الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 413
- بتاريخ: 02 - 06 - 1941
المال
للأستاذ عباس محمود العقاد
قال الدكتور زكي مبارك في حديثه عن الفقر والغنى، ولا نهاية لحديث الفقر والغنى، ولا الفقر والغنى ينتهيان من الدنيا:
(. . . لن أقول كلمة في الوارثين بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لإنعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعاً أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال)
ورأيي في الميراث أنه حق وعدل، وأن المذاهب الاجتماعية، التي تحرمه تجور على الآباء والأبناء، ولا تتحرى سنن الطبيعة فيما جرت عليه بين جميع الأحياء، لأن المجتمع لا يستطيع أن يحول بين الأب وبين توريث أبنائه ما اشتمل عليه من عيوب الخلق والفكر ومن دمامة الوجه وشوه الجسم وضعف التركيب؛ فليس من العدل أن يحول بينه وبين توريثهم الخير أو نصيباً من الخير، وإن كان عدلاً أن تفرض للمجتمع حصة وافية من ذلك النصيب
كذلك تجري الطبيعة على سنة الوراثة في جميع السلالات، وهي سنة أعرق من المجتمعات الإنسانية وغير الإنسانية، ولم تنشأ عبثاً ليلغيها الإنسان كل الإلغاء بقانون أو نظام
لكنني أخالف الدكتور في قوله إن الميراث لو عطل (لآثر الناس جميعاً أن تكون مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. . .)
فإن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء، وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة، وهو على يقين أنه لن يخلف لأبنائه زاداً من علومه ودروسه إلا ما يخلف المعلمون للمتعلمين، وقد يفوتهم منه حتى هذا النصيب
وبين طلاب المال من بلغ أرذل العمر وليس له عقب ولا هو ممن يبسطون الكف بالإنفاق
فيخشى نفاد ماله الكثير، ومنهم من لو بسط يده بالإنفاق عشرات السنين لما خشي على ماله النفاد
أعرف رجلاً له نظراء كثيرون كان يملك القصور ويدخر الأموال في المصارف، وله معاش لا ينقطع من خزانة الحكومة، وهو مع هذا يبخل على نفسه بالقليل ويعيش معيشة الفقراء، ويراه الحوذية في الطريق فيهربون منه لأنه يأبى أن ينقدهم الأجر إلا على حساب ما تعود قبل أربعين أو خمسين سنة يوم كان للمليم سعر القرش في هذه الأيام. وأعجب العجب أن هذا الرجل الشحيح كان مجدوداً في أوراق المصارف التي يناط بها النصيب فكان يربح جوائزها الأولى من حين إلى حين. وحدث مرة أن وكيله تسلم جائزة من هذه الجوائز وأخر إيداعها المصرف الذي يعاملونه بضعة أيام، فلما راجع الغني الشحيح حسابه قطع أرباح الجائزة في هذه الأيام القليلة من مرتب الوكيل المسكين، وهو شيء يبذله من يربح مثل هذه الجائزة هبة لمن يحمل إليه بشارتها ولا يندم عليه
ولم يكن لهذا الرجل عقب ولا كان له مطمع في العيش الطويل بعد السن التي ارتفع اليها، ولكنه يطلب المال لأن طلب المال شهوة لا يشترط أن تتعلق بالإنفاق والتوريث
ولو نظر الناس إلى الواقع في أمر الورثة لما حرصوا على ترك المال بعدهم للأبناء والأحفاد؛ فإن أبناء الفقراء الذين عاشوا في الدنيا عيشة راضية بغير ميراث يبلغون أضعاف الوارثين عدة سواء ورثوا الكثير أو القليل، وأن الذين أشقاهم الميراث لا يقلون عن الذين سعدوا به وحفظوه أو زادوا عليه، وأن الذين يموتون وهم خائفون من تبديد أبنائهم لثروتهم أكثر جداً من الذين يموتون وهم مطمئنون إلى حسن التصرف ودوام الحال
كان العلامة يعقوب صروف طيب الله ثراه يوصيني كلما لقيته أن أدخر وأن أحسب حساب المال والثراء، وكأنه أنس مني التواني في الإصغاء إلى هذه النصيحة فروي لي حديثاً جرى بينه وبين تاجر من كبار التجار السوريين العصاميين رآه مشغول البال معنى بما يخشاه على ثروته وأبنائه بعد موته من تقسيم وبوار. قال: وهكذا الدنيا دواليك بين جيل عصامي يجمع، وجيل عظامي يضيع ما جمعه الآباء، ويأتي بالمعذرة لمن يتركون الأبناء فقراء ناشطين في طلب الجاه والثراء
قال العلامة صروف: ومنذ أيام طرق علينا الباب أبناء صاحب من أصحابنا مات فجأة
وليس في الدار ما يشيعونه به إلى لحده؛ وكان هذا الصاحب مفراحاً، يأكل ما يشتهي، ويلبس الفاخر من الثياب، ويطعم أبنائه أحسن مطعم، ويكسوهم أجل كسوة، ويقضي سهراته بينهم ضاحكاً متهللاً على صينية من الحلوى أو الفاكهة، وهو لا يشغل باله لحظة بما يكون، ولا يبالي بعد موته ما يأكلون ويشربون. فأي الأبوين أسعد؟ وأي الأبناء أحظى بحسن المصير؟
وهذا السؤال الذي سأله الدكتور صروف سيظل أبد الزمان مسؤولاً يجيبه من يشاء كما يشاء؛ ولكنه جواب لن يجعل المفراح مشغولاً بتوريث أبنائه، ولا المشغول بتوريث الأبناء مفراحاً ينعم بالحاضر ولا يعني نفسه بالغيب المجهول.
فخديعةٌ من خدائع النفس أن تعلل حرصها على المال بحب الأبناء، ولو كان حبٌ مانعاً أن ينفق الإنسان كل ما عنده لكان حبه لنفسه وخوفه على غده أحرى أن يمنعه ويقبض يديه، ولكنها خديعة النفس كما نقول تتراءى لها في مختلف الذرائع والتعلات.
إنما تفسِّر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات. وإذا قيل لنا إن فلاناً يجمع المال لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره!! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات التي قد يتفقون عليها من جانب التأمل والتفكير.
المال يطلبه الإنسان لباعث قبل أن يطلبه لغاية، ومن بواعث طلبه الخوف والمنافسة والطموح وحب الكسب للكسب كما يفرح اللاعب بالرهان الذي ليس من ورائه طائل، وهنا موضع التحذير للمصلحين الذين يعالجون مسألة الغنى والفقر على أساس الأرقام والقواعد الاقتصادية ويغفلون علاجها على أساس الشعور والبواعث النفسية. فأنت إذا أعطيت الفارس قصبة السبق قبل دخوله الميدان لم ترحه ولم تعطه ما يريد؛ وإذا منعت المتنافسين أن يتنافسوا لأنك ضمنت الرزق لأبنائهم أو ضمنت الأمان لهم في عقباهم لم تستأصل أسباب التنافس ولم تعطهم الحياة التي جعلتهم يتنافسون.
إنما الواجب أن ندع الناس يطلبون المال كما يطلبون العلم أو يطلبون الجاه أو يطلبون السرور أو يطلبون الفرص النادرة والمقاحم المجهولة، وليس علينا أن نسألهم لماذا يطلبونه، وإنما علينا أن نمنعهم إنفاقه فيما يضير الآخرين، فغاية ما يحق للمجتمع في هذا
الصدد أن يحرم الغش والجور وتخويل أناس بغير حق ما يحرمه غيرهم من العاملين.
كان أوليفر لودج عالماً رياضياً من الطراز الأول، وكانت له بحوث مشهورة في مخاطبة الأرواح وما وراء المادة، وربما انصرف أحياناً من الرياضيات والروحيات إلى المباحث الاجتماعية وشؤون الثروة والسياسة، ولكنه كان يأتي فيها إذا انصرف إليها بمقطع الرأي وفصل الخطاب، لأنه بعيد من الهوى والتشيع لهذا المذهب أو ذاك. . . فمن نصائحه في هذا الباب أن تتولى الدولة مراقبة المال كما تتولى مراقبة السلاح، لأن الخطر من سوء استخدام المال لا يقل عن الخطر من سوء استخدام السلاح، وربما ظهرت جريمة السلاح بعد اقترافها بقليل ولقي صاحبها من الجزاء ما فيه عبرة لغيره؛ أما جريمة المال فقد ينقضي العمر وهي خافية؛ وقد يقترفها أناس بعيدون من الشبهات لأنهم ليسوا من حثالة الخلق الذين يعتدون بالخناجر والمسدسات.
فإذا وجبت مراقبة المال في أيدي المسيطرين به على سواد الناس، فمن الواجب أن تكون الرقابة على النحو الذي قصد إليه الرياضي الكبير، ولا سيما في العصر الذي أصبح المال فيه مرادفاً لمعنى الثقة والائتمان. فلا يجوز في هذا العصر أن توضع الثقة الاجتماعية في أيدي أناس يعبثون بها جهرة أو خفية، ولا يجوز إذا هي وضعت في بعض الأيدي أن تترك هملاً بغير رقابة أو حيطة أو بغير علم بما تتجه إليه وتجري فيه.
وهنا نسأل: ما هي حدود الرقابة الاجتماعية على سيطرة الأموال في أيدي الأفراد أو الجماعات التي تسوس أموال الأفراد؟
وجواب هذا السؤال أن الرقابة الوحيدة الممنوعة هي الرقابة التي تشل الدوافع النفسية والبواعث الحيوية وتخرجها في نظامها مخرج الجهود الآلية والأرقام الحسابية، فإن المجتمع الإنساني لن يكسب شيئاً من تنظيمه النفوس تنظيم الآلات التي تتحرك بأمر وتسكن بأمر ولا تتخطى ما يرسم لها من الخطوط والغايات.
فللمجتمع أن يراقب المال وأن يأخذ نصيبه منه للمصلحة الاجتماعية التي يشترك فيها الأغنياء والفقراء، ولكن ليس للمجتمع أن يمسخ الطبيعة ويجور على حركات النفوس وبواعث الحياة، لأنه يتعرض بالقوانين لأمر لم تخلقه القوانين، ويأخذ ما ليس في وسعه أن يرده أو يعوضه بمثله.
عباس محمود العقاد
أشعار ابن النحاس
للدكتور زكي مبارك
حياة أبن النحاس - الحياة بلا عمل تحجب الأديب عن فهم الجوانب الجدية من الحياة - تأثير الأفيون في هدم أبن النحاس، وكان في صباه أجمل ما رأت العيون - أشعاره في البكاء على جماله الذاهب - أيامه في دمشق والقاهرة والمدينة - قصائده الباقيات - أشعاره في (شرب الدخان) - شعوره بالمعاني المنقولة عن القدماء
1 -
فَتحُ الله بن النحاس شاعرٌ نشأ في حلب في أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن الحادي عشر، فقد سكتت المصادر عن العام الذي وُلد فيه، واكتفت بالنص على أنه مات بالمدينة ليلة الخميس ثاني عشر صَفر من شهور سنة اثنتين وخمسين ألف.
2 -
وسكتت المصادر أيضاً عن حياته العملية، فلم نعرف كيف كان يعيش، ولكنا فهمنا من سياق القول أنه أقام مدة في حلب، ومدة في دمشق، ومدة في القاهر، ومدة في المدينة؛ فعرفنا أنه شاعر لم تكن تربطه ببلده أو غير بلده رابطة معاشية، ولذلك تأثيرٌ في صبغ وجوده بصبغة الرجل الهائم في بيداء الوجود.
3 -
والواقع أن هذه الحال كانت مألوفة في حيوات الشعراء، ولكن ابن النحاس فيما يظهر أسرف في اعتزال الناس والبعد عن طلب المعاش، لينجو بنفسه من آثام الخلق، وليعفي كاهله من حمل أثقال العيش المنظم، وهي أثقال لا يتصدى لحملها غير أقوياء الرجال، ولهذا رأيناه يتزيا بزيِّ الزهاد ويعيش عيش الدراويش من الفقراء مع الترفع عن قبول الإحسان؛ فقد كانت لهذا الرجل فِطرة سليمة تصده صداً عن المكسب الرخيص، وتسوقه إلى صف المتعففين من أتباع التصوف الصحيح.
4 -
فكيف كانت البداية وكيف كانت النهاية لهذا الشاعر الرقيق؟
كان ابن النحاس في صباه غاية في روعة الجمال، وكانت صباحة وجهه أعجوبة الأعاجيب؛ فكان معاصروه يتوهمون أنه لم يُخلق إلا ليكون دُمية في قصر، أو زهرة في بستان، ولكنه صان نفسه عن مواطن الشبهات، فاعتزل الناس ليسلم شبابه وجماله من إفك القال والقيل في زمن لا يسلم فيه أهل الجمال من بغي الأقاويل والأراجيف.
نجا ابن النحاس من شر معاصريه فصار مثالاً للجمال المصون، ولكنه لم ينج من شر
نفسه، والنفس في بعض الأحيان أعدى الأعداء!
فماذا صنع بنفسه، أو ماذا صنعت به نفسه، حتى نزل من الشرف إلى الحضيض؟
أقبل ابن النحاس على تعاطي (الكيف)، والكيف الذي كان يتعاطاه هو (الأفيون)، وقد هده الأفيون في شهور أو أعوام، فأمسى جماله طللاً من الأطلال، ولم يكن يحسب لجهله وغفلته أن الجمال دولةٌ تدول.
فإن رأيتم شاعراً يبكي شبابه الذي ضاع، فاعرفوا أن ابن النحاس كاد يتفرد بالبكاء على الجمال الذي ضاع، وما أضاع جمال هذا الشاعر غير الابتلاء بكيف الافيون، وهو كيف أتى على بناء هذا الشاب الجميل من الأساس، ولننظر كيف يقول:
من يدخل الأفيون بيت لهاتهِ
…
فليلق بين يديه نقد حياته
وإذا سمعتم بامرئ شرب الردى
…
عزّوه بعد حياته بمماته
ما شأنه وحشاه يؤوى أرقماً
…
لا يستفيق الدهرَ من وثباته
وهذا الشاعر الذي يرى الأفيون ثعباناً لا تنقطع وثباته الفواتك على الأحشاء هو الشاعر الذي رثي صباه فقال في تصوير ماضيه لعهد الجمال، يوم كان في مثل عمر البدر، ويوم كانت لفتاته لفتات الظبي بين أزهار الرياض:
ونراه إن عبث النسيم بقدِّه
…
ينقدَّ شروى الغصن في حركاته
وإذا مشى تيهاً على عشاقه
…
تتفطر الآجال من خطراته
يرنو فيفعل ما يشاء كأنما
…
مَلكُ المنية صال من لحظاته
حُسْنٌ ولا كيفٌ يخالط ذاته
…
والآن صار الكيف بعض صفاته
والكيف حقدٌ إن تشبث بامرئ
…
لم يَبْق للرائين غير سِماته
وهو الشاعر الذي أرخ جماله الذاهب فقال:
سقى المزنُ أقواماً بوعساء رامةٍ
…
لقد قُطِّعتْ بيني وبينهم السُّبْلُ
وحيا زماناً كلما جئت طارقاً
…
سليمي أجابتني إلى وصلها جُمل
تودّ ولا أصبو وتوفى ولا أفى
…
وأنأى ولا تنأى وأسلو ولا تسلو
إذِ الغُصنُ غصٌ والشباب بمائه
…
وجيد الرضا من كل نائبةٍ عطل
ومن خشية النار التي فوق وجنتي
…
تقاصرَ أن يدنو بعارضيَ النمل
فهل يرى أن نار وجنته أخافت نمال الشعر حيناً من الزمان فظل أمرد، أسيل الخدين، إلى أن ابتلته المقادير بالأفيون فأمسى جماله تاريخاً من التواريخ
والجمال حلة نفيسة يرفعها الله عمن يجهل قدرها الرفيع، وكذلك كان حظ الشاعر الذي أضاعه الجهل بنعمة الله عليه فلم يؤد زكاة الجمال، وهي الابتعاد عما يوهن الجسم ويشل الروح.
