الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 414
- بتاريخ: 09 - 06 - 1941
حول مشكلة الزواج
إلى السيدة (ليلى)
لم تَعْدِي الصواب يا سيدتي حين قلت في كتابك الرقيق المدْرَج في
مقالك البليغ: إن لكل من الشباب والشواب معايب ومطالب قد تعاونت
على خلق مشكلة الزواج؛ ولكن السبب المباشر والمصدر الأول هو
المادة
وتصديقاً لقولك أسوق إليك قصة سمعتها من بطلها الدكتور (م. ش). والدكتور (م. ش) يا سيدتي فتى سَوىً الخَلق كامل الثقافة، يملك البصر والسمع بروعة منظره وبراعة حديثه. نشأ في بيت من أوساط البيوت، ولكنه تعلم في أوربا، وتقدم في الوظيفة، فنحا منحى الأوربيين في العيش، وسَمتَ سمْت الأرستقراطيين في المظهر؛ فهو يلبس كما يلبسون، ويجلس حيث يجلسون، ويلح بالسرف على مرتبه الكافي حتى يضيق بشهواته فيتمزق عند منتصف الشهر، ثم يكون في النصف الآخر حميلة على والديه
حسبك يا سيدتي من وصفه هذا، فإني لأخشى أن يُكشَف فيُعرف؛ ومعرفته تجر إلى معرفة الفتاتين اللتين ضحى بهما لهواه؛ وإذا علمت أسرتاهما أنهما ذُكرتا في موضع العبرة، كان ذلك أشد على نفوسهما من ألم المصيبة:
قال الدكتور ذات مساء بلهجة المقترف المعترف النادم ونحن نتناقل الحديث عن جنسك الذي لا يفتُر عنه الحديث ولا يُمل: كنت مصروفاً عن الزواج لأني لم أجد في نفسي حاجة إليه ولا في رأيي فائدة منه. إن كان يطلب للمتعة الطبيعية فقد يسرتها المرأة الطليقة؛ وإن كان يطلب للراحة المنزلية فقد هيأتها الأسرة الشفيقة؛ وما دام الأنس بالمرأة والأسرة موفوراً، فعلام يُحتمل عنت الزوجة وهم الولد وتكاليف البيت؟ ولكن سَرفي وترفي وقلة مرتبي وضيق ثروة أبي، نبهتني إلى أن الزواج يطلب لأمر ثالث: هو الثروة. فرغبت إلى أمي أن تستعين بالأقارب والصواحب والخواطب على أن تجد لي (بغلة العشر)، فقلَّبن على عيني أشتاتاً من العبقريات الحسان يملكن كل شيء إلا ما أريده، حتى وصلتني إحدى الخاطبات بفتاة قالت إنها أكثر مما أطلب. ثم خلى أهلها بينها وبيني، فتلاقت عينانا، ثم
فكرانا، ثم قلبانا، فما أنكرت منها خلقاً، ولا ذممت لها صحبة: ملاحة شرقية تغترق البصر، وثقافة عصرية ترضي العقل، ورشاقة رياضية تملك النفس، وشهوة جامحة لعيش المترفين تصور لها بالألوان السحرية أي قصر ستسكن، وأي حلة ستلبس، وأي سيارة ستركب، وأي حفلة ستقيم، وأي أسرة ستدير؛ فرأيت في رغباتها وحياتها صورة رغباتي ونمط حياتي، كأنما خلقها الله رضاً لهواي وتحقيقاً لمناي وتماماً لنفسي. ثم توثقت بيننا على جلوات الربيع وخلواته عرى المحبة، فتساقينا كؤوس الهوى في كل حديقة وعلى كل نهر، وأخذنا نهدهد حبنا الوليد على أناشيد الأمل انتظاراً ليومنا الموعود وعيشنا المرتقب!
على أن وحدة الخلق وجُمعة الأمل وألفة الهوى لم تُنسني السؤال عن المحبوب الأول والمطلوب الأول وهو المال. ولشد ما كانت خيبتي حين تكشَّف لي غناها عن دَين فادح لا ضمان له، ورياء فاضح لا حيلة فيه. حينئذ تغير النظر وتبدل الرأي واختلف الغرض، وأصبحت الخطيبة الحبيبة كعشرات الأوانس اللائى عقدتُ بهن أسبابي، وأذقتهن ضلال نفسي وعبث شبابي. إذن فما معنى أن أجمع بين طمعي وطموحها، ثم لا أملك لي ولا لها تحقيق أمل ولا قضاء نَهْمة؟
مشيت معها مشي الشباب المعروف أعدُها وأمنّيها، والخواطب الموعودات يغشين الدور ويقتحمن الخدور باحثات عن الثراء الضخم في أي فتاة كانت؛ حتى اهتدين إلى ابنة المرحوم (م. باشا) وكان من الأغنياء المذكورين، فلا مساغ للشك في ثروته، ولا وجه للسؤال عن ملكه. وكان العجب أن تظل ابنته مغمورة حتى تكشف عنها الخاطبة، ولكن أعجب العجب أن يشترط أهلها عقد الزواج من غير رؤية، وتعجيل يوم الزفاف من غير مهلة. وكان لا يعنيني أن أسأل الخاطبة عن حِلية الخطيبة، فإنها إن تكن جميلة ظفرت بالحسْنيين، وإن تكن دميمة كان لها معي بحكم زواجها بيت، ولي مع غيرها بفضل ثروتها ألف بيت!
وفي الحق أني تمثلتها حين دخلت بها كومة عالية من اللحم والشحم أضفوا عليها أفواف الوشي وشفوف الحرير، وفي ذروة الكومة نتأ رأس كرأس أبي الهول طوقوا أسفله بالذهب، وتوجوا أعلاه باللؤلؤ. ولا تسل عن الذراعين والساقين فإنهن قوائم فيل أو أساطين هيكل! ولكنها على بدانتها - شهد الله - خفيفة الظل عذبة الروح. وحسبي منها ألا
تكون هُولةً تُقذي العين وتؤذي النفس في الساعات القليلة التي ألمُّ بالبيت فيها
أطلقتْ يدي في ثروتها، على الرغم من معارضة أسرتها، فعشت عيش الأمراء السفهاء أنفق باليدين على خليلاتي ونداماي وهي تنظر وتغضي، وتسمع وتسكت، كأنما وازنت بين جمالهن وجمالها، وقارنت بين حالي وحالها، فلم يسعها غير الرضا بهذا النصيب. وكنت قد خدعت خطيبتي الأولى عن نفسها بقوة النقود والوعود فخضعت لي خضوع المنومَّة. ثم ركض بي في طريق الغواية فرس الهوى الجموح، وخلفت في غبار النسيان حليلة يذيبها فقدُ زوجها ومالها فتموت، وخليلةً يدلهها ضياع أملها وشرفها فتُجن!. . .
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الأبصار. ما كان حديثاً يُفترى؛ ولكنه الواقع يا سيدتي يثبت لك أن المال إذا جُعل غاية الزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء. فهل سمعت حديثاً كهذا الحديث، أو رأيت خبيثاً كهذا الخبيث؟؟
احمد حسن الزيات
الإسلام والعلاقات الدولية
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
(عقدت رابطة الإصلاح الاجتماعي مؤتمراً في شهر أبريل الماضي عالج فيه الخطباء مسائل شتى عن الإسلام والإصلاح الاجتماعي، وكان من بحوثه القيمة هذا البحث الممتع للفقيه الكبير الأستاذ محمود شلتوت وكيل كلية الشريعة، وهو نوع جديد من البحث الفقهي يسهل على الناس تناوله، ويبين لهم بعض كنوز الفقه الإسلامي وما فيه من قواعد يظن كثير من الناس أنه لم يعرض لها)
مقدمة
كان العالم - قبيل الدعوة الإسلامية - يتخبط في ظلمات داجية من الشرك والوثنية، والجهل والعصبية، والظلم والاستبداد كانت الظاهرة العامة التي تنتظم الوجود إذ ذاك هي الفساد في كل شيء: فساد في العقائد، فساد في الأخلاق، فساد في العلائق الاجتماعية، فساد في نظم الحكم والسياسة
كان الناس يعيشون في أسْر الأوهام والأباطيل والشبهات والعقائد الفاسدة. كانت الغرائز الحيوانية والطباع الوحشية مسيطرة على أخلاقهم وتصرفاتهم، بينما الصفات الإنسانية في غفلة وذهول
كانت علاقة الفرد بالفرد والأمة بالأمة تقوم على أساس الموازنة بين الضعف والقوة: يفتك الأقوياء بالمستضعفين، ويستلب القادرون حقوق العاجزين، ويستنزف الغالبون دماء المغلوبين.
كانت قاعدة السياسة بين الحاكمين والمحكومين هي شهوات الرؤساء ورغبات المسلطين: يتحكمون في الرقاب والأموال والأرواح والأعراض ما شاء لهم الهوى والغرض، وما أسعفتهم عوامل القوة والبطش والجبروت
من أجل ذلك قضت حكمة الله أن ينتشل العالم من حمأة هذا الفساد، وأن ينقذه من براثن هذه الفوضى، وأن يداويه من تلك الأمراض الفتاكة التي تفشت تفشي الوباء في جميع
الأرجاء
وهكذا بزغت شمس الإسلام، فبددت ذلك الظلام
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)
عناصر الدعوة الإسلامية
تتلخص الدعوة الإسلامية مهما تشعبت فروعها في مبدأ واحد هو (دعوة العالم إلى الخير). فإذا أردنا أن نفصل في هذا المبدأ بعض التفصيل قسمناه إلى نواح ثلاث هي:
التوحيد، والمساواة، والعدل
1 -
أصلح الإسلام بالتوحيد فساد العقيدة. فدعا الناس إلى احترام عقولهم بهجر ما كانوا عليه من الأوثان، معلناً أن للكون رباً عظيما، وإلهاً مدبراً حكيما، هو الجدير وحده بأن يعبد.
(لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير)
ولم يخرج بهذه الدعوة على أصل الفطرة وطبيعة الإنسانية، ولم يخالف بها ديناً من الأديان قبله
(فطرة الله التي فطر الناس عليها)
(شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذين أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
2 -
وقرر بالمساواة مبدأ الوحدة الإنسانية التي لا تعرف التفريق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين عنصر وعنصر
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا: إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)
3 -
وقضى بمبدأ العدل على الظلم والتحكم والاستبداد، وأقربه الأمن والطمأنينة والرضا، ولم يفرق فيه بين قريب وبعيد، ولا بين عدو وصديق، ولا بين مؤمن وكافر:
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)
على هذه الأسس بنى الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين والمسلمين، وفيما بين المسلمين وغيرهم من الأمم المختلفة. والذي يهمنا في هذا البحث هو استخلاص القواعد التي وضعها الإسلام تنظيما للعلاقات الدولية: وذلك ينتظم:
1 -
القواعد التي ينظم بها علاقته بالدول الأخرى
2 -
القواعد التي ينظم بها علاقته بمن يعيشون في بلاده من غير المسلمين
العلاقة بالدول الأخرى
إن العلاقة بين المسلمين وغيرهم لا تخرج عن إحدى حالتين: إما حالة سلام ووئام، وإما حالة حرب وخصام. وفي ضوء ما تقدم نرى الإسلام ينظر إلى الحالة الأولى على أنها الحالة الطبيعية الأصلية، ولا يطلب من غير المسلمين فيها إلا أن يخلّوا بينه وبين ما يريد من الدعوة إلى مبادئه دون أن يضعوا في طريقه العقبات، أو يثيروا أمامه الفتن والمشكلات. ذلك بأن دعوته هي دعوة الحق والعقل والصلاح الرشاد؛ وأن العقول إذا خليت وشأنها ارتاحت إليها وآمنت بها عن طريق الاقتناع والرضا، لا عن طريق الإلجاء والقهر
(أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي)
(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين!)
وهكذا يقرر القرآن أن الدعوة إلى الله لا يكون طريقها الإلجاء والقهر؛ وإنما يكون طريقها الحجة والبرهان. ولو تركه الناس يسري بحجته وبرهانه، وخلوا بينه وبين العقول، ولم يضعوا في طريقه العراقيل، لما سفكت قطرة واحدة من الدم في سبيل الله، ولغزت دعوته العقول، ونفذت إلى القلوب
والإسلام يسلك في هذه الدعوة السلمية الاقناعية كل طريق تواضع عليه الناس في دعوتهم إلى المبادئ ودفاعهم عنها، وبيانهم لمزاياها: من خطب في المجتمعات، ومن كتب يرسلها إلى الملوك والرؤساء، ومن وفود يتلقاهم ويحسن وفادتهم، ويبين لهم ما يدعو إليه
وفي ظل هذه السلم يترك الناس في شتى معاملاتهم إلى طبيعتهم وما يرون أن يسيروا عليه من نظم: يتركهم يتعاملون ويتبادلون المنافع ويتعاونون ويختلطون، لا يقيدهم في ذلك بقيد إلا ما تقتضيه طبيعة الشريعة بالنسبة للمسلمين من حظر أنواع من التعامل والعلاقات كالربا وزواج الكتابي من المسلمة، وزواج المسلم ممن لا تدين بدين سماوي ونحو ذلك
ولا يحظر الإسلام على المسلمين أن ينشئوا بينهم وبين غيرهم من العلاقات ما يرونه مصلحة لهم وعوناً على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والسياسة والعلم والثقافة: ينظمون ذلك على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع الفطرية، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص
وقد وضع القرآن الكريم أساس الدستور لهذه العلاقة السلمية إذ يقول:
(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين)
فهذه الآية تبيح للمسلمين أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن، بل تجيز أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم
هذه هي الحالة الأولى: حالة السلم والوئام؛ أما الحالة الثانية: حالة الحرب والخصام، فقد نظر الإسلام إليها من نواح متعددة:
1 -
نظر إلى الحرب في ذاتها كأمر تدعو إليه طبيعة الاجتماع البشري، فلم يحاول أن ينكرها، ولا أن يعارض مقتضيات الفطَر فيها، ولكنه اعترف بها كوسيلة لا بد منها لدفع العدوان، وتقليم أظافر الطغيان، وكبح جماح المفسدين:
اعترف بها لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع كثيراً ما تفضيان إلى التنازع، والبغي، والتنكر للحق، والاعتداء على الحريات، والفتنة في الدين. والإسلام شريعة عملية إصلاحية لا تغمض عن الواقع، ولا تسترسل وراء الخيال. ولو لم يقرر الإسلام الحرب ويعترف بها لتكون وسيلة من وسائل المقاومة ودفع العدوان، وإزالة العقبات من طريقة دعوته إلى الخير العام، لقضت عوامل الشر والفساد التي تؤازرها دائماً قوى الطغيان والعناد على هذه الدعوة وهي في مهدها، ولحرمت الإنسانية أن تجتني ثمراتها الطيبة في معاشها ومعادها
وإن القرآن ليرشد إلى هذا المعنى واضحاً إذ يقول:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين)(ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)
تلك هي نظرة الإسلام إلى الحرب من حيث تقريرها والحكم بمشروعيتها
2 -
وقد نظر الإسلام كذلك إلى أسبابها الداعية إليها نظرة تتفق وغايته من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فلم يبح امتشاق الحسام بدافع الرغبة في الفتح والاستعمار؛ ولم يرض عن حروب العسف والظلم والاضطهاد التي كانت وما زالت تثيرها عوامل الجشع والطمع والاستغلال، ورغبة التسلط على الضعفاء، واستنزاف الموارد، والتضييق على عباد الله. واعتبر كل حرب في هذه الدائرة حرب ظلم واعتداء لا يليق صدورها من أمة تحترم الإنسانية وتعرف لها حقها، وبذلك حصر الحرب في أسبابها المعقولة، وضيق في دائرتها تضييقاً يتناسب مع كونها ضرورة من الضرورات!
