتل فتنةً لا تزال في المهد، فمن اتهمني بسوء النية فإلى الله إيابه، وعلى الله حسابه، ومن الله وحده أنتظر حسن الجزاء.

زكي مبارك

ص: 19

‌الحياة الزوجية في نظر الإسلام

للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي

ينظر الإسلام إلى الحياة الزوجية نظر اهتمام ورعاية، ويعتبرها بحق الوضع الأساسي لتكوين أسر طيبة تتألف منها أمة قوية تمثل روح الإسلام في أخلاقها وسمو آدابها، وفي عظمتها وسلطانها. ويعلمنا الإسلام أن الحياة الزوجية ليست فكاهة من متع الحياة فحسب، حتى يتعفف عنها بعض الناس، وليست مغنماً تجارياً، حتى يتخذها الرجل شبكة يصيد بها أموال النساء، أو تتخذها المرأة شركاً تصيد به أموال الرجال، وإنما هي وسيلة ضرورية يكمل الرجل بها نفسه، وتكمل المرأة بها نفسها؛ فكلاهما شطر ناقص لا يتم وجوده إلا بصاحبه، ولا تعمر الدنيا إلا بهما معاً. ومن أجل ذلك وضع لها الإسلام أسباباً قوية تقوم عليها، وحاطها بالكثير من تحفظاته، حتى تكون محببة إلى الزوجين، وليسد عنهما مداخل الشيطان بينهما.

فهو يدعو - أولاً - إلى الحياة الزوجية في تأكيد من النصح. . . وبعد أن تتركز الفكرة عند من يستجيب لدعوته يرسم لنا - ثانياً - طريق الخطبة، واختيار الزوجة والزوج، ليباعد بيننا وبين التورط في الوقوع وراء رغبة عارضة، أو طوعاً بمظهر خاطف. فإذا قامت الحياة الزوجية في وضعها الصحيح بين الناس - ثالثاً - أن لكل من الزوجين آداباً يجب أن يرعاها نحو صاحبه؛ ليتصل القلب بالقلب، وتركن النفس إلى النفس، فلا تتبدل الحال بينهما من خير إلى شر، ومن يسر إلى عسر، (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن الله بكل شيء عليم).

1 -

الدعوة إلى الحياة الزوجية

يقول الله تعالى في شأن الزوجات والأزواج: (هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن) فإذا كانت الزوجة في نظر القرآن كاللبس للرجل، وكان الرجل كالملبس للمرأة، فحاجة كل منهما إلى صاحبه كحاجته إلى الملبس، فإن يكن الملبس لستر معايب الجسم، ولحفظه من عاديات الأذى، وللتجمل والزينة، فكل من الزوجين لصاحبه كذلك. يحفظ عليه شرفه، ويصون عرضه من التهم، ويوفر له راحته وصحته. ومن يستغني عن هذا؟ إنما يستغني عنه من لا يبالي بشرف، ولا يعنيه أن يكون هدفاً للأنظار الساخرة، ولأقاويل السوء تنال من سيرته،

ص: 20

ولا يتألم شعوره لتعطيل النمو في أسرته وفي أمته.

ويقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة. . .) فهذه الآية تنبه الرجل والمرأة إلى أن من أعظم دلائل قدرته وآيات كرمه أن خلق للرجل زوجة من لحمه ودمه ليكون الإلف أتم، والجاذبية أقوى، ولتكون الزوجة مأوى له، يسكن إليها وقت فراغه، فيأتنس بحنوها، ويتفيأ بظل عطفها، ويستمد من جانبها هناءة العيش وروح التشجيع في حياته، فتهون عليه متاعب الاعمال، ويستهين بالكفاح في الدنيا، ويستقبل شأنه كل يوم بعزم قوي وأمل جديد؛ وهكذا دواليك؛ ليظل البناء في صعود، وعمارة الكون في ازدياد؛ وهذه سنة الله تعالى، فقد أقام دنيانا على البناء والتعمير ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

كذلك من دلائل كرمه التي حدثتنا بها الآية أنه جعل بين الزوجين مودة حب، ورحمة عطف، ثابتتين لا تبليان كما تبلى مودة غير الزوجين ممن جمعت بينهما الصدف، أو ألفت بينهما الشهوات.

فمن انقطع عن التزوج فقد فاتته سلوة الحياة وأسلم نفسه للوحشة البغيضة؛ وقد يصادفه يوم قريب أو بعيد يتمنى فيه لو تدارك ما فاته.

ويقول تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وفي اعتبار البنين زينة الدنيا ترغيب قوي في الزواج. فإن النفس مطبوعة على حب الدنيا وزينتها بأكمل ما يستطيع المرء تحصيله.

ويقول عز شأنه: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم). فهو يأمرنا بتزويج الأيامى: وهم أهل العزوبة ولو كانوا من العبيد المملوكين، ويطمئننا من جهة الرزق فيقول:(إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله، والله واسع عليم).

ويحدثنا المولى سبحانه عن الأنبياء وعن المؤمنين الصادقين بأنهم كانوا يتمنون الذرية الطيبة، والزوجة الموفقة الممتعة، فإبراهيم عليه السلام كان يقول:(رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعائي)؛ وزكريا عليه السلام كان يقول: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء).

فأنت ترى مقدار حرص النبيين على الذرية الطيبة، وليس للذرية سبيل غير الحياة الزوجية؛ وهذا ما كان يدعو به المؤمنون فيقولون: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة

ص: 21

أعين، واجعلنا للمتقين إماماً). . فالأمل الذي تردد على ألسنة النبيين والمؤمنين في الزوجة والذرية، مظهر صادق لسلامة الطبع وصدق الايمان، حتى ليرويه عنهم القرآن ويمتدحهم به، ويشهد لهم بحسن المقصد وصواب التقدير لما في الحياة الزوجية من خير لهم وللناس. وهاهم المؤمنون يختتمون دعاءهم بإجمال الطلب في قولهم:(واجعلنا للمتقين إماماً)؛ وهذا هو القرآن يشيد بتلك الأماني، ويعدهم بالاستجابة:(أولئك يجزون الغرفة بما صبروا - الجنة - ويلقون فيها تحية وسلاماً. . .).

وفي هذا النبأ عن الأنبياء والمؤمنين توجيه للناس أن يأخذوا بأسباب التقليد لأولئك الصفوة، ومتابعة السير على هداهم: قضاء لحق الدين، وتلبية للطبيعة، ورعاية لحاجة الأمة في الإكثار من سوادها وتقوية جماعتها. . . وهذا هو ما أجمله النبي (ص) في قوله:(تناكحوا، تناسلوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).

فهذه دعوة ملحة جهر بها النبي (ص) في صراحة أكيدة ويرددها في وجه الشباب بنوع خاص، إذ هم مطمح الأمل، وهم القوة التي يشتد بها ساعد الأمة، وعلى أيديهم نهضتها ممثلة في كل أعمالهم، فيقول النبي (ص):(يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج. . .)، يعني من تيسرت له وسائل الحياة الزوجية، فعليه أن يفعل.

وإن النبي ليرثى لمن تخلف عن الحياة الزوجية، وينبه إلى أن شيئاً آخر لا يعدلها، وإن تهيأ لبعض الأذهان القاصرة، أو لبعض النفوس التي ألهتها مطامعها وشهواتها في غير هذه الناحية عن هذه الناحية.

فيقول (ص) في ذلك: (مسكين، مسكين رجل ليست له امرأة. قالوا: وإن كان كثير المال؟ قال: وإن كان كثير المال. مسكينة، مسكينة امرأة لا زوج لها. قالوا: وإن كانت كثيرة المال؟ قال: وإن كانت كثيرة المال). . . فأنت ترى من حِكم النبوة، بل من وحي الرسالة، أن متاع المال وأن كثر لا يعدل متاع الزوجة للرجل، ولا متاع الزوج للمرأة.

وإن يكن في الدنيا ضروب من المتاع وألوان أخرى للحياة فلعل الحياة الزوجية أول هذه الضروب وأصدق هذه الألوان. ولسنا نعني مطلق الزوجة ومجرد اقتناء الحليلة، بل الزوجة التي تكفل للزوج هناءة ووفاقاً، على ما يأتي - بعد - من أوصافها. وذلك ما أُوحى به إلى النبي (ص) وجرى على لسانه في إيجاز عذب وكلمات أخاذة هي قوله: (الدنيا

ص: 22

متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).

لا نجد من القول للترغيب في الدنيا وامتداح ما فيها خيراً من هذا ولا قريباً من هذا. وإنه لإحباط وتزييف لما يحاوله نفر من الناس في الترغيب عن متع الحياة وصرف النفوس عما خلق الله من الطيبات. فلم تكن الدنيا وما اشتملته من مظاهر القدرة وأنواع الخير إلا متاعاً للإنسان: يناله، ويشكر، ويمن به المولى - بعد - على عباده، ويثيب من شكر. ثم يترقى كلام النبي (ص) في المدح لمتاع الدنيا فيقول:(وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة). أفرأيت ما يجذب الرجل نحو الزوجة خيراً من هذا وأبلغ؟ أو رأيت أن الزوجة تعتبر خير متاع في الدنيا ثم ينظر إليها فريق منا نظرتهم إلى شيء مشؤوم، ويفرون منها فرارهم من أمر بغيض؟؟ هذه غاية الغايات في امتداح الحياة الزوجية. أفلا يكون التغاضي عنها إلا من مكابر استعذب المر واستمرأ الخبيث؟؟ إنه لكذلك.

ولقد اعتزم ثلاثة من أصحاب النبي (ص) أن يجتهدوا في العبادة، فاختار أحدهم أن يصوم دائماً، واختار الثاني أن يصلي ليله دائماً، ورغب الثالث أن يترك الزواج دائماً، فجاء إليهم النبي (ص) وقال لهم:(أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكن أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنت فليس مني) فهو يأبى على أصحابه أن يهجروا الدنيا للدين، وأن ينقطعوا عن النساء ليتصلوا بالعبادة، ويعلمهم أنه لا رهبانية في الإسلام، وأن ما يحسبونه متاعاً محضاً إن هو إلا دين محض، وهو على ما فيه من ترضية النفس أكرم وسيلة لترضية الله، وخير سنة نأخذ بها عن رسول الله، فمن زهد في متابعته فليس من دينه في شيء، ولا من الصلة بالنبي على طرف.