ثم ماذا؟ ثم رحل الشاعر عن الوطن الذي نشأ فيه وهو حلب، بعد أن فضحه الافيون، الافيون الذي أصار جماله رسماً من الرسوم وطللاً من الأطلال.
5 -
وإلى أين؟ إلى دمشق، وهي مدينة سمعت باسمه قبل أن يحل ساحتها الفيحاء، فأقام بها ما أقام بين أيام بيض وأيام سود؛ فقد كان فقيراً لا يتبلغ بغير ما يجود به أهل الأدب، وكانوا في أغلب أحوالهم فقراء.
ومن دمشق انتقل إلى القاهرة فاتصل بالسادة البكرية، وكانوا كراماً أجاويد، لا يشعر بينهم بالغربة رجلٌ أديب، وكانت حفاوتهم بالأدباء الوافدين من الشام مضرب الأمثال.
ويظهر أن أيام ابن النحاس بالقاهرة لم تخل من رخاء، فقد اتصل بالقضاة والأعيان، واتصل به الأمل المعسول فمدح سنجق منفلوط، ومعنى ذلك أنه عرف كيف ينتفع بوداد المصريين، وكانوا في ذلك العهد يرعون حقوق الغرباء من أهل الأدب والبيان.
ثم امتدت السن بالشاعر الذي كان له ماض في الجمال فرأى أن ينتقل إلى المدينة ليعيش عيش المجاورين، وهو عيش يليق بمن يلبس ثوب الحداد على جماله الذاهب ذهاب البرق اللامع في أجواز السماء.
وفي المدينة مات، وقد دفن في بقيع الفرقد، بجوار الأكابر من رجال الأدب والدين، فعليه رحمة الله، وألف سلام على روحه الجميل!!
6 -
ولكن أين مكان ابن النحاس بين الشعراء؟
لا تظنوه شاعراً من طبقة أبي تمام أو البحتري أو المتنبي أو الشريف الرضي، فبينه وبين أمثال هؤلاء مسافات أعرض من الصحراء.
ولكنه شاعر من طبقة ابن زريق، وما عاش ابن زريق إلا بقصيدة واحدة هي العينية التي سارت مسير الأمثال.
وكذلك عاش ابن النحاس بقصيدة أو قصيدتين، ومن لم يعرف ابن النحاس في معانيه القلائل وهي نوادر فليس بأهل للانتساب إلى دوحة الأدب الرفيع.
والذي يجهل ابن زريق وابن النحاس لا يقل حمقاً عن الذي يجهل ابن النبيه صاحب هذا البيت
إذا نشرتْ ذوائبه عليه
…
حسبتَ الماء رفَّ عليه ظِلُّ
فما فرائد ابن النحاس؟
الفريدة الأولى هي الحائية
بات ساجي الطرف والشوق يُلحُّ
…
والدجا إن يَمض جُنحٌ يأت جُنحُ
يقدح النجم لعيني شرراً
…
ولزند الشوق في الأحشاء قدح
لست أشكو حرب جفني والكرى
…
لم يكن بيني وبين الدمع صلح
إنما حال المحبين البكا
…
أيُّ فضل لسحاب لا يسُّح
يا نداماي وأيام الصبا
…
هل لنا رجع وهل للعمر فسْح
صبَّحتك المزن يا دار اللوى
…
كان لي فيك خلاعات وشطح
حيث لي شغلٌ بأجفان الظبا
…
ولقلبي مرهمٌ منها وجرح
كل عيش ينقضي ما لم يكن
…
مع مليح ما لذاك العيش مِلح
وبذات الطلح لي من عالج
…
وقفة أذكرها ما اخضل طلح
يوم منا الركب بالركب التقى
…
وقضى حاجته الشوق الملح
لا أذمُّ العِيسَ، للعيس يدٌ
…
فلا تلاقينا وللأسفار نجح
قرَّبتْ مِنا فماً نحو فمٍ
…
واعتنقنا فالتقى كشحٌ وكشح
وتزودتْ الشذى من مرشف
…
بفمي منه إلى ذا اليوم نفح
وتعاهدنا على كأس اللمى
…
إنني ما دمت حياً لست أصحو
يا ترى هل عند من قد ظعنوا
…
إن عيشي بعدهم كدٌ وكدح؟
كنت في قرْح النوى فانتدبت
…
من مشيبي كربة أخرى وقرح
كم أداوي! القلب قلت حيلتي
…
كلما داويت جرحاً سال جرح
ولكَمْ أدعو وما لي سامعٌ
…
فكأني عندما أدعو أُبَحُّ
وأنفاسه في هذه الحائية تذكر بأنفاسه في الحائية الثانية
تذكر السفح فانهلت سوافحه
…
وليس يخفاك ما تخفى جوانحه
صدع الهوى يا عذولي غير ملتئم
…
يدريه بالبان من أشجاه صادحه
فهذه القصيدة من ذخائر الأدب العربي ولا ينكر قيمتها إلا غافل أو جهول، وهي مقدودة من روح الشاعر، وليس فيها بيت إلا وهو صورة من أقباس وجده المشبوب.
وهل في الدنيا أديب عربي لا يحفظ هذا البيت:
كم أداوي القلب قلَّتْ حيلتي
…
كلما داويت جرحاً سال جرح
أما الفريدة الثانية فهي العينية
رأى اللوم من كل الجهات فراعه
…
فلا تنكروا إعراضهُ وامتناعهُ
ولا تسألوني عن فؤادي فإنني
…
علمتُ يقيناُ أنه قد أضاعه
له الله ظبياً كل شيء يَرُوعهُ
…
ويا ليت عندي ما يزيل ارتياعه
ويا ليته لو كان من أول الهوى
…
أطاع عذولي واكتفينا نزاعه
فما راشنا بالسوء إلا لسانُهُ
…
وما خرب الدنيا سوى ما أشاعه
فأصبح من أهوى على فيه قُفلة
…
يُكتم خوف الشامتين انفجاعه
وآلى على أن لا أقيم بأرضه
…
واحرمني يومَ الفراق وداعه
فرحت وسيري خطوة والتفاتة
…
إلى فائت منه أُرجى ارتجاعه
ذرعت الفلا شرقاً وغرباً لأجله
…
وصيرت أخفاف المطيِّ ذراعه
فلم يبق بَرٌ ما طويت بساطه
…
ولم يبق بحرٌ ما رفعت شراعه
كأني ضميرٌ كنت في خاطر النوى
…
أحس به واشي السُّرى فأذاعه
أخلاي من دار الهوى زارها الحيا
…
ومد إليها صالح الغيث باعه
يعيشكم عوجوا على من أضاعني
…
وحيوه عني ثم حيوا رباعه
وقولوا فلان أوحشتنا نِكاتهُ
…
وما كان أحلى شعره وابتداعه
فتىً كان كالبنيان حولك واقفاً
…
فليتك بالحسنى طلبت اندفاعه
أبحت العدا سمعاً فلا كانت العدا
…
متى وجدوا خرقاً أحبوا اتساعه
فكنت كذي عبدٍ هو الرجل والعصا
…
تجنَّى بلا ذنب عليه فباعه
لكل هوىً واش فإن ضُعضع الهوى
…
فلا تلم الواشي ولم من أطاعه
وقولوا رأينا من حمدتَ افتراقه
…
ولم ترنا من لم تذم اجتماعه
وما كنتما إلا يراعاً وكاتباً
…
فملَّ وألقى في التراب يراعه
فإن أطرق الغضبان أو خط في الثرى
…
فقولوا فقد ألقى إليكم سماعه
وبالله كفوا إن تمادى فإنه
…
رقيق حواشي الطبع أخشى انصداعه
وإن نصب الشكوى عليَّ فسابقوا
…
وقولوا: نعم، نشكو إليك طباعه
وإن رام سبي فاحدثوا لي معايباً
…
وسباً بليغاً تحسنون اختراعه
وهنوا رقيبي بالرقاد فطالما
…
جعلت على جمر السهاد اضطجاعه
ولا تحسدوا وداين يومين عنده
…
فإن حبيبي تعلمون خداعه
ودوروا على حكم الغرام فإنه
…
قضى لظاه أن تهين سباعه
ضعيف الهوى من بات يشكو زمانه
…
وأضعف منه من يرجِّى اصطناعه
ولو علم المشتاق عقبى اتصاله
…
لآثر بين العاشقين انقطاعه
ومن طلب الأحباب حرصاً على البقا
…
فما رام بين الناس إلا ضياعه
فهذه القصيدة من آيات الشعر العربي. ومن غرائبها هذا البيت:
لكل هوى واشٍ فإن ضُعضِع الهوى
…
فلا تلم الواشي ولُمْ من أطاعه
وهذا البيت:
ولو علم المشتاق عقبى اتصاله
…
لآثر بين العاشقين انقطاعهُ
والقصيدة في جملتها روحٌ مضرَّج بالدم، وإن بدت للغافل في صورة الحديث المعاد
7 -
وتجيء بعد ذلك مقتطفات من شعره الرقيق؛ ولكن أين تلك المقتطفات؟
كنت أرجو أن أجد شواهد كثيرة على شاعرية ابن النحاس مما انتثر في أثناء قصائده من الأبيات الفرائد؛ ثم صَعُب عليَّ تحقيق ما رجوت؛ فقد راجعتُ الديوان مرات ومرات ولم أظفر بما أريد.
فهل يكون من الخير أن أشير إلى أن له بيتين في (الدُّخان) لا يزال معناهما على ألسنة الناس في مصر إلى هذا العهد؟ ابن النحاس يقول:
وأرى التولع بالدخان وشربه
…
عوناً لكامن لوعة الأحشاء
فأُديم ذلك خوف إظهار الجوى
…
وأشوبه بتنفس الصُّعَداء
وهو معنى لطيف، فهو يستر بدخان التبغ دخان القلب، حتى لا يفتضح بين الرقباء.
وقد يداوي ناراً بنار، كأن يقول:
عكفت على شرب الخان وفي الحشا
…
لهيب جوىً فازددت جمراً على جمر
وقلت أداوي نار قلبي بمثلها
…
(كما يتداوى شارب الخمر بالخمر)
وكان التدخين في تلك الأيام مما يعاب؛ فقد كان مفهوماً عند أهل مصر أنه من أهواء العبيد. ولهذا شواهد قد نرجع إلى سردها بعد حين!
8 -
أين شاعرية ابن النحاس بعد الحائية والعينية؟ أين؟ أين؟
لم يرضني شعر ابن النحاس من الوجهة الفنية، ولكني مع ذلك أجده شاعراً في جميع معانيه، وإن كان أكثرها منقولاً عن الشعراء القدماء؛ فهو في رأيي يعني ما يقول، وإن ضعُف عن مقارعة الفحول.
تلك ومضة من الشاعرية تألقت حيناً ثم خَبَتْ، كما تألق جمال صاحبها لحظة ثم خبا، وقد حقت في هذا الشاعر كلمته في مصيره فأصبح تاريخاً من التواريخ، وهل من القليل أن يمسي الرجل وله تاريخ؟!
9 -
على أن من الظلم أن نحكم بأن ابن النحاس لم يجد في غير الحائية والعينية، وكيف وهو صاحب هذا القصيد:
عطف الغصنُ الرطيبُ
…
وتلافانا الحبيب
أضمر الدهر لنا الصُّل
…
ح فلم يبق غُضوب
زار والعرَف له من
…
نفسَ الصبح هبوب
يظهِر البث وأولى
…
منه بالبث الكئيبُ
كل عضوٍ منه في الحس
…
ن عن الوجه ينوب
أيَّ عضو تسرح الألحا
…
ظ فيه وتؤوب
أنا والقلبُ إذا لا
…
حَ سليبٌ وكسيبُ
بأبي جَنة وصلٍ
…
منه ما فيها لغوب
بات يدعوني بها طو
…
راً وطوراً يستجيب
والمنى نقلٌ ومن ند
…
ماننا كأسٌ وكوب
أيها العشاق محزو
…
نُ الهوى مني طرُوبُ
أيَّ وقتٍ ليس تنشقُّ
…
قلوبٌ وجيوبُ
إنما يمرح بي في
…
لجة العشق لعوبُ
والذي يهجر في الحبِّ
…
للاحيه نسيب
ما على مَن سرهُ الوص
…
لُ إذا غِيظَ الرقيب
رنة القوس لرامي
…
ها وللغير النُّدوب
حسراتي هي دمعي
…
ولها قلبي قليبُ
ليس لي مالٌ ولكن
…
ذَهبٌ قولي صبيبُ
من بني جنسي ولكني
…
مع الغزلان ذيبُ
كلَّ يومٍ لي صلاحٌ
…
بخلاعاتٍ مشوبُ
ومتى أمكنت الفر
…
صة أجني وأتوب
في الهوى صح اجتهادي
…
فأنا المحظي المصيب
هذه حالي وأحوا
…
لُ بني العشق ضروب
وقد نجد لابن النحاس أطايب كثيرة إذا سايرناه بتلطف وترفق، فليكتف القارئ بهذه اللمحات، فإن المقام لا يسمح بالإطناب.
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
تجردها من الإعراب
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 3 -
تمتاز اللغة العربية بأنها أوسع أخواتها السامية جميعاً وأدقها في قواعد الصرف والنحو.
فمن مميزاتها الصرفية أن الأصل الواحد يتوارد عليه مئات من المعاني بدون أن يقتضي ذلك أكثر من تغيير في حركات أصواته الأصلية نفسها مع زيادة بعض أصوات عليها أو بدون زيادة، وأن كل ذلك يجري وفق قواعد مضبوطة دقيقة نادرة الشذوذ (عَلم، علِمنا. . . يَعلم، نعلم. . . إعْلم، إعلمي. . . أعلم، نعلَم. . . عَلّم، نُعلِّم. . . تَعلّم. . . تَعالَم. . . عُلم، يُعلَم. . . عِلمٌ، علم، علامة، علوم، أعلام، علامات، عالم، عليم، علامة، علماء، عالِمون. . . متعلِّم، متعلّم، معلَم، معلّم، معلِّم، معلوم، عالَم، عالَمون. . . الخ). ولم تصل أية لغة سامية أخرى في هذه الناحية إلى هذا الشأو. . . ومن ذلك أيضاً نظام جمع التكسير الذي لا تشاركها فيه إلا أختها الجنوبيتان (اليمنية القديمة والحبشية)؛ فقد توسعت هي في استخدامه توسعاً كبيراً، حتى أصبح للمفرد الواحد فيها عدة جموع من هذا النوع
ومن مميزاتها النحوية تلك القواعد الدقيقة التي اشتهرت باسم قواعد الإعراب، والتي يتمثل معظمها في أصوات مد قصيرة تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة. وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية، اللهم إلا بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية والآرامية والحبشية.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه القواعد المتشعبة الدقيقة، وخاصة قواعد الإعراب، لم تكن مراعاة إلا في لغة الآداب شعرها وخطابتها ونثرها؛ أما لهجات الحديث فكانت من أقدم عصورها غير معربة، أو على الأقل لم يكن لقواعد الإعراب فيها ما كان لها في لغة الآداب من شأن، واستدل على رأيه هذا بأدلة كثيرة أهمها دليلان:
أحدهما دليل لغوي يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدد دراسته، وهو أن جميع اللهجات العامية المتشعبة عن العربية والتي تستخدم الآن في الحجاز ومصر والعراق والشام وبلاد المغرب مجردة من الإعراب كما ذكرنا ذلك في المقال الأخير. فلو كانت لهجات المحادثة العربية القديمة معربة لا تنقل شيء من نظامها هذا إلى جميع اللهجات أو إلى بعضها.