وهذه الأسباب هي:
(ا) دفع الظلم والعدوان
(ب) إقرار حرية التدين
(ج) الدفاع عن الأوطان
وإن القرآن ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذ يقول:
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)
وأساس الدستور العام في ذلك قوله تعالى:
(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوْهم. ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)
3 -
وقد وضع الإسلام بعد ذلك للحرب نفسها نظاماً تشريعياً مفصلاً قوامه العدل والرحمة واحترام الحقوق الغيرة على الإنسانية وهذا النظام منه ما يسبق الحرب، ومنه ما يكون في أثنائها، ومنه ما يكون في نهايتها
(البقية في العدد الآتي)
محمود شلتوت
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
حرية الرأي في القديم والحديث - التضامن الأدبي - المال والبنون - الباقيات الصالحات من الشمائل الإنسانية - لا تنزعجوا - تهديد طريف!
حرية الرأي
كنت قلت: إن الناس في عصر الظلمات كانوا يجهرون بآراء لا نستطيع روايتها في هذا الجيل، فهل يكون معنى ذلك أن القدماء كانوا أشجع؟ وهل يكون معناه أنهم كانوا أبصر بمذاهب النفوس، وأقدر على تصريف الآراء؟
الواقع أن أرباب الفكر في هذا العصر أكثر نفاذاً إلى الدقائق، وأعرف بشؤون المجتمع، وأهدى إلى أسرار المشكلات والمعضلات، بفضل ما أتيح لهم من وسائل الفهم والإدراك
فكيف يتفق أن يكون المحصول الفكري في هذا الجيل أقل من أمثاله فيما سلف من الأجيال؟ أو كيف جاز أن يمرّ محصولنا الفكري بدون ضجيج يوقظ غافيات العقول؟
يرجع السبب فيما أرجَّح إلى ظاهرتين تتصل أولاهما بالقارئ وتتصل الثانية بالكاتب، وفي تفصيل ذلك أقول:
كان القراء قديماً من الخواصّ، أو خواصّ الخواصّ، بسبب شيوع الأمية، وبسبب غلاء المؤلفات، أو ندرتها في بعض الأحايين، فقد قضى ابن خلدون عمره وهو يتشوف إلى الاطلاع على جزء من كتاب الأغاني، ولعله مات قبل أن يظفر بما يريد. وحدثنا صاحب (الطراز) أنه عجز كل العجز عن الوصول إلى مؤلفات عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، مع أنه كان على جانب من الغنى والجاه، وعلى اتصال بجماعة من الأمراء في مختلف الحواضر الإسلامية وعرفنا فيما قرأنا أن بعض الباحثين كان يقصد مناسك الحج لينادي علناً في عرفات عن رغبته في اقتناء كتاب لم يستطع الوصول إليه برغم ما بذل في سبيله من عناء
هذا يؤكد أن القراء قديماً كانوا من الخواص، أو خواص الخواص، وذلك هو السر في عدم تهيُّب المفكرين من إعلان ما يجول بصدورهم من آراء وأهواء، فقد كان المفكر يحادث قراءه كما يحادث أصفياءه، لثقته بأنهم فئة ممتازة تفهم عنه ما يريد بلا تزيد ولا تحريف،
وذلك أيضاً هو السر في أن تعابير القدماء تغلب عليها الصراحة، ويَسود فيها الصدق، وقد تُوصَم بالعُرْي في بعض الأحيان
ولا كذلك القراء في هذا العصر، فهم يُعدّون بالألوف وألوف الألوف، فمن العسير أن يكونوا جميعاً من الخواص، وربما جاز القول بأن جمهرتهم من العوامّ، أو عوامّ الخواصْ، وهذه الحال تفرض على المفكر أن يحتاط في عرض ما يجول بصدره من آراء وأهواء، وذلك هو السبب في تعابير أهل العصر تعوزها الصراحة، ويقل فيها الصدق، ولا تخرج سافرة أو عارية، كبعض تعابير القدماء، وإنما تخرج ملفوفة في أثواب من الرمز والإيماء والتلميح، إن لم يحملها الإسراف في حب السلامة على التدثر بأثواب من المداهنة والمصانعة والرياء
فإن رأيتم جماعة من المفكرين يدورون حول أغراضهم في تردد وتهيب وإشفاق فاعرفوا أنهم يصانعون قراءهم (الألباء) واذكروا أنهم لا يملكون من حرية التعبير غير أطياف، وإن قيل وقيل بأنهم يعيشون في القرن العشرين!
وهل كان التفاوت بين طبقات القراء هو كل ما يعوق الفكر في هذا الجيل؟
هنا يجئ القول بالفرق بين حال الكاتب في هذا العصر وحال الكاتب في العصور الماضية
فالكاتب قديماً كان في أغلب أحواله رجلاً قليل التأثر بضجيج المجتمع، لأن آراءه لم تكن تصل إلا إلى جمهور ضئيل يُعد أفراده بالعشرات أو بالمئات، ولأنه لم يكن يفكر إلا قليلاً في التطلع إلى المناصب التي تفتقر إلى ثقة المجتمع؛ فأكثر المفكرين القدماء لم يكونوا رجال سياسة ولا رجال أعمال، فقد كان فيهم جماعات يعيشون في عزلة رهبانية ولا يهمهم غير التعبير عن أغراضهم بحرية وصراحة وجلاء، ولم يتعرض منهم للأذى والقتل غير من طاب لهم أن يواجهوا مشكلات السياسة أو معضلات الدين
أما الكاتب هذه الأيام فله حال وأحوال
هو أولاً رجل يخاطب الألوف وألوف الألوف، وفيهم أذكياء وأغبياء وأعداء وأصدقاء، وهو عن مراعاة أهوائهم مسئول وهو ثانياً رجل يهمه أن يتمتع بحقوقه المدنية، وقد يتسامى إلى كبار المناصب، وذلك يوجب الحرص على مسالمة المجتمع في أكثر الشؤون
الكاتب في هذه الأيام يعرف جيداً أنه يعيش تحت رقابة عنيفة من الدولة ومن المجتمع،
وهو مقهور على مراعاة تلك الرقابة ما دام يتطلع إلى بعض المناصب العالية، وهي مناصب لا تمنحها الدولة إلا لمن يرضى عنهم المجتمع، وهنا يكون الخطر على حرية الفكر والرأي، ويكون الجحود لما وهب الله الناس من قلوب وعقول
التضامن الأدبي
وبعد عرض هذه الصورة التي تمثل ما صرنا إليه نوجَّه الأسئلة الآتية:
هل من مصلحة مصر - ولها الزعامة الأدبية في الشرق العربي والإسلامي - أن يشعر المفكرون من أبنائها بأنْ لا سبيل إلى الظفر بما تؤهلهم له مواهبهم من كبار المناصب إلا بمصانعة الدولة ومصانعة المجتمع؟
وهل من الخير لمصر أن تكون مناصبها العلمية والأدبية وقفاً على من يملكون أكبر نصيب من القدرة على إخفاء ما يثور في صدورهم من آراء وأهواء؟
وهل من الممكن أن يزدهر الأدب العربي وهو مصدودٌ عن الترجمة الصحيحة للأزمات التي تضطرم في صدور أهل هذا الجيل؟
وكيف تقوى لغتنا على منافسة اللغات الحية وهي أداة ضعيفة بسبب الكَبْت المفروض على قادة الفكر وحَمَلة الأقلام؟
نترك الدولة ونترك المجتمع إلى أن تفهم الدولة ويفهم المجتمع أن حرية الفكر والرأي هي المزية التي يُفضَّل بها الشعوب على بعض، ونسأل رجال الفكر والرأي عن واجبهم في حماية الأقلام والعقول، وما سألناهم هذا السؤال إلا ونحن نعرف أنهم آخر من يتقدمون لحماية الفكر والرأي من عدوان المخادعين والمرائين
ومعاذ الأدب أن أُنكر أن الأدباء يتعاونون ويتساندون من وقت إلى وقت، ولكني مع ذلك أشعر بأن التضامن الأدبي غير موجود بمعناه الصحيح
وكيف أطمئن إلى وجود التضامن الأدبي وأنا أعرف أن الأديب لا يجد من ينصره إذا تنكرت له الدولة أو تنكر له المجتمع؟
الأديب لا يعيش عيشاً مقبولاً في مصر إلا إذا راض نفسه على شمائل ينفر منها الذوق في أكثر الأحيان، كأن يعلن أنه راضٍ عن كل ما اتفق عليه العُرف من عادات وتقاليد، وكأن يتبرأ من كل من يتعرض لنقد الشرائع والقوانين
لا يعيش الأديب في مصر إلا إذا تخلق بأخلاق فلان. وفلان هذا رجل عاقل إلى أبعد حدود العقل. هو رجل يواجه قومه بما يحبون، فيدعوهم إلى السلم إن جنحوا للسلم، ويدعوهم إلى الحرب إن مالوا إلى الحرب؛ وهو يساير أهواءهم بخضوع لا نظير له ولا مثيل، وكأنه حمل مشدود إلى ظواعن القطيع!
ولفلان هذا زملاء يشاطرونه التمتع بنعمة (العقل) ولن يتقدم الأدب على أيديهم خطوة واحدة، لأن الأدب لا يحيا إلا في جو الحرية الفكرية والوجدانية؛ ولأن الأدب لا يعترف بوجود المرائين، ولو جُنّ الدهر فخلع عليهم أثواب الغنى والأمان.
الأدب ينتظر ثورة وجدانية وروحية وعقلية ليعلن حقه في الوجود
الأدب يطمع في أن يكون أداة التعبير عما في هذا العصر من أوهام وأحلام وحقائق وأباطيل، فيرج الأذهان والعقول بأقوى وأعنف مما يصنع الزلزال
الأدب يريد أن يكون صوراً صوادق لما عند أهل العصر من فجور وعفاف وإلحاد وإيمان، ليشعر الناس بأن الأدب ليس زخرفاً من القول، وإنما هو بعث وإحياء
ولكن الأدب سيظل مقيداً مغلولاً إلى أن يعرف أهله قيمة التضامن الأدبي، فمتى يعرفون؟ ومتى نطمئن إلى أن حرية الرأي لها أنصار بين أعلام الفكر وأقطاب البيان؟
لو ضمنا عطف الأدباء بعضهم على بعض لزهدنا في رفق الدولة وعطف المجتمع، فنحن ننتظر أن تقوم للأدب دولة تعصم أبناءها من التعرض لأذى الجاهلين، وتغنيهم عن انتظار الرزق الحرام، وهو الرزق المجلوب بمصانعة أهل الغفلة والجمود
المال والبنون
كنت أنكر على علماء النحو أن يقولوا إن واو العطف لا تفيد الترتيب، وكانت حجتي أن البليغ يقدم الأهم على المهم حين يعطف بالواو، بدليل قول القرآن:(المال والبنون زينة الحياة الدنيا) فما قدَّم المال إلا لأنه آثر في زينة الحياة من البنين
ثم تذكرت هذه الحقيقة النحوية حين قرأت كلمة الأستاذ عباس العقاد في التعقيب على الكلمة التي نصصت فيها على حقوق الوارثين؛ فقد كنت قررت أن انعدام الميراث يشل العزائم الإنسانية، ويروض الناس على الاكتفاء بجمع ما يغنيهم يوماً بيوم
ويرى الأستاذ العقاد أن طلب المال كطلب العلم، فهو فطرة لا تتوقف على التوريث ولا
على ما يعقبه الأدباء للأبناء وهذا الرأي حق، وقد تذكرت به الكلمة المنسوبة إلى الرسول (جائعان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال)، أو لعله قال:(منهومان)، فما أذكر بالضبط نص هذا الأثر النفيس
وصدَق الأستاذ العقاد فيما رواه من أحوال ناس ليس لهم أعقاب ولا يُخشى على أموالهم النفاذ لو بسطوا فيها الأكف بالإنفاق عشرات السنين
وأنا لم أبعد من الصدق حين قررت أن انعدام الميراث يشل العزائم الإنسانية، فأمامي أحوال كثيرة تشهد بأن الرجل تفتُر عزيمته في جمع المال حين يشعر بأن أملاكه قد تصير إلى غير من يحب من الأقربين، أو حين يرى أن أبناءه ليسوا من النجباء، وأن أملاكه قد تبدَّد بعد موته بقليل. وتلك أحوال يعرف منها الأستاذ العقاد مثل الذي أعرف، وهو نفسه قد نصّ على لون من لوعة الآباء حكاه له الدكتور يعقوب صرّوف
الذي يهمني هو رأي الأستاذ العقاد فيمن يجمعون المال ويحرصون عليه مع يقينهم بأنه لا وارث لهم غير من يتمنون لهم الموت من لئام الأسباط أو لئام الأقرباء
ما رأي الأستاذ العقاد في هؤلاء من الوجهة الأخلاقية؟
الجمهور يرى هؤلاء من الغافلين، وقد نُظمِت فيهم أشعار، وقيلت فيهم أمثال، وتعقَّبهم الناس بالغمز واللمز في جميع العصور وفي جميع البلاد
أما أنا، فأرى هؤلاء على جانب عظيم من قوة الإحساس بالوجود، وأراهم نماذج حسنة من الوجهة الخلُقية. . . ولكن كيف؟ وهل من السهل أن تنقض نظرية رحب بها الناس منذ مئات الأجيال؟
أخاطر مرة جديدة فأقول: إن حب المال دليلٌ على العافية الروحية، فما يحب المال غير الأصحاء، ولا يزهد في المال غير الأموات أو أشباه الأحياء
والمال يفرض على محبيه أن يكونوا من أهل النشاط والنظام والتدقيق، وتلك شمائل لا يتصف بها غير أهل العافية الروحية وإن أعوزَتهم العافية البدنية. أما الزاهدون في المال، فهم خلائق ضعاف لا يصلحون لدنيا ولا دين
والشخص الميت هو الذي لا يعرف قيمة المال، ولا يفهم - لأنه ميت - أن المال سناد الأحياء، وأنه شاهدٌ على أن أصحابه أدَّوا واجبهم في مصارعة أمواج الوجود
وأنا أؤكد هذا القول بعنفٍ يصل إلى الإلحاح البغيض، لأني أرى أهل مصر في احتياج إلى من يدق ناقوس الخطر ليذكرهم بوجوب التأمل في هذه المعاني
أنا أكثرت من القول في هذه الشئون، حتى صح للدكتور إبراهيم ناجي أن يقول في إحدى المحاضرات بأن أدب زكي مبارك مستوحّى من غريزته في حب الحيازة والامتلاك
ولو كان هذا القول صدقاً في صدق، لبحثت عن أسلوب غير الأسلوب الذي ارتضيته في حياتي، وهو احتراف التعليم والتأليف، فمن المؤكد أن الأوقات التي أبذلها في خدمة الحياة الأدبية، كانت تجعلني أغنى الناس لو بذلتها في الاتجار بالتراب
الحياة خدعتْنا فزينت لنا احتراف التعليم والتأليف، فما الذي يوجب أن نطوي عن قومنا ما فطنّا إليه بعد فوات الوقت؟ نحن نرى أن جمع المال ليس بعيب، ونحن ندعو مواطنينا إلى الاعتصام بالمال، فقد قدمه الله على الاعتصام بالبنين
المفتونون بجمع المال هم في نظري أعرف الناس بقواعد الأخلاق!
وهل أخطأ أسلافنا حين قررّوا أن الغنيّ الشاكر أفضل من الفقير الصابر؟
الفقر كريه الطعم، قبيح اللون، فاقتلوه حيث ثَقِفتموه
الفقر فضيحة علنية. الفقر أكبر الذنوب، وأشنع العيوب
حاربوا الفقر، حاربوه، حاربوه، فهو أقدر البلايا على إذلال الرجال!
يقول المثل الفرنسي: (قل لي مَن تصاحب، أقل لك من أنت)
وأنا أقول: (قل لي ماذا تملك، أقل لك من أنت)
أقبح عيب يوصَم به الغني هو البخل، وأقبح عيب يوصَم به الفقير هو السؤال، وما أبعد الفرقَ بين البخل والسؤال!