وإذاً كان الانقطاع للعبادة أمراً مستهجناً، والتعفف عن الزواج لذلك نبواً عن الدين، وجهلاً بمزاياه. فما بالك بمن يعتاض عن الزيجة الحلال بمن لا يحل؟ وما ظنك بمن يعاف الطيب الشهب ويتكالب على القذر الكريه؟ رب:(إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء. . .).

ورضي الله عن عمر فقد قال يوماً لرجل أعزب يراه قادراً على الزواج: لا يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور.

وكذلك قال بعض الأئمة من سلف المسلمين: ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن

ص: 23

دعاك إلى ترك التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام. ولقد صدق الله ورسوله، وصدق الأئمة السابقون.

وبعد، فهذه طائفة من القول في دعوة الإسلام إلى التزوج ومفهوم طبعاً أن العاجز - لعذر قاهر - مطلوب إليه أن يتعفف عن الحرام حتى تتهيأ له الفرصة (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله).

فماذا لقيت دعوة الله ورسوله عند أهل الجيل الذي نعيش فيه؟ لقيت رواجاً غير منظم في الطبقات الصغيرة، ولقيت إعراضاً غير منظم في الطبقات المستنيرة، حتى أصبحت الفوضى في محيط الجماعة الأولى، وبين الجماعة الأخيرة مثلاً سيئاً تتهم به الحياة الإسلامية، وأصبحتَ ترى الفتيات الصالحات للزواج يَتطلعنَ إلى الزوج فلا يجدنه، وتلتمس الفتيات المهذبات أملهن في الرجل فلا يصادفنه.

ووراء ذلك ما وراءه مما يحزن كثيراً ولا يسر قليلاً. ووراءه ما وراءه من كساد يطفئ لمعة الشباب في وجوه الحسان، ومما يساور الآباء والأمهات على بناتهم من هموم وأحزان.

فكم من آهات حزينة، وتنهدات موجعات تلتهب بها قلوب الآباء والأمهات!

فمتى يكون في مصر قانون يردع، ما دامت القلوب لا تخشع، والآذان لا تسمع؟

(لها بقية)

عبد اللطيف محمد السبكي

المدرس في كلية الشريعة

ص: 24

‌في (عين شمس)

للأستاذ شكري فيصل

- 1 -

لم أعرف (عين شمس) قبل هذا اليوم؛ ولم يقدر لي أن تصافح عيناي هذه الجنبات الفساح، وتلك الأرض المنطلقة. وما أدري أين كان مني هذا الهدوء السمح، وهذه الطبيعة الضاحكة، وذاك الجمال المنثور هنا وهناك. . . لقد قنعت بنفسي فانطويت عليها، وزهدت في الناس فانصرفت عنهم، وقضيت في القاهرة سنوات فإذا أنا أعيش في هياكل الوحدة، ومعابد العزلة، وكهوف لانقطاع البعيد. . . وإذا أنا أحيا بهذه الأجواء التي أنشرها، وهذه الدُّنى التي أنثرها، وتلك الرؤى التي أهيم بها. . . وإذا أنا أنتزع قبس الحياة من أعماقي، وأمد زيته من دمي، وأعيش في عالمي الرحب، أطوف فيه، وأسكن إلى ظلاله الوارفات.

- 2 -

وفي القطار إلى (عين شمس) كانت تمر بي كل هذه الضواحي الفينانة، القائمة على برزخ الحياة، المستلقية على قدمي الصحراء، السابحة في بحر النور. . . فأعجب كيف غبت عنها كل هذا الأمد الطويل، وهذا المدى المتباعد. ولكني أثيب إلى نفسي فأذكر أن لي قلباً وقفته على ملاعب الصبا، ومسارح الطفولة، وجنات الغوطة؛ وأن في أعماقي خلجات استأثر بها الحنين، واستبد بها الشوق؛ وأن في أضلعي روحاً تخفق للأسرة الناعمة والبيت النديِّ والوطن البعيد.

لشد ما ملكت عليَّ نفسي هذه الضاحية الضاحكة. . . لقد أحسست فيها الحياة، وشعرت معها بالانطلاق، وامتدت بي آفاق النظر هنا وهناك، لا تحدها عوائق، ولا تقف من دونها حواجز، ولا يمنع عنها النور جدران قائمة وأبنية متراصة.

- 3 -

إن الصحراء النائمة على ذراع الأفق، الممتدة على صفحة الدنيا لتبعث ألواناً من الأحاسيس، وتثير أنغاماً من العواطف، وتبث المعاني الرائعة من السلام والهدوء. . . لا يملك معها الإنسان إلا أن يستجيب لها، ويتحد معها، ويفنى فيها.

ص: 25

لقد وقفت في ساعات الضحى أتأمل هذا الفضاء الواسع فاجتمع عليَّ الألق والشعاع والنسيم. . . كانت الأضواء الراقصة تداعب جفنيَّ، وتريدهما على الإغماضة الخفيفة في ظلال الرؤى والمباهج. . . وكانت النسمات الرخية تعبث بشعوري فتمر عليها باليد الناعمة واللمسة الخفيفة. . . وكان الألق الفضي ينسكب فوق كل شيء، فإذا الدنيا تموج في بريقه المتقد، وتتلألأ في سناه الوضاء.

- 4 -

لم يعد يشوقني إلا أن أنظر إلى بعيد. أشهد الصحراء العارية على شاطئ الأفق. لقد تجردت من كل شيء: من البناء المرتفع والعشب النامي، والشجر المخضل. . . وأوغلت في البعد. . . وذهبت تغتسل في خضم واسع من الزرقة الخفيفة. . . لقد غابت فيه فلم يعد يظهر منها إلا هذه الذيول التي ألقت بها على الشاطئ تتلقى الشعاعات المترهجة، وتكتسي السراب الخادع. . . ثم ظهرت من جديد. . . فإذا الشمس تفيض عليها حلة من نورها الخاطف وألقها الوضاء. . . وإذا هي تبدو صافية نقية ناعمة، طهرتها السماء، وكساها النور، وفاض منها الجلال.

يا لروعة الصحراء!. . . إن رمالها المتراصة لتغني على مسمع الزمن أنشودة رائعة من أناشيد القوة والمجد، وإنها لتوقع لحناً بارعاً من ألحان الكرامة والنبل، وإنها لتكتب صفحات بارزات (في كتاب) الصفاء والطهر. . . فمتى نخلص إلى هذه الصحراء لننجو من غدر المدنية؛ وأثقال الحضارة، وأوضار المجتمع. . .؟ ومتى نعيش على هذه الرمال نستمع إلى حدائها، ونصغي إلى غنائها، وننعم بصفائها الطهور؟؟

- 5 -

أخذت أطوف مع الظهيرة في أطراف الضاحية. . . لا أخشى لفحات الشمس، لأن النسائم اللطاف كانت تذهب بشدتها وتحيلها ضوءاً ناعماً، ولوناً زاهياً، ونوراً حلواً. . . ومضيت في جنباتها المتباعدة؛ ووقفت أمام هذه الدارات المنثورة على أكناف الطرق أشهد بساطتها المحببة. . . كان أروع ما فيها هذه الحدائق القائمة على كتف الصحراء، وهذا الياسمين المنتثر على الرمال الصفراء، وتلك الأزاهير الفواحة في الأرض الجدباء. . . لقد ضمت

ص: 26

عالمين متباعدين فألفت بينهما، فإذا الخضرة الزاهية تتموج على حفافي الصحراء الصامتة؛ وإذا الزهر الندِي يقبل الرمل الحالم، وإذا دنيا الحضارة والترف تتآخى مع دنيا الجلال والخشونة، في عالم رائع أخاذ.

- 6 -

كان كل شيء في (عين شمس) يسلمني إلى سلسلة بعيدة من مفاتن الجمال. . . لقد أحسست النشوة في كل نظرة، ووجدت الهدوء في كل مشهد، وأحببت الصحراء فوق ما كنت أحبها، وفنيت في أجوائها المتسعة، وفي فضائها الرهيب. . . ولم ألق الخشوع بمثل ما لقيته في فناء مسجدها الجامع. . . لقد صليت على الرمل الممتد. . . فإذا أنا أحلق في عوالم مُثلى وسموات عليا، وإذا أنا أنسى كل شيء وأغيب عن كل شيء، وأن هدفي كل ما حولي، وإذا أنا أنشد الحقيقة الحقة، والخير المحض، والجمال المطلق. . . وأتلمس إلى ذلك الهداية والنور، وأحس اليقين والاطمئنان؛ وأجد من اللذاذات ما لم أجده من قبل في مكان.

- 7 -

حين جلست في المساء أنتظر أن ينشق هذا الهدوء الضافي عن القطار الصاخب، كان كل ما حولي يرتل نغمة السكون على هدهدة الليل الهابط. . . لقد انتشرت على صفحة السماء قطع متناثرة من الغيم الوردي الزاهي، واستعارت الدنيا لحظات هذا اللون الجميل، فصبغت به كل ما حولها. . . ثم لم يلبث أن اضطرب واهتز كما يهتز الطير الذبيح. . . لقد طمس عليه الليل، فغابت آخر شعاعاته من الأفق حين كان عامل المحطة يبعث أول ألسنة النار الحمراء في كومة من الخشب المشتعل.

. . . لشد ما تمنيت أن أكون في (عين شمس) هذا العاملَ السعيد. . .!

(القاهرة)

شكري فيصل

ص: 27

‌من تسابيح القلق

نشيد المغرب الباكي. . .

(إلى فاتنتي بسحرها الشقي)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

إذَا مَا الَّليلُ نَادَاكِ

وَغنَّى حَوْلَ دُنْيَاكِ

نَشِيدَ الْمَغرِبِ الْبَاكِي

فَهُبِّي وَانْشُرِي فَجْرَا

عَلَى أَحْلامِهِ الْحَيرَى

لَعَلَّ جِرَاحها تَبْرَا. . .