وثانيهما دليل منطقي عقلي وهو أن قواعد هذا شأنها في التشعب والدقة وصعوبة التطبيق وما تتطلبه من الانتباه وملاحظة عناصر الجملة وعلاقتها بعضها ببعض، لا يعقل أنها كانت مراعاة في لهجات الحديث؛ لأن لهجات الحديث تتوخى في العادة السهولة واليسر وتلجأ إلى أقرب الطرق للتعبير.
بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فزعم أن هذه القواعد لم تكن مراعاة في لهجات الحديث ولا في لغة الكتابة، وإنما خلقها النحاة خلقاً قاصدين بذلك تزويد اللغة العربية بنظم شبيه بنظم اللغة الإغريقية حتى يكمل نقصها في نظرهم وتسمو إلى مصاف اللغات الراقية، ويعتمد هؤلاء في تأييد هذا المذهب على نفس الدليلين اللذين اعتمد عليهما الفريق الأول مع توجيههما وجهة تتفق مع ما يذهبون إليه. وعلى دليل ثالث خلاصته أن قواعد هذا شأنها تشعباً ودقة لا يعقل أن تكون قد نشأت من تلقاء نفسها؛ ولا يمكن لعقليات ساذجة كعقليات العرب في عصورهم الأولى أن تقوى على خلقها. فهي تحمل آثار الصنعة الدقيقة المحكمة، ويبدو عليها طابع من عقلية المدارس النحوية التي ظهرت في العهود الإسلامية بالبصرة والكوفة وما إليهما.
وقد تبين فساد هذين المذهبين لجميع المحققين من الباحثين؛ حتى لأكثرهم تحاملاً على الساميين، وأشدهم ولوعاً بالانتقاص من حضارتهم ولغاتهم كالأستاذ رينان الفرنسي. واليك طرفاً من الأدلة التي لا تدع مجالاً للشك في فسادهما:
1 -
إن عدم وجود هذه القواعد في اللهجات العامية الحاضرة، لا ينهض دليلاً على أنها لم تكن موجودة في العربية الأولى، فقد انتاب أصوات اللغة العربية وقواعدها في هذه اللهجات كثير من صنوف التغيير والانحراف، وخضعت لقوانين التطور في مفرداتها وأوزانها ودلالاتها، فبعدت بعداً كبيراً عن أصلها، كما تقدم بيان ذلك بتفصيل في المقالين السابقين.
2 -
وليس بغريب أن تتفق اللهجات العامية جميعاً في التجرد من علامات الإعراب، فقد خضعت لقانون من قوانين التطور الصوتي، وهو (ضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة وانقراضها)، وهو قانون عام قد خضعت له جميع اللغات الإنسانية في تطورها؛ فما كان يمكن أن تفلت منه لهجة من اللهجات العامية المتشعبة عن العربية، كما تقدم الكلام عن ذلك في المقالين السابقين.
3 -
على أنه قد بقي في اللهجات العامية الحاضرة كثير من آثار الإعراب وخاصة الإعراب بالحروف، فيقال مثلاً في عامية المصريين وغيرهم (أبوك وَّأخوك)، لا (أبك) و (أخك)؛ وينطق بجمع المذكر السالم مع الياء والنون (الطيبين، المؤمنين الخ. . .)؛ وفي معظم لهجات العراق في العصر الحاضر ينطق بالأفعال الخمسة مثبتة فيها نون الإعراب: (يمشون، تمشين، تمشون. . .)؛ وروى كثير من الباحثين أن آثار الإعراب بالحركات لا تزال باقية في لهجات بعض القبائل الحجازية في العصر الحاضر.
4 -
يستفاد من كثير من كتب التاريخ، وخاصة كتب أبي الفداء أن بعض علامات الإعراب ظلت باقية في بعض لهجات المحادثة المتشعبة عن العربية حتى أواخر العصور الوسطى.
5 -
إن دقة القواعد وتشعبها لا يدل مطلقاً على أنها مخترعة اختراعاً. فاليونانية واللاتينية مثلاً في العصور القديمة والألمانية في العصر الحاضر، يشتمل كل منها على قواعد لا تقل في دقتها وتشعبها عن قواعد اللغة العربية، ولم يؤثر هذا في انتقالها من جيل إلى جيل عن طريق التقليد، ولا في مراعاتها في الحديث، ولم يقل أحد أنها من خلق علماء القواعد.
6 -
أن خلق القواعد خلقاً محاولة لا يتصورها العقل، ولم يحدث لها نظير في التاريخ، ولا يمكن أن يفكر فيها عاقل أو يتصور نجاحها؛ فمن الواضح أن قواعد اللغة ليست من الأمور التي تخترع أو تفرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها وتتكون بالتدريج.
7 -
إن علماء القواعد العربية لم يكونوا على علم باللغة اليونانية وقواعدها، ولم تكن لهم صلة ما بعلماء القواعد من الإغريق. هذا إلى أن قواعد اللغة العربية تختلف في طبيعتها ومناهجها اختلافاً جوهرياً عن قواعد اللغة اليونانية. فلو كانت قواعد العربية قد اخترعت على غرار القواعد اليونانية كما يزعمون لجاءت متفقة معها، أو على الأقل مشبهة لها في
أصولها ومناهجها.
8 -
يدلنا التاريخ أن علماء البصرة والكوفة كانوا يلاحظون المحادثة العربية في أصح مظاهرها ويستنبطون قواعدهم من هذه الملاحظة؛ وأنهم كانوا لا يدخرون وسعاً في دقة الملاحظة واتخاذ وسائل الحيطة؛ حتى أنهم ما كانوا يثقون بأهل الحضر لفساد لغتهم، ولا بالقبائل التي احتكت ألسنتها بلغات أجنبية كلخم وجذام وقضاعة وغسان وأياد وبكر وأزدعمان وأهل اليمن؛ وأنهم كانوا يبذلون في سبيل ذلك من وقتهم وجهودهم شيئاً كثيراً، فكانوا يرحلون إلى الأعراب في باديتهم ويقضون عندهم الشهور بل السنين؛ وعلماء هذا شأنهم دقة واحتياطاً وإخلاصاً للعلم لا يعقل أن يتواطئوا جميعاً على مثل هذا الإفك المبين.
9 -
وإذا أمكن أن نتصور أن علماء القواعد تواطئوا جميعاً على ذلك، فإنه لا يمكن أن نتصور أنه تواطأ معهم عليه جميع العلماء من معاصريهم، فأجمعوا كلمتهم ألا يذكر أحد منهم شيئاً ما عن هذا الاختراع الغريب. ولا يعقل أن يقبل معاصروهم هذه القواعد على أنها ممثلة لقواعد اللغة ويحتذونها في كتاباتهم؛ اللهم إلا إذا كان علماء البصرة والكوفة قد سحروا عقول الناس واسترهبوهم وأنسوهم معارفهم عن لغتهم وتاريخها، فجعلوهم يعتقدون أن ما جاءوا به من الإفك ممثل لفصيح هذه اللغة.
10 -
إن النقوش التي كشفت حديثاً في شمال الحجاز بمنطقة تيماء والحجر والعلا لتدلنا أقطع دلالة على أن الإعراب كان مستخدماً في (العربية البائدة) نفسها، فبعض العلامات الإعرابية قد رمز إليه في هذه النقوش بحروف ملحقة في آخر الكلمة ((صنعه كعبو)(وهرب مزحجو). . . الخ)
11 -
لم تنفرد اللغة العربية من بين أخواتها السامية انفراداً كاملاً بنظام الإعراب، فلهذا النظام آثار في اللغات الحبشية السامية، وخاصة في الجفرية والأمهرية. صحيح أن هذه الآثار محدودة ضئيلة، وأنها تختلف اختلافاً غير يسير عن نظام الإعراب في اللغة العربية؛ ولكن وجود أثر لهذا النظام في لغة سامية لا تزال لغة حديث إلى الوقت الحاضر، كاللغة الأمهرية مهما كان هذا الأثر ضئيلاً - وعلى أي صورة كانت أوضاعه - لدليل قاطع على أنه منحدر من الأصل السامي الأول وليس من خلق النحاة
12 -
تقوم أوزان الشعر العربي وقواعده الموسيقية على ملاحظة نظام الإعراب في
المفردات، فبدون إعراب الكلمات تختل أوزان هذا الشعر وتضطرب موسيقاه. ومما لاشك فيه أن هذه الأوزان سابقة لعلماء البصرة والكوفة، وأن شعراً عربياً كثيراً قد قيل على غرارها من قبل الإسلام ومن بعده قبل أن يُخلق هؤلاء العلماء. فإنكار هذا الشعر لا سبيل إليه. ولا يمكن أن يكون قد أُلِّف غير معرب الكلمات؛ لأن عدم إعرابها يترتب عليه اضطراب أوزانه واختلال موسيقاه
13 -
وأقوى من هذا كله في الدلالة على فساد هذا المذهب تواتر القرآن الكريم ووصوله إلينا معرب الكلمات
14 -
وإن في رسم المصحف العثماني نفسه، مع تجرده من الأعجام والشكل، لدليلاً على فساد هذا المذهب. وذلك أن المصحف العثماني يرمز إلى كثير من علامات الإعراب بالحروف (المؤمنون، المؤمنين. . .)، وعلامة إعراب المنصوب المنون (رسولاً، شهيداً، حسيباً، بصيراً. . .) وهلم جراً. ولا شك أن المصحف العثماني قد دُوِّن في عصر سابق بأمد غير قصير لعهد علماء البصرة والكوفة الذي تنسب إليهم هذه المذاهب الفاسدة اختراع قواعد الإعراب.
فنظام الإعراب عنصر أساسي من عناصر اللغة العربية؛ وقد اشتملت عليه منذ أقدم عهودها. وكل ما عمله علماء القواعد حياله هو أنهم استخلصوا مناهجه استخلاصاً من القرآن والحديث وكلام الفصحاء من العرب ورتبوها، وصاغوها في صورة قواعد وقوانين. ثم أخذ هذا النظام ينقرض شيئاً فشيئاً من اللهجات العامية تحت تأثير العوامل السابق ذكرها في المقالين السابقين، حتى لم يبق له في هذه اللهجات إلا آثار ضئيلة.
غير أنه لا يسعنا أن ننكر أن قواعد الإعراب لم يكن لها قديماً في لهجات الحديث ما كان لها في لغة الأدب من شأن. وذلك أن طائفة كبيرة من هذه القواعد لا تظهر وظائفها وتمس الحاجة إليها إلا في مسائل التفكير المنظم المسلسل، والمعاني المرتبة الدقيقة التي يندر أن تعالج في لغات التخاطب العادي. وهكذا الشأن في جميع لغات العالم؛ فكثير من قواعد الفرنسية مثلاً يندر أن يحتاج إليها في المحادثات العادية. وفضلاً عن ذلك فقد نقل إلينا المؤرخون الثقات أن ألسنة العرب كانت عرضة للزلل في هذه القواعد منذ العصر الإسلامي، بل قبل ذلك العصر وأن هذا اللحن لم يكن مقصوراً على عامتهم، بل كان يقع
من الخاصة والخلفاء والمحدثين، وأئمة الفقهاء أنفسهم. ويظهر أن هذا اللحن كان يقع منهم حتى في تلاوة كتاب الله؛ فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أعربوا القرآن). وهذا يدل على أنه سمع بعض الناس في عصره يقرؤه ملحوناً.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور الآداب من جامعة السربون
في اختلاط الجنسين
للأستاذ محمود محمود بسيوني
ألقى أستاذنا صاحب العزة الدكتور منصور بك فهمي قنبلة جديدة في الميدان الاجتماعي تنبه على صوتها الكتاب والمفكرون والمهتمون بالشؤون الاجتماعية في مصر. تحدث عن اختلاط الجنسين في مصر وكان سريعاً حازماً جريئاً في إبداء رأيه، وفي إنكار الاختلاط بصورته الحاضرة، وقد ألقى شعاعاً مضيئاً أنار به السبيل إلى ذلك الهدف الاجتماعي الخطير. وهكذا حفزني وشجعني على أن أرفع صوتي أنا الآخر معلناً انضمام صوت الشباب إلى صوت الشيوخ. وقد يبدو هذا غريباً، فالشباب معروف بميله للفرح والسرور واللهو والعبث ولكني لا أكتمكم أني استمتعت بأنواع كثيرة من لهو الشباب وقد كان ذلك درساً طيباً اغتنمت فرصة اليوم لأن أعيده على مسامع إخواني الشباب ولكني أنبه الغافلين من الجيل الذي تقدمني إلى سوء نتيجة إهمالهم بعض الأمور الاجتماعية.
حينما نحارب الاختلاط اليوم إنما نحارب الرذيلة والفساد محافظة على كيان أمتنا العزيزة ودينها الإسلامي القويم، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير وطننا وإعلاء شأن ديننا.
ولنحاول أول كل شيء أن نفهم العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل، فهما يكونان معاً الأسرة، والأسرة هي الوحدة التي يتكون من كثيرها المجتمع؛ إذن فالرجل والمرأة لازمان معاً لحفظ كيان المجتمع، ولا غنى لأحدهما عن الآخر لاستمرار الحياة الاجتماعية، وما دامت المسألة تقوم على التعاون بين الرجل والمرأة فلا بد من انسجام وظائفهما من الوجهة العامة أي من حيث أن الرجل رجل وأن المرأة امرأة. فقد زودت الطبيعة كلا منهما بفضائل وميزات خاصة يكمل بعضها بعضاً، وهكذا كان لكل منهما عمل خاص وأسلوب خاص في تأدية وظيفته في الحياة، ولكن هذه الوظائف كما قلنا يكمل بعضها الآخر. وهكذا كان الرجل في حاجة طبيعية إلى المرأة لكي تبادله التشجيع والمساعدة على القيام بأعمالهما على خير الوجوه، وينقسم اتصال المرأة بالرجل إلى نوعين: اتصال فردي خاص، وهو اتصال الرجل بزوجة فقط وذلك لحفظ النوع؛ ثم اتصال اجتماعي، وهو اتصال الرجال في مجموعهم بالنساء في مجموعهن وهو ما يعبر عنه بالاختلاط وهو موضوع حديثنا الليلة.
وقبل أن نبدأ في علاج الموضوع نحب أن نذكر أن المرأة عنصر له خطره العظيم؛ فإذا
أسئ استخدام هذا العنصر في الحياة الاجتماعية فقد تكون النتائج قتالة فتاكة. وهذا الاعتبار يجب أن يراعى حين يصدر الإنسان حكمه على فائدة الاختلاط أو ضرره فإن ذلك يلقي على المسألة ضوءاً جديداً ويكشف عن معانيها إلى حد كبير، والسبب في خطورة المرأة هو تكوينها الطبيعي خلقاً وخلقاً. فهي بما فيها من جمال وفتنة وإغراء وبما لروحها من دلال ورقة وعذوبة تؤثر في قلوب الرجال تأثيراً شديداً كثيراً ما يحول دفة حياتهم خاصة كانت أو عامة. وقد عرف الفرنسيون أثر المرأة فكلما صادفتهم مشكلة غامضة قالوا قبل كل شيء (فتش عن المرأة) ولما كان عمل الرجل في الحياة بحسب تقاليدنا المصرية أبعد أثراً وأعظم شأناً. فعمله دائماً يتصل بالمجتمع كله؛ بينما المرأة وفاق هذه التقاليد اتصالها بفرد واحد أو أفراد قليلين. على أن ترك هذه التقاليد وتوسيع الاختلاط للمرأة بعامة الرجال لابد أن يحدث أثره في المجتمع لأنه لم يعد لهذا الاختلاط وفقاً لماضينا المعروف.