هل يعرف الغافلون من الذين يشتموننا ظالمين أننا لم نَدْعُهم إلا إلى إكرام أنفسهم بالحرص على طلب الرزق الحلال؟
الذي لا ينفق عشر ساعات من كل يوم في طلب الرزق ليس بأهل للعيش
والذي لا يجعل من همه أن يعيش مستوراً ويموت مستوراً ليس بأهل للظفر بنعمة الكرامة الذاتية
والذي يعجز لفقره عن إنجاد إخوانه من وقت إلى وقت لا يجوز له التوهم بأنه من أحرار
الرجال
الغِنَى أجمل مظهر من مظاهر الأخلاق، جعلنا الله جميعاً من الأغنياء!
الباقيات الصالحات من الشمائل الإنسانية
يذكر أخونا الزيات - حفظه الله ورعاه - أني أرسلت إليه كلمة سايرني خيالها في تجوالي بين الإسكندرية وأُسوان، وأنه طوى تلك الكلمة لأسباب لا يجهلها القراء؛ فهل أستطيع أن أسجل أن الإنسانية لا تزال فيها شمائل من الباقيات الصالحات؟
من شمائل الإنسانية في هذا العصر أن من الممكن أن تُعفَى بعض المدائن من أهوال الحرب، إذا شاء أهلوها أن يجعلوها في أمان من البلاء
ومن شمائل الإنسانية في هذا العصر أن يُعفَى (اتحاد البريد) من التعطيل، ولو وُجَّهتْ رسائله إلى ميادين الحروب
وبفضل هذه الشمائل الإنسانية حمل إلى البريدُ كتاباً من حضرة الأستاذ غالب المؤيد العظم، وهو يعلن رضاه عن مجلة الرسالة، وعن المقال الذي نشرته بعنوان:(الفرد هو الحجَر الأول في بناء المجتمع)
فإلى ذلك الأستاذ الفاضل أقدَّم أصدق التحيات، وأرجوه أن يعفيني من نشر قصيدته في الثناء على صاحب ذلك المقال وإن عاد السلام فسيكون لنا مع أصدقائنا في جميع البلاد العربية أحاديث وأحاديث
لا تنزعجوا
ظن القراء أني قد أطيع جماعة الثائرين فأنسحب من الميدان الأدبي، فكتب فريق منهم رسائل طريفة يدعونني فيها إلى الثبات في الميدان
وأجيب بأن أعز أصدقائي هم أولئك الثائرون، وأنا بثورتهم مزهوٌّ مختال، لأنها تشهد بأنهم يسايرونني بيقظة والتفات، فثورتهم ليست إلا فنَّا من فنون الإعجاب
والحق كل الحق أني لا أفكر أبداً في إيذاء قرائي بعرض ما قد ينكرون من المذاهب والآراء، وإنما أنا مسئول أمامهم عن التزام الصدق في جميع الأحوال ولو تعرضت لغضبهم المهتاج؛ وثورتهم علىَّ بسبب الصدق أخف وأهون من ثورتهم على بعض الناس
بسبب الرياء
إن الكاتب الذي يرائي القراء ليس بأهل للحياة الأدبية، ومن الواجب أن نقول للقراء بصراحة إننا لا نستوحيهم ولا نستهديهم، حتى ننتظر ما يتفضلون به من حمد وثناء، وإن كان الحرص على منافعهم أول ما يشغلنا حين نمتشق القلم في سبيل الحق، وهل كان هوانا إلا فيضاً من هواهم، وإن غفل بعضهم عن حقائق ما نريد؟
وإذن فمن حق السيد ناصر الدين النشاشيبي أن يطمئن إلى أننا لن نخرج أبداً من الميدان الأدبي، ولن نأتمر أبداً بأوامر أهل الحقد والبغضاء
تهديد طريف
وبهذه المناسبة أذكر أن قارئاً لا أسميه هدد بالكتابة إلى الأستاذ الزيات ليبلغه آراء القراء في صاحب هذا الحديث!
وأقول إني تطوعت بتبليغ هذه الآراء إلى الأستاذ الزيات وإلى جميع القراء، فما الذي يراد من أمانتي أكثر من ذلك؟
أنا أشتهي أن أرى في الدنيا أقواماً يغضبون ويحقدون، فما تأخر الشرق إلا لعجزه عن الغضب والحقد، وهما من شواهد الحيوية في الغرائز والطباع
أغضبوا واحقدوا، ثم اغضبوا واحقدوا، غير باغين ولا عادين، وكونوا رجالاً يؤذيهم ما يكرهون فيثورون عليه ثورة الحليم العاقل الحصيف
اغضبوا واحقدوا، يا بني آدم من أهل مصر والشرق، ولا تنسوا أن الذي أملى عليكم دروس البغض والحقد هو الكاتب الذي يحبكم أصدق الحب:
زكي مبارك
الحياة الزوجية في نظر الإسلام
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
- 2 -
خطبة الزواج
تحدثنا عن دعوة الإسلام إلى الزواج؛ لأنه الرباط الوثيق - أولاً - بين الأفراد في محيط الجماعات الصغيرة، ولأنه - ثانياً - الدعامة التي يرتكز عليها البِنَاء القومي في تكوين شعوب، وقبائل يعمر بها الكون، وتؤدي رسالة البشرية بما يجري على يدها من الإنشاء والإبداع والتعمير، وإبراز ما أودع الله في الكائنات من إمارات وجوده. وذلك هو مظهر الحياة الذي كان من أجله آدم خليفة في الأرض عن ربه، وكانت خلافته على هذا النحو إرثاً بين أعقابه إلى ما شاء الله
فإن يكن تكوين الجماعة القوية المنظمة هو الهدف الأهم الذي يرمي إليه الإسلام من وراء الحياة الزوجية، فمن شأن الإسلام أن يرشدنا إلى طريق الدخول في حوزة هذه الحياة، ومن شأنه أن يقيم لنا على جوانب هذه الطريق معالم لا يضل معها من استجاب للدعوة
ومن الحصافة - وقد فعل الإسلام - أن يأخذ المرء نفسه بالتبصر، والأناة، وتقدير الغاية، حتى إذا أقدم أقدم عن بينة لا يشوبها تردد، ولا يلاحقها ندم
وقد حدثنا الرواة أن الاتصال الزوجي على عهد الجاهلية كان على ضروب شتى، وكانت نظمهم في ذلك وليدة عرف قاصر مشوه، وأخلاطاً من عادات موروثة ملفقة؛ لذلك لم تخل وسائلهم في الحياة الزوجية من أنواع معيبة لا تكفل سلامة النسل من الدخالة، ولا تأتي بنظام للجماعة على النحو ولا قريباً من النحو الذي يتوخاه الإسلام
جاء الإسلام فعزف عما كان لدى الأعراب من الوسائل، وعفي عليها، إلا وسيلة واحدة فيها سمو بالمرأة عن الريبة، وسمو بالرجل عن الطيش والرعونة، وفيها صيانة للأسباب أي صيانة
تلك وسيلة الخطبة التي تدور حولها آي القرآن وأحاديث الرسول، وعليها جرى العمل بين سلف المسلمين، وبين الخلف الذين لم يمسسهم أفن الرأي وانحلال العقيدة، ولم ينزعوا إلى
فوضى الجاهلية الأولى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
يقول الله تعالى: (الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. . .) فهذا شق من آية كريمة، يحدثنا - على أنسب الوجوه في تفسيرها - بأن الخبيثات من النساء لا يستأهلن من الأزواج إلا الخبيثين، فمن كرمت نفسه من الرجال، وضن بمروءته عن مواطن الذلة والهوان فبعيد عليه أن يجنح إلى خبيثة ساقطة يتخذها زوجة له. وكذلك الخبيثون من الرجال لا يستحقون إلا خبائث النساء، فمن ربأت بها العزة، وامتزج بها الشمم، تحاشت أن تجعل نفسها فراشاً لرجل ساقط المروءة، وضيع النفس، هين الكرامة
فإذا ما بخل كل ذي كرامة من الجانبين بنفسه عن لوثة الاتصال بالخبيث - تهيأ له أن يكون مع من يدانيه شرفاً وطهراً، ويناسبه أدباً وخلقاً؛ وهذا ما تهتف به الآية في شقها الثاني، إذ يقول تعالى:(. . . والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) ففي هذا الشق إشادة بالنساء الطيبات، وإغراء للرجال باختيارهن، وكذلك إشادة بالطيبين، وأَغراء للنساء الطيبات باختيارهم أزواجا
فنحن نرى من هذا السياق حثاً قوياً (لكل من الرجل والمرأة على التنزه عن اختيار الوضيع قريناً له، ونرى فيه حثاً قوياً على اختيار الطيب للزيجة، فكلا الزوجين مرآة تتمثل فيها صورة صاحبه) فلينظر المرء: على أي شكل يحب أن يراه الناس؟
ويقول تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة. . .) فهذا شق آخر من آية ثانية، فيها تجريح مقذع للزاني، حتى أنه في الغالب لا يرغب أن يتزوج إلا من كانت على شاكلته، أو كانت أفحش منه، وأبعد عن الإسلام إلى الشرك؛ فهو لا يألف من النساء كرائمهن العفيفات، إذ هو لا يبالي المعرة، ولا يراعي لنفسه ولا لذريته حرمة، مادام يتخذ الزواج وسيلة إلى قضاء لبانته الجنسية. . . وفي هذا تنفير لذات العفاف أن ترضى عمن عرف بالدعارة زوجاً لها، وإنما تتركه لزوجة من فصيلته الزواني أو المشركات إن استطاع، وتنتظر من الرجال من تشرف بشرفه وتحظى بالحياة معه معافاة في دينها وسمعتها. وكذلك الشأن في المرأة الزانية (. . . والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) فهي مُجرحَة مسخوطة، ومبتذلة مستهجنة؛ فما ينبغي لرجل عزيز على نفسه أن يرضاها، وإنما لها من يشاكلها نزعة وخلقاً، (وحرم ذلك على المؤمنين). الكاملين فلم يبق من سبيل إلا أن يتجه
الرجل في خطبته إلى من تكون حرثاً نقياً له، وتربة طيبة لبذور نسله، وأن تتجه المرأة في خطيبها إلى النبل، أو كرم الطبع، ومحاسن الرجولة؛ ليكون البناء بهما قوياً متماسكا، فيسدا فراغاً في بناء الجماعة الكبرى - الأمة - ويكون لهما - بجانب ما يتوفر من هناءة وطيب حياة - فضل الاشتراك في تكملة الصفوف، وتكثير السواد بما ينجبان من ذرية كريمة المنبت
وهكذا ينصح النبي (ص) إلى الخاطب أن يأخذ بالحزم، ويتفرس في المخطوبة ما يفي برغباته: من شكلها ودينها وأصلها، وما إلى ذلك مما جبلت النفوس على التطلع إليه، ليتوفر الرضا، ويكون المرء بنجوة من نزعات الطمع وخوالج النفس التي تحقَّر ما لدية فيمد عينيه إلى غير ما يملك، ثم لا يكون من وراء ذلك إلا استعاضة لما في حوزته، واكتئابه لما حرم منه، وهو مخدوع بالأماني؛ والأمانيّ والأحلام تضليل
يقول النبي (ص): (إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها - زواجها - فليفعل)
وقال (ص) لرجل من أصحابه كان يخطب امرأة: (أنظرت إليها؟ قال: لا، قال (ص): أذهب فانظر إليها)
وقال (ص) لرجل آخر في شأن كهذا: (أذهب فانظر إليها؛ فإنه أحرى أن يوائم بينكما)
يعني - إذا رأيتها وأعجبتك كان ذلك أدعى لدوام الألفة بينكما. . . فإذا لم يستطع المرء أن ينظر، لمانع قام في سبيله، فمن السنة أن يبعث من النساء من تستوضح له شأن المخطوبة، وتتعرف له ما يعنيه من أمرها. وقد فعل النبي (ص) ذلك، إذ رغب في خطبة امرأة، وأحب أن يعلم عنها ما يرغبه فيها، أو يرغبه عنها؛ فأرسل إليها امرأة ثقة، وأمرها أن تنظر إلى قدميها، وتشم رائحتها. . . وإن يكن هذا حق الرجل في خطبة المرأة، فهو كذلك حق المرأة في اختيار الرجل زوجاً لها؛ لها أن تراه وتتفرس فيه ما يعجبها، ولهما أن يتحدثا ليقف كل منهما على ما يصاحبه من لباقة أو لكنة، ومن نشاط الذهن أو خموده. . . ولكن على أن يكون هذا الاختبار في غير خلوة، بل مع وجود محرم للمرأة. وإن تكرر هذا فليس فيه من حرج إلى أن تطمئن نفس كليهما، وللعرف شأنه في تحديد هذا الاختبار بالقدر الكافي
وليس يدخل في ذلك أن يجتمع الرجل بالمرأة في جماعة من الرجل الأجانب، فإن الحراسة المقصودة من وجود المحرم معدومة؛ بل هذه من أشد أنواع الخلوة خطراً على حياة المرأة وعفتها؛ فضلاً عما يجره إليها من الريبة وسوء الأحدوثة
كما أنه لا يدخل في حدود الاختبار المباح أن يجتمع بالمرأة في حضرة عدد من النساء. فإن انفراد النساء برجل واحد يعد في الشرع من الخلوة المحظورة. ووجهة الإسلام واضحة في ذلك؛ فإن الأثر السيئ الذي ينشأ عن هذا الاجتماع لا يقف عند سمعة امرأة واحدة؛ بل يتطاير شرره إلى هذا العدد من النساء جميعاً.