وَكُوني في الدُّجى شِعْرَا

يَهُز الْغَيْبَ إِنْشَادَا

وَيُسْعِدُ عُمْرِيَ الشَّاكي

أَنَا اللَّيْلُ الّذِي نَادَى

وَمَا عَنَّيْتُ إِلاَّكِ!!

وَإنْ طَاَرتْ لَكِ الرِّيحُ

يُرَتِّلُ فَوْقَهَا رُوحُ

غَرِيبُ اللَّحْنِ مَجْرُوحُ

رَآكِ فَقَالَ: لَبَّيكِ

هَبِيِنيَ سِحْرَ عَيْنَيْكِ

لأُلْقِيَ بَيْنَ كفَّيكِ

صَلاةَ الْعِطْرِ لِلأَيكِ. . .

فَزُفِّي الْحُبَّ أَنْوَارَا

وَأنْغاماً لِمُضْنَاكِ

أنَا الرَّوحُ الذّي طَارَا

لِيُبْعَثَ حِين يَلْقاكِ

أنَا اللَّيْلُ، أَنَا الرِّيحُ!

أنَا اللَّحْنُ، أنا الرُّوحُ!

فَهَاتي خَمرَ نَجْوَاكِ

محمود حسن إسماعيل

ص: 28

‌رد على مقال:

الرحلات العربية

للأستاذ محمد محمود رضوان

قرأت المقال الممتع الذي كتبه الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن بالعدد 410 من الرسالة وأتى فيه على تاريخ الرحلات العربية. ولعل الأستاذ يفسح لنا صدره فنأخذ عليه بعض مآخذ لا تغض من مقاله القيم.

حاول الأستاذ أن يستقصي في مقاله جميع أنواع الرحلات التي نعرفها للعرب فوُفق حيث ذكر الرحلات الاضطرارية كرحلة القحطانيين، والتجارية كرحلة الشتاء والصيف لقريش، والدينية كهجرة المسلمين إلى الحبشة والى المدينة، والسياسية كرحلات المسلمين إلى المدن المفتوحة، ورحلات الاستجداء كرحلة جرير وأبي نواس، وأخيراً (الرحلات لذاتها ولم تبدأ إلا في القرن الرابع الهجري) كرحلة المسعودي والبيروني والقدسي وابن جبير والمغربي وياقوت الخ.

وعجبي للأستاذ محمد عبد الغني أن ينسى ضرباً من الرحلات هو في نظري أهم ضروبها، وأجدرها بالدراسة لأنه أجملها أثراً وأجلها خطراً في العلم والأدب، وأعني به (الرحلة في طلب العلم).

وأعجب من هذا أن ينسى الأستاذ الكاتب نفسه وهو قد رحل في طلب العلم. وليته قرأ ابن خلدون يقول: (إن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم).

ولقد عرف العرب لرحلات العلم قيمتها فكانوا ينتقلون في مشارق الأرض ومغاربها للقاء الشيوخ، ويرحلون إلى البادية لتَضْرَى مقاولهم بالفصاحة، ويتحملون في سبيل العلم من بعد الشقة وقلة الزاد ووحشة الطريق ورهق السفر ما الله به عليم.

ذكر ابن خلكان أن الخطيب أبا زكريا التبريزي شارح ديوان الحماسة، والقصائد العشر (421 - 502) وقعتْ له نسخةٌ من كتاب التهذيب للأزهري في عدة مجلدات يُعوزُ بعض مسائلها شيء من التحرير، فسأل عمن يقوم بذلك فدلوه على أبي العلاء. . . فماذا يصنع الرجل والشقة بعيدة وهو فقير لا يملك أجرة دابة تحمله؟ لقد وضع الكتاب في حقيبةٍ وحملها على ظهره وسافر من تبريز إلى المعرة مشياً على قدميه حتى بلغها وقد قطع نحو

ص: 30

سبعمائة ميل ثم أخرج الكتاب فوجد العرق قد نفذ إليه فأفسد منه ما أفسد.

والأندلس العربية، لقد كانت كعبة القاصدين من أهل المشرق كما كان نجمة الرائدين من أهلها طالبين للعلم، والعلامة المقري صاحب كتاب (نفح الطيب) يسهب في كتابه إسهاباً، ويُطنب إطناباً، حين يتعرض لذكر الذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق يطلبون العلم وينافسون فيه المشارقة.

وكتب التراجم كوفيات الأعيان ومعجم الأدباء وطبقات الأطباء وتاريخ الحكماء تؤرخ لألوف من العرب رحلوا يطلبون العلم (ولو في الصين)، لا يعوقَّهم الإملاق عن شهود محافِلِه، ولا تحلِّئهم المشاق عن ورود مناهله.

ولقد كتبتُ فصلاً مسهباً عن (رحلات العرب في طلب العلم) من فصول كتاب أشتغلُ جاداً بوضعه عن (المسلمون والتربية) عسى أن يكون الفراغ منه قريباً.

وللأستاذ شرف الدين خطاب المفتش بوزارة المعارف فصل موجز في هذا الموضوع في كتابه (التربية في العصور الوسطى) الذي يدرس في دار العلوم، فراجعه إن شئت.

نعود لناحية أخرى نعتقد أن الأستاذ عبد الغني تجنى فيها على شعراء العربية، وذلك حيث قال عنهم:(ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة)، وحيث قال:(وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلا أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والاسفار، فهي عقيمٌ كل العقم من هذه الناحية).

فلقد عرفنا لكثير من شعراء العربية الرحالين شعراً رائعاً يصفون فيه رحلاتهم ليس هذا موضع الإفاضة فيه، ولكني أمثل بالبحتري وقصيدته في وصف إيوان كسرى التي ضمنها وصف رحلته ومشاهداته، وأمثِّل بأبي الطيب المتنبي الذي تقلب ما بين دمشق وحلب ولبنان وفارس ومصر وشهد غزوات سيف الدولة فضمَّن شعره الكثير مما شاهده، فوصف بحيرة طبرية وشعب بوان وحِمص وتُفاح لبنان، ووصف نساء الروم في وقعة نهر (أَرْسَناس)، وليس في إغفاله وصف آثار مصر ونيلها دليل على قصوره أو تقصيره فإن لذلك أسباباً لا نتعرض لها في هذه العُجلة، بل لقد كان لرحلته إلى مصر آثار كثيرة في شعره. . . أقلها أنه هجا المصريين.

وابن هانئ الذي قال عنه الأستاذ (يخرج من الأندلس إلى شمال أفريقية فيمدح الخليفة

ص: 31

المعز ويرحل معه إلى مصر ويصف هذه الرحلة في بعض شعره) لقد ظلمه وتجنى عليه، فالرجل لم يرحل مع المعز إلى مصر ولكنه رحل من الأندلس إلى عدوة المغرب فلقى جوهرا القائد، ثم علم به المعز فقربه وأجرى عليه العطايا؛ ثم رحل المعز إلى مصر فشيعه ابن هانئ ورجع إلى المغرب لأخذ عياله، ثم مات قبل أن يلحق بالمعز. ولما بلغه خبر موته أسف وقال:(كنا نريد أن نفاخر به شعراء الشرق فبل يقدر لنا ذلك).

ومع هذا فقد كان لرحلة ابن هانئ إلى المغرب أثرها في شعره، وقد وصف أسطول المعز وصفاً رائعاً بقصيدته المشهورة:

أما والجواري المنشآت التي سَرَتْ

لقد ظاهرتْها عدةٌ وعديدُ

وبعد ففي مقال الأستاذ محمد عبد الغني بعض هنات في التعبير واللغة نرى لزاماً علينا أن نشير إليها، ولاسيما أنه من المولعين بتعقب أمثالها.

فهو أولاً، يقول عن الرحالين من قريش إلى اليمن والشام:(وسنسميهم رحالين تجاوزاً)، مع أن الله تعالى يقول:(رحلة الشتاء والصيف) فهل سماهم القرآن رحالين تجاوزاً؟

وهو ثانياً يروي بيت الأعشى هكذا:

وشاهدنا الجُلّ والياسمين والمسمعات بأقصابها

وأظن الرواية الصحيحة للبيت (بقصابها) لا (بأقصابها)، وقد جاء في الأساس:(ونفخ في القصابة: في المزمار، ورأيت القُصاب ينفخون في القُصاب: أي الزمارين ينفخون في المزامير، جمع قاصب الخ). أما الأقصاب فهي الأمعاء.

وقد روي البيت كما ذكرت العالم التونسي الجليل الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي في تونس، في بحثه النفيس (المترادف في اللغة العربية) المنشور بالجزء الرابع من مجلة المجمع اللغوي.

وهو ثالثاً. . . استعمل في مقاله (ساهم) بمعنى (شارك) أو (كان له نصيب)، والمساهمة هي المقارعة من (القرعة) كما في قوله تعالى في قصة يونس (فساهم فكان من المدحضين) وكان يصيب لو قال:(أسهم) أو (سَهّم).

وقد نبه على هذا الخطأ أستاذنا الجليل العوامري بك. ولا حجة للدكتور زكي مبارك في رده لأنه يستشهد بكلام المتأخرين، ويرضى بأن يخطئ مع الشريف الرضي.

ص: 32

وهو رابعاً يقول: (ويعد كتابه الثاني أوفى مرجع عن بلاد الهند، وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها).

والشذوذ كل الشذوذ في (أملأ)، لأن أفعل التفضيل - كفعل التعجب - لا يصاغ من الخماسي (امتلأ) على وزن أفعل. ولا يُقال إنه مصوغ من مَلأ، لأنه كان عليه حينئذ أن يقول:(ويُعَد المؤلف أملأ المؤلفين لكتابه تعريفاً بالأسفار) لا أن يسند الملء للكتاب.

نعم، إن الأشموني في شرحه على الألفية وابن هشام في أوضح المسالك ذكرا من الشذوذ قولهم:(ما أملأه للقربة) مصوغاً من امتلأ؛ وهذا وهمٌ منهما لأنه لا شذوذ حينئذ في العبارة، إذ هو مصوغ من ملأ. . . والمعنى جيد.

وقد اعتذر لهما الصبان بأن الشذوذ يكون حين يقال: (ما أملأ القربة)، كعبارة الأستاذ عبد الغني

فهل يقوم هذا اعتذاراً له؟

وهو خامساً يقول: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب، إلا أنها لم تكن منتجة. . . الخ).