يظن بعض الناس أن الاختلاط مظهر من مظاهر المدنية والتقدم الإنساني في الوقت الحاضر، وأنه يعود على المرأة وعلى الرجل أيضاً بفوائد لا يستطيعان أن يجنيانها إذا كان كل منهما بمعزل عن الآخر. فهم يتوهمون أن هذا الاختلاط يسير بهما في طريق التقدم من حيث الثقافة ومن حيث الإحساس ومن حيث أشياء أخرى يزعمون أنهم يفهمونها! ثم هم يبنون هذا الزعم على أن الاختلاط حق من حقوق المرأة يجب أن تستعمله وتفيد منه، وأن المرأة باشتراكها مع الرجل في حياته العامة إنما هو تنفيذ لحق الحرية الذي أوجدته النظم الاجتماعية الحديثة، ولكنهم أسرفوا في استغلال هذا الحق واستعمال هذه الحرية. فانقلبت الآية وأصبح تقدمهم تأخراً ومدنيتهم همجية.
بدأت المرأة بفكرة السفور ونزع الحجاب. وكأنها كانت في معقل وانطلقت بعد أن كانت لا تحلم بالخروج؛ فأسرفت في نزع الحجاب إسرافاً شديداً إذ أصبحت سافرة الوجه أولاً، ثم سافرة الوجه والرأس، وأضافت بعد ذلك قليلاً قليلاً سفور الذراعين والساقين والصدر؛ ثم تلفتت مع ذلك إلى تغيير الزي وتكييفه بما يتناسب مع ما تريد أن تبرزه من محاسن جسمها. ثم أتقنت ألوان التزين والتجمل واندفعت في كل هذا اندفاعاً كبيراً، ودفعت في سبيل ذلك كل ما تملك من مال وذكاء؛ واحتملت مشقة وعذاباً؛ ثم شاءت أن تعرض جمالها وتجملها فخرجت إلى الأماكن العامة من شوارع ومقاه وأندية. وراحت تتسابق مع مثيلاتها
في هذا المضمار، فأصبحت تلك الأماكن معارض يتبارين فيه لإظهار مقدرتهم على الفتنة والإغراء. وخرج الرجال بطبيعة الحال يستمتعون بهذه المظاهر الجديدة الخلابة، فكانوا يلقون كلمات الإعجاب في آذان النساء سواء أكانوا في ذلك مخلصين أم منافقين؛ ولكنها كلمات تروق النساء وتأخذ بمجامع قلوبهن على كل حال.
فكرت المرأة في أنه من العبث أن تتجمل هكذا للشوارع فقط، وفكر الرجل في أن يستمتع هو الآخر بهذه الفتنة، فأخذ كل منهما يسعى إلى الاستمتاع: المرأة بتجملها وتدللها، والرجل بما ينجذب إليه من هذا التجمل وهذا الدلال. وأخذت النشوة كل من الفريقين، وأعمتهم الشهوة فاستحلوا ما حرم، واستباحوا كل ممنوع، فانتحلوا أسباباً وخلقوا أساليب. وتستروا باسم المدنية والتقدم لتنفيذ أغراضهم، واندفعوا في تيار حياة الاختلاط البراقة فشربوا السم في برشامة.
وهكذا أصبحت ترى المرأة بشكلها الجديد ترتاد دور الخيالة وأندية السباق والمراهنات، وحدها تارة أو مصحوبة أخرى بأصدقاء من الجنس الآخر اتخذتهم دون اعتبار لما بين الجنسين من فوارق. تراها تحتضن رجالها واحداً بعد واحد، وتراقصهم وتحتسي معهم الخمر. فالفتاة الصغيرة لا يقوى أبوها على ردها، لأن المدنية تتطلب منه ذلك؛ والزوجة الصغيرة لا يقوى زوجها على منعها، لأنه هو الآخر يفعل ذلك؛ فالمدنية تتطلب هذا، والأم القديمة تعلمت هي الأخرى، فخلبتها المدنية الحديثة، فاشتركت في هذا. فعلت المرأة كل ذلك وأكثر من ذلك غير عابئة بدين ولا خلق، وهي تظن أن هذه هي الحياة كما يجب أن تكون، وزكاها في ذلك جماعة من المخبولين العابثين الذين يسوقونها ويسخرونها لشهواتهم ولذاتهم ويتركونها بعد ذلك محتقرة مزدراة. اندفعت إذن المرأة في مدنيتها المزعومة وحريتها الموهوبة، فعم الفساد والشر.
وخلاصة القول أن المرأة بما اتبعته من ضروب التبذل غيرت معالم أنوثتها فبدلت جمالها الطبيعي الذي وهبها الله إياه وأحلت محله بعض النقوش والأصباغ، ففسد ذوقها في فهم الجمال وأفسدت ذوق الرجال أيضاً، فضاع جزء كبير من قيمة أنوثتها الطبيعية، وفقدت الرقة والسحر الحقيقيين. فبإسرافها في إبراز محاسنها أضعفت إلى حد كبير سطوتها على قلوب الرجال وعواطفهم. والأمر في الواقع يخضع كذلك لقانون العرض والطلب. فلكثرة
المرأة في ميادين الرجال، ولكثرة ما تبديه من محاسنها وزينتها انخفض سعرها وقل طلبها.
والذي لاشك فيه أن الاحتجاب أو نصف الاحتجاب يثير في النفس - وهي فضيلة بطبعها - الرغبة القوية وحب الاستطلاع؛ فبعد أن كان الرجل يطلب المرأة - وهي بعيدة عنه - ليستمتع بأنوثتها المستترة في خجلها وحيائها ووقارها، أصبح يكره تبذلها ويمقت جرأتها، فهو لا يفكر فيها إلا كأداة لسروره وعبثه.
كذلك نجم عن الاختلاط السيئ أن فقدت المرأة كثيراً من المعاني السامية: كالأمانة والشرف والعفة والقناعة، فانحطت وهبطت بالرجل إلى منزلة الحيوان.
وإننا إذا نظرنا إلى حياة الأسرة بعد الاختلاط فأول ما يبدو لنا هو تلك المسألة العويصة التي أصبحت مشكلة المشاكل الاجتماعية وهي مسألة الزواج. فإن الرجل بعد الذي رآه في المرأة من استهتار وتهتك أصبح يعتقد أنها لم تعد صالحة للحياة الزوجية؛ فأعرض عن الزواج وجعل يستعيض عنه بالمتعة الوقتية التي سهلتها له المرأة ووفرتها له كل التوفير.
على أن الذين يقبلون على الزواج ينقسمون إلى فريقين؛ فمنهم من هو محافظ غيور على شرفه وكرامته، وهذا الصنف تصبح حياته كالآتي: المرأة تريد التبذل والاختلاط، وتريد التحرر من القيود والأغلال على حد تعبيرها؛ والرجل يغار عليها ويشعل الشك فؤاده وجوانحه فلا يطيق صبراً على هذه الحياة فيثور ويفور ويهدد ويتوعد وتصبح حياته جحيماً لا يطاق. فإما أن ينتهي الأمر إلى الطلاق وهو ويل لو تعلمون عظيم؛ وإما أن ينتهي والعياذ بالله إلى مأساة محزنة لا استدراك لها فتنهدم أركان الأسرة الجديدة.
أما الفريق الآخر من الأزواج فهم الذين يتركون الأمور كما تسيرها الظروف والأهواء، فيلقون الحبل على الغارب متكلفين الهدوء والبرود، لا يسألون زوجاتهم أينهن وماذا يفعلن. وذلك إما لضعفهن الاخلاقي، وإما ليأسهم من وجود ما هو خير من حالهم. والنتيجة دمار وخراب. فإن المرأة حينئذ تتمادى في عبثها وفي فسادها، وينخرط هو في سبيل الرذيلة والشر إلى أن يحدث أحد الأمرين: إما ألا يطيق أحد الزوجين صبراً فينفجر مرة واحدة، فإذا بالزواج رماد تذروه الرياح؛ وإما أن يدب العطب في الحياة الزوجية لخلوها من العناصر الشريفة الظاهرة التي تصونها من العفن فتصير نوعاً من الهمجية الإباحية التي لا نستطيع أن نسميها حياة بالمعنى الذي تقبله الحضارة الحقة والإنسانية الرفيعة.
وإذا ألقينا نظرة عامة على بيت الزوجية في وقتنا هذا نستطيع أن نطمس آثار الاختلاط هكذا: تنقطع المرأة عن تأدية وظيفتها كسيدة وهي التي جعلت لتلزم بيتها كي تنفث فيه من روحها وأنوثتها فتدعو ملائكة السعادة لترفرف بأجنحتها على تلك الجنة. جعلت الآن تكثر من التغيب في الخارج. فحالات الاختلاط الجديدة ومقتضياته تشغلها بعيداً عن بيتها؛ فهي دائماً في زيارة صديقاتها وأصدقائها والاجتماع بهم في كل وقت وفي كل مكان؛ فإذا بها لا تعرف شيئاً عن نظافة بيتها ونظامه وترتيبه، ولا تعرف شيئاً عن مأكلها ومشربها، ولا تعرف شيئاً عما يتطلبه البيت من إصلاح خلل أو إكمال نقص، ولا تعرف شيئاً عما هو أهم من ذلك كله وهو تربية أطفالها. أما زوجها فهو آخر من تفكر في أن تعنى بهم، وهي التي جاءت من أجله ومن أجله فقط: تؤنسه في وحدته، وتشاركه الحياة وتمتعه بما لديها من صفات منحها الله إياها.
كل ذلك لأنها خرجت عن الحياة التي خلقت لها، فخرجت بذلك هي وزوجها من الجنة؛ وأخرجها تجنيها عن البيت واندفاعها في الاختلاط وفي حياة الشوارع. فهل هذه إذن حياة المدنية وهل هذا هو الرقي، وهل هذه هي نتيجة العلم والثقافة؟ المضحك أن تسمى ثقافة وهي أبعد ما تكون عما يطابق العقل والمنطق. ليست الثقافة والحضارة والتقدم أن تتقن المرأة الكلام بالفرنسية والإنجليزية لا لشيء إلا للفرنجة وتكلف الأرستقراطية واتخاذها وسيلة للرقاعة والتهتك. ليست الثقافة والحضارة والتقدم أن تغشى المرأة المنتديات والمجتمعات، وأن تتقن فن المقابلات والتشريفات بعد إتقانها لفن البهرجة والزينات. الثقافة الحقة والحضارة الحقة والتقدم الحق هو أن تعرف المرأة واجبها نحو بيتها ونحو الحياة النافعة، وأن تتقن فنونها التي خلقت لها لتعيش مطمئنة سعيدة ولتشيد أسس حياة هادئة هي عنوان التقدم والرقي المستمر.
ورحم الله قاسم أمين! فلو كان حياً لاستنكر أسلوب المرأة في تنفيذ تعاليمه، فما كان قصد قاسم أمين إلا أن يحرر المرأة من العبودية القديمة حين كان الرجل يجعل المرأة عبداً يشترى ويسخر في تنفيذ رغباته وإشباع شهواته. لقد أراد قاسم أمين أن يخلص المرأة من ظلم خاطئ، فأساءت المرأة فهم الغرض الذي قصد إليه وتعثرت في الطريق الذي أشار به فضلت السبيل وتمادت في ضلالها. فنحن إذ نرفع صوتنا اليوم إنما نحسن إليه ذكرى قاسم
أمين ونخلص للمرأة نفسها فنظرها على طريق الحق ونهديها إلى السبيل القويم.
(البقية في العدد القادم)
محمود محمود بسيوني
الطابور الخامس الألماني
الطابور الخامس! لفظتان تنطويان على كل معاني الإرهاب والقسوة والفظاظة والغدر والخيانة، وتعيد إلى الأذهان تلك المآسي التي كان يمثلها ديوان التفتيش في القرون المتوسطة.
الطابور الخامس هو الخطر العصري الذي يهدد المدنية الحاضرة والأمم الديمقراطية والشرائع الحرة التي كتبت بدماء الألوف من أحرار البشر، بل هي عصابة هائلة تبثها الحكومة النازية في كل أنحاء العالم لتلقي الفساد وتذرع الفتن، وتنخر كيان الأمم بأساليب شريرة لم يعهدها العالم المتمدن؛ فالنازية والطابور الخامس اسمان مترادفان لمسمى واحد.
كان هدف هتلر في أول أمره أن يستولي على الحكم في ألمانيا ويعدم كل الأحزاب السياسية الألمانية (وكان عددها يومئذ 36 حزباً) التي لا تعتنق المبادئ النازية. وكانت النازية قبل أن يسيطر هتلر على ألمانيا حزباً سياسياً عادياً اعتمدت لبلوغ مأربها خطتين: القوة والدعاية، فطفقت تنفيذاً للخطة الأولى تتسلح سراً وتعدُّ عُدتها لليوم المنتظر، وأنشأت تنفيذاً للخطة الأولى (معهداً) كبيراً للدعاية والتمويه والتضليل، ثم لتخريج طلاب الغدر والخيانة والفتك، وهم المعروفون اليوم بأعضاء الطابور الخامس.
قسم هتلر بعد ما استتب له الأمر أنصاره ورجال حزيه إلى فئات ثلاث: الأولى مؤلفة من أنصاره وأصدقائه الخلص الذين يعرفون أفكاره وغاياته الخفية، وهم: هيس، جورينج، جوبلز، هملر، ستريشر، بُهل، فون ريبنتروب، داره، روزنبرج. والثانية مؤلفة من أشخاص لا يعرفون إلا شيئاً من أفكاره وخططه، ولكنهم مرشحون للانضمام إلى الفئة الأولى. والثالثة مؤلفة من رجال مصلحة التقصي الألمانية، ومن عصابة (الجستابو) التي يديرها (هملر). وليس في الفئات الثلاث إلا عدد ضئيل من ذوي المراتب العالية في الجيش.
ولكل من هذه الفئات مهمة خاصة؛ فمهمة الفئة الأولى إنشاء مذهب جنسي أساسه تفوق الجنس الجرماني الآري على سائر الأجناس البشرية لنبل أصله وشرف محتده، وتأليف ألمانيا الكبيرة التي يجب أن تسود العالم. ومهمة الفئة الثانية تنفيذ خطط الأولى في ألمانيا وخارجها بالدعاية والجاسوسية وغيرهما من الأساليب التي يكل عنها الوصف، كأن توهم أحياناً أنها ناقمة على النازية لكي تقف على الرأي العام فيها وتعرف البيئات التي
تناهضها. ومهمة الفئة الثالثة الاستكشاف وتمهيد السبيل للفئة الثانية، فهي أشبه شيء بفرق الكشافة في الجيش
أما الجستابو فهي العصابة السرية الهائلة التي يديرها (انريك هملر) وتضم ستين ألف رجل وعشرة آلاف امرأة في ألمانيا، وخمسة آلاف رجل وأربعة آلاف امرأة في البلدان الأجنبية. وفي الجستابو دائرة خاصة مهمتها تزوير الوثائق والجوازات والمراسلات الدولية والأوراق المالية الأجنبية وغيرها. ومن الوثائق المزورة تلك التي أعلنها فون ريبنتروب واتخذها حجة لكي يبرئ اجتياح دولته للبلدان الصغيرة، وما هي في الحقيقة إلا وثائق مزورة مصنوعة في تلك الدائرة.