والإسلام يدرأ الشر من أبعد طرقه، ويحتاط له في كثير من المبالغة، حفاظاً على السمعة، واستبقاء للشرف والكرامة، وخاصة فيما يتصل بالأعراض. ولما كانت أسباب الرغبة في المرأة كثيرة، وتختلف باختلاف نزعات الرجال وميولهم، بينها النبي (ص) أو بين أهمها وأولاها بالاعتبار فقال:
(تنكح المرأة - والنكاح في كل ما نذكره معناه الزواج - لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين ثرَبت يداك) فهذه أهم الأسباب التي ينبغي أن تدور حولها الرغبة في الزواج، وهي الأسباب التي ترى الناس يلتمسونها في الخطوبة؛ والنبي (ص) يُقرنا على اعتبار تلك المزايا. غير أنه لما كان الدين عند الناس في الموضع الأخير من تقديرهم، مع أنه خير ما يُرجى في الزوجة - أكد علينا النبي (ص) أن نفضل ذات الدين على غيرها، وأن نلتفت إلى الدين قبل سواه فيمن نريدها زوجة أمينة على الشرف، وعلى طهارة النسل، وأن نبني منها نسباً، ونتخذ منها صهراً
أكد علينا النبي (ص) أن نؤثر ذات الدين، ولو لم تكن ذات مال، ولا جمال بارع، ولا حسب، والحسب هم الأهل الطيبون، وقد بالغ في تأكيده حتى قال: ثربت يداك، وهذا دعاء بالفقر في أصل معناه، ولكنه غير مقصود وإنما يجري على لسان العرب في مقام التنبيه على أمر ذي بال، وهكذا أراد منه سيد العرب وأفصحهم (ص)؛ فإن اجتمعت هذه المزايا لزوج محظوظ فذلك فضل من الله يشكر، وإن اجتمع مع الدين بعضها فتلك نعمة لا تكفر. أما إذا ضاع الدين في المرأة فلا خير في مالها، ولا حسنها، ولا أهلها، وفي هذا ينطق الوحي على لسان الرسول (ص) فيقول: (لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن، ولا
لمالهن فلعله يطغيهن، وأنكحوهن للدين. ولأَمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل)
يريد النبي (ص) أن حسن المرأة - من غير دين يكون سياجاً لها - يدفع بها إلى مهابط الرذيلة. ويريد أن مالها - من غير دين تتوقر به - يحملها على الطغيان وسوء العشرة. ويريد النبي (ص) أن امرأة سوداء خرقاء - يعني مخزومة الأذن على نحو ما كان معهوداً في الإماء المملوكات - أو خرقاء ناقصة العقل مع احتفاظها بالدين: أفضل ممن خسرت دينها وإن بلغت من المال والجمال والحسب فوق ما يشتهي الرجال من المطامع
وليس القصد من الدين أن تصلي المرأة وتصوم - مثلاً - وكفى ولو كانت سيئة الطباع؟ - لا - بل التي هذب الدين أخلاقها، وحفظ عليها حياءها، واستمدت من روحه وآدابه تربيتها، وإن ورثت هذا عن بيئتها وأهليها؛ حتى لا تكون مبتذلة جارحة لسمعته، ولا حمقاء متعبة في عشرته، ولا جشعة مستقلة لخيره، متلفتة إلى غيره
وفي حديث آخر ينصح النبي (ص) باجتناب خصال ثلاث وباجتناب من عرفت بها أو ببعضها من النساء فيقول: (لا تتزوج حنّانة، ولا أنانة ولا منانة)؛ والحنانة: التي عرف عنها أنها تسخط حياة زوجها، وتحن إلى عهدها قبل التزوج منه؛ والأنانة: التي عرفت بالأنين والشكوى مما بيدها أو من حظها، أو من صحتها؛ والمنانة: التي ترى لنفسها فضلاً تعتد به على الزوج. فواحدة من هذه النقائص تغض من راحة الزوج في عشرتها، وتخرج بها عن الإلف والامتزاج إلى الضغينة والشحناء واتساع الخلاف؛ وما لشيء من هذا يراد الزواج
وهكذا يطلب من الرجل أن يكون ذا دين، ويحث النبي على تفضيل المتدين على سواه، مع مراعاة الوسائل الأخرى التي ينشدها الإسلام في الزوج من خَلق وخلُق، ومن قدرة على الحياة الزوجية، ولياقة في الحسب
فيقول (ص): (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه. إلاّ تفصلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). يقصد النبي (ص) رعاية الدين والخلق، والتنفير من الأحمق والفاسق وإن اجتمعت فيهما أسباب القبول بعد هذين. وإلا كانت حياة نكدة بين الزوجين، وكان فساداً في نظام الأسر، وهدماً في بناء المجتمع، وشراً لا يقف عند حد، والدين - كما نوهنا من قبل - حريص على استئصال الشر من جذوره
لم يكتف الإسلام بأن يطلب في الرجل دينه وخلقه، ولا بأن جعل للمرأة حق الرؤية كما جعله للرجل، بل أعطى للمخطوبة حرية أوسع من ذلك، ومكن لها أن تقبل في صراحة أو ترفض في شمم وإباء. فأمر النبي (ص) أن يؤخذ إذنها في الزوج قبل العقد له عليها، ومنع وليها أن يكرهها على من لم ترضه زوجاً لها إذا لم يكن كفئاً لها، وعلى ذلك جرى الفقه الإسلامي. . . ولقد جاءت فتاة إلى النبي (ص) فأخبرته أن أباها زوجها وهي كارهة لمن رضيه أبوها، فأحضر النبي (ص) أباها، وتبين منه صحة ما شكت منه الفتاة، فخيرها النبي (ص) في بقاء العقد أو بفسخه لها؟ فرضيت - بعد - بمن رضى أبوها
(لها بقية)
عبد اللطيف محمد السبكي
المدرس بكلية الشريعة
من الأدب الفرنسي
صديقي موبَسَّان
للأستاذ محمد عبد الغني العطري
مما لا جدال فيه أن الصداقة ضرب من لوازم الحياة الضرورية التي يندر أن يستغني عنها إنسان. فهي كالغذاء للجسد أو العلاج للمريض. ولكل امرئ في هذا المجتمع صديق يأوي إليه في وقت الضيق، أو في ساعة السرور، فيقتسمان الفرح والترح، ويشتركان في السراء والضراء. والحياة دون صديق تبدو جافة قاتمة، لا أثر فيها للعواطف الروحية السامية التي تربط القلب بالقلب وتصل الروح بالروح.
هذا الضرب من الصداقة نجده بين عامة الناس، إذ لا بد لكل فرد من صديق. ولكن فريقاً من الناس في كل بلد وقطر، يصاحب الكتب ويصادق الأدباء، سواء منهم من كان في عالم الفناء الآجل، أو في عالم البقاء الأبدي. هذا الفريق يتألف من طبقة المتأدبين والأدباء، والكتاب والشعراء، ويضاف إلى هؤلاء طبقة القراء المولعين.
منذ سنوات عدة بدأت أشعر بميل شديد إلى أدب القصة، وأخذت أهيم بهذا الفن الجميل هُياماً عظيماً، فصرت ألتهم ما يقع بين يدي من روايات وأقاصيص، وأبحث عما في الصحف والمجلات الكبيرة من رائع القصص. وبينما كنت ذات يوم أقلَّب بصري في إحدى المجلات عثرت بقصة مترجمة عن كاتب لم أقرأ له شيئاً من قبل. فجلست أقرأ وأقرأ. . . فلما انتهيت وجدتُني في عاَلم جديد من أدب القصة لم أعرفه قبل ذلك اليوم، عالم كله سحر وعطر، وفن وجمال. وكنت أشعر وأنا أقرأ تلك القصة بأنها تتدفق بالذوق الفني الرائع، وأنها قطعة تفيض بألوان بارعة التنسيق من الحياة. ومكثت بعد ذلك برهة أستعيد حوادث القصة، وأسلوب عَرضها الأنيق، وحوارها الطريف؛ فما نهضت من مجلسي يومذاك إلا لأذهب إلى إحدى المكتبات وأقتني بعض أقاصيص هذا الكاتب، الذي لم يكن سوى (جي دي موبَسَّان)
منذ ذلك اليوم أصبح موباسان صديقاً لي حميماً، لا أجد له مؤلفاً إلا اشتريته، ولا يُكتب عنه
شيء إلا قرأته، وهو يجزيني عن هذا الإخلاص خير الجزاء؛ ففي كل مرة أجلس إلى قصة من قصصه أو رواية من رواياته، يكشف لي عن نواح من فنه وعبقريته تزيد في حبي له وتضاعف من إعجابي به.
وإذا نحن حاولنا أن نكشف القناع عن سر عبقرية موبسان وفنه، لم نستطع أن نُرجع السبب إلا إلى أمرين اثنين: الأول نبوغ فطري واستعداد طبيعي. والثاني تتلمذه على الروائي العظيم (غوستاف فلوبير) مدة سبع سنوات، لَّقنه في خلالها أصول الفن الحديث وقواعده العلمية الصحيحة، حتى أن موبسان كتب بعد ذلك يقول:(لقد اشتغلت مع فلوبير سبع سنوات لم أنشر خلالها سطراً. وفي هذه السنوات السبع أعطاني معلومات أدبية لم أحصل عليها بعد أربعين عاماً من التجارب)
والحق أن تتلمذ موبسان على فلوبير طوال هذه الأعوام صقل مواهبه وسدد خطاه، وراضه على التأمل الطويل والتفكير الكثير في سبيل الفن وحده. وكان فلوبير خلال ذلك يأخذ بيد تلميذه في طريق السمو والإبداع، ويقدم له خالص النصح، وكان يقول له:(ليست الموهبة إلا صبراً طويلاً. إنها تقتضي تأملاً كافياً لكل ما يراد التعبير عنه، مع كثير من الانتباه، كي نصل إلى وصف منظر لم يره أحد ولم يصفه. لا يزال في كل مكان أشياء لم تُكشف بعد؛ والسبب في ذلك أننا معتادون عدم استعمال نظرنا الخاص في التفكير والتأمل، إلا ممزوجاً بما قاله الأقدمون. إن في أصغر شيء وأقله قيمة قليلاً من المجهول، فلنبحث عنه. ولكي نصف مثلاً ناراً تتأجج أو شجرة في سهل، يجب علينا أن نطيل الوقوف أمام تلك النار أو هذه الشجرة حتى نستطيع أن نخرج إلى الناس بوصف لا يشبه أي وصف لأية شجرة أو أية نار، بهذا يستطيع الكاتب أن يكون مبتكراً مجدداً)
ويقول موبسان معلقاً على ذلك:
(وعند ما بسط فلوبير أمامي هذه الحقيقة التي تقول إنه لا يوجد في الكون كله ذرتان من الرمل، أو ذبابتان أو يدان أو أنفان متشابهين كل التشابه. أخذ يجبرني على التعبير في بضع جمل عن كائن أو شيء يميزه بوضوح من كل كائن وكل شيء من النوع ذاته والجنس نفسه)
ولقد قسا صاحب (مدام بوفاري) على تلميذه قسوة شديدة فكان موبسان يكتب خلال تلمذته
عليه كثيراً من الأقاصيص والروايات، وينظم كثيراً من الأشعار، ثم يعرضها على أستاذه فكان هذا يظهر له أغلاطه ويبسط له نقده ثم يُقدَّم له النصح ويتلف ما كتبه التلميذ، وكانت هذه القسوة من أكبر العوامل في خلق عبقرية موبسان. إذ أنها كانت تدفعه إلى الإبداع والتجويد، ولو كانت على غيره لقتلت مواهبه وقضت عليه القضاء الأخير، ولكن النبوغ يقحم كل عقبة، والعبقرية تجتاز كل الصعاب. وظهر بعد ذلك موبسان في عالم الأدب متسلحاً بكل ما يتطلبه فن القصة الرفيع من خيال واسع، وموهبة فذة، وعبقرية لا تبارى، وكانت أولى ثماره في الأدب قصة دعاها (كرة الشحم) كتبها بمناسبة حرب السبعين وفيها ينتصر للعنصر الفرنسي على العنصر الجرماني ويظهر تفوقه عليه. وقد فازت قصة موبسان هذه على خمس من القصص كتبها في الموضوع نفسه: أميل زولا وكّيار وهويسمن وآلكسي وهانّيك. حتى أن فلوبير الذي لم يكن يرضى في بادئ الأمر عن نتاج موبسان الأدبي كتب يقول عنها: (إنها تحفة رائعة جداً في إنشائها وتهكمها ودقة ملاحظاتها)
ثم أخذ موبسَّان يطل على الناس بنتاجه القصصي الرفيع الذي جمع كل ما في الحياة من مشاهد وصور يمر بها الإنسان العادي فلا يجد بها ما يهزه أو يثير مشاعره، ولكن القصصي المبدع يرى فيها خير مادة يغذي بها فنه ويستمد منها قصصه، وما هي إلا أعوام خمسة عشر حتى استطاع موبسان أن يقدم للناس ثماني عشرة مجموعة من الأقاصيص في كل مجموعة منها نحو من خمس عشرة قصة. كل ذلك عدا سبع روايات كبيرة وثلاث مسرحيات وثلاثة كتب في السياحة ومجموعة من الشعر
ولسنا نعجب لغزارة هذا النتاج الأدبي وكثرته، ولكننا نعجب للسرعة والبراعة والقوة التي أبداها موبسان في مؤلفاته عامة وأقاصيصه خاصة حتى لقد سُمي بحق (زعيم الأقصوصة الأكبر)
أما ترى معي أيها القارئ أن موبسان كتب ما يقارب الثلاثمائة أقصوصة وقلما نجد بينها واحدة تمت بصلة إلى غيرها من أقاصيصه؟ أما ترى أن أقاصيصه مختلفة الأشكال متباينة الألوان لا تربطها إلى بعضها سوى رابطة واحدة هي رابطة الفن؟
لقد توفرت لموبسان جميع العناصر الفنية والأدبية التي تؤهله لأن يكون الزعيم الأقصوصي الأول، فزخرت مواهبه بالصور الفنية والقطع الساحرة، فأخرجها ألواحاً رائعة
التلوين بارعة التنسيق يتمشى خلال سطورها الفن وينسجم، وتلتمع بين ثناياها العبقرية وتضيء. ليس من العجيب بعد ذلك إذا علمنا أن الروائي الفرنسي الكبير ألكسندر دوماس كتب إلى موبسان يقول، دون تملق أو مصانعة:(إنك أنت الكاتب الوحيد الذي أنتظر كتبه برغبة ملحة وصبر نافد)
كان موبسان فناناً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وفيلسوفاً في نظر كثير من الكتاب. أما أنه فنان فهذا أمر ما اختلف ولن يختلف فيه اثنان، لأن فنه يتجلى بأوضح معانيه في جميع أقاصيصه دون استثناء. ولنأخذ أية قصة شئنا من قصصه ولننظر فيها نظرة نافذة فاحصة فماذا نجد يا ترى؟
إننا نراه يقدم لنا صوراً ومشاهد من الحياة الواقعية، كثيراً ما نراها في عصرنا هذا في الحياة العملية. نراه يقدمها لنا في كثير من السهولة والبساطة والوضوح؛ ويظهر لنا أبطاله في صور وألواح هي غاية في الدقة والروعة والإبداع، صور تميزهم من كل أبطال آخرين، في أية قصة أخرى، لأي كاتب كان، وذلك تطبيقاً لوصية أستاذه فلوبير؛ كل ذلك دون أن ينسى أن ينطقهم بلغة الوسط الذي يعيشون فيه، والمهنة التي يزاولونها. وحينئذ تنسى أنك تقرأ قصة لموبسان، وتحسب نفسك أمام مشهد حقيقي تراه بناظريك، وتسمعه بأذنيك. فإذا ما بلغت القصة نهايتَها، وصحوْتَ من الحُلم الجميل الذي هيأه لك الكاتب، عجبت لاقتداره ودقة ملاحظته وعلو كعبه في التصور والتحليل. وهو منذ السطر الأول الذي يخطه في قصته، حتى السطر الأخير منها، يحاول بنجاح أن تكون رشيقة أنيقة، متسلسلة الحوادث دون تكرار، رائعة المفاجأة دون مغالاة أو ابتعاد عن الواقع
وموبسان يحب الحقيقة والواقع كل الحب، والدليل على ذلك أنه نسج أقاصيصه ورواياته متبعاً في ذلك المذهب الواقعي ولم يحد عنه إلا في أواخر حياته الأدبية. والمذهب الواقعي في نظر أكثر الكتَّاب العالميين هو أقصى غاية الفن، لذلك نرى (أميل فاجيه) يقول في دراسته عن (بلزاك):(من الجدير بالملاحظة حقاً أنه إذا كان المذهب الواقعي هو أقصى غاية الفن، فليس أصعب من أن يكون المرء واقعياً). وبالرغم من ذلك، فقد كان (موبسان) في الطبقة الأولى من الكتاب الواقعيين. وكان يصور المجتمع الفرنسي - ولا سيما الباريسي منه - بأمانة وإخلاص؛ وكان يرتاد البيوت المشبوهة وينغمس فيها حتى النهاية،