وأنا لا أعلق على هذه العبارة إلا بأن أتحدى الأستاذ بأن يُعربها ويبين لنا جواب إذاً ويخرِّج هذا الاستثناء.

ومني إليه التحية.

(حدائق القبة)

محمد محمود رضوان

المدرس بالمدرسة النموذجية

ص: 33

‌من وراء المنظار

في الترام أيضاً. . .!

لعل هذه ثالث مرة أكتب فيها عما وقع عليه منظاري في الترام مما

يصور أخلاق بعض الناس في مجتمعنا الواسع، والترام لا تنس أيها

القارئ مجتمع له خطره. وإن عجبت لهذا التعبير فأخطر ببالك مبلغ ما

تمتلئ به طيلة النهار وساعات من الليل تلك المركبة من أنماط الناس

مرات كثيرة متتابعة.

وما اتخذت موضعاً لي يوماً بين هؤلاء الناس إلا وقع منظاري على ما لا أحب أن يقع عليه، ولو أني رحت أحدثك كل يوم بما أرى لجئتك كل يوم بالطريف، بل ولحملتك على أن تستزيدني إن سكت.

وماذا عسى أن أعرض عليك اليوم مما شاهدت والمجال لا يتسع له كله وليس فيه ما أحب أن أدعه، وما أعرض عليك ما أعرض محبة في نشر ما يعاب وإنما أشهر بما يعاب بغية القضاء عليه. . .

هذان يافعان من أبناء مدارسنا يكلم كلاهما صاحبه وكأنه يتعمد أن يسمع الراكبين جميعاً، وليت العيب قاصراً على ما يحدث كلاهما من ضجة مكروهة، بل إنهما ليتحدثان في غير تحفظ عن أمور أحسب أن الحديث فيها مما يوجب الخجل لو جرى بينهما على انفراد، دع عنك ما ينعت به كل منهما صاحبه من الألفاظ التي نستطيع صدورها من السوقة إذا عظمت بينهم جلبة المزاح، أو إذا استحرَّ بينهم بالأيدي والألسن القتال. . . وما أرى على وجه من هذين الوجهين أي شعور بأنهما تقع عليهما أعين الناس.

ودع هذين إلى ذلك الذي يتحدث إلى جيرانه عن إحدى القضايا فيذكر أسماء معروفة ويعقب على كل أسم بما يشاء له أدبه من قاذع السباب في غير تحرج ولا مبالاة.

ثم ما فصيلة هذا (الإنسان) الذي جعل يحملق في فتاة أمامه من بنات المدارس لا يكاد يتحول نظره عنها وإنما يتحرك بصره إذ يتحرك صاعداً من طرفي قدميها إلى قمة رأسها فيستقر بعض الوقت في مواضع معينة، ثم يهبط إلى أسفل من جديد متوقفاً عند كواضع

ص: 34

الاستقرار حتى يعود إلى حيث بدأ ليصعد من جديد، وهكذا دواليك دون أن يفطن هذا الأفندي إلى ما يكاد يزهق روحها من ضيق وارتباك.

وما هذا الذي راح يقضم اللب ويلقي بقشره في سرعة فيقع على ملابس من هم حوله في غير وعي منه كأنما يفعل ذلك في حجرته الخاصة؛ فإذا فرغ ما في يده دسها في جيب سرواله فعادت ممتلئة، ودار فكاه فألقيا بالقشر تباعاً كأنهما تلك الآلة التي تفصل القمح حبه عن تبنه في الأجران.

وماذا يريد ذلك (البارد) الذي يطيل النظر إلى ملابس من هم أمامه، كأنما يتفرج على معروضات الأزياء في إحدى (الفترينات). يفحص ببصره أربطة الرقبة والقمصان والحلل ولا يتحول بعينيه عنك مهما أبديت له بنظراتك من دهش أو استنكار!!

على أن هؤلاء جميعاً أهون شراً وأقل خطورة من ذلك الذي جلس في طرف المقعد إلى اليسار وأخذ يبصق كل بضع ثوان بصقة لا يبالي على أنف من ولا على عين من وقع رشاشها العذب الذي ينثره الهواء على من خلفه، كأنما يتحتم على راكب الترام أن يلبس قناعاً من الأقنعة الواقية. . .

ومثل ذلك الظريف هذا الذي يتحرك لينزل فيطأ بنعله وجه نعلك، أو يفزع بيده طربوشك فما تدري إلا وقد طار عن رأسك، أو يتحاشى الانزلاق إذ يقرب من السلم فتستقر لطمة منه على عينيك أو خدك أو أنفك بحيث لو سددها إليك من يتعمد ذلك - لا قدر الله - ما جاءت محكمة كما تجيء من يد ذلك الذي يمر بك أثناء نزوله من الترام، وإنه ليقع منه ذلك فلا يلتفت إليك بكلمة اعتذار أو بنظرة أسف! وسبحان الذي سوى الجبلات.

ودع عنك غير من ذكر (المتشعبطين) على السلم والمتحاربين مع (الكمساري) من أجل مليم مشكوك في أمره، أو على الأكثر من أجل قرش زائف، دع عنك هؤلاء فالأمر محصور بينهم وبين (الكمساري) إلا إذا نفخ هذا في زمارته فأوقف الترام وأخذ الجميع بذنب صفيق أو صفيقين.

أقسم لك أن ذلك كله حدث في الترام في وقت معاً، فإن لم تصدقني بعد هذا القسم فليس لدي شك في أنك لم تركب هذه المركبة.

الخفيف

ص: 35

‌تدخل الدولة في الإصلاح

واجب لا مناص منه

للأستاذ علي توفيق حجاج

تناول الدكتور زكي مبارك في مقاله الطويل: (الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع) المنشور بعدد (الرسالة) 408 مسائل متنوعة الألوان مختلفة المذاهب، وتصدى فيها للرد على بعض الكتاب؛ وقد لفت نظري ذلك الخلط القريب في وجهات النظر، وأدهشني أن أرى الدكتور زكي يدعو إلى الفوضى في الوقت الذي فيه يدعو إلى الإصلاح؛ وقد استخلصت من مقاله الطويل آراءه الآتية بنصها، حيث يقول:

أولاً: (وأنا أرى أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع وأرى من الواجب أن توجه الجهود الصادقة إلى إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتكون من الأفراد).

ثانياً: (المنحطون هم الذين ينتظرون من الحكومة كل شيء، فهي عندهم مسؤولة عن صيانة المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، وإصلاح جميع الأحوال).

ثالثاً: (عيب الفرد هو اعتماده على المجتمع واحتماؤه بالقوانين فقد شلت من الإنسان مواهب كثيرة منذ اليوم الذي اطمأن فيه إلى أنه له عصبية تنصره وحكومة تحميه. . . وأنا أدعو إلى اعتصام الفرد بنفسه، قبل اعتصامه بعدالة الحكومة وحصانة المجتمع).

هذه هي خلاصة ما يقرره الدكتور زكي مبارك في مقاله.

أنا أرى:

وأنا أرى أننا جميعاً متفقون مع الدكتور في أن (الفرد هو

الحجر الأول في بناء المجتمع)؛ ولكن ما هي تلك الجهود

الصادقة التي يجب أن توجه إلى إصلاح الفرد؟. . . أليست

هي المشروعات الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم الحكومة

(الدولة) بتنفيذها لرفع مستوى حياة الشعب ومعيشته؟ خذ لذلك

ص: 37

مثلاً قيام الحكومة بإصلاح الأراضي البور - في شمال الدلتا

وغيرها - وتوزيعها على صغار الملاك رغبة في التوسع في

الملكيات الصغيرة والنهوض بمستوى صغار الزراع والعمال

الزراعيين؛ وقد حدثتنا الإحصائيات الرسمية للدولة المصرية

في سنة 1938 أن عدد ملاك الأراضي الزراعية في المملكة

المصرية هو 2. 444. 181 مالكاً، منهم 1. 716. 707

يملك فداناً فأقل، و567. 806 يملك من فدان إلى خمسة أفدنة،

ونسبة هؤلاء الملاك إلى مجموع الملاك في الدولة هو 593

%، ومتوسط ما يملكه الواحد منهم 20 قيراطاً فقط، وأن

الملاك الذين يملكون خمسة أفدنة فأكثر هم 159. 667،

ونسبتهم إلى عدد الملاك 56 %، فهل يعقل يا دكتور أن مالكاً

لفدان واحد، بملكته أن يقوم بتربية أبنائه وخلق جيل جديد

يتفق مع نهضة البلاد؟ هذا هو شأن الملاك، فما بالك بمن لا

يمتلكون شيئاً!؟

لقد اتخذت فرنسا وغيرها من دول أوربا إجراءات مختلفة للإنعاش الاقتصادي، خصوصاً ما كان متصلاً منها بالزراع وصغار الملاك، والعمال الزراعيين، والطبقات الفقيرة. ومما يذكر أن حكومة فرنسا وضعت في سنة 1938 نظاماً أطلقت عليه اسم: الإقطاعيات الزراعية للمعاش، وأصدرت به قانون 24 مايو سنة 1938، واستفاد من هذا النظام جميع العمال الزراعيين، بل جميع المشتغلين بالزراعة.

ص: 38

إن حصر الإجراءات والوسائل التي اتخذتها الدولة للعناية برفع مستوى الشعوب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب مجلات ضخمة، ولا يمكن لمجلة قيمة (كالرسالة)، أن تشغل وقت قرائها بسرد طويل - قد يمله بعضهم - ولكني على سبيل الإشارات، قد ضربت هذين المثالين:

الحكومات هي أم الشعب الذي يجب أن ترعاه، بل المسؤولة عن توجيهه، وتوجيه أفراده، وصيانة المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، وإصلاح جميع (الأحوال).

والعيب كل العيب يا دكتور على الفرد الذي لا يعتمد على احتمائه بقوانين الدولة التي تصدرها لتنظيم العلاقات المختلفة بين الأفراد والجماعات، بين أصحاب الأعمال والعمال، بين الملاك والمستأجرين، بين التاجر وعملائه، بين الموظف ووظيفته إلى آخره.