مكتب ريبنتروب
هو دائرة مستقلة تعمل تحت إشراف فون ريبنتروب أولاً وهتلر ثانياً. تجمع كل المعلومات غير الحربية عن البلدان الأجنبية ورؤسائها وساستها وأصحاب النفوذ فيها، وتُعنى بمعتقدات تلك البلدان الدينية وأحزابها وطرق معيشتها حتى بمسائلها العائلية. ومن هذه المعلومات تستقى مصلحة التقصي الألمانية وتستهدى بها. وعمال مكتب ريبنتروب هم في معظمهم من الأشخاص الذين تقلبوا في المناصب العالية وشغلوا مراكز سياسية هامة في السفارات ونحوها، وبينهم عدد من النساء اللواتي يعملن أيضاً في دائرة الجستابو.
وزارة الدعاية
يرأس هذه الوزارة الدكتور (جوزف جوبلز) ومن مهامها التسلط على الرأي العام الألماني، وحمل الدول على اقتباس المبادئ النازية وإخضاعها لنفوذ ألمانيا الاقتصادي. وفي هذه الوزارة الدوائر الآتية: الدعاية الداخلية، الدعاية الخارجية، الراديو، الصحافة، السينما، المسرح، الآداب والفنون. وفيها قوائم بأسماء كل المؤسسات في العالم، وقد قسمت إلى مراتب وعرفت بالأوصاف الآتية:(حلفاء)، (ميالون)، (قابلون للاستمالة)، (أعداء). وقائمة الأعداء ترسل رأساً إلى دائرة الجستابو.
مدرسة الطابور الخامس
في سنة 1908 أنشأت في ألمانيا مؤسسة غايتها بث الروح الألمانية في أبناء الألمان
المولودين في البلدان الأجنبية لكي يحافظوا على جرمانيتهم. وفي سنة 1921 استعانت الحكومة الألمانية بهذه المؤسسة لكي تجدد عزيمة رعاياها، وقد وهنت بعد نكبة ألمانيا في الحرب الماضية، وتثير في الأحياء منهم خارج وطنهم العصبية الجرمانية، وتحول دون إدغامهم في البيئات الأجنبية. ولما قبض النازيون على زمام الحكم في ألمانيا وجدوا في سجل هذه المؤسسة أن ، 803 ، 000 ألماني يعيشون خارج الحدود الألمانية، منهم 75 في المائة تربطهم العاطفة العصبية ارتباطاً متيناً بأمهم ألمانيا، والفضل في ذلك عائد إلى مساعي المؤسسة المذكورة التي تعرف اليوم باسم الطابور الخامس الألماني.
وينتخب أعضاء الطابور الخامس من رجال ونساء ذوي جدارة وثقافة ودهاء وحيلة، وكثيرون منهم يحسنون كتابة وتكلماً عدة لغات أجنبية، ومنهم سياسيون ومهندسون وكيميائيون وعسكريون واختصاصيون بفروع العلم. وتختلف مهامهم وطرق أعمالهم باختلاف البلدان التي يوفدون إليها. أما الهدف فواحد، وهو خدمة المصلحة الألمانية بأي الوسائل، لأن الغاية في شريعتهم تبرر الواسطة. وكانت دعايتهم في البلدان الأجنبية قبل الحرب تضرب خاصة على وترين: خطر الشيوعية ومكافحتها، ومصادرة اليهود المرابين الدساسين؛ فاستهووا بالدعاية الأولى كل خصوم الشيوعية ومقبحي مبادئها، واستمالوا بالثانية كل العمال الذين يرون في اليهود صورة الرأسمالية عدوتهم الكبرى.
ونشط في هذه الحرب رجال الطابور الخامس المنبثون في كل العالم، وعلى الأخص في البلدان الديمقراطية، فقاموا بمهامهم الشاقة، غير عابئين بالأخطار التي تهددهم في كل لحظة، فكانوا من العوامل الأولية التي مكنت الألمان من اكتساح عدة بلدان بتلك السهول الغريبة؛ وقد تحقق العالم اليوم أن أولئك الألمان الذين (نفتهم) الحكومة النازية لنقمتهم على الوضع النازي، أو لكونهم يهوداً، أو لتزوجهم يهوديات، ما كانوا في الحقيقة إلا من أعضاء الطابور الخامس، وقد خرجوا من ألمانيا بجوازات مزورة مصنوعة في دائرة التزوير بالجستابو. وقد حصنتهم الدول الديمقراطية وعطفت عليهم حتى كشف لها الواقع أنها ما حصنت إلا ثعابين قتالة كانت تنفث السم في جسمها وهي غافلة عنها بعامل الشفقة والإحسان.
وكان أولئك (المضطهدون) يتسربون في كل مكان ومجتمع ويخالطون الجماعات الناقمة
على النازية، لكي يطلعوا على أفكارها وحركاتها ونياتها، ويرسلون بها تقارير إلى الحكومة النازية (مضطهدتهم).
أما مهام الطابور الخامس العام فتنقسم إلى أربعة أهداف: الأول دعاية سياسية وثقافية. الثاني تمرين عسكري. الثالث تجسس اقتصادي. الرابع تجسس صناعي، كحمل العمال في البلدان الأجنبية على الإضراب أو تدمير المصانع. والدعاية الفكرية يقوم مبدأها على إظهار تفوق الجنس الآري، وهذا مثال منها نشر في الولايات المتحدة:(إن الولايات المتحدة ما بلغت درجتها الحاضرة من الثقافة والعمران لولا امتزاج العنصر الجرماني في مستوطنيها الأولين). فالطابور الخامس إن هو إلا شكل جديد للجاسوسية، ولكنها تفوق كل أنواع الجاسوسية المعروفة بجرائمها الهائلة وغدرها الشنيع وأساليبها الفظيعة.
إن أمضى سلاح استخدمته ألمانيا لاكتساح نروج هو الطابور الخامس، وقد ذكرت الكاتبة النروجية الشهيرة (سيجريداوندست) في ما روته عن مأساة وطنها ما يأتي:
(كان علينا ألا نتكل على حيادنا وأن نتسلح استعداداً للطوارئ. إننا قلما اكترثنا للطابور الخامس الألماني، فجر علينا إهمالنا محنتنا الحاضرة، إذ في ظلال السنوات الأخيرة كان كثيرون من شبان الألمان يأتوننا زائرين ويتوغلون في بلادنا دارسين طبيعة أرضنا، راسمين مواقعها الحربية وطرقها ومعابرها وكل ما يهمهم منها. وعلى الجملة كانوا يعرفون نروج أكثر من سكانها الأصليين).
وفي رأي النازيين أنهم ذوو حق شرعي في كل بلاد يقيمون فيها. يدل على ذلك ما وجد في ولايات البرازيل الجنوبية، وفي شمال الأرجنتين من الألواح التي تحمل الكلمات التالية:(هذه الأرض جزء من ألمانيا)
(العصبة)
وا شقيقاه!!
للآنسة الفاضلة فدوى طوقان
(في الساعة التاسعة من مساء الجمعة الثالث من شهر مايو
1941.
خبا السراج الذي كان يسكب النور في جوانب نفسي
ويهديني إلى سبل الحق والخير والجمال لقد ذهب شقيقي
إبراهيم وخلف لي حسرة الأبد.)
(فدوى طوقان)
و (الرسالة) تقدم إلى الآنسة الفاضلة أجمل العزاء، وتشاطرها
ما أظهرت من العواطف الصادقة في هذا الرثاء.
وا شقيقاه، ما أجلَّ مصابي
…
كيف أوْدَى الرَّدى بزين الشبابِ
كيف جفَّ الغصن الرطيب وأضحى
…
يا لقلبي موسداً في الترابِ
وا شقيقاه، مالَ في عمر الورد
…
غضيرَ الصِّبَى نضيرَ الإهابِ
أين مني أخي؟ ليَ الله! ما خلاّ
…
هـ عني؟ ما عاقه عن جوابي؟
سلبتني الأيام بهجة عيشي
…
يوم ولَّى وحطَّمتْ أعصابي
وأعاضتْ قلبي من النور ناراً
…
ليس تخبو على مدى الأحقابِ
ليت شعري أخي لفقدك أشجَى
…
أم لطفليك أم لحظي الكابي
أمْ لأمْ الطفلين لوّعها الثكلُ
…
فباتت في حسرة واكتئابِ
دمعها من عصارة القلب، والهْفى
…
على قلبها الجريح المذابِ
ودَّعتْ بعدك المباهج وآلاف
…
راح واستقبلتْ مقيم العذابِ
لهفَ نفسي على نضير صباها
…
ينزوي في الأسى وسود الثيابِ
حرَّ قلبي لجعفر وعريبٍ
…
إذ هما يرقبان يوم الإيابِ
كلما استشعروا إليك حنيناً
…
هاج في الصدر من طويل الغيابِ
هتفا باسمكَ الحبيبِ وباتا
…
رهن همٍ ووحشة وارتقابِ
أوحشتْ بعدك المجالس والأسما
…
ر وارفضَّ مجمع الأحبابِ
وانطوى الأنس إذ طوتكَ الليالي
…
عن نفوس الأتراب والأصحابِ
كنت ريْحانها فغُيِّبْتَ عنها
…
في صعيد قفر الجناب ببابِ
حسرتا للخلائق الزُّهْر تُطوى،
…
للمزايا وللسجايا العِذابِ
ليت شعري ما عالمٌ صِرتَ فيه
…
عن عيون الأحياء خلف حجابِ؟
أهوَ شط الأمان للنفس بعد ال
…
خوض في مزبدات طامي العُبابِ
أترى فيه راحة من عناءٍ
…
وقراراً من حيرة واضطرابِ
يا شقيقي حدّث، أتنضبُ في
…
هـ النفس من كل رغبة وطِلابِ
هل نفضتَ اليدين من نشوة الأح
…
لام والشعر والمنى والرغابِ
هل طرحتَ الآلام عنك وكم
…
عانيتَ منها مَضاً وطول اصطحابِ
قد سقتك الحياة في العسر واليسر=بكأسين من شهادٍ وصابِ
وبلوْتَ الصحاب في السر والجهر
…
فمن بين خالص ومحابي
أقصر اليوم صاحب وعدوٌ
…
وَوَهَتْ بينكم عرى الأسبابِ
حسراتي عليكَ ما تنقضي
…
لا، ولن ينتهي عليك انتحابي
ويعزّون فيك يا صِنْوَ نفسي
…
أيَّ شيء فيه العزا عن مصابي
ما عزائي أخي وقد كنتَ حظاً
…
من حظوظي وكنت من آرابي
كنتَ أَزْرِي، إنْ ضِقْتُ بالهم والكر
…
ب جَلوْتَ الأسى وفرَّجْتَ ما بي
فإِلى من أشكو إذا حزَبتْني
…
طارقات الهموم والأوصابِ
يا شقيقي مهِّدْ لجنبي مكاناً
…
وارتقبني فإِنني في الرِّكابِ
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
ألقاب الشرف والتعظيم
عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 4 -
9 -
القيصر
هذه الكلمة واضحة الأصل اللاتيني وهو وكثيراً ما ينقل الحرف إلى القاف العربية أو الكاف، والحرف إلى السين أو الصاد العربيتين. وأما قول القلقشندي في صبح الأعشى (5: 482): (وأصل هذه اللفظة في اللغة الرومية (جاشر) بجيم وشين معجمة فعربتها العرب (قيصر)) فغير صحيح البتة؛ لأن (القيصر) بهذا التعريب أقدم من تعريبها بصورة (جاشر) فهذه بالنسبة إلى تلك محدثة، وقد قيل أو يقال اليوم (جُيْزر) وتلفظ بالأحرف الإفرنجية العصرية. وأما الرومان الأقدمون فكانوا يقولون والسين تلفظ سيناً صريحة لا زاياً كما يلفظونها اليوم، إذا وقعت بين حرفين مليلين. وكذلك كان الرومان يقولون في أول الأمر (بيسو) لا (بيزو) ولا (بيشو). وكانوا يقولون (ألياقيم) لا (الياجيم) ولا (الياشيم) ولا (الياسيم). وأما قولهم اليوم (ألياجيم) بالجيم المعقودة، فمحدث بالنسبة إلى قولهم القديم (ألياقيم) أو (ألياكيم).
وأما متى أبدلوا اللفظ الواحد من اللفظ الآخر، فحدث رويداً رويداً، ومن شخص نافذ الكلمة إلى شخص دونه، ومن بلد إلى بلد حتى عم اليوم البلاد الإيطالية كلها. وأما علماء ألمانيا فيعودون إلى لفظ كافاً حينما وقعت بدون أدنى تغيير، فيقولون (كيكرو) ولا يقولون (شيشرو) ولا (جيجرو) ولا (سيسرو)
ومن الغريب أن العرب تَبعتْ لفظ الرومان في عصرهم، فكان اللفظ القديم (قيصر) ثم صار (شيزر)، فقالوا:(قلعة شيزر) ولم يقولوا: (قلعة قيصر) وهي والآن صاروا يقولون (جيزر) ولفظها القلقشندي (جاشر) وهو لفظ لا ينطق به أحد، لأنه كثيراً ما يصحف الألفاظ الأعجمية فيجعل سينهم شيناً معجمة، ويجعل الجيم المثلثة المعقودة جيماً عربية أو جيماً مصرية. وكل ذلك خطأ.