ثم يصورها لنا بما لا يكاد يختلف عن الحقيقة في شيء، بعد أن يكسوها حُللاً من فنه، وأثواباً من عبقريته. وكثيراً ما يُطوّف في الأحياء والأمكنة البعيدة، ويستلهم من غريب مشاهداته وعجيب مصادفاته مادة غزيرة لقصصه
وقد يصور في قصصه البائسين والفقراء، والتاعسين والأشقياء، وغيرهم ممن طحنتهم الحياة بالهموم وغمرتهم بالآلام. ولكنه في هذه الصور يُخفي الشفقة والرحمة ويبدو قاسيَ القلب متحجر الفؤاد، لا يحاول أن يستدر الدمع بمناظر البؤس، ولا يستنزل الرحمة بصور الشقاء، ولا يصغي إلا إلى صوتٍ واحد هو صوت الفن. ومن هنا قال الناقدون بانعدام الطابع الإنساني في قصصه، وهو في ذلك على نقيض تام مع (ألفونس دوديه)، فهذا يحاول أن يُشعر القارئ بالألم والحزن في جميع أقاصيصه ورواياته. فنراه يبكي ويستبكي حزناً على الأشقياء والمتألمين. بينما نرى ذاك كصانع التماثيل الفنان، لا يهمه وهو ينحت تمثاله سوى الفن والإبداع، لذا يضرب بأوائله أينما شاء وحيثما قضى الفن، لا يدري أآلم بضربه أم لم يؤلم، ولكنه يعرف حق المعرفة أأصاب في نحته أم أخطأ
وفي رأينا أن الحق هنا في جانب (موبسان)، لأنه يَعرِض قصصه دون أي تعليق، فهو يرينا صورة البائس دون أن يقول:(هاكم هذا البائس! ارحموه أيها الناس وأشفقوا عليه)؛ بل نراه يقول من طرف خفي: (هاكم قصة هذا البائس! فأشفقوا أو لا تشفقوا). وعلى القارئ وحده أن يكون ذا حس مرهف وشعور دقيق، فيرحم من يستحق الرحمة ويقسو على من لا يستحقها. ولنأخذ مثالاً بسيطاً على ذلك: في إحدى أقاصيصه المسماة (والد سيمون)، يصور لنا فتاة خطبها رجل فاستسلمت له قبل الزفاف. . . ثم هجرها الخطيب، ووضعت منه بعد مدة طفلها غير الشرعي، ونشأ الطفل بعد ذلك يحف به العار دون أن يكون له في ذلك ذنب أو إثم. وهنا يظهر موبسان في قسوته المزعومة على الأشقياء والبائسين، إذ أنه لا يكتب في قصته كلها كلمة واحدة تبعث في نفسك الشفقة على هذا الطفل البريء، أو تثير في كوامنك الرحمة لتلك الفتاة المظلومة؛ بل يشير إلى خجل المرأة من الناس واعتزالها إياهم، ويصور لك ذلّ الطفل وعذابه واضطهاد رفاقه له، لأنه على حد زعمهم (ليس له أب). ثم يصفه لنا وهو على وشك الانتحار بعد أن شبع رفاقه من السخرية به وإسماعه لواذع الكلام. . . ولا يُخلَّص الفتاة وطفلها من العار والموت سوى
رجل شهم يتزوج من الأم ويتبنى الطفل
هذه قسوة موبسان المزعومة على الإنسانية، وهي قسوة - إن صحت عليها هذه التسمية - في موضعها؛ لأن الفن الصحيح الخالص البعيد عن الضعف الإنساني كثيراً ما يقضي بذلك
قلت: إن موبسان فيلسوف، وفلسفته لا تخلو من آراء طريفة فيما يتعلق بالمرأة، والحياة خاصة. أما رأيه في المرأة فهو قاس شديد القسوة؛ وهو يمت بأوثق صلة إلى رأي أبي العلاء المعري في العربية، ورأي (مارسيل بريفو) بالفرنسية. فكلاهما يقول مع موبسان بأن المرأة مخلوق غادر قلما يخلص أو يعف، وهي في نظرهم أداة فتنة وفساد. وليس للمرأة من شاغل - في نظر موبسان وبريفو - إلا إشباع رغباتها وميولها التي ليست سوى نار تتأجج ولهيب يستعر
المرأة. . . إن موبسان يحبها من كل قلبه، ولكنه لا يحبها زوجة وإنما يريدها خليلة؛ لأنه يندر وجود المرأة المخلصة في العالم؛ وما دامت كذلك فهي لا تصلح إلا لإشباع الشهوات
وأما الحياة فله فيها فلسفة خاصة. فهو يرى (أنها سخافة ومعاناة وآلام فقط، وليس فيها ما يشوق ويبهج)
ويغلب على ظننا أن هذا الرأي لم يأخذ به موبسان إلا في أواخر حياته، أي عندما تناوشته الأدواء وتكاثرت على جسمه العلل؛ فداخله اليأس والقنوط. لأنه كان قبل ذلك زير غوانٍ لا يرتوي، وكان مدمناً على الشراب والمخدرات، مقبلاً على الحياة، متمتعاً بكل لذائذها، غارقاً في مفاسدها. وهذه كلها أشياء (تشوق وتبهج) لا يأتيها من كان يائساً من الحياة محتقراً لها معرضاً عنها. ويلتقي موبسان ثانية مع المعري في رأيه في الحياة ولكن الأول يطعن فيها وهو مقبل عليها يتمتع بلذائذها، بينما الآخر يكره الحياة ويعيش بعيداً عنها وعن جميع لذائذها
وعلى أي حال فقد اشتد يأس كاتبنا من الحياة وزاد كرهه لها عندما تقلبت عليه الأمراض، وانتهت به إلى أسوأ عاقبة، وأعني بذلك الجنون. . . نعم، لقد جُنَّ في أواخر حياته وكان السبب في ذلك شدة إخلاصه لأدبه وفنه، واعتقاده بأنه ميت لا محالة، بينما كانت نفسه لا تزال تزخر بشتى الصور الفنية التي يود أن ينسجها أقاصيص رائعة الحسن موفورة الجمال. فكان لتنفيذ هذه الرغبة يعمل في يومه مدة ثماني عشرة ساعة - كما يقول روبير
مونتيه في كتابه عن أسباب جنون موبسان - واضطر الرجل إلى إجهاد ذهنه إجهاداً متواصلاً في سبيل تنفيذ مشروعه ونسج أقاصيصه التي خشي أن يأتي عليها الموت فتدفن معه في اللحد وهي أجِنَّة لم تولد. ولما أدركه الجنون المطبق صار يرى الناس أبطال قصصه الذين صنعهم خياله وصورهم يراعه. وأخذ يسيء إلى من رسمه بقلمه شريراً منهم، فاضطر ذووه إلى نقله إلى مصح للأمراض العقلية، ولكنه أعيد بعد مدة إلى باريس حيث قضى وهو في قمة المجد وأوج الصبا وأبعد الصيت. مات موبسان فأنكره قومه في مماته كما أنكروه في حياته، ولم ينتبهوا إلى فنه الرائع وعبقريته الفذة إلا في الأعوام الأخيرة حيث احتفلت فرنسة بتخليد ذكراه عام 1925، وأقامت له في مسقط رأسه تمثالاً يليق بعبقريته ونبوغه
هذه صفحة موجزة من أدب الرجل الذي عاش ومات من أجل أدبه وفنه، والذي جعلت منه صديقاً لي وفياً. فهل ثمة من يلوم على إكباري لهذا الصديق الذي عانقته إلهة الفن وهدهدته، ثم سقته من كأس الخلود والبقاء، وجعلت منه كاتباً عبقرياً تباهي به القرون وتفخر به الأجيال
(دمشق)
عبد الغني العطري
أمل يضيع
للسيدة الفاضلة (ليلى)
إلى العذراء التي طال عليها الانتظار، وظلت مجهولة كزهرة الصحارى والقفار. إلى الحزينة الصامتة تسائل نفسها: متى وأيان، أهدي كلمتي وأقدم تعزيتي
(ليلى)
يا لؤلؤتي اللامعة، يا درتي الغالية، يا زنبقتي الناضرة الناصعة، مضت الشهور والأعوام، وأنت قابعة في انتظار. ما الذنب ذنبك، ولكنه أبوك الفقير، لا هو موظف كبير، ولا صاحب جاه خطير، لقد طغت المادة على الرجولة فأضعفتها، وعلى الأخلاق فأفسدتها، فتعامت العيون عن الجوهر المكنون، وتهافت الشباب المتسكع على أبواب الغنى واليسار يطلبون يد الفتاة التي يعيشون على هامش حياة أبيها متفاخرين، وعلى صبابة من ماله متهالكين. يحز في قلبي وتملأه الحسرة أن ينطفئ في نفسك نور الأمل، وينهار صرح الأماني، وأن تخبو نظرتك المتألقة، وتفيض ابتسامتك المشرقة، ويختفي الفرح الذي يملأ قلبك، والمرح الذي يشع في نفسك، والروح الهانئة الحالمة تصبح حيرى متألمة. هاهن أخوات لك أخريات ينمو بهن الشباب كما تنمو الأزهار في المنبت الطيب والتربة الجيدة يشتد، عودهن ويقوى ينتظرن انتظارك ويحلمن أحلامك، والمستقبل أما مكن مظلم غامض، وعجلة الحياة تدور بغير ما هوادة ولا رحمة، والقلوب الحزينة مطوية على الأمل الضائع كما يطوى القبر على عزيز غال، والعبرة محبوسة لا تفيض، والشفاه لا تنبس بأنة ولا شكوى، والعاطفة مكبوتة في سجن التقاليد. إنه ليؤلمك أن تكوني عالة على ذويك، وعبئاً على أمك وأبيك. ما توقعنا لك خيبة الأمل، وإلا أعددناك لحياة الشقاء والعمل
يا بنيتي الحبيبة، لم يكن ينقصك عقل ولا ذكاء موفور، لك الحسن والرواء، ثقفناك على قدر ما وسع جهدنا، وحبوناك بعطفنا وحناننا، ورعيناك بالأعين والقلوب، وأتحفناك بكل ما تسمح الجيوب، ولم نترك فيك خلقاً إلا قومناه، ولا اعوجاجاً إلا أصلحناه، حتى ملأت البيت علينا بالبهجة والسرور، وغدوت زينة المجتمع والخدور. والآن يعتورك الملل تضيقين بنا ونضيق بك، وما هو ذنبنا أو ذنبك، إنها المادة التي طغت على الرجولة فأضعفتها، ولا على الأخلاق فأفسدتها. وأبوك موظف صغير، لا هو بالغني ولا بالكبير. لقد تغير العصر
والجيل، وضاعت وصايا القرآن والإنجيل. كان جدودك السابقون يبحثون لأولادهم عن المنبت الطيب والأساس المتين، وتتصاهر العائلات وسداها السمعة الطيبة ولحمتها البيت الكريم. والآن يا فتاتي لا الخلق الجميل، ولا العقل الرصين، ولا كفايتك في إدارة البيت، ولا ثقافتك لتكوني من خيرة الأمهات، وأمانتك لتكوني أطهر الزوجات، ولا سمو روحك وجمال نفسك، بمزكيتك لدى الرجل ما دمت لست غنية، ولا أبوك صاحب ضيعة (وأبعدية)، وعلى هذا يظل الشبان متقاعدين، عابثين أو منتظرين، وعلى مقربة منهم وفي متناول أيديهم السعادة والنعيم، وما هي بمضمونة في زيف الجاه الباطل، أو موجودة في استجداء العرض الزائل، وليس في ارتواء الحب الآثم غير الخسران، والجري وراء المعصية غير إطاعة الشيطان. أعجب للرجل يهرب من التبعة كالسائحة الضالة؛ لا تعرف لها راع من رعية، ينتظر حتى يفوته الشباب ويجدب أيما إجداب، وهكذا يظل ينغمس في أحضان الفسق والدعارة الشيوعية. ما دامت لا توجد الزوجة الغنية. حقاً لقد طغت المادة أي طغيان، وتُنوسي الواجب أي نسيان، فعزاءٌ للعذارى في خدورهن، ونصيحتي أن تعملن ولا تنتظرن، وربما تجدن من يتزوجكن من شباب الجيل الحاضر لتقمن بالنفقة عليه؛ ورحم الله. ماضي الرجولة وأيام أمهاتكم وجداتكم ولا فخر بعد ذلك للرجال
(ليلى)
في اختلاط الجنسين
للأستاذ محمود محمد بسيوني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولما كان ما نراه اليوم من فساد ناتجاً عن سوء فهم الناس لمعنى الاختلاط فلندرس إذن الاختلاط ولنفهمه بمعناه الحقيقي. الإنسان مدني بطبعه، أي أنه لا يمكن أن يعيش منعزلاً؛ فلا بد من التعاون الحقيقي بين أفراد الإنسان بوجه عام. فإن اختلاف القوى البدنية والعقلية يحتم احتياج كل إنسان إلى الآخر لإكمال ما به من نقص، ولكي يتعاون الجميع على الحياة في أمن وهدوء. والحياة كثيرة الشعب متعددة الفروع بحيث أن كل فرد لا بد أن يقوم بعمله كاملاً من ناحية اختصاصه. ومن هذا نرى أن الرجل لازم للمرأة، وأن المرأة لازمة للرجل، أي أن الاتصال بين الرجل والمرأة لازم لا لحفظ النوع فقط؛ وإنما كذلك للتعاون على شؤون الحياة، أو بمعنى آخر نستطيع أن نقوله أن الاختلاط أمر لا بد منه، ولكن متى يكون هذا الاختلاط وما حدوده؟
الاختلاط ممكن في الحدود الطبيعية أي حيث تتطلبه شؤون الحياة. وهو لا يكون حينئذ خطراً لانصراف الفكر إلى المهام الجدية التي تطلبها الاختلاط، ولانعدام الجو الذي يولد التفكير السيئ. فالرجل الذي يذهب ليشتري شيئاً تحسن المرأة صنعته أو تجارته، لا يتوفر لديه ما يبعث على التفكير السيء؛ والمريض في المستشفى محتاج إلى رقة المرأة وحنانها، فلا ضرر من اتصال الرجل بالمرأة في مثل هذه الحالة، حيث لا مجال للتفكير السيئ. والرجل الذي يتلقى فناً خاصاً تحذقه امرأة لا بأس عليه من اختلاطه بها كذلك. وكل هذا هو ما نقصده به الاختلاط الطبيعي الذي تتطلبه شؤون الحياة وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة كما فهمته تلك المرأة القروية على حقيقته. فهي تخالط الرجل في الحقل إذا دعت إلى ذلك الشؤون الزراعية، كما تخالطه في السوق إذا دعت إلى ذلك حاجة البيع والشراء. ولكن هؤلاء الذين تختلط بهم في الحقل وفي السوق تحتجب عنهم في المنزل لأنها في هذه الحالة لا تجد مبرراً طبيعياً لاختلاطها بالرجال، وعلى ذلك نستطيع أن نقرر في غير تحرج أن تلك القروية قد أدركت بفطرتها السليمة وظيفتها الحقيقية أكثر مما فهمتها تلك الفتاة الحضرية التي تدعي العلم والفلسفة
على أن هناك مجالات أخرى قد يبدو فيها الاختلاط أمراً ضرورياً كالحفلات الخاصة وما شابهها. وخير الأمور في مثل هذه الأحوال هو أن يقتصر الاختلاط على الأهل والأقارب والأصهار ومن إليهم ممن توجد بينهم صلة قوية وثقة تامة؛ فحينئذ أظن أن خطر الاختلاط يبتعد كثيراً ويكاد ينعدم، وبخاصة إذا روعي الواجب حيال هذا الاختلاط من احتشام المرأة ومراعاتها له في حدود الوقار والحياء. وإني لا أفهم مطلقاً أي معنى لأن يدعو إنسان في بيته رجالاً ونساءً لا يعرف بعضهم بعضاً ويزعم لنفسه بأنه يقدم التعارف بينهم. فهذا النوع من الاختلاط هو الذي لا نقره مطلقاً. فمنه تقع الحوادث والكوارث. فإن المرأة بطبيعتها ضعيفة سريعة الانقياد؛ ثم إنه من الممكن أن يندس بين الرجال من ليس منهم من الجهة الخلقية الجديرة بالرجولة. فكثيراً ما تلقى وحوشاً إنسانية في زي الرجال. وفي وجود هؤلاء خطر شديد. فقد تلتقي المرأة برجل تتوسم فيه محاسن خاصة وفضائل ظاهرية قد تميزه على زوجها إن كانت متزوجة، أو توهمها بأن فيه المثل الذي تنشده إن لم تكن متزوجة، فإذا بها تنقاد له وتقع في شركه وتتمادى في علاقتها به؛ ثم تنكشف الحقيقة فجأة وتقع الكارثة كما هو معروف.