بل (لقد شلت مواهب كثيرة) بسبب عدم تشجيع الدولة لها، وتقدمت وارتقت مواهب المفكرين والمخترعين الذين أولتهم الدولة عنايتها، وشجعتهم بمختلف الوسائل، كالتعيين في الوظائف العامة، ومنح المكافآت، والامتيازات وما إلى ذلك.

والواقع أن الأعمال التي اطمئن عمالها إلى مستقبلهم، قد ارتقت وتقدمت تقدماً باهراً، بسبب رعاية الدولة لعمالها ووضعها تشريعاً روعي فيه مصلحة الطرفين، أي مصلحة العامل وأصحاب الاعمال، وضماناً للعدالة التي يجب أن تحتل المكان الأول في المعاملة.

أما (احتماء الفرد بنفسه) وأن النفس لأمارة بالسوء، فهو الفوضى بعينها، ولو كان الأمر كذلك لما أرسل الله مبشراً ونذيراً، وسنت الشرائع السماوية، ولما فكر العلماء في وضع القوانين واللوائح التي تحد من طمع الإنسان وجشعه، وحب الذات، (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

ولذلك أرجو أن يرجع الدكتور عن رأيه وأن يقرر معي، كما قررا العقل والناموس الطبيعي. أن يعتمد الفرد على (الدولة)، وأن يوجه عنايته دائماً للتعاون معها في سبيل الإصلاح خصوصاً بعد أن أصبح مبدأ تدخل الدولة من المبادئ المحتومة التطبيق، ما دام قائماً على أساس التضامن الاجتماعي والعدالة في توزيع الضرائب.

تدخل الدولة

إن تدخل الدولة في أحوال المجتمع والأفراد أصبح أمراً لازماً لا مناص منه منذ زمن بعيد،

ص: 39

ولقد اضطرت الدول لفرض مختلف أنواع الضرائب كي تتمكن من القيام بأعباء مسؤولية التدخل وتكاليفه، وقد قسم علماء الاقتصاد والقانون هذا التدخل إلى الأقسام الآتية:

أولاً - التدخل الوطني: ' وهو تدخل الدولة في التجارة الخارجية أو الدولية حماية للإنتاج الأهلي إذ لابد للدولة من العمل على تنظيم القوى الإنتاجية للجماعة، وتنشيط الإنتاج وتشجيعه في مختلف نواحيه حتى يتم بذلك تكوين المجتمع أو الأمة، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الحماية الجمركية مثلاً للواردات. وقد تدخلت حكومة مصر في هذه الناحية عندما رغبت رفع مستوى الصناعات المحلية وتشجيعها، والاستغناء جهد الطاقة عن الواردات الأجنبية. فقررت فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات من المنسوجات الأجنبية وغيرها خصوصاً وأن الصناعات المصرية كانت في دور النشوء، ولا يمكنها أن تتحمل المنافسة الأجنبية، ولابد أن يتناول التدخل الوطني الحماية الجمركية وجميع نواحي الصناعة والزراعة والتجارة.

ثانياً - التدخل الاجتماعي: ' الغرض منه تدخل الدولة لتحسين حالة العمال ورفع مستوى معيشتهم، خصوصاً من ناحية محاربة نظام المنافسة الحرة الذي يدفع بالمنتجين إلى محاولة العمل على تخفيض نفقة الإنتاج بتخفيض أجور العمال واستعمال الأيدي الرخيصة، واستخدام النساء والأطفال.

ولما كان مركز العامل دائماً يكون ضعيفاً أمام صاحب العمل، والقوى المتنازعة غير متكافئة، فلابد من تدخل الدولة لحماية الضعيف، ولابد من سن تشريع صناعي، وتحديد ساعات العمل، ووضع نظام الأجور والإعانات والمكافآت في جميع الأحوال سواء في أحوال المرض والشيخوخة والبطالة، وتعميم نظم التأمين الاجتماعي.

وقد تدخلت الحكومات على اختلاف ألوانها: دكتاتورية كانت أو ديمقراطية في جميع نواحي النشاط.

وشرعت مصر في هذه النهضة فعمدت إلى سن تشريع إصابات (العمل)، وقانون عقد العمل، وتشغيل الأحداث، والتأمين الاجتماعي، والتأمين ضد البطالة وغير ذلك.

وفيما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي لابد من العمل على إفساح المجال للعوامل الأخلاقية والدينية في الجماعة، بمعنى أنه لابد من إخضاع الفرد لقانون أخلاقي وسلطة عليا هي

ص: 40

سلطة رئيس العائلة في المنزل، وصاحب العمل في المصنع، والدولة في مختلف الشؤون.

ثالثاً - التدخل الاقتصادي: ' وهو تدخل الدولة في الإنتاج، بأن تحل مكان الفرد في بعض فروع الإنتاج وبذا ينشأ الاحتكار العام، فتتولى الدولة أو البلديات أعمال السكك الحديدية والبريد والمناجم، وذلك دون تغيير في نظام الجماعة الحاضرة، فتنشأ بجانب الملكية الفردية ملكية الدولة لبعض الفروع.

وقد تطور تدخل الدولة الاقتصادي، فأصبحت الدولة تعتبر جميع نواحيها الاقتصادية وحدة اقتصادية مكونة من مجموع قوى إنتاجية تتعاون وتتضافر وتتضامن فيما بينها بحيث يستفيد الشعب من هذه القوى، ويحصل على كل ما يكون في استطاعته إنتاجه بنفسه لنفسه، ويقل اعتماده على غيره، أو بمعنى إيجاد سيطرة اقتصادية، مع الاعتراف بوجود روابط اقتصادية دولية، بشرط حماية الإنتاج المحلي الأهلي. وهذا التدخل يسمى أيضاً بنظام الاقتصاد وقد جرت عليه تقريباً جميع الحكومات على اختلافها، ويرجع تاريخ تطبيقه الحديث في مصر إلى عهد محمد علي باشا الكبير، وما زالت حكومة مصر تتخذ إجراءات من وقت لآخر في سبيل حماية الإنتاج المحلي، وبحث ودراسة وسائل تصريفه.

وقد ثبت أن تدخل الدولة غرضه الأول تنظيم جميع المرافق وإيجاد تناسق في جميع الدول.

وسائل تدخل الدولة

تتدخل الدولة لحماية الأفراد بسن القوانين - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - ويكون فيما يتعلق بتدخلها في الإنتاج، أولاً: بصفتها مشرعاً لتنظيم وتشجيع المنشآت الخاصة، ويكون تدخلاً غير مباشر. ثانياً: بصفتها صاحب عمل ويكون تدخلاً مباشراً. ويكون ذلك بوضع قواعد عامة وشروط معينة لابد للمنشآت من إتباعها.

هذه يا دكتور بعض المبادئ العامة لتدخل الدولة مع إشارة موجزة كل الإيجاز إلى بعض وسائل تطبيق التدخل. وقد شعرت بلادنا وحكومتها نفسها وبرلماننا بأننا أمة في حاجة ملحة للإصلاح، ولا يكون ذلك إلا عن طريق تدخل الحكومة. وإليك نص ما جاء في الصفحة الثالثة من تقرير لجنة المالية بمجلس النواب عن سنة 1940 - سنة 1941.

(ولن تتحقق العدالة الاجتماعية ويرتفع مستوى الحياة العامة لطائفة كبيرة من أبناء هذا

ص: 41

الوطن، تئن تحت أثقال الفقر والمرض والجهل، إلا باتجاه الجهود متكافئة، إلى علاج هذه الأدواء الثلاثة، والعمل على خلق طبقة من صغار الملاك، تحيا حياة إنسانية في المستوى الأدنى الذي تراه البلدان المتمدينة أقل ما يجب أن يبلغه واحد من أبنائها).

لابد وأن يكون الدكتور الفاضل زكي مبارك قد رجع عن رأيه بعد هذا البيان الموجز، وأن يقرر أنه لابد من اعتماد الفرد على الدولة واحتمائه بقوانينها.

علي توفيق حجاج

ص: 42

‌رسالة الشعر

لو تكلم الفلاح. . .

للأستاذ محمود الخفيف

شَبَّابَتِي جَفَّتْ عَلَيْهَا الشِّفاه

وَلحْنُهَا مَا هَزَّ قَوْمِي بُكاهْ

بَكَيْتُ لا سَلْوَةَ غَيْرَ البُكا

حَتَّى البُكا قدْ مَاتَ حَوْلِي صَدَاهْ

نَشأتُ فِي الشَّوكِ سَقيِمَ البَدَنْ

وَالشَّوُكُ لي حَتَّى ارْتِدَائِي الكَفَنْ

يا وَيْلَتَا مَاذا جَنَتْهُ يَدِي

يَدِي بَنَتْ فَوْقَ التُّرابِ الْحَيَاهْ

يَا لَيْتَ فَأسِي لَمْ تجِلْهَا يَدِي

أو لَيْتَنِي يَا قَوْمُ لَمْ أُولدِ!

أَشْقَى لِيَبْنِي بِشَقائِي الْغِنَي

واْلَجَاهَ، بانٍ، كَمْ رَمَتْنِي يَدَاهْ

أعيشُ من عَجْمَائهِ أَوْضَعَا

يَا لَيْتَ لي مِنْ فِكْرِهِ مَوْضِعَا

للِثَّورِ ضِعْفٌ إنْ ذَكَرتُ الذِي

أُعْطَاهُ أجْراً سَاَء شَرْعُ الطُّغاهْ!

حِمَارُهُ في سُرُجٍ من حَريرْ

وَبَيْنَنَا في الرِزْقِ فَرْقٌ كَبيرْ

وَكلْبُهُ، لو أنَّ بَعْضََ الذِي

يَحْظى بهِ حَظِّي جَهِلتُ الشَّكاهْ

ضَنيتُ حتى مَا عَرَفْتُ الضَّنَى

وَاْلمَوْتُُ طِبِّي بعدَ طولِ العَنَا

يا قَوْمُ إني جِئْتُ من آدَمِ

ما لِي بهذا الكَوْنِ جَدٌ سِوَاهْ

شَقِيتُ حَتى قدْ جَهلْتُ الشقَاءْ

وَبَغَّضَ اليَأسُ لِقلبِي الرَّجَاءْ

كَمْ لُذْتُ بالآمَالِ حَتَّى غَدَتْ

بَعْضَ عَذَابي الَيْومَ وَا حَسْرتاهْ!