وقال القلقشندي بعد ذلك: (ولها (أي لكلمة قيصر) في لغتهم معنيان: أحدهما الشعر، والثاني الشيء المشقوق) اهـ
قلنا: اللفظة التي تدل على شعر الرأس عند الرومان هي (قيْصر يَسْ)(قَيْصر) كما توهمه القلقشندي. فيحتمل أن يكون السبب لتسمية (قيصر) هو ما يقوله، نقلاً عمن سمع عنه
وقال القلقشندي بعد ذلك: (واختلف في أول من تلقب بهذا اللقب منهم: فقيل أغانيوش أول ملوك الطبقة الثانية منهم. سمي بذلك لأن أمه ماتت وهو حمل في بطنها فشق جوفها وأخرج فأطلق عليه هذا اللفظ، أخذاً من معنى الشق؛ ثم صار علماً على كل من ملكهم بعده. وقيل أول من لقِّب بذلك يوليوش الذي ملك بعد أغانيوش المذكور. وقيل أول من لقب به أغشطش. واختلف في سبب تسميته بذلك، فقيل: لأن أمه ماتت وهو في جوفها فشق عنه وأخرج، كما تقدم القول في أغانيوش. وقيل لأنه ولد وله شعر تام فلقب بذلك، أخذاً من معنى الشعر كما تقدم. ولم يزل هذا اللقب جارياً على ملوكهم إلى أن كان منهم هرقل الذي كتب إليه النبي صلى الله علي وسلم)
قلنا: إن الذي عندنا أن قيصراً سمي كذلك من معنى الشعر لا من معنى البقر (أي شق البطن)، لأن أول من سمي بقيصر لم يكن خشعة (أي مُخرجاً من بطن أمه ببقره). بل كان مولوداً وعلى رأسه شعر، وهو أكتافيوس أو أكتابيوس. هذا فضلاً عن أنه كان خشعة لسماه السلف (خشعة) لأن هذه الكلمة معروفة عندهم، وما كانوا سموه (قيصراً)
10 -
الأطربون
قال في تاج العروس في مادة (طرب): والأطربون: البطريق. كذا في شرح أمالي القالي. وحكي عن ابن قتيبة: أنه رجل رومي. وذكر الجواليقي. وقال ابن سيدة: هو الرئيس من الروم. وقال ابن جني في حاشيته: هي خماسية كعضرفوط فعلى هذا وضعه النون والهمزة، والصواب: أن وزنه أفعلون من الطرب. وهذا موضع ذكره استدركه شيخنا) انتهى
قلنا: الاطربون غير البطريق، وكان في أول أمره: حاكم القبيلة، ثم جعل حاكماً على الجند فحاكماً عليهم مع سلطة هيباط. ولو اتخذ عبارة اللسان لكان أحسن. فقد قال ابن مكرم:
(الاطربون: من رؤساء الروم وقيل: المقدم في الحرب، وقال عبد الله بن سبره الحرشي:
فإن يكن أطربون الروم قطَّعها،
…
فإن فيها بحمد الله منتفعا
قال ابن جني: هي خماسية كعضرفوط) اهـ
قلنا: وأما ما حكي عن ابن قتيبة أنه رجل رومي، فليس من الموضوعات، فقد كان رجل اسمه (اطربونو) وكان الدوج السابع عشر للبندقية توفي سنة 912
وأما قولهم هو الرئيس من الروم؛ فكلام لا يحصل منه شيء. فالرؤساء طبقات. وهناك رؤساء مدنيون وعسكريون وروحانيون وأصحاب مهن إلى ما شابهها. فقولهم هو الرئيس من الروم كلام مبهم؛ والأحسن ألا يذكر مثل هذا التعريف الخالي من حلية تحليه
وقول ابن جني أنه خماسي هو القول الحق الذي لا ريب فيه
وأما قول الشارح: أن وزنه أفعلون من الطرب، فالقسم الأول من عبارته صحيح، أي أن وزنه أفعلون. وأما القسم الثاني أنه من الطرب، فهو الخطأ بعينه، لأن الكلمة ليست عربية بل هي رومية (لاتينية) ومعناها في الأصل: حاكم القبيلة كما قلنا. وهل يعقل أن الرومان يسمون رئيساً من رؤسائهم المدنيين باسم عربي؟ فهذا لا يعقل. فموضع ذكره إذن في (أط ر ب ون)، لأن جميع أحرف الكلمة الدخيلة أصول كما اتفق عليه جمهرة اللغويين بلا شاذ واحد
11 -
الفرناس
12 -
البرنس
وهو البدء عند العرب؛ والفرسان تعريب فرن (س) ا (ب) س ونقل الحرف الإفرنجي إلى الفاء أو الباء، أشهر من أن يذكر. وكان حق السلف أن يقولوا فيها (فرنكابس) لكنها ثقيلة وليس لها وزن عربي فخففوها وحملوها على مركب عربي ليرحب بها أهل الذوق السليم. ولم يذكر أحد أنها معربة. وهي في لغة الرومان تفيد (الأول في قومه)
والظاهر أن بني عدنان لم يعرفوا معناها حق المعرفة لأسباب، منها:
أنهم ذكروها في مادة (ف ر س) اعتقاداً منهم أنها عربية النجار
أنهم ذكروا لها معاني قاربوا فيها الحقيقة لكنهم لم يصيبوها، فقد شرحوها بقولهم: (الفرناس
كفرصاد: رئيس الدهاقين أو الفري. عن ابن خالويه. . . والأسد الضاري، وقيل الغليظ الرقبة.
وقال ابن خالويه: سمي الأسد فرناساً، لأنه رئيس السباع، ونونه زائدة عند سيبويه، كالفُرَانس بالضم. والفرناس أيضاً: الشديد الشجاع من الرجال، شبه الأسد. قال النضر في كتاب الجود والكرم: والفِرْنَوس كفِرْدَوْس من أسماء الأسد. حكاه ابن جني وهو بناء لم يحكه سيبويه، وأسد فرانس كفرناس فُعائل، وهو مما شذ من أبنية الكتاب) أهـ
فالكلمة إذن عرِّبت على صور مختلفة، واختلاف اللغات آت من عجمة اللفظة، وسمى العرب الأسد (فرانس) و (فرناس) و (فرنوس) لأنه الأول بين السباع كما قال ابن خالويه، وكما يقول الفرنسيون:
وكتاب العرب نسوا ما عربه السلف فنقلوا اللفظة الإفرنجية بلا أدنى تغيير في عهد العباسيين، فسموا الفرناس (برنس) نقلاً عن الفرنسية والذين نقلوا هذا اللفظ بهذه الصورة هم جميع المؤرخين الذين دونوا الوقائع في القرون الوسطى. وإذا عذرنا الجميع من هذا التعريب الحديث فلا نعذر ابن شداد قاضي حلب صاحب كتاب النوادر السلطانية، في المحاسن اليوسفية، فقد قال في حوادث سنة 586 هـ (1190 م):(إن البرنس صاحب إنطاكية، خرج بعسكره نحو القرايا الإسلامية) أهـ
فنستنتج من هذا: أن العرب كانوا يتصرفون في اللفظة الواحدة على مناح شتى، اعتماداً على ما يسمعونه في عصرهم وبلادهم لا على ما نقله أجدادهم، ولا على ما يرونه مدوناً في دواوين من تقدمهم من السلف، بل يعتمدون على لغة الأقوام الذين يطوون بساط أيامهم بين ظهرانيهم. فإذا سلمنا بهذا، عذرنا ابن شداد نفسه لجريه على هذا المنحى من صنع الناطقين بالضاد.
وهل تعلم ما كان اسم البرنس عند بني مُضر في أقدم الزمان؟ كانوا يسمونه (البدء) أي الأول وهو معنى البرنس الأجنبية. والدليل على ذلك ما ذكره ابن خلدون في كتابه العبر، وديوان المبتدأ والخبر (2: 263 من طبعة بولاق): (ولما هلك عمرو ابن عدي، ولي بعده على العرب، وسائر مَنْ ببادية العراق، والحجاز، والجزيرة، امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، ويقال له (البدء)، وهو أول من تنصَّر من ملوك آل نصر، وعمال الفرس) اهـ،
وكانت وفاته في نحو سنة 338 للميلاد. فالبدء إذن قديمة بمعنى البرنس
وكلام ابن خلدون هذا مقتبس من تاريخ الطبري (1: 833 وما يليها): (وكان من عمال سابور بن أردشير، وهرمز بن سابور، وبهرام بن سابور، بعد مهلك عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة على فُرَجِ العرب من ربيعة، ومُضَر، وسائر من ببادية العراق، والحجاز، والجزيرة يومئذ، ابنٌ لعمرو بن عدي، يقال له (امرؤ القيس البدءُ)، وهو أول من تنصَّر من ملوك آل نصر بن ربيعه، وعمال ملوك الفرس. وعاش فيما ذكر هشام بن محمد، مملكا في عمله، مائة سنة وأربع عشرة سنة) اهـ.
وفي التاج: (البَدءُ: السيد الأول في السيادة. والثُنيان الذي يليه في السُؤدْدَ. قال أوس بن معري السعدي:
(ثنياننا إن أتاهم كان (بدئهم)
…
و (بدئهم) أن أتانا كان ثُنْيانا) اهـ
فلم يبق شك في أن (البدء) يقابل البرنس عند الإفرنج والثنيان يقابل الدُوق عندهم.
(له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد للغة العربية
من أشجان الربيع
حبي. . .!
للأديب إبراهيم محمد نجا
ذاك حبي أيها القلب على المَرج البديعِ
سدَّد الدهر إليه، ورماه في الضلوع
بينما كان يغني فوق هاتيك الربوع
فجثت من حوله الغربان تبكي في خشوع
ونسيم الفجر غشَّاه بأكفان الدموع
عجباً! كيف يموت الحب في فصل الربيع؟
فابك يا قلبي فما الدمع سوى
…
سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى
…
ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
يمرح الناس كما شاءوا على العشب الرفيفِ
ويغنون مع الطير على نقر الدفوف
الصِّبا الباسم، للحب، وللنور اللطيف
للربيع الطلق، للأحلام، للزهر المَشُوف
وأنا وحديَ - يا ويلاه! - ذو قلب لهيف
كل أيامي تفشتها كآبات الخريف
فابك يا قلبي فما الدمع سوى
…
سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى
…
ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
هاهمُ العشاق يمشون إلى وادي الغرامِ
مثلما تمشي إلى الجدول أسراب الحمام
نشوة الحب سرت في دمهم مثل الضرام
والأماني البيض غنَّت لهُم فوق الغمام
وأنا من يأسيَ المُرِّدفين في الرجام
حائر لا أعرف الصفو ولا طيب المقام
فابك يا قلبي فما الدمع سوى
…
سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى
…
ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
يا ربيع الحب! أين الحب؟ يا نبع الرجاءِ
أنا ظمآنُ!. . . وفي نبعك رِيٌ للظماء
أنا حيرانُ!. . . وفي فجرك أطياف الضياء
أنا سأمانُ!. . . وفي نايك أفراح السماء
لست أدري أربيعي أنت، أم أنت شتائي؟
لم أجد فيك لقلبي غير هّمٍ وشقاء
فابك يا قلبي فما الدمع سوى
…
سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى
…
ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
ليتني كالطائر الغرِّيد في تلك النواحي
ليتني كالزهرة البيضاء في نور الصباح
ليتني كالجدول الرقراق في تلك البطاح
ليتني كاللحن، كالطَّل على ثغر الأقاحي
ليتني! أوَّاهُ مما في فؤادي من جراح
فُجِّرت منها دموعي، وأغانيُّ نُواحي
فابك يا قلبي فما الدمع سوى
…
سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى
…
ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
أيها الوردُ، جميلٌ أنت، لكني حزينُ
أيها الأفق، رحيبٌ أنت، لكني سجين
أيها النورُ، رطيبٌ أنت، لكني دفين
حطم الدهر جناحي، وبرت جسمي السنون
ومشى اليأس على قلبي، وغشَّتني الشجون
فحياتي كلها بلوى، وشكوى، وأنين
فابك يا قلبي فما الدمع سوى
…
سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى
…
ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
إبراهيم محمد نجا
رسالة العلم
حول أبعاد الحيز
آلة الوقت
(إلى أستاذي الفاضل جردان أهدي هذه الفصول)
للأستاذ خليل السالم
لا أريد بتلخيص هذا الكتاب تعريف القراء بالكاتب العبقري ويلز، فويلز ليس غريباً عنهم. لقد سمعوا المحاضرين يتحدثون عنه بكل تجلة واحترام، وقرءوا الكتاب يستقون من نبعه الصافي آراء ثاقبة في علم الاجتماع وفي علم التاريخ وحول مستقبل الإنسانية، وترجم له كثير من الروايات البديعة التي كان فيها نسيج وحده. ولو أنني قصدت ذلك لأصاب مقالي الفشل، لأن عبقرية ويلز المحيطة لا تبدو جلية واضحة في مقال قصير، ولا يعبر عنها تلخيص كتاب أصدق تعبير.
أريد بهذا العرض الموجز أن يكون مقدمة مناسبة للبحث (حول أبعاد الحيز) وهو بحث قيم في فلسفة الرياضيات يجدر بكل مثقف أن يطلع عليه، وبودي أن أطلع عليه قراء العربية بواسطة الرسالة الغراء إن اتسع صدرها لمثل هذه الأبحاث.
ولسنا في حاجة للقول أن ظهور هذا الكتاب منذ زمن بعيد أي نحو سنة 1888 لا يغض من قيمته، فالآثار الخالدة لا تعرف الزمن ولا تقف روعتها عند ما تهرم أو يبلغ عمرها سناً بعينها، وآلة الوقت طليعة موفقة لروايات أتحف بها ويلز قراء العالم أجمع، وهذه الروايات تتميز أول ما تتميز بالفكرة العلمية في بوتقة الأدب الحي والخيال الرائع والتصوير الصادق. ولا أكتم أن تبيين هذه الفكرة العلمية في آلة الوقت هو رائدي أولاً وآخراً.
نحن في أمسية صاحية، وقد جلس مخترع (آلة الوقت) بين نفر من صحبه ينعمون بدفء الغرفة وإشعاع الخمر في كاساتها ويتناوبون الحديث فنسمع أول ما نسمع مخترع (آلة
الوقت) ينعى على العالم قبوله بعض الآراء الخاطئة دون تحقيق أو تمحيص، ويذكر على سبيل المثال الهندسة الإقليدسية؛ فهي لا تدرس في المدارس بالطريقة المثلى ولا تفهم على الوجه الصحيح، وإلا فكيف نؤمن بوجود مكتب أو أي جسم إذا كان له طول وعرض وسمك فقط؟ أنستطيع القول أن هذا المكتب موجود إذا لم يشغل حيزاً ولو لحظة قصيرة من الزمان؟
ويستمر في حديثه قائلاً: من الواضح أن لكل جسم امتداداً في أربعة أبعاد: الطول والعرض والعلو (السماكة أو العمق) والاستدامة الزمنية وهذا البعد الرابع (الزمن) لا يختلف عن الأبعاد الثلاثة في شيء سوى أن وعينا يتحرك معه فلا نشعر به كبعد رابع يمكن أن نتحرك فيه. وإني لأعجب كيف يجد بعضهم في فكرة البعد الرابع الهجنة والغرابة. لا أكتمكم أنني كنت من المشتغلين إلى أجل غير قصير بهندسة الأبعاد الأربعة وتوصلت إلى نتائج غريبة: هذه صورة رجل في الثالثة ثم في الثامنة ثم في الخامسة عشرة ثم في السابعة عشرة ثم في الثالثة والعشرين وهكذا. وهذه الصور تمثل في ثلاثة أبعاد كيانه الرباعي الأبعاد الذي لا يتغير ولا يتبدل. انظروا أيضاً هذا الخط البياني، إنه يرمز إلى قراءات البارومتر في فترات متقطعة من الزمان. لقد كان البارومتر مرتفعاً في الصباح ثم انخفض قليلاً عند الظهر ثم عاد إلى الصعود ثم عاد إلى الهبوط وهو في كل هذا يرسم خطاً بيانياً الزمن بعد فيه.
وقد ابتدأ رجال العلم يلمسون هذه الحقائق، فمنذ أجل قصير سمعت أحدهم يتحدث عن الزمن كبعد رابع بمثل هذا التأكيد.
وهنا يعترض أحد الجلوس وهو طبيب: (إذا كان الزمن بعداً كأي أبعاد الفضاء فلم لا نستطيع أن نتحرك فيه كما نتحرك في الفضاء وننتقل فيه كما ننتقل من مكان إلى آخر؟).
وهنا نرى صاحبنا تلتمع عيناه ونسمعه يجيبه تعلو الابتسامة شفتيه: (سؤال وجيه. ولكن قبل أن نحاول الإجابة عليه نريد أن نتحقق من الحقيقة التي يتضمنها كأنها حقيقة مفهومة بداهة. هل حقيقة نستطيع أن نتحرك في الفضاء بسهولة؟ أنا متأكد أن هذا صحيح في بعدين فقط؛ أما البعد الثالث (العلو) فيشذ عن هذا الحكم. وأنى لنا أن نفلت من سنة الجاذبية؟ إننا محصورون ضمن جدران المكان لا نتمتع فيه إلا بقدر ضئيل من الحرية
والانطلاق، وحريتنا هذه تعتمد على ما تسنى لنا المرتفعات والجبال في الأرض، أو قوتنا في القفز العالي، أو آلات الطيران كالمناطيد مثلاً).
ويقاطعه الطبيب أيضاً: (إذا كنا كما تقول محصورون حقيقة ضمن نطاق المكان فلا شك أن سجننا في الزمان أضيق حدوداً وأكثر قيوداً، فأنت لا تستطيع بأي جهد مهما كان عظيماً أن تتخلص من اللحظة الحاضرة).