لقد قلنا إن الاختلاط ممكن في الحدود التي تستلزمها الطبيعة ولا تتنافى في شيء مع الدين والأخلاق، وهي حدود لا تعوق الحرية ولا تؤثر على التقدم والرقي؛ إنما هي حدود تكفي لأن يعيش الإنسان هادئاً مطمئناً سالكاً الطريق الذي خلق له. أما الاختلاط على الصورة الحاضرة فهو خطأ كل الخطأ، وإنما هو تقليد أعمى لا يجوز الأخذ به بتاتاً. وقد قال الفيلسوف إن لكل بلاد جوها وعاداتها وتقاليدها وموقعها الجغرافي مما يخلق لها ظروفاً خاصة قد لا تتناسب مع ظروف البلد الآخر. وهذه النظرية الصحيحة إذا طبقت في موضوعنا هذا نستطيع أن نصل بوساطتها إلى أن الاختلاط وإن أمكن توسيع نطاقه في أوربا (على أن أوربا هي الأخرى قد نالها منه ما نالها من شر وضر) قد يكون مقبولا إلى حد ما، لأن جو البلاد وطبيعة أهلها الباردة؛ ثم عاداتها وتقاليدها قد تجيز الاختلاط دون ضرر كبير. أما في الشرق حيث الجو حار وطبيعة السكان حارة أيضاً، سريعة التأثر والثوران، وحيث تقاليد الناس المتوارثة لا تجيز هذا الاختلاط؛ فإنه من الخطر حقاً أن ننقل اختلاط أوربا إلى مصر، فسيبقى الغرب غرباً وسيبقى الشرق شرقاً إلى نهاية الحياة
أما ما يقول به البعض من أن المرأة إذا كانت شريفة بطبعها واثقة بنفسها، موثوقاً بها، فهي تستطيع أن تبقى طاهرة مطهرة، حصينة محصنة، تحت أي ظرف أو ضد أي ظرف من ظروف الإغراء والسقوط، فهذا شيء من الصعب التسليم به، فمن الخطأ أن توفر لإنسان أسباب الشر وتغريه بها وتحببه إليها مع علمك بأنه ضعيف أمام سطوة الشيطان، ثم تزعم أنه يستطيع التغلب عليها؛ وقد قالت حكمة القدماء أن الوقاية خير من العلاج
وقد قال البعض أيضاً أن العلم والثقافة يقيان المرأة شر السقوط. ولكنا لا نستطيع أيضاً أن نسلم بهذا؛ فإننا قد رأينا المتعلمين والمتعلمات هم الذين يبدءون بفكرة الاختلاط ويسرفون في الحرية التي يهيئها لهم علمهم وثقافتهم فيغرون بذلك طائفة أخرى أكثر منهم عدداً وأقوى منهم أثراً، ولكنها أقل علماً وفهماً. هؤلاء هم أنصار المتعلمين والمتعلمات الذين لا يقدرون الأمور كما يجب أن تقدر، ولا يفهمون الحرية كما يجب أن تفهم، فيعتقدون أن الأمر عبث ولهو لا أكثر ولا أقل، فيندفعون وراء عقولهم الضعيفة وقلوبهم المستسلمة ويصبحون الخطر الأعظم. أما المتعلمون الذين ينفعهم علمهم ويقيهم شر السوء فهم الذين بلغوا من العلم شأواً بعيداً. أما الذين لم يصيبوا منه مثل هذا القدر فإنه يتسرب إلى اعتقادهم أن العلم يعطيهم شيئاً من الحرية وشيئاً من التفكير في الأمور من نواحيها السهلة الضعيفة فيتناسون ما فيها من قيود شديدة، وبهذا يصبحون مستهترين إلى حد ما. فخير إذا أن نترك الأفكار الصالحة تسيطر على العقول والنفوس على شكل تقاليد وعادات تتوارثها الأجيال، فلا تجرؤ على مهاجمتها. وخير للمرأة إذن ألا تسرف في الاستنتاجات من الفلسفة والعلم، وإنما يجب أن يكون علمها في الشؤون التي خلقت لها وهي فنون البيت وشؤون الأسرة، وأن تكتفي فيما عدا ذلك بما تشير به تعاليم الدين وتقاليد البلاد. فليتجنب الجميع منابع الشر، وليبتعدوا عن مسبباته درءاً للخطر، وبخاصة أنه ليس هناك ما يستوجب الاقتراب منه
وإنما نحمل المرأة أكثر التبعة نظراً لأنها تعلم حق العلم أن مسعاها غير مسعى الرجل فهي سريعة التأثر كالزهرة اليانعة إذ لمستها الأيدي الكثيرة ذبلت وتناثرت أوراقها وديست بالأقدام، بينما حال الرجل ومسعاه قليل التأثر. فلو أن المرأة لم تقدم نفسها إلى الرجل ولم تسهل له سبيل الاتصال بها ولم تستمع إلى إغرائه وغوايته لما جرأ هو على الاستخفاف
بها واستغلال مخالطتها بالسوء. على أن ذلك لا يبرئ الرجل من التبعة واللوم، فإن صفات الرجولة توجب عليه أن يكون قوياً شهماً مترفعاً عن أساليب الخداع والغش التي يتبعها لإيقاع المرأة في الشرك وهي الضعيفة أمام سلطانه. فكان الواجب أن يرد المرأة إلى سبيل الجد والهداية. فلو أنه استغل رجولته وشهامته في عدم الاندفاع في الاختلاط وفي عدم تشجيعه له، لانعدمت الأسباب التي نتج عنها الاختلاط السيئ ولما شكونا مما نشكو منه الآن
وكل ما نريده اليوم هو أن نستجيب إلى النداء العظيم الذي وجهه صاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك حيث حثنا على أن نتعاون جميعاً على تنظيم حياتنا الاجتماعية تنظيما جديداً يتناسب مع تقدمنا ومدنيتنا الحقيقية لا المزعومة. وأن نطهر تلك الحياة مما فيها من آثام وشرور قبل أن يستفحل أمرها ويستعصي استئصالها، فواجب كل فرد أن يضع في رأسه أنه مكلف أخلاقياً بأن يساهم في مكافحته للفساد والشر وفي هداية الناس إلى الطريق المستقيم وفي اظهارهم على ما في ذمتهم وما في تقاليدهم من معان سامية ومن تعاليم رفيعة تضمن لهم أمنهم وسعادتهم. فليقم كل منا بأكبر قسط يمكنه أداؤه في دائرته: في منزله أولاً وفي البيئة المحيطة به ثانياً. كذلك نستجيب إلى نداء الأستاذ الدكتور فندعو إلى تأليف جماعات تعمل متضامنة على مكافحة الأمراض الاجتماعية الناتجة عن الاختلاط. ونحن نتمنى أن تتسع هذه الخطوة بأن تساهم الصحافة بقسط أوفر، بأن تكتم أخبار الاجتماعات المختلطة الخاوية، وأخبار الحفلات التي تخلو من كل ما يهم المصلحة العامة وأن تمتنع عن ذكر كل ما يتنافى مع تعاليم الدين وتقاليد البلاد. لعل هذه العقوبة الأدبية ترد الغاوين عن غيهم والمستهترين عن استهتارهم، فلا يلقى مقلدوهم وأنصارهم أي تشجيع إلى أن تموت بالتدريج كل فكرة فاسدة حتى ينصلح حال المرأة ويحسن ظنها وفهمها لمبادئ قاسم أمين فتنفذ آراءه وتعاليمه كما كان يريدها وكما يريدها المصلحون والله أسأل أن يلهمنا التوفيق والسداد.
محمود محمود بسيوني
بين الأدب والتاريخ
مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لكل حضارة قديمة أو حديثة مدنية كبيرة يستقر فيها السلطان، وتتمثل فيها الإدارة والسياسة، والصدارة والرياسة؛ وتتجه إليها الأنظار، ترى فيها المثل، وتجد فيها القدوة، وتأخذ عنها الأساليب. ولقد كتبتُ في إحدى المجلات الأسبوعية بحثاً عن بعض هذه المدن القديمة، واليوم أنقل المجال إلى (الرسالة) الغراء، جاعلاً حديث اليوم عن بيزنطة عاصمة المسيحية الأولى؛ ودمشق وبغداد العاصمتين الكبيرتين للإسلام
ولقد سميت بيزنطة بعد إنشائها بزمن بالقسطنطينية وخفقت عليها في عصور متعاقبة: أعلام الوثنية وألوية المسيحية وراية الإسلام. وبقية إلى اليوم تحت الراية الأخيرة منذ أن فتحها السلطان محمد الفاتح في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.
أسس هذه المدينة المستعمرون الأولون من الإغريق في سنة 667 قبل الميلاد، وقد ظلت قرابة ستة قرون ونصف قرن وهي حاضرة كبرى للوثنية. وفي عصر قسطنطين الأول إمبراطور الرومان، انتقلت عاصمة الإمبراطوريات إلى بيزنطة، التي أسميت من ذلك الحين بالقسطنطينية نسبة إليه. وكان ذلك في الثلث الأول من القرن الرابع الميلادي.
ولقد أخذ نجمها منذ ذلك اليوم يصعد ويزداد ألقاً في سماء التاريخ. فأقام فيها قسطنطين كثيراً من المنشآت العامة والمباني الضخمة، وشيد (تيودور) حولها سوراً منيعاً جعلها عزيزة المنال بعيدة المطلب؛ وأصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وزخرت بالعلماء والحكماء والفلاسفة، وامتلأت بالمدارس ودور الكتب، واتسعت رقعتها من يوم إلى يوم بضاحية تمدّ، أو دسكرة تبنى، أو طريق يعبّد.
وظلت القسطنطينية بعد ذلك قرابة عشرة قرون، توالت عليها خلالها سعود الأيام ونحوسها، وتتابعت عليها الحظوظ شقيها وسعيدها، وهي في ذلك ما بين خفض ورفع وجزر ومد، إلى أن سقطت في أيدي الأتراك سنة 1453م، وأصبحت بانتقال الخلافة الإسلامية من مصر إليها عاصمة الممالك الإسلامية وقبلة الأمم المحمدية تتجه إليها في الشدة والرخاء. وكان للباب العالي في تلك الأزمان مقام لا يدانيه مقام، وسلطان ما بعده
سلطان
وتمتاز تلك المدينة بموقعها الفريد على البوسفور، وامتدادها في شبه جزيرة على بحر مرمرة، وإشراف خليج القرن الذهبي عليها من الشمال. كما تمتاز بأسواقها التجارية التي تعد من أبدع أسواق العالم، وبمجموعة من المساجد الجميلة المبنية على طراز تركي أخذت عنه طائفة من مساجد القاهرة التركية كمسجد محمد على باشا
وأشهر تلك المساجد جامع (أبا صوفيا)، وقد كان كنيسة قبل الفتح العثماني، ولكن قرع النواقيس فيه انقلب إلى تسبيحات المؤذن، وتهليلات المكبر، معلنة اسم الله العظيم، يتجاوب في آفاق المدينة الساحرة التي طالما فتنت السلطان الفاتح وأخذت عليه تفكيره وخالطت أحلامه وخواطره؛ حتى تمت له الأمنية وتحققت الأحلام. ودخلها يوم الفتح - كما تقول الروايات التاريخية - حافي القدمين بادي الخشوع، شاكراً لله على ما وهب، مصلياً فيها أول صلاة للمغرب
وشاء الله بهذا الفتح أن تصبح المدينة عاصمة الإسلام، وإذا بالأباطرة العظام يستبدلون بخلفاء أعظم وسلاطين أمنع دولة وأعز صولة. ثم يخاف العلماء والحكماء فيها على مصائرهم ويشفقون على أنفسهم، ولا يؤمنون المقام تحت ظل الأتراك وفي كنف الحكم الجديد، فيفرون ويهجرون المدينة المسلمة والعاصمة المسلمة ويحملون معهم تعاليم اليونان وثقافة الرومان وينشرونها في أوربا فتكون طلائع النهضة المباركة والحركة الجديدة التي تعرف في التاريخ باسم
وفي القرن الثامن الميلادي ظهرت في الشرق العربي المسلم مدينة جديدة ليست في مضارب الصحراء ومجاهل البيداء كمكة والمدينة ولكنها في الشام حيث كانت حضارة الفينيقيين تزدحم وتتكاثر على الشاطئ الشرقي لبحر الروم (البحر الأبيض المتوسط). تلك المدينة هي (دمشق) حاضرة الدولة الأموية، ومقر الخلافة الإسلامية، ومركز القيادة التي تفرعت منه الحملات وانسابت منه المغازي إلى أقطار بعيدة، وجهات سحيقة لتوسيع رقعة المملكة الإسلامية
ودمشق قبل الإسلام قديمة قدم الدهر، ترجع إلى أيام إبراهيم عليه السلام. فلما دخلها الإسلام غير من حالها وبدل من أمورها. ولما انتقلت إليها الخلافة الأموية، أصبح لها
الشأن والمركز والمحل والموضع يفد إليها الشعراء على الخلفاء طلباً للعطاء فيقول جرير
فإني قد رأيت عليّ فرضاً
…
زيارتي الخليفة وامتداحي
ويعلل زوجته (أم حزرة) بالغنى بعد رحلته إلى دمشق ووفوده على الخليفة بقوله:
سأمتاح البحور فجنبيني
…
أداة اللوم وانتظري امتياحي
وكان معاوية أول خلفاء بني أمية يسكن غوطة دمشق، وهي - كما يقول جغرافيو العرب - إحدى نزه الدنيا ومعاوية - على ما زعم الرحالة اليعقوبي - أول من بنى وشيد البناء، وسخر الناس في بناءه
وكانت أغلب بيوت دمشق في أول الفتح تبنى من المدر: أي اللبن والطين؛ ولكنهم عادوا فبنوها بالحجر لما روى أن عمر أبن الخطاب نهى أصحابه بدمشق عن استعمال اللبن في البناء. وكان للسابقين من الصحابة في دمشق قصور كثيرة، أو دور عامرة منتشرة في أنحائها كدار خالد بن الوليد، ودار أبي عبيدة عامر بن الجراح، ودار العباس بن مرداس. ودار عمرو بن العاص وغيرهم؛ وبنيت كذلك مساجد ملحقة بالبيوت يتجاوب فوق مآذنها التكبير باسم الله الكبير
وأنا لندرك من الأبيات التي قالتها ميسون زوج معاوية الفرق بين بيوت البادية ودور الحضر. فقد أبت هذه السيدة أن تعيش في قصر معاوية العظيم أو (المنيف) على حد تعبيرها، ورضيت أن تسكن في كوخ صغير أو بيت من الشعر في البادية. وقالت في ذلك أبياتاً معروفة منها:
لبيت تخفق الأرياح فيه
…
أحب إلي من قصر منيف
وكانت دار معاوية بدمشق تسمى الخضراء لقبّة خضراء نصبت عليها. بناها بالمدر أولاً فسخر منها جماعة من الروم فأعاد بناءها بالحجر. ومن عجائب الأقدار أن تصبح هذه الدار اليوم في حي من أحقر أحياء المدينة، وهو حي مصيفة الخضراء
وللأستاذ العالم الجليل عيسى اسكندر المعلوف كتاب كبير مخطوط أسمه (حضارة دمشق وآثارها) ذكر فيه فصلاً عن دور الخلفاء الأمويين في دمشق، ونشرت خلاصة هذا الفصل في مجلة (دمشق) الأدبية العلمية التي يحررها جماعة من أهل الفضل والعلم في القطر الشقيق (جزء خامس. سنة ثانية. عدد شهر أيار سنة 1941
وكان الوليد بن عبد الملك يحب البناء ويعشق العمارة - والناس على دين ملوكهم - فبنيت في عهده القصور وشيدت الدور وزيدت في المساجد زيادات، وأضيفت إليها ملحقات. وسهلت الطرق، وحفرت الترع، ويذكر السيد العلامة الكبير محمد كرد علي الدمشقي في كتابه (خطط الشام) أن الوليد أول من أمر بعمل (بيمارستانات) تعالج فيها المرضى
وإلى الوليد يرجع الفضل في بناء الجامع الأموي والمسجد الأقصى، ولقد أنفق على بنائه خراج الشام لمدة عامين على إحدى الروايات التاريخية، وأنفق في سبيل تشييده وزخرفته وتذهيبه ومرمرته (صبغه بالمرمر) وتفصيصه ورفع قبته، وإقامة عمده الكثير من المال، والوافر من الجهد، وفن ريازته (عمارته) ليس إسلامياً محضاً، ولا يونانياً صرفاً ولكنه خليط من هذا وذاك
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن
رسالة الشعر
من ظلال البعث!