أَلِمْتُ حتَّى قدْ رَثيَ لي الألَمْ

وَأشفَقَ السُّقمُ وَحَارَ العَدَمْ

لَمْ يُبْقِ مِنِّي غَيْرَ طَيْفِ الْبِلَى

عَيْشي وَمَالِي حِيلَةٌ فِي سِوَاهْ

لا هُوَ مُحْيينِي وَلا قَاتِلِي

مَنْ ذا يُزِيحُ الْعَيْشَ عَنْ كاهِلي؟

مِنْ مَوْلِدِ الشَّمْسِ إلى مَوْتِها

كَدحٌ وما غَيْرُ الرَّدى مُنْتهاهْ

وفي لَظَى الشَّمْسِ وَقُرِّ الشِّتاءْ

ما كانَ لي غَيْرَ قَمِيصي وِقَاءْ

وَقُوتِيَ الخُبْزُ، يَمِيناً لَئِنْ

يُلقَي لِكلبٍ مُترَفٍ لازْدَرَاهْ

لِغَيْرِيَ النِّيلُ جَرَى كَوْثَراً

وَلِي جَرَى من عِيشَتي أَكدَرَا

مِنْ طِيِنهِ الذّائِبِ أرْوِى الظّماَ

وَقدْ رَوَي مَاءُ جَبيني ثَرَاهْ!

ص: 43

آوِي إلى كُوخِي ذلِيلَ الخُطي

وَلَيْسَ فِي كُوخِيَ غَيْرُ الأسَى

هَذا بَراهُ السُّقمُ حَتَّى بَدَا

طْيفاً وَذا دَاءُ الكلَى مَا دَهَاهْ

وَلَيْسَ لِي وَيْلاهُ مِنْ رَاحِمِ

وَهَلْ أُرَجِّي البِرَّ مِنْ ظالمِي؟

يَنْظُرُ لي إنْ مَرَّ بي نَظَرةً

كأنَّني في الحَقلِ بَعْضُ الشِّبَاهْ!

يَا بَانِياً هَذا الثَّرَاَء العَمَمْ

بَنَيْتَ بِالاشْلاءِ هَذا الهرَمْ

أَقُولُ إِمَّا بِتُّ في مَضْجَعِي

طاوِي الحَشَا: تَبَّتْ يَدَا مَنْ بَنَاهْ

يا سَامِراً أغرَاهُ حُلْوَ السَّمَرْ

يا لَا عِباً بِالمالِ حتَّى السَّحَرْ

يا وَالِغاً في الكأْسِ هَذا دَمِي،

هَلاَّ ذَكَرْتَ الكأْس كيْفَ احْتَوَاهْ

مَا قَلَّ مِنْ هَذا الّذي تُتْلِفُ

يُسْعِدُني إن كُنْتَ لا تَعْرِفُ

حرَمْتَنِي مَا فَرَضَ اللهُ لِي

إِصْلَ لظَاهُ يومَ تُكوَى الْجِباهْ

الخفيف

ص: 44

‌البريد الأدبي

السنوسيون والمذهب المالكي

كان لي حظ الاطلاع على ما كتب الأستاذان جعفر والعيساوي عن السنوسيين، ويظهر أن الأستاذ جعفر قد استند في تقديره بُعد السنوسيين عن المالكية بما قد حصل من ثورة بعض من حسبوا أنهم علماء على السنوسيين. فقد قرأت في مطالعاتي أخيراً في كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية للمرحوم الأستاذ الإمام الطبعة الثانية في (صفحة 112) تحت عنوان (الإسلام اليوم، أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام) ما يلي: (. . . لكن أليس من العلماء المسلمين اليوم أعداء للعلوم العقلية. . .؟ ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب (الجغبوب) كتب كتاباً في أحوال الفقه زاد في بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين؛ فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية رحمه الله تعالى، وكان المقدم في علماء الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه، لأنه خرق حرمة الدين، واتبع سبيلاً غير سبيل المؤمنين. . . وإنما الذي نجى السنوسي من الطعنة ونجى الشيخ من سوء المغبة وارتكاب الجريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ المالكي.) آه

وأظن أن في كلام الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده ما يحدد قرب السنوسيين لا بعدهم عن الإسلام.

محمد فخري مهنا

الخطة النازية في الحرب

إن الخطط التي اعتمدتها النازية في هذه الحرب قد عدلت كثيراً من الخطط الحربية القديمة، حتى أصبح من ذكريات الماضي الرأي القائل بأن على المدفعية أن تمهد السبيل للمشاة، وعلى قوافل المؤن والذخر أن ترافق الجيش.

فبناء على خطة الألمان الجديدة يجب على قاذفات القنابل أن تبتدئ أولاً بضرب الأهداف الحربية في بلاد العدو بدلاً من المدفعية البعيدة المرمى التي كانت تقوم بهذه المهمة في

ص: 45

الحرب الماضية. وبعد أن تلقي هذه الطائرات الجبارة محمولها من القذائف الكبيرة، تمطر برصاص مدافعها الرشاشة جنود العدو، وتتلوها أسراب من الطائرات الخفيفة تحمل قذائف صغيرة وقنابل محرقة وهي تمثل دور الفرسان قديماً؛ ثم يبتدئ هجوم الدبابات الضخمة من ذوات الستين طناً، وتسير إلى جانبها الفرق الآلية، ولا يتقدم المشاة إلا بعد تمهيد الطريق وتنظيف الساحة من العدو.

ولكل فئة من رجال الهوابط مهمة: فمهمة الفئة التي تتألف من خمس طائرات أن تهبط في مكان معين، حيث تنتظرها عصابة من الطابور الخامس؛ والتي تتألف من أربع طائرات أن تهبط لنسف الجسور أو لتخريب السكك الحديدية ونحو ذلك؛ والتي تتألف من ثلاث طائرات أن تستولي على مستودعات النفط والمؤن، والتي تتألف من طائرتين أن تعطل المطارات. أما التي تتألف من طائرة واحدة، فتحمل مهندسين وخبراء فنيين لدرس الطرقات وطبيعة الأنهار وأمثالها. وكل ذلك يتم بنظام دقيق يشبه نظام الساعة.

جنود الهوابط (الباراشوت)

منذ سنة 1935 ابتدأت ألمانيا بتأليف فرق الهوابط وتمرين رجالها على هذه الطريقة الحربية الجديدة التي تقتضي مهارة كبيرة وتمريناً طويلاً، لأن الخطر الذي يهدد الهابط ليس في الجوبل عند وصوله إلى الأرض، إذ تنكسر رجله، أو تصدع على الأقل فلا يعود يستطيع أن يقوم بمهمته، وكل هابط يحمل بندقية رشاشة خفيفة ودراجة وكمية من الذخيرة، وعليه أن يحسن جيداً لغة البلاد التي يهبط فيها.

كان الألمان في الحرب الماضية ينشئون وراء خطوطهم مثالاً تاماً من خنادق الحلفاء ويمرنون جنودهم على طريقة مهاجمتها، وهكذا فعلوا في الحرب الحاضرة، فصنعوا بدلاً من الخنادق نموذجاً من البلدان التي نووا اجتياحها تتراوح مساحته بين أربعة وخمسة أمتار، وأثبتوا فيه الطرقات والأشجار والبيوت والأقنية والأنهار وغيرها، فيعكف جنود الهوابط على درسها حتى إذا حانت ساعة العمل قاموا بمهامهم بكل دقة.

ولا يبلغ جنود الهوابط أهدافهم بدون مساعدة رجال الطابور الخامس، وهذا ما دل عليه اجتياح نروج. وفي هولندا هاجم الهابطون الألمان مطاراً وهم متنكرون بالملابس الهولندية فلم يستطيع الهولنديون أن يميزوا بين الأصيل والدخيل. وفي بلجيكا سقط هابط ألماني

ص: 46

على سقف بيت في وسط المدينة واختفى فجأة فاحتشد الناس حول البيت وطوقت الشرطة الحي برمته، وطفقت تفتش كل المساكن دون أن تعثر على رسول هتلر. ومر ساعتئذ بين الجمهور كاهن يدل مظهره على ورع، فقال أحدهم مازحاً:(من يدري؟ لعل هذا الكاهن هو نفسه ذلك الهابط الألماني!) وما كاد ينتهي من كلامه حتى رأوا عربة مسرعة تقف فجأة فيدخلها الكاهن ثم تتابع سيرها، فلحق بها رجال الشرطة وقبضوا على الكاهن وهو يصرخ:(إن في ألمانيا 20 ألف هابط، وكلهم مستعدون لبذل حياتهم من أجل زعيمنا هتلر!).

وقبض في هولندا على هابطين من الألمان كانوا متنكرين بأزياء مختلفة وشارات عسكرية منوعة من بلجيكية وهولندية وفرنسية وإنجليزية.

جبل طارق

يقع جبل طارق في طرف شبه جزيرة متصلة بالأرض الأسبانية ويدعى طرف أوربا، مساحة منطقته خمسة كيلو مترات يعيش فيها نحو 18 ألفاً.

ينسب اسمه إلى طارق بن زياد الذي فتح أسبانيا عام 711، وبقي في حوزة العرب حتى انتزعه منهم أولونسي دي أركوس عام 1462.

وفي عام 1704 احتلَّ البريطانيون جبل طارق وثبتوا فيه ضد هجمات الأسبان وحصارهم الطويل. ولما فتحت قناة السويس ازدادت أهميته الحربية، لأنه يشرف على المضيق الذي يصل المحيط الأطلسي بالبحر المتوسط.

وليس في منطقة الجبل ماء للشرب فيضطر سكانها إلى جمع ماء المطر وخزنه. وللإنجليز خزانات تسع أربعين مليون لتر.

ولا خوف على الحامية العسكرية والأهالي من الحملات الجوية، لأنهم يختبئون في الملاجئ الصخرية التي حفرت في الجبل في أثناء حصاره من 1779 إلى 1783.