ويجيب صاحب الاختراع مسرعاً: لا. هذا هو الخطأ بعينه؛ وهو خطأ درجت عليه الإنسانية من قديم الأزمان منذ عرفت معنى الأبعاد. فنحن نستطيع أن نفك قيود الزمان، أو وجودنا العقلي الذي لا يتأثر بالأبعاد المكانية يتحرك في البعد الزماني بسرعة متناسقة من المهد إلى اللحد كما يسقط في البعد الثالث جسم على بعد عدة أميال من الأرض. ثم نحن نستطيع أن نستعيد من الذكريات ما نشاء فنسترجع الماضي ونتحرك في الزمان. وإذا كانت الآلات الطائرة قد سهلت مهمة الانطلاق في البعد الثالث فلماذا لا يتسنى هذا في البعد الرابع؟ أرجو ألا تعجبوا كثيراً أو تستهجنوا أن تكون هذه الفكرة الأخيرة قد شغلت دماغي مدة طويلة. إن هدفاً غامضاً كان يسير أبحاثي ويتجه بها نحو وضع تصميم آلة تتحرك في الوقت.
وبالرغم من رجاء صاحبنا يقاطعه صحبه بعلامات التعجب والدهشة والاستنكار والسخرية، ولكنه لا يلبث أن يخفف من حدتهم عندما يخبرهم بكل ثقة واطمئنان أن أبحاثه قد أثمرت، وأن جهود عامين متتاليين قد وصلت بالآلة إلى درجة الكمال. وليتحققوا من ذلك بأنفسهم يصمم أن يجرب التجربة الأولى تحت سمعهم وبصرهم.
ويذهب إلى مختبره ليعود بعد دقائق معدودة يحمل في يده آلة صغيرة دقيقة الصنع تشبه ساعة الجيب كثيراً، ويضعها على المنضدة أمامه، ثم يشير إلى زرين إذا ضغط أحدهما تندفع الآلة في الزمن، وإذا ضغط الثاني انعكست الحركة. ويطلب من أحدهم - وهو عالم نفساني - أن يضغط الزر بنفسه. ولا تستطيع أن تتصور مقدار العجب الذي تملكهم عندما حامت الآلة قليلاً كنسمة عاصفة فوق رؤوسهم، ثم اختفت ولم تترك خلفها أثراً.
لم يكن للآلة من سبيل لأن تغادر الغرفة، وهي لم تبق فيها، فلا شك إذاً أنها سافرت عن طريق البعد الرابع، وهو بعد عمودي على المتعامدات الثلاثة المألوفة، ولابد أن يكون
الزمان هذا البعد الرابع كما فهمنا سابقاً.
إذا كانت الآلة قد تحركت بسرعة تساوي سرعة الزمن، فهي تبقى دائماً في الحاضر. أما إذا كانت قد تحركت بسرعة تفوق سرعة الزمن، فتكون قد اندفعت في المستقبل. أما إذا كانت سرعتها أقل من سرعة الزمن، فإنها قد عادت إلى الماضي. هذه ثلاثة احتمالات نفي أحدها وهو الأول، لأن الآلة لم تبق في الحاضر، ولم يكن لدى صاحب الاقتراح طريقة يفصل بها بين الاحتمالين الآخرين، إلا أنه يقول لصاحبه: إن راكب الآلة يستطيع أن يتحقق من ذلك بنفسه. وإذا ما سألوا كيف ذلك أجابهم أن تلك الآلة الصغيرة لم تكن إلا أنموذجاً للآلة التي سيمتطيها عند رحلته في آفاق الزمان. وينتقل بهم إلى مختبره يريهم تلك الآلة، ثم ينفض الاجتماع على أن يعودوا في الأسبوع القادم لإجراء التجربة على الآلة الكبرى.
نحن في مساء الخميس التالي، وقد جلس الرفاق ينتظرون على أحر من الجمر مخترع (آلة الوقت) الذي تأخر على غير عادة ويقررون أن يقضوا الوقت في تناول طعام العشاء، ويتناقلون في هذه الأثناء حديثاً متقطعاً قلقاً، ينبئ عما في نفوسهم من الشوق الملح لمجيء صاحب الاختراع.
لا تسل عن مقدار فرحهم ودهشتهم في آن واحد عندما فتح الباب بكل هدوء وسكون ودخل صاحب الاختراع شاحب الوجه مغبر الثياب، دامي الأقدام، كأنه عاد من سفر بعيد عانى فيه ما عانى (السندباد) من ألوان العذاب والشقاء في جميع رحلاته. وتحار الأسئلة على وجوههم فلا يعبأ بها، ويعمد إلى كأس مما بين أيديهم من الشراب فيكرعها حتى آخر قطرة، وكأنه استعاد بعض حيويته ونشاطه، يخبرهم أنه ذاهب إلى الحمام، ويرجوهم أن يتركوا له قطعة لحم، فهو يخشى على معدته أن تهضم نفسها لفرط ما بلغ منه الجوع. . . ويعود بعد هنيهة موفور النشاط يقص عليهم خبره مشترطاً ألا يقاطعه أحدهم أو أن يضطره للجدل والنقاش اللذين لا يحتملهما جسمه المجهد المضني. قال صاحبنا:
(لقد قدر لبعضكم أن يروا يوم الخميس الفائت (آلة الوقت) وهي في طور العداد والتركيب، وفي صباح اليوم فقط قدر لآلة الوقت الأولى أن تتنسم أولى نسمة من نسمات الحياة وأن تدخل في العمل؛ فقد ألقيت عليها نظرة فاحصة أخيرة، وسكبت بعض نقاط الزيت بين
أجزائها وامتطيت صهوتها. وضعت يدي اليمنى على الزر الأول ويدي اليسرى على الزر الثاني، وكان في نيتي أن أقوم بالتجربة بنفسي وأتحقق من عمل اختراعي. بقيت غير قليل بين إقدام وإحجام حتى جمعت كل ما في نفسي من عزم، فضغطت الزر الأول، وما راعني إلا أن أرى الساعة تتقدم، كأن عقرب الساعات فيها هو عقرب الثواني، ورأيت أحدهم يتحرك كأنه عقاب الجو ينقض على فريسته. وعندما ضغطت الزر إلى نهايته، رأيت الشمس تسبح في الفضاء بسرعة غريبة. . . والليل والنهار يذهبان ويجيئان في لمحة خاطفة، وكان تتابعهما مما يؤذي عيني. . . ورأيت القمر يتحول بين عشية وضحاها من هلال إلى بدر إلى هلال. . . وهكذا وجدت أنني قد قذفت نفسي في أعماق المستقبل، ولم يخطر ببالي أن أضغط الزر الثاني لأعكس الحركة، فقد
شغل استكناه المجهول وكشف حجبه وهتك ستائره كل خاطري، ووددت أن أعرف التطورات الجديدة التي طرأت على الإنسانية، وأين وصلت هذه في تقدمها العجيب. إلا أنه في الوقت نفسه كان خاطر يزعجني، فربما أحاول إيقاف آلتي فلا تعنو لإرادتي وتستمر في سرعتها، أو أن تصطدم بمادة في الفضاء تتحطم عليها، وعندئذ نفلت أنا وهي من حدود الأبعاد ونلقى بكل عنف في أعماق المجهول، لذا قررت أن أقف في هذه المخاطرة عند حد، فأوقفت آلتي ونزلت أرضاً غريبة لم أتصورها يوماً حتى في أحلامي وأوهامي، ويخيل لي إلي أن التقاويم كانت لسنة (802701) واخترت مكاناً هادئاً وضعت فيه آلتي وأخذت معي مفتاح الحركة وذهبت أتجول لأتعرف مناطق الحياة في هذا العالم الجديد).
يحدثنا ويلز بعدئذ على لسان بطله عن العالم في المستقبل فيرى أن الإنسانية لن تنتصر في التربية الخلقية والتعاون العلمي، وإنما تنتصر بعلم ناضج لا على الطبيعة فقط، بل على أخيها الإنسان أيضاً. في ذلك العالم الجديد تفرقة وتباين واسعان بين العامل وصاحب المال، فالمجتمع منقسم إلى فريقين: فريق يعيش فوق الأرض يمثل أرستقراطية متعجرفة وهو قد آثر الدعة واللين وعمت بين أفراده الاشتراكية فأمحت الفروق حتى بين الجنسين وأصبحت الأرض له حديقة غناء ملأى بالأزهار والرياحين، فليس ما يشغل باله سوى تبادل الحب والتنعم بطيبات المأكل واللعب الهادئ والاستحمام في الأنهار والتمتع بالنوم المريح؛ وفريق ثان يعيش تحت الأرض يدير أعمال الصناعة ويمد الإنسان الأعلى
بضرورياته وكمالياته، ولا يخرج هذا الفريق من كهوفه إلا ليلاً، فأصبح النور يؤذي عينه؛ ولذا كان سلاح البطل الوحيد الذي يتقي به شر تلك المملكة المظلمة هو عود الثقاب يشعله فتهرب منه تلك المخلوقات الحقيرة كما تهرب الخفافيش من وهج الشمس الساطعة.
وقد ارتقى الطب في العالم الجديد ارتقاء مثالياً فلم يعد يخشى شر الأوبئة بعد، وعم الأمن سائر أرجائه مما بعث في النفوس الضعف والارتخاء والكسل.
ويشعر المسافر أن الشقة بينه وبين عالم ذلك العصر الذهبي أكثر اتساعاً من الشقة التي تفصل أبناء لندن عن زنوج أفريقيا. ولذا يجد من الصعب جداً أن يشرح لرفاقه مظاهر التقدم والحضارة شرحاً وافياً. ترى ماذا يستطيع زنجي نزل لندن وشاهد ابتكارات العلم فيها أن يصف لقومه إذا ما رغب التحدث عنها؟
ولا أحب أنا أن أطيل في الوصف الذي حدث به المسافر، فالإيجاز هنا يقلل من روعة الخيال وسموه؛ وأفضل أن يعود القارئ إلى الكتاب فيتمتع بالجو الذي يخلقه ويلز ويطلع على آرائه المبنية على الفكرة العميقة والنظر الثاقب؛ وتقدر هذه الآراء حق قدرها إذا علمنا أنه قدم اقتراح لأن يصبح ويلز (نبي العرش) كما أن هناك (شاعر العرش). وذلك لكثرة ما حدث ويلز عن مستقبل العوالم القادمة، ولكثرة ما أصاب في كثير من تنبؤاته.
وقبل أن ينتهي المسافر من قصته الشائقة التي تذكر برحلة (جعفر) في بلاد (ليليبت) يخاطب رفاقه بصوت هادئ رزين: (لا أتوقع أن تصدقوا كل أقوالي، غير أني أترك لكم أن تظنوا بي ما شئتم من الظنون. اعتبروها كذبة أو نبوءة، قولوا إنها حلم أو تأمل لمصير الإنسانية، وإنني عندما أحاول تأكيد صحتها إنما أفعل ذلك لأزيد في لذة القصة وجمالها؛ ولنفرض أنها رواية فماذا ترون فيها؟).
هذا ملخص موجز لكتاب آلة الوقت، وبودي أن أنبه إلى أن هذه الفكرة العلمية - الزمان بعد رابع - التي زين بها ويلز جيد روايته كانت قبساً مشعاً استنار به ناموس النسبية، ذلك الناموس الذي يعد بجدارة أقصى ما توصل إليه العقل البشري من الكمال في التحليل الرياضي الطبيعي. هل الزمن حقيقة بعد رابع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في البحث القادم.
(الجامعة الأمريكية - بيروت)
خليل السالم
البريد الأدبي
كيف يرى الأستاذ المراغي الإصلاح ولا ينفذه
نشكر للأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة عنايته بإصلاح الأزهر، لأنا نعتقد أن عنايته بهذا الإصلاح ستكون من أكبر العوامل في تحقيقه، لما للرسالة من المكانة بين الناس عموماً، وبين الأزهريين خصوصاً.
وقد طلب الأستاذ الجليل من الكتاب أن يشرحوا الحوائل التي تعترض هذا الإصلاح، وتمنع الأستاذ المراغي من تنفيذ ما وضعه في ولايته الأولى على الأزهر، وهاأنذا أبين في إيجاز تلك الحوائل.
فإصلاح الأزهر على الوجه الذي يريده الأستاذ المراغي وغيره من المصلحين، يقتضي أن نفتح باب الاجتهاد في علومنا كلها، وفتح باب الاجتهاد في تلك العلوم يقضي على الكتب التي تدرس فيها من مئات السنين، والقضاء على تلك الكتب يقتضي خلق أزهر جديد، ويقضي على الأزهر القائم الآن، وهنا تعمل غريزة حب البقاء عملها، وتقف المصالح في سبيل الإصلاح، وهي مصالح الكثرة الغالبة في الأزهر، لأن أنصار الإصلاح بيننا قلة لا تذكر. وقد أراد الأستاذ المراغي أن ينفذ ذلك الإصلاح في ولايته الاولى، فوقفت تلك الكثرة في سبيله، وألجأته إلى ترك منصبه، فلم يشأ في هذه المرة إلا أن يلاين تلك الكثرة، ويتغاضى عن تنفيذ الإصلاح الذي يراه، حتى تتهيأ له الأسباب، فانصرفت النفوس عن الإصلاح تبعاً لانصرافه عنه، وصارت تعنى بأمور أخرى من الوظائف وما إليها، حتى استفحل الداء، وأعضل أمر الدواء.
ورأيي أن هذا الإصلاح لا يمكن تنفيذه بدون معونة الحكومة، فهي التي نفذت بالقوة أولى الخطوات فيه، وهي التي تستطيع بقوتها أن تنفذ هذه الخطوة الأخيرة منه.
(عالم)
تيسير الكتابة العربية
درست لجنة الأصول في مجمع فؤاد الأول للغة العربية مختلف المقترحات التي قدمت إليها في شأن تيسير الكتابة العربية وإدخال الشكل في صلب الحروف تخلصاً من الخطأ
في الضبط وتسهيلاً للكتابة المشكولة في المطابع. وفي مقدمة المقترحات التي عنيت بها اللجنة مقترح للأستاذ علي الجارم بك، وقد نظرته في جلسات متعددة، وأدخلت عليه بعض التعديلات، وينتظر أن يعرض قريباً في صورته النهائية مذكرة لتطبيقه مكتوبة بالقواعد المرسومة فيه، فإذا أقرته اللجنة أدرج في برنامج الاجتماع المقبل لمجلس المجمع.
مأساة الفقهاء في عهد إسماعيل
أشار أحد الكتاب الأفاضل في مقال له بالعدد (411) إلى هذه الواقعة إشارة عابرة. وأحسب أن كثيراً من ناشئة هذا الجيل - وأنا منهم - يجهلون كل الجهل وقائع هذه المأساة على قرب عهدها في تاريخنا المديد شأن كثير من حادثات هذا الوطن جهلتها أو تجاهلتها كتب التاريخ الحديثة التي بين أيدينا.
فهلا تفضل أحد علماء الأزهر الأفاضل الذين يكتبون في (الرسالة) فحدثنا حديث هذه المأساة. . . وإنا له لشاكرون. . .
(المنصورة)
عبد الفتاح حسين عطية
دخول أل على غير
ذكرتني الكلمة التي كتبها الأديب أحمد حلمي العباسي في العدد 412 من الرسالة عن دخول أل على غير، ببحث كنت نشرته في جريدة الأهرام منذ عامين في هذا الموضوع، خرجت منه يومئذ - مؤيداً بمعاجم اللغة وكتب النحو - بعدم جواز دخول أل عليها لأنها متوغلة في الإبهام لا تتعرف.