راهبتي الشقَّية. . .
(إلى التي أعبد فيها عذاب الزمن وقداسة الروح)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
رَمَى بِناَ المَقْدُورْ
…
فيِ عَالَمٍ مَهْجُورْ
إلاّ مِنَ العُشْبِ
وَأَنْتِ. . . وَالْحُبَّ!
وَاللَّيْلُ فيِ الشُّطْآنْ
…
كَرَاهِبٍ نَعْسَانْ
غَنّتْ عَلَيْهِ اَلجانْ
…
تَمِيمَةَ النَّسْيَانْ
فَذَابَتِ الأَكْوَانْ
…
وَالنَّاسُ، وَالأَزْمَانْ
فِي خَاطِر نَشْوَانْ
…
لَمْ يَسْرِ فيِ وِجْدَانْ
وَلَا سَقَى إنسان
…
مِمَّا سَقَى قَلْبي. . .
مِنْ خَمْرَةِ اْلعُشْبِ
وَأَنْتِ. . . وَالْحُبَّ!
جَاَءتْ بِكِ الأَقْدَارْ
…
مَذْعُورَةَ الأَسْرَارْ!
دَهْرِيَّةَ الأسْتاَرْ
…
خَمْرِيَّةَ الأَنْوَارْ. . .
شُقَّي حِجَابَ النَّارْ
…
لَخِافِقٍ جَبَّارْ
مِنْ سِحْرِكِ الْقَهَّارْ
…
أَبْكيَ رُؤَى الأَسْحَارْ
بِالسُّهْدِ وَالأَفْكارْ
…
وَذاَبَ كالَغْيبِ
فيِ خاطر الْعُشْبِ
وَأَنْتِ. . . وَالحُبَّ!
رَمَى بِناَ الْمَقْدُورْ
…
فيِ عَالَمٍ مَهْجُورْ
سَاقَ الْهَوَى الْمَفْطُورْ
…
فيِ زَوْرَقٍ مَذْعُورْ
يَجْرِي بِهِ الدَّيْجُورْ
…
لِمَعْبَدٍ مَسْحُورْ
فَّجَرْتِ فِيهِ النُّورْ
…
لِهالِكِ مَقْبُورْ
أَوْدَى بِهِ التَّفْكيِرْ
…
فَجاَء يَا رَبَّي. . .
يَحْيَا مِنَ الْعُشْبِ
وَمِنْكِ. . . وَالُحبَّ!
رَبَّاه! ما ذَنْبي؟!
محمود حسن إسماعيل
أكذوبة السلوان
للأستاذ سيد قطب
(بعد عام أحس في نفسه بالسلوان، وأحس بمغاليق نفسه تتفتح للجمال. ولكنه تنبه إلى أن كل نموذج جميل يتفتح له قلبه فيه شبه أوسمة من الجمال الذي حسب نفسه قد سلاه؛ وإذا هو يهفو إلى الماضي والماضي وحده دون سواه!)
الآن أعلمُ أنّ كلَّ خواطري
…
تهفو إليك كرفرفاتِ الطائرِ
ما كان سُلواني سوى أكذوبةٍ
…
خُدِعَتْ بها نفسي خديعةَ شاعر
بينَ الشغَّافِ وفي منُايَ وفي دمي
…
ألقاكِ هاجسةً وبين سرائري
أنساكِ؟ كيف وأنتِ بين جوانحي
…
شِطْرِي الجميلُ وأنت وحيُ خواطري؟
أنساكِ والآمالُ والذكرى معاً
…
موصولةٌ بكِ في صميمِ مشاعري؟
وإذا هفوتُ إلى الجمالِ فإنما
…
أَهْوَى مِثالَكِ في الجَمالِ العابرِ
أنْسَاكِ إذ أَنْسَى حياتيَ كلها
…
فإذاَ حييتُ فأنتِ أوّلُ خاطر
نبضَ الربيعُ فكنتِ أول نابض
…
في خاطري يهفو وأوّلَ زائر
وهفوتُ للماضي الذي قد أودَعَتْ
…
نفسي لديه رغائبي وذخائري
أنا ذلك الماضي الذي لا ينقضي
…
أنا ذلك الماضي يعيشُ بحاضري!
(حلوان)
سيد قطب
رسالة العلم
حول أبعاد الحيز
هل الزمن بعد رابع؟
(إلى أستاذي جردان أهدي هذه الفصول)
للأستاذ خليل السالم
- 2 -
قال أرسطو طاليس في أحد كتبه للخط الهندسي مقدار في بعد واحد وللمستوي في بعدين وللحجم في ثلاثة أبعاد، وبعد هذه لا نجد تحويلاً كما نجد تحويلاً من الخط إلى المستوي أو من المستوي إلى الحجم. وبنى إقليدس هندسته التي اعتمدت عليها أكثر العلوم التي تمت إلى الرياضيات بصلة على هذه الفكرة، وهي أن أبعاد أي جسم أو أبعاد المكان ثلاثة ولا يمكن أن تزيد، ولذا كان من العجيب حقاً أن يقول العلماء - بعد قرون طويلة أخص ما يميزها إيمان بالأبعاد الثلاثة فقط - بالبعد الرابع الذي لا يقبله حس أو تصور. ونحاول في هذه العجالة التعقيب على هذا الرأي الذي قال به أول من قال الكاتب الفيلسوف ويلز في كتابه (آلة الوقت)، الذي أتينا على تلخيصه في المقال السابق
لا تزال مشكلة البعد الرابع، مثار البحث والجدل بين أقطاب العلم والفلسفة. فبينا نرى الأستاذ بيران من الجمعية الملكية يسخر من بدعة البعد الرابع سواء كان هذا الزمان أو غيره من أبعاد المكان، وينعى على تلك المقالات التي تؤيد هذه الفكرة خلوها من الدقة العلمية والتمحيص الواعي، نرى (أنشتين) وأتباعه يتبنون الفكرة ويجعلونها أساساً قوياً في بناء ناموس النسبية، واستطاعوا بذلك أن يفسروا كثيراً من الظواهر الطبيعية التي وقف أمامها مبدأ (نيوتون) في الجاذبية حائراً عاجزاً. ونرى كذلك فريقاً من فلاسفة الرياضيات لهم قيمتهم وشهرتهم العلميتان، يؤمنون بالبعد الرابع والخامس والسادس إلى ما لا نهاية، ويرفضون أن يكون المكان ثلاثي الأبعاد فقط كما عرفت الأجيال السابقة في قرون طويلة وكما نتعلم نحن الآن. (لعل لنا عودة لشرح هذا الرأي الأخير)
عرف (لاجرانح) الرياضي الفرنسي المشهور علم الحيل (الميكانيكا) بأنه هندسة رباعية الأبعاد - الزمن بعدها الرابع - فإن أي جسم متحرك يتحدد موقعه في الكون بأربعة متغيرات على أن هذا التعريف لم يلفت أنظار العلماء كما فعلت رواية (آلة الزمن) وما أخال القارئ إلا ذاكراً جملة صاحب الاختراع إذ يقول: (واضح أن لكل جسم امتداداً في أربعة أبعاد: الطول والعرض والسمك والاستدامة الزمانية). فوجود جسم يحتم أن يستمر لحظة من الزمان مهما كانت قصيرة. أما إذا لم يستغرق وجوده جزءاً من الزمان فهو غير موجود حتما، ولكن هل يعني شرط وجود الجسم في الزمان أن الزمان بعد رابع كأبعاد المكان؟ نجد الجواب عند بعض العلماء، أو بالأحرى عند أكثرهم إيجاباً. يقول (برجسون) الفيلسوف الفرنسي المتوفى حديثاً في كتابه (الزمن والإرادة الحرة):(وهكذا فإن الزمن يكتسب شكلا وهمياً لوسط متجانس يربطه مع المكان رابطة التواقت، وهذه يمكن تعريفها بأنها تقاطع الزمان والمكان (مهما كان معنى هذا))
ومنذ سنة 1909 ادعى منفوسكي الرياضي الألماني - وهو من أعلام هذا البحث - أنه محا الفاصل بين الزمان والمكان، وأن الزمان والمكان منفصلين عدم، ليس لكل منهما أي حظ من الحقيقة؛ أما حقيقتهما فهي الاندماج في وحدة (الزمان) كاندماج الماء في الماء الملح، وهذا الاندماج يعتمد في النسبية على معادلات رياضية قد لا تلذ إلا نفراً قليلاً من القراء، ولذا نغفلها عارضين للمشكلة من وجهتها البسيطة السهلة. ولكنا سنتساءل هل هذا الاندماج صحيح؟ هل يرمز إلى شيء واقعي في العالم الخارجي أو أنه مجرد خيال رياضي له ميزة جديرة بالاعتبار هي أنه يفسر بعض الظواهر التي أعجزت العلماء منذ طويل؟ وإذا كان الزمان واقعياً فهل نستطيع أن نفصل الزمن عنه كبعد رابع له خصائص الأبعاد الثلاثة ننتقل فيه في الواقع كما انتقل بطل ويلز في الخيال؟
يحسن قبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة أن نشرح نظرتنا إلى المكان والزمان. لنفرض أننا نتصور جسما في الفضاء فأول ما يتميز به تصورنا هذا الجسم هو وجوده في مكان ثلاثي الأبعاد. ولعلنا لا نحتاج إلى القول إن هذا المكان موجود ما وجد فيه ذلك الجسم. ففضاء لا تشغله مادة عدم. والعدم لا يتناوله تفكيرنا في شيء قليل أو كثير. إذا وجود المكان مكتسب من وجود المادة، ووجود المادة لا يقبله العقل إلا في ثلاثة أبعاد. ولقد
يظن بعضهم أنه يمكن تصور شيء على بعدين فقط كرسم على ورقة مثلاً، والواقع ينفي هذا الظن لأن الفضاء يحيط بالرسم من الأعلى والأسفل ومن اليمين والشمال ومن جميع الجهات. إذاً نحن لم نتصور المادة إلا في ثلاثة أبعاد. وإذا تساءلنا لماذا نجد هذه الخاصة في تصورنا، وجدنا عند المنطق المحض جوابين:
الأول أن تكون هذه الخاصة نفسها صفة لازمة للعالم الخارجي حولنا: أي أنه ثلاثي الأبعاد؛ وهذا التعليل لا يتعدى قولنا: إن المكان ثلاثي الأبعاد لأنه ثلاثي الأبعاد. والجواب الثاني وهو أكثر إقناعاً: أن العقل البشري اكتسب هذه الخاصة في تطوره منذ القدم. على أن هذا الاكتساب لا يعني أن فكرتنا عن المكان هي قسطاس الحق، فربما نكون قد اكتسبنا وجهة نظر ضيقة محدودة، وكان يمكن أن نتصور الكون في أربعة أو خمسة أبعاد، وبذلك نكون ككثير من الناس عاشوا في سفح جبل ولم يتسلقوه في يوم من الأيام فبقي الجبل بالنسبة إليهم كلوحة ساكنة
وقبولنا نظرية الاكتساب يعني أننا نؤمن بأن حالة الإنسان الفسيولوجية والسيكلوجية كانت العامل الفعال في اكتساب هذه الخاصة؛ ولذا ذهب بعضهم إلى أن في جسم الإنسان جهازاً يعد الزمن يحسب علينا كل ثانية تمر بنا، حتى إذا ما اكتشف في جسم الإنسان تيار كهربائي يسري بانتظام طول الحياة، قالوا إن هذا التيار هو ذلك الجهاز. على أن هذه الفكرة لم تثبت علمياً لأن الإنسان يفقد الإحساس بالزمن وهو تحت تأثير المخدر. إن فكرة الزمن هي فكرة توالي الحوادث حادثة تتلو أخرى، وكل حادثة تترك في النفس أثراً؛ وتتوالى الحوادث وتتوالى الانفعالات النفسية تبعاً لهذه الحوادث. ولما كانت هذه الانفعالات النفسية غير عكسية دائماً كان الرجوع إلى الماضي عسيراً. وترى السبب النسبي أن وجود الزمان مشتق من وجود الحركة، كما أن وجود المكان مشتق من وجود المادة؛ والحركة تعبير منفصل عن الحوادث؛ فليست ساعاتنا التي تقيس الزمن إلا حركة مستمرة، والأرض التي تعد أكبر الساعات بالنسبة لعالمنا إنما تقيس الزمن بحركتها المستمرة المنتظمة حول الشمس. وعلى هذا فحيث لا حركة لا يوجد زمن. والبعد الرابع في النسبية ليس هو الوقت مستقلاً عن أي شيء آخر، وإنما هو الوقت الذي يدخل في المعادلة السهلة: المسافة، السرعة، الزمن، الجذر التربيعي لمجموع مربعات الأبعاد الثلاثة
وإليك بعض الأدلة التي نتأكد فيها من اندماج الزمان بالمكان.
فنحن عندما ننظر - على طول بعد واحد - أحد النجوم فليس ما نراه هو صورة النجم في وقت الرصد، وإنما نراه كما كانت قبل وقت الرصد بزمن هو الوقت الذي استغرقه الشعاع الضوئي حتى يقطع المسافة بين مصدر النور وآلات الرصد. وإذا علمنا أن شعاعة النور (من السدم اللولبية مثلاً) تحتاج حتى تصل إلى نظامنا الشمسي مليوناً من السنين، أدركنا مقدار تدخل الزمن في البعد المكاني، وعرفنا أيضاً قدر المسافة التي نستطيع أن نرى فيها من الماضي؛ وربما بتحسن الآلات وبناء مراقب أكبر حجما نستطيع أن نرى نجوماً أبعد من هذه بكثير؛ وعندها يزيد مقدار ما نستطيع أن نراه من الماضي. من هذا يتبين أننا نستطيع أن نتحرك في البعد الرابع الزمني كما نتحرك في البعد المكاني، ويخيل إلي أن العلم لا ينكر إمكانية رؤية المستقبل، فلو تصورنا أن لدينا طائرة مسرعة تفوق سرعة الزمن فعندئذ نفلت من قيود الزمن ونرى المستقبل. أما أن يتسنى لنا التعرف إلى الإنسان في المستقبل فهذا محال، لأن وجود إنسان المستقبل يعتمد على وجود إنسان الحاضر الذي لا يدوم إلا إلى أجل قصير، ولأن رؤيتنا الأشياء تتطلب أن نكون أحياء نحس ونفكر
إذا تحركنا بسرعة النور فإننا نرى صورة واحدة للعالم لا تتغير ولا تلين؛ ذلك لأن الزمن يمر بنا بسرعة النور، ولذلك لا نستطيع أن نتحقق ما يحدث لأجسامنا إذا قدر لنا أن نطير بسرعة النور النسبية تقول إن أي جسم تبلغ سرعته سرعة النور يصير إلى العدم طبقاً لناموس انكماش فتز جيرلد
نعتبر الزمن بعداً رابعاً لأننا نستطيع أن نقيسه بوحدات تماثل الوحدات التي نقيس بها الأبعاد المكانية، فالثانية تعادل (186000) ميل وهذا الرقم هو سرعة النور في الثانية. ونعتبره بعداً رابعاً، لأنه متعامد مع المتعامدات الديكارتية الثلاثة، وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة؛ فتجربة ميكلصن - مورلي - التي كانت أساس النسبية والتي قصد بها أن يعرف الفرق بين سرعة النور في اتجاهين متضادين: الأول اتجاه سرعة الأرض والآخر عكس هذا الاتجاه، ولما لم نجد أي فرق كما أثبتت التجارب المتوالية، فيجب أن نحكم أن سرعة النور وهي وحدة الزمن كما قلنا سابقاً يجب أن تكون في اتجاه عامودي لسرعة الأرض التي هي بالنسبة لنا تعبير عن المتعامدات الثلاثة الديكارتية
ويزيد في إيمان العلماء بالزمن كبعد رابع تفسير الظواهر الطبيعية تفسيراً سهلاً وبسيطاً. ولما كانت غاية العلم في شتى مراحله وأطواره السهولة والبساطة، فيجب علينا أن نقبل النظرية. ويرى بعضهم أن الإنسانية في مجرى تطورها ستستطيع مع تقدم العلم واتساع الخيال وأثر التطور في التصور أن تحس وتعي هذا الاندماج بين الزمان والمكان في وحدة الزمان؛ إلا أن هذا لا يبدو قريب الحدوث أو ممكن الحدوث على الإطلاق
جواب سؤالنا الذي صدرنا به هذا المقال يعتمد إذا على معنى البعد في ذهن السائل، فإذا كان يعني هل يشبه الزمان المكان من كل وجهات النظر، وهل نستطيع أن نتحرك فيه بكل حرية كما نتحرك في الأبعاد الأخرى فسيكون الجواب نفياً، وسيبقى نفياً ما دام الإنسان إنساناً يحس بأنامله ويرى بعينيه ويشعر بالفرق بين الماضي والمستقبل. وفي نظرية النسبية نفسها لا يزال هناك بعض الفروق بين الزمان وأبعاد المكان كاعتبار الزمان خيالياً لانضوائه على الجذر التربيعي للوحدة السالبة. أما إذا عنى السائل هل في الإمكان خلع الزمان والمكان على الأجسام والحوادث واستخدامها كوسائل لربط هذه الحوادث والأجسام الطبيعية بعضها ببعض فيكون الجواب إيجاباً، لأننا نستطيع أن نختار هياكل الإسناد كما نشاء خصوصاً التي تعود علينا بأكبر قسط من السهولة والوضوح
وسنشرح في مقال تال خصائص كونٍ رباعي الأبعاد سواء كان هذا البعد الرابع زماناً أو مكاناً، ففي هذى الخصائص طرافة يجدر بالقراء أن يطلعوا عليها.