قال الأسباني فلوريدا بانكا عام 1783: (إن جبل طارق شوكة في جنب أسبانيا، ولن تجمع الشعبين الأسباني والإنجليزي صداقة حقيقية ما لم تنزع هذه الشوكة).

هتلر واليهود

ص: 47

بعث المراسل الاسوجي سلفيج إلى (ذي داي) الأمريكية بالمعلومات التالية:

(إن الألغام المغناطيسية التي علق عليها الألمان الآمال الكبيرة في بداءة الحرب قد اخترعها في أواخر الحرب الماضية بعض علماء الكيمياء من يهود ألمانيا وقدموا إلى أركان الحرب الألمانية يومئذ سر اختراعهم فاحتفظت به وضمته إلى الوثائق السرية في وزارة الحرب الألمانية. ولما سيطر النازيون على ألمانيا كشفوا ذلك السر في جملة ما كشفوه وابتدءوا قبل نشوب الحرب الحالية يصنعون مقادير كبيرة من تلك الألغام. ولكن مصيرها كان الإخفاق لأن مخترعيها وأمثالهم من اليهود كانوا قد طردوا من ألمانيا ولجئوا إلى إنكلترا حيث عكفوا على اختراع الوسائل للوقاية منها.

إن النازيين عرفوا - ولكن بعد فوات الوقت - أن البيض ينقطع بعد قتل الدجاجة؛ ولكنهم لم يقتلوا الدجاجة بل رموها في يد العدو. وقد أدركوا خطأهم بعد وقوع الحرب، وعندما شعروا بحاجتهم إليها. ولهذا أوفدوا بعض دهاتهم إلى كل الأنحاء الأوربية لاسترضاء رجال العلم والاختصاص من أولئك المطرودين لكي يعودوا إلى ألمانيا ولكنهم أخفقوا. وقد تمكنوا في البرتغال من إقناع 233 طريداً كلهم من العلماء والأطباء والاختصاصيين بعد ما أغروهم بالوعود وأكدوا لهم أن اضطهاد اليهود في ألمانيا قد بطل، وأنه في كل المعامل الألمانية قد ألصقت نشرات تنوه بنبالة العنصر اليهودي وبتحدره من أصل شريف، وأعدوا لهم مركباً أسبانياً ينقلهم إلى أسوج ومنها إلى ألمانيا؛ ولكن عمال إنكلترا السربين وزعماء الجالية الإسرائيلية في البرتغال أفسدوا هذه الخطة. وسافر المركب، إلا أنه اتجه إلى ناحية من نواحي الباسفيكي بدلاً من أن يتجه إلى أسوج!

كان في معامل كروب قبل أن يستولي هتلر على الحكم نحو عشرين ألف ميكانيكي يهودي؛ أما اليوم فلا يبلغ عددهم الخمسين؛ وقد جلب الألمان ثلاثين ألف عامل إيطالي ليحلوا محل أولئك المطرودين. غير أن مناخ ألمانيا الشمالية لم يلائم العمال الإيطاليين فعاد أكثرهم إلى وطنه.

إن مختبرات إنكلترا الفنية ملأى اليوم برجال الاختصاص من اليهود المطرودين؛ والذي أعلمه أن في مدينة واحدة بإنكلترا 165 شخصاً من يهود النمسا والتشيك وألمانيا وبينهم علماء مشهورون واختصاصيون من الطراز الأول يعرفون جيداً كل أسرار الصناعة

ص: 48

الألمانية.

(العصبة)

ازدهار الفكر وبطش المسيطر

ربما كان من الأسباب التي جعلت بعض الأساتذة ينكرون ازدهار الفكر في عهد الأمان والاستقرار - أي عهد انتظام أمور الدولة وقوة حكومتها واتساع نطاق تجارتها - أن الحكومات القوية في تلك العهود كان يخشى بطشها بالفكر، لكنا إذا رجعنا إلى التاريخ، وجدنا أن الفكر في تلك العهود كان يستفحل ويستفرخ وينمو نمو النبات في المنطقة الخصبة الحارة، فلم يؤثر فيه ذلك البطش مهما اشتد بأس الحكومات، فكان نموه أشبه بنمو نبات البردي في مناقع النيل قرب منبعه، فإذا قطع بعضه، عوضت سرعة النمو وغزارته أكثر مما قطع. على أن تلك الحكومات القوية، كثيراً ما كانت ترعى المفكرين برعايتها، فإذا عادت مفكراً كانت المعاداة بسبت وشاية شخصية أو عداوة سياسية، أو تظاهر بإبراء الذمة أمام الجمهور المعادي له.

وهذه كانت حالات مفردة يعوض نمو الفكر الغزير في تلك العهود عما يكون فيها من فقد. على أن كثيراً من الحكام ذوي البأس والشدة كانوا يفاخر بعضهم بعضاً برعاية العلماء والمفكرين والفلاسفة، حتى صارت تلك الرعاية عدوى أشبه بعدوى أزياء الثياب، وقلما يستطيع أحد أن يتخلف عن الزي الشائع في الثياب إذا كان يريد الظهور، فكانت رعاية صاحب البطش وعنايته بالمفكرين إما لأنه كان حاكماً مثقفاً، وبعض هؤلاء الحكام كانوا على شيء كثير من الثقافة، وإما لأنه رأى الثقافة زياً يتباهى به فكان صنيع هذا كصنيع الأثرياء الجهال الذين أغنتهم الحرب الكبرى الماضية في أوربا، فقد كانوا يجمعون الكتب والصور والآثار العلمية والفنية، فينتفع بها غيرهم وإن لم ينتفعوا بها. وكل هذه الأسباب المختلفة توضح أسباب نمو الفكر في عهود الأمان والاستقرار والحكومات القوية الباطشة. وإذا تدبرنا حقائق التاريخ، وجدنا أن بطش الحكام بالفكر قلما كان ينجح إلا إذا كان هذا البطش بالفكر مبدأ وطنياً شعبياً، كما حدث في أسبانيا بعد سقوط دولة العرب فيها وقيام دولة الأسبان المسيحية، فلم يكن البطش بالفكر في عهد شارل الخامس وفيليب الثاني خطة

ص: 49

الحاكم وحده، وإنما كان يريده الشعب كخطة وطنية دينية، وهذا كان سبب تدهور أسبانيا. أما عهود الفوضى، فكما أن الحكام فيه أضعف من أن يبطشوا بالفكر، فهم كانوا أيضاً أضعف من أن يحموه، وفي تلك العهود يكون كل ذي عصبية صغيرة صائلاً باطشاً فينشأ اضمحلال الفكر. أنظر إلى عهد النزاع بين الوالي العثماني وسناجق المماليك، وبين كل أمير وأمير؛ وانظر إلى عهد الفوضى في تاريخ مصر القديم بعد الأسرة السادسة وبعد الأسرة الثانية عشرة.

(ع. س)

مؤلف كتاب سحر العيون

قرأت في بعض أعداد (الثقافة) فصلاً دبجته براعة الأستاذ أحمد أمين بك يدور حول ما جاء في كتاب (سحر العيون) من بحوث وتقسيمات.

وقد ظن الأستاذ أن مؤلف هذا الكتاب مصري استناداً على ما ورد في الكتاب المذكور من أمثال عامية مصرية وغيرها.

وأنا أقول: إن مؤلف هذا الكتاب دمشقي لا مصري، وهو من أدباء القرن التاسع الهجري عاش حوالي سنة 842؛ والدليل على ذلك ما ورد في الكتاب المذكور:

قول المؤلف (ص 298): بلدينا العلاي العيثاني الدمشقي موالياً (الأبيات)

وقوله (ص 303): بلدينا الشيخ عبد الله الارموي الدمشقي

وقوله (ص 308): نقلت من خط القاضي زين الدين عبد الرحمن بن الخراط (وهذه الأسرة دمشقية مشهورة).

وقوله (ص 312): أنشدني المرحوم الجناب العالي سري الدين بن الذهبي من أعيان كتاب الإنشاء الشريف بدمشق في غلام نشابي (الأبيات).

وقوله (ص 316): الرشيد عبد الرحمن بن بدر النابلسي وفاته في سنة تسع عشرة وستمائة، ودفن بتربة باب الصغير، (وهذا المدفن مشهور في دمشق).

هذا، وقد ورد في الكتاب المذكور عدد غير قليل من الأسماء الدالة على أسر دمشقية شهيرة: كالعطار والسبكي والخراط والنابلسي وغيرها.

ص: 50

أرجو إثبات هذه الملاحظات ولكم الشكر.

(دمشق)

يحيى الشهابي

من الشعر المنسي لحافظ

بعث المرحوم حافظ بك إبراهيم إلى صديقه الشاعر الناثر مصطفى صادق الرافعي طيب الله ثراه بهذه الأبيات:

قد قرأنا نظيمكم فرأينا

حكمة كهلة وشعراً فتيّا

وتلونا نثيركم فشهدنا

كاتباً بارع اليُراع سَريّا

خاطر يسبق العيون إلى القلب

ويطوي منازل البرق طيّا

ومعانٍ كأنها الروح في الصيف

تهزَّ النفوس هزَّ الحُميّا

من بنات المحار يصبو إليها

تاج كسرى وتشتهيها الثُّريّا

إيه يا رافعيَّ أحسنت حتى

لا أرى محسناً بجنبك شيِّا

أنت والله شاعر حضريٌّ

إن عددناك شاعراً بدويّا

عبد القادر محمود الدسوقي

دخول أل على غير

لم يوجد في معاجم اللغة العربية ولا في كتب النحو ما يؤخذ منه جواز دخول (أل) على كلمة غير. وقد قال الصبان في باب الإضافة صفحة 162 ج 2 ما نصه: (ونقل الشنواني عن السيد أنه صرح في حواشي الكشاف بأن غيراً لا تدخل عليها (أل) إلا في كلام المولدين). وتوضيح ذلك أن العلماء طراً نصوا على أن غيراً اسم ملازم للإضافة في المعنى، ولا يقطع عنها إلا إن فهم المعنى وتقدمت عليها ليس مثل قبضت عشرة ليس غير. ويجوز ليس غيراً وليس غير. فالأول على البناء، والثاني على أنها معربة؛ ويجوز ليس غيرها بالإضافة اللفظية. أنظر الصبان والتوضيح والمغني وقاموس المحيط. وهناك قول بأن غيراً يقل إبهامها إذا وقعت بين ضدين مثل قوله تعالى: (أنعمت عليهم غير

ص: 51

المغضوب عليهم). ويقال: رأيت الصعب غير الهين. ومررت بالكريم غير البخيل.