ثم نشب على صفحات الأهرام جدال عنيف حول هذا البحث ولكنه لم ينته إلى رأي حاسم؛ وكانت شواغل الامتحان وشواغل العيش.
ولقد تبين لي في أثناء مطالعاتي طَوال تلك المدة أن ذلك الرأي لا يخلو من تعسف، ذلك أني وجدت أكثر المؤلفين القدامى في اللغة والأدب ينصون في كتبهم على أنها كلمة مبهمة لا تدخل عليها أل؛ ثم أراهم يقعون فيما منعوه وهذا غريب. فالأشموني والصبان وابن هشام والأمير وأصحاب شروح التلخيص وغيرهم يذكرون (الغير) عشرات المرات مع أن
منهم من نصَّ على تخطئتها.
وليست (غير) وحدها التي حرمت أل؛ بل كذلك (كل) و (بعض)؛ والمؤلفون يعرِّفونهما في كتبهم.
ثم رأيت ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ينص على أن ذلك لا يجوز؛ ولكنه يبيح لنفسه استعماله في مواطن خاصة فيقول: (وقد استعملتُ في كثير مما يتعلق بكلام المتكلمين والحكماء خاصة ألفاظ القوم مع علمي بأن العربية لا تجيزها نحو قولهم الكل والبعض والصفات الذاتية والجسمانيات ونحو ذلك مما لا يخفى على من له أدنى أنس بالأدب، ولكنا استهجنَّا تبديل ألفاظهم، فمن كلم قوماً كلمهم باصطلاحهم) اهـ. وتلك حجة تؤيد الدكتور زكي مبارك في بعض ما يذهب إليه من آراء في اللغة. . .
ثم أراد الله أن أهتدي - في كتاب من كتب الفقه - إلى تعليل لإدخال (أل) على هذه الكلمات، والحق أنه تعليل طريف اطمأنت له نفسي، وقرت به عيني.
كنت أقرأ في (باب الحج عن الغير) في حاشية ابن عابدين فوجدت طَلِبتي عفواً. وهاأنذا أنقل ما وجدت إلى القراء. قال ج 2 ص 242: (اعترض في الفتح بأن إدخال أل على غير غير واقع على وجه الصحة، بل هو ملزوم الإضافة
لكن قال بعض أئمة النحاة: منع قول دخول الألف واللام على غير وكل وبعض وقالوا: هذه كما لا تتعرف بالإضافة لا تتعرف بالألف واللام. وعندي أنها تدخل عليها فيقال (فعل الغير كذا)(والكل خير من البعض). وهذا لأن الألف واللام هنا ليست للتعريف ولكنها المعاقبة للإضافة، لأنه قد نص أن غيراً تتعرف بالإضافة في بعض المواقع، ثم إن الغير قد يحمل على الضد، والكل على الجملة، والبعض على الجزء، فيصلح دخول الألف واللام عليه أيضاً من هذا الوجه؛ يعني أنها تتعرف على طريقة حمل النظير على النظير، فإن الغير نظير الضد والكل نظير الجملة والبعض نظير الجزء، وحمل النظير على النظير سائغ شائع في لسان العرب كحمل الضد على الضد كما لا يخفى على من تتبع كلامهم. وقد نص العلامة الزمخشري على وقوع هذين الجملتين وشيوعهما في لسانهم في الكشاف. أفاده ابن كمال) اهـ
قلت: في هذا مقنع وغناء، فقل (الغير) حيث تشاء.
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
إمتاع الأسماع
قرأت - في الرسالة عدد 412 - كلمة الأخ الصديق الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن كتاب (إمتاع الأسماع) الذي ألفه المقريزي، وكان له شرف تصحيحه وشرحه، وإني لأشكر للأخ الكريم ثناءه وحسن ظنه بأخيه. جزاه الله عني أفضل الجزاء.
وقد استدرك الأخ الأستاذ بعض ما فاتني من الخطأ، فله الشكر على اهتمامه وحسن تهَدِّيه ويقظة عينيه، وإن صحَّ لي أن أقول شيئاً تعقيباً على استدراك الأستاذ، فلست أزيد على أن التصحيح المطبعي صناعة وفن قبل أن يكون علماً ودراية، وكل ما استدركه - إلا الفقرة الأولى يدخل في باب تصحيح الأخطاء المطبعية، فالأخيرة منها مثلاً، وهي:(من هوزان) ص 401 مذكورة في هذا الوجه نفسه مرات كثيرة على الصواب (هوازن) بتقديم الألف على الزاي - لا كما جاءت في تصحيح الأستاذ نفسه (هوزان) كما في الإمتاع!! -، ولكن تنبُّه الأستاذ إلى مثل هذه الأخطاء يدل على دقة وبصر، وأنه يحسن التصحيح المطبعي وذلك لما جُبِل عليه من الهدوء والوداعة.
وأما الفقرة الأولى من استدراكه، وهي التي جاء فيها تعقيبه على هذا الرجز: ص 222
(اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الألي قد بغوْا علينا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله: إن صواب الأول: (لا هُمِّ لولا أنت ما اهتدينا) وإن صواب الأخير: (إن الأليَ لقد بغوا علينا)، ثم تعجبه من أن يفوتني ذلك الاختلال في وزن الرجز، وأنا شاعر وعروضيٌ!! فإني أبرأ إليه من نسبة العروض، فطالما أفسد العروض ما بيني وبين أصحابي من الشعراء، وليس الأمس ببعيد.
ورواية الأول: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا)، هي الواردة في الأصل، وفي البخاري وفي مسلم (شرح النووي ج 12 ص 166)، وفي أكثر كتب التاريخ والسير والحديث. وقد جاءت الرواية التي ذكرها الأستاذ في كتاب الطبقات الكبير لابن سعد ج 2 ص 51،
وجاءت رواية أخرى: (والله لولا أنت ما اهتدينا) في مسلم (شرح النووي) ج 12 ص 170 و171، وقال النووي في ذكر الرواية الأولى ج 12 ص 166 ما نصه:(كذا الرواية) قالوا: وصوابه في الوزن (لا هم)، أو (تا لله)، أو (والله لولا أنت) كما في الحديث الآخر:(فوالله لولا الله. . .).
ورواية الأخير: (إن الألي قد بغوا علينا) هي الواردة في الأصل أيضاً، وفي البخاري في مواضع، وفي مسلم ج 12 ص 171، وفي أكثر كتب السيرة والتاريخ والحديث. وجاء في مسلم ج 12 ص 170:(والمشركون قد بغوا علينا)، وفي ص 171 منه ما نصه:(وربما قال (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملا قد بَغَوْا علينا)، وهي في اختلال الوزن كالرواية الأولى التي أثبتناها. ومثلها في ذلك أيضاً رواية من روى:(إن الأعادي بغوا علينا).
وقد نص شراح كتب السير، وشراح البخاري، على أن هذا الرجز ليس يَتَّزن (أنظر العينى ج 14 ص 132، وابن حجر ج 7 ص 308)، ولم يصححوه أو يبدلوه إلى ما يتزنُ، مما جاء في الروايات الأُخر، كالذي ذكر الأستاذ (إن الألي قد بغوا علينا)، وهي رواية ابن سعد ج 2 ص 51.
فإذا كان أصحاب العلم والدراية والبصر بالرواية لم يفعلوا ما أرادني الأستاذ على أن أفعله - من حيث أني عَرُوضي كما يقول! - فلي العذر تابعاً لهم، مقتدياً بهم، حريصاً على ألا أبدِّل أو أحرف ما اتفق عليه الأصل الذي أطبع عنه، والروايات المتعددة التي جاءت في أصح الكتب إسناداً أو رواية وتحريراً بعد كتاب الله.
هذا، والكلام عن مثل هذا الرَّجَز - وما يقع في بعض أوزانه من الاختلال والاضطراب - يفضي إلى القول في المواضع التي كان يُنشَدُ فيها، وكيف يكون إنشادُه؟ ولِمَ يُتجاوز فيه عن الوزن؟ ولو نظر الأستاذ الشاعر إلى صلة هذا الرَّجَز بما كان من الصحابة في حفر الخندق، وحملهم التراب في المكاتل، وسيرهم مصعِّدين ومصوِّبين. متوافقين في الإنشاد يمدُّون به أصواتهم مختلطة مرتفعةً، لعَلِم عِلْمَ ذلك، ولكفانا مؤونة الجري وراء العروض، أهو يتزن أو لا يتزن؟ حتى يبلغ بنا ذلك إلى تبديل الروايات وتحريفها، وقد جاءت عمن كان أعلم منا بالشعر والعروض.
وأخيراً، أشكر للأستاذ هذه الهمة التي دفعته إلى النظر والتنقيب، والبحث والتنقير؛ وأثني عليه بما هو له أهل، وأسأله أن يتغمَّد خطأ أخيه بما أعرفه من نبله وعلمه وفضله والسلام
محمود محمد شاكر
ابرهيم طوقان!
ألقى إليَّ بريد فلسطين صباح الثلاثاء الماضي رسالة من نابلس، وجَّهتها (لجنة تأبين الشاعر الأديب المرحوم إبرهيم طوقان). . .
وإنه لمما يضاعف الحزن على الفقيد الشاب والإحساس بشدة المصاب فيه، ألا يَذيع نعيُه إلا مع الدعوة لتأبينه، وقد كان من المنزلة بين شعراء العربية وأدبائها بحيث يحس فقدَه كل من تربطه به صلةٌ من الود أو صلةٌ من الأدب في مختلف أقطار العربية.
وما أريد أن يُذهلني مصابي فيه عن توجيه العتب إلى أصدقائه وخاصته في فلسطين: كيف فاتهم أن يَنعوه يوم نعوه إلى أدباء مصر، وهو كان أقرب صلة وأدنى منزلة، وله فيهم عشرات من الأصدقاء الأوفياء يعرفون فضله ويُعجبون بأدبه؟
ألا إن الخطب في إبرهيم ليس خطب أسرته وأهله ولا خطب أصدقائه في نابلس وفلسطين، ولكنه خطبُ كل أديب عربي تذوق من شعره، أو اطلع على نتائج رويته وبحثه، أو استمع إلى صوته في المذياع من محطة القدس العربية. . .
ولكنه قد مات، واخترمته المنون في نضرة الصبا وعنفوان الشباب، وهذا ناعيه ينعاه. . . فماذا على أصدقائه بعد؟
لقد عاش إبراهيم حياته عزوفاً عن الشهرة، بعيداً عن الفخر والادعاء؛ فما عرفه حق العرفان إلا طائفة قليلة من قراء العربية وإن كان في حقيقته بالمنزلة التي لا يتسامى فلانٌ وفلان من ذوي الألقاب الأدبية. وإن له على أصدقائه اليوم لحقاً يقتضيه الأدب ويقتضيه الوفاء: أن يذيعوا ما يعرفون من فضله وينشروا ما طواه من أدبه؛ وإنه لجدير بأطيب الذكرى وأحسن الثناء!
وهاأنذا أعتمد على كرم صديقي الأستاذ الزيات، فأدعو من يشاء من خاصة الفقيد وأهله وذوي ودِّه، أن يبعثوا إلى الرسالة بما يريدون أن يعرف الأدباء عن طوقان الشاعر المحقق
الأديب، وإن في صدر الرسالة لسعة لمن يشاء أن يسجل آية من آيات الوفاء للشاعر الشاب الذي وهب حياته للعربية ومات في ميدان الجهاد!
أما الدعوة لتأبينه وضجة الحرب تبتلع الأصوات، وترد الألسنة في الأفواه، فدعوة إلى غير نتيجة وعمل ليس فيه غناء!
وعزاءً إلى أسرة الفقيد وأصدقائه، والى فلسطين الصابرة المأجورة
محمد سعيد العريان
إلى علماء الإسلام
يا أحق الناس بالحلم وأولاهم بسعة الصدر، هبوا لي بعض وقتكم وانزلوا لأتفاهم معكم، فإن كنتم على صواب تعلمت منكم واعتذرت لكم، وإن كنت محقاً فارجعوا إلى الصواب مأجورين مشكورين!
أرى الإقبال على الأزهر الشريف والمعاهد الدينية في ازدياد مستمر، وأجد المتخرجين منها كثيرين كثرة ملحوظة؛ فأسأل النفس لم يفني كل هؤلاء الطلبة ربيع حياتهم في الجلوس إلى المعلمين واستذكار الدروس، لينالوا شهادة لا يوظف بها إلا القليلون، أم ليظهروا على الناس بعلمهم ويفرضوا عليهم احترامهم، أم ليلزم كل منهم صومعة ويعبد الله بعيداً عن الدنيا ومن فيها.
إن كانت هذه هي الغاية فما لهذا يعمل ذو عقل، وما لهذا يصح لإنسان أن يعيش عالة على أهله نصف عمره أو يزيد؛ وقد كان الأفضل أن يستثمر شبابه في زراعة أو صناعة أو أي عمل فيفيد ويستفيد.
لم تتعلموا إذن لشيء من هذا ولكن لقصد أشرف وغرض أنبل؛ تتعلمون لتعملوا، ولتعلموا الناس فيعملوا
إن كان ذلك كذلك فالواقع لا يقره، والمشاهد ينكره ولا يؤيده؛ فليس هناك منكم إلا فئة أقل من الضئيلة تحاول ذلك بطريقة عتيقة تكاد لا تتغير، وما أثمرت ولن تثمر أبداً.
انظروا إلى عددكم تخفكم كثرتكم، وفتشوا عما أفادت الأمة منكم، ثم أجيبوني: هل نحن في بلد إسلامي به مثل هذا الجيش من العلماء.
ألا فاعلموا أن بعد الموت حساباً، وأنكم ستسألون يومئذ عما فعلتم بعلمكم.
الدين صحيح مدعم بالحجج القاهرة والبراهين القاطعة، وعقول الناس مهيأة لتلقيه متى حسنت طريقة تلقينه. فهلا قمتم من رقادكم، وأفقتم من غفوتكم، وجمعتم صفوفكم، وتدارستم أمركم بينكم، ثم استنبطتم وسائل جديدة للدعاية لدينكم، ثم ألفتم لجاناً وجمعيات وعلمتموه للناس وحببتموه إليهم.
لا تحصروا نشاطكم في وعظ من بالمساجد، فلا يؤمها إلا الصالحون أو المتشبهون بالصالحين.
علموا الناس حيث وجدتموهم. علموهم في دور الملاهي والصور المتحركة والمقاهي والحانات والمنتديات والمتنزهات. عظوهم في الشوارع والأزقة والمآتم والأفراح. عظوهم في الصحف والكتب والمجلات والمذياع وعلى الشاشة البيضاء.
لا تقولوا لهم إن الله أمر بقطع يد السارق، وقتل القاتل، ورجم الزاني، ولا تقولوا لهم أدوا الصلاة في أوقاتها، وأخرجوا زكاة أموالكم، وصوموا وحجوا؛ ولكن بينوا لهم الحكمة في كل شيء، واشرحوا لهم الضرر في إتيان ما نهوا عنه والفائدة في اتباع ما أمروا به، وعرفوهم ما يلاقيه المتدين من انشراح صدر وجميل عزاء ونعومة بال.
صفوا لهم الرجل الكامل (الأسبور والجنتلمان)، وقارنوا بينهما وبين متخلق بأخلاق القرآن، وأروهم الفروق بينهم، واشرحوا لهم أن الدين لا يتنافى مع المدنية الحقة إن لم يكن أصلها ومبدعها.
جزيرة ميت عقبة - إمبابه
مصطفى جوهر