(بيروت - الجامعة الأمريكية)
خليل السالم
البريد الأدبي
نصوص من الشرائع المصرية القديمة
في شتاء عام 1938، كانت بعثة الكشف عن الآثار المصرية القديمة بجامعة فؤاد الأول، تقوم بأعمال الحفر والتنقيب في تونة الجبل (هرموبوليس غرب) فعثرت على ملف من ورق البردي طوله متران وعرضه 25 سنتيمتراً داخل (قادوس) من الفخار كسر جزؤه الأعلى، وكان من المحتمل أن هذا الملف يؤلف قسما من مجموعة قوانين مدنية وجنائية، كانت محفوظة في عدة قواديس أقفلت قفلاً محكما
ومنذ حوالي عام ونصف عام عهد إلى الدكتور جرجس متى من جامعة فؤاد الأول بترجمة هذا الملف الذي كان مكتوباً بالخط الديموطيقي، فتبين من ترجمته أن للملف أهمية كبرى في تاريخ القوانين والتشريع، إذ أنه يحوي مجموعة عظيمة من القوانين المدنية، وخاصة ما يتعلق بالمالك والمؤجر وشؤون الهبة والميراث، وحقوق الانتفاع والتسجيل. وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يكشف الحفر عن نصوص تتعلق بالتشريع المصري الذي كثيراً ما ورد ذكره في نصوص الآثار المصرية، وشاد بعدالته كتاب اليونان والمؤرخون القدماء
ومما يجدر بالذكر لهذه المناسبة أن القواديس التي كانت فيها مجموعة القوانين المدنية والجنائية توجد في مبنى صغير شيد باللبن (الطوب الأخضر)، وهو يقوم الآن تجاه معبد توت والدهليز الثالث؛ وكانت هذه المجموعة تحت رعاية كهنة توت يرجعون إليها كلما دعت الحاجة. ثم حدث أن احتل هذه الأمكنة في العصر الأول قبل ميلاد المسيح طوائف من النساك الذين سئموا الحياة فهربوا من المدن إلى أماكن منعزلة، وألقوا بما عثروا عليه فيها من الآثار جانباً، ولهذا وجد الملف الثمين المتقدم ذكره ملقى على الأرض قريباً من الجدار الغربي للمبنى
وقد كان هذا الملف مثار المناقشة بين أعضاء المجمع العلمي المصري في الاجتماع الذي عقد بداره في الأسبوع الماضي
حول الرحلات العربية
أشكر لحضرة الفاضل الأديب الأستاذ محمد محمود رضوان مقاله رداً على مقالي (الرحلات العربية)، فقد أتى فيه بما يكمل ما فاتني، وتفضل فدلني على نوع من الرحلات
في طلب العلم أرجو أن تتم لنا قراءته وتحصل لنا معه الفائدة في كتابه الذي يشتغل الآن بتأليفه عن المسلمين والتربية
ولقد اعترض الأستاذ الفاضل على روايتي لبيت الأعشى:
وشاهدنا الجل والياسمين والمسمعات بأقصابها وذكر أن الرواية الصحيحة (بُقصابها) لا (بأقصابها)، والحق أن كلتا الروايتين صحيحة؛ فإلأقصاب جمع قصب بفتحتين وهي جمع قصبة الغناء كما جاء في المخصص لابن سيده. وأظن - إذا لم تخني الذاكرة - أنني أخذت روايتي عن كتاب (شعراء النصرانية) للأب لويس شيخو اليسوعي، ولا أدري عمن أخذها هذا. أما الأقصاب بمعنى الأمعاء، فهو معنى آخر للكلمة ليس هذا موضعه
ولقد سميت الراحلين من قريش إلى اليمن والشام (رحّالين تجاوزاً)، لأنهم ليسوا رحّالين بالمعنى العلمي الذي نعرفه الآن ولم يكونوا: كابن جبير وابن خرداذبة والمسعودي والمقدسي وابن بطوطة. والقرآن لم يسمّهم رحالين كما يذكر الأستاذ رضوان؟ ولكن سمي عملهم رحلة أي نقلة
أما استعمالي لأفعل التفضيل (أملأ) من الفعل الخماسي (امتلأ)، فهو استعمال صحيح لا غبار عليه؛ وقد وجدت له نظيراً في اللغة؛ فالعرب يقولون؛ (هذا الكتاب أخصر من ذاك)؛ وكان الأولى - قياساً - أن يقولوا:(هذا الكتاب أكثر اختصاراً من ذاك). فهذا الاستعمالان شاذان حقاً في نظر النحويين - والأستاذ جد عليم بسخافاتهم في كثير من المواضع - ولكنهما صحيحان لورود الاستعمال عليهما من قديم
أما العبارة التي يتحداني الأستاذ أن أعربها وأبين له جواب شرطها، فإني أسأله أن يقدرّ الجواب بما يشاء، ليتضح له صحة الاستثناء، وعليه التحية والسلام
محمد عبد الغني حسن
إلى الأديب إبراهيم نجا
ورد في قصيدة الأديب إبراهيم نجا المنشورة بالعدد 413 من الرسالة هذه الأبيات:
أيها الورد جميل أنت
…
لكني حَزينُ
أيها الأُفق رحيب أنت
…
لكني سَجين
أيها النورْ رطيب أنت
…
لكني دَفين
حطم الدهر جناحي
…
وبرتْ جسمي السنون
وقد ضبط الشاعر القافية (حزين) بالرفع كما ترى
قلت: إن الصواب واحد من إثنين:
1 -
إما أن تضبط القوافي كلها بالسكون
2 -
وإما أن يقول (السنينُ) بدلاً من (السنونُ)
وقد يبدو هذا غريباً بادي الرأي، ولكنك حين تمعن الفكر يتبين لك صحة ما أقول. . . حقيقة أن الرفع مطّرد في قوافي الأبيات الثلاثة الأولى ولا غبار عليه، ولكنه شذّ في البيت الأخير لأن رفع (السنون) الملحقة بجمع المذكر السالم بالواو يدل على أن الشاعر أعربها إعراب جمع المذكر السالم وهو المشهور، وإذن فقد وجب عليه ضبط النون بالفتحة كما تقول (المسلمونَ)، وكما يقول الله تعالى:(كم لبثتم في الأرض عدد سنينَ)(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنينَ)(قال تزرعون سبع سنينَ)
أما إن أراد الشاعر ضبط النون بالضم فعليه فعليه أن يعرب الكلمة الظاهرة على النون مع لزوم الياء كقول الشاعر:
دعاني من نجدٍ فإن سنينه
…
لعبْن بنا شيباً وشيّبننا مردا
وفي الحديث: (اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف) في إحدى الروايتين
وبعد. فإنه يحق للدكتور زكي مبارك أن يقول للأديب نجا:
(كما يدين الفتى يدان)
وإلى الأب أنستاس
في مقالك القيم الأخير (ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب)
قلت: (وفي التاج، البدء: السيد الأول في السيادة، والثُّنيان الذي يليه في السؤدَد)
وأقول: ليس بين يديّ الآن (التاج) لأرى ضبط (السؤدد) أهو كما نقلت أم لا؛ ولكني أعرف عن أساتذتي في دار العلوم أن هذه الكلمة إذا هُمِزتْ ضمَّت الدال الأولى فتقول: (السؤددُ)، وإذا لم تهمَز فتحت هذه الدال فتقول:(السُؤَدد). أما (السؤدَد) بالهمز وفتح الدال فلا
وعلى ذكر أن البدء معناه السيد أذكر بيتاً يستشهد به النحاة في باب الجوازم وهو:
فجئت قبورهم بدءاً ولمَّا
…
فناديت القبور فلم يجِبْنَه
أي ولما أكن بدءاً قبل ذلك أي سيداً
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
المرحوم إبراهيم طوقان في العراق
حظيت بزمالة الراحل الكريم في دار المعلمين الريفية بالرستمية من ضواحي بغداد - وقد كان قبل هذا العام في إذاعة القدس، ولكن نفسه الكبيرة ضاقت بها فمكث معنا قرابة نهاية العام الدراسي الحالي، بعد جهد حميد بذله لطلابه؛ ولكن جسمه النحيل الذي يحمل هذه النفس العالية والروح الشاعرية لم يحتمل عناء الدرس، فانقطع عن المدرسة وعاد، ثم انقطع وعاد، ولكن المرض غالبه، ففضل الاستقالة والعودة إلى (نابلس)
عاش معنا سبعة أشهر كان فيها مثال الأخ الكامل والصديق الوفي. كان حلو الحديث جميل المعاشرة عذب السمر، تجلس معه فلا تحب ترك مجلسه؛ يغمرك بما تطلب منه من شعر جذاب يملك على النفس مشاعرها، من شعره وشعر شوقي وحافظ والجارم وعلي محمود طه وكان معجباً به لأن شعر طه كان يفيض على البلاد العربية، وقد كان الفقيد حدباً على العرب والعربية، وكثيراً ما كان يحدثني عن شعراء مصر وأن كثيراً منهم لا يهتم بغير ذكر مصر ورجال مصر وآلام مصر وآمالها، فحملني رجاءه إلى شعراء مصر الإجلاء أن يعنوا بالشرق العربي حتى يكون الشعر المصري النفيس الغالي ترنيمة المواطن العربية جميعها. لأن الجميع ينظر إلى مصر وشعرائها وكتابها نظرة الإمامة والتبجيل والقداسة وما كنت أعتقد هذا الرجاء سيصبح يوماً ما وصية الراحل الكريم لشعراء مصر الأكرمين. ولقد كان كثير الاهتمام بمصر وأخبارها السياسية والأدبية، ولا غرابة في ذلك، فقد حدثني بأنه تربطه بمصر رابطة الأصل والنسب
مات طوقان؛ وهو عزيز على دولة الأدب، عزيز على زملائه وطلابه.
وإن الكلام في نواحي عظمة طوقان، وكرم نفسه وعلو همته، وعراقة محتده، لا تسعه هذه
العجالة. فأكِلْ إلى الزملاء العارفين قدره توفيته، وعند الله حسن جزائه في جنات الخلد جزاء الصديقين والشهداء والصالحين
السيد إبراهيم سالم
بطن الشاعر. . .
(بطن الشاعر) هذه كلمة أشبه بالألغاز والأحاجي، ظلت أستوضحها - بيني وبين نفسي - وأستلهم الله تفسيرها، فلم أجد ما يشفي الغلة، اللهم إلا ما يتخبط فيه الفكر ويتعثر معه الخيال. . .
وربما قلت - في بعض الأحايين - إذا أردت التاريخ لها أنها ظهرت يوم كانت الفلسفة مبغضة محاربة. فلما خاف الفتى من الفلاسفة أن يموت من عثرة لسانه، أغمض وأغرب، وعمَّى وألغز، وأغلق وأبهم، لِيَنْجُوَ بجلده، ويخلصَ نفسه إن اشتد عليه النكير، أو تجهّمت له أعين الجلاّد. وأغلب الظن أن هذه الكلمة يوم (ماتت) لم تشأ إلا أن تترك لها ذَنباً يلعب فيما يسمى بغرابة اللفظ وغموض المعنى. وقد كان المتنبي يلذ له أن ينام ملء جفونه عن أوابد شعره، في الوقت الذي يسهر معاصروه في شرحه، ويختصمون في بيان منزلته.
وهكذا يحكي عن بعض المؤلفين القدامى، أصحاب الشروح والحواشي والتقارير. . . فقد كان الواحد منهم يروقه أن يتخبط الناس في كلامه، ويقبلوه على وجوهه المختلفة، ويزيدوا على عبارته، أو ينقصوا منها، ليستقيم المعنى ويظهر المراد، فإن لم تتطاحن فيه الأفهام، وتختلف العقول، وتتضارب الآراء، فهو كتاب ميت، أو مؤلف لا قيمة له. . .
وكان أخوف ما يخافه الإمام الشيخ (محمد عبده) أن يتصَّدى أحد بالكتابة على مؤلفاته، نراه يستعيذ بالله من هذا ويتبرأ منه، وقد حدا به إلى ذلك أنه رأى الكتب - في عهده - لا ترمي إلى المعنى الخالص، والبيان الصراح، ولكنها تتلوى وتتخبط، وترمي إلى التعقيد والإبهام. . . وربما كان فينا من أدرك هذا - في الأزهر - حين كان الأستاذ أو التلميذ في الدرس، يمر بالعبارة من العلم، أو الجملة من الكتاب، فإذا رأى أنه مر بها مرور الكرام، وعبرها عبوراً سهلاً، اتهم فهمه، وأساء الظن بعقله، واستكبر على نفسه أن يعلق المعنى بخاطره - عفواً - دون تكلف أو معاناة، فعاد يرجع الضمير إلى مرجع آخر، أو يورد
الشبه والاعتراضات، ليرى هل يسلم له الفهم، ويخلص المعنى، أم تحيط به الأشواك والعقابيل. . . لأنه يعلم - حق العلم - أن صاحب الكتاب كدح فيه ذهنه، وأتعب نفسه، وأضاع من وقته الجم الكثير وأن تأليفاً كهذا لا يمر به قارئ إلا على جسر من التعب، وطريق أدق من الصراط. . . وبعض الناس يحيط الإغلاق ببيانه ولسانه. . . فهو كاتباً أشبه به محدثاً، بطنه كظهره، وظهره كبطنه. . . لا يضيرك أن تقول المعنى في بطنه أو ظهره. . . كأنما هم عالة على البيان، أو زائدة في بني الإنسان!!!
إبراهيم علي أبو الخشب