والشائع الذائع في كلام العرب أن غير حين تستعمل تكون متوغلة في الإبهام. والشأن في مثلها ألا يتعرف بأي معرف؛ غير أن بعض أمثلة من كلام العرب ورد فيها دخول (أل) على كلمة غير حيث يريدون بذلك غيراً معيناً، فهي بهذا قد خرجت من أصلها فبقي قولنا بأن (أل) لا تدخل على غير سليماً حيث تكون متوغلة في الإبهام، وذلك مثل: جاء اليوم غيرك، هذا الغير تناول معي طعام الغداء.

أحمد حلمي الغداء

بجريدة الوفد المصري

ص: 52

‌الكتب

كتب قيمة

في تاريخ الأخلاق، الرسالة للإمام الشافعي، إمتاع الأسماع

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

في تاريخ الأخلاق

يعجبني من الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين توفره على العلم وإكبابه على الدرس وشغفه بالمطالعة، وهو يجمع إلى ذلك حركة المصلح المجدد وحظوة العاقل المتزن. وقد ذكره أستاذنا الجليل الزيات مع جماعة من شباب الأزهر العلماء الذين يرجى الخير فيهم وتعلق الآمال عليهم. وفي السيد الزيات فراسة لا تخطيء واستكناه لا يكذب.

وقد أخرج الأستاذ كتاباً (في تاريخ الأخلاق) لم يمل فيه إلى أن يكون جمعاً صرفاً، وإنما هو دراسات صغيرة مختصرة لتطور مسائل هذا العلم وتعدد مذاهبه والموازنة بين مذهب ومذهب، وفكرة وفكرة.

وليس عجيباً أن يقف اليوم شيخ من شيوخ الأزهر، يعرض المسائل الأخلاقية المتصلة بالفلسفة في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، فيبسطها بسطاً ويصورها تصويراً يدلان على الفهم والهضم، لا على الحفظ (والصم).

ليس عجيباً ذلك، فقد تغيرت اليوم طريقة الأزهر في العلم وتغيرت نظرته إلى الحياة، وسبيله إلى المعرفة؛ وأصبحنا نقرأ لفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت وكيل كلية الشريعة بحثاً في (القرآن والمسلمين) يحمل مع خلوص النية، وصدق الطوية جرأة في الدعوة، ومرارة في النقد، واستقامة في القصد. وصرنا نقرأ للأستاذ العالم الشيخ محمد محمد المدني مقالاً (في الإسلام بين السلف والخلف) فنرى فيه الغيرة على الدين، والوضاحة في العقيدة، والشجاعة في قوله الحق، من غير خوف من تأويل مؤول.

الحق أن في الأزهر نهضة تستمد عناصرها من حُرية شيوخه ويقظة علمائه، يقظة يودعون بها إغفاءة العهد القديم.

ص: 53

الرسالة للإمام الشافعي

الرسالة للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي كتاب يقع في 670 صفحة من القطع الكبير، قام بتحقيقه وشرحه الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي. وجرى في ذلك مجرى لم يقف عند الشرح والتحقيق، بل اقتضى إخراج ذلك الكتاب على الصورة الكاملة التي خرج عليها جهداً متصلاً، وصبراً طويلاً، وبصيرة في الفقه الإسلامي، وإحاطة بالتشريع، وذوقاً في الأدب، وأصالة في اللغة، وتمكناً في التاريخ.

والحق أني ما قلبت صفحة من ذلك الكتاب إلا عجبت من صبر الأستاذ على البحث، وسرعة تقصيه للمسائل، وتتبعه للأصول، وكثرة رجوعه للمظان وغير المظان، مما دل على اطلاع واسع وإلمام تام.

وقد يكون إخراج كتاب قديم عملاً هيناً، وأمراً غير إدٍّ عند من لا يرقبون أمانة العلم، ولا يخشون حرمة الحق. وغرضهم من ذلك أن يطاعوا على السوق بعمل عملوه، ولو كان ناقصاً غير كامل، ومعيباً غير سالم.

أما الأستاذ الشيخ أحمد شاكر فبعيد من ذلك كله؛ فإذا عمل فلله، وإذا حقق فللعلم، وإذا أكب فهو موف على الغاية ومشرف على النهاية، لا يثنيه عن ذلك صعوبة بحث أو إعنات درس.

ويظهر في الكتاب مزية الإخراج العلمي الحديث. ففي الأول: مقدمة وافية عن الرسالة وقيمتها وقيمة الشافعي، ونسخ الكتاب المخطوطة والمطبوعة، وأصل الربيع صاحب الشافعي وكاتب رسالته، ووصف النسخة التي رجع إليها الشارح وذكر أصحابها، ووصف نسخة ابن جماعة. ويلي المقدمة باب السماعات التي رتبها الشارح وحذف المكرر منها، ووضع لها فهرساً مرتباً على حروف المعجم.

ويلي ذلك الرسالة وقد زينت بحواش مفيدة وتعليقات طيبة؛ ويلي ذلك جريدة المراجع التي استعان بها الشارح ورجع إليها، وتمتاز عن كل ما رأينا من جرائد المراجع بحسن تنسيقها وذكر أجزاء الكتاب، واسم المؤلف ووفاته، وتاريخ طبع الكتاب ومكان طبعه.

ويمتاز هذا الكتاب بكثرة مفاتيحه التي تسهل على القارئ الرجوع إليه في أوجز وقت، كما أن فيه فهرساً للفوائد اللغوية التي استنبطت من استعمالات الشافعي؛ وإن كنت لا أذهب مع

ص: 54

فضيلة الشارح فيما رأى من وجوه لا أردها إلى علم الشافعي وجنحه إلى الضعيف من الأقوال والرديء من اللغات، ولكني أردها إلى خطأ في النسخ، ولو حاول فضيلته أن يبريء الكتاب من الخطأ.

إمتاع الأسماع

إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع:

المقريزي هو مؤلف هذا الكتاب، والأستاذ محمود محمد شاكر هو مصححه وشارحه، والسيدة قوت القلوب الدمرداشية هي القائمة بنفقات طبعه، ولجنة التأليف والترجمة والنشر هي المشرفة على إخراجه. فالكتاب مجدود من كل ناحية، ومحظوظ من كل وجه.

وقد تفضل الأستاذ أحمد أمين بك عميد كلية الآداب بتقديم الكتاب في بضعة أسطر لم تخرج عن أن تكون شكراً للسيدة المتبرعة، ولم يعودنا الأستاذ الكبير هذا الاختصار في التقديم، والإيجاز في التصدير.

وحبذا لو كان حدثنا عن الكتاب وقيمته بين كتب السيرة للمتأخرين وطريقة المقريزي فيه؛ والنسخ المخطوطة والمطبوعة لهذا الكتاب، والأصل الذي رجع إليه شارحه، كما عودنا حضرته ذلك في الكتب التي تولى القيام عليها وأحسن التعهد لها.

وللأستاذ محمود محمد شاكر فضل تصحيح هذا الكتاب القيم ومراجعته على الأصل تارة، وعلى أصول الحديث والتاريخ تارة أخرى، وهو فضل يتجلى في الهوامش الكثيرة التي لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة، والتي تدل على موفور اطلاع وواسع قراءة ومصفى ذوق عرف عن شاكر الأديب اللبيب.

وليأذن لي الأخ الفاضل مصحح إمتاع الأسماع وشارحه بإبداء الملحوظات الآتية:

1 -

في صفحة 222 كلام على هيئة الرجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل في الخندق يوم الوقعة ونصه كما ورد في الإمتاع:

اللهم لولا أنت ما اهتدَينا

ولا تصَدَّقنا ولا صلينا

فأنزلنْ سكينةً علينا

وثبِّت الأقدام إن لاقَينا

وزاد صديقنا الشارح البيت الآتي عن البخاري ج 5 ص 110

إن الألى قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبَيْنا

ص: 55

والأستاذ شاكر وعروضي؛ فكيف فاته أن صواب البيت الأول:

(لا هُمَّ لولا أنت ما اهتدينا) ونداء اسم الجلالة بهذا الشكل وارد في كتب العرب. وكيف فاته أن البيت الثالث صوابه هكذا:

(إن الأُلى لقد بغوا علينا) أو (إن الذين قد بغوا علينا) ليستقيم الوزن الرجزي الذي كثيراً ما سمع عن رسول الله في الغزوات كقوله:

هل أنتِ ألا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيتِ

2 -

في صفحة 224 (وما منهم ألا ابن خمس عشرة سنة) بكسرة على السين في خمس وهو خطأ مطبعي.

3 -

وفي الصفحة نفسها (وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف) برفع ثلاثة والصحيح نصبها.

4 -

في صفحة 248 (رفاعة بن سموأل) وقد حذف ألف ابن مع وقوعها في أول السطر، والصحيح إثباتها جرياً على المشهور من قواعد الإملاء. وقد كرر هذا الوهم نفسه في صفحة 250 - إلا أنه تجُنِّب في بقية الصفحات.

5 -

في صفحة 297 (فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخُفضهم). والضمة على الخاء لا محل لها هنا والصواب جعلها فتحة.

6 -

في الصفحة 329 (واستشهد بخيبر خمسةُ عشر رجلاً) بضمة على التاء المربوطة من خمسة والصواب فتحها لبناء هذا العدد على فتح الجزأين.

7 -

في صفحة 401 (من هو زان) وقد زادها الشارح للبيان. ولعلها (هوزان).

وبعد: فهذه هنوات لا تقلل من قيمة المجهود الذي بذله الأخ الكريم الأستاذ محمود شاكر في إمتاع الأسماع. ولعلها وردت ليصح قول القائل:

ما كان أحوج ذا الكمال إلى

عيب يوقِّيه من العين

محمد عبد الغني حسن

ص: 56